نيل الأوطار
الشوكاني ج 5
[ 1 ]
نيل الاوطار من احاديث سيد الاخبار شرح منتقى الاخبار للشيخ الامام المجتهد العلامة الرباني قاضي قضاة القطر اليماني محمد بن علي ابن محمد الشوكاني المتوفي سنة 1255 ه الجزء الخامس - 1973 دار الجليل بيروت - لبنان ص پ - 8747
[ 2 ]
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب المناسك باب وجوب الحج والعمرة وثوابهما عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم رواه أحمد ومسلم والنسائي. فيه دليل على أن الامر لا يقتضي التكرار. وعنابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج، فقام الاقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة فمن زاد فهو تطوع رواه أحمد والنسائي بمعناه. الحديث الاول تمامه ثم قال: ذروني ما تركتكم وفي لفظ ولو وجبت ما قمتم بها والحديث الثاني أخرجه أيضا أبو داود وابن ماجه والبيهقي والحاكم وقال: صحيح على شرطهما وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كتب عليكم الحج، فقيل: يا رسول الله في كل عام؟ فقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا به عذبتم قال الحافظ: ورجاله ثقات. وعن علي عليه السلام عند الترمذي والحاكم وسنده منقطع. قوله: باب وجوب الحج والعمرة الحج بفتح الحاء هو المصدر، وبالفتح والكسر هو الاسم منه وأصله القصد، ويطلق على العمل أيضا، وعلى الاتيان مرة بعد أخرى، وأصل العمرة الزيارة. وقال الخليل: الحج كثرة القصد إلى معظم. ووجوب الحج معلوم بالضرورة الدينية. واختلف في العمرة فقيل واجبة، وقيل مستحبة، وللشافعي قولان أصحهما وجوبها، وسيأتي تفصيل ذلك قريبا. والاحاديث المذكورة في الباب تدل
[ 3 ]
على أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة وهو مجمع عليه كما قال النووي والحافظ وغيرهما. وكذلك العمرة عند من قال بوجوبها لا تجب إلا مرة، إلا أن ينذر بالحج أو العمرة وجب الوفاء بالنذر بشرطه. وقد اختلف هل الحج على الفور أو التراخي؟ وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى. واختلف أيضا في وقت ابتداء افتراض الحج فقيل: قبل الهجرة، قال في الفتح: وهو شاذ. وقيل: بعدها. ثم اختلف في سنته، فالجمهور على أنها سنة ست لانه نزل فيها قوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * (سورة البقرة، الآية: 196) قال في الفتح: وهذا ينبني على أن المراد بالاتمام ابتداء الفرض، ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: وأقيموا أخرجه الطبراني بأسانيد صحيحة عنهم. وقيل: المراد بالاتمام الاكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك. وقد وقع في قصة ضمام ذكر الامر بالحج، وكان قدومه على ما ذكر الواقدي سنة خمس، وهذا يدل إن ثبت على تقدمه على سنة خمس أو وقوعه فيها، وقيل: سنة تسع حكاه النووي في الروضة، والماوردي في الاحكام السلطانية، ورجح صاحب الهدى أن افتراض الحج كان في سنة تسع أو عشر، واستدل على ذلك بأدلة فلتؤخذ منه. قوله: لو قلتها لوجبت استدل به على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفوض في شرع الاحكام. وفي ذلك خلاف مبسوط في الاصول. وعن أبي رزين العقيلي: أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، فقال: حج عن الحديث يدل على جواز حج الولد عن أبيك واعتمر رواه الخمسة وصححه الترمذي الحديث يدل على جواز حج الولد عن أبيه العاجز عن المشي، وسيأتي الكلام عليه في باب وجوب الحج على المعضوب. وذكر المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب للاستدلال به على وجوب الحج والعمرة. قال الامام أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا ولا أصح منه انتهى. وقد جزم بوجوب العمرة جماعة من أهل الحديث وهو المشهور عن الشافعي وأحمد، وبه قال إسحاق والثوري والمزني والناصر، والمشهور عن المالكية أن العمرة ليست بواجبة وهو قول الحنفية وزيد بن علي والهادوية، ولا خلاف في المشروعية. وقد روي في الجامع الكافي القول بوجوب العمرة عن علي وابن عباس وابن عمر وعائشة وزين العابدين وطاوس والحسن البصري وابن
[ 4 ]
سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء. واستدل القائلون بعدم الوجوب بما أخرجه الترمذي وصححه وأحمد والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن جابر: أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك وفي رواية: أولى لك. وأجيب عن الحديث بأن في إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وتصحيح الترمذي له فيه نظر، لان الاكثر على تضعيف الحجاج واتفقوا على أنه مدلس. قال النووي: ينبغي أن لا يغتر بالترمذي في تصحيحه، فقد اتفق الحفاظ على تضعيفه انتهى. على أن تصحيح الترمذي له إنما ثبت في رواية الكروخي فقط، وقد نبه صاحب الامام على أنه لم يرد قوله على حسن في جميع الروايات عنه إلا في رواية الكروخي، وقد قال ابن حزم: إنه مكذوب باطل وهو إفراط، لان الحجاج وإن كان ضعيفا فليس متهما بالوضع، وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عقير عن يحيى بن أيوب عن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر بنحوه. ورواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر، ورواه ابن عدي من طريق أبي عصمة عن ابن المنكدر عن أبي صالح، وأبو عصمة قد كذبوه. وفي الباب عن أبي هريرة عند الدارقطني وابن حزم والبيهقي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الحج جهاد والعمرة تطوع وإسناده ضعيف كما قال الحافظ. وعن طلحة عند ابن ماجه بإسناد ضعيف. وعن ابن عباس عند البيهقي، قال الحافظ: ولا يصح من ذلك شئ، وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره وهو محتج به عند الجمهور، ويؤيده ما عند الطبراني عن أبي أمامة مرفوعا: من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة واستدل القائلون بوجوب العمرة بما أخرجه الدارقطني من حديث زيد بن ثابت بلفظ: الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت وأجيب عنه بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف. وفي الحديث أيضا انقطاع. ورواه البيهقي موقوفا على زيد. قال الحافظ: وإسناده أصح وصححه الحاكم. ورواه ابن عدي عن جابر وفي إسناده ابن لهيعة. وفي الباب عن عمر في سؤال جبريل وفيه وأن تحج وتعتمر أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وغيرهم وعن عائشة عند أحمد وابن ماجه قالت: يارسول الله على النساء جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال
[ 5 ]
فيه: الحج والعمرة وسيأتي. والحق عدم وجوب العمرة، لان البراءة الاصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك، لا سيما مع اعتضادها بما تقدم من الاحاديث القاضية بعدم الوجوب. ويؤيد ذلك اقتصاره صلى الله عليه وآله وسلم على الحج في حديث بني الاسلام على خمس، واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * (سورة آل عمران، الآية: 97) وقد استدل على الوجوب بحديث عمر الآتي قريبا، وسيأتي الجواب عنه. وأما قوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * (سورة البقرة، الآية: 196) فلفظ التمام مشعر بأنه إنما يجب بعد الاحرام، لا قبله. ويدل على ذلك ما أخرجه الشيخان وأهل السنن وأحمد والشافعي وابن أبي شيبة عن يعلى بن أمية قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة وعليها خلوق فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآية. فهذا السبب في نزول الآية، والسائل قد كان أحرم وإنما سأل كيف يصنع؟ وعن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة رواه احمد وابن ماجه واسناده صحيح الحديث فيه دليل على أن الجهاد غير واجب على النساء، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك، وفيه إشارة إلى وجوب العمرة وقد تقدم البحث عن ذلك. [ رح 1780 ] وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الاعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور متفق عليه. وهو حجة لمن فضل نفل الحج على نفل الصدقة. وعن عمر بن الخطاب قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء رجل فقال: يا محمد ما الاسلام؟ قال: الاسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان وذكر باقي الحديث وأنه قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم رواه الدار قطني وقال: هذا إسناد ثابت صحيح. ورواه أبو بكر الجوزقي في كتابه المخرج على الصحيحين. وعن أبي هريرة: أن رسول
[ 6 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة رواه الجماعة إلا أبا داود. قوله: إيمان بالله الخ، فيه دليل على أن الايمان بالله وبرسوله أفضل من الجهاد، والجهاد أفضل من الحج المبرور. وقد اختلفت الاحاديث المشتملة على بيان فاضل الاعمال من مفضولها، وتارة تجعل الافضل الجهاد، وتار الايمان، وتارة الصلاة، وتارة غير ذلك، وأحق ما قيل في الجمع بينها أن بيان الفضيلة يختلف باختلاف المخاطب، فإذا كان المخاطب ممن له تأثير في القتال وقوة على مقارعة الابطال قيل له أفضل الاعمال الجهاد، وإذا كان كثير المال قيل له أفضل الاعمال الصدقة، ثم كذلك يكون الاختلاف على حسب اختلاف المخاطبين. قوله: مبرور قال ابن خالويه: المبرور المقبول وقال غيره: الذي لا يخالطه شئ من الاثم ورجحه النووي وقيل غير ذلك. وقال القرطبي: الاقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع موقعا لما طلب من المكلف على الوجه الاكمل. ولاحمد والحاكم من حديث جابر: قالوا يا رسول الله مابر الحج؟ قال: إطعام الطعام وإفشاء السلام قال في الفتح: وفي إسناده ضعف، ولو ثبت كان هو المتعين دون غيره. قوله: ما الاسلام إلى قوله: وتحج البيت قد تقدم الكلام على هذه الكلمات في أوائل كتاب الصلاة. قوله: وتعتمر فيه متمسك لمن قال بوجوب العمرة، ولكنه لا يكون مجرد اقتران العمرة بهذه الامور الواجبة دليلا على الوجوب لما تقرر في الاصول من ضعف دلالة الاقتران، لا سيما وقد عارضها ما سلف من الادلة القاضية بعدم الوجوب فإن قيل: إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الاسلام يدل على الوجوب فيقال: ليس كل أمر من الاسلام واجبا، والدليل على ذلك حديث شعب الاسلام والايمان فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالاجماع. قوله: كفارة لما بينهما أشار ابن عبد البر إلى أن المراد تكفير الصغائر دون الكبائر، قال: وذهب بعض العلماء من عصرنا إلى أن المراد تعميم ذلك ثم بالغ في الانكار عليه، وقد تقدم البحث عن مثل هذا في مواضع من هذا الشرح، وقد استشكل بعضهم كون العمرة كفارة، مع أن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر فماذا تكفر العمرة؟ وأجيب بأن تكفير العمرة مقيد بزمنها، وتكفير الاجتناب
[ 7 ]
للكبائر عام لجميع عمر العبد فتغايرا من هذه الحيثية. وقد جعل البخاري هذا الحديث المذكور من جملة أدلة وجوب العمرة وفضلها وهو لا يصلح للاستدلال به على الوجوب، وقد قيل: إنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث المذكور، وهو ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعا: تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة بينهما تنفي الذنوب والفقر كما ينفي الكيرخبث الحديد، وليس للحجة المبرورة جزاء إلا الجنة فإن ظاهرة التسوية بين أصل الحج والعمرة ولكن الحق ما أسلفناه لان هذا استدلال بمجرد الاقتران وقد تقدم ما فيه، وأما الامر بالمتابعة فهو مصروف عن معناه الحقيقي بما سلف (وفي الحديث) دلالة على استحباب الاستكثار من الاعتمار خلافا لقول من قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة كالمالكية، ولمن قال: يكره أكثر من مرة في الشهر من غيرهم، واستدل للمالكية بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة وأفعاله على الوجوب أو الندب، وتعقب بأن المندوب لا ينحصر في أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان يترك الشئ وهو يستحب فعله لدفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى العمرة بلفظه فثبت الاستحباب من غير تقييد، واتفقوا على جوازها في جميع الايام لمن لم يكن متلبسا بالحج، إلا ما نقل عن الحنفية أنها تكره في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق. وعن الهادي أنها تكره في أيام التشريق فقط، وعن الهادوية أنها تكره في أشهر الحج لغير المتمتع والقارن إذ يشتغل بها عن الحج، ويجاب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر في عمره ثلاث عمر مفردة كلها في أشهر الحج، وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب جواز العمرة في جميع السنة. باب وجوب الحج على الفور عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له رواه أحمد. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة رواه أحمد وابن ماجه وسيأتي قوله عليه السلام: من كسر أو
[ 8 ]
عرج فقد حل وعليه الحج من قابل. وعن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الامصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين رواه سعيد في سننه. حديث ابن عباس الآخر في إسناده إسماعيل بن خليفة العبسي أبو إسرائيل، وهو صدوق ضعيف الحفظ. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه يخالف فيه الثقات، وحديث من كسر أو عرج يأتي إن شاء الله تعالى في باب الفوات والاحصار، وأثر عمر أخرجه أيضا البيهقي (وفي الباب) عن أبي أمامة مرفوعا عند سعيد بن منصور في سننه، وأحمد وأبي يعلى والبيهقي بلفظ: من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ولفظ أحمد من كان ذا يسار فمات ولم يحج ثم ذكره كما سلف، وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وشريك وهو سيئ الحفظ، وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله، رواه أحمد عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا رواه ابن أبي شيبة مرسلا، وله طريق أخرى عن علي مرفوعا عند الترمذي بلفظ: من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك لان الله تعالى قال في كتابه: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (سورة آل عمران، الآية: 97) قال الترمذي: غريب في إسناده مقال، والحرث يضعف، وهلال بن عبد الله الراوي له عن أبي إسحاق مجهول. وقال العقيلي: لا يتابع عليه، وقد روي عن علي موقوفا ولم يرو مرفوعا من طريق أحسن من هذا. وقال المنذري: طريق أبي أمامة على ما فيها أصلح من هذه، وقد روي من طريق ثالثة عن أبي هريرة رفعه عند ابن عدي بلفظ: من مات ولم يحج حجة الاسلام في غير وجع حابس أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فليمت أي الميتتين شاءإما يهوديا أو نصرانيا وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا، وبذلك يتبين مجازفة ابن الجوزي في عده لهذا الحديث من الموضوعات، فإن مجموع تلك الطرق لا يقصر عن كون الحديث حسنا لغيره، وهو محتج به عند الجمهور، ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني: لا يصح في الباب شئ، لان نفي الصحة لا يستلزم نفي الحسن، وقد شد من عضد هذا الحديث الموقوف الاحاديث المذكورة في الباب. قال الحافظ: وإذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط علم أن لهذا الحديث أصلا ومحمله على
[ 9 ]
من استحل الترك، ويتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع انتهى. وقد استدل المصنف بما ذكره في الباب على أن الحج واجب على الفور. ووجه الدلالة من حديث ابن عباس الاول والثاني ظاهرة، ووجهها من حديث: من كسر أو عرج. قوله: وعليه الحج من قابل ولو كان على التراخي لم يعين العام القابل، ووجهها من أثر عمر و من الاحاديث التي ذكرناها ظاهر، وإلى القول بالفور ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وبعض أصحاب الشافعي، ومن أهل البيت: زيد بن علي والهادي والمؤيد بالله والناصر. وقال الشافعي والاوزاعي وأبو يوسف ومحمد. ومن أهل البيت: القاسم بن إبراهيم وأبو طالب أنه على التراخي، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وآله وسلم حج سنة عشر، وفرض الحج كان سنة ست أو خمس، وأجيب بأنه قد اختلف في الوقت الذي فرض فيه الحج، ومن جملة الاقوال أنه فرض في سنة عشر فلا تأخير، ولو سلم أنه فرض قبل العاشرة فتراخيه صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان لكراهة الاختلاط في الحج بأهل الشرك لانهم كانوا يحجون ويطوفون بالبيت عراة، فلما طهر الله البيت الحرام منهم حج صلى الله عليه وآله وسلم، فتراخيه لعذر ومحل النزاع التراخي مع عدمه. باب وجوب الحج على المعضوب إذا أمكنته الاستنابة، وعن الميت إذا كان قد وجب عليه عن ابن عباس: أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره قال: فحجي عنه رواه الجماعة. وعن علي عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت: إن أبي كبير وقد أفند وأدركته فريضة الله في الحج ولا يستطيع أداءها فيجزي أن أؤديها عنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم رواه أحمد والترمذي وصححه. وعن عبد الله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أبي أدركه
[ 10 ]
الاسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه؟ قال: أنت أكبر ولده؟ قال نعم، قال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يجزي ذلك عنه؟ قال نعم، قال: فاحجج عنه رواه أحمد والنسائي بمعناه. حديث علي أخرجه أيضا البيهقي، وحديث ابن الزبير قال الحافظ: إن إسناده صالح. قوله: إن فريضة الله أدركت أبي قد اختلف هل المسؤول عنه رجل أو امرأة كما وقع الاختلاف في الروايات في السائل؟ ففي بعض الروايات أنه امرأة، وفي بعضها أنه رجل، وقد بسط ذلك في الفتح. قوله شيخا قال الطيبي: هو حال والمعنى أنه وجب عليه الحج بأن أسلم وهو بهذه الصفة. قوله: قال فحجي عنه في رواية للبخاري قال: نعم. قوله: وقد أفند بهمزة مفتوحة ثم فاء ساكنة بعدها نون مفتوحة ثم دال مهملة، قال في القاموس: الفند بالتحريك الخرف وإنكار العقل بهرم أو مرض والخطأ في القول والرأي والكذب كالافناد، ولا تقل عجوز مفندة لانها لم تكن ذات رأي بدا، وفنده تفنيدا أكذبه وعجزه وخطأ رأيه كأفنده انتهى. قوله: أنت أكبر ولده فيه دليل على أن المشروع أن يتولى الحج عن الاب العاجز أكبر أولاده. قوله: أرأيت الخ فيه مشروعية القياس وضرب المثل، ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع، وأقرب إلى سرعة فهمه، وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه، وفيه أنه يستحب التنبيه على وجه الدليل لمصلحة (وأحاديث) الباب تدل على أنه يجوز الحج من الولد عن والده إذا كان غير قادر على الحج، وقد ادعى بعضهم أن هذه القصة مختصة بالخثعمية، كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير، حكاه ابن عبد البر وتعقب بأن الاصل عدم الخصوص. وأما ما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب الواضحة بإسنادين مرسلين في هذا الحديث فزاد: حجي عنه وليس لاحد بعده، فلا حجة في ذلك لضعف إسنادهما مع الارسال، والظاهر عدم اختصاص جواز ذلك بالابن، وقد ادعى جماعة من أهل العلم أنه خاص به. قال في الفتح: ولا يخفى أنه جمود وقال القرطبي: رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف للقرآن فيرجح ظاهر القرآن، ولا شك في ترجحه من جهة تواتره انتهى. ولكنه يقال: هو عموم مخصوص بأحاديث الباب، ولا تعارض بين عام وخاص، وهذه الاحاديث ترد على محمد بن الحسن حيث قال: إن الحج يقع عن المباشر، وللمحجوج عنه أجر النفقة، وقد اختلفوا فيما إذا عوفي المعضوب
[ 11 ]
فقال الجمهور: لا يجزئه لانه تبين أنه لم يكن مأيوسا عنه. وقال أحمد وإسحاق: لا تلزمه الاعادة لئلا تفضي إلى إيجاب حجتين، وأجيب بأن العبرة بالانتهاء، وقد انكشف أن الحجة الاولى غير مجزئه. وعن ابن عباس: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء رواه البخاري والنسائي بمعناه. وفي رواية لاحمد والبخاري بنحو ذلك وفيها قال: جاء رجل فقال: إن أختي نذرت أن تحج وهو يدل على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره حيث لم يستفصله أوارث هو أم لا؟ وشبهه بالدين. وعن ابن عباس قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الاسلام أفأحج عنه؟ قال أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه؟ قال: نعم، قال فاحجج عن أبيك رواه الدارقطني. حديث ابن عباس الآخر أخرجه النسائي والشافعي وابن ماجه. قوله: إن أمي نذرت الخ، قيل: إن هذا الحديث مضطرب لانه قد روي أن هذه المرأة قالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر كما تقدم في الصيام، وأجيب بأنه محمول على أن المرأة سألت عن كل من الصوم والحج، ويؤيد ذلك ما عند مسلم عن بريدة: أن امرأة قالت: إن أمي وفيه يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها. قوله: قال نعم فيه دليل على صحة النذر بالحج ممن لم يحج، فإذا حج أجز عن حجة الاسلام عند الجمهور وعليه الحج عن النذر، وقيل يجزئ عن النذر ثم يحج عن حجة الاسلام وقيل: يجزئ عنهما. وفيه دليل أيضا على إجزاء الحج عن الميت من الولد، وكذلك من غيره، ويدل على ذلك قوله: اقضوا الله فالله أحق بالوفاء. وروى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه لا يحج أحد عن أحد، ونحوه عن مالك والليث. وعن مالك إن أوصى بذلك فليحج عنه وإلا فلا. قوله: أكنت قاضيته فيه دليل على أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله، كما أن عليه قضاء ديونه، وقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء، ويلحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من نذر أو كفارة أو زكاة أو غير ذلك. قوله:
[ 12 ]
فالله أحق بالوفاء فيه دليل على أن حق الله مقدم على حق الآدمي، وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل: بالعكس، وقيل: سواء. قوله: جاء رجل فقال إن أختي الخ، لا منافاة بين هذه الرواية والاولى، لانه يحتمل أن تكون القصة متعددة وأن تكون متحدة، ولكن النذر وقع من الاخت والام، فسأل الاخ عن نذر أخته والبنت عن نذر الام (وقد استدل) المصنف بهذه الرواية على صحة الحج من غير الوارث لعدم استفصاله صلى الله عليه وآله وسلم للاخ هل هو وارث أو لا؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما تقرر في الاصول (واستدل) بأحاديث الباب على أنه يصح ممن لم يحج أن يحج نيابة عن غيره لعدم استفصاله صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله عن ذلك، وبه قال الكوفيون، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه، واستدلوا بحديث ابن عباس الآتي في باب من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه وسيأتي الكلام فيه. قوله: إن أبي مات وعليه حجة الاسلام الخ فيه دليل على أنه يجوز للابن أن يحج عن أبيه حجة الاسلام بعد موته وإن لم يقع منه وصية ولا نذر، ويدل على الجواز من غير الولد حديث الذي سمعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لبيك عن شبرمة وسيأتي. باب اعتبار الزاد والراحلة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله عزوجل: * (من استطاع إليه سبيلا) * (سورة آل عمران، الآية: 97) قال قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة رواه الدارقطني. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الزاد والراحلة يعني قوله: * (من استطاع إليه سبيلا) * رواه ابن ماجه. الحديث الاول أخرجه أيضا الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، والبيهقي كلهم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مرفوعا، قال البيهقي: الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلا. قال الحافظ: وسنده صحيح إلى الحسن، ولا أرى الموصول إلا وهما، وقد رواه الحاكم من حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس أيضا، إلا أن الراوي عن حماد هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني وهو منكر
[ 13 ]
الحديث كما قال أبو حاتم ولكنه قد وثقة أحمد. والحديث الثاني أخرجه أيضا الدارقطني، قال الحافظ: وسنده ضعيف. ورواه ابن المنذر من قول ابن عباس (وفي الباب) عن ابن عمر عند الشافعي والترمذي وحسنه، وابن ماجه والدار قطني وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخوزي بخاء معجمة مضمومة ثم واو ثم زاي معجمة، وقد قال فيه أحمد والنسائي متروك الحديث. وعن جابر وعلي بن أبي طالب وابن مسعو وعائشة وعبد الله بن عمر، وعند الدارقطني من طرق قال الحافظ: كلها ضعيفة. وقد قال عبد الحق: إن طرق الحديث كلها ضعيفة. وقال أبو بكر بن المنذر: لا يثبت الحديث في ذلك مسندا، والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة، ولا يخفى أهذه الطرق يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها، وبذلك استدل من قال: إن الاستطاعة المذكورة في القرآن هي الزاد والراحلة. وقد حكي في البحر عن الاكثر أن الزاد شرط وجوب، وهو أن يجد ما يكفيه ويكفي من يعول حتى يرجع. وحكي أيضا عن ابن عباس وابن عمر والثوري والهادوية وأكثر الفقهاء أن الراحلة شرط وجوب. وقال ابن الزبير وعطاء وعكرمة ومالك: إن الاستطاعة الصحة لا غير. وقال مالك والناصر والمرتضى وهو مروي عن القاسم: أن من قدر على المشي لزمه إن لم يجد راحلة لقوله تعالى * (يأتوك رجالا) * (سورة الحج، الآية: 27) قال مالك: ومن عادته السؤال لزمه وإن لم تجد الزاد وفي كتب الفقه تفاصيل في قدر الاستطاعة ليس هذا محل بسطها، والذي دل عليه الدليل هو اعتبار الزاد والراحلة. باب ركوب البحر للحج إلا أن يغلب على ظنه الهلاك عن عبد الله بن عمرو: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تركب البحر إلا حاجا أو معتمرا أو غازيا في سبيل الله عزوجل، فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا رواه أبو داود وسعيد بن منصور في سننهما. وعن أبي عمران الجوني قال: حدثني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزونا نحو فارس فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من بات فوق بيت ليس له إجار فوقع فمات فقد برئت منه الذمة، ومن ركب البحر عند ارتجاجه فمات برئت منه الذمة رواه أحمد. الحديث الاول أخرجه أيضا البيهقي، قال أبو داود رواته مجهولون، وقال الخطابي:
[ 14 ]
ضعفوا إسناده وقال البخاري: ليس هذا الحديث بصحيح ورواه البزار من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعا وفي إسناده ليث بن أبي سليم. والحديث الثاني في إسناده زهير بن عبد الله، قال الذهبي: هو مجهول لا يعرف، وأخرج هذا الحديث أبو داود عن عبد الله ابن علي يعني شيبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من بات على ظهر بيت ليس له حجار فقد برئت منه الذمة وبوب عليه باب النوم على سطح غير محجر وسكت عنه هو والمنذري. قوله: ليس له إجار الاجار بهمزة مكسورة بعدها جيم مشددة وآخره راء مهملة هو ما يرد الساقط من البناء من حائط على السطح أو نحوه، ورواية أبي داود ليس له حجار كما تقدم، قال المنذري: هكذا وقع في روايتنا حجار براء مهملة بعد الالف، ويدل عليه تبويب أبي داود على هذا الحديث كما تقدم فإنه قال: على سطح غير محجر، والحجار جمع حجر بكسر الحاء أي ليس عليه شئ يستره يمنعه من السقوط، ويقال: احتجرت الارض إذا ضربت عليها منارا تمنعها به عن غيرك، أو يكون من الحجر وهي حظيرة الابل وحجرة الدار، وهو راجع إلى المنع أيضا، ورواه الخطابي بالياء حجي، وذكر أنه يروى بكسر الحاء وفتحها، قال غيره: فمن كسر شبهه بالحجى الذي هو العقل لان الستر يمنع من الفساد، ومن فتحه قال الحجى مقصور الطرف والناحية وجمعه أحجاء، قال المنذري: وقد روي أيضا أحجاب بالباء. قوله: عند ارتجاجه الارتجاج الاضطراب (والحديث) الاول يدل على عدم جواز ركوب البحر لكل أحد إلا للحاج والمعتمر والغازي، ويعارضه حديث أبي هريرة المتقدم في أول هذا الكتاب، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على الصيادين لما قالوا له: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء وروي الطبراني في الاوسط من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتجرون في البحر، وفي سماع الحسن من سمرة مقال معروف، وغاية ما في ذلك أن يكون ركوب البحر للصيد والتجارة مما خصص به عموم مفهوم حديث الباب على فرض صلاحيته للاحتجاج (والحديث الثاني) يدل على عدم جواز المبيت على السطوح التي ليس لها حائط. وعلى عدم جواز ركوب البحر في أوقات اضطرابه.
[ 15 ]
باب النهي عن سفر المرأة للحج وغيره إلا بمحرم عن ابن عباس: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يقول: لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: فانطلق فحج مع امرأتك. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسافر المرأة ثلاثة إلا ومعها ذو محرم متفق عليهما. وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين أو ليلتين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم متفق عليه. وفي لفظ قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثه أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو زوجها أو ابنها أو أخوها أو ذو محرم منها رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحل لامرأة تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها متفق عليه. في رواية مسيرة يوم وفي رواية مسيرة ليلة. وفي رواية: لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم رواهن أحمد ومسلم وفي رواية لابي داود بريدا. قوله: لا يخلون رجل بامرأة الخ فيه منع الخلوة بالاجنبية وهو إجماع كما قال في الفتح، وتجوز الخلوة مع وجود المحرم، واختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا كالنسوة الثقات؟ فقيل: يجوز لضعف التهمة، وقيل: لا يجوز بل لا بد من المحرم وهو ظاهر الحديث. قوله: لا تسافر المرأة أطلق السفر ههنا وقيده في الاحاديث المذكورة بعده. قال في الفتح: وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقديرات. قال النووي: ليس المراد من التحديد ظاهره بل كل ما يسمى سفرا فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم، وإنما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه. وقال ابن التين الاختلاف في مواطن بحسب السائلين. وقال المنذري: يحتمل أن يقال إن اليوم المفرد والليلة المفردة بمعنى اليوم والليلة، يعني فمن أطلق يوما أراد بليلته أو ليلة أراد بيومها، قال: ويحتمل أن يكون هذا كله تمثيلا لاوائل الاعداد،
[ 16 ]
فاليوم أول العدد، والاثنان أول التكثير، والثلاث أول الجمع، ويحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذكر ما دونها، فيؤخذ بأقل ما ورد من ذلك، وأقله الرواية التي فيها ذكر البريد كما في رواية أبي هريرة المذكورة في الباب، وقد أخرجها الحاكم والبيهقي. وقد ورد من حديث ابن عباس عند الطبراني ما يدل على اعتبار المحرم فيما دون البريد ولفظه: لا تسافر المرأة ثلاثة أميال إلا مع زوج أو ذي محرم. وهذا هو الظاهر أعني الاخذ بأقل ما ورد، لان ما فوقه منهي عنه بالاولى، والتنصيص على ما فوقه كالتنصيص على الثلاث، واليوم والليلة واليومين والليلتين لا ينافيه، لان الاقل موجود في ضمن الاكثر، وغاية الامر أن النهي عن الاكثر يدل بمفهومه، على أن ما دونه غير منهي عنه، والنهي عن الاقل منطوق وهو أرجح من المفهوم وقالت الحنفية: إن المنع مقيد بالثلاث لانه متحقق وما عداه مشكوك فيه فيؤخذ بالمتيقن. ونوقض بأن الرواية المطلقة شاملة لكل سفر، فينبغي الاخذ بها وطرح ما سواها فإنه مشكوك فيه، والاولى أن يقال: إن الرواية المطلقة مقيدة بأقل ما ورد وهي رواية الثلاثة الاميال إن صحت وإلا فرواية البريد. وقال سفيان: يعتبر المحرم في المسافة البعيدة لا القريبة. وقال أحمد: لا يجب الحج على المرأة إذا لم تجد محرما. وإلى كون المحرم شرطا في الحج ذهبت العترة وأبو حنيفة والنخعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه على خلاف بينهم هل هو شرط أداء أو شرط وجوب؟ وقال مالك، وهو مروي عن أحمد: أنه لا يعتبر المحرم في سفر الفريضة، وروي عن الشافعي، وجعلوه مخصوصا من عموم الاحاديث بالاجماع. ومن جملة سفر الفريضة سفر الحج، وأجيب بأن المجمع عليه إنما هو سفر الضرورة فلا يقاس عليه سفر الاختيار، كذا قال صاحب المغني. وأيضا قد وقع عند الدارقطني بلفظ: تحجن امرأة إلا ومعها زوج وصححه أبو عوانة. وفي رواية للدارقطني أيضا عن أبي أمامة مرفوعا: لا تسافر المرأة سفر ثلاثة أيام أو تحج إلا ومعها زوجها فكيف يخص سفر الحج من بقية الاسفار؟ وقد قيل: إن اعتبار المحرم إنما هو في حق من كانت شابة لا في حق العجوز لانها لا تشتهي وقيل: لا فرق لان لكل ساقط لاقطا، وهو مراعاة للامر النادر. وقد احتج أيضا من لم يعتبر المحرم في سفر الحج بما في البخاري من حديث عدي بن حاتم مرفوعا بلفظ: يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها وتعقب بأنه يدل
[ 17 ]
على وجود ذلك لا على جوازه، وأجيب عن هذا بأنه خبر في سياق المدح ورفع منار الاسلام فيحمل على الجواز، والاولى حمله على ما قال المتعقب جمعا بينه وبين أحاديث الباب. قوله: إلا مع ذي محرم يعني فيحل لها السفر. قال في الفتح: وضابط المحرم عند العلماء من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فخرج بالتأبيد زوج الاخت والعمة، وبالمباح أم الموطوءة بشبهة وبنتها وبحرمتها الملاعنة. واستثنى أحمد الاب الكافر فقال: لا يكون محرما لبنته المسلمة لانه لا يؤمن أن يفتنها عن دينها، ومقتضاه إلحاق سائر القرابة الكفار بالاب لوجود العلة. وروي عن البعض أن العبد كالمحرم وقد روى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر مرفوعا: سفر المرأة مع عبدها ضيعة قال الحافظ: لكن في إسناده ضعف، قال: وينبغي لمن قال بذلك أن يقيده بما إذا كانا في قافلة بخلاف ما إذا كانا وحدهما فلا لهذا الحديث. قوله: فحج مع امرأتك فيه دليل على أن الزوج داخل في مسمى المحرم أو قائم مقامه. قال في الفتح: وقد أخذ بظاهر الحديث بعض أهل العلم، فأوجب على الزوج السفر مع امرأته إذا لم يكن لها غيره، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعي، والمشهور أنه لا يلزمه كالولي في الحج عن المريض، فلو امتنع إلا بأجرة لزمتها لانه من سبيلها فصار في حقها كالمؤنة واستدل به على أنه ليس للزوج منع امرأته من حج الفرض، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية، والاصح عندهم أن له منعها لكون الحج على التراخي. وقد روى الدارقطني عن ابن عمر مرفوعا في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها، وأجيب عنه بأنه محمول على حج التطوع جمعا بين الحديثين. ونقل ابن المنذر الاجماع على أن للرجل منع زوجته عن الخروج في الاسفار كلها، وإنما اختلفوا فيما إذا كان واجبا، وقد استدل ابن حزم بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة السفر بغير زوج ولا محرم لكونه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعب عليها ذلك السفر بعد أن أخبره زوجها، وتعقب بأنه لو لم يكن ذلك شرطا لما أمر زوجها بالسفر معها وترك الغزو الذي كتب فيه. قوله: إلا ومعها أبوها الخ وقع في هذه الرواية بيان بعض المحارم. وقوله: أو ذو محرم منها من عطف العام على الخاص (وأحاديث) الباب تدل على أنه لا يجب الحج على المرأة إلا إذا كان لها محرم. قال ابن دقيق العيد: هذه المسألة تتعلق بالعامين إذا تعارضا، فإن قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * (سورة آل عمران، الآية: 97) الآية عام في الرجال والنساء، فمقتضاه أن الاستطاعة على
[ 18 ]
السفر إذا وجدت وجب الحج على الجميع. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسافر المرأة إلا مع محرم عام في كل سفر فيدخل فيه الحج فمن أخرجه عنه خص الحديث بعموم الآية، ومن أدخله فيه خص الآية بعموم الحديث، فيحتاج إلى الترجيح من خارج انتهى. ويمكن أن يقال: إن أحاديث الباب لا تعارض الآية لانها تضمنت أن المحرم في حق المرأة من جملة الاستطاعة على السفر التي أطلقها القرآن، وليس فيها إثبات أمر غير الاستطاعة المشروطة حتى تكون من تعارض العمومين لا يقال: الاستطاعة المذكورة قد بينت بالزاد والراحلة كما تقدم. لانا نقول: قد تضمنت أحاديث الباب زيادة على ذلك البيان باعتبار النساء غير منافية فيتعين قبولها، على أن التصريح باشتراط المحرم في سفر الحج لخصوصه كما في الرواية التي تقدمت مبطل لدعوى التعارض. باب من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة رواه أبو داود وابن ماجه. وقال: فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة والدار قطني وفيه قال: هذه عنك وحج عن شبرمة. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصححه والبيهقي وقال: إسناده صحيح، وليس في هذا الباب أصح منه، وقد روي موقوفا، والرفع زيادة يتعين قبولها إذا جاءت من طريق ثقة وهي ههنا كذلك، لان الذي رفعه عبدة بن سليمان، قال الحافظ: وهو ثقة محتج به في الصحيحين، وقد تابعه على رفعه محمد بن بشر ومحمد بن عبيد الله الانصاري، وكذا رجح عبد الحق وابن القطان رفعه، ورجح الطحاوي أنه موقوف، وقال أحمد: رفعه خطأ. وقال ابن المنذر: لا يثبت رفعه. وقد أطال الكلام صاحب التلخيص ومال إلى صحته. قوله: سمع رجلا زعم ابن باطيش أن اسم الملبي نبيشة، قال الحافظ: وهو وهم منه فإنه اسم الملبي عنه فيما زعم الحسن بن عمارة، وخالفه الناس فيه فقالوا: إنه شبرمة وقد قيل: إن الحسن بن عمارة رجع عن ذلك، وقد بينه الدارقطني في السنن، وظاهر الحديث أنه لا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن
[ 19 ]
غيره، وسواء كان مستطيعا أو غير مستطيع، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستفصل هذا الرجل الذي سمعه يلبي عن شبرمة وهو ينزل منزلة العموم، وإلى ذلك ذهب الشافعي والناصر وقال الثوري والهادي والقاسم: إنه يجزئ حج من لم يحج عن نفسه ما لم يتضيق عليه، واستدل لهم في البحر بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: هذه عن نبيشة وحج عن نفسك فكأنهم جمعوا بين هذا وبين حديث الباب بحمل حديث الباب على من كان مستطيعا ولكن الحديث الذي استدل لهم به صاحب البحر لا أدري من رواه، ولم أقف عليه في شئ من كتب الحديث المعتمدة، فينبغي الاعتماد على حديث الباب، ومن زعم أن في السنة ما يعارضه فليطلب منه التصحيح لمدعاه. وقد روى الدارقطني حديث نبيشة موافقا لحديث شبرمة لا مخالفا له كما زعم صاحب البحر، وتقدم قول من قال: إن اسم شبرمة نبيشة. باب صحة حج الصبي والعبد من غير إيجاب له عليهما عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقي ركبا بالروحاء فقال: من القوم قالوا: المسلمون، فقالوا من أنت؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفعت إليه امرأة صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن السائب بن يزيد قال: حج أبي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه. وعن جابر قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم رواه أحمد وابن ماجه. وعن محمد بن كعب القرظي: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أدرك فعليه الحج، وأيما رجل مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أعتق فعليه الحج ذكره أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله هكذا مرسلا. حديث جابر أخرجه أيضا ابن أبي شيبة وفي إسناده أشعث بن سوار وهو ضعيف، ورواه الترمذي من هذا الوجه بلفظ آخر قال: كنا إذا حججنا مع رسول الله صلى الله
[ 20 ]
عليه وآله وسلم فكنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان قال ابن القطان: ولفظ ابن أبي شيبة أشبه بالصواب، فإن المرأة لا يلبي عنها غيرها، أجمع على ذلك أهل العلم. وأخرج الترمذي أيضا من حديث جابر نحو حديث ابن عباس واستغربه، وحديث محمد بن كعب أخرجه أيضا أبو داود في المراسيل وفيه راو مبهم. وفي الباب عن ابن عباس عند البخاري: أنه بعثه صلى الله عليه وآله وسلم في الثقل بفتح المثلثة والقاف ويجوز إسكانها أي الامتعة، ووجه الدلالة منه أن ابن عباس كان دون البلوغ (استدل) بأحاديث الباب من قال: إنه يصح حج الصبي، قال ابن بطال: أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ، إلا أنه إذا حج كان له تطوعا عند الجمهور وقال أبو حنيفة: لا يصح إحرامه، ولا يلزمه شئ من محظورات الاحرام، وإنما يحج به على جهة التدريب، وشذ بعضهم فقال: إذا حج الصبي أجزأه ذلك عن حجة الاسلام لظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم في جواب قولها: ألهذا حج؟ وإلى مثل ما ذهب إليه أبو حنيفة ذهبت الهادوية. وقال الطحاوي: لا حجة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم نعم على أنه يجزئه عن حجة الاسلام، بل فيه حجة على من زعم أنه لا حج له قال: لان ابن عباس راوي الحديث قال: أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى، ثم ساقه بإسناد صحيح وقد أخرج هذا الحديث مرفوعا الحاكم وقال: على شرطهما، والبيهقي وابن حزم وصححه. وقال ابن خزيمة: الصحيح موقوف وأخرجه كذلك. قال البيهقي: تفرد برفعه محمد بن المنهال ورواه الثوري عن شعبة موقوفا، ولكنه قد تابع محمد بن المنهال على رفعه الحرث بن شريح، أخرجه كذلك الاسماعيلي والخطيب. ويؤيد صحة رفعه ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: احفظوا عني ولا تقولوا. قال ابن عباس: فذكره وهو ظاهر في الرفع. وقد أخرج ابن عدي من حديث جابر بلفظ: لو حج صغير حجة لكان عليه حجة أخرى. ومثل هذا حديث محمد بن كعب المذكور في الباب، فيؤخذ من مجموع هذه الاحاديث أنه يصح حج الصبي ولا يجزئه عن حجة الاسلام إذا بلغ وهذا هو الحق، فيتعين المصير إليه جمعا بين الادلة. قال القاضي عياض: أجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الاسلام إلا فرقة شذت فقالت يجزئه لقوله نعم. وظاهره استقامة كون حج الصبي حجا مطلقا. والحج إذا أطلق تبادر منه إسقاط الواجب، ولكن العلماء ذهبوا إلى خلافه، ولعل مستندهم حديث ابن عباس يعني المتقدم فقال: وقد ذهبت طائفة من أهل البدع
[ 21 ]
إلى منع الصغير من الحج، قال النووي: وهو مردود لا يلتفت إليه لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وإجماع الامة على خلافه انتهى. وقد احتج أصحاب الشافعي بحديث ابن عباس الذي ذكره المصنف رحمه الله على أن الام تحرم عن الصبي، وقال ابن الصباغ: ليس في الحديث دلالة على ذلك. أبواب مواقيت الاحرام وصفته وأحكامه باب المواقيت المكانية وجواز التقدم عليها عن ابن عباس قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاهل المدينة ذا الحليفة، ولاهل الشام الجحفة، ولاهل نجد قرن المنازل، ولاهل اليمن يلملم، قال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن، قال ابن عمر: وذكر لي ولم أسمع ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ومهل أهل اليمن من يلملم متفق عليهما زاد أحمد في رواية وقاس الناس ذات عرق بقرن. قوله: وقت المراد بالتوقيت هنا التحديد، ويحتمل أن يريد به تعليق الاحرام بوقت الوصول إلى هذه الاماكن بالشرط المعتبر. وقال القاضي عياض: وقت أي حدد. قال الحافظ: وأصل التوقيت أن يجعل للشئ وقت يختص به وهو بيان مقدار المدة، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان أيضا. قال ابن الاثير: التأقيت أن يجعل للشئ وقت يختص به وهو بيان مقدار المدة، يقال: وقت الشئ بالتشديد يؤقته، ووقته بالتخفيف يقته إذا بين مدته ثم اتسع فيه، فقيل للموضع ميقات. وقال ابن دقيق العيد: إن التأقيت في اللغة تعليق الحكم بالوقت، ثم استعمل للتحديد والتعيين، وعلى هذا فالتحديد من لوازم الوقت، وقد يكون وقت بمعنى أوجب، ومنه قوله تعالى: * إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * (سورة النساء، الآية: 103). قوله: لاهل المدينة ذا الحليفة بالحاء المهملة والفاء مصغرا، قال في الفتح: مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين قاله ابن حزم، وقال غيره: بينهما
[ 22 ]
عشر مراحل. قال النووي: بينها وبين المدينة ستة أميال، ووهم من قال: بينهما ميل واحد وهو ابن الصباغ، وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب، وفيها بئر يقال لها بئر على انتهى. قوله: الجحفة بضم الجيم وسكون المهملة، قال في الفتح: وهي قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل أوست. وفي قول النووي في شرح المهذب ثلاث مراحل نظر، وقال في القاموس: هي على اثنين وثمانين ميلا من مكة وبها غدير خم كما قال صاحب النهاية. قوله: قرن المنازل بفتح القاف وسكون الراء بعدها نون، وضبطه صاحب الصحاح بفتح الراء وغلطه صاحب القاموس وحكى النووي الاتفاق على تخطئته، وقيل: إنه بالسكون الجبل وبالفتح الطريق، حكاه عياض عن القابسي قال في الفتح: والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان. قوله: يلملم بفتح التحتانية واللام وسكون الميم بعدها لام مفتوحة ثم ميم قال في القاموس: ميقات أهل اليمن على مرحلتين من مكة. وقال في الفتح كذلك وزاد: بينهما ثلاثون ميلا. قوله: فهن أي المواقيت المذكورة وهي ضمير جماعة المؤنث وأصله لما يعقل، وقد يستعمل فيما لا يعقل لكن فيما دون العشرة، كذا في الفتح. قوله: لهن أي للجماعات المذكورة، ويدل عليه ما وقع في رواية في الصحيحين بلفظ: هن لهم أو لاهلهن على حذف المضاف كما وقع في البخاري بلفظ: هن لاهلن. قوله: ولمن أتى عليهن أي على المواقيت من غير أهل البلاد المذكورة، فإذا أراد الشامي الحج فدخل المدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها، ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الاصلي، فإن أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور، وادعى النووي الاجماع على ذلك، وتعقب بأن المالكية يقولون: يجوز له ذلك وإن كان الافضل خلافه، وبه قالت الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية، وهكذا ما كان من البلدان خارجا عن البلدان المذكورة، فإن ميقات أهلها الميقات الذي ياتون عليه. قوله: فمن كان دونهن أي بين الميقات ومكة. قوله: فمهله من أهله أي فميقاته من محل أهله وفي رواية للبخاري: فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ أي من حيث أنشأ الاحرام إذا سافر من مكانه إلى مكة، قال في الفتح: وهذا متفق عليه إلا ما روي عن مجاهد أنه قال: ميقات هؤلاء نفس مكة، ويدخل في ذلك من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ثم بدا له بعد ذلك النسك فإنه يحرم من حيث تجدد
[ 23 ]
له القصد، ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات. قوله: يهلون منها الاهلال أصله رفع الصوت لانهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الاحرام، ثم أطلق على نفس الاحرام اتساعا، والمراد بقوله يهلون منها أي من مكة، ولا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للاحرام منه وهذا في الحج، وأما في العمرة فيجب الخروج إلى أدنى الحل كما سيأتي، قال المحب الطبري: لا أعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة، واختلف في القارن فذهب الجمهور إلى أن حكمه حكم الحاج في الاهلال من مكة. وقال ابن الماجشون: يتعين عليه الخروج إلى أدنى الحل. قوله: وقاس الناس ذات عرق بقرن سيأتي الكلام عليه. وعن ابن عمر قال: لما فتح هذان المصران أتوا عمر بن الخطاب فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حد لاهنجد قرنا وأنه جور عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قرنا شق علينا، قال: فانظرو حذوها من طريقكم، قال: فحد لهم ذات عرق رواه البخاري. وروي عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقت لاهل العراق ذات عرق رواه أبو داود والنسائي. وعن أبي الزبير: أنه سمع جابرا سئل عن المهل فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يعلم رواه مسلم. وكذلك أحمد وابن ماجه ورفعاه من غير شك. حديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري. وقال في التلخيص: هو من رواية القاسم عنها تفرد به المعافى بن عمران عن أفلح عنه والمعافى ثقة. وحديث جابر أخرجه مسلم على الشك في رفعه كما قال المصنف، وأخرجه أبو عوانة في مستخرجه كذلك، وجزم برفعه أحمد وابن ماجه كما ذكر المصنف، ولكن في إسناد أحمد بن لهيعة وهو ضعيف، وفي إسناد ابن ماجه إبراهيم بن يزيد الخوزي وهو غير محتج به (وفي الباب) عن الحرث بن عمرو السهمي عند أبي داود، وعن أنس عند الطحاوي، وعن ابن عباس عند ابن عبد البر، وعن عبد الله بن عمرو عند أحمد وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا، وبها يرد على ابن خزيمة حيث قال في ذات عرق أخبار يثبت منها شئ عند أهل الحديث، وعلى ابن المنذر حيث يقول: لم نجد في ذات عرق حديثا يثبت، قال في الفتح: لعل من قال إنه غير
[ 24 ]
منصوص لم يبلغه أو رأى ضعف الحديث، باعتبار أن كل طريق منها لا يخلو عن مقال. قال: لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى، وممن قال بأنه غير منصوص، وإنما أجمع عليه الناس طاوس، وبه قطع الغزالي والرافعي في شرح المسند، والنووي في شرح مسلم، وكذا وقع في المدونة لمالك. وممن قال بأنه منصوص عليه الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية والرافعي في الشرح الصغير، والنووي في شرح المهذب، وقد أعله بعضهم بأن العراق لم تكن فتحت حينئذ. قال ابن عبد البر: هي غفلة لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقت المواقيت لاهل النواحي قبل الفتوح لكونه علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق، وبهذا أجاب الماوردي وآخرون، وقد ورد ما يعارض أحاديث الباب، فأخرج أبو داود والترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقت لاهل المشرق العقيق وحسنه الترمذي ولكن في إسناده يزيد بن أبي زياد، قال النووي: ضعيف باتفاق المحدثين. قال الحافظ في نقل الاتفاق نظر يعرف من ترجمته انتهى. ويزيد المذكور أخرج حديثه أهل السنن الاربع ومسلم مقرونا بآخر، قال شعبة: لا أبالي إذا كتبت عن يزيد أن لا أكتب عن أحد وهو من كبار الشيعة وعلمائها، ووصفه في الميزان بسوء الحفظ، وقد جمع بين هذا الحديث وبين ما قبله بأوجه. منها: أن ذات عرق ميقات الوجوب والعقيق ميقات الاستحباب لانه أبعد من ذات عرق. ومنها: أن العقيق ميقات لبعض العراقيين وهم أهل المدائن، والآخر ميقات لاهل البصرة، ووقع ذلك في حديث أنس عند الطبراني وإسناده ضعيف. ومنها: أن ذات عرق كانت أولا في موضع العقيق الآن ثم حولت وقربت إلى مكة، فعلى هذا فذات عرق والعقيق شئ واحد، حكى هذه الاوجه صاحب الفتح. قوله: لما فتح هذان المصران بالبناء للمجهول. وفي رواية للكشميهني لما فتح هذين المصرين بالبناء للمعلوم، والمصران تثنية مصر، والمراد بهما البصرة والكوفة. قوله: إنه جور بفتح الجيم وسكون الواو بعدها راء أي ميل، والجو الميل عن القصد، ومنه قوله تعالى: * (ومنها جائر) * (سورة النحل، الآية: 9). قوله: فانظروا حذوها أي اعتبروا ما يقابل الميقات من الارض التي تسلكونها من غير ميل فاجعلوه ميقاتا، وظاهره أن عمر حد لهم ذات عرق باجتهاد. ولهذا قال المصنف رحمه الله: والنص بتوقيت ذات عرق ليس
[ 25 ]
في القوة كغيره، فإن ثبت فليس ببدع وقوع اجتهاد عمر على وفقه فإنه كان موفقا للصواب انتهى. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر أربع عمر في ذي القعدة إلا التي اعتمر مع حجته، عمرته من الحديبية ومن العام المقبل، ومن الجعرانة حيث قسم غنائم حنين، وعمرته مع حجته. وعن عائشة قالت: نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المحصب فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: اخرج بأختك من الحرم فتهل بعمرة ثم لتطف بالبيت فإني أنتظركما ههنا، قالت: فخرجنا فأهللت ثم طفت بالبيت وبالصفا والمروة فجئنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في منزله في جوف الليل فقال: هل فرغت؟ قلت نعم، فأذن في أصحابه بالرحيل، فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ثم خرج إلى المدينة متفق عليهما. [ رح 1811 ] وعن أم سلمة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أهل من المسجد الاقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه رواه أحمد وأبو داود بنحوه، وابن ماجه وذكر فيه العمرة دون الحجة. حديث أم سلمة في إسناده علي بن يحيى بن أبي سفيان الاخنسي، قال أبو حاتم الرازي، شيخ من شيوخ المدينة ليس بالمشهور، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن كثير في حديث أم سلمة هذا اضطراب. قوله: أربع عمر ثبت مثل هذا من حديث عائشة وابن عمر عند البخاري وغيره وأخرج البخاري من حديث البراء أنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر مرتين، والجمع بينه وبين أحاديثهم بأن البراء لم يعد عمرته التي مع حجته، لان حديثه مقيد بكون ذلك في ذي القعدة، والتي في حجته كانت في ذي الحجة، وكأنه أيضا لم يعد التي صد عنها وإن كانت وقعت في ذي القعدة، أو عدها ولم يعد الجعرانة لخفائها عليه كما خفيت على غيره (وفي الباب) عن أبي هريرة عند عبد الرزاق قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عمر في ذي القعدة وعن عائشة عند سعيد بن منصور: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر ثلاث عمر مرتين في ذي القعدة وعمر في شوال قال في الفتح: وإسناده قوي، وقولها في شوال مغاير لقول غيرها. ويجمع بينهما بأن ذلك وقع في آخر شوال وأول ذي القعدة، ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن عائشة بلفظ: لم يعتمر صلى الله عليه وآله وسلم إلا في ذي القعدة وفي البخاري عن عائشة: أنها لما سمعت ابن عمر يقول: اعتمر
[ 26 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع عمر إحداهن في رجب، قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط وروى الدارقطني عن عائشة أنها قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت الحديث. وقد قدمنا الكلام عليه في قصر الصلاة. قال ابن القيم في الهدى: ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان قط وقال: لا خلاف أن عمره صلى الله عليه وآله وسلم لم تزد على أربع، فلو كان قد اعتمر في رجب لكانت خمسا، ولو كان قد اعتمر في رمضان لكانت ستا، إلا أن يقال بعضهن في رجب، وبعضهن في رمضان، وبعضهن في ذي القعدة، وهذا لم يقع وإنما الواقع اعتماره في ذي القعدة كما قال أنس وابن عباس وعائشة. قوله: من الجعرانة قال في القاموس: الجعرانة وقد تكسر العين وتشدد الراء. وقال الشافعي: التشديد خطأ موضع بين مكة والطائف سمي بريطة بنت سعد وكانت تلقب بالجعرانة انتهى. قوله: المحصب هو على ما في القاموس الشعب الذي مخرجه إلى الابطح وموضع رمي الجمار بمنى. قوله: اخرج بأختك من الحرم لفظ البخاري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يردف عائشة ويعمرها من التنعيم وقد وقع الخلاف هل يتعين التنعيم لمن اعتمر من مكة؟ قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن كان بمكة إلا التنعيم، ولا ينبغي مجاوزته، كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحج، وخالفهم آخرون فقالوا: ميقات العمرة الحل، وإنما أمر عائشة بالاحرام من التنعيم لانه كان أقرب الحل إلى مكة. ثم روي عن عائشة في حديثها أنها قالت: فكان أدنانا من الحرم التنعيم فاعتمرت منه، قال: فثبت بذلك أن التنعيم وغيره سواء في ذلك. وقال صاحب الهدى: ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر مدة إقامته بمكة قبل الهجرة ولا اعتمر بعد الهجرة إلا داخلا إلى مكة، ولم يعتمر قط خارجا من مكة إلى الحل ثم يدخل إلى مكة بعمرة كما يفعل الناس اليوم، ولا ثبت عند أحد من الصحابة فعل ذلك في حياته إلا عائشة وحدها. قال في الفتح: وبعد أن فعلته عائشة بأمره دل على مشروعيته انتهى. ولكنه إنما يدل على المشروعية إذا لم يكن أمره صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لاجل تطييب قلبها كما قيل. قوله: من المسجد الاقصى فيه دليل على جواز تقديم الاحرام على الميقات، ويؤيد ذلك ما أخرجه الشافعي في الام عن عمر والحاكم في
[ 27 ]
المستدرك بإسناد قوي عن علي عليه السلام أنهما قالا: إتمام الحج والعمرة في قوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * (سورة البقرة، الآية: 196) بأن تحرم لهما من دويرة أهلك بل قد ثبت ذلك مرفوعا من حديث أبي هريرة. قال في الدر المنثور: وأخرج ابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * قال: إن من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك. وأما قول صاحب المنار: إنه لو كان أفضل لما تركه جميع الصحابة، فكلام علي غير قانون الاستدلال، وقد حكي في التلخيص أنه فسره ابن عيينة، فيما حكاه عنه أحمد بأن ينشئ لهما سفرا من أهله، ولكن لا يناسب لفظ الاهلال الواقع في حديث الباب، ولفظ الاحرام الواقع في حديث أبي هريرة وفي تفسير علي وعمر، وقد قدمنا في بحث حكم العمرة تفسيرا آخر للآية. باب دخول مكة بغير إحرام لعذر عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام رواه مسلم والنسائي. وعن مالك عنابن شهاب عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه، قال مالك: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ محرما رواه أحمد والبخاري. قوله: عمامة سوداء فيه جواز لبس السواد، وإن كان البياض أفضل منه لما سلف في اللباس في الجنائز. قوله: وعلى رأسه المغفر زاد أبو عبيد القاسم بن سلام في روايته من حديد: وكذا رواه عشرة من أصحاب مالك خارج الموطأ. قال القاضي عياض: وجه الجمع بينه وبين قوله: وعلى رأسه عمامة سوداء أن أول دخوله كان وعلى رأسه المغفر، ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بدليل قوله في بعض الروايات: فخطب الناس وعليه عمامة سوداء. قوله: فقال ابن خطل الخ إنما قتله صلى الله عليه وآله وسلم لانه كان ارتد عن الاسلام وقتل مسلما كان يخدمه وكان يهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسبه وكان له قينتان تغنيان بهجاء المسلمين. واسم ابن خطل عبد العزى، وقال محمد بن إسحاق: اسمه عبد الله، وقال ابن الكلبي: اسمه غالب وخطل
[ 28 ]
بخاء معجمة وطاء مهملة مفتوحتين (والحديثان يدلان) على جواز دخول مكة للحرب بغير إحرام، وقد اعترض عليه بأن القتال في مكة خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإن ترخص أحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقولوا: إن الله تعالى أذن لرسوله ولم يأذن لكم فدل على عدم جواز قياس غيره عليه، ويجاب بأن غاية ما في هذا الحديث اختصاص القتال به صلى الله عليه وآله وسلم، وأما جواز المجاوزة فلا، وأمته إسوته في أفعاله، وقد اختلف في جواز المجاوزة لغير عذر، فمنعه الجمهور وقالوا: لا يجوز إلا بإحرام، من غير فرق بين من دخل لاحد النسكين أو لغيرهما، ومن فعل أثم ولزمه دم. وروي عن ابن عمر والناصر وهو الاخير من قولي الشافعي واحد قولي أبي العباس: إنه لا يجب الاحرام إلا على من دخل لاحد النسكين لاعلى من أراد مجرد الدخول. (استدل الاولون) بقوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * (سورة المائدة، الآية: 2) وأجيب بأنه تعالى قدم تحريم الصيد عليهم وهم محرمون في قوله تعالى * (إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم) * (سورة المائدة، الآية: 1) وقد علم أنه لا إحرام إلا عن أحد النسكين، ثم أخبرهم بإباحة الصيد لهم إذا حلوا، فليس في الآية ما يدل على المطلوب، واستدلوا ثانيا بحديث ابن عباس عند البيهقي بلفظ لا يدخل أحد مكة إلا محرما قال الحافظ: وإسناده جيد ورواه ابن عدي مرفوعا من وجهين ضعيفين. وأخرجه ابن أبي شيبة عنه بلفظ: لا يدخل أحد مكة بغير إحرام إلا الحطابين والعمالين وأصحاب منافعها وفي إسناده طلحة ابن عمرو وفيه ضعف. وروى الشافعي عنه أيضا أنه كان يرد من جاوز الميقات غير محرم. وقد اعتذر بعض المتأخرين عن حديث ابن عباس هذا بأنه موقوف على ابن عباس من تلك الطريق التي ذكرها البيهقي ولا حجة فيما عداها، ثم عارض ما ظنه موقوفا بما أخرجه مالك في الموطأ أن ابن عمر جاوز الميقات غير محرم، فإن صح ما ادعاه من الوقف فليس في إيجاب الاحرام على من أراد المجاوزة لغير النسكين دليل، وقد كان المسلمون في عصره صلى الله عليه وآله وسلم يختلفون إلى مكة لحوائجهم، ولم ينقل أنه أمر أحدا منهم بإحرام كقصة الحجاج به علاط، وكذلك قصة أبي قتادة لما عقر حمار الوحش داخل الميقات وهو حلال، وقد كان أرسله لغرض قبل الحج فجاوز الميقات لابنية الحج ولا العمرة فقرره صلى الله عليه وآله وسلم، لا سيما مع ما يقضي بعدم الوجوب من استصحاب البراءة الاصلية إلى أن يقوم دليل ينقل عنها.
[ 29 ]
باب ما جاء في أشهر الحج وكراهة الاحرام به قبلها عن ابن عباس قال: من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج أخرجه البخاري، وله عن ابن عمر قال: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وللدارقطني مثله عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير. وروي عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم الحج بمنى لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الاكبر يوم النحر رواه البخاري. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ فقالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الاكبر رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه. قوله: عن ابن عباس علقه البخاري ووصله ابن خزيمة والحاكم والدارقطني من طريق الحكم عن مقسم عنه بلفظ: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج فإن من سنة الحج أيحرم بالحج في أشهره ورواه ابن خزيمة من وجه آخر عنه بلفظ: لا يصلح أن يحرم بالحج أحد إلا في أشهر الحج. قوله: وعن ابن عمر علقه البخاري ووصله الطبري والدار قطني من طريق ورقاء عن عبد الله بن دينار عنه. قوله: ويوم الحج الاكبر يوم النحر إنما سمي بذلك لان تمام أعمال الحج يكون فيه، أو إشارة بالاكبر إلى الاصغر أعني العمرة. (وقد استدل) المصنف بهذه الآثار على كراهة الاحرام بالحج قبل أشهر الحج، وقد روي مثل ذلك عن عثمان وقال ابن عمر وابن عباس وجابر وغيرهم من الصحابة والتابعين أنه لا يصح الاحرام بالحج إلا فيها، وهو قول الشافعي. وقد تقرفي الاصول أن قول الصحابي ليس بحجة وليس في الباب إلا أقوال صحابة، إلا أن يصح ما ذكرنا عن ابن عباس من قوله: فإن من سنة الحج الخ، فإن هذه الصيغة لها حكم الرفع، وقد قدمنا في آخر باب المواقيت ما يدل على استحباب الاحرام من دويرة الاهل، وظاهره عدم الفرق بين من يفارق دويرة أهله قبل دخول أشهر الحج أو بعد دخولها، إلا أنه يقوي المنع من الاحرام قبل أشهر الحج أن الله سبحانه ضرب لاعمال الحج أشهرا معلومة، والاحرام عمل من أعمال الحج،
[ 30 ]
فمن ادعى أنه يصح قبلها فعليه الدليل (وقد أجمع العلماء) على أن المراد بأشهر الحج ثلاثة أولها شوال، لكن اختلفوا هل هي بكمالها أو شهران وبعض الثالث؟ فذهب إلى الاول مالك وهو قول للشافعي، وذهب غيرهما من العلماء إلى الثاني ثم اختلفوا، فقال ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وآخرون: عشر ليال من ذي الحجة، وهل يدخل يوم النحر أو لا؟ فقال أحمد وأبو حنيفة: نعم وقال الشافعي: في المشهور المصحح عنه لا وقال بعض أتباعه تسع من ذي الحجة، ولا يصح في يوم النحر ولا في ليلته وهو شاذ، ويرد على من أخرج يوم النحر من أشهر الحج قوله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم النحر: هذا يوم الحج الاكبر كما في حديث ابن عمر المذكور في الباب. باب جواز العمرة في جميع السنة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: عمرة في رمضان تعدل حجة رواه الجماعة إلا الترمذي لكنه له من حديث أم معقل. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر أربعا إحداهن في رجب رواه الترمذي وصححه. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال رواه أبو داود. وعن علي رضي الله عنه: قال: في كل شهر عمرة رواه الشافعي. حديث أم معقل أخرجه أيضا النسائي من طريق معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن امرأة من بني أسد يقال لها أم معقل قالت: أردت الحج فاعتل بعيري، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اعتمري في شهر رمضان فإن عمرة في رمضان تعدل حجة وقد اختلف في إسناده، فرواه مالك عن سمي عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: جاءت امرأة فذكره مرسلا ورواه النسائي أيضا من طريق عمارة بن عمير وغيره عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي معقل. ورواه أبو داود من طريق إبراهيم بن مهاجر عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن رسول مروان عن أم معقل، ويجمع بين الروايتين بتعدد الواقعة. وأما حديث ابن عباس فقد قدمنا في باب المواقيت ما يخالفه. وحديث عائشة سكت عنه أبو داود
[ 31 ]
ورجال إسناده رجال الصحيح. وحديث علي أخرجه البيهقي من طريق الشافعي بإسناد صحيح. قوله: تعدل حجة فيه دليل على أن العمرة في رمضان تعدل حجة في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض للاجماع، على أن الاعتمار لا يجزئ عن حج الفرض. ونقل الترمذي عن إسحاق بن راهويه أن معنى هذا الحديث نظير ما جاء: أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركت العمرة منزلة الحج بإنضمام رمضان إليها. وقال ابن الجوزي فيه: إن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت، كما يزيد بحضور القلب وخلوص المقصد. قوله: اعتمر أربعا قد تقدم الكلام في عدد عمره صلى الله عليه وآله وسلم والاختلاف في ذلك، وقد وقع خلاف هل الافضل العمرة في رمضان لهذا الحديث أو في أشهر الحج لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتمر إلا فيها؟ فقيل: إن العمرة في رمضان لغير النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل، وأما في حقه فما صنعه فهو أفضل، لانه فعله للرد على أهل الجاهلية الذين كانوا يمنعون من الاعتمار في أشهر الحج (وأحاديث الباب) وما ورد في معناها مما تقدم تدل على مشروعية العمرة في أشهر الحج، وإليه ذهب الجمهور، وذهبت الهادوية إلى أن العمرة في أشهر الحج مكروهة، وعللوا ذلك بأنها تشغل عن الحج في وقته، وهذا من الغرائب التي يتعجب الناظر منها، فإن الشارع صلى الله عليه وآله وسلم إنما جعل عمره كلها في أشهر الحج لابطال ما كانت عليه الجاهلية من منع الاعتمار فيها كما عرفت، فما الذي سوغ مخالفة هذه الادلة الصحيحة والبراهين الصريحة وألجأ إلى مخالفة الشارع وموافقة ما كانت عليها الجاهلية؟ ومجرد كونها تشغل عن أعمال الحج لا يصلح مانعا، ولا يحسن نصبه في مقابلة الادلة الصحيحة. وكيف يجعل مانعا وقد اشتغل بها المصطفى في أيام الحج وأمر غيره بالاشتغال بها فيها، ثم أي شغل لمن لم يرد الحج أو أراده وقدم مكة من أول شوال، لا جرم من لم يشتغل بعلم السنة المطهرة حق الاشتغال يقع في مثل هذه المضايق التي هي السم القتال والداء العضال. وحكي في البحر عن الهادي أنها تكره في أيام التشريق، قال أبو يوسف: ويوم النحر، قال أبو حنيفة: ويوم عرفة.
[ 32 ]
باب ما يصنع من أراد الاحرام من الغسل والتطيب ونزع المخيط وغيره عن ابن عباس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت رواه أبو داود والترمذي. [ رح 1822 ] وعن عائشة قالت: كنت أطيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند إحرامه بأطيب ما أجد وفي رواية: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد، ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك أخرجاهما. حديث ابن عباس في إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني كنيته أبو عون. قال المنذري: وقد ضعفه غير واحد. وقال في التقريب: صدوق سيئ الحفظ خلط بآخره ورمي بالارجاء (وقد استدل) المصنف بهذا الحديث على أنه يشرع للمحرم الاغتسال عند ابتداء الاحرام وهو محتمل لامكان أن يكون الغسل لاجل قذر الحيض، ولكن في الباب أحاديث تدل على مشروعية الغسل للاحرام، وقد تقدمت في أبواب الغسل فليرجع إليها. قوله: عند إحرامه أي في وقت إحرامه، وللنسائي حين أراد أن يحرم. وفي البخاري: لاحرامه ولحله. قوله: وبيص بالموحدة المكسورة وبعدها تحتية ساكنة وآخره صاد مهملة وهو البريق. وقال الاسماعيلي: إن الوبيص زيادة على البريق، وإن المراد به التلالؤ، وإنه يدل على وجود عين قاتمة لا الريح (واستدل بالحديث) على استحباب التطيب عند إرادة الاحرام ولو بقيت رائحته عند الاحرام، وعلى أنه لا يضر بقاء رائحته ولونه، وإنما المحرم ابتداؤه بعد الاحرام قال في الفتح: وهو قول الجمهور وذهب ابن عمر ومالك ومحمد بن الحسن والزهري وبعض أصحاب الشافعي، ومن أهل البيت الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب إلى أنه لا يجوز التطيب عند الاحرام، واختلفوا هل هو محرم أو مكروه؟ وهل تلزم الفدية أولا؟ واستدلوا على عدم الجواز بأدلة منها ما وقع عند البخاري وغيره بلفظ: ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرما والطوف الجماع ومن لازمه الغسل بعده، فهذا يدل على
[ 33 ]
أنه صلى الله عليه وآله وسلم اغتسل بعد أن تطيب. وأجيب عن هذا بما في البخاري أيضا بلفظ: ثم أصبح محرما ينضح طيبا وهو ظاهر في أن نضح الطيب وظهور رائحته كان في حال إحرامه، ودعوى بعضهم أن فيه تقديما وتأخيرا، والتقدير طاف على نسائه ينضح طيبا ثم أصبح محرما خلاف الظاهر، ويرده قول عائشة المذكور: ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك. وفي روايلها: ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك. وفي رواية للنسائي وابن حبان: رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم. وفي رواية متفق عليها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أيام ولمسلم: وبيص المسك وسيأتي ذلك في باب منع المحرم من ابتداء الطيب، ومن أدلتهم نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الثوب الذي مسه الورس والزعفران كما سيأتي في أبواب ما يتجنبه المحرم وأجيب بأن تحريم الطيب على من قد صار محرما مجمع عليه، والنزاع إنما هو في التطيب عند إرادة الاحرام واستمرار أثره لا ابتدائه. ومنها أمره صلى الله عليه وآله وسلم للاعرابي بنزع المنطقة وغسلها عن الخلوق، وهو متفق عليه ويجاب عنه بمثل الجواب عن الذي قبله، ولا يخفى أن غاية هذين الحديثين تحريم لبس ما مسه الطيب. ومحل النزاع تطييب البدن، ولكنه سيأتي في باب ما يصنع من أحرم في قميص أمره صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله بأنه يغسل الخلوق عن بدنه، وسيأتي الجواب عنه. وقد أجاب عن حديث الباب المهلب وأبو الحسن بن القصار وأبو الفرج بن المالكية بأن ذلك من خصائصه، ويرده ما أخرجه أبو داود وابن أبي شيبة عن عائشة قالت: كنا ننضح وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم ثم نحرم فنعرق ويسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا ينهانا وهو صريح في بقاء عين الطيب وفي عدم اختصاصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وسيأتي الحديث في باب منع المحرم من ابتداء الطيب. قال في الفتح: ولا يقال إن ذلك خاص بالنساء لانهم أجمعوا على أن النساء والرجال سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين. وقال بعضهم: كان ذلك طيبا لا رائحة له لما وقع في رواية عن عائشة: بطيب لا يشبه طيبكم قال بعض رواته: يعني لا بقاء له أخرجه النسائي. ويرده ما تقدم في الذي قبله. وأيضا المراد بقولها: لا يشبه طيبكم أي أطيب منه، كما يدل على ذلك ما عند مسلم عنها بلفظ:
[ 34 ]
بطيب فيه مسك وفي أخرى له عنها: كأني أنظر إلى وبيص المسك وأوضح من ذلك قولها في حديث الباب بأطيب ما نجد، ولهم جوابات أخر غير ناهضة فتركها أولى. والحق أن المحرم من الطيب على المحرم هو ما تطيب به ابتداء بعد إحرامه لا ما فعله عند إرادة الاحرام وبقي أثره لونا وريحا، ولا يصح أن يقال: لا يجوز استدامة الطيب قياسا على عدم جواز استدامة اللباس، لان استدامة اللبس لبس، بخلاف استدامة الطيب فليست بطيب سلمنا استواءهما، فهذا قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار. وعن ابن عمر في حديث له عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين روا أحمد. هذا الحديث ذكره صاحب المهذب عن ابن عمر. قال الحافظ: كأنه أخذه من كلام ابن المنذر فإنه ذكره كذلك بغير إسناد، وقد بيض له المنذري والنووي في الكلام على المهذب ووهم من عزاه إلى الترمذي، وقد عزاه المصنف إلى أحمد. قال في مجمع الزوائد: أخرجه الطبراني في الاوسط وإسناده حسن وهو ببعض ألفاظه للجماعة كلهم كما سيأتي في باب ما يتجنبه المحرم من اللباس وهو أيضا متفق على بعض ما فيه من حديث ابن عباس (وفيه دليل) على أنه يجوز للمحرم لبس الازار والرداء والنعلين. وفي البخاري من حديث ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شئ من الاردية والازر تلبس إلا المزعفرات التي تردع على الجلد. قوله: وليقطعهما أسفل من الكعبين الكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم وهذا هو المعروف عند أهل اللغة واستدل به على اشتراط القطع خلافا للمشهور عن أحمد فإنه أجاز لبس الخفين من غير قطع واستدل على ذلك بحديث ابن عباس الآتي في باب ما يتجنبه المحرم من اللباس بلفظ ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين ويجاب عنه بأن حمل المطلق على المقيد لازم وهو من جملة القائلين به وأجاب الحنابله بجوابات أخر لعله يأتي ذكر بعضها عند ذكر حديث ابن عباس. وعن ابن عمر قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول
[ 35 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة متفق عليه. وفي لفظ: ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره أخرجاه. وللبخاري: أن ابن عمر كان إذا أراد الخروج إلى مكة أدهن بدهن ليس له رائحة طيب، ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ثم يركب، فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على حبل البيداء أهل رواه أبو داود. وعن جابر: أن إهلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته رواه البخاري. وقال: رواه أنس وابن عباس. [ رح 1827 ] وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: عجبا لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إهلاله، فقال: إني لاعلم الناس بذلك إنما كانت منه حجة واحدة فمن هنالك اختلفوا، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل فأدرك ذلك منه أقوام فحفظوا عنه، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل حين استقلت به ناقته ثم مضى فلما علا على شرف البيداء أهل فأدرك ذاك أقوام فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين علا على شرف البيداء، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به راحلته، وأهل حين علا على شرف البيداء رواه أحمد وأبو داود. ولبقية الخمسة منه مختصرا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل في دبر الصلاة. حديث أنس الذي عزاه المصنف إلى أبي داود أخرجه أيضا النسائي، وسكت عند أبو داود والمنذري، ورجال إسناده رجال الصحيح إلا أشعث بن عبد الملك الحمراني وهو ثقة وحديث ابن عباس الذي رواه عنه سعيد بن جبير في إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وهو ضعيف، ومحمد بن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث. وقد أخرجه الحاكم من طريق آخر عن عطاء عن ابن عباس، وأخرج أيضا ما أخرجه الخمسة من حديثه مختصرا. قوله: بيداؤكم البيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، قاله أبو عبيد البكري وغيره، وكان ابن عمر إذا قيل
[ 36 ]
له الاحرام من البيداء أنكر ذلك، وقال: البيداء الذي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني بقولكم: إنه أهل منها، وإنما أهل من مسجد ذي الحليفة، وهو يشير إلى قول ابن عباس عند البخاري: أنه صلى الله عليه وآله وسلم ركب راحلته حتى استوت على البيداء أهل. وإلى حديث أنس المذكور في الباب، والتكذيب المذكور المراد به الاخبار عن الشئ على خلاف الواقع وإن لم يقع على وجه العمد. قوله: ادهن بدهن ليست له رائحة طيبة فيه جواز الادهان بالادهان التي ليست لها رائحة طيبة، وقد ثبت من حديث ابن عباس عند البخاري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدهن ولم ينه عن الدهن. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والشيرج، وأن يستعمل ذلك في جميع بدنه رأسه ولحيته، وأجمعوا على أن الطيب لا يجوز استعماله في بدنه، وفرقوا بين الطيب والزيت في هذا، فقياس كون المحرم ممنوعا من استعماله الطيب في رأسه أن يباح له استعمال الزيت في رأسه وقد تقدم الكلام في الطيب. قوله: على حبل البيداء بالحاء المهملة هو الرمل المستطيل وهو المراد بقوله في الرواية الاخرى: على شرف البيداء والشرف المكان العالي. قوله: فمن هناك اختلفوا الخ، هذا الحديث يزول به الاشكال، ويجمع بين الروايات المختلفة بما فيه، فيكون شروعه صلى الله عليه وآله وسلم في الاهلال بعد الفراغ من صلاته بمسجد ذي الحليفة في مجلسه قبل أن يركب، فنقل عنه من سمعه يهل هنالك أنه أهل بذلك المكان ثم أهل لما استقلت به راحلته، فظن من سمع إهلاله عند ذلك أنه شرع فيه في ذلك الوقت لانه لم يسمع إهلاله بالمسجد فقال: إنما أهل حين استقلت به راحلته ثم روى كذلك من سمعه يهل على شرف البيداء. وهذا يدل على أن الافضل لمن كان ميقاته ذا الحليفة أن يهل في مسجدها بعد فراغه من الصلاة، ويكرر الاهلال عند أن يركب على راحلته، وعند أن يمر بشرف البيداء. قال في الفتح: وقد اتفق فقهاء الامصار على جواز جميع ذلك وإنما الخلاف في الافضل. باب الاشتراط في الاحرام [ رح 1828 ] عن ابن عباس: أن ضباعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله إني امرأة
[ 37 ]
ثقيلة وإني أريد الحج فكيف تأمرني أهل؟ فقال: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني قال: فأدركت رواه الجماعة إلا البخاري. وللنسائي في رواية وقال: فإن لك على ربك ما استثنيت. وعن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها: لعلك أردت الحج، قالت: والله ما أجدني إلا وجعة، فقال لها: حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني، وكانت تحت المقداد بن الاسود متفق عليه. وعن عكرمة عن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحرمي وقولي: إن محلي حيث تحبسني، فإن حبست أو مرضت فقد حللت من ذلك بشرطك على ربك عزوجل رواه أحمد. حديث عكرمة أخرجه أيضا ابن خزيمة (وفي الباب) عن أنس عند البيهقي، وعن جابر عنده، وعن ابن مسعود وأم سليم عنده أيضا، وعن أم سلمة عند أحمد والطبراني في الكبير وفي إسناده ابن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث وبقية رجاله رجال الصحيح، وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير وفيه علي بن عاصم وهو ضعيف، قال العقيلي: روي عن ابن عباس قصة ضباعة بأسانيد ثابتة جياد انتهى. وقد غلط الاصيلي غلطا فاحشا فقال: إنه لا يثبت في الاشتراط حديث وكأنه ذهل عما في الصحيحين. وقال الشافعي: لو ثبت حديث عائشة في الاستثناء لم أعده إلى غيره، لانه لا يحل عندي خلاف ما ثبت عن رسول الله. قال البيهقي: فقد ثبت هذا الحديث من أوجه. قوله: ضباعة بضم المعجمة بعدها موحدة، قال الشافعي: كنيتها أم حكيم وهي بنت عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبوها الزبير ابن عبد المطلب بن هاشم، ووهم الغزالي فقال: الاسلمية، وتعقبه النووي وقال: صوابه الهاشمية. قوله: محلي بفتح الميم وكسر المهملة أي مكان إحلالي (وأحاديث الباب) تدل على أن من اشترط هذا الاشتراط ثم عرض له ما يحبسه عن الحج جاز له التحلل، وأنه لا يجوز التحلل مع عدم الاشتراط، وبه قال جماعة من الصحابة منهم علي وابن مسعود وعمر وجماعة من التابعين، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور وهو المصحح للشافعي كما قال النووي. وقال أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين وإليه ذهب الهادي: أنه لا يصح الاشتراط وهو مروي عن ابن عمر. قال البيهقي: لو بلغ ابن عمر حديث ضباعة لقال به ولم ينكر الاشتراط كما لم ينكره أبوه انتهى.
[ 38 ]
وقد اعتذروا عن هذه الاحاديث بأنها قصة عين، وأنها مخصوصة بضباعة، وهو يتنزل على الخلاف المشهور في الاصول في خطابه صلى الله عليه وآله وسلم لواحد هل يكون غيره فيه مثله أم لا؟ وادعى بعضهم أن الاشتراط منسوخ، روي ذلك عن ابن عباس لكن بإسناد فيه الحسن بن عمارة وهو متروك، وادعى بعض أنه لم يثبت، وقد تقدم الجواب عليه. باب التخيير بين التمتع والافراد والقران وبيان أفضلها عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل، قالت: وأهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحج، وأهل به ناس معه، وأهل معه ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بعمرة متفق عليه. وعن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنها حتى مات متفق عليه. ولاحمد ومسلم: نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى يعني متعة الحج، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم تنزل آية تفسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها حتى مات. وعن عبد الله بن شقيق: أن عليا كان يأمر بالمتعة وعثمان ينهى عنها، فقال عثمان كلمة فقال علي: لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عثمان: أجل ولكنا كنا خائفين رواه أحمد ومسلم. وعن ابن عباس قال: أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعمرة وأهل أصحابه بالحج، فلم يحل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم رواه أحمد ومسلم. وفي رواية قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك وأول من نهى عنها معاوية رواه أحمد والترمذي. الرواية الاخرى حسنها الترمذي. قوله: فقال من أراد منكم أن يهل الخ، فيه الاذن منه صلى الله عليه وآله وسلم بالحج إفرادو قرانا وتمتعا. والافراد
[ 39 ]
هو الاهلال بالحج وحده، والاعتمار بعد الفراغ من أعما الحج لمن شاء، ولا خلاف في جوازه والقران هو الاهلال بالحج والعمرة معا، وهو أيضا متفق على جوازه، أو الاهلال بالعمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه وهذا مختلف فيه، والتمتع هو الاعتمار في أشهر الحج ثم التحلل من تلك العمرة، والاهلال بالحج في تلك السنة، ويطلق التمتع في عرف السلف على القران. قال ابن عبد البر: ومن التمتع أيضا القران، ومن التمتع أيضا فسخ الحج إلى العمرة انتهى. وقد حكى النووي في شرح مسلم الاجماع على جواز الانواع الثلاثة، وتأول ما ورد من النهي عن التمتع من بعض الصحابة. قوله: وأهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحج احتج به من قال: كان حجه صلى الله عليه وآله وسلم مفردا، وأجيب بأنه لا يلزم من إهلاله بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة (واعلم) أنه قد اختلف في حجه صلى الله عليه وآله وسلم هل كان قرانا أو تمتعا أو إفرادا؟ وقد اختلفت الاحاديث في ذلك، فروي أنه حج قرانا من جهة جماعة من الصحابة منهم ابن عمر عند الشيخين، وعنه عند مسلم، وعائشة عندهما أيضا، وعنها عند أبي داود، وعنها عند مالك في الموطأ، وجابر عند الترمذي، وابن عباس عند أبي داود، وعمر بن الخطاب عند البخاري وسيأتي، والبراء بن عازب عند أبي داود وسيأتي، وعلي عند النسائي، وعنه عند الشيخين وسيأتي، وعمران بن حصين عند مسلم، وأبو قتادة عند الدارقطني. قال ابن القيم: وله طرق صحيحة. وسراقة بن مالك عند أحمد وسيأتي ورجال إسناده ثقات، وأبو طلحة الانصاري عند أحمد وابن ماجه وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، والهرماس بن زياد الباهلي عند أحمد أيضا، وابن أبي أوفى عند البزار بإسناد صحيح، وأبو سعيد عند البزار، وجابر بن عبد الله عند أحمد وفيه الحجاج بن أرطاة وأم سلمة عنده أيضا، وحفصة عند الشيخين، وسعد بن أبي وقاص عند النسائي والترمذي وصححه، وأنس عند الشيخين وسيأتي. وأما حجه تمتعا فروي عن عائشة وابن عمر عند الشيخين وسيأتي، وعلي وعثمان عند مسلم وأحمد كما في الباب، وابن عباس عند أحمد والترمذي كما في الباب أيضا، وسعد بن أبي وقاص كما سيأتي. وأما حجه إفرادا فروي عن عائشة كما في حديث الباب، وعنها عند البخاري كما سيأتي، وعن ابن عمر عند أحمد ومسلم كما سيأتي أيضا، وابن عباس عند مسلم، وجابر عند ابن ماجه وعنه عند مسلم (وقد اختلفت) الانظار واضطربت
[ 40 ]
الاقوال لاختلاف هذه الاحاديث، فمن أهل العلم من جمع بين الروايات كالخطابي فقال: إن كلا أضاف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أمر به اتساعا، ثم رجح أنه صلى الله عليه وآله وسلم أفرد الحج، وكذا قال عياض وزاد فقال: وأما إحرامه فقد تظافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفردا، وأما رواية من روى التمتع فمعناه أنه أمر به لانه صرح بقوله: ولولا أن معي الهدي لاحللت فصح أنه لم يتحلل. وأما رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله، لانه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي، وقيل قل عمرة في حجة. قال الحافظ: وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديما ابن المنذر، وبينه ابن حزم في حجة الوداع بيانا شافيا، ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا يطول ذكره، ومحصله أن كل من روى عنه الافراد حمل على ما أهل به في أول الحال، وكل من روى عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكل من روى عنه القران أراد ما استقر عليه الامر، وجمع شيخ الاسلام ابن تيمية جمعا حسنا فقال ما حاصله: إن التمتع عند الصحابة يتناول القران، فتحمل عليه رواية من روى أنه حج تمتعا، وكل من روى الافراد قد روى أنه حج صلى الله عليه وآله وسلم تمتعا وقرانا، فيتعين الحمل على القران، وأنه أفرد أعمال الحج ثم فرغ منها وأتى بالعمرة. ومن أهل العلم من صار إلى التعارض فرجح نوعا، وأجاب عن الاحاديث القاضية بما يخالفه وهي جوابات طويلة أكثرها متعسفة، وأورد كل منهم لما اختاره مرجحات أقواها وأولاها مرجحات القران فإنه لا يقاومها شئ من مرجحات غيره. منها: أن أحاديثه مشتملة على زيادة على من روى الافراد وغيره، والزيادة مقبولة إذا خرجت من مخرج صحيح، فكيف إذا ثبتت من طرق كثيرة عن جمع من الصحابة. ومنها: أن من روى الافراد والتمتع اختلف عليه في ذلك، لانهم جميعا روى عنهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم حج قرانا. ومنها: أن روايات القران لا تحتمل التأويل، بخلاف روايات الافراد والتمتع فإنها تحتمله كما تقدم. ومنها: أن رواة القران أكثر كما تقدم. ومنها: أن فيهم من أخبر عن سماعة لفظا صريحا، وفيهم من أخبر عن إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بأنه فعل ذلك، وفيهم من أخبر عن أمر ربه بذلك. ومنها: أنه النسك الذي أمر به كل من ساق الهدي، فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي
[ 41 ]
ثم يسوق هو الهدي ويخالفه. وقد ذكر صاحب الهدى مرجحات غير هذه، ولكنها مرجحات باعتبار أفضلية القران على التمتع والافراد، لا باعتبار أنه صلى الله عليه وآله وسلم حج قرانا، وهو بحث آخر قد اختلفت فيه المذاهب اختلافا كثيرا، فذهب جمع من الصحابة والتابعين وأبو حنيفة وإسحاق، ورجحه جماعة من الشافعية منهم النووي والمزني وابن المنذر وأبو إسحاق المروزي وتقي الدين السبكي إلى أن القران أفضل. وذهب جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كمالك وأحمد والباقر والصادق والناصر وأحمد بن عيسى وإسماعيل بن جعفر الصادق وأخيه موسى والامامية إلى أن التمتع أفضل. وذهب جماعة من الصحابة وجماعة ممن بعدهم وجماعة من الشافعية وغيرهم، ومن أهل البيت الهادي والقاسم والامام يحيى وغيرهم من متأخريهم إلى أن الافراد أفضل. وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أن الانواع الثلاثة في الفضل سواء، قال في الفتح: وهو مقتضى تصرف ابن خزيمة في صحيحه. وقال أبو يوسف: القران والتمتع في الفضل سواء وهما أفضل من الافراد. وعن أحمد من ساق الهدي فالقران أفضل له ليوافق فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه، زاد بعض أتباعه: ومن أراد أن ينشئ لعمرته من بلد سفره فالافراد أفضل له، قال: وهذا أعدل المذاهب وأشبهها بموافقة الاحاديث الصحيحة، ولكن المشهور عن أحمد أن التمتع أفضل مطلقا، وقد احتج القائلون بأن القران أفضل بحجج منها: أن الله اختاره لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها: أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة يقتضي أنها قد صارت جزءا منه أو كالجزء الداخل فيه بحيث لا يفصل بينها وبينه، ولا يكون ذلك إلا مع القران. ومنها: أن النسك الذي اشتمل على سوق الهدي أفضل، واستدل من قال بأن التمتع أفضل بما اتفق عليه من حديث جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة قالوا: ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتمنى إلا الافضل، واستمراره في القران إنما كان لاضطرار السوق إليه وهذا هو الحق، فإنه لا يظن أن نسكا أفضل من نسك اختاره صلى الله عليه وآله وسلم لافضل الخلق وخير القرون، وأما ما قيل من إنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما قال كذلك تطييبا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته ففاسد، لان
[ 42 ]
المقام مقام تشريع للعبادة، وهو لا يجوز عليه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبر بما يدل على أن ما فعلوه من التمتع أفضل مما استمر عليه من القران والامر على خلاف ذلك، وهل هذا إلا تغرير يتعالى عنه مقام النبوة؟ وبالجملة لم يوجد في شئ من الاحاديث ما يدل على أن بعض الانواع أفضل من بعض غير هذا الحديث فالتمسك به متعين، ولا ينبغي أن يلتفت إلى غيره من المرجحات فإنها في مقابلته ضائعة (واحتج) من قال بأن الافراد أفضل أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنها أفردوا الحج وواظبوا على إفراده، فلو لم يكن أفضل لم يواظبوا عليه، وبأن الافراد لا يجب فيه دم. قال النووي بالاجماع وذلك لكماله، ويجب الدم في التمتع والقران وهو دم جبران لفوات الميقات وغيره، فكان ما لا يحتاج إلى جبران أفضل. ومنها: أن الامة أجمعت على جواز الافراد من غير كراهة، وكره عمر وعثمان وغيرهما التمتع وبعضهم القران، ويجاب عن هذا كله بأن الافراد لو كان أفضل لفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو تمنى فعله بعد أن صار ممنوعا بالسوق والكل ممنوع، والسند ما سلف من أنه صلى الله عليه وآله وسلم حج قرانا وأظهر أنه كان يود أن يكون حجه تمتعا، وهذان البحثان أعني تعيين ما حجه صلى الله عليه وآله وسلم من الانواع وبيان ما هو الافضل منها من المضايق ومواطن البسط وفيما حررناه مع كونه في غاية الايجاز ما يغني اللبيب. وعن حفصة أم المؤمنين قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك؟ قال: إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أحل من الحج رواه الجماعة إلا الترمذي. وعن غنيم بن قيس المازني قال: سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة في الحج فقال: فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعروش يعني بيوت مكة يعني معاوية رواه أحمد ومسلم. وعن الزهري عن سالم عن أبيه قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شئ حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر
[ 43 ]
وليحل ثم ليهل بالحج، وليهد فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، وطاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم مكة فاستلم الركن أول شئ، ثم خب ثلاثة أشوا من السبع، ومشى أربعة أطواف، ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يتحلل من شئ حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شئ حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهدى فساق الهدي. وعن عروة عن عائشة مثل حديث سالم عن أبيه. متفق عليه. قوله: ولم تحل في رواية للبخاري: ولم تحلل بلامين وهو إظهار شاذ وفيه لغة معروفة. قوله: لبدت بتشديد الموحدة أي شعر رأسي، وهو أن يجعل فيه شئ ملتصق ويؤخذ منه استحباب ذلك للمحرم. قوله: فلا أحل من الحج يعني حتى يبلغ الهدي محله. واستدل به على أن من اعتمر فساق هديا لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر. قوله: بالعروش جمع عرش يقال لمكة وبيوتها كما في القاموس. قوله: تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخ، قال المهلب: معناه أمر بذلك لانه كان ينكر على أنس قوله إنه قرن، ويقول: إنه كان مفردا. قوله: فأهل بالعمرة قا المهلب معناه: أمرهم بالتمتع وهو أن يهلوا بالعمرة أولا ويقدموها قبل الحج قال: ولا بد من هذا التأويل لدفع التناقض عن ابن عمر. وقال ابن المنير: إن حمل قوله تمتع على معنى أمر من أبعد التأويلات. والاستشهاد عليه بقوله رجم، وإنما أمر بالرجم من أوهن الاستشهادات لان الرجم وظيفة الامام، والذي يتولاه إنما يتولاه نيابة عنه، وأما أعمال الحج من إفراد وقران وتمتع فإنه وظيفة كل أحد عن نفسه، ثم أورد تأويلا آخر وهو أن الراوي عهد أن الناس لا يفعلون إلا كفعله لاسيما مع قوله: خذوا عني مناسككم فلما تحقق أن الناس تمتعوا ظن أنه صلى الله عليه وآله وسلم تمتع فأطلق ذلك. قال الحافظ: ولا يتعين هذا أيضا، بل يحتمل أن يكون معنى قوله تمتع محمولا على مدلوله اللغوي وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها وغيره. قال النووي: إن هذا هو المتعين. قوله: بالعمرة إلى الحج، قال المهلب أيضا: أي أدخل العمرة على الحج. قوله: فإنه لا يحل من شئ حرم عليه تقدم بيانه. قوله: وليقصر قال النووي: معناه أنه ليفعل
[ 44 ]
الطواف والسعي والتقصير يصير حلالا، وهذا دليل على أن الحلق والتقصير نسك وهو الصحيح، وقيل: استباحة محظور. قال: وإنما أمره بالتقصير دون الحلق مع أن الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج. قوله: وليحل هو أمر معناه الخبر أي قد صار حلالا، فله فعل كل ما كان محظورا عليه في الاحرام، ويحتمل أن يكون أمرا على الاباحة لفعل ما كان عليه حراما قبل الاحرام. قوله: ثم يهل بالحج أي يحرم وقت خروجه إلى عرفة، ولهذا أتى بثم الدالة على التراخي، فلم يرد أنه يهل بالحج عقب إحلاله من العمرة. قوله: وليهد أي هدي التمتع. قوله: فمن لم يحل الخ أي لم يجد الهدي بذلك المكان، أو لم يجد ثمنه، أو كان يجد هديا ولكن يمتنع صاحبه من بيعه، أو يبيعه بغلاء فينتقل إلى الصوم كما هو نص القرآن، والمراد بقوله تعالى: * (في الحج) * (سورة البقرة، الآية: 197) أي بعد الاحرام به. قال النووي: هذا هو الافضل. وإن صامها قبل الاهلال بالحج أجزأه على الصحيح. وأما قبل التحلل من العمرة فلا على الصحيح. وجوزه الثوري وأهل الرأي. قوله: ثم خب سيأتي الكلام عليه في الطواف، ويأتي الكلام أيضا على صلاة الركعتين والسعي بين الصفا والمروة ونحر الهدي والافاضة وسوق الهدي (وقد استدل) بالاحاديث المذكورة على أن حجه صلى الله عليه وآله وسلم كان تمتعا، وقد تقدم الكلام على ذلك في أول الباب. قوله: من أهدى فساق الهدي الموصول فاعل قوله فعل أي فعل من أهدى فساق الهدي مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأغرب الكرماني فشرحه، على أن فاعل فعل هو ابن عمر راوي الخبر، وفصل في رواية أبي الوقت بين قوله فعل وبين قوله من أهدى بلفظ باب، قال في الفتح: وهذا خطأ شنيع، وقال أبو الوليد: أمرنا أبو ذر أن نضرب على هذه الترجمة يعني قوله من أهدى وساق الهدي، وذلك لظنه بأنها ترجمة من البخاري فحكم عليها بالوهم. وعن القاسم عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفرد الحج رواه الجماعة إلا البخاري. [ رح 1839 ] وعن نافع عنابن عمر قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحج مفردا رواه أحمد ومسلم. ولمسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل بالحج مفردا. [ رح 1840 ] وعن بكر المزني عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبى بالحج والعمرة جميعا يقول: لبيك
[ 45 ]
عمرة وحجا متفق عليه. [ رح 1841 ] وعن أنس أيضا قال: خرجنا نصرخ بالحج فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نجعلها عمرة وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولكن سقت الهدي وقرنت بين الحج والعمرة رواه أحمد. وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة رواه أحمد والبخاري وابن ماجه وأبو داود. وفي رواية للبخاري: وقل عمرة وحجة. قوله: أفرد الحج قد تقدم أن رواية الافراد غير منافية لرواية القران، لان من روى القران ناقل للزيادة، وغاية الامر أن يجمع بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أهل أولا بالحج مفرد اثم أضاف إليه العمرة وأما قول ابن عمر: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحج مفردا فليس فيه ما ينافي قول من قال: إن حجه صلى الله عليه وآله وسلم كان قرانا أو تمتعا، لانه أخبر عن إهلالهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يخبر عن إهلاله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: يقول لبيك عمرة وحجا هو من أدلة القائلين بأن حجه صلى الله عليه وآله وسلم كان قرانا، وقد رواه عن أنس جماعة من التابعين منهم الحسن البصري وأبو قلابة وحميد بن هلال وحميد بن عبد الرحمن الطويل وقتادة ويحيى بن سعيد الانصاري وثابت البناني وبكر بن عبد الله المزني وعبد العزيز بن صهيب وسليمان ويحيى بن أبي إسحاق وزيد بن أسلم ومصعب بن سليم وأبو قدامة عاصم بن حسين وسويد بن حجر الباهلي. قوله: خرجنا نصرخ بالحج فيه حجة للجمهور والقائلين إنه يستحب رفع الصوت بالتلبية، وقد أخرج مالك في الموطأ وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم من طريق خلاف بن السائب عن أبيه مرفوعا جاءني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي يرفعون أصواتهم بالاهلال وروى ابن القاسم عن مالك أنه لا يرفع الصوت بالتلبية إلا عند المسجد الحرام ومسجد منى. قوله: لو استقبلت الخ هو متفق على مثل معناه من حديث جابر، وبه استدل من قال: بأن التمتع أفضل أنواع الحج، وقد تقدم البحث عن ذلك قوله: أتاني الليلة آت هو جبريل كما في الفتح. قوله: فقال صل في هذا الوادي المبارك هو وادي العقيق، وهو بقرب العقيق بينه وبين المدينة أربعة أميال وروى الزبير بن بكار في أخبار المدينة أن
[ 46 ]
تبعا لما انحدر في مكان عند رجوعه من المدينة قال: هذا عقيق الارض فسمي العقيق. قوله: وقل عمرة في حجة برفع عمرة في أكثر الروايات، وبنصبها في بعضها بإضمار فعل أي جعلتها عمرة، وهو دليل على أن حجه صلى الله عليه وآله وسلم كان قرانا، وأبعد من قال: إن معناه أنه يعتمر في تلك السنة بعد فراغ حجه. وظاهر حديث عمر هذا أن حجه صلى الله عليه وآله وسلم القران كان بأمر من الله فكيف يقول صلى الله عليه وآله وسلم: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، فينظر في هذا، فإن أجيب بأنه إنما قال ذلك تطييبا لخواطر أصحابه فقد تقدم أنه تغرير لا يليق نسبة مثله إلى الشارع. وعن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة وقال: ما كنت لادع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول أحد رواه البخاري والنسائي. [ رح 1844 ] وعن الصبي بن معبد قال: كنت رجلا نصرانيا فأسلمت فأهللت بالحج والعمرة، قال: فسمعني زيد بن صوخان وسلمان بن ربيعة وأنا أهل بهما، فقالا لهذا أضل من بعير أهله فكأنما حمل علي بكلمتيهما جبل، فقدمت على عمر بن الخطاب فأخبرته فأقبل عليهما فلامهما، وأقبل علي فقال: هديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد وابن ماجه والنسائي. الحديث أخرج نحوه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري، ورجال إسناده رجال الصحيح. قوله: وأن يجمع بينهما يحتمل أن تكون الواو عاطفة، فيكون نهي عن التمتع والقران معا، ويحتمل أن يكون عطفا تفسيريا، وهو على ما تقدم أن السلف كانوا يطلقون على القران تمتعا، فيكون المراد أن يجمع بينهما قرانا أو إيقاعا لهما في سنة واحدة بتقديم العمرة على الحج، وقد زاد مسلم أن عثمان قال لعلي: دعنا عنك، فقال علي: إني لا أستطيع أن أدعك، وقد تقدم في أول الباب أن عثمان قال: أجل ولكنا كنا خائفين. قوله: عن الصبي هو بضم الصاد المهملة وفتح الموحدة بعدها تحتية، قال في التقريب: صبي بالتصغير وابن معبد التغلبي بالمثناة والمعجمة وكسر اللام ثقة مخضرم نزل الكوفة من الثانية. قوله: زيد بن صوخان بضم الصاد المهملة بعدها واو ساكنة ثم معجمة مخففة. قوله: فكأنما حمل علي بكلمتيهما جبل يعني أنه ثقل عليه ما سمعه منهما من ذلك اللفظ الغليظ. قوله: هديت لسنة نبيك هو من أدلة القائلين بتفضيل القران، ولا يخفى أنه لا يصلح للاستدلال به على الافضلية لانه
[ 47 ]
لا خلاف أن الثلاثة الانواع ثابتة من سنته صلى الله عليه وآله وسلم إما بالقول أو بالفعل، ومجرد نسبة بعضها إلى السنة لا يدل على أنه أفضل من غيره مع كونها مشتركة في ذلك. [ رح 1845 ] وعن سراقة بن مالك قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة. قال: وقرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع رواه أحمد. وعن البراء بن عازب قال: لما قدم علي من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: وجدت فاطمة قد لبست ثيابا صبيغا وقد نضحت البيت بنضوح فقالت ما لك إن رسول الله صلى الله عليه وآلو سلم قد أمر أصحابه فحلوا قال قلت لها: إني أهللت بإهلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: كيف صنعت؟ قال قلت: أهللت بإهلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإني قد سقت الهدي وقرنت، قال فقال لي: انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين وانسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين، وأمسك لي من كل بدنة منها بضعة رواه أبو داود. حديث سراقة في إسناده داود بن يزيد الاودي وهو ضعيف. وقد أخرج نحوه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس. وسيأتي في باب فسخ الحج وحديث البراء أخرجه أيضا النسائي، وفي إسناده يونس بن إسحاق السبيعي، وقد احتج به مسلم، وأخرج له جماعة. وقال الامام أحمد: حديثه فيه زيادة على حديث الناس وقال البيهقي: كذا في هذه الرواية وقرنت وليس ذلك في حديث جابر حين وصف قدوم علي إهلاله. وحديث جابر أصح سندا وأحسن سياقة، ومع حديث جابر حديث أنس، يريد أن حديث أنس ذكر فيه قدوم علي وذكر إهلاله وليس فيه قرنت وهو في الصحيحين. قوله: دخلت العمرة في الحج قد تقدم أنه يدل على أفضلية القران لمصير العمرة جزءا من الحج أو كالجزء. قوله: صبيغا فعيل هنا بمعنى مفعول أي مصبوغات. قوله: وقد نضحت بفتح النون والضاد المعجمة والحاء المهملة. قوله: بنضوح بفتح النون وضم الضاد المعجمة بعد الواو حاء مهملة وهي ضرب من الطيب. قوله: فقالت ههنا كلام محذوف تقديره: فأنكر عليها صبغ ثيابها ونضح بيتها بالطيب فقالت: الخ. قوله: قد أمر أصحابه فحلوا في رواية مسلم: فوجد فاطمة ممن حلت ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها قالت: أمرني أبي
[ 48 ]
بهذا. قوله: أو ستا وستين هكذا في سنن أبي داود، وكان جملة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مائة كما في صحيح مسلم. وفي لفظ لمسلم: فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر قال النووي والقرطبي، ونقله القاضي عن جميع الرواة، أن هذا هو الصواب لا ما وقع في رواية أبي داود. قوله: بضعة بفتح الباء الموحدة وهي القطعة من اللحم. وفي صحيح مسلم: ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها واستدل بحديث سراقة والبراء من قال: إن حجه صلى الله عليه وآله وسلم كاقرانا، وقد تقدم الكلام على ذلك، واستدل بحديث علي على صحة الاحرام معلقا، وعلى جواز الاشتراك في الهدي، وسيأتي الكلام على ذلك. باب إدخال الحج على العمرة عن نافع قال: أراد ابن عمر الحج عام حجة الحرورية في عهد ابن الزبير فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال فنخاف أن يصدوك، فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إذن أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد، أشهدكم أني قد جمعت حجة مع عمرتي، وأهدى هديا مقلدا اشتراه بقديد وانطلق حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا ولم يزد على ذلك، ولم يحلل من شئ حرم منه حتى يوم النحر، فحلق ونحر ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الاول ثم قال: هكذا صنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم متفق عليه. قوله: حجة الحرورية هم الخوارج ولكنهم حجوا في السنة التي مات فيها يزيد بن معاوية سنة أربع وستين وذلك قبل أن يتسمى ابن الزبير بالخلافة، ونزل الحجاج بابن الزبير في سنة ثلاث وسبعين وذلك في آخر أيام ابن الزبير، فإما أن يحمل على أن الراوي أطلق على الحجاج وأتباعه حرورية لجامع ما بينهم من الخروج على أئمة الحق، وإما أن يحمل على تعدد القصة وأن الحرورية حجت سنة أخرى، ولكنه يؤيد الاول ما في بعض طرق البخاري من طريق الليث عن نافع
[ 49 ]
بلفظ حين نزل الحجاج بابن الزبير، وكذا لمسلم من رواية يحيى القطان. قوله: كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية للبخاري: كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: أشهدكم أني قد أوجبت عمرة يعني من أجل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أهل بعمرة عام الحديبية. قال النووي معناه: إن صددت عن البيت وأحصرت تحللت من العمرة كما تحلل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العمرة. وقال عياض: يحتمل أن المراد أنه أوجب عمرة كما أوجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتمل أنه أراد الامرين من الايجاب والاحلال. قال الحافظ: وهذا هو الاظهر. قوله: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد يعني فيما يتعلق بالاحصار والاحلال. قوله: ولم يزد على ذلك هذا يقتضي أنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الافاضة وهو مشكل، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه (وفي الحديث) فوائد منها: ما بوب له المصنف من جواز إدخال الحج على العمرة وإليه ذهب الجمهور، لكن بشرط أن يكون الادخال قبل الشروع في طواف العمرة، وقيل: إن كان قبل مضي أربعة أشواط صح وهو قول الحنفية، وقيل: ولو بعد تمام الطواف وهو قول المالكية ونقل ابن عبد البر أن أبا ثور شذ فمنع إدخال الحج على العمرة قياسا على منع إدخال العمرة على الحج. ومنها: أن القارن يقتصر على طواف واحد. ومنها: أن القارن يهدي، وشذ ابن حزم فقال: لا هدي على القارن. ومنها: جواز الخروج إلى النسك في الطريق المظنون خوفه إذا رجى السلامة قاله ابن عبد البر. ومنها أن الصحابة كانوا يستعملون القياس ويحتجون به. وعن جابر أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت حتى إذا قدمنا مكة طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة فوجدها تبكي فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج، ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال: قد حللت
[ 50 ]
من حجتك وعمرتك جميعا، فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة متفق عليه. قوله: بحج مفرد استدل به من قال: إن حجه صلى الله عليه وآله وسلم كان مفردا وليس فيه ما يدل على ذلك، لان غاية ما فيه أنهم أفردوا الحج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفرد الحج، ولو سلم أنه يدل على ذلك فهو مؤول بما سلف. قوله: عركت بفتح العين المهملة والراء أي حاضت، يقال: عركت تعرك عروكا كقعدت تقعد قعودا. قوله: حل ماذا بكسر الحاء المهملة وتشديد اللام وحذف التنوين للاضافة وما استفهامية، أي الحل من أي شئ ذا، وهذا السؤال من جهة من جوز أنه حل من بعض الاشياء دون بعض. قوله: الحل كله أي الحل الذي لا يبقى معه شئ من ممنوعات الاحرام بعد التحلل المأمور به. قوله: ثم أهللنا يوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة. قوله: أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي الخ، هذا الغسل قيل هو الغسل للاحرام، ويحتمل أن يكون الغسل من الحيض. قوله: حتى إذا طهرت بفتح الهاء وضمها والفتح أفصح. قوله: من حجتك وعمرتك هذا تصريح بأن عمرتها لم تبطل ولم تخرج منها، وأن ما وقع في بعض الروايات من قوله: ارفضي عمرتك، وفي بعضها: دعي عمرتك متأول. قال النووي: إن قوله حتى إذا طهرنطافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجتك وعمرتك، يستنبط منه ثلاث مسائل حسنة. إحداها: أن عائشة كانت قارنة ولم تبطل عمرتها وأن الرفض المذكور متأول. الثانية: أن القارن يكفيه طواف واحد وهو مذهب الشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة وطائفة: يلزمه طوافان وسعيان. الثالثة: أن السعي بين الصفا والمروة يشترط وقوعه بعد طواف صحيح. وموضع الدلالة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت ولم تسع كما لم تطف، فلو لم يكن السعي متوقفا على تقدم الطواف عليه لما أخرته قال: واعلم أن طهر عائشة هذا المذكور كان يوم السبت وهو يوم النحر في حجة الوداع، وكان ابتداء حيضها هذا يوم السبت أيضا، لثلاث خلون من ذي الحجة سنة إحدى عشرة، ذكره أبو محمد بن حزم في كتابه حجة الوداع. قوله:
[ 51 ]
فاذهب بها يا عبد الرحمن الخ قد تقدم شرح هذا في أول كتاب الحج. والحديث ساقه المصنف رحمه الله ههنا للاستدلال به على جواز إدخال الحج على العمرة، وقد تقدم ما فيه من الخلاف والاشتراط، وللحديث فوائد يأتي ذكرها في مواضعها. باب من أحرم مطلقا أو قال: أحرمت بما أحرم به فلان عن أنس قال: قدم علي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بما أهللت يا علي؟ فقال: أهللت بإهلال كإهلال النبي قال: لولا أن معي الهدي لاحللت متفق عليه. ورواه النسائي من حديث جابر وقال: فقال لعلي: بما أهللت؟ قال قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعن أبي موسى قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال: بما أهللت؟ قال قلت: أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: سقت من هدي؟ قلت لا، قال: فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي متفق عليه. وفي لفظ قال: كيف قلت حين أحرمت؟ قال قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكره أخرجاه. قوله في حديث علي: لولا أن معي الهدي لاحللت قال البخاري: زاد محمد بن بكر عن ابن جريج: قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بما أهللت يا علي؟ قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فاهد وامكث حراما كما أنت. قوله: ثم أتيت امرأة من قومي في رواية للبخاري: امرأة من قيس، والمتبادر من هذا الاطلاق أنها من قيس عيلان وليس بينهم وبين الاشعري نسبة. وفي رواية: من نساء بني قيس. قال الحافظ: فظهر لي من ذلك أن المراد بقيس أبوه قيس بن سليم والد أبو موسى الاشعري، وأن المرأة زوج بعض إخوته، فقد كان لابي موسى من الاخوة أبورهم وأبو بردة، قيل: ومحمد (والحديثان) يدلان على جواز الاحرام كإحرام شخص يعرفه من أراد ذلك، وأما مطلق الاحرام على الابهام فهو جائز، ثم يصرفه المحرم إلى ما شاء لكونه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه عن ذلك، وإلى ذلك ذهب الجمهور. وعن المالكية: لا يصح الاحرام على الابهام وهو قول الكوفيين قال
[ 52 ]
ابن المنير: وكأنه مذهب البخاري لانه أشار في صحيحه عند الترجمة لهذين الحديثين إلى أن ذلك خاص بذلك الزمن، وأما الآن فقد استقرت الاحكام وعرفت مراتب الاحرام فلا يصح ذلك، وهذا الخلاف يرجع إلى قاعدة أصولية وهي: هل يكون خطابه صلى الله عليه وآله وسلم لواحد أو لجماعة مخصوصة في حكم الخطاب العام للامة أو لا؟ فمن ذهب إلى الاول جعل حديث علي وأبي موسى شرعا عاما ولم يقبل دعوى الخصوصية إلا بدليل، ومن ذهب إلى الثاني قال: إن هذا الحكم مختص بهما والظاهر الاول. باب التلبية وصفتها وأحكامها عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال: اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لك لا شريك لك. وكان عبد الله يزيد مع هذا: لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل متفق عليه. وعن جابر قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر التلبية مثل حديث ابن عمر قال: والناس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئا رواه أحمد وأبو داود ومسلم بمعناه. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في تلبيته: لبيك إله الحق لبيك رواه أحمد وابن ماجه والنسائي. حديث أبي هريرة صححه ابن حبان والحاكم. قوله: فقال لبيك قال في الفتح: هو لفظ مثنى عند سيبويه ومن تبعه، وقال يونس: هو اسم مفرد وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير كلدى وعلى، ورد بأنها قلبت ياء مع المظهر وعن الفراء هو منصوب على المصدر وأصله لبا لك فثنى على التأكيد أي إلبابا بعد الباب، وهذه التثنية ليست حقيقة بل هي للتكثير والمبالغة، ومعنا إجابة بعد إجابة أو إجابة لازمة، وقيل: معناه غير ذلك. قال ابن عبد البر: قال جماعة من أهل العلم: معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذن في الناس بالحج، وهذا قد أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن
[ 53 ]
أبي حاتم بأسانيدهم في تفاسيرهم عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة في غير واحد. قال الحافظ: والاسانيد إليهم قوية، وهذا مما ليس للاجتهاد فيه مسرح فيكون له حكم الرفع. قوله: إن الحمد بكسر الهمزة على الاستئناف وبفتحها على التعليل، قال في الفتح: والكسر أجود عند الجمهور، قال ثعلب: لان من كسر جعل معناه إن الحمد لك على كل حال، ومن فتح قال معناه لبيك لهذا السبب الخاص، ومثله قال ابن دقيق العيد. وقال ابن عبد البر: معناهما واحد، وتعقب ونقل الزمخشري أن الشافعي اختار الفتح، وأبا حنيفة اختار الكسر. قوله: والنعمة لك المشهور فيه النصب، ويجوز الرفع على الابتداء ويكون الخبر محذوفا، قاله ابن الانباري، وكذلك الملك المشهور فيه النصب ويجوز الرفع. قوله: وكان عبد الله الخ أخرج ابن أبي شيبة من طريق المسور بن مخرمة قال: كانت تلبية عمر فذكر مثل المرفوع وزاد: لبيك مرغوبا ومرهوبا إليك ذا النعماء والفضل الحسن قال الطحاوي: بعد أن أخرجه من حديث عمر وابن مسعود وعائشة وجابر وعمرو ابن معد يكرب: أجمع المسلمون جميعا على ذلك، غير أن قوما قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من الذكر لله تعالى ما أحب وهو قول محمد والثوري والاوزاعي، واحتجوا بما في الباب من حديث أبي هريرة وجابر وبالآثار المذكورة، وخالفهم آخرون فقالوا: لا ينبغي أن يزاد على ما علمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس، وبجواز الزيادة قال الجمهور. وحكى ابن عبد البر عن مالك الكراهة وهو أحد قولي الشافعي، وقد اختلف في حكم التلبية فقال الشافعي وأحمد: إنها سنة. وقال ابن أبي هريرة: واجبة، وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية، والخطابي عن مالك وأبي حنيفة، واختلف هؤلاء في وجوب الدم لتركها. وقال ابن شاس من المالكية، وصاحب الهداية من الحنفية: أنها واجبة يقوم مقامها فعل يتعلق بالحج كالتوجه على الطريق. وحكى ابن عبد البرعن الثوري، وأبي حنيفة وابن حبيب من المالكية، والزبيري من الشافعية، وأهل الظاهر أنها ركن في الاحرام لا ينعقد بدونها. وأخرج ابن سعد عن عطاء بإسناد صحيح أنها فرض، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وطاوس وعكرمة. وعن السائب بن خلاد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالاهلال والتلبية رواه الخمسة
[ 54 ]
وصححه الترمذي. وفي رواية: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كن عجاجا ثجاجا. والعج التلبية، والثج نحر البدن رواه أحمد. وعن خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله عز وجل رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار رواه الشافعي والدارقطني. وعن القاسم بن محمد قال: كان يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه الدارقطني. وعن الفضل بن العباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جمع إلى منى فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة رواه الجماعة. وعن عطاء عن ابن عباس قال: يرفع الحديث أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر رواه الترمذي وصححه. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر رواه أبو داود. حديث السائب بن خلاد أخرجه أيضا مالك في الموطأ والشافعي عنه، وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححوه، وأخرج نحوه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا، وأحمد من حديث ابن عباس. وأخرج ابن أبي شيبة عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرفعون أصواتهم حتى تبح أصواتهم وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أبي بكر الصديق أفضل الحج العج والثج واستغربه الترمذي، وحكى الدارقطني الاختلاف فيه، وأشار الترمذي إلى نحوه من حديث جابر. ووصله أبو القاسم في الترغيب والترهيب وراويه متروك وهو إسحاق بن أبي فروة. وروى ابن المقري في مسند أبي حنيفة عن ابن مسعود نحوه. وأخرجه أبو يعلى. وحديث خزيمة في إسناده صالح بن محمد بن أبي زائدة وهو مدني ضعيف، وفيه أيضا إبراهيم بن أبي يحيى، ولكنه قد تابعه عليه عبد الله بن عبيد الله الاموي، أخرجه البيهقي والدارقطني. وحديث ابن عباس الاول في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وفيه مقال. وحديثه الثاني قال المنذري: أخرجه الترمذي وقال: صحيح وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد تكلم فيه جماعة من الائمة، انتهى كلام المنذري. وليس في الترمذي إلا الحديث الاول الذي عزاه إليه المصنف، وهو الذي بعده حديث واحد، ولكنه لما اختلف لفظهما
[ 55 ]
جعلهما المصنف حديثين. قوله: أن آمر أصحابي الخ، استدل به على استحباب رفع الصوت للرجل بالتلبية بحيث لا يضر نفسه، وبه قال ابن رسلان. وخرج بقوله أصحابي النساء، فإن المرأة لا تجهر بها بل تقتصر على إسماع نفسها. قال الروياني: فإن رفعت صوتها لم يحرم لانه ليس بعورة على المصحح بل يكون مكروها، وكذا قال أبو الطيب وابن الرفعة، وذهب داود إلى أن رفع الصوت واجب وهو ظاهر قوله: فأمرني أن آمر أصحابي، لا سيما وأفعال الحج وأقواله بيان لمجمل واجب هو قول الله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * (سورة آل عمران: 97) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: خذوا عني مناسككم. قوله: حتى رمى جمرة العقبة فيه دليل على أن التلبية تستمر إلى رمي العقبة، وإليه ذهب الجمهور وقالت طائفة: يقطع المحرم التلبية إذا دخل الحرم وهو مذهب ابن عمر، لكن يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة. وقالت طائفة: يقطعها إذا راح إلى الموقف، رواه ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة وسعد بن أبي وقاص وعلي، وبه قال مالك وقيده بزوال الشمس يوم عرفة وهو قول الاوزاعي والليث. وعن الحسن البصري مثله لكن قال: إذا صلى الغداة يوم عرفة، واختلف الاولون هل يقط التلبية مع رمي أول حصاة أو عند تمام الرمي؟ فذهب جمهورهم إلى الاول، وإلى الثاني أحمد وبعض أصحاب الشافعي، ويدل لهم ما روى ابن خزيمة من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل قال: أفضت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عرفات فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ويكبر مع كل حصاة ثم قطع التلبية مع آخر حصاة قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسرا لما أبهم في الروايات الاخرى، وأن المراد حتى رمى جمرة العقبة أي أتم رميها انتهى. والامر كما قال ابن خزيمة: فإن هذه زيادة مقبولة خارجة من مخرج صحيح غير منافية للمزيد، وقبولها متفق عليه كما تقرر في الاصول. قوله: حتى يستلم الحجر ظاهره أنه يلبي في حال دخوله المسجد وبعد رؤية البيت وفي حال مشيه حتى يشرع في الاستلام، ويستثني منه الاوقات التي فيها دعاء مخصوص، وقد ذهب إلى ما دل عليه الحديث من ترك التلبية عند الشروع في الاستلام أبو حنيفة والشافعي في الجديد، وقال في القديم: يلبي ولكنه يخفض صوته وهو قول ابن عباس وأحمد.
[ 56 ]
باب ما جاء في فسخ الحج إلى العمرة عن جابر قال: أهللنا بالحج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا فقال: يا أيها الناس أحلوا فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم، قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا كما يفعل الحلال، حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج متفق عليه. وفي رواية: أهللنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحج خالصا لا يخالطه شئ فقدمنا مكة لاربع ليال خلون من ذي الحجة فطفنا وسعينا، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نحل وقال: لولا هديي لحللت، ثم قام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله أرأيت متعتنا هذه لعامنا هذا أم للابد؟ فقال: بلى هي للابد رواه البخاري وأبو داود ولمسلم معناه. وعن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخا، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج رواه أحمد ومسلم. وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا محرمين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان معه هد فليقم على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحلل، فلم يكن معي هدي فحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحلل رواه مسلم وابن ماجه. ولمسلم في رواية: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهلين بالحج. قوله: وجعلنا مكة بظهر أي جعلناها وراء أظهرنا، وذلك عند إرادتهم الذهاب إلى منى. قوله: لا يخالطه شئ يعني من العمرة ولا القران ولا غيرهما. قوله: من ذي الحجة بكسر الحاء على الافصح. قوله: أرأيت متعتنا هذه أي أخبرني عن فسخنا الحج إلى عمرتنا هذه التي تمتعنا فيها بالجماع والطيب واللبس. قوله: لعامنا هذا أي مخصوصة به لا تجوز في غيره أم للابد أي جميع الاعصار (وقد استدل) بهذه الاحاديث وبما يأتي بعدها مما ذكره المصنف من قال: إنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة لكل أحد وبه قال أحمد وطائفة من أهل الظاهر، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي. قال النووي وجمهور العلماء من السلف والخلف: إن فسخ الحج إلى العمرة هو
[ 57 ]
مختص بالصحابة في تلك السنة لا يجوز بعدها، قالوا: وإنما أمروا به في تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، واستدلوا بحديث أبي ذر وحديث الحرث بن بلال عن أبيه وسيأتيان ويأتي الجواب عنهما، قالوا: ومعنى قوله للابد جواز الاعتمار في أشهر الحج أو القران فهما جائزان إلى يوم القيامة، وأما فسخ الحج إلى العمرة فمختص بتلك السنة، وقد عارض المجوزون للفسخ ما احتج به المانعون بأحاديث كثيرة عن أربعة عشر من الصحابة قد ذكر المصنف في هذا الباب منها أحاديث عشرة منهم وهم: جابر وسراقة بن مالك وأبو سعيد وأسماء وعائشة وابن عباس وأنس وابن عمر والربيع بن سبرة والبراء، وأربعة لم يذكر أحاديثهم وهم: حفصة وعلي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو موسى. قال في الهدى: وروى ذلك عن هؤلاء الصحابة طوائف من كبار النابغين حتى صار منقولا عنهم نقلا يرفع الشك ويوجب اليقين، ولا يمكن أحد أن ينكره أو يقول لم يقع وهو مذهب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومذهب حبر الامة وبحرها ابن عباس وأصحابه، ومذهب أبي موسى الاشعري، ومذهب إمام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل وأهل الحديث معه، ومذهب عبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، ومذهب أهل الظاهر انتهى. واعلم أن هذه الاحاديث قاضية بجواز الفسخ. وقول أبي ذر: لا يصلح للاحتجاج به على أنها مختصة بتلك السنة وبذلك الركب، وغاية ما فيه أنه قول صحابي فيما هو مسرح للاجتهاد، فلا يكون حجة على أحد على فرض أنه لم يعارضه غيره، فيكف إذا عارضه رأي غيره من الصحابة كان عباس؟ فإنه أخرج عنه مسلم أنه كان يقول: لا يطوف بالبيت حاج إلا حل وأخرج عبد الرزاق أنه قال: من جاء مهلا بالحج فإن الطواف بالبيت يصيره إلى عمرة شاء أم أبى، فقيل له: إن الناس ينكرون ذلك عليك، فقال: هي سنة نبيهم وإن رغموا وكأبي موسى فإنه كان يفتي بجواز الفسخ في خلافة عمر كما في صحيح البخاري، على أن قول أبي ذر معارض بصريح السنة كما تقدم في جوابه صلى الله عليه وآله وسلم لسراقة بقوله للابد لما سأله عن متعتهم تلك بخصوصها مشيرا إليها بقوله: متعتنا هذه، فليس في المقام متمسك بيد المانعين يعتد به ويصلح لنصبه في مقابلة هذه السنة المتواترة. وأما حديث الحرث بن بلال عن أبيه فسيأتي أنه غير صالح للتمسك به على فرض انفراده، فكيف إذا وقع معارضا لاحاديث أربعة عشر صحابيا كلها صحيحة؟ وقد أبعد من قال إنها منسوخة، لان دعوى النسخ تحتاج إلى نصوص صحيحة متأخرة
[ 58 ]
عن هذه النصوص، وأما مجرد الدعوى فأمر لا يعجز عنه أحد وأما ما رواه البزار عن عمر أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا فقال ابن القيم: إن هذا الحديث لا سند له ولا متن، أما سنده فمما لا تقوم به حجة عند أهل الحديث، وأما متنه فإن المراد بالمتعة فيه متعة النساء. ثم استدل على أن المراد ذلك بإجماع الامة على أن متعة الحج غير محرمة، وبقول عمر: لو حججت لتمتعت كما ذكره الاثرم في سننه. وبقول عمر لما سئل هل نهى عن متعة الحج؟ فقال: لا، أبعد كتاب الله؟ أخرجه عنه عبد الرزاق. وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: بل للابد فإنه قطع لتوهم ورود النسخ عليها (واستدل) على النسخ بما أخرجه أبو داود: أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى عمر بن الخطاب فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج وهو من رواية سعيد بن المسيب عن الرجل المذكور وهو لم يسمع من عمر. وقال أبو سليمان الخطابي: في إسناد هذا الحديث مقال، وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل موته، وجوز ذلك إجماع أهل العلم ولم يذكر فيه خلافا انتهى. إذا تقرر لك هذا علمت أن هذه السنة عامة لجميع الامة، وسيأتي في آخر هذا الباب بقية متمسكات الطائفتين. وقد اختلف هل الفسخ على جهة الوجوب أو الجواز؟ فمال بعض إلى أنه واجب. قال ابن القيم في الهدى بعد أن ذكر حديث البراء الآتي وغضبه صلى الله عليه وآله وسلم لما لم يفعلوا ما أمرهم به من الفسخ: ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتباعا لامره، فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده، ولا صح حرف واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله على لسان سراقة أن سأله: هل ذلك مختص بهم؟ فأجابه بأن ذلك كائن لا بد، فما ندري ما يقدم على هذه الاحاديث وهذا الامر المؤكد الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من خالفه انتهى. والظاهر أن الوجوب رأي ابن عباس لقوله فيما تقدم: أن الطواف بالبيت يصيره إلى عمرة شاء أم أبى. [ رح 1862 ] وعن الاسود عن عائشة قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت وأمر النبي صلى الله عليه وآله
[ 59 ]
وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل فحل من لم يكن ساق ونساؤه لم يسقن فأحللن، قالت عائشة: فحضت فلم أطف بالبيت وذكرت قصتها متفق عليه. وعن ابن عباس قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الارض، ويجعلون المحرم صفر ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الاثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر فقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال حل كله متفق عليه. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده هدي فليحلل الحل كله فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وعنه أيضا: أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والانصار وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج وإذا فرغنا من المناسك جئنا طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال تعالى: * (فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) * (سورة البقرة، الآية: 196) إلى أمصاركم رواه البخاري. قوله: ولا نرى إلا أنه الحج في لفظ لمسلم: ولا نذكر إلا الحج، وظاهر هذا أن عائشة مع غيرها من الصحابة كانوا محرمين بالحج، وقد تقدم قولها: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بالحج والعمرة، ومنا من أهل بالحج فيحتمل أنها ذكرت ما كانوا يعتادونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج فخرجوا لا يعرفون إلا الحج، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوه الاحرام وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج. قوله: ونساؤه لم يسقن أي الهدي. قوله: وذكرت قصتها وهي كما في البخاري وغيره: فلما كانت ليلة الحصبة قلت: يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة؟ قال: وما طفت ليالي قدمنا مكة؟ قلت: لا، قال: فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك كذا وكذا، فقالت صفية: ما أراني إلا حابستهم، قال: عقرا حلقا أوما طفت يوم النحر؟ قالت قلت: بلى، قال: لا بأس انفري، قالت عائشة: فلقيني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها. قوله:
[ 60 ]
من أفجر الفجور هذا من أباطيلهم المستندة إلى غير أصل كسائر أخواتها. قوله: ويجعلون المحرم صفر قال في الفتح: كذا هو في جميع الاصول من الصحيحين. قال النووي: كان ينبغي أن يكتب بالالف، ولكن على تقديحذفها لا بد من قراءته منصوبا لانه مصروف بلا خلاف، يعني والمشهور في اللغة الربعية كتابة المنصوب بغير الالف، فلا يلزم من كتابته بغير ألف أن لا يصرف فيقرأ بالالف، وسبقه عياض إلى نفي الخلاف فيه، لكن في المحكم كان أبو عبيدة لا يصرفه، فقيل: لا يمنع الصرف حتى يجتمع علتان فما هما؟ قال: المعرفة والساعة، وفسره المظفري بأن مراده بالساعة الزمان، والازمنة ساعات، والساعات مؤنثة انتهى. وإنما جعلوا المحرم صفرا لما كانوا عليه من النسئ في الجاهلية، فكانوا يسمون المحرم صفرا ويحلونه ويؤخرون تحريم المحرم لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة، فيضيق عليهم فيها ما يعتادون من المقاتلة والغارة والنهب، فضللهم الله عزوجل في ذلك فقال: * (إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا) * سورة التوبة، الآية: 37). قوله: إذا برأ الدبر بفتح الدال المهملة والموحدة أي ما كان يحصل بظهور الابل من الحمل عليها ومشقة السفر، فإنه كان يبرأ عند انصرافهم من الحج. قوله: وعفا الاثر أي اندرس أثر الابل وغيرها في سيرها، ويحتمل أثر الدبر المذكور، وهذه الالفاظ تقرأ ساكنة الراء لارادة السجع، ووجه تعليق جواز الاعتمار بانسلاخ صفر مع كونه ليس من أشهر الحج أنهم لما جعلوا المحرم صفرا وكانوا لا يستقرون ببلادهم في الغالب ويبرأ دبر إبلهم إلا عند انسلاخه ألحقوه بأشهر الحج على طريق التبعية، وجعلوا أول أشهر الاعتمار شهر المحرم الذي هو في الاصل صفر والعمرة عندهم في غير أشهر الحج. قوله: قال حل كله أي الحل الذي يجوز معه كل محظورات الاحرام حتى الوطئ للنساء. قوله: هذه عمرة استمتعنا بها هذا من متمسكات من قال: إن حجه صلى الله عليه وآله وسلم كان تمتعا، وتأوله من ذهب إلى خلافه بأنه أراد به من تمتع من أصحابه، كما يقول الرجل الرئيس في قومه: فعلنا كذا وهو لم يباشر ذلك، وقد تقدم الكلام على حجه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة قيل: معناه سقط فعلها بالدخول في الحج وهو على قول من لا يرى العمرة واجبة، وأما من يرى أنها واجبة فقال النووي: قال أصحابنا وغيرهم: فيه تفسير أن أحدهما معناه دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إذا جمع بينهما بالقران،
[ 61 ]
والثاني معناه لا بأس بالعمرة في أشهر الحج. قال الترمذي: هكذا قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وهذه الاحاديث من أدلة القائلين بالفسخ وقد تقدم البحث في ذلك. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بات بذي الحليفة حتى أصبح ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما، فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى كان يوم التروية أهلوا بالحج، قال: ونحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبع بدنات بيده قياما وذبح بالمدية كبشين أملحين رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعن ابن عمر قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وأصحابه مهلين بالحج فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي، قالوا: يا رسول الله أيروح أحدنا إلمنى وذكره يقطر منيا؟ قال: نعم وسطعت المجامر رواه أحمد. حديث ابن عمر هذا قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، وهو في الصحيح باختصار، وهو من أحاديث الفسخ التي قال ابن القيم كلها صحاح، وهو أحد الاحاديث التي قال أحمد بن حنبل: إن عنده في الفسخ أحد عشر حديثا صحاحا. قوله: بات بذي الحليفة حتى أصبح فيه استحباب المبيت بميقات الاحرام. قوله: وأهل الناس بهما فيه استحباب أن تكون تلبية الناس بعد تلبية كبير القوم ولفظ أبي داود: ثم أهل الناس بهما. قوله: فحلوا أي أمر من فسخ الحج إلى العمرة ممن كان معه أن يحل من عمرته. قوله: يوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة كما تقدم. قوله: قياما فيه استحباب نحر الابل قائمة. قوله: وذبح بالمدية كبشين فيه مشروعية الاضحية وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، ويأتي إن شاء الله تعالى تفسير الاملح. قوله: وذكره يقطر منيا فيه إشارة إلى قرب العهد بوطئ النساء، وفيه دليل على جواز استعمال الكلام في المبالغة. قوله: وسطعت المجامر في رواية لابن أبي شيبة عن أسماء بنت أبي بكر ما لفظه: جئنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجاجا فجعلناها عمرة فحللنا الاحلال كله حتى سطعت المجامر بين. الرجال والنساء والمراد أنهم تبخروا، والبخور نوع من أنواع الطيب.
[ 62 ]
وعن الربيع بن سبرة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بعسفان، قال له سراقة بن مالك المدلجي: يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم، فقال: إن الله عزوجل قد أدخل عليكم في حجكم عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي رواه أبو داود. وعن البراء بن عازب قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قال: فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال: اجعلوا حجكم عمرة، قال: فقال الناس: يا رسول الله قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة؟ قال: انظروا ما آمركم به فافعلوا، فردوا عليه القول فغضب، ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر بالامر فلا أتبع رواه أحمد وابن ماجه. الحديث الاول سكت عنه أبو داود ورجاله رجال الصحيح والمنذري، والحديث الثاني أخرجه أيضا أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح كما قال في مجمع الزوائد، وهو من الاحاديث في الفسخ التي صححها أحمد وابن القيم. قوله: بعسفان قرية بين مكة والمدينة على نحو مرحلتين من مكة، قال في الموطأ: بين مكة وعسفان أربع برد. قوله: اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم أي أعلمنا علم قوم كأنما وجدوا الآن وفي رواية لابي داود: كأنما وفدوا اليوم، أي كأنما وردوا عليك الآن. قوله: إلا من كان معه هدي يعني فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله. قوله: فغضب استدل به من قال بوجوب الفسخ، لان الامر لو كان أمر ندب لكان المأمور مخيرا بين فعله وتركه، ولما كان يغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند مخالفته لانه لا يغضب إلا لانتهاك حرمة من حرمات الدين لا لمجرد مخالفة ما أرشد إليه على جهة الندب، ولا سيما وقد قالوا له: قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة؟ فقال لهم: انظروا ما آمركم به فافعلوا فإن ظاهر هذا أن ذلك أمر حتم، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان أمره ذلك لبيان الافضل أو لقصد الترخيص لهم بين لهم بعد هذه المراجعة أن ما أمرتكم به هو الافضل، أو قال لهم: إني أردت الترخيص لكم والتخفيف عنكم. وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحرث بن بلال عن أبيه: قال قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل لنا خاصة رواه الخمسة إلا الترمذي
[ 63 ]
وهو بلال بن الحرث المزني. [ رح 1871 ] وعن سليم بن الاسود أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أبو داود. ولمسلم والنسائي وابن ماجه عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال: كانت المتعة في الحج لاصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة قال أحمد بن حنبل: حديث بلال بن الحرث عندي ليس يثبت ولا أقول به، ولا يعرف هذا الرجل يعني الحرث بن بلال، وقال: أرأيت لو عرف الحرث بن بلال إلا أن أحد عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرون ما يرون من الفسخ أين يقع الحرث بن بلال منهم؟ وقال في رواية أبي داود: ليس يصح حديث في أن الفسخ كالهم خاصة، وهذا أبو موسى الاشعري يفتي به في خلافة أبي بكر وشطرا من خلافه عمر. قلت: ويشهد لما قاله قوله في حديث جابر: بل هي للابد وحديث أبي ذر موقوف، وقد خالفه أبو موسى وابن عباس وغيرهما. أما حديث بلال بن الحرث فقيه ما نقله المصنف عن أحمد. وقال المنذري: إن الحرث يشبه المجهول. وقال الحافظ: الحرث بن بلال من ثقات التابعين. وقال ابن القيم: نحن نشهد بالله أن حديث بلال بن الحرث هذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو غلط عليه. قال: ثم كيف يكون هذا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عباس يفتي بخلافه ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام؟ وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون ولا يقول له رجل واحد منهم هذا كان مختصا بنا ليس لغيرنا انتهى. وقد روي عن عثمان مثل قول أبي ذر في اختصاص ذلك بالصحابة، ولكنهما جميعا مخالفان للمروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك للابد بمحض الرأي، وقد حمل ما قالاه على محامل. أحدها: أنهما أرادا اختصاص وجوب ذلك بالصحابة وهو قول ابن تيمية حفيد المصنف لا مجرد الجواز والاستحباب فهو للامة إلى يوم القيامة. وثانيها: أنه ليس لاحد بعد الصحابة أن يبتدئ حجا قارنا أو مفردا بلا هدي يحتاج معه إلى الفسخ، ولكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو التمتع لمن لم يسق الهدي، والقران لمن ساقه، وليس لاحد بعدهم أن يحرم بحجة مفردة ثم يفسخها ويجعلها متعة وإنما ذلك خاص بالصحابة، وهذان المحملان يعارضان
[ 64 ]
ما حمل المانعون كلامهما عليه من أن المراد أن الجواز مختص بالصحابة إذا لم يكن الثاني منهما مرادا لهم وهما راجحان عليه، وأقل الاحوال أن يكونا مساويين له، فتسقط معارضة الاحاديث الصحيحة به. وأما ما في صحيح مسلم عن أبي ذر من أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة فيرده إجماع المسلمين على جوازها إلى يوم القيامة، فإن أراد بذلك متعة الفسخ ففيه تلك الاحتمالات. ومن جملة ما احتج به المانعون من الفسخ أن مثل ما قاله عثمان وأبو ذر لا يقال بالرأي، ويجاب بأن هذا من مواطن الاجتهاد، ومما للرأي فيه مدخل، على أنه قد ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين أنه قال: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزل القرآن فقال رجل برأيه ما شاء فهذا تصريح من عمران أن المنع من التمتع بالعمرة إلى الحج من بعض الصحابة إنما هو من محض الرأي، فكما أن المنع من التمتع على العموم من قبيل الرأي، كذلك دعوى اختصاص التمتع الخاص أعني به الفسخ بجماعة مخصوصة (ومن جملة) ما تمسك به المانعون من الفسخ حديث عائشة المتقدم حيث قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج حتى قدمنا مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أحرم بعمرة ولم يهد فليحل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هدية، ومن أهل بحج فليتم حجه وهذا لفظ مسلم، وظاهر أنه لم يأمر من حج مفردا بالفسخ بل أمره بإتمام حجه. وأجيب عن ذلك بأن هذا الحديث غلط فيه عبد الملك بن شعيب وأبوه شعيب أو جده الليث أو شيخه عقيل، فإن الحديث رواه مالك ومعمر والناس عن الزهري عنها، وبينوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى أن يحل، وقد خالف عبد الملك جماعة من الحفاظ فرووه على خلاف ما رواه، قال في الهدى بعد أن ساق الروايات المخالفة لرواية عبد الملك: فإن كان محفوظا يعني حديث عبد الملك فيتعين أن يكون قبل الامر بالاحلال وجعله عمرة، ويكون هذا أمرا زائدا قد طرأ على الامر بالاتمام كما طرأ على التخيير بين الافراد والتمتع والقران، ويتعين هذا ولا بد وإذا كان هذا ناسخا للامر بالفسخ، والامر بالفسخ ناسخا للاذن في الافراد فهذا محال قطعا، فإنه بعد أن أمرهم بالحل لم يأمرهم بنقيضه والبقاء على الاحرام الاول وهذا باطل قطعا، فيتعين إن كان محفوظا أن يكون قبل الامر
[ 65 ]
لهم بالفسخ لا يجوز غير هذا البتة انتهى (ومن متمسكاتهم) ما في لفظ لمسلم من حديث عائشة أنها قالت: فأما من أهل بعمرة فحل، وأما من أهل بحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحل حتى كان يوم النحر وأجيب بأن هذا من حديث أبي الاسود عن عروة عنها وقد أنكره عليه الحفاظ. قال أحمد بن حنبل بعد أن ساقه: إيش في هذا الحديث من العجب؟ هذا خطأ، فقلت له: الزهري عن عروة عن عائشة بخلافه؟ قال: نعم وهشام بن عروة وقد أنكره ابن حزم، وأنكر حديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة بنحوه عند مسلم وقال: لا خفاء في نكرة حديث أبي الاسود ووهنه وبطلانه، والعجب كيف جاز على من رواه؟ قال: وأسلم الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة أن تخرج روايتهما، على أن المراد بقولها: إن الذين أهلوا بحج أو بحج وعمرة لم يحلوا أنها عنت بذلك من كان معه الهدي، لان الزهري قد خالفهما وهو أحفظ منهما، وكذلك خالفهما غيره ممن له مزيد اخصاص بعائشة، ثم إن حديثيهما موقوفان غير مسندين، لانهما إنما ذكرا عنها فعل من فعل ما ذكرت، دون أن تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم أن لا يحلوا، ولا حجة في أحد دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلو صح ما ذكراه، وقد صح أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من لا هدي معه بالفسخ فتمادى المأمورون بذلك ولم يحلوا لكانوا عصاة لله، وقد أعاذهم الله من ذلك وبرأهم منه، قال: فثبت يقينا أن حديث أبي الاسود ويحيى إنما عنى فيه من كان معه هدي، وهكذا جاءت الاحاديث الصحاح بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر من معه الهدي بأن يجمع حجا مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا. (ومن جملة) ما تمسك به المانعون من الفسخ أنه إذا اختلف الصحابة ومن بعدهم في جواز الفسخ الاحتياط يقتضي المنع منه صيانة للعبادة، وأجيب بأن الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين السنة، فإذا ثبت فالاحتياط هو اتباعها وترك ما خالفها، فإن الاحتياط نوعان احتياط للخروج من خلاف العلماء، واحتياط للخروج من خلاف السنة، ولا يخفى رجحان الثاني على الاول. قال في الهدى: وأيضا فإن الاحتياط ممتنع، فإن للناس في الفسخ ثلاثة أقوال على ثلاثة أنواع. أحدها: أنه محرم. الثاني: أنه واجب وهو قول جماعة من السلف والخلف. الثالث: أنه مستحب، فليس الاحتياط بالخروج من خلاف من حرمه أولى بالاحتياط من الخروج من خلاف من أوجبه، وإذا تعذر الاحتياط
[ 66 ]
بالخروج من الخلاف تعين الاحتياط بالخروج من خلاف السنة انتهى ومن متمسكاتهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالفسخ ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج لمخالفته الجاهلية، وأجيب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اعتمر قبل ذلك ثلاث عمر في أشهر الحج كما سلف، وبأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بين لهم جواز الاعتمار عند الميقات فقال: من شاء أن يهل بعمرة فليفعل الحديث في الصحيحين، فقد علموا جوازها بهذا القول قبل الامر بالفسخ، ولو سلم أن الامر بالفسخ لتلك العلة لكان أفضل لاجلها فيحصل المطلوب، لان ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم في المناسك لمخالفة أهل الشرك مشروع إلى يوم القيامة، ولاسيما وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: أن عمرة الفسخ للابد كما تقدم. وقد أطا ابن القيم في الهدى الكلام على الفسخ، ورجح وجوبه وبين بطلان ما احتج به المانعون منه، فمن أحب الوقوف على جميع ذيول هذه المسألة فليراجعه، وإذا كان الموقع في مثل هذا المضيق هو إفراد الحج فالحازم المتحري لدينا الواقف عند مشتبهات الشريعة ينبغي له أن يجعل حجه من الابتداء تمتعا أو قرانا، فرارا مما هو مظنة البأس إلى ما لا بأس به، فإن وقع في ذلك فالسنة أحق بالاتباع. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. [ رم 527 ] أبواب ما يتجنبه المحرم وما يباح له باب ما يجتنبه من اللباس [ رح 1872 ] عن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين رواه الجماعة. وفي رواية لاحمد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: على هذا المنبر وذكر معناه وفي رواية للدار قطني: أن رجلا نادى في المسجد: ماذا يترك المحرم من الثياب؟. قوله: ما يلبس المحرم قال لا يلبس الخ، قال النووي: قال العلماء: هذا الجواب من بديع
[ 67 ]
الكلام، لان ما لا يلبس منحصر فحصل التصريح به، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر فقال: لا يلبس كذا، أي ويلبس ما سواه. قال البيضاوي: سئل عما يلبس فأجاب بما ليس يلبس، ليدل بالالزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب لانه أخصر، وفيه إشارة إلى أن حق السؤال أن يكون عما لا يلبس، لانه الحكم العارض في الاحرام المحتاج إلى بيانه، إذ الجواز ثابت بالاصل معلوم بالاستصحاب، وكان اللائق السؤال عما لا يلبس. وقال غيره: هذا شبه الاسلوب الحكيم ويقرب منه قوله تعالى: * (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم) * (سورة البقرة، الآية: 215) الخ، فعدل عن جنس المنفق وهو المسؤول عنه إلى جنس المنفق عليه لانه الاهم. قال ابن دقيق العيد: يستفاد منه أن المعتبر في الجواب ما يحصل به المقصود كيف كان ولو بتغيير أو زيادة، ولا يشترط المطابقة انتهى. وهذا كله مبني على الرواية التي فيها السؤال عن اللبس، وأما على رواية الدار قطني المذكورة فليس من الاسلوب الحكيم، وقد رواها كذلك أبو عوانة. قال في الفتح: وهي شاذة. وأخرجه أحمد وأبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما بلفظ. أن رجلا قال: يا رسول الله ما يجتنب المحرم من الثياب؟ وأخرجه أيضا أحمد بلفظ: ما يترك وقد أجمعوا على أن هذا مختص بالرجل فلا يلحق به المرأة. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ذلك، وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسه الزعفران أو الورس، وسيأتي الكلام على ذلك. وقوله: لا يلبس بالرفع على الخبر الذي في معنى النهي، وروي بالجزم على النهي. قال عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم، وقد نبه بالقميص على كل مخيط، وبالعمائم والبرانس على غيره، وبالخفاف على كل ساتر. قوله: ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران الورس بفتح الواو وسكون الراء بعدها مهملة نبت أصفر طيب الرائحة يصبغ به. قال ابن العربي: ليس الورس من الطيب ولكنه نبه به على اجتناب الطيب وما يشبهه في ملايمة الشم، فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم وهو مجمع عليه فيما يقصد به التطيب، وظاهر قوله: مسه تحريم ما صبغ كله أو بعضه، ولكنه لا بد عند الجمهور من أن يكون للمصبوغ رائحة، فإن ذهبت جاز لبسه خلافا لمالك. قوله: إلا أن لا يجد النعلين في لفظ للبخاري زيادة حسنة بها يرتبط ذكر النعلين بما قبلهما وهي وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين
[ 68 ]
وفيه دليل على أن واجد النعلين لا يلبس الخفين المقطوعين وهو قول الجمهور. وعن بعض الشافعية جوازه، والمراد بالوجدان القدرة على التحصيل. قوله: فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، وقد تقدم الخلاف في ذلك. وظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما إذا لم يجد النعلين، وعن الحنفية تجب وتعقب بأنها لو كانت واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لانه وقت الحاجة، وتأخير البيان عنه لا يجوز. واستدل به على أن القطع شرط لجواز لبس الخفين، خلافا للمشهور عن أحمد فإنه أجاز لبسهما من غير قطع لاطلاق حديث ابن عباس الآتي، وأجاب عنه الجمهور بأن حمل المطلق على المقيد واجب وهو من القائلين به، وقد تقدم التنبيه على هذا في باب ما يصنع من أراد الاحرام، ويأتي تمام الكلام عليه في شرح حديث ابن عباس. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي وصححه. وفي رواية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى النساء في الاحرام عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب رواه أحمد وأبو داود وزاد: ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفرا أو خزا أو حليا أو سراويس أو قميصا. الزيادة التي ذكرها أبو داود أخرجها أيضا الحاكم والبيهقي. قوله: لا تنتقب المرأة نقل البيهقي عن الحاكم عن أبي علي الحافظ أن قوله: لا تنتقب من قول ابن عمر أدرج في الخبر، وقال صاحب الامام: هذا يحتاج إلى دليل، وقد حكى ابن المنذر الخلاف هل هو من قول ابن عمر أو من حديثه؟ وقد رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر موقوفا، وله طرق في البخاري موصولة ومعلقة، والانتقاب لبس غطاء للوجه فيه نقبان على العينين تنظر المرأة منهما. وقال في الفتح: النقاب الخمار الذي يشد على الانف أو تحت المحاجر. قوله: ولا تلبس القفازين بضم القاف وتشديد الفاء وبعد الالف زاي ما تلبس المرأة في يديها فيغطي أصابعها وكفها عند معاناة الشئ كغزل ونحوه، وهو لليد كالخف للرجل. قوله: وما مس الورس الخ تقدم الكلام عليه في شرح الحديث الذي قبله. قوله: ولتلبس بعد ذلك ما أحبت الخ، ظاهره جواز لبس ما عدا ما اشتمل عليه الحديث من غير فرق بين المخيط وغيره،
[ 69 ]
والمصبوغ وغيره، وقد خالف مالك في المعصفر فقال بكراهته، ومنع منه أبو حنيفة ومحمد وشبهاه بالمورس والمزعفر والحديث يرد ذلك واختلف العلماء أيضا في لبس النقاب، فمنعه الجمهور وأجازته الحنفية، وهو رواية عند الشافعية والمالكية، وهو مردود بنص الحديث. قال في الفتح: ولم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفيها بما سوى النقاب والقفازين. قوله: أو حليا بفتح الحاء وإسكان اللام وبضم الحاء مع كسر اللام وتشديد الياء لغتان قرئ بهما في السبع، وهو ما تتحلى به المرأة من جلجل وسوار وتتزين به من ذهب أو فضة أو غير ذلك. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل رواه أحمد ومسلم. وعن ابن عباس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب بعرفات: من لم يجد إزارا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين متفق عليه. وفي رواية عن عمر وبن دينار: أن أبا الشعثاء أخبره عن ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب يقول: من لم يجد إزارا ووجد سراويل فليلبسها، ومن لم يجد نعلين ووجد خفين فليلبسهما، قلت: ولم يقل ليقطعهما؟ قال: لا رواه أحمد، وهذا بظاهره ناسخ لحديث ابن عمر بقطع الخفين لانه قال بعرفات في وقت الحاجة، وحديث ابن عمر كان بالمدينة كما سبق في رواية أحمد والدارقطني. قوله: فليلبس خفين تمسك بهذا الاطلاق أحمد، فأجاز للمحرم لبس الخف والسراويل للذي لا يجد النعلين. الازار على حالهما، واشترط الجمهور قطع الخف وفتق السراويل، ويلزمه الفدية عندهم إذا لبس شيئا منهما على حاله لقوله في حديث ابن عمر المتقدم: فليقطعهما فيحمل المطلق على المقيد ويلحق بالنظير. قال ابن قدامة: الاولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف. قال في الفتح: والاصح عند الشافعية والاكثر جواز لبس السراويل بغير فتق كقول أحمد، واشترط الفتق محمد بن الحسن وإمام الحرمين وطائفة. وعن أبي حنيفة منع السراويل للمحرم مطلقا ومثله عن مالك (والحديثان) المذكوران في الباب يردان عليهما، ومن أجاز لبس السراويل على حاله قيده بأن لا يكون على حاله لو فتقه لكان إزارا، لانه في تلك الحال يكون واجدا للازار كما قال الحافظ وقد أجاب الحنابلة على الحديث
[ 70 ]
الذي احتج به الجمهور على وجوب القطع بأجوبة: منها دعوى النسخ كما ذكر المصنف، لان حديث ابن عمر كان بالمدينة قبل الاحرام، وحديث ابن عباس كان بعرفات، كما حكى ذلك الدار قطني عن أبي بكر النيسابوري. وأجاب الشافعي في الام عن هذا فقال: كلاهما صادق حافظ، وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس لاحتمال أن تكون عزبت عنه أو شك فيها أو قالها، فلم ينقلها عنه بعض رواته انتهى. وسلك بعضهم طريقة الترجيح بين الحديثين، قال ابن الجوزي: حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لم يختلف في رفعه، ورد بأنه لم يختلف على ابن عمر في رفع الامر بالقطع إلا في رواية شاذة، وعورض بأنه اختلف في حديث ابن عباس، فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا. قال الحافظ: ولا يرتاب أحد من المحدثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس، لان حديث ابن عمر جاء بإسناد وصف بكونه أصح الاسانيد، واتفق عليه ابن عمر غير واحد من الحفاظ منهم نافع وسالم، بخلاف حديث ابن عباس فلم يأت مرفوعا لا من رواية جابر بن زيد عنه حتى قال الاصيلي: إنه شيخ مصري لا يعرف كذا قال، وهو شيخ معروف موصوف بالفقه عند الائمة. واستدل بعضهم بقياس الخف على السراويل في ترك القطع، ورد بأنه مصادم للنص فهو فاسد الاعتبار واحتج بعضهم بقول عطاء: إن القطع فساد والله لا يحب الفساد، ورد بأن الفساد إنما يكون فيما نهى عنه الشارع لا فيما أذن فيه بل أوجبه. وقال ابن الجوزي: يحمل الامر بالقطع على الاباحة لا على الاشتراط عملا بالحديثين ولا يخفى أنه متكلف، والحق أنه لا تعارض بين مطلق ومقيد، لامكان الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد، والجمع ما أمكن هو الواجب فلا يصار إلى الترجيح، ولو جاز المصير إلى الترجيح لامكن ترجيح المطلق بأنه ثابت من حديث ابن عباس وجابر كما في الباب، ورواية اثنين أرجح من رواية واحد. وعن عائشة قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وعن سالم: أن عبد الله يعني ابن عمر كان يقطع الخفين للمرأة المحرمة، ثم حدثته حديث صفية بنت أبي عبيد
[ 71 ]
أن عائشة حدثتها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد رخص للنساء في الخفين فترك ذلك رواه أبو داود. الحديث الاول أخرجه ابن خزيمة وقال في القلب من يزيد بن أبي زياد، ولكن ورد من وجه آخر، ثم أخرج من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر وهي جدتها نحوه وصححه الحاكم. قال المنذري: قد اختار جماعة العمل بظاهر هذا الحديث. وذكر الخطابي أن الشافعي علق القول فيه يعني على صحته، ويزيد بن أبي زياد المذكور قد أخرج له مسلم في الخلاصة عن الذهبي أنه صدوق، وقد أعل الحديث أيضا بأنه من رواية مجاهد عن عائشة وقد ذكر يحيى بن سعيد القطان وابن معين أنه لم يسمع منها. وقال أبو حاتم الرازي: مجاهد عن عائشة مرسل. وقد احتج البخاري ومسلم في صحيحيهما بأحاديث من رواية مجاهد عن عائشة. والحديث الثاني في إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال مشهور قد قدمنا ذكره في أول هذا الشرح ولكنه لم يعنعن. قوله: فإذا حاذوا بنا في نسخ المصنف هكذا: فإذا حاذوا بنا. ولفظ أبي داود: فإذا جازوا بنا بالزاي مكان الذال وفي التلخيص وغيره: فإذا حاذونا. قوله: جلبابها أي ملحفتها. قوله: من رأسها تمسك به أحمد فقال: إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق رأسها (واستدل) بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها، لان المرأة تحتاج إلى ستر وجهها، فلم يحرم عليها ستره مطلقا كالعورة، لكن إذا سدلت يكون الثوب متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة، هكذا قال أصحاب الشافعي وغيرهم. وظاهر الحديث خلافه، لان الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان التجافي شرطا لبينه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: كان يقطع الخفين للمرأة لعموم حديث ابن عمر المتقدم، فإن ظاهره شمول الرجل والمرأة لولا هذا الحديث والاجماع المتقدم. قوله: فترك ذلك يعني رجع عن فتواه، وفيه دليل على أنه يجوز للمرأة أن تلبس الخفين بغير قطع. [ رم 528 ]
[ 72 ]
باب ما يصنع من أحرم في قميص عن يعلى بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءه رجل متضمخ بطيب فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه ساعة فجاءه الوحي ثم سري عنه فقال: أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟ فالتمس الرجل فجئ به فقال: أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في العمرة كل ما تصنع في حجك متفق عليه. وفي رواية لهم: وهو متضمخ بالخلوق وفي رواية لابي داود: فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اخلع جبتك فخلعها من رأسه. قوله: جاءه رجل ذكر ابن فتحون عن تفسير الطرطوشي أن اسمه عطاء بن منية فيكون أخا يعلى بن منية لانه يقال له يعلى بن منية بضم الميم وسكون النون وفتح التحتية وهي أمه وقيل جدته. وقال ابن الملقن: يجوز أن يكون هذا الرجل عمرو بن سواد، وذكر الطحاوي أن الرجل هو يعلى بن أمية الراوي. قوله: ثم سري عنه بضم المهملة وتشديد الراء المكسورة أي كشف عنه. قوله: الذي بك هو أعم من أن بثوبه أو ببدنه، ولكن ظاهر قوله: وأما الجبة الخ أنه أراد الطيب الكائن في البدن. قوله: ثم اصنع في العمرة كل ما تصنع في حجك فيه دليل على أنهم كانوا يعرفون أعمال الحج. قال ابن العربي: كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب ويجتنبون الطيب في الاحرام إذا حجوا، وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة، فأخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن مجراهما واحد. وقال ابن المنير: قوله واصنع معناه اترك، لان المراد بيان ما يجتنبه المحرم، فيؤخذ منه فائدة حسنة وهي أن الترك فعل، وأما قول ابن بطال: أراد الادعية وغيرها مما يشترك فيه الحج والعمرة ففيه نظر، لان التروك مشتركة بخلاف الاعمال، فإن في الحج أشياء زائدة على العمرة كالوقوف وما بعده. قال النووي كما قال ابن بطال وزاد: ويستثنى من الاعمال ما يختص به الحج. وقال الباجي: المأمور به غير نزع الثوب وغسل الخلوق لانه صرح له بهما فلم يبق إلا الفدية كذا قال. ولا وجه لهذا الحصر لانه قد ثبت عند مسلم والنسائي في هذا
[ 73 ]
الحديث بلفظ: ما كنت صانعا في حجك؟ فقا: أنزع عني هذه الثياب وأغسل عني هذا الخلوق، فقال: ما كنت صانعا في حجكفاصنعه في عمرتك. قال الاسماعيلي: ليس في حديث الباب أن الخلوق كان على الثوب وإنما فيه أن الرجل كان متضمخا. وقوله: اغسل الطيب الذي بك يوضح أن الطيب لم يكن على ثوبه وإنما كان على بدنه، ولو كان على الجبة لكان في نزعها كفاية من جهة الاحرام (واستدل) بحديث الباب على منع استدامة الطيب بعد الاحرام، للامر بغسل أثره من الثوب والبدن وهو قول مالك ومحمد بن الحسن، وأجاب الجمهور عنه بأن قصة يعلى كانت بالجعرانة وهي في سنة ثمان بلا خلاف، وقد ثبت عن عائشة أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدها عند إحرامهما، وكان ذلك في حجة الوداع وهي سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالامر الآخر فالآخر، وبأن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخلوق لا مطلق الطيب، فلعل علة الامر فيه ما خالطه من الزعفران، وقد ثبت النهي عن تزعفر الرجل مطلقا محرما وغير محرم. وقد أجاب المصنف بهذا كما سيأتي وقد تقدم الكلام على ما يجوز من الطيب للمحرم وما لا يجوز في باب ما يصنع من أراد الاحرام (وقد استدل) بهذا الحديث على أن المحرم ينزع ما عليه من المخيط من قميص أو غيره، ولا يلزمه عند الجمهور تمزيقه ولا شقه. وقال النخعي والشعبي: لا ينزعه من قبل رأسه لئلا يصير مغطيا لرأسه أخرجه ابن أبي شيبة عنهما وعن علي نحوه، وكذا عن الحسن وأبي قلابة. ورواية أبي داود المذكورة في الباب ترد عليهم (واستدل) بالحديث أيضا على أن من أصاب طيبا في إحرامه ناسيا أو جاهلا ثم علم فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه، ولهذا قال المصنف رحمه الله تعالى: وظاهره أن اللبس جهلا لا يوجب الفدية، وقد احتج من منع من استدامة الطيب، وإنما وجهه أنه أمره بغسله لكراهة التزعفر للرجل لا لكونه محرما متطيبا انتهى. وقال مالك إن طال ذلك عليه لزمه دم، وعن أبي حنيفة وأحمد في رواية يجب مطلقا. [ رم 529 ]
[ 74 ]
باب تظلل المحرم من الحر أو غيره والنهي عن تغطية الرأس عن أم الحصين قالت: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع، فرايت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة وفي رواية: حججنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم يظله من الشمس رواهما أحمد ومسلم. وعن ابن عباس: أن رجلا أو قصته راحلته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. قوله: يستره من الحر وكذا قوله: يظله من الشمس فيه جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب وغيره من محمل وغيره، وإلى ذلك ذهب الجمهور وقال مالك وأحمد: لا يجوز. (والحديث) يرد عليهما وأجاب عنه بعض أصحاب مالك بأن هذا المقدار لا يكاد يدوم، فهو كما أجاز مالك للمحرم أن يستظل بيده، فإن فعل لزمته الفدية عند مالك وأحمد، وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز. وقد احتج لمالك وأحمد على منع التظلل بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر: أنه أبصر رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال: أضح لمن أحرمت له وبما أخرجه البيهقي أيضا بإسناد ضعيف عن جابر مرفوعا ما من محرم يضحى للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه. قوله أضح بالضاد المعجمة وكذا يضحى والمراد أبرز للضحى، قال الله تعالى: * (وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحي) * (سورة طه، الآية: 119) ويجاب بأن قول ابن عمر لا حجة فيه، وبأن حديث جابر مع كونه ضعيفا لا يدل على المطلوب وهو المنع من التظلل ووجوب الكشف، لان غاية ما فيه أنه أفضل، على أنه يبعد منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل المفضول ويدع الافضل في مقام التبليغ. قوله: اغسلوه بماء
[ 75 ]
وسدر قد تقدم الكلام على هذا في كتاب الجنائز، وساقه المصنف ههنا للاستدلال به على أنه لا يجوز للمحرم تغطية رأسه ووجهه لان التعليل بقوله: فإنه يبعث ملبيا يدل على أن العلة الاحرام. قال النووي: أما تخمير الرأس في حق المحرم الحي فمجمع على تحريمه. وأما وجهه فقال مالك وأبو حنيفة: هو كرأسه. وقال الشافعي والجمهور: لا إحرام في وجهه وله تغطيته، وإنما يجب كشف الوجه في حق المرأة، والحديث حجة عليهم، وهكذا الكلام في المحرم الميت لا يجوز تغطية رأسه عند الشافعي وأحمد وإسحاق وموافقيهم، وكذلك لا يجوز أن يلبس المخيط لظاهر قوله: فإنه يبعث ملبيا وخالف في ذلك مالك والاوزاعي وأبو حنيفة فقالوا: يجوز تغطية رأسه وإلباسه المخيط، والحديث يرد عليهم. وأما تغطية وجه من مات محرما فيجوز عند من قال بتحريم تغطية رأسه، وتأولوا هذا الحديث، على أن النهي عن تغطية وجهه ليس لكونه وجها إنما ذلك صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه، وهذا تأويل لا يلجئ إليه ملجئ، والكلام على بقية أطراف الحديث قد تقدم في الجنائز. [ رم 530 ] باب المحرم يتقلد بالسيف للحاجة عن البراء قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم لا يدخل مكة سلاحا إلا في القراب. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج معتمرا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا ولا يقيم إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثة أيام أمروه أن يخرج فخرج رواهما أحمد والبخاري، وهو دليل على أن لله محصر نحر هديه حيث أحصر. قوله: إلا في القراب بكسر القاف هو وعاء يجعل فيه راكب البعير سيفه مغمدا، ويطرح فيه الراكب سوطه وأداته ويعلقه في الرحل، وإنما وقعت المقاضاة بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم على أن يكون سلاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه في القرابات لوجهين ذكرهما أهل العلم. الاول: أن لا يظهر منه حال دخوله
[ 76 ]
دخول المغالبين القاهرين لهم. والثاني: أنها إذا عرضت فتنة أو غيرها يكون في الاستعداد للقتال بالسلاح صعوبة، قاله أبو إسحاق السبيعي (وفي الحديثين) دليل على جواز حمل السلاح بمكة للعذر والضرورة، لكن بشرط أن يكون في القراب كما فعله صلى الله عليه وآله وسلم، فيخصص بهذين الحديثين عموم حديث جابر عند مسلم، قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل لاحدكم أن يحمل بمكة السلاح فيكون هذا النهي فيما عدا من حمله للحاجة والضرورة، وإلى هذا ذهب الجماهير من أهل العلم على حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة، فإن كانت حاجة جاز، قال: وهذا مذهب الشافعي ومالك وعطاء، قال: وكرهه الحسن البصري تمسكا بهذا الحديث يعني حديث النهي، قال: وشذ عكرمة فقال: إذا احتاج إليه حمله وعليه الفدية، ولعله أراد إذا كان محرما ولبس المغفر أو الدرع ونحوهما فلا يكون مخالفا للجماعة انتهى. والحق ما ذهب إليه الجمهور لان فيه الجمع بين الاحاديث، وهكذا يخصص بحديثي الباب عموم قول ابن عمر المتقدم في كتاب العيد: وأدخلت السلاح الحرم، فيكون مراده لم يكن السلاح يدخل الحرم لغير حاجة إلا للحاجة، فإنه قد دخل صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة كما في دخوله يوم الفتح هو وأصحابه، ودخوله صلى الله عليه وآله وسلم للعمرة كما في حديثي الباب اللذين أحدهما من رواية ابن عمر. [ رم 531 ] باب منع المحرم من ابتداء الطيب دون استدامته في حديث ابن عمر: ولا ثوب مسه ورس ولا زعفران وقال في المحر الذي مات: لا تحنطوه. وعن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أيام وهو محرم متفق عليه. ولمسلم والنسائي وأبي داود: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو محرم. وعن عائشة قالت: كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الاحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا ينهانا رواه أبو داود. وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ادهن بزيت غير مقتت
[ 77 ]
وهو محرم رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلامن حديث فرقد السبخي عن سعيد بن جبير، وقد تكلم يحيى بن سعيد في فرقد وقد روى عنه الناس. حديث ابن عمر تقدم في باب ما يجتنبه المحرم من اللباس. وقوله: لا تحنطوه تقدم في باب تطييب بدن الميت من كتاب الجنائز. وحديث عائشة الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري وإسناده رواته ثقات إلا الحسين بن الجنيد شيخ أبي داود، وقد قال النسائي: لا بأس به. وقال ابن حبان في الثقات: مستقيم الامر فيما يروي. وحديث ابن عمر في إسناده المقال الذي أشار إليه الترمذي ومن عدا فرقدا فيهم ثقات. قوله: كأني أنظر إلى وبيص الطيب قد تقدم الكلام على هذا تفسيرا وحكما في باب ما يصنع من أراد الاحرام، وجزمنا هنالك بأن الحق أنه يحرم على المحرم ابتداء الطيب لا استمراره. قوله: فنضمد بفتح الضاد المعجمة وتشديد الميم المكسورة أي نلطخ. قوله: بالسك بضم السين المهملة وتشديد الكاف وهو نوع من الطيب معروف. قوله: فإذا عرقت بكسر الراء. قوله: ولا ينهانا سكوته صلى الله عليه وآله وسلم يدل على الجواز لانه لا يسكت على باطل. قوله: غير مقتت قال في القاموس: زيت مقتت طبخ فيه الرياحين أو خلط بأدهان طيبة، وفيه دليل على جواز الادهان بالزيت الذي لم يخلط بشئ من الطيب. وقد قال ابن المنذر: أنه أجمع العلماء على أنه يجوز للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن والشيرج، وأن يستعمل ذلك في جميع بدنه سوى رأسه ولحيته، قال: وأجمعوا على أن الطيب لا يجوز استعماله في بدنه، وفرقوا بين الطيب والزيت في هذا، وقد تقدم مثل هذا النقل عن ابن المنذر، والكلام على هذا الباب قد مر فلا نعيده. [ رم 532 ] باب النهي عن أخذ الشعر إلا لعذر وبيان فديته عن كعب بن عجرة قال: كان بي أذى من رأسي فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ منك ما أرى أتجد شاة؟ قلت: لا، فنزلت الآية * (ففدية من صيام أو صدقة أو
[ 78 ]
نسك) * (سورة البقرة، الآية: 196) قال: هو صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين نصف صاع نصف صاع طعاما لكل مسكين متفق عليه. وفي رواية: أتى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زمن الحديبية فقال: كأن هوام رأسك تؤذيك؟ فقلت: أجل، قال: فاحلقه واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين رواه أحمد ومسلم وأبو داود. ولابي داود في رواية: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فرقا من زبيب أو أنسك شاة، فحلقت رأسي ثم نسكت. قوله: ما كنت أرى أن الجهد بضم الهمزة أي أظن، والجهد بالفتح المشقة، قال النووي: والضم لغة في المشقة أيضا، وكذا حكاه القاضي عياض عن ابن دريد، وقال صاحب المغني: بالضم الطاقة، وبالفتح الكلفة فيتعين الفتح هنا. قوله: قد بلغ منك ما أرى بفتح الهمزة من الرؤية. قوله: نصف صاع في رواية عن شعبة: نصف صاع طعام، وفي أخرى عن أبي ليلى: نصف صاع من زبيب. وفي رواية أيضا عن شعبة: نصف صاع حنطة. قال ابن حزم: لا بد من ترجيح إحدى هذه الروايات، لانها قصة واحدة في مقام واحد في حق رجل واحد. قال في الفتح: المحفوظ عن شعبة أنه قال في الحديث: نصف صاع من طعام، والاختلاف عليه في كونه تمرا أو حنطة لعله من تصرف الرواة، وأما الزبيب فلم أره إلا في رواية الحكم. وقد أخرجه أبو داود وفي إسنادها محمد بن إسحاق، وهو حجة في المغازي لا في الاحكام إذا خالف، والمحفوظ رواية التمر، وقد وقع الجزم بما عند مسلم وغيره من طريق أبي قلابة كما وقع في الباب حيث قال: أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين، ولم يختلف على أبي قلابة، وكذا أخرجه الطبراني من طريق الشعبي عن كعب، وأحمد من طريق سليمان بن قرم عن ابن الاصبهاني، ومن طريق شعبة وداود عن الشعبي عن كعب، وكذا في حديث عبد الله بن عمر وعند الطبراني، وعرف بذلك قوة قول من قال: لا فرق في ذلك بين التمر والحنطة، وأن الواجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع. قوله: هوام رأسك الهوام بتشديد الميم جمع هامة وهي ما يدب من الاحناش والمراد بها ما يلازم جسد الانسان غالبا إذا طال عهده بالتنظيف، وقد وقع في كثير من الروايات أنها القمل. قوله: فرقا الفرق ثلاثة آصع كما وقع عند الطبراني من طريق يحيى بن آدم عن
[ 79 ]
ابن عيينة فقال فيه: قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع، وفيه إشعار بأن تفسير الفرق مدرج، لكنه مقتضى الروايات الاخر كما في رواية سليمان بن قرم عن ابن الاصبهاني عند أحمد بلفظ: لكل مسكين نصف صاع وفي رواية يحيى بن جعد عند أحمد أيضا: أو أطعم ستة مساكين مدين. قوله: أو أنسك شاة لا خلاف بين العلماء أن النسك المذكور في الآية هو شاة، لكنه يعكر عليه ما أخرجه أبو داود عن كعب: أنه أصابه أذى فحلق رأسه فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهدي بقرة وفي رواية للطبراني: فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يفتدي فافتدى ببقرة وكذا لعبد بن حميد وسعيد بن منصور. قال الحافظ: وقد عارض هذه الروايات ما هو أصح منها من أن الذي أمر به كعب وفعله في النسك إنما هو شاة وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن أبي هريرة: أن كعبا ذبح شاة لاذى كان أصابه وهذا أصوب من الذي قبله. واعتمد ابن بطال على رواية نافع عن سليمان بن يسار قال: أخذ كعب بأرفع الكفارات ولم يخالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أمر به من ذبح الشاة بل وافق وزاد: وتعقبه الحافظ بأن الحديث الدال على الزيادة لم يثبت. [ رم 533 ] باب ما جاء في الحجامة وغسل الرأس للمحرم عن عبد الله بن بحينة قال: احتجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو محرم بلحي جمل من طريق مكة فوسط رأسه متفق عليه. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم متفق عليه. وللبخاري: احتجم في رأسه وهو محرم من وجع كان به بماء يقال له لحي الجمل. وعن عبد الله بن حنين أن ابن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالابواء، فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، قال: فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الانصاري فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب، فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك ابن عباس يسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغتسل وهو محرم؟ قال: فوضع أبو أيوب يده
[ 80 ]
على الثوب فطأطأه حتى بدا إلي رأسه، ثم قال لانسان يصب عليه الماء: أصبب، فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر فقال: هكذا رأيته صلى الله عليه وآله وسلم يفعل رواه الجماعة إلا الترمذي. قوله: وهو محرم زاد في رواية للبخاري بعد قوله محرم لفظ صائم. قوله: بلحي جمل بفتح اللام وحكي كسرها وسكون المهملة وفتح الجيم والميم موضع بطريق مكة، كما وقع مبينا في الرواية الثانية، وذكر البكري في معجمه أنه الموضع الذي يقال له بئر جمل. وقال غيره: هو عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا، ووهم من ظن المراد به لحى الجمل الحيوان المعروف وأنه كان آلة الحجم، وجزم الحازمي وغيره بأن ذلك كان في حجة الوداع. قوله: في وسط بفتح المهملة أي متوسطة وهو ما فوق اليافوخ فيما بين أعلى القرنين، قال الليث: كانت هذه الحجامة في فاس الرأس. قال النووي: إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام، وإن لم تتضمنه جازت عند الجمهور، وكرهها مالك. وعن الحسن فيها الفدية وإن لم يقطع شعرا، فإن كان لضرورة جاز قطع الشعر وتجب الفدية، وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس. وقال الداودي: إذا أمكن مسك المحاجم بغير حلق لم يجز الحلق، واستدل بهذا الحديث على جواز الفصد، وربط الجرح والدمل، وقطع العرق، وقلع الضرس، وغير ذلك من وجوه التداوي، إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهى المحرم عنه من تناول الطيب وقطع الشعر ولا فدية عليه في شئ من ذلك. قوله: بالابواء أي وهما نازلان بها. وفي رواية: بالعرج بفتح أوله وإسكان ثانيه قرية جامعة قريبة من الابواء. قوله: بين القرنين أي قرني البئر. قوله: أرسلني إليك ابن عباس الخ، قال ابن عبد البر: الظاهر أن ابن عباس كان عنده في ذلك نص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذه عن أبي أيوب أو عن غيره، ولهذا قال عبد الله بن حنين لابي أيوب: يسألك كيف كان يغسل رأسه ولم يقل: هل كان يغسل رأسه أو لا؟ على حسب ما وقع فيه اختلاف المسور وابن عباس. قوله: فطأطأه أأزاله عن رأسه. وفي رواية للبخاري: جمع ثيابه إلى صدره حتى نظرت إليه. قوله: لانسان قال الحافظ: لم أقف على اسمه. قوله: فقال هكذا رأيته صلى الله عليه وآله وسلم يفعل زاد في رواية للبخاري: فرجعت إليهما فأخبرتهما، فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدا أي
[ 81 ]
لا أجادلك (والحديث) يدل على جواز الاغتسال للمحرم وتغطية الرأس باليد حاله. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة، واختلفوا فيما عدا ذلك وروى مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من الاحتلام وروي عن مالك أنه كره للمحرم أن يغطي رأسه في الماء. وللحديث فوائد ليس هذا موضوع ذكرها. [ رم 534 ] باب ما جاء في نكاح المحرم وحكم وطئه عن عثمان بن عفان: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب رواه الجماعة إلا البخاري وليس للترمذي فيه: ولا يخطب. وعن ابن عمر: أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل وهو خارج من مكة فأراد أن يعتمر أو يحج فقال: لا تتزوجها وأنت محرم نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه رواه أحمد. وعن أبي غطفان عن أبيه عن عمر: أنه فرق بينهما يعني رجلا تزوج وهو محرم رواه مالك في الموطأ والدارقطني. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة وهو محرم رواه الجماعة. وللبخاري: تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف. وعن يزيد بن الاصم عن ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوجها حلالا وبنى بها حلالا وماتت بسرف فدفناها في الظلة التي بنى بها فيها رواه أحمد والترمذي ورواه مسلم وابن ماجه. ولفظهما: تزوجها وهو حلال قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس وأبو داود ولفظه قالت: تزوجني ونحن حلالان بسرف. وعن أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة حلا وبنى بها حلالا وكنت الرسول بينهما رواه أحمد والترمذي، ورواية صاحب القصة والسفير فيها أولى لانه أخبر وأعرف بها. وروى أبو داود أن سعيد بن المسيب قال: وهم ابن عباس في قوله: تزوج ميمونة وهو محرم. حديث ابن عمر في إسناده أيوب بن عتبة وهو ضعيف وقد وثق، وحديث أبي رافع قال الترمذي: حديث حسن ولا نعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر
[ 82 ]
الوراق عن ربيعة، قال: وروى مالك بن أنس عن ربيعة عن سليمان بن يسار: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة وهو حلال رواه مالك مرسلا. وقول سعيد بن المسيب أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري وفي إسناده رجل مجهول. قوله: لا ينكح المحرم ولا ينكح الاول بفتح الياء وكسر الكاف أي لا يتزوج لنفسه، والثاني بضم الياء وكسر الكاف أي لا يزوج امرأة بولاية ولا وكالة في مدة الاحرام. قال العسكري: ومن فتح الكاف من الثاني فقد صحف. قوله: ولا يخطب أي لا يخطب المرأة وهو طلب زواجها. وقيل: لا يكون خطيبا في النكاح بين يدي العقد، والظاهر الاول. قوله: تزوج ميمونة وهو محرم أجيب عن هذا بأنه مخالف لرواية أكثر الصحابة، ولم يروه كذلك إلا ابن عباس كما قال عياض، ولكنه متعقب بأنه قد صح من رواية عائشة وأبي هريرة نحوه كما صرح بذلك في الفتح، وأجيب ثانيا بأنه تزوجها في أرض الحرم وهو حلال، فأطلق ابن عباس على من في الحرم أنه محرم وهو بعيد، وأجيب ثالثا بالمعارضة برواية ميمونة نفسها وهي صاحبة القصة، وكذلك برواية أبي رافع وهو السفير، وهما أخبر بذلك كما قال المصنف وغيره، ولكنه يعارض هذا المرجح أن ابن عباس روايته مثبتة وهي أولى من النافية، ويجاب بأن رواية ميمونة وأبي رافع أيضا مثبتة لوقوع عقد النكاح والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حلال، وأجيب رابعا بأن غاية حديث ابن عباس أنه حكاية فعل، وهي لا تعارض صريح القول أعني النهي عن أن ينكح المحرم أو ينكح، ولكن هذا إنما يصار إليه عند تعذر الجمع، وهو ممكن ههنا على فرض أن رواية ابن عباس أرجح من رواية غيره، وذلك بأن يجعل فعله صلى الله عليه وآله وسلم مخصصا له من عموم ذلك القول، كما تقرر في الاصول إذا فرض تأخر الفعل عن القول، فإن فرض تقدمه ففيه الخلاف المشهور في الاصول في جواز تخصيص العام المتأخر بالخاص المتقدم كما هو المذهب الحق، أو جعل العام المتأخر ناسخا كما ذهب إليه البعض. إذا تقرر هذا فالحق أنه يحرم أن يتزوج المحرم أو يزوج غيره كما ذهب إليه الجمهور وقال عطاء وعكرمة وأهل الكوفة: يجوز للمحرم أن يتزوج، كما يجوز له أن يشتري الجارية للوطئ، وتعقب بأنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار. وظاهر النهي عدم الفرق بين من يزوج غيره بالولاية الخاصة أو العامة كالسلطان والقاضي. وقال بعض الشافعية والامام يحيى: إنه يجوزأن يزوج المحرم بالولاية العامة، وهو تخصيص لعموم النص بلا
[ 83 ]
مخصص. قوله: بسرف بفتح المهملة وكسر الراء موضع معروف. قوله: في الظلة بضم الظاء وتشديد اللام كل ما أظل من الشمس. قوله: التي بنى فيها أي التي زفت إليه فيها. قوله: وهم ابن عباس هذا هو أحد الاجوبة التي أجاب بها الجمهور عن حديث ابن عباس. وعن عمر وعلي وأبي هريرة أنهم سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج فقالوا: ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج قابل والهدي، قال علي: فإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما. وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض فأمره أن ينحر بدنة والجميع لمالك في الموطأ. أثر عمر وعلي وأبي هريرة هو في الموطأ كما قال المصنف، ولكنه ذكره بلاغا عنهم، وأسنده البيهقي من حديث عطاء عن عمر وفيه إرسال، ورواه سعيد بن منصور عن مجاهد عن عمر وهو منقطع. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا عنه وعن علي وهو منقطع أيضا بيد الحكم وبينه. وأثر ابن عباس رواه البيهقي من طريق أبي بشر عن رجل من بني عبد الدار عنه، وفيه أن أبا بشر قال: لقيت سعيد بن جبير فذكرت ذلك له فقال: هكذا كان ابن عباس يقول (وفي الباب) عن ابن عمر عند أحمد أنه سئل عن رجل وامرأة حاجين وقع عليها قبل الافاضة فقال: ليحجا قابلا. وعن ابن عمرو بن العاص عند الدارقطني والحاكم والبيهقي نحو قول ابن عمر، وقد روي نحو پ هذه الآثار مرفوعا عند أبي داود في المراسيل من طريق يزيد بن نعيم أن رجلا من جذام جامع امرأته وهما محرمان، فسألا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أقضيا نسكا واهديا هديا قال الحافظ: رجاله ثقات مع إرساله. ورواه ابن وهب في موطئه من طريق سعيد بن المسيب مرسلا. وأثر على المذكور في الباب في التفرق، أخرج نحوه البيهقي عن ابن عباس موقوفا وروى ابن وهب في موطئه عن سعيد بن المسيب مرفوعا مرسلا نحوه وفيه ابن لهيعة، وهو عند أبي داود في المراسيل بسند معضل. قوله: حتى يقضيا حجهما استدل به من قال إنه يجب المضي في فاسد الحج وهم الاكثر، وقال داود: لا يجب كالصلاة. قوله: ثم عليهما حج قابل استدل به من قال: إنه يجب قضاء الحج الذي فسدوهم الجمهور. قوله: والهدي تمسك به من قال:
[ 84 ]
إن كفارة الوطئ شاة لانها أقل ما يصدق عليه الهدي، وهو مروي عن أبي حنيفة والناصر، ويدل على ما قالاه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: واهديا هديا كما في مرسل أبي داود المذكور. وذهب الجمهور إلى أنها تجب بدنة على الزوج وبدنة على الزوجة، وتجب بدنة الزوجة على الزوج إذا كانت مكرهة لا مطاوعة. وقال أبو حنيفة ومحمد: على الزوج مطلقا. وقال الشافعي في أحد قوليه عليهما هدي واحد لظاهر الحبر والاثر. وقال الامام يحيى: بدنة المرأة عليها إذ لم يفصل الدليل. قوله: تفرقا حتى يقضيا حجهما. فيه دليل على مشروعية التفرق، وقد حكي ذلك في البحر عن علي وابن عباس وعثمان والعترة وأكثر الفقهاء، واختلفوا هل واجب أم لا؟ فذهب أكثر العترة وعطاء ومالك والشافعي في أحد قوليه إلى الوجوب. وذهب الامام يحيى والشافعي في أحد قوليه إلى الندب. وقال أبو حنيفة: لا يجب ولا يندب (واعلم) أنه ليس في الباب من المرفوع ما تقوم به الحجة والموقوف ليس بحجة، فمن لم يقبل المرسل ولا رأى حجية أقوال الصحابة فهو في سعة عن التزام هذه الاحكام، وله في ذلك سلف صالح كداود الظاهري. [ رم 535 ] باب تحريم قتل الصيد وضمانه بنظيره قال الله تعالى: * (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) * (سورة المائدة، الآية: 95) الآية. وعن جابر قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشا وجعله من الصيد رواه أبو داود وابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا بقية أهل السنن وابن حبان وأحمد والحاكم في المستدرك، قال الترمذي: سألت عنه البخاري فصححه، وكذا صححه عبد الحق، وقد أعل بالوقف، وقال البيهقي: هو حديث جيد تقوم به الحجة، ورواه عن جابر عن عمر وقال: لا أراه إلا رفعه ورواه الشافعي موقوفا وصحح وقفه من هذا الوجه الدارقطني، ورواه من وجه آخر هو والحاكم مرفوعا (وفي الباب) عن ابن عباس عند الدار قطني والبيهقي، قال البيهقي: روي موقوفا عن ابن عباس، والآية الكريمة أصل أصيل في وجوب الجزاء على من قتل صيدا وهو محرم، ويكون الجزاء مماثلا للمقتول، ويرجع فذلك إلى حكم عدلين كما
[ 85 ]
ذهب إليه مالك وهو ظاهر الآية، وقيل: إنه لا يرجع إلى حكم العدلين إلا فيما لا مثل له، وأما فيما له مثل فيرجع فيه إلى ما حكم بالسلف، وإلا يحكم فيه السلف رجع إلى ما حكم به عدلان، واختلفوا في أي شئ تعتبر المماثلة فقيل في الشكل أو الفعل، وقيل في القيمة والحديث يدل على أن الضبع صيد وأن فيه كبشا. وعن محمد بن سيرين: أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبيا ونحن محرما فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل بجنبه: تعال حتى نحكم أنا وأنت، قال: فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا فحكم معه، فسمع عمر قول الرجل فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ فقال: لا، فقال: هل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا، فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لاوجعتك ضربا ثم قال: إن الله عزوجل يقول في كتابه * (يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) * (سورة المائدة، الآية: 95) وهذا عبد الرحمن بن عوف رواه مالك في الموطأ. وعن جابر: أن عمر قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الارنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة رواه مالك في الموطأ. وعن الاجلح بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: في الضبع إذا أصابه المحرم كبش، وفي الظبي شاة، وفي الارنب عناق، وفي اليربوع جفرة، قال: والجفرة التي قد ارتعت رواه الدارقطني، قال ابن معين: الاجلح ثقة، وقال ابن عدي: صدوق، وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه. الاثر الاول رواه مالك في الموطأ عن عبد الملك بن قريب عن محمد بن سيرين، و عبد الملك بن قريب هو الاصمعي وهو ثقة. والاثر الثاني لم يذكر مالك في الموطأ قوله عن جابر، بل رواه عن أبي الزبير أن عمر بن الخطاب قضى في الضبع الخ. وأخرجه أيضا الشافعي بسند صحيح عن عمر. وأخرج البيهقي عن ابن عباس قضى في الارنب بعناق. وروى عنه الشافعي من طريق الضحاك أنه قضى في الارنب بشا. وأخرج البيهقي عن ابن مسعود أنه قضى في اليربوع بجفرة. ورواه الشافعي عنه من طريق مجاهد وروى أبو يعلى عن عمر وقال: لا أراه إلا رفعه أنه حكم في الضبع بشاة، وفي الارنب بعناق، وفي اليربوع جفرة، وفي الظبي كبش. وأخرج ابن أبي شيبة
[ 86 ]
عن عمر أنه قضى في الارنب ببقرة. وروى إبراهيم الحربي في الغريب عن ابن عباس أنه قضى في اليربوع بحمل والحمل ولد الضأن الذكر. وحديث جابر أخرجه أيضا البيهقي وأبو يعلى وقالا عن جابر عن عمر رفعه، وأما الدارقطني فرواه من طريق إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر يرفعه، وكذلك الحاكم. ورواه الشافعي عن مالك عن أبي الزبير موقوفا على جابر، وصحح وقفه الدارقطني من هذا الوجه كما سلف في أول الباب. قوله: فحكما عليه بعنز قد وافقهما على ذلك علي وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وابن الزبير، وكذلك وافقوا عمر في إيجاب عناق في الارنب، وجفرة في اليربوع، كما حكى ذلك المهدي في البحر عنهم، وهو موافق لما في حديث جابر المرفوع المذكور في الباب إلا في الظبي فإنه أوجب فيه شاة، ولكنها قد تطلق الشاة على المعز. قال في القاموس: الشاة الواحدة من الغنم للذكر والانثى، أو يكون من الضأن والمعز والظباء والبقر والنعام وحمر الوحش انتهى. قوله: جفرة الجفرة بفتح الجيم هي الانثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها، والعنز بفتح المهملة وسكون النون بعدها زاي الانثى من المعز، الجمع أعنز وعنوز وعناز. [ رم 536 ] باب منع المحرم من أكل لحم الصيد إلا إذا لم يصد لاجله ولا أعان عليه عن الصعب بن جثامة: أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمارا وحشيا وهو بالابواء أو بودان فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا إنا حرم متفق عليه. ولاحمد ومسلم لحم حمار وحش. وعن زيد بن أرقم: وقال له ابن عباس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو حرام، فقال: أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال: إنا لا نأكله إنا حرم رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. قوله: حمارا وحشيا هكذا رواية مالك، ولم تختلف عنه الرواة في ذلك، وتابعه
[ 87 ]
على ذلك عامة الرواة عن الزهري، وخالفهم ابن عيينة فقال: لحم حمار وحش كما وقع في الرواية الاخيرة وبين الحميدي أنه كان يقول حمار وحش، ثم صار يقول: لحم حمار وحش، فدل على اضطرابه فيه. قال في الفتح: وقد توبع على قوله لحم حمار وحش من أوجه فيها مقال ثم ساقها، ولكنه يقوي ما رواه ابن عيينة حديث ابن عباس المذكور في الباب، وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن ابن عباس أن الذي أهداه الصعب بن جثامة لحم حمار، وأخرجه مسلم أيضا من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد فقال تارة: حمار وحش، وتارة شق حمار. قوله: بالابواء بفتح الهمزة وسكون الموحدة، وبالمد جبل من أعمال الفرع بضم الفاء والراء بعدها مهملة قيل: سمي بالابواء لوبائه، وقيل: لان السيول تتبوؤه أي تحله. قوله: أو بودان شك من الراوي وهو بفتح الواو وتشديد الدال آخره نون موضع بقرب الجحفة. قوله: فرده اتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه كما قال الحافظ، إلا ما رواه ابن وهب والبيهقي من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عجز حمار وحش وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم قال البيهقي: إن كان هذا محفوظا حمل على أنه رد الحي وقبل اللحم. قال الحافظ: وفي هذا الجمع نظر، فإن الطرق كلها محفوظة، فلعله رده حيا لكونه صيد لاجله، ورد اللحم تارة لذلك وقبله أخرى حيث لم يصد لاجله، وقد قال الشافعي في الام: إن كان الصعب أهدى له حمارا حيا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حتي، وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون قد علم أنه صيد له انتهى. ويحتمل أن يكون القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية في وقت آخر وهو وقتر جوعه صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة. قال القرطبي: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقدمه له، فمن قال: أهدي حمارا أراد بتمامه مذبوحا لا حيا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتمل أن يكون من قال حمارا أطلق وأراد بعضه مجازا، ويحتمل أنه أهداه له حيا، فلما رده عليه ذكاه وأتا بعضو منه ظانا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكل، والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الروايات. قوله: إنا لم نرده عليك قال في الفتح: قال القاضي عياض: ضبطناه في الروايات بفتح الدال، وأبى ذلك المحققون من أهل العربية وقالوا:
[ 88 ]
الصواب أنه بضم الدال، لان المضاعف من المجزوم يراعى فيه الواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها، قال: وليس الفتح بغلط بل ذكره ثعلب في الفصيح، نعم تعقبوه عليه بأنه ضعيف، وأجازوا فيه الكسر وهو أضعف الاوجه، وهي لغة حكاها الاخفش عن بني عقيل، وإذا وليه ضمير المؤنث نحو ردها فالفتح لازم اتفاقا، كذا قال النووي. ووقع في رواية الكشميهني: لم نردده بفك الادغام وضم الاولى وسكون الثانية ولا إشكال فيه. قوله: إلا أنا حرم زاد النسائي: لا نأكل الصيد وفي حديث ابن عباس: إنا لا نأكله إنا حرم وقد استدل بهذا من قال بتحريم الاكل من لحم الصيد على المحرم مطلقا، لانه اقتصر في التعليل على كونه محرما، فدل على أنه سبب الامتناع خاصة، وهو قول علي وابن عباس وابن عمر والليث والثوري وإسحاق والهادوية، واستدلوا أيضا بعموم قوله تعالى: * (وحرم عليكم صيد البر) * (سورة المائدة، الآية: 96) ولكنه يعارض ذلك حديث طلحة وحديث البهزي وحديث أبي قتادة، وستأتي هذه الاحاديث. وقال الكوفيون وطائفة من السلف: إنه يجوز للمحرم أكل لحم الصيد مطلقا وتمسكوا بالاحاديث التي ستأتي، وكلا المذهبين يستلزم اطراح بعض الاحاديث الصحيحة بلا موجب، والحق ما ذهب إليه الجمهور من الجمع بين الاحاديث المختلفة فقالوا: أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه ثم يهدي منه المحرم، وأحاديث الرد محمولة على ما صاده الحلال لاجل المحرم، قالوا: والسبب بالاقتصار على الاحرام عند الاعتذار للصعب أن الصيد لا يحرم على المرء إذا صيد له إلا إذا كان محرما، فاقتصر عن تبيين الشرط الاصلي وسكت عما عداه فلم يدل على نفيه، ويؤيد هذا الجمع حديث جابر الآتي. وعن علي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي ببيض النعام فقال: إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل رواه أحمد. وعن عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي وهو ابن أخي طلحة قال: كنا مع طلحة ونحن حرم فأهدي لناطير وطلحة راقد، فمنا من أكل ومنا من تورع فلم يأكل، فلما استيقظ طلحة وفق ما أكله وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد ومسلم والنسائي. حديث علي أخرجه أيضا البزار وفي إسناده علي بن زيد وفيه كلام، وقد
[ 89 ]
وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح، وهو حديث طويل هذا طرف منه. قوله: أطعموه أهل الحل لا بد من تقييد هذا الاطلاق بما سلف من اعتبار القصد بأن ذلك للمحرم، فيحمل هذا على أنه أخذ البيض قاصدا بأن ذلك لاجل المحرمين جمعا بين الادلة. وكذلك لا بد من تقييد حديث طلحة بأن لا يكون من أهدى لهم الطير صاده لاجلهم، وقد اختلف فيما يلزم المحرم إذا أصاب بيضة نعام، فقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: أنه يجب فيها القيمة. وقال مالك في رواية عنه: قيمة عشر بدنة. وقال الشافعي في رواية عنه: قيمة عشر النعامة. وقال الهادي: يجب فيها صوم يوم واستدل من قال بأن الواجب القيمة بما أخرجه عبد الرزاق والدارقطني والبيهقي من حديث كعب بن عجرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في بيض نعامة أصابه محرم بقيمته وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وشيخه حسين بن عبد الله وهما ضعيفان. وأخرجه ابن ماجه والدارقطني من حديث أبي المهزم وهو أضعف منهما. واستدل الهادي بما أخرجه الشافعي وأبو داود والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم في بيض النعام في كل بيضة صيام يوم قال عبد الحق: لا يسند من وجه صحيح، وفي إسناد أبي داود رجل لم يسم، وأخرج نحوه الدار قطني من حديث أبي هريرة وهو من طريق ابن جريج عن أبي الزناد، ولم يسمع منه كما قال أبو حاتم والدارقطني. قوله: ابن عبد الله التيمي كذا في نسخ المنتقى، والصواب ابن عبيد الله مصغرا. قوله: وفق من أكله أي صوبه كذا في شرح مسلم، ويحتمل أن يكون معناه دعا له بالتوفيق. وعن عمير بن سلمة الضمري عن رجل من بهز: أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد مكة حتى إذا كانوا في بعض وادي الروحاء وجد الناس حمار وحش عقيرا فذكروه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أقروه حتى يأتي صاحبه، فأتى البهزي وكان صاحبه فقال: يارسول الله شأنكم هذا الحمار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرمون، قال: ثم مررنا حتى إذا كنا بالاثاية إذا نحن بظبي حاقف في ظل فيه سهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا أن يقف عنده حتى يخبر الناس عنه رواه أحمد والنسائي ومالك في الموطأ.
[ 90 ]
الحديث صححه ابن خزيمة وغيره كما قال في الفتح. قوله: أقروه أي اتركوه. قوله: فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر الخ ينبغي أن يقيد هذا الاطلاق بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم أن البهزي لم يصده لاجلهم بقرينة حال أو مقال للجمع بين الادلة كما تقدم. قوله: في الرفاق جمع رفقة. قوله: بالاثاية بضم الهمزة وكسر هبعدها ثاء مثلثة وبعد الالف تحتية موضع بين الحرمين فيه مسجد نبوي أو بئر دون العرج، قال في القاموس: هو بضم الهمزة ويثلث. قوله: حاقف قال في القاموس: الحاقف الرابض في حقف من الرمل أو يكون منطويا كالحقف، وقد انحنى وتثنى في نومه وهو بين الحقوف انتهى. قوله: فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخ إنما لم يأذن لمن معه بأكله لامرين. أحدهما: أنه حي وهو لا يجوز للمحرم ذبح الصيد الحي. الثاني: أن صاحبه الذي رماه قد صار أحق به فلا يجوز أكله إلا بإذن، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم في حمار البهزي: أقروه حتى يأتي صاحبه وفيه دليل على أنه يشرع للرئيس إذا رأى صيدا لا يقدر على حفظ نفسه للهرب إما لضعفه فيه أو لجناية أصابته أن يأمر من يحفظه من أصحابه. وعن أبي قتادة قال: كنت يوما جالسا مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منزل في طريق مكة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمامنا، والقوم محرمون وأنا غير محر عام الحديبية، فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنوني وأحبوا لوأني أبصرته، فالتفت فأبصرته فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، قالوا: والله لا نعينك عليه فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلونه، ثم أنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا وخبأت العضد معي، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عن ذلك فقال: هل معكم منه شئ؟ فقلت: نعم فناولته العضد فأكلها وهو محرم متفق عليه. ولفظه للبخاري ولهم في رواية: هو حلال فكلوه ولمسلم: هل أشار إليه إنسان أو أمره بشئ؟ قالوا: لا، قال: فكلوه وللبخاري قال: منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها. قوله: أما منا بفتح الهمزه. قوله: عام الحديبية هذا هو الصواب، ووقع في
[ 91 ]
رواية للبخاري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج حاجا وهو غلط كما قال الاسماعيلي، فإن القصة كانت في العمرة. وقال الحافظ: لا غلط في ذلك بل هو من المجاز الشائع، وأيضا فالحج في الاصل القصد للبيت فكأنه قال: خرج قاصدا للبيت، ولهذا يقال للعمرة: الحج الاصغر. قوله: والله لا نعينك زاد أبو عوانة: إنا محرمون، وفيه دليل على أنهم قد كانوا علموا أنه يحرم على المحرم الاعانة على قتل الصيد. قوله: وخبأت وفي رواية للبخاري: فحملنا ما بقي من لحم الاتان. قوله: فكلوه صيغة الامر هنا للاباحة لا للوجوب، لانها وقعت جوابا عن سؤالهم عن الجواز لا عن الوجوب فوقعت على مقتضى السؤال. قوله: قال منكم أحد الخ، في رواية للبخاري قال: أمنكم بزيادة الهمزة، ولفظ مسلم: هل منكم أحد أمره. فيه دليل على أن مجرد الامر من المحرم للصائد بأن يحمل على الصيد، والاشارة منه مما يوجب عدم الحل لمشاركته للصائد. قوله: أن يحمل عليها أو أشار إليها الضمير راجع إلى الاتان لانه لا يطلق إلا على الانثى وهي مذكورة في رواية البخاري ولفظه: فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها ثم قلنا أناكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، قال منكم أحد أمره الخ، والروايات متفقة على إفراد الحمار بالرؤية، وأفادت هذه الرواية أن الحمار من جملة حمر، وأن المقتول كان أتانا، أي أنثى لقوله: فعقر منها أتانا. (والحديث) فيه فوائد منها: أنه يحل للمحرم لحم ما يصيده الحلال إذا لم يكن صاده لاجله ولم يقع منه إعانة له وقد تقدم الخلاف في ذلك. ومنها: أن مجرد محبة المحرم أن يقع من الحلال الصيد فيأكل منه غير قادحة في إحرامه ولا في حل الاكل منه. ومنها: أن عقر الصيد ذكاته، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى ومنها: جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرب منه. وعن أبي قتادة قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زمن الحديبية فأحرم أصحابي ولم أحرم، فرأت حمارا فحملت عليه فاصطدته، فذكرت شأنه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكرت أني لم أكن أحرمت، وأني إنما اصطدته لك، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه فأكلوا ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له رواه أحمد وابن ماجه بإسناد جيد. قال أبو بكر النيسابوري:
[ 92 ]
قوله: أني اصطدته لك وأنه لم يأكل منه لا أعلم أحدا قاله في هذا الحديث غير معمر. الحديث أخرجه أيضا الدار قطني والبيهقي وابن خزيمة، وقد قال بمثل مقالة النيسابوري التي ذكرها المصنف ابن خزيمة والدار قطني والجوزقي. قال ابن خزيمة: إن كانت هذه الزيادة محفوظة احتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أكل من لحم ذلك الحمار من قبل أن يعلمه أبقتادة أنه اصطاده من أجله فلما علم امتنع وفيه نظر، لانه لو كان حراما عليه صلى الله عليه وآله وسلم ما أقره الله تعالى على الاكل حتى يعلمه أبو قتادة بأنه صاد لاجله، ويحتمل أن يكون ذلك لبيان الجواز، وأن الذي يحرم على المحرم إنما هو الذي يعلم أنه صيد من أجله، وأما إذا أتى بلحم لا يدري ألحم صيد أم لا؟ وهل صيد لاجله أم لا؟ فحله على أصل الاباحة فلا يكون حراما عليه عند الاكل، ولكنه يبعد هذما تقدم من أنه لم يبق إلا العضد. وقال البيهقي: هذه الزيادة غريبة يعني قوله إني اصطدته لك، قال: والذي في الصحيحين أنه أكل منه. وقال النووي في شرح المهذب: يحتمل أنه جرى لابي قتادة في تلك السفرة قصتان، قال ابن حزم: لا يشك أحد بأن أبا قتادة لم يصد الحمار إلا لنفسه ولاصحابه وهم محرمون فلم يمنعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أكله، وكأنه يقول: بأنه يحل صيد الحلال للمحرم مطلقا وهو أحد الاقوال السابقة. وقال ابن عبد البر: كان اصطياد أبي قتادة الحمر لنفسه لا لاصحابه، وكان ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجه أبا قتادة على طريق البحر مخافة العدو، فلذلك لم يكن محرما عند اجتماعه بأصحابه لان مخرجهم لم يكن واحدا. قال الاثرم: كنت أسمع أصحاب الحديث يتعجبون من هذا الحديث ويقولون: كيف جاز لابي قتادة مجاوزة الميقات بلا إحرام ولا يدرون ما وجهه؟ حتى رأيته مفسرا في حديث عياض عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحرمنا فلما كان مكان كذا وكذا إذا نحن بأبي قتادة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه في شئ قد سماه، فذكر حديث الحمار الوحشي انتهى. والحديث من جملة أدلة الجمهور القائلين بأنه يحرم صيد الحلال على المحرم إذا صاده لاجله، ويحل له إذا لم يصده لاجله، ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه صاده لاجله لم يأكل منه وأمر أصحابه بالاكل.
[ 93 ]
وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم رواه الخمسة إلا ابن ماجه. وقال الشافعي: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس. الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وهو من رواية عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن مولاه المطلب عن جابر، وعمرو مختلف فيه مع كونه من رجال الصحيحين، ومولاه قال الترمذي: لا يعرف له سماعا من جابر. وقال في موضع آخر: قال محمد لا أعرف له سماعا من أحد من الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد رواه الشافعي عن عمرو عن رجل من الانصار عن جابر. ورواه الطبراني عن عمرو عن المطلب عن أبي موسى وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي وهو متروك. ورواه الخطيب عن مالك عن نافع عن ابن عمر وفي إسناده عثمان بن خالد المخزومي وهو ضعيف جدا. هذا الحديث صريح في التفرقة بين أن يصيده المحرم أو يصيده غيره له، وبين أن لا يصيده المحرم ولا يصاد له، بل يصيده الحلال لنفسه ويطعمه المحرم، ومقيد لبقية الاحاديث المطلقة كحديث الصعب وطلحة وأبي قتادة، ومخصص لعموم الآية المتقدمة. [ رم 537 ] باب صيد الحرم وشجره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرام يعضد شوكه، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف، فقال العباس: إلا الاذخر فإنه لا بد لهم منه فإنه للقيون والبيوت، فقال: إلا الاذخر وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح مكة قال: لا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، فقال العباس: إلا الاذخر فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا الاذخر متفق عليهما. وفي لفظ لهم: لا يعضد شجرها بدل قوله: لا يختلى شوكها. قوله: لا يعضد شوكه بضم أوله وسكون المهملة وفتح الضاد المعجمة
[ 94 ]
أي لا يقطع. وفي رواية للبخاري: ولا يعضد بها شجرة قال القرطبي: خص الفقهاء الشجر المنهي عن بما ينبته الله تعالى من غير صنيع آدمي، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فاختلف فيه فالجمهور على الجواز. وقال الشافعي في الجميع الجزاء، ورجحه ابن قدامة، واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الاول فقال مالك: لا جزاء فيه بل يأثم، وقال عطاء: يستغفر. وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي. وقال الشافعي: في العظيمة بقرة وفيما دونها شاة. قال ابن العربي: اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم، إلا أن الشافعي أجاز قطع السواك من فروع الشجرة، كذا نقله أبو ثور عنه، وأجاز أيضا أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرها ولا يهلكها، وبهذا قال عطاء ومجاهد وغيرهما، وأجازوا قطع الشوك لكونه يؤذي بطبعه فأشبه الفواسق، ومنعه الجمهور لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك كما في حديثي الباب، والقياس مصادم لهذا النص فهو فاسد الاعتبار، وهو أيضا قياس غير صحيح لقيام الفارق، فإن الفواسق المذكورة تقصد بالاذى بخلاف الشجر، قال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الاغصان وانقطع من الشجر من غير صنيع الآدمي ولا بما يسقط من الورق، نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا انتهى. قوله: ولا يختلى خلاه الخلا بالخاء المعجمة مقصور، وذكر ابن التين أنه وقع في رواية القابسي بالمد وهو الرطب من النبات واختلاؤه قطعه واحتشاشه، واستدل به على تحريم رعيه لكونه أشد من الاحتشاش، وبه قال مالك والكوفيون واختاره الطبري، وتخصيص التحريم بالرطب إشارة إلى جواز رعي اليابس وجواز اختلائه وهو أصح الوجهين للشافعية لان اليابس كالصيد الميت. قال ابن قدامة: لكن في استثناء الاذخر إشارة إلى تحريم اليابس، ويدل عليه أن في بعض طرق حديث أبي هريرة: ولا يحتش حشيشها، قال: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبته الناس في الحرم من بقل وزرع ومشموم فلا بأس برعيه واختلائه. قوله: ولا ينفر صيده بضم أوله وتشديد الفاء المفتوحة، قيل: هو كناية عن الاصطياد، وقيل: على ظاهره. قال النووي: يحرم التنفير وهو الازعاج عن موضعه، فإن نفره عصى تلف أو لا، وإن تلف في نفاره قبل سكونه ضمن وإلا فلا. قال: قال العلماء: يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الاتلاف بالاولى. قوله: ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف وكذلك قوله في الحديث الثاني: ولا تحل ساقطتها إلا المنشد يأتي الكلام على هذا في اللقط إن شاء الله تعالى. قوله: إلا الاذخر
[ 95 ]
بكسر الهمزة وسكون الذال المعجمة وكسر الخاء المعجمة أيضا. قال في الفتح: نبت معروف عند أهل مكة طيب الريح، له أصل مندفن وقضبان دقاق ينبت في السهل والحزن، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب، ويسددون به الخلل بين اللبنات في القبور. ويجوز في قوله: إلا الاذخر الرفع على البدل مما قبله والنصب على الاستثناء، واستدل به على جواز الاجتها منه صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى جواز الفصل بين المستثني والمستثنى منه، والكلام في ذلك معروف في الاصول، واستدل به أيضا على جواز النسخ قبل الفعل وهو ليس بواضح كما قال الحافظ. قوله: فإنه للقيون جمع قين وهو الحداد. قوله: لقبورنا وبيوتنا قد سلف بيان الانتفاع به في القبور والبيوت. وعن عطاء: أن غلاما من قريش قتل حمامة من حمام مكة فأمر ابن عباس أن يفدي عنه بشاة رواه الشافعي. الاثر أخرجه أيضا ابن أبي شيبة والبيهقي من طرق. وفي الباب عن جماعة من الصحابة منهم علي عند الشافعي، وابن عمر عند ابن أبي شيبة، وعن عمر وعثمان عند الشافعي وابن أبي شيبة، فهؤلاء قضى كل واحد منهم بشاة في الحمامة، وقد روي مثل ذلك عن جماعة من التابعين كعاصم بن عمر رواه عنه الشافعي والبيهقي، وسعيد بن المسيب رواه عنه البيهقي، وعن نافع بن عبد الحرث رواه عنه الشافعي وروي عن مالك أنه قال: في حمام الحرم الجزاء، وفي حمام الحل القيمة. [ رم 538 ] باب ما يقتل من الدواب في الحرم والاحرام عن عائشة قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور متفق عليه. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة أو العقرب والفأرة والكلب العقور رواه الجماعة إلا الترمذي وفي لفظ: خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والاحرام: الفأرة والعقرب والغراب والحديا والكلب العقور رواه أحمد ومسلم والنسائي.
[ 96 ]
وعن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر محرما بقتل حية بمنى رواه مسلم. وعن ابن عمر: وسئل ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم؟ فقال: حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحدأة والغراب والحية رواه مسلم. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خمس كلهن فاسقه يقتلهن المحرم ويقتلن في الحرم: الفأرة والعقرب والحية والكلب العقور والغراب رواه أحمد. حديث ابن عباس أورده في التلخيص وسكت عنه، وأخرجه أيضا البزار والطبراني في الكبير والاوسط وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ثقة ولكنه مدلس. قوله: خمس ذكر الخمس يفيد بمفهومه نفي هذا الحكم عن غيرها وليس بحجة ولكنه عند الاكثر، وعلى تقدير اعتباره فيمكن أن يكون قاله صلى الله عليه وآله وسلم أولا ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس تشترك معها في ذلك الحكم، فقد ورد زيادة الحية وهي سادسة كما في حديث ابن عمر، وحديث ابن مسعود، وحديث ابن عباس المذكورة في الباب، وزاد أبو داود من حديث أبي سعيد: السبع العادي وزاد ابن خزيمة وابن المنذر من حديث أبي هريرة: الذئب والنمر فصارت تسعا، قال في الفتح: لكن أفاد ابن خزيمة عن الذهلي أن ذكر الذئب والنمر من تفسير الراوي للكلب العقور، قال: ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود من طريق سعيد بن المسيب قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: يقتل المحرم الحية والذئب ورجاله ثقات. وأخرج أحمد من طريق حجاج بن أرطاة عن وبرة بن عمر: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الذئب للمحرم. وحجاج ضعيف وقد خولف وروي موقوفا كما أخرجه ابن أبي شيبة. قوله: خمس فواسق قال النووي: هو بإضافة خمس لا تنوينه، وجوز ابن دقيق العيد الوجهين، وأشار إلى ترجيح الثاني. قال النووي: تسميته هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة، فإن أصل الفسق لغة الخروج، ومنه فسقت الرطبة إذ اخرجت عن قشرها، فوصفت بذلك لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله أو حل أكله أو خروجها بالايذاء والافساد. قوله: في الحل والحرم ورد في لفظ عند مسلم أمر، وعند أبي عوانة: ليقتل المحرم، وظاهر الامر الوجوب ويحتمل الندب والاباحة وقد روى البزار من حديث أبي رافع: أن النبي صلى
[ 97 ]
الله عليه وآله وسلم أمر بقتل العقرب والفأرة والحية والحدأة وهذا الامر ورد بعد نهي المحرم عن القتل، وفي الامر الوارد بعد النهي خلاف معروف في الاصول هل يفيد الوجوب أو لا؟ وفي لفظ لمسلم إذن. وفي لفظ لابي داود: قتلهن حلال للمحرم. قوله: الغراب هذا الاطلاق مقيد بما عند مسلم من حديث عائشة بلفظ الابقع وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، ولا عذر لمن قال: يحمل المطلق على المقيد من هذا، وقد اعتذر ابن بطال وابن عبد البر عن قبول هذه الزيادة بأنها لم تصح لانها من رواية قتادة وهو مدلس، وتعقب ذلك الحافظ بأن شعبة لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما هو مسموع لهم، وهذه الزيادة من رواية شعبة، بل صرح النسائي بسماع قتادة، واعتذر ابن قدامة عن هذه الزيادة بأن الروايات المطلقة أصح وهو اعتذار فاسد، لان الترجيح فرع التعارض، ولا تعارض بين مطلق ومقيد، ولا بين مزيد وزيادة غير منافية. قال في الفتح: وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك ويقال له غراب الزرع وأفتوا بجواز أكله، فبقي ما عداه من الغربان ملحقا بالابقع انتهى. قال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم قتل الغراب في الاحرام إلا عطاء. قال الخطابي: لم يتابع أحد عطاء على هذا. قوله: والحدأة بكسر الحاء المهملة وفتح الدال بعدها همزة بغير مد على وزن عنبة، وحكى صاحب الحكم فيه المد. قوله: والعقرب قال الفتح: هذا اللفظ للذكر والانثى، وقد يقال عقربة وعقرباء وليس منها العقربان بل هي دويبة طويلة كثيرة القوائم. قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب. قوله: والفأرة بهمزة ساكنة ويجوز فيها التسهيل، قال في الفتح: ولم يختلف العلماء في جواز قتلها للمحرم إلا ما حكي عن إبراهيم النخعي فإنه قال: فيها جزاء إذا قتلها المحرم، أخرجه عنه ابن المنذر وقال: هذا خلاف السنة وخلاف قول جميع أهل العلم. قوله: والكلب العقور اختلف في المراد بالكلب العقور، فروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة بإسناد حسن كما قال الحافظ أنه الاسد، وعن زيد بن أسلم أنه قال: وأي كلب أعقر من الحية. وقال زفر: المراد به هنا الذئب خاصة، وقال في الموطأ: كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الاسد والنمر والفهد والذئب فهو عقور، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: والمراد به هنا الكلب خاصة، ولا يلتحق به في هذا الحكم سوى الذئب (احتج الجمهور) بقوله تعالى * (وما علمتم من الجوارح) * (سورة المائدة، الآية: 4) مكلبين فاشتقها
[ 98 ]
من اسم الكلب. وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فقتله الاسد أخرجه الحاكم بإسناد حسن وغاية ما في ذلك جواز الاطلاق لا أن اسم الكلب هنا متناول لكل ما يجوز إطلاقه عليه وهو محل النزاع. (فإن قيل): اللام في بالكلب تفيد العموم قلنا: بعد تسليم ذلك لا يتم إلا إذا كان إطلاق الكلب على كل واحد منها حقيقة وهو ممنوع، والسند أنه لا يتبادر عند إطلاق لفظ الكلب إلا الحيوان المعروف، والتبادر علامة الحقيقة، وعدمه علامة المجاز، والجمع بين الحقيقة والمجاز لا يجوز، نعم إلحاق ما عقر من السباع بالكلب العقور بجامع العقر صحيح، وأما أنه داخل تحت لفظ الكلب فلا. قوله: من الدواب بتشديد الباء الموحدة جمع دابة وهي ما دب من الحيوان من غير فرق بين الطير وغيره، ومن أخرج الطير من الدواب فهذا الحديث من جملة ما يرد به عليه. قوله: والحديا بضم أوله وتشديد الياء التحتانية مقصورا وهي لغة حجازية، قال قاسم بن ثابت: الوجه الهمزة وكأنه سهل ثم أدغم. قوله: والحية قال نافع: لما قيل له فالحية قال: لا يختلف فيها، وفي رواية: ومن يشك فيها، وتعقبه ابن عبد البر بما أخرجه ابن أبي شيبة عن الحكم وحماد أنهما قالا: لا يقتل المحرم الحية ولا العقرب، والاحاديث ترد عليهما، وعند المالكية خلاف في قتل صغار الحيات والعقارب التي لا تؤذي. [ رم 539 ] باب تفضيل مكة على سائر البلاد عن عبد الله بن عدي بن الحمراء: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمكة: ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك رواه الترمذي وصححه. قوله بالحزورة بفتح الحاء المهملة والزاي وفتح الواو المشددة بعدها راء ثم هاء هي الرابية الصغيرة. وفي القاموس: الحزورة كقسورة الناقة المقتلة المذللة والرابية الصغيرة انتهى. قوله: إنك لخير أرض الله فيه دليل على أن مكة خير أرض الله على الاطلاق وأحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبذلك
[ 99 ]
استدل من قال: إنها أفضل من المدينة. قال القاضي عياض: إن موضع قبره صلى الله عليه وآله وسلم أفضل بقاع الارض، وإن مكة والمدينة أفضل بقاع الارض، واختلفوا في أفضلها ما عدا موضع قبره صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أهل مكة والكوفة والشافعي وابن وهب وابن حبيب المالكيان: إن مكة أفضل وإليه مال الجمهور، وذهب عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين إلى أن المدينة أفضل، واستدل الاولون بحديث عبد الله بن عدي المذكور في الباب. وقد أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وغيرهم. قال ابن عبد البر: هذا نص في محل الخلاف، فلا ينبغي العدول عنه، وقد ادعى القاضي عياض الاتفاق على استثناء البقعة التي قبر فيها صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أنها أفضل البقاع، قيل: لانه قد روي أن المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يخلق، كما روى ذلك ابن عبد البر في تمهيده من طريق عطاء الخراساني موقوفا ويجاب عن هذا بأن أفضلية البقعة التي خلق منها صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان بطريق الاستنباط ونصبه في مقابلة النص الصريح الصحيح غير لائق، على أنه معارض بما رواه الزبير بن بكار أن جبريل أخذ التراب الذي منه خلق صلى الله عليه وآله وسلم من تراب الكعبة، فالبقعة التي خلق منها من بقاع مكة، وهذا لا يقصر عن الصلاحية لمعارضة ذلك الموقوف، لا سيما وفي إسناده عطاء الخراساني، نعم إن صح الاتفاق الذي حكاه عياض كان هو الحجة عند من يرى أن الاجماع حجة (وقد استدل) القائلون بأفضلية المدينة بأدلة منها حديث: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة كما في البخاري وغيره، مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها وهذا أيضا مع كونه لا ينتهض لمعارضة ذلك الحديث المصرح بالافضلية هو أخص من الدعوى، لان غاية ما فيه أن ذلك الموضع بخصوصه من المدينة فاضل وأنه غير محل النزاع. وقد أجاب ابن حزم عن هذا الحديث بأن قوله: إنها من الجنة مجاز، إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة: * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) * (سورة طه، الآية: 118) وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، كما يقال في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة، وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم: الجنة تحت ظلال السيوف قال: ثم لو ثبت أنه على الحقيقة لما كان الفضل إلا لتلك البقعة خاصة (فإن قيل) إن ما قرب منها أفضل مما بعد، لزمهم أن يقولوا:
[ 100 ]
إن الجحفة أفضل من مكة ولا قائل به، ومن جملة أدلة القائلين بأفضلية مكة على المدينة حديث ابن الزبير عند أحمد وعبد بن حميد وابن زنجويه وابن خزيمة والطحاوي والطبراني والبيهقي وابن حبان وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي بمائة صلاة وقد روي من طريق خمسة عشر من الصحابة. ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن أفضلية المسجد لافضلية المحل الذي هو فيه (ومن جملة) ما استدلوا به حديث: اللهم إنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكني في أحب البلاد إليك أخرجه الحاكم في المستدرك، ويجاب بأن النزاع في الافضل لا فيما هو أحب، والمحبة لا تستلزم الافضلية، والاستنباط لا يقاوم النص (واعلم) أن الاشتغال ببيان الفاضل من هذين الموضعين الشريفين كالاشتغال ببيان الافضل من القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والكل من فضول الكلام التي لا تتعلق به فائدة غير الجدال والخصام، وقد أفضى النزاع في ذلك وأشباهه إلى فتن وتلفيق حجج واهية، كاستدلال المهلب على أفضلية المدينة بأنها هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الاسلام، فصار الجميع في صحائف أهلها وبأنها تنفي الخبث كما ثبت في الحديث الصحيح وأجيب عن الاول بأن أهل المدينة، الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة، فالفضل ثابت للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين، وعن الثاني بأن ذلك إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى: * (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) * والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة، ثم علي وطلحة والزبير وعمار وآخرون وهم من أطيب الخلق، فدل على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس ووقت دون وقت، على أنه إنما يدل ذلك على أنها فضيلة لا أنها فاضلة. [ رم 540 ] باب حرم المدينة وتحريم صيده وشجره عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
[ 101 ]
المدينة حرم ما بين عير إلى ثور مختصر من حديث متفق عليه. وفي حديث علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة: لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن تقطع فيها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره رواه أحمد وأبو داود. وعن عباد بن تميم عن عمه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين لابتي المدينة وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى متفق عليه. وعن أبي هريرة في المدينة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرم شجرها أن يخبط أو يعضد رواه أحمد. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشرف على المدينة فقال: اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم متفق عليه. وللبخاري عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث، من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولمسلم عن عاصم الاحول قال: سألت أنسا أحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة؟ قال: نعم هي حرام، ولا يختلى خلاها، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وعن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إني حرمت المدينة حرام ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح، ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها رواهما مسلم. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في المدينة: حرام ما بين حرتيها وحماها كلها لا يقطع شجره إلا أن يعلف منها رواه أحمد. حديث علي الثاني رجاله رجال الصحيح وأصله في الصحيحين. وحديث جابر الآخر في إسناده ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه كلام معروف. قوله: ما بين عير إلى ثور أما عير فهو بفتح العين المهملة وإسكان التحتية. وأما ثور فهو بفتح المثلثة وسكون الواو بعدها راء، ومن الرواة من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا لانهم اعتقدوا
[ 102 ]
أن ذكره هنا خطأ. قال المازري: قال بعض العلماء: ثور هنا وهم من الراوي وإنما ثور بمكة، قال: والصحيح إلى أحد، قال القاضي: كذا قال أبو عبيد، أصل الحديث من عير إلى أحد انتهى. قال النووي: وكذا قال أبو بكر الحازمي الحافظ وغيره من الائمة أن أصله من عير إلى أحد، قال قلت: ويحتمل أن ثورا كان اسما لجبل هناك، أما أحد وأما غيره فخفي اسمه. وقال مصعب الزبيري: ليس بالمدينة عير ولا ثور. قال عياض: لا معنى لانكار عير بالمدينة فإنه معروف، وكذا قال جماعة من أهل اللغة. قال ابن قدامة: يحتمل أن يكون المراد مقدار مابين عير وثور لا أنهما بعينهما في المدينة، أو سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجبلين اللذين بطرفي المدينة عيرا وثورا ارتجالا، وسبقه إلى الاول أبو عبيد على ما حكاه ابن الاثير عنه. وقال المحب الطبري في الاحكام: قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحا إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور، وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب العارفين بتلك الارض وما فيها من الجبال، فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور وتواردوا على ذلك، قال: فعلمنا أن ذكر ثور المذكور في الحديث الصحيح صحيح، وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه، وهذه فائدة جليلة انتهى. وقد ذكر مثل هذا الكلام في القاموس وقال أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في مختصره لاخبار المدينة أن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم ان خلف أحد من جهة الشمال جبلا صغيرا إلى الحمرة بتدوير يسمى ثورا، قال: وقد تحققته بالمشاهدة. قوله: لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها قد تقدم تفسير هذه الالفاظ والكلام عليها في باب صيد الحرم وشجره. قوله: إلا لمن أشاد بها أي رفع صوته بتعريفها أبدا لا سنة كما في غيرها، ولعله يأتي في اللقطة بسط الكلام على لقطة مكة والمدينة وغيرهما. قوله: ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال قال ابن رسلان: هذا محمول عند أهل العلم على حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة، فإن كانت حاجة جاز. قوله: ولا يصلح أن يقطع فيها شجرة استدل بهذا وبما في الاحاديث المذكورة في الباب من تحريم شجرها وخبطه وعضده وتحريم صيدها وتنفيره الشافعي ومالك وأحمد والهادي وجمهور أهل العلم، على أن للمدينة حرما كحرم مكة يحرم صيده وشجره. قال الشافعي ومالك: فإن قتل صيدا أو قطع شجرا فلا ضمان لانه ليس بمحل للنسك فأشبه الحمى. وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى: يجب فيه الجزاء كحرم مكة، وبه قال بعض المالكية وهو ظاهر قوله: كما
[ 103 ]
حرم إبراهيم مكة. وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والناصر إلى أن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة، ولا تثبت له الاحكام من تحريم قتل الصيد وقطع الشجر (والاحاديث) ترد عليهم، واستدلوا بحديث يا أبا عمير ما فعل النغير وأجيب عنه بأن ذلك كان قبل تحريم المدينة أو أنه من صيد الحل. قوله: إلا أن يعلف رجل بعيره فيه دليل على جواز أخذ الاشجار للعلف لا لغيره فإنه لا يحل كما سلف. قوله: ما بين لابتي المدينة قال أهل اللغة: اللابتان الحرتان واحدتهما لابة بتخفيف الموحدة وهي الحرة، والحرة الحجارة السود، وللمدينة لابتان شرقية وغربية وهي بينهما. قوله: اثني عشر ميلا الخ، لفظ مسلم عن أبي هريرة قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين لابتي المدينة، قال أبو هريرة: فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها وجعل اثنى عشر ليلا حول المدينة حمى انتهى. والضمير في قوله جعل راجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما يدل على ذلك اللفظ الذي ذكره المصنف، ويدل عليه أيضا ما عند أبي داود من حديث عدي بن زيد الجذامي قال: حمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ناحية من المدينة بريدا بريدا، فهذا مثل ما في الصحيحين، لان البريد أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال (وهذان الحديثان) فيهما التصريح بمقدار حرم المدينة. قوله: أن يخبط أو يعضد الخبط: ضرب الشجر ليسقط ورقه. والعضد: القطع كما تقدم. زاد أبو داود في هذا الحديث: إلا ما يساق به الجمل. قوله: مابين جبليها قد ادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب، لانه وقع التحديد في بعض الروايات بالحرتين، وفي بعضها باللابتين، وفي بعضها بالجبلين، وفي بعضها بعير وثور كما تقدم، وفي بعضها بالمأزمين كما سيأتي. قال في الفتح: وتعقب بأن الجمع بينهما واضح، وبمثل هذا لا ترد الاحاديث الصحيحة، فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح، ولا شك أن ما بين لابتيها أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية جبليها لا تنافيها، فيكون عند كل لابة جبل أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة الشرق والغرب، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر، والمأزم قد يطلق على الجبل نفسه كما سيأتي. قوله: اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم قال عياض: البركة هنا بمعنى النماء والزيادة. وقال النووي: الظاهر أن المراد البركة في نفس الكيل من المدينة بحيث يكفي المد فيها من لا يكفيه في غيرها. قوله: من كذا إلى كذا جاء هكذا مبهما في روايات البخاري،
[ 104 ]
فقيل: إن البخاري أبهمه عمدالما وقع عند أنه وهم ووقع عند مسلم إلى ثور، فالمراد بهذا المبهم من عير إلى ثور، وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: من أحدث فيها حدثا أي عمل بخلاف السنة كمن ابتدع بها بدعة. زاد مسلم وأبو داود في هذا الحديث: أو آوى محدثا. قوله: فعليه لعنة الله الخ، أي اللعنة المستقرة من الله على الكفار، وأضيف إلى الله على سبيل التخصيص، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الابعاد عن رحمة الله. وقيل: المراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الامر، وليس هو كلعن الكافر واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر. قوله: ما بين مأزميها قال النووي: المأزم بهمزة بعد الميم وكسر الزاي وهو الجبل، وقيل: المضيق بين جبلين ونحوه، والاول هو الصواب هنا، ومعناه ما بين جبليها انتهى. قوله: ألا يهراق فيها دم فيه دليل على تحريم إراقة الدماء بالمدينة لغير ضرورة. قوله: إلا لعلف هو بإسكان اللام مصدر وعلفت، وأما العلف بفتح اللام وهو اسم الحشيش والتبن والشعير ونحوها، وفيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف لاخبط الاغصان وقطعها فإنه حرام. قوله: عضاهها العضاه بالقصر وكسر العين المهملة وتخفيف الضاد المعجمة كل شجر فيه شوك وحداتها عضاهة وعضهة. قوله: وحماها كلها فيه دليل على أن حكم حمى المدينة حكمها في تحريم صيده وشجره، وقد تقدم بيان مقدار الحمى أنه من كل ناحية من نواحي المدينة بريد. وعن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها. وعن عامر بن سعد: أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبى أن يرد عليهم رواهما أحمد ومسلم. وعن سليمان بن أبي عبد الله قال: رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلبه ثيابه فجاء مواليه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم هذا الحرم وقال: من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه، فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إن شئتم
[ 105 ]
أعطيكم ثمنه أعطيتكم رواه أحمد وأبو داود وقال فيه: من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه ثيابه. الحديث الاول وقد تقدم الكلام عليه. والحد الثالث أخرجه أيضا الحاكم وصححه وفي إسناده سليمان بن أبي عبد الله المذكور قال أبو حاتم: ليس بمشهور ولكن يعتبر بحديثه. قال الذهبي: تابعي وثق، وقد وهم البزار فقال: لا يعلم روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا سعد، ولاعنه إلا عامر، وهذا يرد عليه. وقد أخرجه أيضا أبو داود عن مولى لسعد عنه، ووهم أيضا الحاكم فقال في حديث سعد: إن الشيخين لم يخرجاه وهو في مسلم كما عرفت. قوله: فسلبه أي أخذ ما عليه من الثياب. قوله: نفلنيه أي أعطانيه، قال في القاموس: نفله النفل ونفله وأنفله أعطاه إياه، وقال أيضا. والنفل محركة الغنيمة والهبة. قوله: طعمة بضم الطاء وكسرها، ومعنى الطعمة الاكلة، وأما الكسر فجهة الكسب وهيئته. قوله: فليسلبه ثيابه هذا ظاهر في أنها تؤخذ ثيابه جميعها. وقال الماوردي: يبقى له ما يستر عورته، وصححه النووي، واختاره جماعة من أصحاب الشافعي. وبقصه سعد هذه احتج من قال: إن من صاد من حرم المدينة أو قطع من شجرها أخذ سلبه وهو قول الشافعي في القديم. قال النووي: وبهذا قال سعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة انتهى. وقد حكى ابن قدامة عن أحمد في إحدى الروايتين القول به، قال: وروي ذلك عن ابن أبي ذئب وابن المنذر انتهى. وهذا يرد على القاضي عياض حيث قال: ولم يقل به أحد بعد الصحابة إلا الشافعي في قوله القديم. (وقد اختلف) في السلب فقيل: إنه لمن سلبه. وقيل: لمساكين المدينة. وقيل: لبيت المال، وظاهر الادلة أنه للسالب وأنه طعمة لكل من وجد فيه أحدا يصيد أو يأخذ من شجره. [ رم 541 ] باب ما جاء في صيدوج عن محمد بن عبد الله بن شيبان عن أبيه عن عروة بن الزبير عن الزبير: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله عز وجل رواه أحمد وأبو داود البخاري في تاريخه. ولفظه: إن صيد وج حرام قال البخاري: ولا يتابع عليه.
[ 106 ]
الحديث سكت عنه أبو داود وحسنه المنذري، وسكت عنه عبد الحق أيضا، وتعقب بما نقل عن البخاري أنه لم يصح، وكذا قال الازدي، وذكر الذهبي أن الشافعي صححه، وذكر الخلال أن أحمد ضعفه. وقال ابن حبان: محمد بن عبد الله المذكور كان يخطئ، ومقتضاه تضعيف الحديث فإنه ليس له غيره، فإن كان أخطأ فيه فهو ضعيف، وقال العقيلي: لا يتابع إلا من جهة تقاربه في الضعف، وقال النووي في شرح المهذب: إسناده ضعيف، قال: وقال البخاري: لا يصح. وذكر الحلال في العلل أن أحمد ضعفه. قوله: ابن شيبان هكذا في النسخ الصحيحة من هذا الكتاب، والصواب ابن إنسان كما في سنن أبي داود وتاريخ البخاري، وكذا قال ابن حبان والذهبي والخزرجي في الخلاصة. قال الذهبي في ترجمة محمد بن عبد الله بن شيبان هذا صوابه ابن إنسان. وقال في ترجمة عبد الله بن إنسان: له حديث في صيدوج، قال: ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا هذا الحديث. قوله: وج بفتح الواو وتشديد الجيم قال ابن رسلان: هو أرض بالطائف عند أهل اللغة، وقال اصحابنا: هو واد بالطائف. وقيل كل الطائف انتهى. وقال الحازمي في المؤتلف والمختلف في الاماكن: وج اسم لحصون الطائف، وقيل لواحد منها. وإنما اشتبه وج بوح بالحاء المهملة وهي ناحية نعمان. قوله: وعضاهه بكسر العين كمسلف. قال الجوهري: العضاه كل شجر يعظم وله شوك. قوله: حرم بفتح الحاء والراء الحرام كقولهم: زمن وزمان. قوله: محرم لله تعالى تأكيد للحرمة (والحديث) يدل على تحريم صيد وج وشجره. وقد ذهب إلى كراهته الشافعي والامام يحيى، قال الشافعي في الاملاء: أكره صيد وج قال في البحر بعد أن ذكر هذا الحديث: إن صح فالقياس التحريم لكن منع منه الاجماع انتهى. وفي دعوى الاجماع نظر، فإنه قد جزم جمهور أصحاب الشافعي بالتحريم وقالوا: إن مراد الشافعي بالكراهة كراهة التحريم. قال ابن رسلان في شرح السنن بعد أن ذكر قول الشافعي في الاملاء: وللاصحاب فيه طريقان أصحهما وهو الذي أورده الجمهور القطع بتحريمه، قالوا: ومراد الشافعي بالكراهة كراهة التحريم، ثم قال: وفيه طريقان أصحهما وهو قول الجمهور يعني من أصحاب الشافعي أنه يأثم، فيؤدبه الحاكم على فعله ولا يلزمه شئ، لان الاصل عدم الضمان إلا فيما ورد به الشرع، ولم يرد في هذا شئ. والطريق الثاني حكمه في الضمان حكم المدينة وشجرها،
[ 107 ]
وفي وجوب الضمان فيه خلاف انتهى. وقد قدمنا الخلاف في ضمان صيد المدينة وشجرها. قال الخطابي: ولست أعلم لتحريمه معنى، إلا أن يكون ذلك على سبيل الحمى لنوع من منافع المسلمين، وقد يحتمل أن ذلك التحريم إنما كان في وقت معلوم إلى مدة محصورة ثم نسخ. قال أبو داود في السنن: وكان ذلك يعني تحريم وج قبل نزوله صلى الله عليه وآله وسلم الطائف وحصاره ثقيفا انتهى والظاهر من الحديث تأبيد التحريم، ومن دعى النسخ فعليه الدليل لان الاصل عدمه، وأما ضمان صيده وشجره على حد ضمان صيد الحرم الملكي فموقوف على ورود دليل يدل على ذلك، لان الاصل براءة الذمة، ولا ملازمة بين التحريم والضمان. [ رم ] أبواب دخول مكة وما يتعلق به باب من أين يدخل إليهم عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء، وإذا خرج خرج من الثنية السفلى رواه الجماعة إلا الترمذي. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها وفي رواية: دخل عام الفتح من كداء التي بأعلى مكة متفق عليهما. وروى الثاني أبو داود وزاد: ودخل في العمرة من كدى. قوله: من الثنية العليا الثنية كل عقبة في طريق أو جبل فإنها تسمى ثنية، وهذه الثنية المعروفة بالثنية العليا هي التي ينزل منها إلى باب المعلى مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها الحجون بفتح المهملة وضم الجيم، وكانت صعبة المرتقى، فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الازرقي، ثم سهلها كلها سلطان مصر الملك المؤيد. قوله: من الثنية السفلى هي عند باب الشبيكة بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان وعليها باب بني في القرن السابع. قوله: من كداء بفتح الكاف والمد، قال أبو عبيدة: لا تصرف وهي الثنية العليا المتقدم ذكرها. قوله: ودخل في العمرة من كدى بضم الكاف والقصر وهي الثنية السفلى المتقدم ذكرها. قال عياض والقرطبي وغيرهما:
[ 108 ]
اختلف في ضبط كداء وكدا، فالاكثر على أن العلياء بالفتح والمد، والسفلى بالقصر والضم، وقيل بالعكس. قال النووي: وهو غلط. قالوا: واختلف في المعنى الذي لاجله خالف صلى الله عليه وآله وسلم بين طريقيه فقيل ليتبرك به، وذكروا شيئا مما تقدم في العيد، وقد تقدم بسطه هنالك، وبعضه لا يتأتى اعتباره هنا. وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة بجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان وعكسه الاشارة إلى فراقه. وقيل: لان إبراهيم لما دخل مكة دخل منها. وقيل: لانه صلى الله عليه وآله وسلم خرج منها مختفيا في الهجرة فأراد أن يدخلها ظافرا غالبا. وقيل: لان من جاء من تلك الجهة كان مستقبلا للبيت، ويحتمل أن يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح فاستمر على ذلك. [ رم 543 ] باب رفع اليدين إذا رأى البيت وما يقال عند ذلك عن جابر: وسئل عن الرجل يرى البيت يرفع يديه فقال: قد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكن يفعله رواه أبو داود والنسائي والترمذي. وعن ابن جريج قال: حدثت عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ترفع الايدي في الصلاة وإذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة، وبجمع، وعند الجمرتين، وعلى الميت. وعن ابن جريج: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمر تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا رواهما الشافعي في مسنده. حديث جابر قال الترمذي: إنما نعرفه من حديث شعبة. وذكر الخطابي أن سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ضعفوا حديث جابر هذا لان في إسناده مهاجرين عكرمة المكي وهو مجهول عندهم. وحديث ابن عباس أخرجه أيضا البيهقي من حديث سفيان الثوري عن أبي سعيد الشامي عن مكحول به مرسلا، وأبو سعيد هذا هو المصلوب وهو كذاب. ورواه الازرقي في تاريخ مكة من حديث مكحول أيضا بزيادة مهابة، وبرا في الموضعين وكذا ذكره الغزالي في الوسيط، وتعقبه الرافعي بأن البر لا يتصور من البيت، وأجاب النووي بأن معناه أكثر بر زائريه، ورواه سعيد بن منصور في السنن،
[ 109 ]
له من طريق برد بن سنان: سمعت ابن قسامة يقول: إذا رأيت البيت فقل: اللهم زد فذكره مثله. ورواه الطبراني في مسند حذيفة بن أسيد مرفوعا وفي إسناده عاصم الكوري وهو كذاب، وحديث ابن جريج هو معضل فيما بين ابن جريج والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي إسناده سعيد بن سالم القداح وفيه مقال. قال الشافعي بعد أن أورده: ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شئ فلا أكرهه ولا أستحبه. قال البيهقي: فكأنه لم يعتمد على الحديث لانقطاعه (والحاصل) أنه ليس في الباب ما يدل على مشروعية رفع اليدين عند رؤية البيت وهو حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل وأما الدعاء عند رؤية البيت فقد رويت فهي أخبار وآثار منها ما في الباب. ومنها ما أخرجه ابن المغلس أن عمر كان إذا نظر إلى البيت قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام. ورواه سعيد بن منصور في السنن عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد ولم يذكر عمر. ورواه الحاكم عن عمر أيضا وكذلك رواه البيهقي عنه. [ رم 544 ] باب طواف القدوم والرمل والاضطباع فيه عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الاول خب ثلاثا ومشى أربعا، وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة وفي رواية: رمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى أربعا وفي رواية: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت ويمشي أربعة متفق عليهن. قوله: الطواف الاول فيه دليل على أن الرمل إنما يشرع في طواف القدوم لانه الطواف الاول. قال أصحاب الشافعي: ولا يستحب الرمل إلا في طواف واحد في حج أو عمرة، أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا رمل. قال النووي: بلا خلاف، ولا يشرع أيضا في كل طوافات الحج بل إنما يشرع في واحد منها، وفيه قولان مشهوران للشافعي أصحهما طواف يعقبه سعي، ويتصور ذلك في طواف القدوم وفي طواف الافاضة، ولا يتصور في طواف الوداع. والقول الثاني أنه لا يشرع إلا في طواف القدوم، وسواء أراد السعي بعده أم لا، ويشرع في طواف العمرة إذ ليس فيها إلا
[ 110 ]
طواف واحد. قوله: خب ثلاثا ومشى أربعا الخبب بفتح المعجمة والموحدة بعدها موحدة أخرى هو إسراع المشي مع تقارب الخطا وهو كالرمل. وفيه دليل على مشروعية الرمل في الطواف الاول وهو الذي عليه الجمهور قالوا هو سنة. وقال ابن عباس: ليس هو بسنة من شاء رمل ومن شاء لم يرمل (وفيه أيضا) دليل على أن السنة أن يرمل في الثلاثة الاول ويمشي على عادته في الاربعة الباقية. قوله: وكان يسعى الخ سيأتي الكلام على السعي. قوله: من الحجر إلى الحجر فيه دليل على أنه يرمل في ثلاثة أشواط كاملة، قال في الفتح: ولا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاثة لم يقضه في الاربعة لان هيئتها السكينة ولا تتغير، وكذا قالت الهادوية، قال: ويختص بالرجال فلا رمل على النساء، ويختص بطواف يتعقبه سعي على المشهور، ولا فرق في استحبابه بين ماشي وراكب، ولا دم بتركه عند الجمهور، واختلف في ذلك المالكية، وقد روي عن مالك أن عليه دما ولا دليل على ذلك (واعلم) أنه قد اختلف في وجوب طواف القدوم، فذهبت العترة ومالك وأبو ثور وبعض أصحاب الشافعي، إلى أنه فرض لقوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * (سورة الحج، الآية: 29) ولفعله صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: خذوا عني مناسككم وقال أبو حنيفة: إنه سنة وقال الشافعي: هو كتحية المسجد، قالا: لانه ليس فيه إلا فعله صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يدل على الوجوب، وأما الاستدلال على الوجوب بالآية فقال شارح البحر: إنها لا تدل على طواف القدوم لانها في طواف الزيارة إجماعا، والحق الوجوب لان فعله صلى الله عليه وآله وسلم مبين لمجمل واجب هو قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: خذوا عني مناسككم. وقوله: حجوا كما رأيتموني أحج وهذا الدليل يستلزم وجوب كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجه إلا ما خصه دليل، فمن ادعى عدم وجوب شئ من أفعاله في الحج فعليه الدليل على ذلك وهذه كلية فعليك بملاحظتها في جميع الابحاث التي ستمر بك. وعن يعلى بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاف مضطبعا وعليه برد رواه ابن ماجه والترمذي وصححه وأبو داود وقال: ببرد له أخضر وأحمد ولفظه: لما قدم مكة طاف بالبيت وهو مضطبع ببرد له حضرمي. وعن ابن عباس:
[ 111 ]
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه اعتمروا من جعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى رواه أحمد وأبو داود. حديث يعلى بن أمية صححه الترمذي كما ذكره المصنف وسكت عنه أبو داود والمنذري وحديث ابن عباس أخرج نحوه الطبراني، وسكت عنه أيضا أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجاله رجال الصحيح، وقد صحح حديث الاضطباع النووي في شرح مسلم. قوله: مضطبعا هو افتعال من الضبع بإسكان الباء الموحدة وهو العضد، وهو أن يدخل إزاره تحت إبطه الايمن ويرد طرفه على منكبه الايسر، ويكون منكبه الايمن مكشوفا، كذا في شرح مسلم للنووي، وشرح البخاري للحافظ، وهذه الهيئة هي المذكورة في حديث ابن عباس المذكور، والحكمة في فعله أنه يعين على إسراع المشي، وقد ذهب إلى استحبابه الجمهور سوى مالك قاله ابن المنذر، قال أصحاب الشافعي: وإنما يستحب الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل. قوله: ببرد له حضرمي لفظ أبي داود: ببرد أخضر. قوله: تحت آباطهم قال ابن رسلان: المراد أن يجعله تحت عاتقه الايمن. قوله: ثم قذفوها أي طرحوا طرفيها. قوله: على عواتقهم العاتق المنكب. وعن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرملوا الاشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركعتين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم متفق عليه. وعن ابن عباس قال: رمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجته وفي عمره كلها وأبو بكر وعمر والخلفاء رواه أحمد. وعن عمر قال: فيما الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أطى الله الاسلام ونفى الكفر وأهله ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه رواه أبو داود وابن ماجه. حديث ابن عباس الثاني أخرجه أحمد من طريق أبي معاوية عن ابن جريج عن عطاء عنه، وذكره في التلخيص وسكت عنه. وأثر عمر أخرجه أيضا البزار والحاكم والبيهقي،
[ 112 ]
وأصله في البخاري بلفظ: ما لنا وللرمل إنما كنا رأينا المشركين وقد أهلكهم الله تعالى، ثم قال: شئ صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا نحب أن نتركه، وعزاه البيهقي إليه ومراده أصله. وحديث ابن عباس الثالث أخرجه أيضا النسائي والحاكم. قوله: يقدم بفتح الدال، وأما بضم الدال فمعناه يتقدم. قوله: وهنتهم بتخفيف الهاء وقد يستعمل رباعيا. قال الفراء: يقال وهنه الله وأوهنه، ومعنى وهنتهم أضعفتهم. قوله: حمى يثرب هو اسم المدينة في الجاهلية، وسميت في الاسلام المدينة وطيبة وطابة. قوله: الاشواط بفتح الهمزة وسكون المعجمة جمع شوط وهو الجري مرة إلى الغاية، والمراد به هنا الطوفة حول الكعبة، وهذا دليل على جواز تسمية الطواف شوطا. وقال مجاهد والشعبي: إنه يكره تسميته شوطا والحديث يرد عليهما. قوله: إلا الابقاء بكسر الهمزة وبالموحدة والقاف الرفق والشفقة وهو بالرفع على أنه فاعل لم يمنعه ويجوز النصب (وفي الحديث) جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم، وفيه جواز المعاريض بالفعل كما تجوز بالقول. قال في الفتح: وربما كانت بالفعل أولى. قوله: وفي عمره كلها فيه دليل على مشروعية الرمل في طواف العمرة. قوله: فيما الرملان بإثبات ألف ما الاستفهامية وهي لغة والاكثر يحذفونها، والرملان مصدر رمل. قوله: والكشف عن المناكب هو الاضطباع. قوله: أطى أصله وطى فأبدلت الواو همزة كما في وقت واقت ومعناه مهد وثبت. قوله: ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زاد الاسماعيلي في آخره: ثم رمل (وحاصله) أن عمر كان قدهم بترك الرمل في الطواف لانه عرف سببه وقد انقضى، فهم أن يتركه لفقد سببه ثم رجع عن ذلك لاحتمال أن يكون له حكمة ما اطلع عليها، فرأى أن الاتباع أولى، ويؤيد مشروعية الرمل على الاطلاق ما ثبت في حديث ابن عباس أنهم رملوا في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نفى الله في ذلك الوقت الكفر وأهله عن مكة. والرمل في حجة الوداع ثابت أيضا من حديث جابر الطويل عند مسلم وغيره.
[ 113 ]
باب ما جاء في استلام الحجر الاسود وتقبيله وما يقال حينئذ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يأتي هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق رواه أحمد وابن ماجه والترمذي. وعن عمر: أنه كان يقبل الحجر ويقول: إني لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك ما قبلتك رواه الجماعة. وعن ابن عمر وسئل عن استلام الحجر فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستلمه ويقبله رواه البخاري. وعن نافع قال: رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده، ثم قبل يده وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعله متفق عليه. حديث ابن عباس صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم. قوله: لا تضر ولا تنفع أخرج الحاكم من حديث أبي سعيد أن عمر لما قال هذا قال له علي بن أبي طالب: إنه يضر وينفع، وذكر أن الله تعالى لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يأتي يوم القيامة وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد وفي إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف جدا، ولكنه يشد عضده حديث ابن عباس المتقدم. قال الطبري: إنما قال عمر ذلك لان الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الاصنام، فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الاحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا لان الحجر يضر وينفع بذاته كما كانت الجاهلية تعبد الاوثان. قوله: ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخ فيه استحباب تقبيل الحجر الاسود، وإليه ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وسائر العلماء. وحكى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وطاو س والشافعي وأحمد أنه يستحب بعد تقبيل الحجر السجود عليه بالجبهة، وبه قال الجمهور وروي عن مالك أنه بدعة، واعترف القاضي عياض بشذوذ مالك في ذلك. وقد
[ 114 ]
أخرج الشافعي والبيهقي عن ابن عباس موقوفا: أنه كان يقبل الحجر الاسود ويسجد عليه ورواه الحاكم والبيهقي من حديثه مرفوعا. ورواه أبو داود الطيالسي والدارمي وابن خزيمة وأبو بكر البزار وأبو علي بن السكن والبيهقي من حديث جعفر بن عبد الله الحميدي. وقيل المخزومي بإسناد متصل بابن عباس أنه رأى عمر يقبله ويسجد عليه ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا، وهذا لفظ الحاكم. قال الحافظ: قال العقيلي: في حديثه هذا يعني جعفر بن عبد الله وهم واضطراب. قوله: يستلمه ويقبله فيه دليل على أنه يستحب الجمع بين استلام الحجر وتقبيله، والاستلام المسح باليد، والتقبيل لها كما في حديث ابن عمر الآخر والتقبيل يكون بالفم فقط. وعن ابن عباس قال: طاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن متفق عليه. وفي لفظ: طاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشئ في يده وكبر رواه أحمد والبخاري. وعن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف بالبيت ويستلم الحجر بمحجن معه ويقبل المحجن رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه. وعن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر رواه أحمد. حديث عمر في إسناده راو لم يسم. قوله: بمحجن بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم وبعدها نون هو عصا محنية الرأس، والحجن الاعوجاج، وبذلك سمي الحجون، والاستلام افتعال من السلام بالفتح أي التحية قاله الازهري. وقيل من السلام بالكسر أي الحجارة، والمعنى: أنه يومي بعصاه إلى الركن حتى يصيبه. قوله: وكبر فيه دليل على استحباب التكبير حال استلام الركن. قوله: ويقبل المحجن في رواية ابن عمر المتقدمة أنه استلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعله. ولسعيد بن منصور من طريق عطاء قال: رأيت أبا سعيد وأبا هريرة وابن عمر وجابرا إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم، قيل وابن عباس، قال: وابن عباس أحسبه قال كثيرا، قال في الفتح: ولهذا قال الجمهور: إن السنة أن يستلم الركن ويقبل يده، فإن لم يستطع أن يستلمه
[ 115 ]
بيده استلمه بشئ في يده وقبل ذلك الشئ، فإن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك. وعن مالك في رواية لا يقبل يده، وبه قال القاسم بن محمد بن أبي بكر، وفي رواية عند المالكية: يضع يده على فمه من غير تقبيل، وقد استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر وكذلك تقبيل المحجن جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره، وقد نقل عن الامام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيل قبره فلم ير به بأسا، واستبعد بعض أصحابه صحة ذلك. ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين، كذا في الفتح. قوله: قال له: يا عمر إنك رجل قوي الخ فيه دليل على أنه لا يجوز لمن كان له فضل قوة أن يضايق الناس إذا اجتمعوا على الحجر لما يتسبب عن ذلك من أذية الضعفاء والاضرار بهم، ولكنه يستلمه خاليا إن تمكن، وإلا اكتفى بالاشارة والتهليل والتكبير مستقبلا له. وقد روى الفاكهي من طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة وقال: لا يؤذي ولا يؤذى. باب استلام الركن اليماني مع الركن الاسود دون الآخرين عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن مسح الركن اليماني والركن الاسود يحط الخطايا حطا رواه أحمد والنسائي. وعن ابن عمر قال: لم أر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمس من الاركان إلا اليمانيين رواه الجماعة إلا الترمذي، لكن له معناه من رواية ابن عباس. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يدع أن يستلم الحجر والركن اليماني في كل طوافه رواه أحمد وأبو داود. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه رواه الدارقطني. وعن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله رواه البخاري في تاريخه. حديث ابن عمر الاول في إسناده عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلط، وحديثه الثالث في إسناده عبد العزيز بن أبي رواد وفيه مقال. قال يحيى إن سليم الطائفي: كان يرى الارجاء. وقال يحيى القطان: هو ثقة لا يترك لرأي أخطأ فيه.
[ 116 ]
وقال ابن المبارك: كان يتكلم ودموعه تسيل، ووثقه ابن معين وأبو حاتم. وقال ابن عدي: في أحاديثه ما يتابع عليه. وحديث ابن عباس الذي فيه أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه رواه أبو يعلى وفي إسناده عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف. قوله: إلا اليمانيين بتخفيف الياء على المشهور لان الالف عوض عن ياء النسبة، فلو شددت كان جمعا بين العوض والمعوض، وجوزه سيبويه، وإنما اقتصر صلى الله عليه وآله وسلم على استلام اليمانيين لما ثبت في الصحيحين من قول ابن عمر: إنهما على قواعد إبراهيم دون الشاميين، ولهذا كان ابن الزبير بعد عمارته للكعبة على قواعد إبراهيم يستلم الاركان كلها كما روى ذلك عنه الازرقي في كتاب مكة، فعلى هذا يكون للركن الاول من الاركان الاربعة فضيلتان: كونه الحجر الاسود، وكونه على قواعد إبراهيم، وللثاني الثانية فقط، وليس للآخرين أعنى الشاميين شئ منهما، فلذلك يقبل الاول ويستلم الثاني فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان على رأي الجمهور. وروى ابن المنذر وغيره استلام الاركان جميعا عن جابر وأنس والحسن والحسين من الصحابة، وعن سويد بن غفلة من التابعين. وقد أخرج البخاري ومسلم أن عبيد بن جريج قال لابن عمر: رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها فذكر منها: ورأيتك لا تمس من الاركان إلا اليمانيين، وفيه دليل على أن الذين رآهم عبيد كانوا لا يقتصرون في الاستلام على الركنين اليمانيين. قوله: ويضع خده عليه فيه مشروعية وضع الخد على الركن اليماني وتقبيله، وقد ذهب إلى استحباب تقبيل الركن اليماني بعض أهل العلم كما قال صاحب الفتح تمسكا بما ذكره المصنف من حديث ابن عباس عند البخاري في التاريخ والدارقطني، ولكن الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستلمه فقط، نعم ليس في اقتصار ابن عمر على التسليم ما ينفي التقبيل، فإن صح ما روي عن ابن عباس تعين العمل به. باب الطائف يجعل البيت عن يساره ويخرج في طوافه عن الحجر عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمقدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا رواه مسلم والنسائي.
[ 117 ]
وعن عائشة قالت: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحجر أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قالت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلو من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الحجر في البيت وأن ألصق بابه الارض متفق عليه. وفي رواية قالت: كنت أحب أن أدخل البيت أصلي فيه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي فأدخلني الحجر فقال لي: صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي. وفيه إثبات التنفل في الكعبة. قوله: أتى الحجر فاستلمه الخ فيه دليل على أنه يستحب أن يكون ابتداء الطواف من الحجر الاسود بعد استلامه، وحكي في البحر عن الشافعي والامام يحيى أن ابتداء الطواف من الحجر الاسود فرض. قوله: ثم مشى على يمينه استدل به على مشروعية مشي الطائف بعد استلام الحجر على يمينه جاعلا للبيت على يساره. وقد ذهب إلى أن هذه الكيفية شرطا لصحة الطواف الاكثر، قالوا: فلو عكس لم يجزه. قال في البحر: ولا خلاف إلا عن محمد بن داود الاصفهاني وأنكر عليه وهموا بقتله انتهى. ولا يخفاك أن الحكم علبعض أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم في الحج بالوجوب لانها بيان لمجمل واجب، وعلى بعضها بعدمه تحكم محض لفقد دليل يدل على الفرق بينها. قوله: أمن البيت هو؟ قال: نعم هذا ظاهر بأن الحجر كله من البيت، ويدل على ذلك أيضا قوله في الرواية الثانية: فإنما هو قطعة من البيت وبذلك كان يفتي ابن عباس، فأخرج عبد الرزاق أنه قال: لو وليت من البيت ما ولي ابن الزبير لادخلت الحجر كله في البيت، ولكن ما ورد من الروايات القاضية بأنه كله من البيت مقيد بروايات صحيحة منها عند مسلم من حديث عائشة بلفظ: حتى أزيد فيه من الحجر وله من وجه آخر عنها مرفوعا بلفظ: فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي فهلمي لاريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع وله أيضا عنها مرفوعا بلفظ: وزدت فيها من الحجر سبعة أذرع وفي رواية للبخاري عن عروة: أن ذلك مقدار ستة أذرع ولسفيان بن عيينة
[ 118 ]
في جامعه أن ابن الزبير زاد ستة أذرع، وله أيضا عنه أنه زاد ستة أذرع وشبرا، وهذا ذكره الشافعي في عدد من لقيهم من أهل العلم من قريش كما أخرجه البيهقي في المعرفة عنه. وقد اجتمع من الروايات ما يدل على أن الزيادة فوق ستة أذرع ودون سبعة. وأما ما رواه مسلم عن عطاء عن عائشة مرفوعا بلفظ: لكنت أدخل فيها من الحجر خمسة أذرع فقال في الفتح: هي شاذة والروايات السابقة أرجح لما فيها من الزيادة عن الثقات الحفاظ. قال الحافظ: ثم ظهر لي لرواية عطاء وجه وهو أنه أريد بها ما عدا الفرجة التي بين الركن والحجر فتجتمع مع الروايات الاخرى، فإن الذي عدا الفرجة أربعة أذرع وشئ، ولهذا وقع عند الفاكهي من حديث أبي عمرو بن عدي بن الحمراء: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة في هذه القصة: ولادخلت فيها من الحجر أربعة أذرع فيحمل هذا على إلغاء الكسر، ورواية عطاء على جبره، وتحصيل الجمع بين الروايات كلها بذلك. قوله: إن قومك أي قريشا. قوله: قصرت بهم النفقة بتشديد الصاد أي النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك، كما جزم به الازرقي وغيره، وتوضيحه ما ذكره ابن إسحاق في السيرة عن أبي وهب المخزومي أنه قال لقريش: لا تدخلوا فيه كسبكم إلا طيبا، ولا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. قوله: ليدخلوا من شاؤوا زاد مسلم: فكان الرجل إذا أراد أن يدخلها يدعونه ليرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط. قوله: حديث عهد في لفظ للبخاري: حديث عهدهم بتنوين حديث. قوله: بالجاهلية في رواية للبخاري: بجاهلية، وفي أخرى له: بكفر. ولابي عوانة: بشرك. قوله: فأخاف أن تنكر قلوبهم في رواية للبخاري: تنفر ونقل ابن بطال عن بعض علمائهم أن النفرة التي خشيها صلى الله عليه وآله وسلم أن ينسبوه إلى الفخر دونهم، وجواب لولا محذوف، وقد رواه مسلم بلفظ: فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر ورواه الاسماعيلي بلفظ: لنظرت فأدخلت وفيه دليل على أنه يجوز للعالم ترك التعريف ببعض أمور الشريعة إذا خشي نفرة قلوب العامة عن ذلك.
[ 119 ]
باب الطهارة والسترة للطواف في حديث أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يطوف بالبيت عريان. وعن عائشة: أن أول شئ بدأ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت متفق عليهما. وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف رواه أحمد وهو دليل على جواز السعي مع الحدث. وعن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا نذكر إلا الحج حتى جئنا سرف فطمست، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي فقال: ما لك لعلك نفست فقالت: نعم، قال: هذا شئ كتبه الله عزوجل على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري متفق عليه. ولمسلم في رواية: فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي. حديث عائشة الثاني أخرجه باللفظ المذكور ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من حديث ابن عمر، وأخرج نحوه الطبراني عنه بإسناد فيه متروك، وقد تقدم نحوه من حديث ابن عباس في باب ما يصنع من أراد الاحرام. قوله: لا يطوف بالبيت عريان فيه دليل على أنه يجب ستر العورة في حال الطواف. وقد اختلف هل الستر شرط لصحة الطواف أو لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه شرط، وذهبت الحنفية والهادوية إلى أنه ليس بشرط، فمن طاف عريانا عند الحنفية أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه دم. وذكر ابن إسحاق في سبب طواف الجاهلية كذلك أن قريشا ابتدعت قبل الفيل أو بعده أن لا يطوف بالبيت أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أول ما يطوف إلا في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عريانا، فإن خالف فطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ ثم لم ينتفع بها، فجاء الاسلام بهدم ذلك. قوله: توضأ ثم طاف لما كان هذا الفعل بيانا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: خذوا عني مناسككم صلح للاستدلال به على الوجوب، والخلاف في كون الطهارة شرطا أو غير شرط كالخلاف في الستر. قوله: تقضي المناسك كلها أي نفعل المناسك كلها، وفيه دليل
[ 120 ]
على أن الحائض تسعى. ويؤيده قوله في حديث عائشة المذكور في الباب: افعلي ما يفعل الحاج الخ، ولكنه قد زاد ابن أبي شيبمن حديث ابن عمر الذي أشرنا إليه بعد قوله: إلا الطواف ما لفظه: وبين الصفا والمروة، وكذلك زاد هذه الزيادة الطبراني من حديثه. وقد قال الحافظ: إن إسناد ابن أبي شيبة صحيح. وقد ذهب الجمهور إلى أن الطهارة غير واجبة ولا شرط فالسعي، ولم يحك ابن المنذر القول بالوجوب إلا عن الحسن البصري. قال في الفتح: وقد حكى المجد بن تيمية من الحنابلة يعني المصنف رواية عندهم مثله. قوله: نفست بفتح النون وكسر الفاء الحيض، وبضم النون وفتحها الولادة، والطمث الحيض أيضا. قوله: حتى تطهري بفتح التاء والطاء المهملة وتشديد الهاء أيضا وهو على حذف أحد التاءين واصله تتطهري، والمراد بالطهارة الغسل كما وقع في رواية مسلم المذكور في الباب. (والحديث) ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل، والنهي يقتضي الفساد المرادف للبطلان، فيكون طواف الحائض باطلا وهو قول الجمهور، وذهب جمع من الكوفيين، إلى أن الطهارة غير شرط، وروي عن عطاء: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدا ثم حاضت أجزأ عنها. باب ذكر الله في الطواف عن عبد الله بن السائب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر: * (ربنا آتنا في الدنيا حسنوفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) * رواه أحمد وأبو داود وقال: بين الركنين وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وكل به يعني الركن اليماني سبعون ملكا فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) * قالوا آمين. وعن أبي هريرة: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من طاف بالبيت سبعا ولا يتكلم إلا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، محيت عنه عشر سيئات، وكتب له عشر حسنات، ورفع له بها عشر درجات رواهما ابن
[ 121 ]
ماجه. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لاقامه ذكر الله تعالى رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ولفظه: إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لاقامة ذكر الله تعالى. حديث عبد الله بن السائب أخرجه أيضا النسائي وصححه ابن حبان والحاكم. وحديث أبي هريرة الاول في إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال، وفي إسناده أيضا هشام ابن عمار وهو ثقة تغير بآخره. والحديث قد ذكره الحافظ في التلخيص. وحديثه الثاني ساقه ابن ماجه هو وحديثه الاول المذكور هنا بإسناد واحد، وفيه إسماعيل بن عياش وهشام بن عمار، وقد ذكره في التلخيص أيضا وقال: إسناده ضعيف. وحديث عائشة سكت عنه أبو داود، وذكر المنذري أن الترمذي قال: إنه حديث حسن صحيح. وفي الباب (عن ابن عباس) عند ابن ماجه والحاكم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو بهذا الدعاء بيد الركنين: اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه وأخلف علي كل غائبة لي بخير. وعن أبي هريرة عند البزار غير ما ذكره المصنف: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك والنفاق والشقاق وسوء الاخلاق وعن عبد الله بن السائب حديث آخر عند ابن عساكر من طريق ابن ناجية بسند له ضعيف: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في ابتداء طوافه: بسم الله والله أكبر اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد قال الحافظ: لم أجده هكذا. وقد ذكره صاحب المهذب من حديث جابر، وقد بيض له المنذري والنووي، ورواه الشافعي عن ابن أبي نجيح. قال: أخبرت أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا رسول الله كيف نقول إذا استلمنا؟ قال قولوا: بسم الله والله أكبر إيمانا بالله وتصديقا لما جاء به محمد قال في التلخيص: وهو في الام عن سعيد بن سالم عن ابن جريج. (وفي الباب) أيضا عن ابن عمر من حديثه: كان إذا استلم الحجر قال بسم الله والله أكبر وسنده صحيح. وورى العقيلي أيضا من حديثه: كان إذا أراد أن يستلم يقول: اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك واتباعا لسنة نبيك، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم يستلمه
[ 122 ]
رواه الواقدي في المغازي مرفوعا. وعن علي عند البيهقي والطبراني من طريق الحرث الاعور: أنه كان إذا مر بالحجر الاسود فرأى عليه زحاما استقبله وكبر ثم قال: اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك واتباعا لسنة نبيك وعن عمر عند أحمد وقد تقدم في باب ما جاء في استلام الحجر (وأحاديث الباب) تدل على مشروعية الدعاء بما اشتملت عليه في الطواف، وقد حكي في البحر عن الاكثر أنه لا دم على من ترك مسنونا. وعن الحسن البصري والثوري وابن الماجشون أنه يلزم. باب الطواف راكبا لعذر عن أم سلمة: أنها قدمت وهي مريضة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة رواه الجماعة إلا الترمذي. وعن جابر قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبيت وبالصفا والمروة في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه لان يراه الناس وليشرف ويسألوه فإن الناس غشوه رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن عائشة قالت: طاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع على بعيره يستلم الركن كراهية أن يصرف عنه الناس رواه مسلم. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته كلما أتى على الركن استلم الركن بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت وما قولك: صدقوا وكذبوا، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثروا عليه ركب، والمشي والسعي أفضل رواه أحمد ومسلم. حديث ابن عباس الاول في إسناده يزيد بن أبي زياد ولا يحتج به، وقال البيهقي في حديث يزيد بن أبي زياد لفظة لم يوافق عليها. وهي قوله: وهو يشتكي وقد
[ 123 ]
أنكره الشافعي وقال: لا أعلمه اشتكى في تلك الحجة. قوله: طوفي من وراء الناس هذا يقتضي منع طواف الراكب في المطاف. قال في الفتح: لا دليل في طوافه صلى الله عليه وآله وسلم راكبا على جواز الطواف راكبا بغير عذر، وكلام الفقهاء يقتضي الجواز، إلا أن المشي أولى والركوب مكروه تنزيها. قال: والذي يترجح المنع، لان طوافه صلى الله عليه وآله وسلم وكذا أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد، فإذا حوط امتنع داخله، إذ لا يؤمن التلويث فلا يجوز بعد التحويط، بخلاف ما قبله فإنه كان لا يحرم التلويث كما في السعي. قوله: لان يراه الناس الخ، فيه بيان العلة التي لاجلها طاف صلى الله عليه وآله وسلم راكبا، وكذلك قول عائشة كراهية أن يصرف الناس عنه. وفي رواية لمسلم: كراهية أن يضرب بالباء الموحدة. قال النووي: وكلاهما صحيح. وكذلك قول ابن عباس وهو يشتكي، وقد ترجم عليه البخاري فقال باب المريض: يطوف راكبا، وكأنه أشار إلى هذا الحديث. وكذلك قول ابن عباس في حديثه الآخر: فلما كثروا عليه، فإن هذه الالفاظ كلها مصرحة بأن طوافه صلى الله عليه وآله وسلم كان لعذر، فلا يلحق به من لا عذر له. وقد استدل أصحاب مالك وأحمد بطوافه صلى الله عليه وآله وسلم راكبا على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه قالوا: لانه لا يؤمن ذلك من البعير ولو كان نجسا لما عرض المسجد له، ويرد ذلك بوجوه: أما أولا فلانه لم يكن إذ ذاك قد حوط المسجد كما تقدم. وأما ثانيا، فلانه ليس من لازم الطواف على البعير أن يبول. وأما ثالثا فلانه يطهر منه المسجد، كما أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقر إدخال الصبيان الاطفال المسجد مع أنه لا يؤمن بولهم. وأما رابعا فلانه يحتمل أن تكون راحلته عصمت من التلويث حينئذ كرامة له. قوله: صدقوا وكذبوا الخ، لفظ أبي داود: قال صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وكذبوا؟ قال: صدقوا قد طاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفا والمروة على بعير، وكذبوا ليست بسنة. وحديث ابن عباس هذا يدل على جواز الطواف بين الصفا والمروة للراكب لعذر. قال ابن رسلان في شرح السنن بعد أن ذكر حديث ابن عباس هذا ما لفظه: وهذا الذي قاله ابن عباس مجمع عليه انتهى. يعني نفي كون الطواف بصفة الركوب سنة، بل الطواف من الماشي أفضل.
[ 124 ]
باب ركعتي الطواف والقراءة فيهما واستلام الركن بعدهما رواهما ابن عمر وابن عباس وقد سبق. وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما انتهى إلى مقام إبراهيم قرأ * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (سورة البقرة، الآية: 125) فصلى ركعتين فقرأ فاتحة الكتاب و * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) * ثم عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج إلى الصفا رواه أحمد ومسلم والنسائي وهذا لفظه. وقيل للزهري إن عطاء يقول: تجزي المكتوبة من ركعتي الطواف؟ فقال: السنة أفضل لم يطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسبوعا إلا صلى ركعتين أخرجه البخاري. حديث ابن عمر الذي أشار إليه المصنف تقدم في باب استلام الركن اليماني، وكذلك تقدم في باب ما جاء في استلام الحجر وحديث ابن عباس المشار إليه تقدم في مواضع منها باب استلام الحجر، وكذلك باب استلام الركن اليماني وفي باب الطواف راكبا. قوله: واتخذوا في الروايات بكسر الخاء على الامر وهي إحدى القراءتين، والاخرى بالفتح على الحبر والامر دال على الوجوب. قال في الفتح: لكن انعقد الاجماع على جواز الصلاة إلى جميع جهات الكعبة فدل على عدم التخصيص، وهذا بناء على أن المراد بمقام إبراهيم الذي فيه أثر قدميه وهو موجود الآن. وقال مجاهد: المراد بمقام إبراهيم الحرم كله والاول أصح. قوله: فقرأ فاتحة الكتاب الخ فيه استحباب القراءة بهاتين السورتين مع فاتحة الكتاب واستلام الركن بعد الفراغ. وقد اختلف في وجوب هاتين الركعتين، فذهب أبو حنيفة وهو مروي عن الشافعي في أحد قوليه إلى أنهما واجبتان، وبه قال الهادي والقاسم، واستدلوا بالآية المذكورة، وأجيب عن ذلك بأن الامر فيها إنما هو باتخاذ المصلى لا بالصلاة، وقد قال الحسن البصري وغيره: إن قوله مصلى أي قبلة، وقال مجاهد: أي مدعي يدعي عنده. قال الحافظ: ولا يصح حمله عن مكان الصلاة لانه لا يصلي فيه بل عنده. قال: ويترجح قول الحسن بأنه جار على المعنى الشرعي، واستدلوا ثانيا بالاحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى ركعتين بعد فراغه من الطواف ولازم ذلك، من جملتها
[ 125 ]
ما ذكره المصنف في الباب قالوا: وهي بيان مجمل واجب، فيكون ما اشتملت عليه واجبا. وقال مالك والشافعي في أحد قوليه والناصر أنهما سنة، لما تقدم في الصلاة من حديث ضمام بن ثعلبة لما قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أخبره بالصلوات الخمس هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، وقد أسلفنا في الصلاة الجواب عن هذا الدليل. قوله: إلا صلى ركعتين استدل به من قال: إنها لا تجزئ المكتوبة عن ركعتي الطواف، وتعقب بأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم إلا صلى ركعتين أعم من أن يكون ذلك نفلا أو فرضا لان الصبح ركعتان. باب السعي بين الصفا والمروة عن حبيبة بنت أبي تجراة. قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي تدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي. وعن صفية بنت شيبة: أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفا والمروة يقول: كتب عليكم السعي فاسعوا رواهما أحمد. الحديث الاول أخرجه الشافعي أيضا وغيره من حديث صفية بنت شيبة عن حبيبة، فلعل المرأة المبهمة في حديث صفية هي حبيبة وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف، وله طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة والطبراني عن ابن عباس. قال في الفتح: وإذا انضمت إلى الاولى قويت، قال: واختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها به، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة، فقد وقع عند الدار قطني عنها: أخبرتني نسوة من بني عبد الدار فلا يضره الاختلاف. وحديث صفية بنت شيبة قال في مجمع الزوائد: في إسناده موسى بن عبيدة وهو ضعيف، والعمدة في الوجوب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: خذوا عني مناسككم. قوله: تجراه قال في الفتح بكسر المثناة وسكون الجيم بعدها راء ثم ألف ساكنة ثم هاء
[ 126 ]
وهي إحدى نساء بني عبد الدار. قوله: تدور به إزاره في لفظ آخر: وإن مئزره ليدور من شدة السعي والضمير في قوله به يرجع إلى الركبتين أي تدور إزاره بركبتيه. قوله: فإن الله كتب عليكم السعي استدل به من قال: بأن السعي فرض وهم الجمهور، وعند الحنفية أنه واجب يجبر بالدم، وحكاه في البحر عن العترة، وبقال الثوري في الناسي خلاف العامد، وبه قال عطاء، وعنه أنه سنة لا يجب بتركه شئ، وبه قال أنس فيما نقله عنه ابن المنذر، واختلف عن أحمد كهذه الاقوال الثلاثة. وقد أغرب الطحاوي فقال: قد أجمع العلماء على أنه لو حج ولم يطف بالصفا والمروة أن حجه قدتم وعليه دم، والذي حكاه صاحب الفتح وغيره عن الجمهور أنه ركن لا يجبر بالدم ولا يتم الحج بدونه، وأغرب ابن العربي فحكى أن السعي ركن في العمرة بالاجماع وإنما الخلاف في الحج، وأغرب أيضا المهدي في البحر فحكى الاجماع على الوجوب. قال ابن المنذر: إن ثبت يعني حديث حبيبة فهو حجة في الوجوب. قال في الفتح: العمدة في الوجوب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: خذوا عني مناسككم قلت: وأظهر من هذا في الدلالة على الوجوب حديث مسلم: ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو رواه مسلم وأبو داود. وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طاف وسعى رمل ثلاثا ومشى أربعا ثم قرأ: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (سورة البقرة، الآية: 125) فصلى سجدتين وجعل المقام بينه وبين الكعبة، ثم استلم الركن ثم خرج فقال: إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدؤوا بما بدأ الله به رواه النسائي. وفي حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دنا من الصفا قرأ: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) * (سورة البقرة، الآية: 158) أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه
[ 127 ]
في بطن الوادي، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا رواه مسلم وكذلك أحمد والنسائي بمعناه. قوله: فعلا عليه استدل به من قال: بأن صعود الصفا واجب وهو أبو حفص بن الوكيل من أصحاب الشافعي، وخالفه غيره من الشافعية وغيرهم فقالوا: هو سنة، وقد تقدم أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم بيان لمجمل واجب. قوله: فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء فيه استحباب الحمد والدعاء على الصفا. قوله: طاف وسعى رمل ثلاثا فيه دليل على أنه يستحب أن يرمل في ثلاثة أشواط ويمشي في الباقي. قوله: واتخذوا الآية قد تقدم أن الروايات بكسر الخاء وهي إحدى القراءتين. قوله: إن الصفا والمروة من شعائر الله قال الجوهري: الشعائر أعمال الحج وكل ما جعل علما لطاعة الله. قوله: فابدؤوا بما بدأ الله به بصيغة الامر في رواية النسائي وصححه ابن حزم والنووي في شرح مسلم وله طرق عند الدارقطني، ورواه مسلم بلفظ: أبدأ بصيغة الخبر كما في الرواية المذكورة في الباب. ورواه أحمد ومالك وابن الجارود وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والنسائي أيضا نبدأ بالنون. قال أبو الفتح القشيري: مخرج الحديث عندهم واحد، وقد اجتمع مالك وسفيان ويحيى بن سعيد القطان على رواية نبدأ بالنون التي للجمع، قال الحافظ: وهم أحفظ من الباقين. وقد ذهب الجمهور إلى أن البداءة بالصفا والختم بالمروة شرط. وقال عطاء: يجزى الجاهل العكس، وذهب الاكثر إلى أن من الصفا إلى المروة شوط، ومنها إليه شوط آخر. وقال الصيرفي وابن خيران وابن جرير: بل من الصفا إلى الصفا شوط، ويدل على الاول ما في حديث جابر أنه صلى الله عليه وآله وسلم فرع من آخر سعيه بالمروة. قوله: لما دنا من الصفا قرأ الخ فيه دليل على أنها تستحب قراءة هذه الآية عند الدنو من الصفا، وأنه يستحب صعود الصفا واستقبال القبلة والتوحيد والتكبير والتهليل وتكرير الدعاء والذكر بين ذلك ثلا ث مرات. وقال جماعة من أصحاب الشافعي: يكرر الذكر ثلاثا والدعاء مرتين فقط. قال النووي: والصواب الاول. قوله: وهزم الاحزاب وحده معناه هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا سبب من جهتهم، والمراد بالاحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق، وكان الخندق في شوال سنة أربع من الهجرة وقيل سنة خمس. قوله: حتى انصبت قدماه في بطن
[ 128 ]
الوادي هكذا في جميع نسخ مسلم كما نقله القاضي، قال: وفيه إسقاط لفظة لا بد منها وهي: حتى انصبت قدماه رمل في بطن الوادي، فسقطت لفظة رمل ولا بد منها، وقد ثبتت هذه اللفظة في غير رواية مسلم، وكذا ذكرها الحميدي في الجمع بين الصحيحين. وفي الموطأ: حتى انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى خرج منه وهو بمعنى رمل، قال النووي: وقد وقع في بعض نسخ صحيح مسلم: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، كما وقع في الموطأ وغيره (وفي هذا الحديث) استحباب السعي في بطن الوادي حتى يصعد، ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه. وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع في هذا الموضع، والمشي مستحب فيما قبل الوادي وبعده، ولو مشى في الجميع أو سعى في الجميع أجزأه وفاتته الفضيلة. وبه قال الشافعي ومن وافقه وقال مالك فيمن ترك السعي الشديد في موضعه: تجب عليه الاعادة. وله رواية أخرى موافقة لقول الشافعي. قوله: إذا صعدنا بكسر العين. قوله: ففعل على المروة كما فعل على الصفا فيه دليل على أنه يستحب عليها ما يستحب على الصفا من الذكر والدعاء والصعود. باب النهي عن التحلل بعد السعي إلا للمتمتع إذا لم يسق هديا وبيان متى يتوجه المتمتع إلى منى ومتى يحرم بالحج عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج والعمرة، وأهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحج، فأما من أهل بالعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وأما من أهل بالحج أو بالحج والعمرة فلم يحلوا إلى يوم النحر. وعن جابر: أنه حج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال لهم: أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة، وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة، فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سميناه الحج؟ فقال: افعلوا ما أمرتكم ولكن لا يحل
[ 129 ]
مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ففعلوا متفق عليهما، وهو دليل على جواز الفسخ، وعلى وجوب السعي وأخذ الشعر للتحلل في العمرة. وعن جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، فأهللنا من الابطح رواه مسلم. قوله: وأهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تقدم استدلال من استدل بهذا، على أن حجه صلى الله عليه وآله وسلم كان إفرادا وتقدم الجواب عن ذلك. قوله: فأحلوا حين طافوا بالبيت فيه دليل المذهب الجمهور أن المعتمر لا يحل حتى يطوف ويسعى، قال ابن بطال: لا أعلم خلافا بين أئمة الفتوى أالمعتمر لا يحل حتى يطوف ويسعى إلا ما شذ به ابن عباس فقال: يحل من العمرة بالطواف ووافقه ابن راهويه، ونقل القاضي عياض عن بعض أهل العلم أن بعض الناس ذهب إلى أن المعتمر إذا دخل الحرم حل وإن لم يطف ولم يسع، وله أن يفعل كل ما حرم على المحرم، ويكون الطواف والسعي في حقه كالرمي والمبيت في حق الحاج، وهذا من شذوذ المذاهب وغريبها وغفل القطب الحلبي فقال فيمن استلم الركن في ابتداء الطواف وأحل حينئذ: أنه لا يحصل له التحلل بالاجماع. قوله: أحلوا من إحرامكم أي اجعلوا حجكم عمرة وتحللوا منها بالطواف والسعي. قوله: وقصروا أمرهم بالتقصير لانهم يهلون بعد قليل بالحج فأخر الحلق له، لان بين دخولهم وبين يوم التروية أربعة أيام فقط. قوله: متعة أي اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرة تحللوا منها فتصيروا متمتعين، فأطلق على العمرة أنها متعة مجازا والعلاقة بينهما ظاهرة. وفي رواية لمسلم: فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة ونحوه في رواية الباقر عن جابر وفي الحديث الطويل عند مسلم. قوله: قال افعلوا ما أمرتكم فيه بيان ما كان عليه صلى الله عليه وآله وسلم من لطفه بأصحابه وحلمه عنهم. قوله: لا يحل مني حرام بكسر الحاء من يحل والمعنى: لا يحمني ما حرم علي. ووقع في مسلم: لا يحل مني حرام بالنصب على المفعولية، وعلى هذا فيقرأ يحل بضم أوله والفاعل محذوف تقديره لا يحل طول المكث، أو نحو ذلك مني شيئا حراما حتى يبلغ الهدي محله أي إذا نحرته يوم منى، واستدل به على أن من اعتمر فساق هديا لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر. ومثله ما في البخاري من حديث عائشة بلفظ: من أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل
[ 130 ]
حتى ينحر وتأول ذلك المالكية والشافعية، على أن معناه: ومن أحرم بعمرة فأهدى فأهل بالحج فلا يحل حتى ينحر هديه، ولا يخفى ما فيه من التعسف. قوله: أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فيه دليل على أن من حل من إحرامه يحرم بالحج إذا توجه إلى منى. وعن معاوية قال: قصرت من رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند المروة بمشقص متفق عليه. ولفظ أحمد: أخذت من أطراف شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أيام العشر بمشقص وهو محرم. قوله: قصرت أي أخذت من شعر رأسه، وهو يشعر بأن ذلك كان في نسك إما في حج أو عمرة، وقد ثبت أنه حلق في حجته فتعين أن يكون في عمرة، ولا سيما وقد روى مسلم أن ذلك كان في المروة، وهذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة، ولكن قوله في الرواية الاخرى في أيام العشر يدل على أن ذلك كان في حجة الوداع لانه لم يحج غيرها وفيه نظر، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله، كما تقدم في الاحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرها، وقد بالغ النووي في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة الجعرانة، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع كان قارنا وثبت أنه حلق بمنى، وفرق أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع، لان معاوية لم يكن حينئذ مسلما، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان على الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع وزعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان متمتعا، لان هذا غلط فاحش، فقد تظافرت الاحاديث في مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل له: ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر قال الحافظ متعقبا لقوله لا يصح حمله على عمرة القضاء ما لفظه: قلت يمكن الجمع بينهما بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح. وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ آدمشق في ترجمة معاوية تصريحا بأنه أسلم بين الحديبية والقضية، وأنه كان يخفي إسلامه خوفا من أبويه، ولا يعارضه قول سعد المتقدم فعلناها يعني العمرة، وهذا يعني معاوية
[ 131 ]
كافر بالعروش لانه أخبر بما استصحبه من حاله، ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه ولا ينافيه أيضا ما رواه الحاكم في الاكليل أن الذي حلق رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة، لانه يمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولا وكان الحلاق غائبا في بعض حاجاته ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق لانه أفضل ففعل، ولا يعكر على كون ذلك في عمرة الجعرانة إلا رواية أحمد المذكورة في الباب أن ذلك كان في أيام العشر، إلا أنها كما قال ابن القيم معلولة أو وهم من معاوية، وقد قال قيس بن سعد راويها عن عطاء عن ابن عباس عنه: والناس ينكرون هذا على معاوية. قال ابن القيم: وصدق قيس فنحن نحلف بالله أن هذا ما كان في العشر قط. وقال في الفتح: إنها شاذة، قال: وأظن بعض رواتها حدث بها بالمعنى فوقع له ذلك انتهى. وأيضا قد ترك ابن الجوزي في جامع المسانيد رواية أحمد هذه، وقد ذكر أنه لم يترك فيه من مسند أحمد إلا ما لم يصح وقال بعضهم : يحتمل أن يكون في قول معاوية: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حذف تقديره: قصرت أنا شعري عن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعقب بأنه يرد ذلك قوله في رواية أحمد قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند المروة. وقال ابن حزم: يحتمل أن يكون معاوية قصر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقية شعر لم يكن الحلاق استوفاه يوم النحر، وتعقبه صاحب الهدي بأن الحالق لا يبقى شعرا يقصر منه، ولا سيما وقد قسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعره بين أصحابه الشعرة والشعرتين، وقد وافق النووي على ترجيح كون ذلك في عمرة الجعرانة، المحب الطبري وابن القيم، قال الحافظ: وفيه نظر لانه جاء أنه حلق في الجعرانة، ويجاب عنه بأن الجمع ممكن كما سلف. قوله: بمشقص بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف وآخره صاد مهملة قال القزاز: هو نصل عريض يرمى به الوحش، وقال صاحب المحكم: هو الطويل من النصال وليس بعريض، وكذا قال أبو عبيد. وعن ابن عمر: أنه كان يحب إذا استطاع أن يصلي الظهر بمنى من يوم التروية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر بمنى رواه أحمد. وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. ولاحمد في رواية: قال النبي صلى الله عليه وآله
[ 132 ]
وسلم بمنى خمس صلوات. وعن عبد العزيز بن رفيع قال: سألت أنسا فقلت: أخبرني بشئ عقلته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى، قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالابطح ثم قال: افعل كما يفعل أمراؤك متفق عليه. حديث ابن عمر أخرجه أيضا في الموطأ لكن موقوفا على ابن عمر، وحديث ابن عباس أخرجه أيضا الترمذي والحاكم. وأخرج ابن خزيمة والحاكم عن ابن الزبير قال: من سنة الحج أن يصلي الامام الظهر وما بعدها والفجر بمنى ثم يغدون إلى عرفة. قوله: من يوم التروية بفتح المثناة وسكون الراء وكسر الواو وتخفيف التحتانية، وإنما سمي بذلك لانهم كانوا يروون إبلهم فيه ويتروون من الماء، لان تلك الاماكن لم يكن فيها إذ ذاك آبار ولا عيون، وأما الآن فقد كثرت جدا واستغنوا عن حمل الماء. قوله: يوم النفر بفتح النون وسكون الفاء. والابطح البطحاء التي بين مكة ومنى وهي ما انبطح من الوادي واتسع، وهي التي يقال لها المحصب والمعرس. وحدها ما بين الجبلين إلى المقبرة. قوله: افعل كما يفعل أمراؤك لما بين له المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم خشي عليه أن يحرص على ذلك، فينسب إلى المخالفة أو تفوته الصلاة مع الجماعة، فأمره بأن يفعل كما يفعل أمراؤه، إذ كانوا لا يواظبون على صلاة الظهر ذلك اليوم بمكان معين، فأشار إلى أن الذي يفعلونه جائز وأن الاتباع أفضل. (وأحاديث الباب) تدل على أن السنة أن يصلي الحاج الظهر يوم التروية بمنى وهو قول الجمهور. وروى الثوري في جامعة عن عمرو بن دينار قال: رأيت ابن الزبير صلى الظهر يوم التروية بمكة، وقد تقدم عنه أن السنة أن يصليها بمنى فلعله صلى بمكة للضرورة أو لبيان الجواز. وروى ابن المنذر من طريق ابن عباس قال: إذا زاغت الشمس فليرح إلى منى، قال ابن المنذر أيضا بعد أن ذكر حديث ابن الزبير السابق: قال به علماء الامصار، قال: ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئا، ثم روي عن عائشة أنها لم تخرج من مكة يوم التروية حتى دخل الليل وذهب ثلثه، قال أيضا: والخروج إلى منى في كل وقت مباح، إلا أن الحسن وعطاء قالا: لا بأس أن يتقدم الحاج إلى منى قبل يوم التروية بيوم أو يومين، وكرهه مالك وكره الاقامة بمكة يوم التروية حتى يمسي إلا إن أدركه
[ 133 ]
وقت الجمعة، فعليه أن يصليها قبل أن يخرج، وفي الحديث الآخر أيضا متابعة أولي الامر والاحتراز عن مخالفة الجماعة. وفي حديث جابر قال: لما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تشك قريش أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوا فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا مختصر من مسلم. قوله: لما كان يوم التروية الخ، قد تقدم الكلام على هذا. قوله: وركب الخ، قال النووي: فيه بيان سنن. أحدها: أن الركوب في تلك المواضع أفضل من المشي، كما أنه في جملة الطريق أفضل من المشي، هذا هو الصحيح في الصورتين أن الركوب أفضل، وللشافعي قول آخر ضعيف أن المشي أفضل. وقال بعض أصحاب الشافعي: الافضل في جملة الحج الركوب إلا في مواطن المناسك وهي مكة ومنى ومزدلفة وعرفات والتردد بينها. السنة الثانية: أن يصلي بمنى هذه الصلوات الخمس. السنة الثالثة: أن يبيت بمنى هذه الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة، وهذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب، فلو تركه فلا دم عليه بالاجماع انتهى. قوله: ثم مكث قليلا الخ فيه دليل على أن السنة أن لا يخرجوا من منى حتى تطلع الشمس وهذا متفق عليه. قوله: وأمر بقبة فيه استحباب النزول بنمرة إذا ذهبوا من منى، لان السنة أن لا يدخلوا عرفات إلا بعد زوال الشمس وبعد صلاتي الظهر والعصر جميعا، فإذا زالت الشمس سار بهم الامام إلى مسجد إبراهيم وخطب بهم خطبتين خفيفتين وتخفف الثانية جدا، فإذا فرغ منهما صلى بهم الظهر والعصر جامعا، فإذا فرغوا من الصلاة ساروا إلى الموقف. قوله: بنمرة بفتح النون وكسر الميم ويجوز إسكان الميم، وهي موضع بجنب عرفات وليست من عرفات. قوله: ولا تشك قريش الخ يعني أن قريشا كانت تقف في الجاهلية بالمشعر الحرام
[ 134 ]
وهو جبل بالزدلفة يقال له قزح فظنوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيوافقهم. قوله: فأجاز أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها بل توجه إلى عرفات. قوله: أمر بالقصوا بفتح القاف والقصر ويجوز المد قال ابن الاعرابي: القصوا التي قطع أذنها والجدع أكبر منه. وقال أبو عبيد: القصوا المقطوعة الاذن عرضا وهو اسم لناقته صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: فرحلت بتخفيف الحاء المهملة أي جعل عليها الرحل. قوله: بطن الوادي هو وادي عرنة بضم العين وفتح الراء بعدها نون. قوله: فخطب الخ فيه استحباب الخطبة للامام بالحجيج يوم عرفة في هذا الموضع وهو سنة باتفاق جماهير العلماء وخالف في ذلك المالكية. قوله: إن دماءكم الخ قد تقدم شرح هذا في باب استحباب الخطبة يوم النحر من أبواب العيد. باب المسير من منى إلى عرفة والوقوف بها وأحكامه عن محمد بن أبي بكر بن عوف قال: سألت أنسا ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: كان يلبي الملبي فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه متفق عليه. وعن ابن عمر قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من منى حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة وهي منزل الامام الذي ينزل به بعرفة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهجرا فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف على الموقف من عرفة رواه أحمد وأبو داود. وعن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبلى طيئ، أكللت راحتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه رواه الخمسة وصححه الترمذي وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف. حديث ابن عمر في إسناده محمد بن إسحاق وفيه كلام معروف قد تقدم، ولكنه قد
[ 135 ]
صرح هنا بالتحديث، وبقية رجال إسناده ثقات، وحديث عروة بن مضرس أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والدارقطني، وصححه الحاكم والدارقطني والقاضي أبو بكر بن العربي على شرطهما. قوله: ونحن غاديان أي ذاهبان غدوة. قوله: كيف كنتم تصنعون أي من الذكر. وفي رواية لمسلم: ما يقول في التلبية في هذا اليوم. قوله: فلا ينكر عليه بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية للبخاري: لا يعيب أحدنا على صاحبه، والحديث يدل على التخيير بين التكبير والتلبية لتقريره صلى الله عليه وآله وسلم لهم على ذلك. قوله غدا بالغين المعجمة أي سار غدوة. قوله: حين صلى الصبح ظاهره أنه توجه من منى حين صلى الصبح بها، ولكن قد تقدم في حديث جابر المذكور في الباب الذي قبل هذا أنه كان بعد طلوع الشمس. قوله: وهي منزل الامام الخ، قال ابن الحاج المالكي: وهذا الموضع يقال له الاراك، قال الماوردي: يستحب أن ينزل بنمرة حيث نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عند الصخرة الساقطة بأصل الجبل على يمين الذاهب إلى عرفات. قوله راح أي بعد زوال الشمس. قوله: مهجرا بتشديد الجيم المكسورة، قال الجوهري: التهجير والتهجر السير في الهاجرة، والهاجرة نصف النهار عند اشتداد الحر، والتوجه وقت الهاجرة في ذلك اليوم سنة لما يلزم من تعجيل الصلاة ذلك اليوم، وقد أشار البخاري إلى هذا الحديث في صحيحه فقال باب التهجير بالرواح يوم عرفة أي من نمرة. قوله: فجمع بين الظهر والعصر قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الامام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وكذلك من صلى مع الامام، وذكر أصحاب الشافعي أنه لا يجوز الجمع إلا لمن بينه وبين وطنه ستة عشر فرسخا إلحاقا له بالقصر، قال: وليس بصحيح فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع فجمع معه من حضره من المكيين وغيرهم، ولم يأمرهم بترك الجمع كما أمرهم بترك القصر فقال: أتموا فإنا سفر، ولو حرم الجمع لبينه لهم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، قال: ولم يبلغنا عن أحد من المتقدمين خلاف في الجمع بعرفة والمزدلفة، بل وافق عليه من لا يرى الجمع في غيره. قوله: ثم خطب الناس فيه دليل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم خطب بعد الصلاة. قوله: ابن مضرس بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء المكسورة ثم سين مهملة. قوله: ابن لام هو بوزن جام. قوله: من جبلي طيئ هما جبل سلمى وجبل أجا، قاله المنذري. وطيئ
[ 136 ]
بفتح الطاء وتشديد الياء بعدها همزة. قوله: أكللت أي أعييت. قوله: من جبل بفتح الحاء المهملة وإسكان الموحدة أحد جبال الرمل وهو ما اجتمع فاستطال وارتفع، قاله الجوهري. قوله: صلاتنا هذه يعني صلاة الفجر. قوله: ليلا أو نهارا فقد تم حجه تمسك بهذا أحمد بن حنبل فقال: وقت الوقوف لا يختص بما بعد الزوال، بل وقته ما بين طلوع الفجر يوم عرفة وطلوعه يوم العيد، لان لفظ الليل والنهار مطلقان. وأجاب الجمهور عن الحديث بأن المراد بالنهار ما بعد الزوال بدليل أنه صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال، ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله، فكأنهم جعلوا هذا الفعل مقيدا لذلك المطلق ولا يخفى ما فيه. قوله: وقضى تفثه قيل: المراد به أنه أتى بما عليه من المناسك، والمشهور أن التفث ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر أو حلقه وحلق العانة ونتف الابط وغيره من خصال الفطرة، ويدخل في ضمن ذلك نحر البدن وقضاء جميع المناسك لانه لا يقضي النفث إلا بعد ذلك، وأصل التفث الوسخ والقذر. وعن عبد الرحمن بن يعمر: أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديا ينادي الحج عرفة: من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، وأردف رجلا ينادي بهن رواه الخمسة. وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: نحرت ههنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم، ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ههنا وجمع كلها موقف رواه أحمد ومسلم وأبو داود. ولابن ماجه وأحمد أيضا نحوه وفيه: وكل فجاج مكة طريق ومنحر. حديث عبد الرحمن بن يعمر أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي. قوله: فسألوه أي قالوا: كيف حج من لم يدرك يوم عرفة كما بوب عليه البخاري. قوله: الحج عرفة أي الحج الصحيح حج من أدرك يوم عرفة، قال الترمذي: قال سفيان الثوري: والعمل على حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم أن من لم يقف بعرفات قبل الفجر فقد فاته الحج، ولا يجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر ويجعلها عمرة وعليه الحج من قابل،
[ 137 ]
وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما. قوله: من جاء ليلة جمع أي ليلة المبيت بالمزدلفة، وظاهره أنه يكفي الوقوف في جزء من أرض عرفة ولو في لحظة لطيفة في هذا الوقت، وبه قال الجمهور. وحكى النووي قولا إنه لا يكفي الوقوف ليلا، ومن اقتصر عليه فقد فاته الحج، والاحاديث الصحيحة ترده. قوله: أيام منى مرفوع على الابتداء، وخبره قوله ثلاثة أيام وهي: الايام المعدودات، وأيام التشريق، وأيام رمي الجمار، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر وليس يوم النحر منها لاجماع الناس، على أنه لا يجوز النفر يوم ثاني النحر، ولو كان يوم النحر من الثلاث لجاز أن ينفر من شاء في ثانيه. قوله: فمن تعجل في يومين أي من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه في تعجيله، ومن تأخر عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخيره. وقيل المعنى: ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع العامة فلا إثم عليه، والتخيير ههنا وقع بين الفاضل والافضل لان المتأخر أفضل فإن قيل: إنما يخاف الاثم المتعجل فما بال المتأخر الذي أتى بالافضل ألحق به؟ فالجواب أن المراد من عمل بالرخصة وتعجل فلا إثم عليه في العمل بالرخصة، ومن ترك الرخصة وتأخر فلا إثم عليه في ترك الرخصة، وذهب بعضهم إلى أن المراد وضع الاثم عن المتعجل دون المتأخر، ولكن ذكرا معا والمراد أحدهما. قوله: ينادي بهن أي بهذه الكلمات. قوله: نحرت ههنا ومنى كلها منحر يعني كل بقعة منها يصح النحر فيها وهو متفق عليه، لكن الافضل النحر في المكان الذي نحر فيه صلى الله عليه وآله وسلم، كذا قال الشافعي. ومنحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو عند الجمرة الاولى التي تلي مسجد منى، كذا قال ابن التين. وحد منى من وادي محسر إلى العقبة. قوله: في رحالكم المراد بالرحال المنازل، قال أهل اللغة: رحل الرجل منزله سواء كان من حجر أو مدر أو شعر أو وبر. قوله: ووقفت ههنا يعني عند الصخرات، وعرفة كلها موقف يصح الوقوف فيها (وقد أجمع العلماء) على أن من وقف في أي جزء كان من عرفات صح وقوفه ولها أربعة حدود. حد إلى جادة طريق المشرق. والثاني إلى حافات الجبل الذي وراء أرضها. والثالث إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار مستقبل الكعبة. والرابع وادي عرنة بضم العين وبالنون وليست هي ولا نمرة من عرفات ولا من الحرم. قوله: وجمع كلها موقف
[ 138 ]
وجمع بإسكان الميم هي المزدلفة كما تقدم، وفيه دليل على أنها كلها موقف. كما أن عرفات كلها موقف. قوله: وكل فجاج مكة طريق الفجاج بكسر الفاء جمع فج وهو الطريق الواسعة، والمراد أنها طريق من سائر الجهات والاقطار التي يقصدها الناس للزيارة والاتيان إليها من كل طريق واسع وهذا متفق عليه، ولكن الافضل الدخول إليها من الثنية العليا التي دخل منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم، وهذه الزيادة رواها أبو داود كما رواها أحمد وابن ماجه. وعن أسامة بن زيد قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرفات فرفع يديه يدعو فمالت به ناقته فسقط خطامها فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الاخرى رواه النسائي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شئ قدير رواه أحمد والترمذي ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. حديث أسامة إسناده في سنن النسائي هكذا: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم عن هشيم، حدثنا عبد الملك عن عطاء قال: قال أسامة فذكره، وهؤلاء كلهم رجال الصحيح، وعبد الملك هو ابن عبد العزيز المعروف بابن جريج. وحديث عمرو بن شعيب في إسناده حماد ابن أبي حميد وهو ضعيف (وفي الباب) عن ابن عمر بنحوه عند العقيلي في الضعفاء، وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف، وقال البخاري: منكر الحديث. وعن علي عليه السلام عند الطبراني في المناسك بنحوه وفي إسناده قيس بن الربيع، وأخرجه البيهقي عنه بزيادة: اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، وتفرد به عن أخيه عبد الله عن علي عليه السلام، قال البيهقي: ولم يدرك عبد الله عليا. وعن طلحة بن عبد الله بن كريز بفتح الكاف وآخره زاي عند مالك في الموطأ مرسلا، ورواه البيهقي عن مالك موصولا وضعفه، وكذا ابن عبد البر في التمهيد. قوله: فرفع يديه فيه دليل على أن عرفة من المواطن التي يشرع فيها
[ 139 ]
رفع اليدين عند الدعاء، فيخصص به عموم حديث أنس المتقدم في صلاة الاستسقاء. قوله: وهو رافع يده الاخرى فيه دليل على أن رفع إحدى اليدين عند الدعاء إذا منع من رفع الاخرى عذر لا بأس به. قوله: دعاء يوم عرفة رجح المزي جر دعاء ليكون قوله: لا إله إلا الله خبرا لخير الدعاء ولخير ما قلت أنا والنبيون. ويؤيده ما وقع في الموطأ من حديث طلحة بلفظ: أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وما وقع عند العقيلي من حديث ابن عمر بلفظ: أفضل دعائي ودعاء الانبياء قبلي عشية عرفة لا إله إلا الله (وأحاديث) الباب تدل على مشروعية الاستكثار من هذا الدعاء يوم عرفة، وأنه خير ما يقال في ذلك اليوم. وعن سالم بن عبد الله: أن عبد الله بن عمر جاء إلى الحجاج بن يوسف يوم عرفة حين زالت الشمس وأنا معه فقال: الرواح إن كنت تريد السنة، فقال: هذه الساعة؟ قال: نعم، قال سالم: فقلت للحجاج: إن كنت تريد تصيب السنة فاقصر الخطبة وعجل الصلاة، فقال عبد الله بن عمر صدق رواه البخاري والنسائي. وعن جابر قال: راح النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الموقف بعرفة، فخطب الناس الخطبة الاولى ثم أذن بلال ثم أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة وبلال من الاذان، ثم أقام بلال فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر رواه الشافعي. حديث جابر أخرجه أيضا البيهقي وقال: تفرد به إبراهيم بن أبي يحيى. وفي حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم ما يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم خطب ثم أذن بلال ليس فيه ذكر أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الخطبة الثانية وهو أصح، ويترجح بأمر معقول هو أن المؤذن قد أمر بالانصات للخطبة فكيف يؤذن ولا يستمع الخطبة؟ قال المحب الطبري: وذكر الملافي سيرته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما فرغ من خطبته أذن بلال وسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما فرغ بلال من الاذان تكلم بكلمات ثم أناخ راحلته وأقام بلال الصلاة، وهذا أولى مما ذكره الشافعي، إذ لا يفوت به سماع الخطبة من المؤذن. قوله: فاقصر الخطبة الخ، قال ابن عبد البر: هذا الحديث يدخل عندهم في المسند، لان المراد بالسنة سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أطلقت ما لم تضف
[ 140 ]
إلى صاحبها كسنة العمرين انتهى. والكلام على ذلك مستوفى في الاصول. وقد تقدم حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يروح عند صلاة الظهر وقدمنا أن ظاهره يخالف حديث جابر الطويل عند مسلم أن توجهه صلى الله عليه وآله وسلم من نمرة كان حين زاغت الشمس، والمصنف رحمه الله تعالى اختصر هذه القصة الواقعة بين ابن عمر والحجاج، وهي في البخاري أطول من هذا المقدار وكذلك في سنن النسائي. باب الدفع إلى مزدلفة ثم منها إلى منى وما يتعلق بذلك عن أسامة بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أفاض من عرفات كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص متفق عليه. وعن الفضل بن عباس وكان رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: عليكم السكينة وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا وهو من منى وقال: عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة رواه أحمد ومسلم. وفي حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصوا حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر رواه مسلم. قوله: العنق بفتح المهملة والنون وهو السير الذي بين الابطاء والاسراع. وفي المشارق أنه سير سهل في سرعة. وقال القزاز: هو سير سريع. وفي القاموس: هو الخطو الفسيح وانتصب العنق على المصدر المؤكد للفظ الفعل. قوله: فجوة بفتح الفاء وسكون الجيم المكان المتسع. قوله: نص بفتح النون وتشديد المهملة أي
[ 141 ]
اسرع، قال ابن عبد البر: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى مزدلفة لاجل الاستعجال للصلاة، لان المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الزحمة، ومن الاسراع عند عدم الزحام. قوله: وهو كاف ناقته الخ، هذا محمول على حال الزحام دون غيره بدليل حديث أسامة المتقدم. وكذلك يحمل حديث ابن عباس عن أسامة عند أبي داود وغيره: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أردفه حين أفاض من عرفة وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة إن البر ليس بالايجاف، قال: فما رأيت ناقته رافعة يدها حتى أتى جمعا وقد حمله على مثل ما ذكر ابن خزيمة. قوله: الخذف بخاء معجمة مفتوحة وذال معجمة ساكنة ثم فاء. قال العلماء: حصى الخذف كقدر حبة الباقلا. قوله: فصلى بها المغرب والعشاء استدل به على جمع التأخير بمزدلفة. قال في الفتح: وهو إجماع لكنه عند الشافعية وطائفة بسبب السفر انتهى. وقد قدمنا الجواب عن هذا. قوله: ولم يسبح بينهما أي لم يتنفل، وقد نقل ابن المنذر الاجماع على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة قال: لانهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع انتهى. ويشكل على ذلك ما في البخاري عن ابن مسعود أنه صلى بعد المغرب ركعتين ثم دعا بعشائه فتعشى ثم صلى العشاء. قوله: القصوا قد تقدم ضبطها. قوله: فاستقبل القبلة الخ، فيه استحباب استقبال القبلة بالمشعر الحرام والدعاء والتكبير والتهليل والتوحيد والوقوف به إلى الاسفار والدفع منه قبل طلوع الشمس، وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم مجاهد وقتادة والزهري والنووي إلى أن من لم يقف بالمشعر فقد ضيع نسكا وعليه دم، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وروي عن عطاء والاوزاعي أنه لا دم عليه، وإنما هو منزل من شاء نزل به ومن شاء لم ينزل به. وذهب ابن بنت الشافعي وابن خزيمة إلى أن الوقوف به ركن لا يتم الحج إلا به، وأشار ابن المنذر إلى ترجيحه، وروي عن علقمة والنخعي، واحتج الطحاوي بأن الله عزوجل لم يذكر الوقوف وإنما قال: * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * (سورة البقرة، الآية: 198) وقد أجمعوا على أن من وقف بها بغير ذكر أن حجه تام، فإذا كان الذكر المذكور في القرآن ليس من تمام الحج فالموطن الذي يكون فيه الذكر أحرى أن لا يكون فرضا. قوله: حتى أسفر جدا بكسر الجيم
[ 142 ]
أي أسفارا بليغا، وهذا يرد على ما ذهب إليه مالك من أن الدفع قبل الاسفار. قوله: محسر الخ بكسر السين المهملة قبلها حاء مهملة وليس هو من مزدلفة ولا منى بل هو مسيل بينهما، وقيل: إنه من منى، وفيه دليل على أنه يستحب لمن بلغ وادي محسر إن كان راكبا أن يحرك دابته، وإن كان ماشيا أسرع في مشيه. قوله: فرماها الخ، سيأتي الكلام على الرمي. وعن عمر قال: كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس رواه الجماعة إلا مسلما، لكن في رواية أحمد وابن ماجه: أشرق ثبير كيما نغير. قوله: لا يفيضون بضم أوله أي من المزدلفة. قوله: أشرق بفتح الهمزة فعل أمر من الاشراق أي أدخل في الشروق، وظن بعضهم أنه ثلاثي فضبطه بكسر الهمزة من شرق وليس بواضح، والمعنى: لتطلع عليك الشمس. قوله: ثبير بفتح المثلثة وكسر الموحدة وسكون التحتية بعدها راء مهملة، وهو جبل معروف بمكة وهو أعظم جبالها. قوله: فأفاض قبل طلوع الشمس الافاضة الدفعة كما قال الاصمعي. ولفظ أبي داود: فدفع قبل طلوع الشمس. قوله: كيما نغير قال الطبري: معناه كيما ندفع وهو من قولهم: أغار الفرس إذا أسرع (والحديث) فيه مشروعية الدفع من الموقف بالمزدلفة قبل طلوع الشمس عند الاسفار، وقد نقل الطبري الاجماع، على أن من لم يقف فيها حتى طلعت الشمس فاته الوقوف. قال ابن المنذر: وكان الشافعي وجمهور أهل العلم يقولون بظاهر هذا الحديث وما ورد في معناه، وكان مالك يرى أن يدفع قبل الاسفار وهو مردود بالنصوص. وعن عائشة: قالت: كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تفيض من جمع بليل فأذن لها متفق عليه. وعن ابن عباس قال: أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله رواه الجماعة. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن لضعفة الناس من المزدلفة بليل رواه أحمد. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوضع في واد محسر وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الحذف رواه الخمسة وصححه الترمذي.
[ 143 ]
قوله: ثبطة بفتح المثلثة وكسر الموحدة بعدها مهملة خفيفة أي بطيئة الحركة لعظم جسمها. قوله: في ضعفة أهله الضعفة بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة جمع ضعيف وهم النساء والصبيان والخدم. قوله: أوضع أي أسرع السير بإبله، يقال: وضع البعير وأوضعه راكبه أي أسرع به السير. قوله: بمثل حصى الخذف تقدم ضبطه وتفسيره وحديث عائشة وابن عباس وابن عمر فيها دليل على جواز الافاضة قبل طلوع الشمس، وفي بقية جزء من الليل لمن كان من الضعفة. وحديث جابر يدل على أنه يشرع الاسراع بالمشي في وادي محسر. قال الازرقي: وهو خمسمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعا، وإنما شرع الاسراع فيه لان العرب كانوا يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم فاستحب الشارع مخالفتهم. وحكى الرافعي وجها ضعيف أنه لا يستحب الاسراع للماشي. باب رمي جمرة العقبة يوم النحر وأحكامه عن جابر قال: رمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذ زالت الشمس أخرجه الجماعة. وعن جابر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن ابن مسعود: أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة متفق عليه. ولمسلم في رواية جمرة العقبة. وفي رواية لاحمد: أنه انتهى إلى جمرة العقبة فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات وهو راكب يكبر مع كل حصاة وقال: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا، ثم قال: ههنا كان يقوم الذي أنزلت عليه سورة البقرة. قوله: الجمرة يعني جمرة العقبة. قوله: يوم النحر ضحى لا خلاف أن هذا الوقت هو الاحسن لرميها، واختلف فيمن رماها قبل الفجر فقال الشافعي: يجوز تقديمه من نصف الليل، وبه قال عطاء وطاوس والشعبي، وقالت الحنفية وأحمد وإسحاق والجمهور: أنه لا يرمى جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، ومن رمى قبل طلوع الشمس
[ 144 ]
وبعد طلوع الفجر جاز، وإن رماها قبل الفجر أعاد وحكى المهدي في البحر عن العترة والشافعي أن وقت الرمي من ضحى يوم النحر، واستدل القائلون بأن وقت الرمي من وقت الضحى بحديث الباب وبحديث ابن عباس الآتي، قالوا: وإذا كان من رخص له النبي صلى الله عليه وآله وسلم منعه أن يرمي قبل طلوع الشمس فمن لم يرخص له أولى. (واحتج المجوزون) للرمي قبل الفجر بحديث أسماء الآتي، ولكنه مختص بالنساء كما سيأتي، ولا حاجة إلى الجمع بينه وبين حديث ابن عباس، بحمل حديث ابن عباس على الندب كما ذكره صاحب الفتح. قال ابن المنذر: السنة أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر لان فاعله مخالف للسنة، ومن رماها حينئذ فلا إعادة عليه، إذ لا أعلم أحدا قال لا يجزئه انتهى. والادلة تدل على أن وقت الرمي من بعد طلوع الشمس لمن كان لا رخصة له، ومن كان له رخصة كالنساء وغيرهن من الضعفة جاز قبل ذلك، ولكنه لا يجزئ في أول ليلة النحر إجماعا، وسيأتي بقية الكلام على هذا. (واعلم) أنه قد قيل: إن الرمي واجب بالاجماع كما حكي ذلك في البحر، واقتصر صاحب الفتح على حكاية الوجوب عن الجمهور وقال: إنه عند المالكية سنة، وحكي عنهم أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه. وحكي ابن جرير عن عائشة وغيرها أن الرمي إنما شرع حفظا للتكبير، فإن تركه وكبر أجزأه، والحق أنه واجب لما قدمنا من أن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم بيان لمجمل واجب وهو قوله تعالى * (ولله على الناس حج البيت) * (سورة آل عمران، الآية: 97) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: خذوا عني مناسككم. قوله: على راحلته استدل به على أن رمي الراكب لجمرة العقبة أفضل من رمي الراجل، وبه قالت الشافعية والحنفية والناصر والامام يحيى. وقال: الهادي والقاسم: إن رمي الراجل أفضل، وأجابوا عن الحديث بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان راكبا لعذر الازدحام. قوله: لتأخذوا بكسر اللام، قال النووي: هي لام الامر ومعناه خذوا مناسككم، قال: وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقدير الحديث أن هذه الامور التي أتيت بها في حجتي من الاقوال والافعال والهيئات هي أمور الحج وصفته، والمعنى: اقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس. قال النووي وغيره: هذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج، وهو نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة: صلوا كما رأيتموني أصلي قال القرطبي: ويلزم من هذين الاصلين أن
[ 145 ]
الاصل في أفعال الصلاة والحج الوجوب إلا ما خرج بدليل، كما ذهب إليه أهل الظاهر وحكي عن الشافعي انتهى. وقد قدمنا في الصلاة أن مرجع واجباتها إلى حديث المسئ فلا يجب غير ما اشتمل عليه إلا بدليل يخصه، وقدمنا أن أفعال الحج وأقواله الظاهر فيها الوجوب إلا ما خرج بدليل كما قالت الظاهرية وهو الحق. قال القرطبي: روايتنا لهذا الحديث بلام الجر المفتوحة والنون التي هي مع الالف ضمير، أي يقول لنا: خذوا مناسككم فيكون قوله لنا صلة للقول، قال: هو الافصح. وقد روي: لتأخذوا مناسككم بكسر اللام للامر وبالتاء المثناة من فوق وهي لغة شاذة قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى * (فبذلك فليفرحوا) * (سورة يونس، الآية: 58) انتهى والاولى أن يقال: إنها قليلة لا شاذة، لورودها في كتاب الله تعالى وفي كلام نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي كلام فصحاء العرب، وقد قرأ بها عثمان بن عفان وأبي وأنس والحسن وأبو رجاء وابن هرمز وابن سيرين وأبو جعفر المدني والسلمي وقتادة والجحدري وهلال بن يساف والاعمش وعمرو بن فائد العباس بن الفضل الانصاري. قال صاحب اللوامح: وقد جاء عن يعقوب كذلك قال ابن عطية: وقرأ بها ابن القعقاع وابن عامر وهي قراءة جماعة من المسلمين كثيرة، وما نقله ابن عطية عن ابن عامر هو خلاف قراءته المشهورة. قوله لعلي: لا أحج بعد حجتي هذه فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا سميت حجة الوداع. قوله: إلى الجمرة الكبرى هي جمرة العقبة. قوله: فجعل البيت عن يساره فيه أنه يستحب لمن وقف عند الجمرة أن يجعل مكة عن يساره. قوله: ومنى عن يمينه فيه أنه يستحب أن يجعل منى على جهة يمينه ويستقبل الجمرة بوجهه. قوله: ورمى بسبع فيه دليل على أن رمي الجمرة يكون بسبع حصيات، وهو يرد قول ابن عمر: ما أبالي رميت الجمرة بست أو بسبع، وسيأتي في باب المبيت بمنى متمسك لقوله. وروي عن مجاهد أنه لا شئ على من رمى بست. وعن طاوس يتصدق بشئ وعن مالك والاوزاعي: من رمى بأقل من سبع وفاته التدارك يجبره بدم. وعن الشافعية في ترك حصاة مد، وفي ترك حصاتين مدان، وفي ثلاثة فأكثر دم. وعن الحنفية: أن ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث فنصف صاع وإلا فدم. قوله: سورة البقرة خصها بالذكر لان معظم أحكام الحج فيها. قوله: يكبر مع كل حصاة فيه استحباب التكبير مع كل حصاة، وقد استدل بهذا على اشتراط رمي الجمرات بواحدة بعد واحدة
[ 146 ]
من الحصى لان التكبير مع كل حصاة يدل على ذلك. وروي عن عطاء أنه يجزئ ويكبر لكل حصاة تكبيرة. وقال الاصم: يجزئ مطلقا. وقال الحسن البصري: يجزئ الجاهل فقط. وقال الناصر والحنفية والشافعية: يجزئ عن واحدة مطلقا. وقالت الهادوية: لا يجزئ بل يستأنف. قوله: وقال اللهم الخ فيه استحباب هذا الدعاء مع التكبير. قال في الفتح: وأجمعوا على أن من لم يكبر لا شئ عليه انتهى. وعن ابن عباس قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبيني لا ترموا حتى تطلع الشمس رواه الخمسة وصححه الترمذي ولفظه: قدم ضعفة أهله وقال: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس. وعن عائشة قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني عندها رواه أبو داود. وعن عبد الله مولى أسماء عن أسماء: أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن للظعن متفق عليه. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر رواه أحمد. حديث ابن عباس الاول أخرجه أيضا الطحاوي وابن حبان وصححه، وحسنه الحافظ في الفتح وله طرق. وحديث عائشة أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي ورجاله رجال الصحيح. وحديث ابن عباس الثاني أخرجه أيضا النسائي والطحاوي ولفظه: بعثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أهله وأمرني أن أرمي مع الفجر وهو في الصحيحين بلفظ: كنت فيمن قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى. قوله: أغيلمة منصوب على الاختصاص أو على الندب، قال في النهاية: تصغير أغلمة بسكون الغين وكسر اللام جمع غلام وهو جائز في القياس، ولم
[ 147 ]
يرد في جمع الغلام أغلمة، وإنما ورد غلمة بكسر الغين، والمراد بالاغيلمة الصبيان ولذلك صغرهم. قوله: على حمرات بضم الحاء المهملة والميم جمع لحمر، وحمر جمع لحمار. قوله: فجعل يلطح بفتح الياء التحتية والطاء المهملة وبعدها حاء مهملة. قال الجوهري: اللطح الضرب اللين على الظهر ببطن الكف انتهى. وإنما فعل ذلك ملاطفة لهم. قوله: أبيني بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وسكون ياء التصغير وبعدها نون مكسورة ثم ياء النسب المشددة، كذا قال ابن رسلان في شرح السنن. وقال في النهاية: الا بيني بوزن الاعيمي تصغير الابنا بوزن الاعمى وهو جمع ابن. قوله: حتى تطلع الشمس استدل بهذا من قال: إن وقت رمي جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس، وقد تقدم الكلام على ذلك. وأما وقت رمي غيرها فسيأتي في باب المبيت بمنى. قوله: قبل الفجر هذا مختص بالنساء كما أسلفنا، فلا يصلح للتمسك به على جواز الرمي لغيرهن من هذا الوقت لورود الادلة القاضية بخلاف ذلك كما تقدم، ولكنه يجوز لمن بعث معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن كما في حديث أسماء وحديث ابن عباس الآخر. قوله: فأفاضت أي ذهبت لطواف الافاضة ثم رجعت إلى منى. قوله: يعني هو من تفسير أبي داود. قوله: عندها يعني عند أم سلمة أي في نوبتها من القسم. قوله: فارتحلوا في رواية مسلم: فارحل بي. قوله: يا هنتاه بفتح الهاء والنون وقد تسكن النون بعدها مثناة فوقية وآخرها هاء ساكنة، هذا اللفظ كناية عن شئ لا تذكره باسمه وهو بمعنى يا هذه. قوله: ما أرانا بضم الهمزة بمعنى الظن، وفي رواية مسلم: لقد غلسنا بالجزم، وفي رواية الموطأ: لقد جئنا بغلس وفي رواية أبي داود: إنا رمينا الجمرة بليل وغلسنا. قوله: أذن للظعن بضم الظاء المعجمة جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ثم أطلق على المرأة مطلقا. (وفي هذا الحديث) دليل على أنه يجوز للنساء الرمي لجمرة العقبة في النصف الاخير من الليل، وقد تقدم الخلاف في ذلك، واستدل به على إسقاط المرور بالمشعر عن الظعينة ولا دلالة فيه على ذلك، لان غاية ما فيه السكوت عن المرور بالمشعر، وقد ثبت في البخاري وغيره عن ابن عمر أنه كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، ثم يقدمون منى لصلاة الفجر ويرمون. قوله: مع الفجر فيه دليل على أنه يجوز للنساء ومن معهن من الضعفة الرمي وقت الفجر كما تقدم.
[ 148 ]
باب النحر والحلاق والتقصير وما يباح عندهما عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الايمن ثم الايسر ثم جعل يعطيه الناس رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله وللمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين؟ قال: وللمقصرين متفق عليه. قوله: إلى جانبه الايمن فيه استحباب البداءة في حلق الرأس بالشق الايمن من رأس المحلوق وهو مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: يبدأ بجانبه الايسر لانه على يمين الحالق والحديث يرد عليه. والظاهر أن هذا الخلاف يأتي في قص الشارب. قوله: ثم جعل يعطيه الناس فيه مشروعية التبرك بشعر أهل الفضل ونحوه، وفيه دليل على طهارة شعر الآدمي وبه قال الجمهور. وقد تقدم الكلام على ذلك في أبواب الطهارة. قوله: اللهم اغفر للمحلقين لفظ أبي داود: ارحم كذا في رواية البخاري، وفيه دليل على الترحم على الحي وعدم اختصاصه بالميت. قوله: وللمقصرين هو عطف على محذوف تقديره قل وللمقصرين ويسمى عطف التلقين (والحديث) يدل على أن الحلق أفضل من التقصير لتكريره صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء للمحلقين وترك الدعاء للمقصرين في المرة الاولى والثانية مع سؤالهم له ذلك، وظاهر صيغة المحلقين أنه يشرع حلق جميع الرأس لانه الذي تقتضيه الصيغة إذ لا يقال لمن حلق بعض رأسه أنه حلقه إلا مجازا، وقد قال بوجوب حلق الجميع أحمد ومالك، واستحبه الكوفيون والشافعي، ويجزئ البعض عندهم، واختلفوا في مقداره، فمن الحنفية الربع، إلا أن أبا يوسف قال النصف، وعن الشافعي أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة، وهكذا الخلاف في التقصير (وقد اختلف) أهل العلم في الحلق هل هو نسك أو تحليل محظور؟ فذهب إلى الاول الجمهور، وإلى الثاني عطاء وأبو يوسف، ورواية عن أحمد وبعض المالكية،
[ 149 ]
والشافعي في رواية عنه ضعيفة، وخرجه أبو طالب للهادي والقاسم وقد اختلف أيضا في الوقت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا القول فقيل: إنه كان يوم الحديبية، وقيل: في حجة الوداع، وقد دلت على الاول أحاديث، وعلى الثاني أحاديث أخر، وقيل: إنه كان في الموضعين أشار إلى ذلك النووي، وبه قال ابن دقيق العيد. قال الحافظ: وهو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين وهذا هو الراجح، لان الروايات القاضية بأن ذلك كان في الحديبية لا تنافي الروايات القاضية بأن ذلك كان في حجة الوداع، وكذلك العكس، فيتوجه العمل بها في جميعها والجزم بما دلت عليه، وقد أطال صاحب الفتح الكلام في تعيين وقت هذا القول، فمن أحب الاحاطة بجميع ذيول هذا البحث فليرجع إليه. وعن ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبد رأسه وأهدى، فلما قدم مكة أمر نساءه أن يحللن، قلن: ما لك أنت لم تحل؟ قال: إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أحل من حجتي وأحلق رأسي رواه أحمد، وهو دليل على وجوب الحلق. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس على النساء الحلق إنما على النساء التقصير رواه أبو داود والدارقطني. حديث ابن عمر هو في البخاري عنه عن حفصة ولكن ليس فيه: وأحلق رأسي وحديث ابن عباس أخرجه أيضا الطبراني، وقد قوى إسناده البخاري في التاريخ وأبو حاتم في العلل، وحسنه الحافظ، وأعله ابن القطان، ورد عليه ابن المواق فأصاب (وقد استدل) بحديث ابن عمر، على أنه يتعين الحلق على من لبد رأسه، وبه قال الجمهور كما نقله ابن بطال وقالت الحنفية: لا يتعين بل إن شاء قصر قال في الفتح: وهذا قول الشافعي في الجديد، قال: وليس للاول دليل صريح انتهى. ولا يخفى أن الحديث الذي ذكره المصنف دليل صريح، ويؤيده أن الحلق معلوم من حاله صلى الله عليه وآله وسلم في حجه كما في صحيح البخاري عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلق في حجته. قوله: ليس على النساء الحلق الخ، فيه دليل على أن المشروع في حقهن التقصير، وقد حكى الحافظ الاجماع على ذلك. قال جمهور الشافعية: فإن حلقت أجزأها. قال القاضي أبو الطيب والقاضي حسين: لا يجوز وقد أخرج الترمذي من حديث علي عليه السلام: نهى أن تحلق المرأة رأسها. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رميتم الجمرة فقد
[ 150 ]
حل لكم كل شئ إلا النساء، فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضمخ رأسه بالمسك أفطيب ذلك أم لا؟ رواه أحمد. وعن عائشة قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك متفق عليه. وللنسائي: طيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله بعد ما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت. حديث ابن عباس أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الحسن العرني عنه، قال في البدر المنير: إسناده حسن كما قاله المنذري، إلا أن يحيى بن معين وغيره قالوا: يقال إن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس (وفي الباب) عن عائشة غير حديث الباب عند أحمد وأبي داود والدارقطني والبيهقي مرفوعا بلفظ: إذا رميتم لجمرة فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شئ إلا النساء وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وعن أم سلمة عند أبي داود والحاكم والبيهقي بنحوه وفي إسناده محمد بن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث. قوله: فقد حل لكم كل شئ إلا النساء استدلت به العترة والحنفية والشافعية على أنه يحل بالرمي لجمرة العقبة كل محظور من محظورات الاحرام إلا الوطئ للنساء فإنه لا يحل به بالاجماع، قال مالك: والطيب. وروي نحوه عن عمر وابن عمر وغيرهما. وقال الليث: إلا النساء والصيد، وأحاديث الباب ترد عليهم (وقد استدل) المانعون من الطيب بعد الرمي بما أخرجه الحاكم عن ابن الزبير أنه قال: إذا رمى الجمرة الكبرى حل له كل شئ حرم عليه إلا النساء والطيب حتى يزور البيت، وقال: إن ذلك من سنة الحج. وبما أخرجه النسائي عن ابن عمر أنه قال: إذا رمى وحلق حل له كل شئ إلا النساء والطيب. ولا يخفى أن هذين الاثرين لا يصلحان لمعارضة أحاديث الباب، وعلى فرض أن الاول منهما مرفوع فهو أيضا لا يعتد به بجنب الاحاديث المذكورة، ولا سيما وهي مثبتة لحل الطيب. قوله: أفطيب ذلك أم لا؟ هذا استفهام تقرير، لان السامع لا بد أن يقول نعم، وقد ثبت أن المسك أطيب الطيب كما سلف. قوله: قبل أن يحرم قد تقدم الكلام على هذا مبسوطا. قوله: ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت أي لاجل إحلاله من إحرامه قبل أن يطوف طواف الافاضة، وذلك بعد أن رمى جمرة العقبة كما وقع في الرواية الاخرى.
[ 151 ]
باب الافاضة من منى للطواف يوم النحر عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى متفق عليه. وفي حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر مختصر من مسلم. قوله: أفاض أي طاف بالبيت، وفيه دليل على أنه يستحب فعل طواف الافاضة يوم النحر أول النهار. قال النووي وقد أجمع العلماء أن هذا الطواف وهو طواف الافاضة ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به، واتفقوا على أنه يستحب فعله النحر يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق، فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأ ولا دم عليه بالاجماع، فإن أخره إلى بعد أيام التشريق وأتى به بعدها أجزأه ولا شئ عليه عند الجمهور. وقال أبو حنيفة ومالك: إذا تطاول لزم معه دم انتهى. وكذا حكى الاجماع على فرضية طواف الزيارة وأنه لا يجبره الدم وأن وقته من يوم النحر الامام المهدي في البحر، وطواف الافاضة وهو المأمور به في قوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * (سورة الحج، الآية: 29) وهو الذي يقال له طواف الزيارة. قوله: فصلى الظهر بمنى وقوله في الحديث الآخر: فصلى بمكة الظهر ظاهر هذا التنافي، وقد جمع الناس ووي بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أفاض قبل الزوال وطاف وصلى الظهر بمكة في أول النهار، ثم رجع إلى منى وصلى بها الظهر مرة أخرى إماما بأصحابه، كما صلى بهم في بطن نخل مرتين: مرة بطائفة ومرة بأخرى، فروى ابن عمر صلاته بمنى، وجابر صلاته بمكة، وهما صادقان. وذكر ابن المنذر نحوه، ويمكن الجمع بأن يقال: إنه صلى بمكة ثم رجع إلى منى فوجد أصحابه يصلون الظهر فدخل معهم متنفلا لامره صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لمن وجد جماعة يصلون وقد صلى. باب ما جاء في تقديم النحر والحلق والرمي والافاضة بعضها على بعض عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه
[ 152 ]
رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال: يا رسول الله حلقت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، وأتى آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، فقال: ارم ولا حرج وفي رواية عنه: أنه شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم النحر فقام إليه رجل فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، ثم قام آخر فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: افعل ولا حرج لهن كلهن، فما سئل يومئذ عن شئ إلا قال: افعل ولا حرج متفق عليهما. ولمسلم في رواية: فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الامور قبل بعض وأشباهها إلا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: افعلوا ولا حرج. وعن علي عليه السلام قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر، قال: انحر ولا حرج، ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله إني أفضت قبل أن احلق، قال: احلق أو قصر ولا حرج رواه أحمد. وفي لفظ قال: إني أفضت قبل أن أحلق، قال: احلق أو قصر ولا حرج قال: وجاء آخر فقال: يا رسول الله إني ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج رواه الترمذي وصححه. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: لا حرج متفق عليه. وفي رواية: سأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، وقال: رميت بعدما أمسيت، فقال: افعل ولا حرج رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه والنسائي. وفي رواية قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: زرت قبل أن أرمي، قال: لا حرج، قال: حلقت قبل أن أذبح، قال: لا حرج، قال: ذبحت قبل أن أرمي قال: لا حرج رواه البخاري. قوله: في يوم النحر في رواية للبخاري: إن ذلك كان في حجة الوداع، وفي أخرى له يخطب يوم النحر كما في الباب، وفي أخرى له أيضا على راحلته. قال القاضي عياض: جمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد، على أن معنى خطب أنه علم الناس لا أنها خطبة من خطب الحج المشروعة. قال: ويحتمل أن يكون ذلك في موطنين: أحدهما على راحلته عند الجمرة ولم يقل في هذا خطب. والثاني يوم النحر بعد صلاة الظهر وذلك وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج يعلم الامام فيها الناس ما بقي
[ 153 ]
عليهم من مناسكهم، وصوب النووي هذا الاحتمال الثاني، فإن قيل: لا منافاة بين هذا الذي صوبه وبين ما قبله، فإنه ليس في شئ من طرق الاحاديث بيان الوقت الذي خطب فيه الناس، فيجاب بأن في رواية حديث ابن عباس التي ذكرها المصنف رميت بعد ما أمسيت، وهي تدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال، لان المساء إنما يطلق على ما بعد الزوال، وكأن السائل علم أن السنة للحجاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى، فلما أخرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك. (والحاصل) أنه قد اجتمع من الروايات أن ذلك كان في حجة الوداع يوم النحر بعد الزوال عند الجمرة، والرجل المذكور في هذه الاحاديث، قال الحافظ في الفتح: لم نقف بعد البحث الشديد على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة. قوله: حلقت قبل أن أرمي في هذه الرواية قدم السؤال عن الحلق قبل الرمي، وفي الرواية الثانية قدم السؤال عن الحلق قبل النحر، وكذلك في حديث علي عليه السلام، وفي الرواية الاخرى منه قدم الافاضة قبل الحلق، وفي الرواية الثالثة منه قدم الذبح قبل الرمي، وفي رواية ابن عباس قدم الحلق قبل الذبح، وفي الرواية الاخرى منه قدم الزيارة قبل الرمي (والاحاديث) المذكورة في الباب تدل على جواز تقديم بعض الامور المذكورة فيها على بعض وهي الرمي والحلق والتقصير والنحر وطواف الافاضة وهو إجماع كما قال ابن قدامة في المغني. قال في الفتح: إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع قال القرطبي: روي عن ابن عباس ولم يثبت عنه أن من قدم شيئا على شئ فعليه دم. وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي، وتعقبه الحافظ بأن نسبة ذلك إلى النخعي، وأصحاب الرأي فيها نظر قال: إنهم لا يقولون بذلك إلا في بعض المواضع، وإنما أوجبوا الدم لان العلماء قد أجمعوا على أنها مترتبة، أولها رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الافاضة، ولم يخالف في ذلك أحد، إلا أن ابن جهم المالكي استثنى القارن فقال: لا يحلق حتى يطوف، ورد عليه النووي بالاجماع، فالمراد بإيجابهم الدم على من قدم شيئا على شئ يعنون من الاشياء المذكورة في هذا الترتيب المجمع عليه بأن فعل ما يخالفه. وقد روي إيجاب الدم عن الهادي والقاسم. وذهب جمهور العلماء من الفقهاء وأصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدم قالوا: لان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ولا حرج يقتضي رفع الاثم والفدية معا، لان المراد بنفي الحرج نفي
[ 154 ]
الضيق، وإيجاب أحدهما فيه ضيق، وأيضا لو كان الدم واجبا لبينه صلى الله عليه وآله وسلم، لان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وبهذا يندفع ما قاله الطحاوي من أن الرخصة مختصة بمن كان جاهلا أو ناسيا لا من كان عامدا فعليه الفدية. قال الطبري: لم يسقط النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يجزئ لامره بالاعادة لان الجهل والنسيان لا يضيعان غير إثم الحكم الذي يلزمه في الحج كما لو ترك الرمي ونحوه، فإنه لا يأثم بتركه ناسيا أو جاهلا لكن يجب عليه الاعادة. قال: والعجب ممن يحمل قوله ولا حرج على نفي الاثم فقط، ثم يخص ذلك ببعض الامور دون بعض، فإن كان الترتيب واجبا يجب بتركه دم فليكن في الجميع، وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض من تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج انتهى. وذهب بعضهم إلى تخصيص الرخصة بالناسي والجاهل دون العامد، واستدل على ذلك بقوله في حديث ابن عمرو: فما سمعته يومئذ يسأل عن أمر ينسى أو يجهل الخ. وبقوله في رواية للشيخين من حديثه: أن رجلا قال له صلى الله عليه وآله وسلم لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: ارم ولا حرج وذهب أحمد إلى التخصيص المذكور، كما حكى ذلك عنه الاثرم، وقد قوى ذلك ابن دقيق العيد فقال ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحج بقوله: خذوا عني مناسككم وهذه الاحاديث المرخصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل: لم أشعر، فيختص هذا الحكم بهذه الحالة، وتبقى صورة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج، وأيضا الحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز اطراحه، ولا شك أن عدم الشعور مناسب لعدم المؤاخذة وقد علق به الحكم، فلا يجوز اطراحه بإلحاق العمد به إذ لا يساويه. وأما التمسك بقول الراوي: فما سئل عن شئ الخ لاشعاره بأن الترتيب مطلقا غير مراعى، فجوابه أن هذا الاخبار من الراوي يتعلق بما وقع السؤال عنه وهو مطلق بالنسبة إلى حال السائل، والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه، فلا يبقى حجة في حال العمد، كذا في الفتح. ولا يخفاك أن السؤال له صلى الله عليه وآله وسلم وقع من جماعة كما في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره: كان الاعراب يسألونه، ولفظ حديثه عند أبي داود قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاجا فكان الناس يأتونه فمن قائل: يا رسول الله سعيت قبل أن
[ 155 ]
أطوف أو قدمت شيئا، فكان يقول: لا حرج لا حرج ويدل على تعدد السائل قول ابن عمرو في حديثه المذكور في الباب: وأتاه آخر فقال إني أفضت الخ. وقول علي عليه السلام في حديثه المذكور: وأتاه آخر كذلك. قوله: وجاء آخر وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به حتى يقال إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور، ولا يجوز اطراحها بإلحاق العمد بها، ولهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب، نعم إخبار ابن عمرو عن أعم العام وهو قوله: فما سئل يومئذ عن شئ مخصص بإخباره مرة أخرى عن أخص منه مطلقا وهو قوله: فما سمعته يومئذ يسأل عن أمر مما ينسي المرء أو يجهل، ولكن عند من جوز التخصيص بمثل هذا المفهوم. قوله: رميت بعدما أمسيت فيه دليل على أن من رمى بعد دخول وقت المساء وهو الزوال صح رميه ولا حرج عليه في ذلك. باب استحباب الخطبة يوم النحر عن الهرماس بن زياد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على ناقته العضباء يوم الاضحى بمنى رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي أمامة قال: سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى يوم النحر رواه أبو داود. وعن عبد الرحمن بن معاذ التيمي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار فوضع أصبعيه السبابتين ثم قال: بحصى الخذف، ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد وأمر الانصار فنزلوا من وراء المسجد ثم نزل الناس بعد ذلك رواه أبو داود والنسائي بمعناه. وعن أبي بكرة قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذا الحجة؟ قلنا بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة، قلنا بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا،
[ 156 ]
في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض رواه أحمد والبخاري. الاحاديث المذكورة في هذا الباب قد قدمها المصنف رحمه الله تعالى في كتاب العيدين بألفاظها المذكورة ههنا من دون زيادة ولا نقصان، ولم تجر له عادة بمثل هذا، وقد شرحناها هنالك، وذكرنا ما في الباب من الاحاديث التي لم يذكرها وسنذكرها ههنا، فوائد لم نتعرض لذكرها هنالك تتعلق بألفاظ هذه الاحاديث. فقوله: العضباء هي مقطوعة الاذن. قال الاصمعي: كل قطع في الاذن جدع، فإن جاوز الربع فهي عضباء. وقال أبو عبيد: أن العضباء التي قطع نصف أذنها فما فوق، وقال الخليل: هي مشقوقة الاذن، قال الحربي: الحديث يدل على أن العضباء اسم لها، وإن كانت عضباء الاذن فقد جعل اسمها هذا. قوله: يوم الاضحى بمنى وهذه هي الخطبة الثالثة بعد صلاة الظهر فعلها ليعلم الناس بها المبيت والرمي في أيام التشريق وغير ذلك مما بين أيديهم. قوله: ففتحت بفتح الفاء الثانية وكسر الفوقية بعدها أي اتسع سمع أسماعنا وقوي من قولهم قارورة فتح بضم الفاء والتاء أي واسعة الرأس، قال الكسائي: ليس لها صمام ولا غلاف، وهكذا صارت أسماعهم لما سمعوا صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من بركات صوته إذا سمعه المؤمن قوي سمعه واتسع مسلكه حتى صار يسمع الصوت من الاماكن البعيدة ويسمع الاصوات الخفية. قوله: ونحن في منازلنا فيه دليل على أنهم لم يذهبوا لسماع الخطبة، بل وقفوا في رحالهم وهم يسمعونها، ولعل هذا كان فيمن له عذر منعه عن الحضور لاستماعها وهو اللائق بحال الصحابة رضي الله عنهم. قوله: فطفق يعلمهم هذا انتقال من التكلم إلى الغيبة وهو أسلوب من أساليب البلاغة مستحسن. قوله: حتى بلغ الجمار يعني المكان الذي ترمى فيه الجمار، والجمار هي الحصى الصغار التي يرمى بها الجمرات. قوله: فوضع أصبعيه السبابتين زاد في نسخة لابي داود في أذنيه، وإنما فعل ذلك ليكون أجمع لصوته في إسماع خطبته، ولهذا كان بلال يضع أصبعيه في صماخ أذنيه في الاذان، وعلى هذا ففي الكلام تقديم وتأخير وتقديره: فوضع أصبعيه السبابتين في أذنيه حتى بلغ الجمار. قوله: ثم قال يحتمل أن يكون المراد بالقول القول النفسي كما قال تعالى: * (ويقولون في أنفسهم) * (سورة المجادلة، الآية: 8) ويكون المراد به هنا النية للرمي. قال أبو حبان: وتراكيب القول
[ 157 ]
الست تدل على معنى الخفة والسرعة، فلهذا عبر هنا بالقول. قوله: بحصى الخذف قد قدمنا في كتاب العيدين أنه بالخاء والذال المعجمتين. قال الازهري: حصى الخذف صغار مثل النوى يرمى بها بين أصبعين. قال الشافعي: حصى الخذف أصغر من الانملة طولا وعرضا، ومنهم من قال بقدر الباقلا. وقال النووي: بقدر النواة، وكل هذه المقادير متقاربة لان الخذف بالمعجمتين لا يكون إلا بالصغير. قوله: في مقدم المسجد أي مسجد الخيف الذي بمنى، ولعل المراد بالمقدم الجهة. قوله: ثم نزل الناس برفع الناس على أنه فاعل، وفي نسخة من سنن أبي داود: ثم نزل الناس بتشديد الزاي ونصب الناس، وقد قدمنا شرح حديث أبي بكرة في كتاب العيدين مستكملا. باب اكتفاء القارن لنسكية بطواف واحد وسعي واحد عن ابن عمر: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قرن بين حجه وعمرته أجزأه لهما طواف واحد رواه أحمد وابن ماجه. وفي لفظ: من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، وفيه دليل على وجوب السعي ووقوف التحلل عليه. وعن عروة عن عائشة قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا، فقدمت وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إليه فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة، قالت: ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت فقال: هذه مكان عمرتك، قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا متفق عليه. وعن طاوس عن عائشة: أنها أهلت بالعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حين حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم النفر: يسعك طوافك لحجك وعمرتك فأبت، فبعث بها مع
[ 158 ]
عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج رواه أحمد ومسلم. وعن مجاهد عن عائشة أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يجزي عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك رواه مسلم وفيه تنبيه على وجوب السعي. حديث ابن عمر أخرجه أيضا سعيد بن منصور مرفوعا بلفظ: من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد وأعله الطحاوي بأن الدراوردي أخطأ فيه، وأن الصواب أنه موقوف، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب والليث وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما في الباب من أن ذلك وقع لابن عمر، وأنه قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك، لا أنه روى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال في الفتح: وهو تعليل مردود، فالدراوردي صدوق، وليس ما رواه مخالفا لما رواه غيره، فلا مانع من أن يكون الحديث عن نافع على الوجهين. وفي الباب عن جابر عند مسلم وأبي داود بلفظ: لم يطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا وأخرج عبد الرزاق عن طاوس بإسناد صحيح أنه حلف ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحجته وعمرته إلا طوافا واحدا. وأخرج البخاري عن ابن عمر أنه طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا بعد أن قال: إنه سيفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرج عنه من وجه آخر أنه رأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الاول يعني الذي طاف يوم النحر للافاضة وقال: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وبهذه الادلة) تمسك من قال: إنه يكفي القارن لحجته وعمرته طواف واحد وسعي واحد وهو مالك والشافعي وإسحاق وداود، وهو محكي عن ابن عمر وجابر وعائشة، كذا قال النووي، وقال زيد بن علي وأبو حنيفة وأصحابه والهادي والناصر، قال النووي: وهو محكي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وابن مسعود والشعبي والنخعي أنه يلزم القارن طوافان وسعيان، وأجابوا عن أحاديث الباب بأجوبة متعسفة منها ما سلف عن الطحاوي على حديث ابن عمر. ومنها جوابه عن حديث عائشة بأنها أرادت بقولها جمعوا بين الحج والعمرة جمع متعة لا جمع قران وهذا مما يتعجب منه، فإن حديث عائشة مصرح بفصل من تمتع ممن قرن وما يفعله كل واحد منهما كما في حديث الباب المذكور فإنها قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة، ثم قالت: وأما
[ 159 ]
الذين جمعوا الخ، واستدلوا على ما ذهبوا إليه بما أخرجه عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما عن علي عليه السلام أنه جمع بين الحج والعمرة وطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الحافظ: وطرقه ضعيفة وكذا روى نحوه من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف، ومن حديث ابن عمر بإسناد فيه الحسن ابن عمارة وهو متروك. قال ابن حزم: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أحد من الصحابة في ذلك شئ أصلا، وتعقبه في الفتح بأنه قد روى الطحاوي وغيره مرفوعا عن علي وابن مسعود ذلك بأسانيد لا بأس بها انتهى. فينبغي أن يصار إلى الجمع كما قال البيهقي إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين، فيحمل على طواف القدوم وطواف الافاضة. وأما السعي مرتين فلم يثبت انتهى. على أنه يضعف ما روي عن علي عليه السلام ما في الفتح من أنه قد روى آل بيته عنه مثل الجماعة، قال جعفر بن محمد الصادق عن أبيه: أنه كان يحفظ عن علي للقارن طوافا واحدا خلاف ما لقول أهل العراق، ومما يضعف ما روي عنه من تكرار الطواف أن أمثل طرقه عنه رواية عبد الرحمن بن أذينة عنه، وقد ذكر فيها أنه يمنع من ابتداء الاهلال بالحج بأن يدخل عليه عمرة، وأن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين، والذين احتجوا بحديثه لا يقولون بامتناع إدخال العمرة على الحج، فإن كان الطريق صحيحة عندهم لزمهم العمل بما دلت عليه وإلا فلا حجة فيها. ويضعف أيضا ما روي عن ابن عمر من تكرار الطواف أنه قد ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد، وقد احتج أبو ثور على الاكتفاء بطواف واحد للقارن بحجة نظرية فقال: قد أجزنا جميعا للحج والعمرة معا سفرا واحدا وإحراما واحدا وتلبية واحدة، فكذلك يجزى عنهما طواف واحد وسعي واحد، حكى هذا عنه ابن المنذر، ومن جملة ما يحتج به على أنه يكفي لهما طواف واحد حديث: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة وهو صحيح وقد تقدم. وذلك لانها بعد دخولها فيه لا تحتاج إلى عمل آخر غير عمله، والسنة الصحيحة الصريحة أحق بالاتباع فلا يلتفت إلى ما خالفها. قوله: وامتشطي فيه دليل على أنه لا يكره الامتشاط للمحرم. وقيل: إنه مكروه. قال النووي: وقد تأول العلماء فعل عائشة هذا على أنها كانت معذورة بأن كان برأسها أذى فأباح لها الامتشاط، كما أباح لكعب بن عجرة الحلق للاذى. وقيل: ليس المراد بالامتشاط هنا حقيقة الامتشاط بالمشط بل تسريح الشعر بالاصابع عند الغسل
[ 160 ]
للاحرام بالحج، لا سيما إن كانت لبدت رأسها كما هو السنة وكما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يصح غسلها إلا بإيصال الماء إلى جميع شعرها، ويلزم من هذا نقضه. قوله: يسعك الخ المراد بالوسع هنا الاجزاء كما في الرواية الاخرى. باب المبيت بمنى ليالي منى ورمي الجمار في أيامها عن عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الاولى وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة لا يقف عندها رواه أحمد وأبو داود. وعن ابن عباس قال: استأذن العباس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له متفق عليه، ولهم مثله من حديث ابن عمر. وعن ابن عباس قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجمار حين زالت الشمس رواه أحمد وابن ماجه والترمذي. وعن ابن عمر قال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا رواه البخاري وأبو داود. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا رواه الترمذي وصححه. وفي لفظ عنه: أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا وسائر ذلك ماشيا، ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك رواه أحمد. حديث عائشة أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم. وحديث ابن عباس الثاني حسنه الترمذي، وأخرج نحوه مسلم في صحيحه من حديث جابر، ويؤيده حديث ابن عمر المذكور في الباب عند البخاري، وحديث ابن عمر الثاني باللفظ الآخر، أخرج نحوه أبو داود عنه بلفظ: أنه كان يأتي الجمار في الايام الثلاثة بعد يوم النحر ماشيا ذاهبا وراجعا، ويخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك وقد أخرج الترمذي نحوه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ: أنه كان يمشي إلى الجمار. قوله: فمكث بها ليالي أيام التشريق هذا من جملة ما استدل به الجمهور، على أن المبيت بمنى واجب، وأنه من جملة مناسك الحج، ومن أدلتهم على ذلك حديث ابن عباس
[ 161 ]
المذكور في إذنه صلى الله عليه وآله وسلم للعباس. ومنها ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم عن عاصم بن عدي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص للرعاء أن يتركوا المبيت بمنى وسيأتي. والتعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الاذن وقع للعلة المذكورة وإذا لم توجد، أو ما في معناها لم يحصل، وقد اختلف في وجوب الدم لتركه فقيل يجب عن كل ليلة دم، روي عن ذلك المالكية. وقيل: صدقة بدرهم وقيل: إطعام، وعن الثلاث دم، هكذا روي عن الشافعي وهو رواية عن أحمد، والمشهور عنه وعن الحنفية لا شئ عليه. قوله: يكبر مع كل حصاة حكى الماوردي عن الشافعي أن صفته: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. قوله: ويقف عند الاولى الخ، فيه استحباب الوقوف عند الجمرة الاولى والثانية وهي الوسطى، والتضرع عندها، وترك القيام عند الثالثة وهي جمرة العقبة. قوله: استأذن العباس الخ قيل: إن جواز ترك المبيت يختص بالعباس، وقيل: يدخل معه بنو هاشم، وقيل: كل من احتاج إلى السقاية وهو جمود يرده حديث عاصم بن عدي الآتي. وقيل: يجوز الترك لكل من له عذر يشابه الاعذار التي رخص لاهلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول الجمهور، وقيل: يختص بأهل السقاية ورعاة الابل، وبه قال أحمد واختاره ابن المنذر. قوله: حين زالت الشمس وكذا قوله في حديث عائشة: إذا زالت الشمس وقوله في حديث ابن عمر: فإذا زالت الشمس رمينا هذه الروايات تدل على أنه لا يجزى رمي الجمار في غير يوم الاضحى قبل زوال الشمس بل وقته بعد زوالها كما في البخاري وغيره من حديث جابر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم رمى يوم النحر ضحى ورمى بعد ذلك بعد الزوال. وإلى هذا ذهب الجمهور، وخالف في ذلك عطاء وطاوس فقالا: يجوز الرمي قبل الزوال مطلقا، ورخص الحنفية في الرمي يوم النفر قبل الزوال وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزيه، والاحاديث المذكورة ترد على الجميع. قوله: نتحين نتفعل من الحين وهو الزمان أي نراقب الوقت المطلوب. قوله: مشى إليها أجمعوا على أن إتيان الجمار ماشيا وراكبا جائز، لكن اختلفوا في الافضل، وقد تقدم الخلاف في ذلك في رمي جمرة العقبة وفي غيرها. قال الجمهور: المستحب المشي، وذهب البعض إلى استحباب الركوب يوم النحر والمشي في غيره، والذي ثبت عنه صلى الله
[ 162 ]
عليه وآله وسلم الركوب لرمي جمرة العقبة يوم النحر والمشي بعد ذلك مطلقا. وعن سالم عن ابن عمر: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعله رواه أحمد والبخاري. وعن عاصم بن عدي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص لرعاء الابل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغداة، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر رواه الخمسة وصححه الترمذي. وفي رواية: رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما رواه أبو داود والنسائي. وعن سعد بن مالك قال: رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات وبعضنا يقول رميت بست حصيات، ولم يعب بعضهم على بعض رواه أحمد والنسائي. حديث عاصم بن عدي أخرجه أيضا مالك والشافعي وابن حبان والحاكم، وفي الباب عن ابن عمرو بن العاص عند الدارقطني بإسناد ضعيف ولفظه: رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرعاء أن يرموا بالليل وأية ساعة شاؤوا من النهار وعن ابن عمر عند البزار والحاكم والبيهقي بإسناد حسن. وحديث سعد بن مالك سياقه في سنن النسائي هكذا: أخبرني يحيى بن موسى البلخي، حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح، قال مجاهد قال سعد فذكره ورجاله رجال الصحيح. وقد أخرج نحوه النسائي من حديث ابن عباس، وأخرج أبو داود عن ابن عباس أنه سئل عن أمر الجمار فقال: ما أدري رماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بست أو بسبع. قوله: الجمرة الدنيا بضم الدال وبكسرها أي القريبة إلى جهة مسجد الخيف وهي أولى الجمرات التي ترمى ثاني يوم النحر. قوله: فيسهل بضم التحتية وسكون المهملة أي يقصد السهل من الارض وهو المكان المستوي الذي لا ارتفاع فيه. قوله: ويرفع يديه فيه استحباب رفع اليدين في الدعاء عند الجمرة، وروي عن مالك أنه مكروه، قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا أنكر رفع اليدين في الدعاء عند الجمرة إلا ما حكي عن مالك. قوله: ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال أي يمشي إلى جهة الشمال وفي رواية للبخاري: ثم ينحدر
[ 163 ]
ذات الشمال مما يلي الوادي. قوله: ويقوم طويلا فيه مشروعية القيام عند الجمرتين وتركه عند جمرة العقبة، ومشروعية الدعاء عندهما قال ابن قدامة: لا نعلم لما تضمنه حديث ابن عمر هذا مخالفا إلا ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء. قوله: ويدعو يوما أي يجوز لهم أن يرموا اليوم الاول من أيام التشريق ويذهبوا إلى إبلهم فيبيتوا عندها ويدعو يوم النفر الاول، ثم يأتوا في اليوم الثالث فيرموا ما فاتهم في اليوم الثاني مع رمي اليوم الثالث، وفيه تفسير ثان وهو أنهم يرمون جمرة العقبة ويدعون رمي ذلك اليوم ويذهبون، ثم يأتون في اليوم الثاني من التشريق فيرمون ما فاتهم، ثم يرمون عن ذلك اليوم كما تقدم وكلاهما جائز، وإنما رخص للرعاء لان عليهم رعي الابل وحفظها لتشاغل الناس بنسكهم عنها، ولا يمكنهم الجمع بين رعيها وبين الرمي والمبيت، فيجوز لهم ترك المبيت للعذر والرمي على الصفة المذكورة، وقد تقدم الخلاف في إلحاق بقية المعذورين بهم في أول الباب. قوله: ولم يعب بعضهم على بعض استدل به من قال: إنه يجوز الاقتصار على أقل من سبع حصيات، وقد تقدم ذكر القائلين بذلك في باب رمي جمرة العقبة، ولكن هذا الحديث لا يكون دليلا بمجرد ترك إنكار الصحابة على بعضهم بعضا إلا أن يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على شئ من ذلك وقرره. باب الخطبة أوسط أيام التشريق عن سراء بنت نبهان قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الرؤوس فقال: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: أليس أوسط أيام التشريق؟ رواه أبو داود. وقال: وكذلك قال عم أبي حرة الرقاشي أنه خطب أوسط أيام التشريق. وعن ابن أبي نجيح عن أبيه عن رجلين من بني بكر قالا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي خطب بمنى رواه أبو داود. وعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيام التشريق
[ 164 ]
فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لاحمر على أسود، ولا لاسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد. حديث سراء بنت نبهان سكت عنه أبو داود والمنذري وقال في مجمع الزوائد: رجاله ثقات: وحديث الرجلين من بني بكر سكت عنه أيضا أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجاله رجال الصحيح. وحديث أبي نضرة قال في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح. قوله: سراء بفتح السين المهملة وتشديد الراء والمد وقيل القصر بنت نبهان الغنوية صحابية لها حديث واحد قاله صاحب التقريب. قوله: يوم الرؤوس بضم الراء والهمزة بعدها وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، سمي بذلك لانهم كانوا يأكلون فيه رؤوس الاضاحي. قوله: أي يوم هذا سأل عنه وهو عالم به لتكون الخطبة أوقع في قلوبهم وأثبت. قوله: الله ورسوله أعلم هذا من حسن الادب في الجواب للاكابر والاعتراف بالجهل، ولعلهم قالوا ذلك لانهم ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه كما وقع في حديث أبي بكرة المتقدم. قوله: عم أبي حرة بضم الحاء المهملة وتشديد الراء، واسم أبي حرة حنيفة وقيل حكيم. والرقاشي بفتح الراء وتخفيف القاف وبعد الالف شين معجمة. قوله: أوسط أيام التشريق هو اليوم الثاني من أيام التشريق. قوله: ألا إن ربكم واحد الخ، هذه مقدمة لنفي فضل البعض على البعض بالحسب والنسب كما كان في زمن الجاهلية، لانه إذا كان الرب واحدا وأبو الكل واحدا لم يبق لدعوى الفضل بغير التقوى موجب وفي هذا الحديث حصر الفضل في التقوى ونفيه عن غيرها، وأنه لا فضل لعربي على عجمي، ولا لاسود على أحمر إلا بها، ولكنه قد ثبت في الصحيح أن الناس معادن كمعادن الذهب خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا، فقيه إثبات الخيار في الجاهلية ولا تقوى هناك، وجعلهم الخيار في الاسلام بشرط الفقه في الدين، وليس مجرد الفقه في الدين سببا لكونهم خيارا في الاسلام، وإلا لما كان لاعتبار كونهم خيارا في الجاهلية معنى، ولكان كل فقيه في الدين من الخيار وإن لم يكن من الخيار في الجاهلية، وليس أيضا سبب كونهم خيارا في الاسلام مجرد التقوى، وإلا لما كان لذكر كونهم خيارا في الجاهلية معنى، ولكان كل متق من الخيار من غير نظر إلى كونه من خيار الجاهلية، فلا شك
[ 165 ]
أن هذا الحديث يدل على أن لشرافة الانساب وكرم النجار مدخلا في كون أهلها خيارا، وخيار القوم أفاضلهم، وإن لم يكن لذلك مدخل باعتبار أمر الدين والجزاء الاخروي، فينبغي أن يحمل حديث الباب على الفضل الاخروي. (وأحاديث الباب) تدل على مشروعية الخطبة في أوسط أيام التشريق، وقد قدمنا في كتاب العيدين أنها من الخطب المستحبة في الحج، وبينا هنالك كم يستحب من الخطب في الحج. باب نزول المحصب إذا نفر من منى عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به رواه البخاري. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالبطحاء ثم هجع هجعة ثم دخل مكة، وكان ابن عمر يفعله رواه أحمد وأبو داود والبخاري بمعناه. وعن الزهري عن سالم: أن أبا بكر وعمر وابن عمر كانوا ينزلون الابطح قال الزهري: وأخبرني عروة عن عائشة أنها لم تكن تفعل ذلك وقالت: إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لانه كان منزلا أسمح لخروجه رواه مسلم. وعن عائشة قالت: نزول الابطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لانه كان أسمح لخروجه إذا خرج. وعن ابن عباس قال: التحصيب ليس بشئ إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متفق عليهما. قوله: بالمحصب بمهملتين وموحدة على وزن محمد، وهو اسم لمكان متسع بين جبلين، وهو إلى منى أقرب من مكة، سمي بذلك لكثرة ما به من الحصى من جر السيول، ويسمى بالابطح وخيف بني كنانة. قوله: ثم هجع هجعة أي اضطجع ونام يسيرا. قوله: أسمح لخروجه أي أسهل لتوجهه إلى المدينة ليستوي البطئ والمقتدر، ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر، ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة. قوله: ليس التحصيب بشئ أي من المناسك التي يلزم فعلها. وقد نقل ابن المنذر الخلاف في استحباب نزول المحصب مع الاتفاق أنه ليس من المناسك، وقد روى أحمد عن عائشة أنها قالت:
[ 166 ]
والله ما نزلها يعني الحصبة إلا من أجلي وروى مسلم وأبو داود وغيرهما عن أبي رافع قال: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنزل الابطح حين خرج من منى ولكن جئت فضربت قبته فجاء فنزل انتهى. ولا شك أن النزول مستحب لتقريره صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وفعله، وقد فعله الخلفاء بعده كما رواه مسلم عن ابن عمر، ومما يدل على استحباب التحصيب ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أسامة بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث قاسمت قريشا على الكفر يعني المحصب، وذلك أن بني كنانة حالفت قريشا على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يؤوهم ولا يبايعوهم، قال الزهري: والخيف الوادي. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال حين أراد أن ينفر من منى نحن نازلون غدا فذكر نحوه وحكى النووي عن القاضي عياض أنه مستحب عند جميع العلماء، قال في الفتح: والحاصل أن من نفى أنه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شئ، ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم لا الالزام بذلك، ويستحب أن يصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت به بعض الليل كما دل عليه حديث أنس وابن عمر. باب ما جاء في دخول الكعبة والتبرك بها عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس، ثم رجع إلي وهو حزين، فقلت له فقال: إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. وعن أسامة بن زيد قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل، ثم قام إلى ما بين يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه ثم هلل وكبر ودعا، ثم فعل ذلك بالاركان كلها، ثم خرج فأقبل على القبلة وهو على الباب فقال: هذه القبلة هذه القبلة مرتين أو ثلاثة رواه أحمد والنسائي. وعن عبد الرحمن بن صفوان قال:
[ 167 ]
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة انطلقت فوافقته قد خرج من الكعبة وأصحابه قد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسطهم رواه أحمد وأبو داود. وعن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيت في عمرته؟ قال: لا متفق عليه. حديث عائشة أخرجه أيضا وصححه ابن خزيمة والحاكم. وحديث أسامة رجاله رجال الصحيح، وأصله في صحيح مسلم بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل في البيت ولكنه كبر في نواحيه وحديث عبد الرحمن بن صفوان في إسناده يزيد بن أبي زياد ولا يحتج بحديثه وقد ذكر الدارقطني أن يزيد بن أبي زياد تفرد به عن مجاهد، ولكنه ذكر الذهبي أنه صدوق من ذوي الحفظ، وذكر في الخلاصة أنه كان من الائمة الكبار، وقد تقدم الكلام فيه في غير موضع. قوله: ووددت أني لم أكن فعلت فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الكعبة في غير عام الفتح لان عائشة لم تكن معه فيه إنما كانت معه في غيره. وقد جزم جمع من أهل العلم أنه لم يدخل إلا في عام الفتح وهذا الحديث يرد عليهم، وقد تقرر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل البيت في عمرته كما في حديث ابن أبي أوفى المذكور في الباب، فتعين أن يكون دخله في حجته وبذلك جزم البيهقي. وقد أجاب البعض عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك لعائشة بالمدينة بعد رجوعه من غزوة الفتح وهو بعيد جدا. وفيه أيضا دليل على أن دخول الكعبة ليس من مناسك الحج وهو مذهب الجمهور. وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخولها من المناسك، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن دخولها مستحب، ويدل على ذلك ما أخرج ابن خزيمة والبيهقي من حديث ابن عباس: من دخل البيت دخل في جنة وخرج مغفورا له وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف، ومحل استحبابه ما لم يؤذ أحدا بدخوله، ويدل على الاستحباب أيضا حديث أسامة وعبد الرحمن بن صفوان المذكوران في الباب. قوله: وخده ويديه فيه استحباب وضع الخد والصدر على البيت وهو ما بين الركن والباب ويقال له الملتزم، كما روى الطبراني عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: الملتزم ما بين الركن والباب. وأخرجه البيهقي في شعب الايمان من
[ 168 ]
طريق أبي الزبير عن ابن عباس مرفوعا ورواه عبد الرزاق بإسناد يصح عنه. موقوفا وسمي بذلك لان الناس يلتزمونه. قوله: ثم فعل ذلك بالاركان كلها فيه دليل على مشروعية وضع الصدر والخد على جميع الاركان مع التهليل والتكبير والدعاء. قوله: من الباب إلى الحطيم هذا تفسير للمكان الذي استلموه من البيت، والحطيم هو ما بين الركن والباب كما ذكره محب الدين الطبري وغيره. وقال مالك في المدونة الحطيم ما بين الباب إلى المقام، وقال ابن حبيب، هو ما بين الحجر الاسود إلى الباب إلى المقام، وقيل: هو الشاذروان، وقيل: هو الحجر الاسود كما يشعر به سياق الحديث، وسمي حطيما لان الناس كانوا يحطمون هنالك بالايمان، ويستجاب فيه الدعاء للمظلوم على الظالم، وقل من حلف هنالك كاذبا إلا عجلت له العقوبة. وفي كتب الحنفية أن الحطيم هو الموضع الذي فيه الميزاب. قوله: وسطهم قال الجوهري: تقول جلست وسط القوم بالتسكين لانه ظرف، وجلست وسط الدار بالفتح لانه اسم، قال: وكل وسط يصلح فيه بين فهو وسط بالاسكان، وإن لم يصلح يبين فهو وسط بالفتح، قال الازهري: كل ما بين بعضه من بعض كوسط الصف والقلادة والسبحة وحلقة الناس فهو بالاسكان، وما كان منضما لا يبين بعضه من بعض كالساحة والدار والراحبة فهو وسط بالفتح. قال: وقد أجازوا في المفتوح الاسكان ولم يجيزوا في الساكن الفتح. قوله: أدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيت في عمرته بهمزة الاستفهام، قال النووي: قال العلماء سبب ترك دخوله ما كان في البيت من الاصنام والصور ولم يكن المشركون يتركونه ليغيرها، فلما كان في الفتح أمر بإزالة الصور ثم دخلها، يعني كما ثبت في حديث ابن عباس عند البخاري وغيره، ويحتمل أن يكون دخوله البيت لم يقع في الشرط، فلو أراد دخوله لمنعوه كما منعوه من الاقامة بمكة فوق ثلاث. باب ما جاء في ماء زمزم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ماء زمزم لما شرب له رواه أحمد وابن ماجه. وعن عائشة أنها كانت تحمل من ماء زمزم وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحمله رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
[ 169 ]
وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشراب من عندها، فقال: اسقني، فقال: يارسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقني فشرب ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل يعني على عاتقه وأشار إلى عاتقه رواه البخاري. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم رواه ابن ماجه. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفي به شفاك الله وإن شربته يشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبريل وسقيا إسماعيل رواه الدارقطني. حديث جابر أخرجه أيضا ابن أبي شيبة والبيهقي والدارقطني والحاكم، وصححه المنذري والدمياطي وحسنه الحافظ وفي إسناده عبد الله بن المؤمل، وقد تفرد به كما قال البيهقي وهو ضعيف، وأعله ابن القطان به، وقد رواه البيهقي من طريق أخرى عن جابر وفيها سويد بن سعيد وهو ضعيف جدا، وإن كان مسلم قد أخرج له فإنما أخرج له في المتابعات. قال الحافظ: وأيضا فكان أخذه عنه قبل أن يعمى ويفسد حديثه، وكذلك أمر أحمد بن حنبل ابنه بالاخذ عنه كان قبل عماه، ولما عمي صار يلقن فيتلقن وقال يحيى بن معين: لو كان لي فرس ورمح لغزوت سويدا من شدة ما كان يذكر له عنه من المناكير، وأخرجه الطبراني من طريق ثالثة. وحديث عائشة أخرجه البيهقي والحاكم وصححه. وحديث ابن عباس الاول أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم من طريق ابن أبي مليكة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: من أين جئت؟ قال: شربت من ماء زمزم، قال ابن عباس: أشربت منها كما ينبغي؟ قال: وكيف ذاك يا ابن عباس؟ قال: إذا شربت منها فاستقبل القبلة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثا وتضلع منها فإذا فرغت فاحمد الله فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: آية بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم وحديثه الثاني أخرجه أيضا الحاكم، وزاد الدارقطني على ما ذكره المصنف: وإن شربته مستعيذا أعاذك الله، قال: فكان ابن عباس إذا شرب ماء زمزم قال: اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء وهذا الحديث
[ 170 ]
هو من طريق محمد بن سعيد الجارودي عن سفيان ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس، قال في التلخيص: والجارودي صدوق إلا أن روايته شاذة، فقد رواه حفاظ أصحاب ابن عيينة كالحميدي وابن أبي عمر وغيرهما عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد من قول ابن عباس، ومما يقوي الرفع ما أخرجه الدينوري في المجالسة قال: كنا عند ابن عيينة فجاء رجل فقال: يا أبا محمد الحديث الذي حدثتنا به عن ماء زمزم صحيح؟ قال: نعم، قال: فإني شربته الآن لتحدثني مائة حديث، قال: اجلس فحدثه مائة حديث. (وفي الباب) عن أبي ذر مرفوعا عند أبي داود الطيالسي في مسنده قال: زمزم مباركة، إنها طعام طعم، وشفاء سقم، وهو بهذا اللفظ في صحيح مسلم. وعن جابر غير حديث الباب عند مسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرب منه. قوله: ماء زمزم لما شرب له فيه دليل على أن ماء زمزم ينفع الشارب لاي أمر شربه لاجله، سواء كان من أمور الدنيا أو الآخرة، لان ما في قوله لما شرب له من صيغ العموم. قوله: كان يحمله فيه دليل على أنه لا بأس بحمل ماء زمزم إلى المواطن الخارجة عن مكة. قوله: لولا أن تغلبوا وذلك بأن يظن الناس أن النزع سنة، فينزع كل رجل لنفسه فيغلب أهل السقاية عليها، وفي هذا الحديث استحباب الشرب من ماء زمزم، وما قيل من أن الشرب جبلي فلا يدل على الاستحباب، إذ لا تأسي في الجبلي مدفوع بأن القصد إلى ذلك المحل، والامر بالنزع وإعطاء أسامة الفضلة ليشربها من غير أن يستدعي الماء كما في صحيح مسلم، مما يدل على أن الشرب للفضيلة لا للحاجة. قوله: لا يتضلعون أي لا يروون من ماء زمزم، قال في القاموس: وتضلع امتلا شبعا أو ريا حتى بلغ الماء أضلاعه انتهى. قوله: هزمة بالزاي أي حفرة جبريل لانه ضربها برجله فنبع الماء، قال في القاموس: هزمه يهزمه غمزه بيده فصارت فيه حفرة، ثم قال: والهزائم البئار الكبيرة الغزر الماء. قوله: وسقيا إسماعيل أي أظهره الله ليسقي به إسماعيل في أول الامر. باب طواف الوداع عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول
[ 171 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه. وفي رواية: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الافاضة رواه أحمد. وعن عائشة قالت: حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أحابستنا هي؟ قلت: يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الافاضة، قال: فلتنفر إذن متفق عليه. قوله: لا ينفر أحد الخ، فيه دليل على وجوب طواف الوداع. قال النووي: وهو قول أكثر العلماء ويلزم بتركه دم. وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شئ في تركه. قال الحافظ: والذي رأيته لابن المنذر في الاوسط أنه واجب للامر به إلا أنه لا يجب بتركه شئ انتهى. وقد اجتمع في طواف الوداع أمره صلى الله عليه وآله وسلم به ونهيه عن تركه وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب. قوله: أمر الناس بالبناء على ما لم يسم فاعله. وكذا قوله: خفف. قوله: إذا كانت قد طافت طواف الافاضة قال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالامصار: ليس على الحائض التي أفاضت طواف وداع، وروينا عن عمر بن الخطاب وابن عمر وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضا لطواف الوداع، فكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الافاضة، إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها، قال: وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة. وروى ابن أبي شيبة عن طريق القاسم بن محمد كان الصحابة يقولون: إذا أفاضت قبل أن تحيض فقد فرغت إلا عمر. وقد روى أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي عن عمر أنه قال: ليكن آخر عهدها بالبيت. وفي رواية كذلك: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. واستدل الطحاوي بحديث عائشة على نسخ حديث عمر في حق الحائض. وكذلك استدل على نسخه بحديث أم سليم عند أبي داود الطيالسي أنها قالت: حضت بعدما طفت بالبيت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنفر، وحاضت صفية فقالت لها عائشة: حبستنا فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تنفر. ورواه سعيد بن منصور في كتاب
[ 172 ]
المناسك وإسحاق في مسنده والطحاوي وأصله في البخاري، ويؤيد ذلك ما أخرجه النسائي والترمذي وصححه الحاكم عن ابن عمر قال: من حج فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحيض رخص لهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: فلتنفر إذن أي فلا حبس علينا حينئذ لانها قد أفاضت فلا مانع من التوجه، والذي يجب عليها قد فعلته، وفي رواية للبخاري: فلا بأس انفري. وفي رواية له: اخرجي. وفي رواية: فلتنفر، ومعانيها متقاربة، والمراد بها الرحيل من منى إلى جهة المدينة. واستدل بقوله: أحابستنا على أن أمير الحاج يلزمه أن يؤخر الرحيل لاجل من تحيض ممن لم تطف للافاضة، وتعقب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أراد بتأخير الرحيل إكرام صفية كما احتبس بالناس على عقد عائشة. وأما ما أخرجه البزار من حديث جابر والثقفي في فوائده من حديث أبي هريرة مرفوعا: أميران وليسا بأميرين من تبع جنازة فليس له أن ينصرف حتى تدفن أو يأذن أهلها، والمرأة تحج أو تعتمر مع قوم فتحيض قبل طواف الركن فليس لهم أن ينصرفوا حتى تطهر أو تأذن لهم، ففي إسناد كل واحد منها ضعيف شديد الضعف كما قال الحافظ. باب ما يقول إذا قدم من حج أو غيره عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الارض ثلاث تكبيرات ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده متفق عليه. قوله: شرف هو المكان العالي كما في القاموس وغيره، وفي رواية لمسلم: كان إذا أوفى على ثنية أو فدفد كبر. قوله: آيبون أي راجعون، وهو وما بعده إخبار لمبتدأ مقدر أي نحن آيبون الخ. قوله: صدق الله وعده أي في إظهار الدين وكون العاقبة للمتقين وغير ذلك مما وعد به سبحانه، إن الله لا يخلف الميعاد. قوله: وهزم الاحزاب وحده أي من غير قتال من الآدميين، والمراد به بالاحزاب الذين
[ 173 ]
اجتمعوا يوم الخندق وتحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم، فأرسل الله عليهم ريحا وجنودا وهذا هو المشهور أن المراد بالاحزاب أحزاب يوم الخندق قال القاضي عياض: ويحتمل أن المراد أحزاب الكفر في جميع الايام والمواطن. والحديث فيه استحباب التكبير والتهليل والدعاء المذكور عند كل شرف من الارض يعلوه الراجع إلى وطنه من حج أو عمرة أو غزو. باب الفوات والاحصار عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى، قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق رواه الخمسة. وفي رواية لابي داود وابن ماجه: من عرج أو كسر أو مرض فذكر معناه. وفي رواية ذكرها أحمد في رواية المروزي: من حبس بكسر أو مرض. وعن ابن عمر أنه كان يقول: أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم يحل من كل شئ حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا رواه البخاري والنسائي. وعن عمر بن الخطاب: أنه أمر أبا أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهبار بن الاسود حين فاتهما الحج فأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا، ثم يحجا عاما قابلا ويهديا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. وعن سليمان بن يسار: أن ابن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم بالحج، فسأل عن الماء الذي كان عليه فوجد عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم، فذكر لهم الذي عرض له، وكلهم أمره أن يتداوى بما لا بد منه ويفتدي، فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه، ثم عليه أن يحج قابلا ويهدي. وعن ابن عمر أنه قال: من حبس دون البيت بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت وهذه الثلاثة لمالك في الموطأ. وعن ابن عباس قال: لا حصر إلا حصر العدو رواه الشافعي في مسنده.
[ 174 ]
حديث الحجاج بن عمر وسكت عنه أبو داود والمنذري وحسنه الترمذي. وأخرجه أيضا ابن خزيمة والحاكم والبيهقي. وأثر عمر بن الخطاب أخرجه أيضا البيهقي، وأخرج عن عمر أنه أمر من فاته الحج أن يهل بعمرة وعليه الحج من قابل، وأخرج أيضا عن زيد بن ثابت مثله. وأخرج نحوه عن عمر من طريق أخرى. والاثر الذي رواه سليمان بن يسار رواه مالك عن يحيى بن سعيد عنه، ولكن سليمان بن يسار لم يدرك القصة. وأثر ابن عمر رواه مالك في الموطأ من طريق ابن شهاب عن سالم عنه. وأثر ابن عباس صحح الحافظ إسناده. قوله: من كسر بضم الكاف وكسر السين. قوله: أو عرج بفتح المهملة والراء أي أصابه شئ في رجله وليس بخلقة، فإذا كان خلقة قيل عرج بكسر الراء. قوله: فقد حل تمسك بظاهر هذا أبو ثور وداود فقالا: إنه يحل في مكانه بنفس الكسر والعرج، وأجمع بقية العلماء على أنه يحل من كسر أو عرج ولكن اختلفوا فيما به يحل، وعلام يحمل هذا الحديث؟ فقال أصحاب الشافعي: إنه يحمل على ما إذا شرط التحلل به، فإذا وجد الشرط صار حلالا ولا يلزم الدم، وقال مالك وغيره: يحل بالطواف بالبيت لا يحله غيره، ومن خالفه من الكوفيين يقول: يحل بالنية والذبح والحلق، وسيأتي الكلام على ذلك. قوله: أو مرض الاحصار لا يختص بالاعذار المذكورة، بل كل عذر حكمه حكمها كإعواز النفقة والضلال في الطريق وبقاء السفينة في البحر، وبهذا قال كثير من الصحابة. قال النخعي والكوفيون: الحصر بالكسر والمرض والخوف. وقال آخرون منهم مالك والشافعي وأحمد: لا حصر إلا بالعدو، وتمسكوا بقول ابن عباس المذكور في الباب. وحكى ابن جرير قولا إنه لا حصر بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والسبب في هذا الاختلاف أنهم اختلفوا في تفسير الاحصار، فالمشهور عن أكثر أهل اللغة منهم الاخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وأبو عبيدة وابن السكيت وثعلب وابن قتيبة وغيرهم أن الاحصار إنما يكون بالمرض، وأما بالعدو فهو الحصر. وقال بعضهم: إن أحصر وحصر بمعنى واحد. قوله: سنة نبيكم قال عياض: ضبطناه سنة بالنصب على الاختصاص وعلى إضمار فعل أي تمسكوا وشبهه، وخبر حسبكم طاف بالبيت ويصح الرفع، على أن سنة خبر حسبكم أو الفاعل وحسبكم بمعنى الفعل ويكون ما بعدهما تفسيرا للسنة. وقال السهيلي: من نصب سنة فهو بإضمار الامر كأنه
[ 175 ]
قال: الزموا سنة نبيكم. قوله: طاف بالبيت أي إذا أمكنه ذلك، ووقع في رواية عبد الرزاق: إن حبس أحدا منكم حابس عن البيت فإذا وصل طاف. قوله: حتى يحج عاما قابلا استدل به على وجوب الحج من القابل على من أحصر، وسيأتي الخلاف فيه. قوله: فيهدي فيه دليل على وجوب الهدي على المحصر، ولكن الاحصار الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما وقع في العمرة، فقاس العلماء الحج على ذلك، وهو من الالحاق بنفي الفارق، وإلى وجوب الهدي ذهب الجمهور وهو ظاهر الاحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعل ذلك في الحديبية، ويدل عليه قوله تعالى: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) * (سورة البقرة، الآية: 196) وذكر الشافعي أنه لا خلاف في ذلك في تفسير الآية، وخالف في ذلك مالك فقال: إنه لا يجب الهدي على المحصر، وعول على قياس الاحصار على الخروج من الصوم للعذر والتمسك بمثل هذا القياس في مقابل ما يخالفه من القرآن والسنة من الغرائب التي يتعجب من وقوع مثلها من أكابر العلماء. قوله: ابن حزابة بضم الحاء المهملة وبعدها زاي ثم بعد الالف موحدة. قوله: فسأل على الماء هكذا في بعض نسخ هذا الكتاب، وفي بعضها عن الماء، وفي نسخة صحيحة من الموطأ على الماء ونسخ بعن. قوله: فوجد هذه اللفظة ثابتة في نسخه من هذا الكتاب وهي ثابتة في الموطأ. وقد استدل بالآثار المذكورة في الباب على وجوب الهدي، وأن الاحصار لا يكون إلا بالخوف من العدو، وقد تقدم البحث عن ذلك وعلى وجوب القضاء وسيأتي. باب تحلل المحصر من العمرة بالنحر ثم الحلق حيث أحصر من حل أو حرم وأنه لا قضاء عليه عن المسور ومروان في حديث عمرة الحديبية والصلح: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما فرغ من قضية الكتاب قال لاصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وللبخاري عن المسور: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك. وعن
[ 176 ]
المسور ومروان قالا: قلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهدي وأشعره بذي الحليفة، وأحرم منها بالعمرة، وحلق بالحديبية في عمرته، وأمر أصحابه بذلك، ونحر بالحديبية قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك رواه أحمد. وعن ابن عباس قال: إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ، فأما من حبسه عدو أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع، وإن كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به، وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله أخرجه البخاري. وقال مالك وغيره: ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان ولا قضاء عليه، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا وحلوا من كل شئ قبل الطواف وقبل أن يصل الهدي إلى البيت، ثم لم يذكروا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أحدا أن يقضوا شيئا ولا يعودوا له والحديبية خارج الحرم كل هذا كلام البخاري في صحيحه. قوله: فانحروا ثم احلقوا فيه دليل على أن المحصر يقدم النحر على الحلق، ولا يعارض هذا ما وقع في رواية للبخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلق وجامع نساءه ونحر هديه لان العطف بالواو إنما هو لمطلق الجمع ولا يدل على الترتيب، فإن قدم الحلق على النحر فروى ابن أبي شيبة عن علقمة أن عليه دما، وعن ابن عباس مثله، والظاهر عدم وجوب الدم لعدم الدليل. قوله: إنما البدل الخ، بفتح الباء الموحدة والمهملة أي القضاء لما أحصر فيه من حج أو عمرة، وهذا قول الجمهور كما في الفتح وقال في البحر: إن على المحصر القضاء إجماعا في الفرض العترة وأبو حنيفة وأصحابه وكذا في النفل انتهى. وعن أحمد روايتان، واحتج الموجبون للقضاء بحديث الحجاج بن عمرو السالف وهو نص في محل النزاع، وبحديث ابن عمر المتقدم لقوله فيه حتى يحج عاما قابلا فيهدي بعد قوله: حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبما تقدم من الآثار. وقال الذين لم يوجبوا القضاء: لم يذكر الله تعالى القضاء ولو كان واجبا لذكره وهذا ضعيف لان عدم الذكر لا يستلزم العدم، قالوا ثانيا: قول ابن عباس يدل على عدم الوجوب، ويجاب بأن قول الصحابي ليس بحجة إذا انفرد فكيف إذا عارض المرفوع؟ قالوا ثالثا: لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدا ممن أحصر معه في الحديبية بأن يقضي ولو لزمهم
[ 177 ]
القضاء لامرهم، قال الشافعي: إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش، لا على أنه أوجب عليهم قضاء تلك العمرة، وهذا هو الدليل الذي ينبغي التعويل عليه، ولكنه يعارضه ما رواه الواقدي في المغازي من طريق الزهري ومن طريق أبي معشر وغيرهما قالوا: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن يعتمروا فلم يتخلف منهم إلا من قتل بخيبر أو مات، وخرج جماعة معه معتمرين ممن لم يشهد الحديبية فكانت عدتهم ألفين، قال في الفتح: ويمكن الجمع بين هذا إن صح وبين الذي قبله بأن الامر كان على طريق الاستحباب، لان الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا لغير عذر. وقد روى الواقدي أيضا من حديث ابن عمر قال: لم تكن هذه العمرة قضاء ولكن كان شرطا على قريش أن يعتمر المسلمون من قابل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه، انتهى. ويمكن أن يقال: إن ترك أمره صلى الله عليه وآله وسلم لا ينتهض لمعارضة ما تقدم مما يدل على وجوب القضاء، لان ترك الامر ربما كان لعلمهم بوجوب القضاء على من أحصر بدليل آخر كحديث الحجاج بن عمرو لان حكم الحج والعمرة واحد، بقي ههنا شئ هو أن قوله: وعليه الحج من قابل، وقوله: وعليه حجة أخرى، يمكن أن يكون المراد به تأدية الحج المفروض أو ما كان يريد أداءه في عام الاحصار، لا أنه القضاء المصطلح عليه لانه لم يسبق ما يوجبه، بل غاية ما هناك أنه منعه عن تأدية ما أراد فعله مانع فعليه فعله، ولا يسقط بمجرد عروض المانع، وتعيين العام القابل يدل على أن ذلك على الفور. قوله: بالتلذذ بمعجمتين وهو الجماع. قوله: فأما من حبسه عدو هكذا في نسخ هذا الكتاب عدو بفتح العين المهملة وضم الدال المهملة أيضا والواو، وهي رواية أبي ذر في صحيح البخاري، ورواه الاكثر بضم العين وسكون الذال المعجمة والراء مكان الواو. قوله: نحره قد وقع الخلاف بين الصحابة فمن بعدهم في محل نحر الهدي للمحصر فقال الجمهور: يذبح الهدي حيث يحل سواء كان في الحل أو الحرم وقال أبو حنيفة: لا يذبحه إلا في الحرم، وبه قال جماعة من أهل البيت منهم الهادي، وفصل آخرون كما قال ابن عباس، قال في الفتح: وهو المعتمد، قال: وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم هل نحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية في الحل أو في
[ 178 ]
الحرم؟ وكان عطاء يقول: لم ينحر يوم الحديبية إلا في الحرم، ووافقه ابن إسحاق، وقال غيره من أهل المغازي: إنما نحر في الحل. (فائدة): لم يذكر المصنف رحمه الله تعالى في كتابه هذا زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الموطن الذي يحسن ذكرها فيه كتاب الجنائز، ولكنها لما كانت تفعل في سفر الحج في الغالب ذكرها جماعة من أهل العلم في كتاب الحج فأحببنا ذكرها ههنا تكميلا للفائدة. (وقد اختلفت) فيها أقوال أهل العلم، فذهب الجمهور إلى أنها مندوبة، وذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية إلى أنها واجبة، وقالت الحنفية: إنها قريبة من الواجبات. وذهب ابن تيمية الحنبلي حفيد المصنف المعروف بشيخ الاسلام إلى أنها غير مشروعة، وتبعه على ذلك بعض الحنابلة، وروي ذلك عن مالك والجويني والقاضي عياض كما سيأتي. (احتج القائلون) بأنها مندوبة بقوله تعالى * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول) * (سورة النساء، الآية: 64) الآية، ووجه الاستدلال بها أنه صلى الله عليه وآله وسلم حي في قبره بعد موته كما في حديث: الانبياء أحياء في قبورهم وقد صححه البيهقي وألف في ذلك جزءا، قال الاستاذ أبو منصور البغدادي: قال المتكلمون المحققون من أصحابنا: إن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم حي بعد وفاته، انتهى. ويؤيد ذلك ما ثبت أن الشهداء أحياء يرزقون في قبورهم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وإذا ثبت أنه حي في قبره كان المجئ إليه بعد الموت كالمجئ إليه قبله، ولكنه قد ورد أن الانبياء لا يتركون في قبورهم فوق ثلاث، وروي فوق أربعين، فإن صح ذلك قدح في الاستدلال بالآية، ويعارض القول بدوام حياتهم في قبورهم ما سيأتي من أنه صلى الله عليه وآله وسلم ترد إليه روحه عند التسليم عليه، نعم حديث: من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي الذي سيأتي إن شاء الله تعالى إن صح فهو الحجة في المقام، واستدلوا ثانيا بقوله تعالى: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) * (سورة النساء، الآية: 100) الآية، والهجرة إليه في حياته الوصول إلى حضرته، كذلك الوصول بعد موته، ولكنه لا يخفى أن الوصول إلى حضرته في حياته فيه فوائد لا توجد في الوصول إلى حضرته بعد موته، منها: النظر إلى ذاته الشريفة، وتعلم أحكام الشريعة منه، والجهاد بين يديه وغير ذلك. واستدلوا ثالثا بالاحاديث الواردة في ذلك منها: الاحاديث الواردة في مشروعية زيارة القبور على
[ 179 ]
العموم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم داخل في ذلك دخولا أوليا، وقد تقدم ذكرها في الجنائز. وكذلك الاحاديث الثابتة من فعله صلى الله عليه وآله وسلم في زيارتها. ومنها: أحاديث خاصة بزيارة قبره الشريف، أخرج الدارقطني عن رجل من آل حاطب عن حاطب قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي وفي إسناده الرجل المجهول. وعن ابن عمر عند الدارقطني أيضا قال: قال فذكر نحوه، ورواه أبو يعلى في مسنده وابن عدي في كامله وفي إسناده حفص بن أبي داود وهو ضعيف الحديث، وقال أحمد فيه: إنه صالح. وعن عائشة عند الطبراني في الاوسط عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله، قال الحافظ: وفي طريقه من لا يعرف. وعن ابن عباس عند العقيلي مثله، وفي إسناده فضالة بن سعد المازني وهو ضعيف. وعن ابن عمر حديث آخر عند الدارقطني بلفظ: من زار قبري وجبت له شفاعتي وفي إسناده موسى بن هلال العبدي. قال أبو حاتم: مجهول أي العدالة. ورواه ابن خزيمة في صحيحه من طريقه وقال: إن صح الخبر فإن في القلب من إسناده شيئا، وأخرجه أيضا البيهقي، وقال العقيلي: لا يصح حديث موسى ولا يتابع عليه، ولا يصح في هذا الباب شئ، وقال أحمد: لا بأس به، وأيضا قد تابعه عليه مسلمة بن سالم كما رواه الطبراني من طريقه، وموسى بن هلال المذكور رواه عن عبيد الله بن عمر عن نافع وهو ثقة من رجال الصحيح، وجزم الضياء المقدسي والبيهقي وابن عدي وابن عساكر بأن موسى رواه عن عبد الله بن عمر المكبر وهو ضعيف، ولكنه قد وثقه ابن عدي، وقال ابن معين: لا بأس به، وروى له مسلم مقرونا بآخر. وقد صحح هذا الحديث ابن السكن وعبد الحق وتقي الدين السبكي. وعن ابن عمر عند ابن عدي والدارقطني وابن حبان في ترجمة النعمان بلفظ: من حج ولم يزرني فقد جفاني وفي إسناده النعمان بن شبل وهو ضعيف جدا ووثقه عمر ان بن موسى. وقال الدارقطني: الطعن في هذا الحديث على ابن النعمان لا عليه، ورواه أيضا البزار وفي إسناده إبراهيم الغفاري وهو ضعيف. ورواه البيهقي عن عمر قال: وإسناده مجهول. وعن أنس عند ابن أبي الدنيا بلفظ: من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة وفي إسناده سليمان بن زيد الكعبي، ضعفه ابن حبان والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات. وعن عمر عند أبي داود الطيالسي بنحوه وفي إسناده مجهول. وعن عبد الله بن مسعود عن أبي الفتح الازدي بلفظ: من حج حجة الاسلام وزار قبري وغزا
[ 180 ]
غزوة وصلى في بيت المقدس لم يسأله الله فيما افترض عليه وعن أبي هريرة بنحو حديث حاطب المتقدم. وعن ابن عباس عند العقيلي بنحوه. وعنه في مسند الفردوس بلفظ: من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان وعن علي بن أبي طالب عليه السلام عند ابن عساكر: من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في جواره وفي إسناده عبد الملك بن هارون بن عنبرة وفيه مقال. قال الحافظ: وأصح ما ورد في ذلك ما رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة مرفوعا: ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام وبهذا الحديث صدر البيهقي الباب، ولكن ليس فيه ما يدل على اعتبار كون المسلم عليه على قبره بل ظاهره أعم من ذلك. وقال الحافظ أيضا: أكثر متون هذه الاحاديث موضوعة، وقد رويت زيارته صلى الله عليه وآله وسلم عن جماعة من الصحابة منهم بلال عند ابن عساكر بسند جيد، وابن عمر عند مالك في الموطأ، وأبو أيوب عند أحمد وأنس، ذكره عياض في الشفاء، وعمر عند البزار، وعلي عليه السلام عند الدارقطني وغير هؤلاء، ولكنه لم ينقل عن أحد منهم أنه شد الرحل لذلك إلا عن بلال، لانه روى عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بداريا يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني؟ روى ذلك ابن عساكر. واستدل القائلون بالوجوب بحديث: من حج ولم يزرني فقد جفاني وقد تقدم، قالوا: والجفاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم محرم، فتجب الزيارة لئلا يقع في المحرم، وأجاب عن ذلك الجمهور بأن الجفاء يقال على ترك المندوب كما في ترك البر والصلة، وعلى غلظ الطبع كما في حديث: من بدا فقد جفا وأيضا الحديث على انفراده مما لا تقوم به الحجة لما سلف، واحتج من قال بأنها غير مشروعة بحديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وهو في الصحيح وقد تقدم وحديث: لا تتخذوا قبري عيدا رواه عبد الرزاق. قال النووي في شرح مسلم: اختلف العلماء في شد الرحل لغير الثلاثة كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة، فذهب الشيخ أبو محمد الجويني إلى حرمته، وأشار عياض إلى اختياره والصحيح عند أصحابنا أنه لا يحرم ولا يكره، قالوا: والمراد أن الفضيلة الثابتة إنما هي شد الرحل إلى هذه الثلاثة خاصة انتهى. وقد أجاب الجمهور عن حديث شد الرحل بأن القصر فيه إضافي باعتبار المساجد لا حقيقي، قالوا: والدليل على ذلك أنه قد ثبت بإسناد حسن في بعض
[ 181 ]
ألفاظ الحديث: لا ينبغي للمطي أن يشد رحالها إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الاقصى فالزيارة وغيرها خارجة عن النهي، وأجابوا ثانيا بالاجماع على جواز شد الرحال للتجارة وسائر مطالب الدنيا، وعلى وجوبه إلى عرفة للوقوف، وإلى منى للمناسك التي فيها، وإلى مزدلفة، وإلى الجهاد والهجرة من دار الكفر، وعلى استحبابه لطلب العلم، وأجابوا عن حديث: لا تتخذوا قبري عيدا بأنه يدل على الحث على كثرة الزيارة لا على منعها، وأنه لا يهمل حتى لا يزار إلا في بعض الاوقات كالعيدين، ويؤيده قوله: لا تجعلوا بيوتكم قبورا أي لا تتركوا الصلاة فيها، كذا قال الحافظ المنذري: وقال السبكي: معناه أنه لا تتخذوا لها وقتا مخصوصا لا تكون الزيارة إلا فيه، أو لا تتخذوه كالعيد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع للهو وغيره كما يفعل في الاعياد، بل لا يؤتى إلا الزيارة والدعاء والسلام والصلاة ثم ينصرف عنه. وأجيب عما روي عن مالك من القول بكراهة زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم بأنه إنما قال بكراهة زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم قطعا للذريعة، وقيل: إنما كره إطلاق لفظ الزيارة لان الزيارة من شاء فعلها ومن شاء تركها، وزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم من السنن الواجبة، كذا قال عبد الحق، واحتج أيضا من قال بالمشروعية بأنه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحج في جميع الازمان على تباين الديار واختلاف المذاهب الوصول إلى المدينة المشرفة لقصد زيارته، ويعدون ذلك من أفضل الاعمال، ولم ينقل أن أحدا أنكر ذلك عليهم فكان إجماعا.
[ 183 ]
أبواب الهدايا والضحايا باب في اشعار البدن وتقليد الهدي كله عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ناقته فأشعرها في صفحة سنامها الايمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن المسور بن مخرمة ومروان قالا: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعن عائشة قالت: فتلت قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أشعرها وقلدها ثم بعث بها إلى البيت، فما حرم عليه شئ كان له حلا متفق عليه. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهدى مرة إلى البيت غنما فقلدها رواه الجماعة. قوله: فأشعرها الاشعار هو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديا، ويكون ذلك في صفحة سنامها الايمن، وقد ذهب إلى مشروعيته الجمهور من السلف والخلف. وروى الطحاوي عن أبي حنيفة كراهته والاحاديث ترد عليه، وقد خالف الناس في ذلك حتى خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد، واحتج على الكراهة بأنه من المثلة. وأجاب الخطابي بمنع كونه منها
[ 184 ]
بل هو باب آخر كالكي وشق أذن الحيوان فيصير علامة، وغير ذلك من الوسم، وكالختان والحجامة انتهى. على أنه لو كان من المثلة لكان ما فيه من الاحاديث مخصصا له من عموم النهي عنها. وقد روى الترمذي عن النخعي أنه قال بكراهة الاشعار، وبهذا يتعقب على الخطابي وابن حزم في جزمهما بأنه لم يقل بالكراهة أحد غير أبي حنيفة. قوله: وقلدها نعلين فيه دليل على مشروعية تقليد الهدي، وبه قال الجمهور، قال ابن المنذر: أنكر مالك وأصحاب الرأي التقليد للغنم، زاد غيره: وكأنه لم يبلغهم الحديث انتهى. واحتجوا على عدم المشروعية بأنها تضعف عن التقليد وهي حجة أو هي من بيوت العنكبوت، فإن مجرد تعليق القلادة مما لا يضعف به الهدي، وأيضا إن فرض ضعفها عن بعض القلائد قلدت بما لا يضعفها، وأيضا قد وردت السنة بالاشعار وهو لا يترك لكونه مظنة للضعف، فكيف يترك ما ليس بمظنة لذلك مع ورود السنة به (قيل الحكمة) في تقليد الهدي النعل أن فيه إشارة إلى السفر والجد فيه. وقال ابن المنير: الحكمة فيه أن العرب تعد النعل مركوبة لكونها تقي صاحبها وتحمل عنه وعر الطريق، فكأن الذي أهدى خرج عن مركوبه لله تعالى حيوانا وغيره، كما خرج حين أحرم عن ملبوسه، ومن ثم استحب تقليد نعلين لا واحدة وقد اشترط الثوري ذلك، وقال غيره: تجزئ الواحدة، وقال آخرون: لا تتعين النعل بل كل ما قام مقامها أجزأ. قوله: فتلت قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زاد البخاري في رواية: من عهن كان عندي. وفيه رد على من كره القلائد من الاوبار واختار أن تكون من نبات الارض وهو منقول عن ربيعة ومالك، وقد ترجم البخاري على هذا الحديث باب القلائد عن العهن وهو الصوف. قوله: ثم بعث بها إلى البيت المهدى له حالان: إما أن يقصد النسك ويسوق الهدي معه فيكون التقليد والاشعار عند الاحرام، وإما أن يبعث بها ويقيم فيكونان عند البعث بها من المكان الذي هو مقيم به كما في هذا الحديث، ولا يحرم عليه بعد البعث بها ما يحرم على المحرم لقولها: فما حرم عليه شئ كان له حلا. قوله: غنما فقلدها فيه دليل على جواز أن يكون الهدي من الغنم، وهو يرد على الحنفية ومن وافقهم أن الهدي لا يجزئ من الغنم، ويرد على مالك ومن وافقه حيث قال: إن الغنم لا تقلد.
[ 185 ]
باب النهي عن ابدال الهدي المعين عن ابن عمر قال: أهدى عمر نجيبا فأعطي بها ثلثمائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيبا فأعطيت بها ثلثمائة دينار فأبيعها وأشتري بثمنها بدنا، قال: لا انحرها إياها رواه أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما. قوله: نجيبا النجيب والنجيبة الناقة والجمع نجائب. وفي النهاية: النجيب الفاضل من كحيوان، والحديث يدل على أنه لا يجوز بيع الهدي لابدال مثله أو أفضل، ثم قال وقد تكرر في الحديث ذكر النجيب من الابل مفردا ومجموعا وهو القوي منها الخفيف السريع انتهى. وقد جوزت الهادوية ذلك، وأجاب صاحب البحر عن حديث الباب بأنه حكاية فعل لا يعلم وجهها، فيحتمل أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى نجيبه أفضل، ولا يخفى أن رد السنن الفعلية بمثل هذا يستلزم رد أكثر أفعاله، ويستلزم رد ما لا يعلم وجهه من أقواله، فيفضي ذلك إلى رد أكثر السنة، وذلك باطل مخالف للآيات القرآنية القاضية باتباع الرسول والتأسي به والاخذ بما أتى به، لانها لم تفرق بين ما علم وجهه وما جهل، فمن ادعى اعتبار العلم فعليه الدليل على أن هذه المقالة قد صارت عصى يتوكأ بها من رام صيانة مذهبه إذا خالف الثابت من فعله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان له وجه أوضح من الشمس، ثم إنهم يحتجون بأفعاله إذ وافقت المذهب، ولا يقيدون الاحتجاج بمثل هذا القيد، وما أكثر هذا الصنع في تصرفاتهم لمن تتبع، فليأخذ المنصف من ذلك حذره، فإن المعذرة الباردة في طرح سنة صحيحة مما لا ينفق عند الله، ولا سيما إذا كان لقصد عن محض الرأي. وأما الاحتجاج على الجواز بإشراكه صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام في هديه وتصرفه عن العمرة إلى الاحصار فخارج عن محل النزاع، لان ذلك تصرف لا يخرج العين عن كونها هديا، ولا يبطل به الحق الذي قد تعلق بها للمصرف، وأيضا صحة الاحتجاج بالاشراك متوقفة على معرفة أنه صلى الله عليه وآله وسلم ساق جميع الهدي الذي أشرك عليا فيه عن نفسه وهو ممنوع، والسند أنه لم يقلد ويشعر
[ 186 ]
من ذلك الهدي الذي وقع فيه الاشراك إلا ناقة واحدة، وأيضا ثبت أنه كان يسوق عن أهله جميعا وعلي عليه السلام منهم، نعم إن صح ما ادعاه صاحب ضوء النهار من الاجماع على جواز إبدال الادون بأفضل كان حجة عند من يرى حجية الاجماع على جواز مجرد الابدال بالافضل، ولكنه ينبغي أن يبحث عن صحة ذلك، فإن الشافعي وبعض الحنفية قد احتجوا بالحديث على المنع من مطلق التصرف ولو كان للابدال بأفضل كما حكاه صاحب البحر، وأما دعوى أن الواحدة النجيبة أظهر في تعظيم الشعائر من غيرها وإن كان كثيرا فممنوع والسند ظاهر. باب أن البدنة من الابل والبقر عن سبع شياه وبالعكس عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتاه رجل فقال: إن علي بدنة وأنا موسر ولا أجدها فأشتريها، فأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن رواه أحمد وابن ماجه. وعن جابر: قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نشترك في الابل والبقر كل سبعة منا في بدنة متفق عليه. وفي لفظ قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اشتركوا في الابل والبقر كل سبعة في بدنة رواه البرقاني على شرط الصحيحين. وفي رواية قال: اشتركنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة، فقال رجل لجابر: أيشترك في البقر ما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن رواه مسلم. وعن حذيفة قال: شرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجته بين المسلمين في البقرة عن سبعة رواه أحمد. وعن ابن عباس قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فحضر الاضحى فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة رواه الخمسة إلا أبا داود. حديث ابن عباس الاول سياق إسناده في سنن ابن ماجه هكذا: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا محمد بن بكر البرساني قال: أخبرنا ابن جريج قال: قال عطاء الخراساني عن ابن عباس فذكره، ورجاله رجال الصحيح، ولكن عطاء لم يسمع من ابن عباس، ويشهد لصحته ما في صحيح مسلم من حديث جابر. قال: نحرنا مع رسول الله صلى
[ 187 ]
الله عليه وآله وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وهو يشهد أيضا لحديث حذيفة المذكور، وقد أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وقال في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله ثقات. وحديث ابن عباس الثاني حسنه الترمذي، ويشهد له ما في الصحيحين من حديث رافع بن خديج أنه صلى الله عليه وآله وسلم قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير. قوله: سبع شياه وكذا قوله: كل سبعة منا في بدنة استدل به من قال عدل البدنة سبع شياه وهو قول الجمهور، وادعى الطحاوي وابن رشد أنه إجماع، ويجاب عنهما بأن الخلاف في ذلك مشهور، حكاه الترمذي في سننه عن إسحاق بن راهويه. وكذا في الفتح وقال: هو إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب، وإليه ذهب ابن خزيمة واحتج له في صحيحه وقواه، واحتج له ابن حزم بحديث رافع المتقدم، وحكاه في البحر عن العترة وزفر واحتجوا بحديث ابن عباس الثاني المذكور في الباب، ويجاب عنه بأنه خارج عن محل النزاع لانه في الاضحية، فإن قالوا: يقاس الهدي عليها. قلنا: هو قياس فاسد الاعتبار لمصادمته النصوص، واحتجوا أيضا بحديث رافع ويجاب عنه أيضا بمثل هذا الجواب، لان ذلك التعديل كان في القسمة وهي غير محل النزاع، ويؤيد كون البدنة عن سبعة فقط أمره صلى الله عليه وآله وسلم لمن لم يجد البدنة أن يشتري سبعا فقط، ولو كانت تعدل عشرا لامره بإخراج عشر، لان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وظاهر أحاديث الباب جواز الاشتراك في الهدي وهو قول الجمهور، من غير فرق بين أن يكون المشتركون مفترضين أو متطوعين، أو بعضهم مفترضا وبعضهم متنفلا أو مريدا للحم. وقال أبو حنيفة: يشترط في الاشتراك أن يكونوا كلهم متقربين. ومثله عن زفر بزيادة أن تكون أسبابهم واحدة. وعن الهادوية: بشرط أن يكونوا مفترضين. وعن داود وبعض المالكية: يجوز في هدي التطوع دون الواجب. وعن مالك: لا يجوز مطلقا. وروي عن ابن عمر نحو ذلك ولكنه روى عنه أحمد ما يدل على الرجوع. قوله: ما هي إلا من البدن يعني البقرة، فيه دليل على أنه يطلق على البقر أنها من البدن. وفي النهاية: البدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة وهي بالابل أشبه. وفي القاموس: والبدنة محركة من الابل والبقر. وفي الفتح: أن أصل البدن من الابل وألحقت بها البقر شرعا. وحكي في البحر عن الهادي والشافعي والمؤيد بالله أن البدنة تختص بالابل. وعن أبي حنيفة وأصحابه والناصر أنها تطلق على البقر وعن
[ 188 ]
بعض أصحاب الشافعي أنها تطلق على الشاة، قال: ولا وجه له. وحكي فيه أيضا أن البقرة عن سبعة والشاة عن واحد إجماعا. قوله: والبعير عن عشرة فيه دليل على أن البدنة تجزئ في الاضحية عن عشرة، وسيأتي الكلام على ذلك. باب ركوب الهدي عن أنس قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يسوق البدنة فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها ثلاثا متفق عليه. ولهم من حديث أبي هريرة نحوه. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قد أجهده المشي قال: اركبها فقال: إنها بدنة، قال: اركبها وإن كانت بدنة رواه أحمد والنسائي. وعن جابر: أنه سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن علي عليه السلام: أنه سئل يركب الرجل هديه فقال: لا بأس به، قد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر بالرجال يمشون فيأمرهم بركوب هديه، قال: لا تتبعون شيئا أفضل من سنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد. حديث أنس الثاني أخرجه أيضا الجوزقي من طريق حميد عن ثابت عن أنس، وأبو يعلى من طريق الحسن عن أنس وزاد حافيا، وهو عند النسائي من طريق شعبة عن قتادة عن أنس، وضعف هذه الطرق الحافظ في الفتح. وحديث علي عليه السلام، قال في الفتح أيضا: إسناده صالح. وقال في مجمع الزوائد: في إسناده محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، وثقه ابن حبان وضعفه جماعة. وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه المصنف لفظه لفظ حديث أنس، ولكنه زاد في آخره: اركبها ويلك. قوله: رأى رجلا قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد طول البحث. قوله: يسوق بدنة في رواية لمسلم مقلدة، وكذا في رواية للبخاري، وله أيضا من طريق أبي هريرة: فلقد رأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنعل في عنقها. قوله: إنها بدنة أراد أنها بدنة مهداة إلى البيت الحرام، ولو كان مراده الاخبار عن كونها
[ 189 ]
بدنة لم يكن الجواب مفيدا، لان كونها من الابل معلوم، فالظاهر أن الرجل ظن أنه خفي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كونها هديا فقال: إنها بدنة، قال في الفتح: والحق أنه لم يخفى ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكونها كانت مقلدة، ولهذا قال لما زاد في مراجعته: ويلك وأحاديث الباب تدل على جواز ركوب الهدي من غير فرق بين ما كان منه واجبا أو تطوعا لتركه صلى الله عليه وآله وسلم للاستفصال، وبه قال عروة ابن الزبير، ونسبه ابن المنذر إلى أحمد وإسحاق، وبه قال أهل الظاهر، وجزم به النووي وجماعة من أصحاب الشافعي كالقفال والماوردي، وحكى ابن عبد البر عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وأكثر الفقهاء كراهة ركوبه بغير حاجة، وحكاه الترمذي أيضا عن أحمد وإسحاق والشافعي، وقيد الجواز بعض الحنفية بالاضطرار، ونقله ابن أبي شيبة عن الشعبي، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه يركب إذا اضطر ركوبا غير فادح، وحكى ابن العربي عن مالك أنه يركب للضرورة فإذا استراح نزل يعني إذا انتهت ضرورته، والدليل على اعتبار الضرورة ما في حديث جابر المذكور في الباب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها ونقل ابن العربي عن أبي حنيفة أنه لا يجوز ركوب الهدي مطلقا، وكذا نقله المهدي في البحر عنه، ولكن نقل عنه الطحاوي الجواز مع الحاجة ويضمن ما نقص منها بالركوب، والطحاوي أقعد بمعرفة مذهب إمامه، وقد وافق أبا حنيفة الشافعي على ضمان النقص في الهدي الواجب. ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر وجوب الركوب تمسكا بظاهر الامر، ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من البحيرة والسائبة، ورده بأن الذين ساقوا الهدي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا كثيرا ولم يأمر أحدا منهم بذلك انتهى. وتعقبه الحافظ بحديث علي عليه السلام المذكور في الباب قال: وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح رواه أبو داود في المراسيل عن عطاء قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بالهدية إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها أو يركبها غير منهكها واختلف من أجاز الركوب هل يجوز أن يحمل عليها متاعه؟ فمنعه مالك وأجازه الجمهور، وهل يحمل عليها غيره؟ أجازه الجمهور أيضا على التفصيل المتقدم. ونقل عياض الاجماع على أنه لا يؤجرها، واختلفوا أيضا في اللبن إذا احتلب منه شيئا، فعند العترة والشافعية والحنفية يتصدق به، فإن أكله تصدق بثمنه، وقال مالك: لا يشرب من لبنه فإن شرب لم يغرم.
[ 190 ]
باب الهدي يعطب قبل المحل عن أبي قبيصة ذؤيب بن حلحلة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث معه بالبدن ثم يقول: إن عطب منها شئ فخشيت عليها موتا فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. وعن ناجية الخزاعي وكان صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قلت: كيف أصنع بما عطب من البدن؟ قال: انحره واغمس نعله في دمه واضرب صفحته وخل بين الناس وبينه فليأكلوه رواه الخمسة إلا النسائي. وعن هشام بن عروة عن أبيه: أن صاحب هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي؟ فقال: كل بدنة عطبت من الهدي فانحرها ثم ألق قلائدها في دمها، ثم خل بين الناس وبينها يأكلوها رواه مالك في الموطأ عنه. حديث ناجية قال الترمذي: حسن صيحح، قال: والعمل على هذا عند أهل العلم في هدي التطوع إذا عطب لا يأكل هو ولا أحد من أهل رفقته، ويخلي بينه وبين الناس يأكلونه وقد أجزأ عنه، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقالوا: إن أكل منه شيئا غرم بقدر ما أكل منه انتهى. قوله: ثم اغمس نعلها الخ إنما يفعل ذلك لاجل أن يعلم من مر به أنه هدي فيأكله. قوله: من أهل رفقتك قال النووي: وفي المراد بالرفقة وجهان لاصحابنا: أحدهما أنهم الذين يخالطون المهدى في الادب وغيره دون باقي القافلة. والثاني وهو الاصح الذي يقتضيه ظاهر نص الشافعي وجمهور أصحابه أن المراد بالرفقة جميع القافلة، لان السبب الذي منعت به الرفقة هو خوف تعطيبهم إياه، وهذا موجود في جميع القافلة فإن قيل: إذا لم تجوزوا لاهل القافلة أكله وقلتم بتركه في البرية كان طعمه للسباع وهذا إضاعة مال. قلنا: ليس فيه إضاعة بل العادة الغالبة أن سكان البوادي يتتبعون منازل الحجيج لالتقاط ساقطة ونحو ذلك، وقد تأتي قافلة في أثر قافلة، والرفقة بضم الراء وكسرها لغتان مشهورتان. قوله: وخل بين الناس وبينه هذا مقيد بمن عدا المالك والرفقة كما في الحديث الاول. قوله: إن صاحب هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ناجية الخزاعي المذكور سابقا، وظاهر.
[ 191 ]
أحاديث الباب أن الهدي إذا عطب جاز نحره، والتخلية بينه وبين الناس يأكلونه غير الرفقة قطعا للذريعة، وهي أن يتوصل بعضهم إلى نحره قبل أوانه، والظاهر عدم الفرق بين هدي التطوع والفرض، وخصصه من تقدم بهدي التطوع، ولعل الوجه في ذلك أن الهدي الذي هو السبب هو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعث به وهو هدي تطوع قال النووي: ولا يجوز للاغنياء الاكل منه مطلقا لان الهدي مستحق للمساكين فلا يجوز لغيرهم انتهى. وقد اختلفت الروايات في مقدار البدن التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي رواية من حديث ابن عباس عند مسلم: أنها ست عشرة بدنة. وفي رواية أخرى: أنها ثماني عشرة، ويمكن الجمع بتعدد القصة، أو يصار إلى ترجيح الرواية المشتملة على الزيادة إن كانت القصة واحدة. باب الاكل من دم التمتع والقران والتطوع في صفة حديث جابر حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليا عليه السلام فنحر ما غبر وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها رواه أحمد ومسلم. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حج ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر ومعها عمرة، فساق ثلاثا وثلاثين بدنة، وجاء علي عليه السلام من اليمن ببقيتها فيها جمل لابي لهب في أنفه برة من فضة فنحرها وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كل بدنة ببضعة فطبخت وشرب من مرقها رواه الترمذي وابن ماجه. وقال فيه: جمل لابي جهل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخمس بقين من ذي القعدة ولا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل، قالت: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل: نحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أزواجه متفق عليه. وهو دليل على الاكل من دم القران لان عائشة كانت قارنة.
[ 192 ]
حديث جابر الثاني رواه الترمذي من طريق عبد الله بن أبي زياد الكوفي عن زيد بن حبان عن سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. وقال: هذا حديث غريب من حديث سفيان لا نعرفه إلا من حديث زيد بن حبان، ورأيت عبد الله بن عبد الرحمن روى هذا الحديث في كتبه عن عبد الله بن أبي زياد قال: وسألت محمدا عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري عن جعفر عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورأيته لا يعد هذا الحديث محفوظا. وقال: إنما يروى عن الثوري عن أبي إسحاق عن مجاهد مرسل، ثم قال: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا همام، حدثنا قتادة قال: قلت لانس: كم حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: حجة واحدة واعتمر أربع عمر ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وحبان بن هلال هو أبو حبيب البصري وثقه يحيى بن سعيد القطان. قوله: فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده في مسند أحمد وسنن أبي داود: أنه صلى الله عليه وآله وسلم نحر ثلاثين بيده وأمر عليا فنحر سائرها وقد قدمنا الترجيح بين الروايتين. قوله: وأشركه ظاهره أنه أشركه في نفس الهدي: قال القاضي عياض: وعندي أنه لم يكن شريكا حقيقة بل أعطاه قدرا يذبحه، قال والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثا وستين كما جاء في رواية الترمذي، وأعطى عليا عليه السلام البدن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة. قوله: ببضعة بفتح الباء لاغير وهي القطعة من اللحم. قوله: برة بضم الباء وفتح الراء مخففة وهي حلقة تجعل في أنف البعير. قوله: ولا نرى إلا الحج بضم النون أي نظن. قوله: بلحم بقر قد استدل بهذه الاحاديث على أنه يجوز الاكل للمهد من الهدي الذي يسوقه، قال النووي: وأجمع العلماء على أن الاكل من هدي التطوع وأضحيته سنة انتهى والظاهر أن يجوز الاكل من الهدي من غير فرق بين ما كان منه تطوعا وما كان فرضا لعموم قوله تعالى: * (فكلوا منها) * (سورة البقرة، الآية: 58) ولم يفصل، والتمسك بالقياس على الزكاة في عدم جواز الاكل من الهدي الواجب لا ينتهض لتخصيص هذا العموم، لان شرع الزكاة لمواساة الفقراء، فصرفها إلى المالك إخراج لها عن موضوعها، وليس شرع الدماء كذلك، لانها إما لجبر نقص أو لمجرد التبرع، فلا قياس مع الفارق فلا تخصيص. قوله: لان عائشة كانت قارنة قد اختلف فيما أحرمت به عائشة أولا،
[ 193 ]
فقيل: إنها عمرة مفردة لما ثبت عنها في الصحيح أنها قالت: فكنت ممن أهل بعمرة. وقيل: إنها أحرمت بالحج أولا وكانت مفردة لما ثبت عنها في الصحيح: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا نرى إلا أنه الحج وثبت عنها في حديث آخر: لبينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحج وقد أطال ابن القيم الكلام على هذا وبين الراجح من القولين، ودليل من قال: إنها كانت قارنة الحديث المتقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: يسعك طوافك لحجك وعمرتك وإلى هذا ذهب الجمهور، وذهب الكوفيون إلى أنها كانت غير قارنة لما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: وأهلي بالحج ودعي العمرة وأجاب الجمهور بأنها لم ترفض العمرة لما في صحيح مسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها بعد أن أمرها أن تهل بالحج ففعلت ووقفت المواقف كلها حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة وكذلك قوله: يسعك طوافك لحجك وعمرتك وقد قدمنا تأويل قوله: دعي العمرة، وقد استدل بقول عائشة المذكور: نحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أزواجه أن البقرة تجزئ عن أكثر من سبعة وقد ثبت في رواية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحر عن أزواجه بقرة أخرجها النسائي وأبو داود وغيرهما، وكذا في صحيح مسلم، والظاهر أنه لم يتخلف أحد من زوجاته يومئذ وهن تسع، ولكن لا يخفى أن مجرد هذا الظاهر لا تعارض به الاحاديث الصريحة الصحيحة السالفة المجمع على مدلولها. باب أن من بعث بهدي لم يحرم عليه شئ بذلك عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم رواه الجماعة. وفي رواية: أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة: أن عبد الله بن عباس قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه، فقالت عائشة: ليس كما قال ابن عباس أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي ثم قلدها بيده، ثم بعث
[ 194 ]
بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شئ أحله الله له حتى نحر الهدي أخرجاه. قوله: إن زياد بن أبي سفيان وقع التحديث بهذا في زمن بني أمية، وأما بعدهم فما كان يقال له إلا زياد ابن أبيه، وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد، وكانت أمه سمية مولاة الحرث بن كلدة الثقفي وهي تحت عبيد المذكور، فولدت زيادا على فراشه فكان ينسب إليه، فلما كان في أيام معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأن زيادا ولده فاستلحقه معاوية بذلك وخالف الحديث الصحيح: إن الولد للفراش وللعاهر الحجر وذلك لغرض دنيوي، وقد أنكر هذه الواقعة على معاوية من أنكرها حتى قيلت فيها الاشعار منها قول القائل: ألا أبلغ معاوية بن حرب * مغلغلة من الرجل اليماني أتغضب أن يقال أبوك عف * وترضى أن يقال أبوك زاني وقد أجمع أهل العلم على تحريم نسبته إلى أبي سفيان، وما وقع من أهل العلم في زمان بني أمية فإنما هو تقية، وذكر أهل الامهات نسبته إلى أبي سفيان في كتبهم مع كونهم لم يألفوها إلا بعد انقراض عصر بني أمية محافظة منهم على الالفاظ التي وقعت من الرواة في ذلك الزمان كما هو دأبهم. وقد وقع في صحيح مسلم بن زياد مكان زياد وهو وهم نبه عليه الغساني ومن تبعه والصواب زياد. وكذا قال النووي وجميع من تكلم على صحيح مسلم. قوله: بيدي فيه دفع التجوز بأن يظن أن الفتل وقع بإذنها لو قالت: فتلت فقط. قوله: مع أبي بفتح الهمزة وكسر الموحدة الخفيفة يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه، واستفيد من ذلك أن وقت البعث كان في سنة تسع عام حجة أبي بكر بالناس (وقد استدل) بالحديثين، على أنه لا يحرم على من بعث بهدي شئ من الامور التي تحل له وبه قال الجمهور. قال ابن عبد البر: خالف ابن عباس في هذا جميع الفقهاء، وتعقب بأنه قد قال بمقالته جماعة من الصحابة كابن عمر، رواه عنه ابن أبي شيبة وابن المنذر وقيس بن سعد، رواه عنه سعيد بن منصور وابن المنذر أيضا، وعلي عليه السلام وعمر رضي الله عنه رواه عنهما ابن أبي شيبة وابن المنذر أيضا. ومن غير الصحابة النخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون كما قال ابن المنذر. ونقل الخطابي عن أصحاب الرأي مثل قول ابن عباس وهو خطأ
[ 195 ]
عنهم كما قال الحافظ، وإلى مثل قول ابن عباس ذهبت الهادوية، وليس في قول ابن عباس ولا قول غيره من الصحابة حجة، ولا سيما إذا عارض الثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، نعم احتجوا بما أخرجه أحمد والطحاوي والبزار من حديث جابر قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه وقال: إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على مكان كذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لاخرج قميصي من رأسي قال في الفتح: وهذا لا حجة فيه لضعف إسناده، ويجاب عنه بأنه قال في مجمع الزوائد بعد أن ذكره رجال أحمد ثقات. وذكره من طريق أخرى وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وإنما قال هكذا لان أحمد رواه عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع ابني جابر يحدثان عن أبيهما فذكره. وعبد الرحمن وثقه النسائي وقواه أبو حاتم. وقال البخاري: فيه نظر، وبهذا يرد على المقبلي حيث قال: إن هذا الحديث أخرجه ابن النجار وغالب أحاديثه الضعف، والظاهر أنه لا أصل لهذا الحديث انتهى. وقد أخرج النسائي من حديث جابر أنهم كانوا إذا كانوا حاضرين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بعث الهدي، فمن شاء أحرم ومن شاء ترك، هكذا في جامع الاصول، وبه يحصل الجمع بين الاحاديث. باب الحث على الاضحية عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من هراقة دم، وأنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وأن الدم ليقع من الله عزوجل بمكان قبل أن يقع على الارض فطيبوا بها نفسا رواه ابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. وعن زيد بن أرقم قال: قلت أو قالوا: يا رسول الله ما هذه الاضاحي؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم، قالوا: ما لنا منها؟ قال: بكل شعرة حسنة، قالوا: فالصوف؟ قال: بكل شعرة من الصوف حسنة رواه أحمد وابن ماجه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا رواه أحمد وابن ماجه. وعن ابن
[ 196 ]
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنفقت الورق في شئ أفضل من نحيرة في يوم عيد رواه الدارقطني. حديث عائشة رواه الترمذي عن أبي عمر ومسلم بن عمر والحذاء المديني عن عبد الله بن نافع الصائغ عن ابن المثنى عن هشام بن عروة عن أبيه عنها. وقال بعد أن ذكر أن هذا الحديث حسن غريب: أنه لا يعرف من حديث هشام بن عروة إلا من هذا الوجه. وحديث زيد بن أرقم أخرجه أيضا الترمذي فقال: ويروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في الاضحية لصاحبها بكل شعرة حسنة، ويروى بقرونها انتهى. وحديث أبي هريرة صححه الحاكم، قال الحافظ في بلوغ المرام: لكن رجح الائمة غيره وقفه. وقال في الفتح: رجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره. (وفي الباب) عن أبي سعيد عند الحاكم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: قومي إلى ضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة منها يغفر لك ما سلف من ذنوبك وفي إسناده عطية. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه أنه حديث منكر وعن عمران بن حصين عند الحاكم أيضا مثل حديث أبي سعيد وفي إسناده أبو حمزة الثمالي وهو ضعيف جدا. وعن علي رضي الله عنه عند الحاكم أيضا والبيهقي مثله وفي إسناده عمرو بن خالد الواسطي وهو متروك. وعن علي رضي الله عنه أيضا من طريق أبي داود النخعي عن عبد الله بن حسن عن أبيه عن جده عند الطبراني بلفظ: من ضحى طيبة بها نفسه محتسبا بأضحيته كانت له حجابا من النار وأبو داود النخعي كذاب، قال أحمد: كان يضع الحديث. قوله: ما هذه الاضاحي هي جمع أضحية، قال الجوهري: قال الاصمعي فيها أربع لغات: أضحية وإضحية بضم الهمزة وكسرها وجمعها أضاحي بتشديد الياء وتخفيفها، واللغة الثالثة ضحية وجمعها أضاحي، والرابعة أضحاة بفتح الهمزة والجمع أضحى كأرطاة وأرطى وبها سمي يوم الاضحى. قال القاضي: وقيل سميت بذلك لانها تفعل في الضحى وهو ارتفاع النهار. قال النووي: وفي الاضحى لغتان: التذكير لغة قيس، والتأنيث لغة تميم. قوله: فلا يقربن مصلانا هذا الحديث من جملة ما استدل به القائلون بوجوب الضحية وسيأتي الكلام على ذلك. (وأحاديث الباب) تدل على مشروعية الضحية، ولا خلاف في ذلك كما في البحر، وأنها أحب الاعمال إلى الله
[ 197 ]
يوم النحر، وأنها تأتي يوم القيامة على الصفة التي ذبحت عليها، ويقع دمها بمكان من القبول قبل أن يقع على الارض وأنها سنة إبراهيم لقوله تعالى: * (وفديناه بذبح عظيم) * (سورة الصافات، الآية: 107) وأن للمضحي بكل شعرة من شعرات أضحيته حسنة، وأنه يكره لمن كان ذا سعة تركها، وأن الدراهم لم تنفق في عمل صالح أفضل من الاضحية، ولكن إذا وقعت لقصد التسنن وتجردت عن المقاصد الفاسدة وكانت على الوجه المطابق للحكمة في شرعها، وسيأتي إن شاء الله تعالى. باب ما احتج به في عدم وجوبها بتضحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمته عن جابر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عيد الاضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه فقال: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وعن علي بن الحسين عن أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول: اللهم هذا عن أمتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: هذا عن محمد وآل محمد فيطعمهما جميعا المساكين، ويأكل هو وأهله منهما فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي، قد كفاه الله المؤنة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والغرم رواه أحمد. الحديث الاول قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقال المطلب بن عبد الله بحنطب: يقال إنه لم يسمع من جابر. وقال أبو حاتم الرازي: يشبه أن يكون أدركه. والحديث الثاني سكت عنه الحافظ في التلخيص. وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير والبزار، قال في مجمع الزوائد: وإسناد أحمد والبزار حسن. وأخرج نحوه أحمد أيضا وابن ماجه والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة، وسيأتي في باب التضحية بالخصي. قوله:
[ 198 ]
أملحين الاملح هو الابيض الخالص، قاله ابن الاعرابي. وقال الاصمعي هو الابيض المشوب بشئ من السواد. وقال أبو حاتم: هو الذي يخالط بياضه حمرة وقيل: هو الاسود الذي يعلوه حمرة. وقال الكسائي: هو الذي فيه بياض وسواد والبياض أكثر وقال الخطابي: هو الابيض الذي في خلل صوفه طبقات سود. قوله: أقرنين قال النووي: أي لكل واحد منهما قرنان حسنان، وفيه دليل على استحباب التضحية بالاملح الاقرن. قال النووي: وأجمع العلماء على جواز التضحية بالاجم وهو الذي لم يخلق الله له قرنين، وأما المكسور فسيأتي الكلام فيه. (والحديثان) يدلان على أنه يجوز للرجل أن يضحي عنه وعن أتباعه وأهله ويشركهم معه في الثواب، وبه قال الجمهور، وكرهه الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، والحديثان يردان عليهم. وقد أخرج مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اللهم تقبل من محمد وآل محمد وعن أمة محمد وسيأتي في باب الذبح بالمصلى. وأخرج أيضا ابن ماجه والترمذي وصححه من حديث أبي أيوب أن الرجل كان يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسيأتي في باب الاجتزاء بالشاة. وقد تمسك بحديثي الباب وما ورد في معناهما من قال: إن الاضحية غير واجبة بل سنة وهم الجمهور. قال النووي: وممن قال بهذا أبو بكر وعمر وبلال وأبو مسعود البدري وسعيد بن المسيب وعلقمة والاسود وعطاء ومالك وأحمد وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور والمزني وابن المنذر وداود وغيرهم انتهى. وحكاه في البحر أيضا عمن ذكر من الصحابة وعن ابن مسعود وابن عباس. وحكاه أيضا عن العترة والشافعي وأبي يوسف ومحمد. وقال ربيعة والاوزاعي وأبو حنيفة والليث وبعض المالكية أنها واجبة على الموسر، وحكاه في البحر عن مالك. وقال النخعي: واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى. وقال محمد بن الحسن: واجبة على المقيم بالامصار، والمشهور عن أبي حنيفة أنه قال: إنما توجبها على مقيم يملك نصابا، كذا قال النووي. قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور. ولا خلاف في كونها من شرائع الدين. (ووجه) دلالة الحديثين وما في معناهما على عدم الوجوب أن الظاهر أن تضحيته صلى الله عليه وآله وسلم عن أمته وعن أهله تجزئ كمن لم يضح، سواء كان متمكنا من الاضحية أو غير متمكن، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن حديث: على أهل كل بيت أضحية وسيأتي في باب ما جاء في الفرع والعتيرة ما يدل على وجوبها على أهل كل
[ 199 ]
بيت يجدونها فيكون قرينة، على أن تضحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن غير الواجدين من أمته، ولو سلم الظهور المدعى فلا دلالة له على عدم الوجوب، لان محل النزاع من لم يضح عن نفسه ولا ضحى عنه غيره، فلا يكون عدم وجوبها على من كان في عصره من الامة مستلزما لعدم وجوبها على من كان في غير عصره منهم. (فإن قيل): هذا يستلزم أن تجزئ الشاة الواحدة عن جميع الامة قلنا: هذه مسألة أخرى خارجة عن محل النزاع سيأتي بيانها. ومن أدلة القائلين بعدم الوجوب ما أخرجه أحمد عن ابن عباس مرفوعا: أمرت بركعتي الضحى ولم تؤمروا بها، وأمرت بالاضحى ولم تكتب عليكم وأخرجه أيضا البزار وابن عدي والحاكم عنه بلفظ: ثلاث هن علي فرائض ولكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الضحى وأخرجه أيضا أبو يعلى عنه بلفظ: كتب علي النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها ويجاب عنه بأن في إسناد أحمد وأبي يعلى جابر الجعفي وهو ضعيف جدا، وفي إسناد البزار وابن عدي والحاكم ابن جناب الكلبي. وقد صرح الحافظ بأن الحديث ضعيف من جميع طرقه. وقد أخرجه الدارقطني بلفظ: ثلاث هن علي فريضة وهن لكم تطوع: الوتر وركعتا الفجر وركعتا الضحى وأخرجه البزار بلفظ: أمرت بركعتي الفجر والوتر وليس عليكم. ورواه الدارقطني أيضا وابن شاهين في ناسخه عن أنس مرفوعا: أمرت بالوتر والاضحى ولم يعزم على وفي إسناده عبد الله بن محرر وهو متروك، واستدلوا أيضا بما أخرجه البيهقي عن أبي بكر وعمر لانهما كانا لا يضحيان كراهة أن يظن من رآهما أنها واجبة. وكذلك أخرج عن ابن عباس وبلال وأبي مسعود وابن عمر ولا حجة في شئ من ذلك. واستدل من قال بالوجوب بقول الله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * (سورة الكوثر، الآية: 2) والامر للوجوب، وأجيب بأن المراد تخصيص الرب بالنحر له لا للاصنام، فالامر متوجه إلى ذلك لانه القيد الذي يتوجه إليه الكلام، ولا شك في وجوب تخصيص الله بالصلاة والنحر، على أنه قد روي أن المراد بالنحر وضع اليدين حال الصلاة على الصدر كما سلف في الصلاة، واستدلوا أيضا بحديث: من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا وقد تقدم. ووجه الاستدلال به أنه لما نهى من كان ذا سعة عن قربان المصلى إذا لم يضح دل على أنه قد ترك واجبا، فكأنه لا فائدة في التقرب مع ترك هذا الواجب. قال في
[ 200 ]
الفتح: وليس صريحا في الايجاب. واستدلوا أيضا بحديث مخنف بن سليم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال بعرفات: يا أيها الناس على أهل كل بيت أضحية في كل عام وعتيرة أخرجه أبو داود وأحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه، وسيأتي ما عليه من الكلام. وأجيب عنه بأنه منسوخ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا فرع ولا عتيرة ولا يخفى أن نسخ العتيرة على فرض صحته لا يستلزم نسخ الاضحية. واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله وهو متفق عليه من حديث جندب بن سفيان البجلي. وبما روي من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان ذبح قبل الصلاة فليعد وسيأتي هو وحديث جندب في باب بيان وقت الذبح، والامر ظاهر في الوجوب، ولم يأت من قال بعدم الوجوب بما يصلح للصرف كما عرفت، نعم حديث أم سلمة الآتي قريبا ربما كان صالحا للصرف لقوله: وأراد أحدكم أن يضحي لان التفويض إلى الارادة يشعر بعدم الوجوب. باب ما يجتنبه في العشر من أراد التضحية عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره رواه الجماعة إلا البخاري. ولفظ أبي داود وهو لمسلم والنسائي أيضا: من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره وأظفاره حتى يضحي. قوله: ذبح بكسر الذال أي حيوان يريد ذبحه فهو فعل بمعنى مفعول كحمل بمعنى محمول، ومنه قوله تعالى: * (وفديناه بذبح عظيم) * (سورة الصافات، الآية 107) الحديث استدل به على مشروعية ترك أخذ الشعر والاظفار بعد دخول عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي (وقد اختلف العلماء) في ذلك فذهب سعيد بن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يحرم عليه أخذ شئ من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الاضحية. وقال الشافعي وأصحابه: هو مكروه كراهة تنزيه وليس بحرام. وحكى الامام المهدي في البحر عن الامام يحيى والهادوية والشافعي أن ترك
[ 201 ]
الحلق والتقصير لمن أراد التضحية مستحب. وقال أبو حنيفة: لا يكره والحديث يرد عليه. وقال مالك في رواية: لا يكره، وفي رواية يكره، وفي رواية: يحرم في التطوع دون الواجب. واحتج من قال بالتحريم بحديث الباب لان النهي ظاهر في ذلك، واحتج الشافعي بحديث عائشة المتقدم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث بهديه ولا يحرم عليه شئ أحله الله له حتى ينحر هديه فجعل هذا الحديث مقتضيا لحمل حديث الباب على كراهة التنزيه، ولا يخفى أن حديث الباب أخص منه مطلقا، فيبنى العام على الخاص، ويكون الظاهر مع من قال بالتحريم، ولكن على من أراد التضحية. قال أصحاب الشافعي: والمراد بالنهي عن أخذ الظفر والشعر النهي عن إزالة الظفر بقلم أو كسر أو غيره، والمنع من إزالة الشعر بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق أو أخذه بنورة أو غير ذلك من شعور بدنه. قال إبراهيم المروزي وغيره من أصحاب الشافعي: حكم أجزاء البدن كلها حكم الشعر والظفر، ودليله ما ثبت في رواية لمسلم: فلا يمسن من شعره وبشره شيئا والحكمة في النهي أن يبقى كامل الاجزاء للعتق من النار، وقيل: للتشبه بالمحرم، حكى هذين الوجهين النووي، وحكي عن أصحاب الشافعي أن الوجه الثاني غلط لانه لا يعتزل النساء ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم. باب السن الذي يجزئ في الاضحية وما لا يجزئ عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. وعن البراء بن عازب قال: ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: شاتك شاة لحم، فقال: يا رسول الله إن عندي داجنا جذعة من المعز، قال: اذبحها ولا تصلح لغيرك، ثم قال: من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين متفق عليه. قوله: إلا مسنة قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شئ من الابل والبقر
[ 202 ]
والغنم فما فوقها، وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع ولا يجزئ إلا إذا عسر على المضحي وجود المسنة. وقد قال ابن عمر والزهري: إنه لا يجزئ الجذع من الضأن ولا من غيره مطلقا. قال النووي: ومذهب العلماء كافة أنه يجزئ سواء وجد غيره أم لا، وحملوا هذا الحديث على الاستحباب والافضل وتقديره: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن وأنها لا تجزئ بحال، وقد أجمعت الامة على أنه ليس على ظاهره، لان الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فيتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب، كذا قال النووي: ولا يخفى أن قوله: لا تذبحوا نهى عن التضحية بما عدا المسنة مما دونها، وذبح الجذعة مقيد بتعسر المسنة فلا يجزئ مع عدمه، ولا بد من مقتض للتأويل المذكور. وحديث أبي هريرة وما بعده من الاحاديث المذكورة في هذا الباب تصلح لجعلها قرينة مقتضية للتأويل فيتعين المصير إليه لذلك. قوله: جذعة من الضأن الجذع من الضأن ما له سنة تامة، هذا هو الاشهر عن أهل اللغة وجمهور أهل العلم من غيرهم. وقيل: ما له ستة أشهر. وقيل: سبعة. وقيل: ثمانية. وقيل: عشرة. وقيل: إن كان متولدا بين شاتين فستة أشهر، وإن كان بين هرمين فثمانية. قوله: شاتك شاة لحم أي ليست أضحية ولا ثواب فيها بل هو لحم لك تنتفع به. قوله: إن عندي داجنا الخ، الداجن ما يعلف في البيت من الغنم والمعز وفي رواية لمسلم: إن عندي جذعا وفيه دليل على أن جذعة المعز لا تجزئ في الاضحية. قال النووي: وهذا متفق عليه. قوله: من ذبح قبل الصلاة يأتي شرح هذا إن شاء الله في باب بيان وقت الذبح. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: نعم أو نعمت الاضحية الجذع من الضأن ورواه أحمد والترمذي. وعن أم بلال بنت هلال عن أبيها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يجوز الجذع من الضأن ضحية رواه أحمد وابن ماجه. وعن مجاشع بن سليم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية رواه أبو داود وابن ماجه. وعن عقبة بن عامر قال: ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 203 ]
بالجذع من الضأن رواه النسائي. وعن عقبة بن عامر قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه ضحايا فصارت لعقبة جذعة فقلت يا رسول الله أصابني جذع، فقال: ضح به متفق عليه وفي رواية للجماعة إلا أبا داود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود فذكره للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ضح به أنت قلت: والعتود من ولد المعز ما رعي وقوي وأتى عليه حول. حديث أبي هريرة رواه الترمذي من طريق يوسف بن عيسى عن وكيع عن عثمان بن واقد عن كدام بن عبد الرحمن عن أبي كباش قال: جلبت غنما جذعانا إلى المدينة فكسدت علي، فلقيت أبا هريرة فسألته فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث. وقال: غريب وقد روي موقوفا وذكره الحافظ في التلخيص ولم يزد على هذا، ويشهد له حديث عبادة بن الصامت عند أبي داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي مرفوعا بلفظ: خير الضحية الكبش الاقرن وأخرجه أيضا الترمذي وزاد: وخير الكفن الحلة وأخرجه بنحو اللفظ الاول أيضا ابن ماجه والبيهقي من حديث أبي أمامة وفي إسناده عفير ابن معدان وهو ضعيف. قال الترمذي (وفي الباب) عن أم بلال بنت هلال عن أبيها وجابر وعقبة بن عامر ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى. وحديث أم بلال أخرجه أيضا ابن جرير الطبري والبيهقي وأشار إليه الترمذي كما سلف ورجال إسناده كلهم بعضهم ثقة وبعضهم صدوق وبعضهم مقبول. وحديث مجاشع بن سليم في إسناده عاصم ابن كليب، قال ابن المديني: لا يحتج به إذا انفرد. وقال الامام أحمد: لا بأس به وقال أبو حاتم الرازي: صالح، وأخرج له مسلم. وحديث عقبة الاول أخرجه أيضا ابن وهب، وذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه ورجال إسناده ثقات. قوله: نعمت الاضحية الجذع من الضأن فيه دليل على أن التضحية بالضأن أفضل، وبه قال مالك وعلل ذلك بأنها أطيب لحما. وذهب الجمهور إلى أن أفضل الانواع للمنفرد البدنة، ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز، واحتجوا بأن البدنة تجزئ عن سبعة أو عشرة على الخلاف، والبقرة تجزئ عن سبعة. وأما الشاة فلا تجزئ إلا عن واحد بالاتفاق، وما كان يجزئ عن الجماعة إذا ضحى به الواحد كان أفضل مما يجزئ عن الواحد
[ 204 ]
فقط، هكذا حكى النووي الاتفاق على أن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد. وحكى المهدي في البحر عن الهادي والقاسم أنها تجزئ عن ثلاثة، واحتج لهما بتضحيته صلى الله عليه وآله وسلم بالشاة عن محمد وآل محمد، وأورد عليه أنه يلزم أن تجزئ عن أكثر من ثلاثة، وأجاب بأنه منع من ذلك الاجماع. وحكى الترمذي في سننه عن بعض أهل العلم أنها تجزئ الشاة عن أهل البيت وقال: وهو قول أحمد وإسحاق. واختلف أصحاب مالك فيما بعد الغنم فقيل: الابل أفضل، وقيل: البقر وهو الاشهر عندهم. قوله: يوفي الخ، أي يجزئ كما تجزئ الثنية. قوله: عتود بفتح المهملة وضم الفوقية وسكون الواو، وقد فسره أهل اللغة بما فسره به المصنف كما نقله النووي عنهم. قال الجوهري: وخيره ما بلغ سنة، وجمعه أعتدة وعتدان بإدغام التاء في الدال. قال البيهقي وغيره من أصحاب الشافعي وغيرهم: كانت هذه رخصة لعقبة بن عامر، كما كان مثلها رخصة لابي بردة بن نيار في الحديث المتقدم، ثم روي ذلك بإسناد صحيح عن عقبة قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غنما أقسمها ضحايا بين أصحابي فبقي عتود منها فقال: ضح بها أنت ولا رخصة لاحد فيها بعدك قال: وعلى هذا يحمل أيضا ما رويناه عن زيد بن خالد قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه غنما فأعطاني عتودا جذعا فقال: ضح به، فقلت: إنه جذع من المعز أضحي به؟ قال: نعم، ضح به فضحيت به وقد أخرج هذا الحديث أيضا أبو داود بإسناد حسن وليس فيه من المعز، والتأويل الذي قاله البيهقي وغيره متعين، وإلى المنع من التضحية بالجذع من المعز ذهب الجمهور. وعن عطاء والاوزاعي تجوز مطلقا وهو وجه لبعض الشافعية حكاه الرافعي. وقال النووي: هو شاذ أو غلط، وأغرب عياض فحكى الاجماع على عدم الاجزاء. (وأحاديث) الباب تدل على أنها تجوز التضحية بالجذع من الضأن كما ذهب إليه الجمهور، فيرد بها على ابن عمر والزهري حيث قالا: إنه لا يجزئ، وقد تقدم الكلام في ذلك. باب ما لا يضحى به لعيبه وما يكره ويستحب عن علي عليه السلام قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 205 ]
أن يضحى بأعضب القرن والاذن، قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: العضب النصف فأكثر من ذلك رواه الخمسة وصححه الترمذي، لكن ابن ماجه لم يذكر قول قتادة إلى آخره. وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أربع لا تجوز في الاضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسير التي لا تنقى رواه الخمسة وصححه الترمذي. وروى يزيد ذو مصر قال: أتيت عتبة بن عبد السلمي فقلت: يا أبا الوليد إني خرجت ألتمس الضحايا فلم أجد شيئا يعجبني غير ثرماء فما تقول؟ قال: ألا جئتني أضحي بها؟ قال: سبحان الله تجوز عنك ولا تجوز عني؟ قال: نعم إنك تشك ولا أشك، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء، فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها، والمستأصلة التي ذهب قرنها من أصله، والبخقاء التي تبخق عينها، والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفا وضعفا، والكسراء التي لا تنقى رواه أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه، ويزيد ذو مصر بكسر الميم وبالصاد المهملة الساكنة. حديث علي عليه السلام صححه الترمذي كما ذكر المصنف، وسكت عنه أبو داود والمنذري. وحديث البراء أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه النووي. وادعى الحاكم في كتاب الضحايا أن مسلما أخرجه وأنه مما أخذ عليه، لانه من رواية سليمان بن عبد الرحمن عند عبيد بن فيروز، وقد اختلف الناقلون عنه فيه انتهى. وهذا خطأ منه، فإن مسلما لم يخرجه في صحيحه، وقد ذكره على الصواب في أواخر كتاب الحج فقال: صحيح ولم يخرجاه وحديث عتبة بن عبد السلمي أخرجه أيضا الحاكم وسكت عنه أبو داود والمنذري. قوله: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يضحى بأعضب القرن الخ، فيه دليل على أنها لا تجزئ التضحية بأعضب القرن والاذن وهو ما ذهب نصف قرنه أو أذنه. وذهب أبو حنيفة والشافعي والجمهور إلى أنها تجزئ التضحية بمكسور القرن مطلقا، وكرهه مالك إذا كان يدمي وجعله عيبا. وقال في البحر: إن أعضب القرن المنهي عنه هو الذي كسر قرنه أو عضب من أصله حتى يرى الدماغ لا دون ذلك فيكره فقط، ولا يعتبر الثلث فيه بخلاف الاذن. وفي القاموس: أن العضباء الشاة المكسورة القرن الداخل، فالظاهر
[ 206 ]
أن مكسورة القرن لا تجوز التضحية بها إلا أن يكون الذاهب من القرن مقدارا يسيرا بحيث لا يقال لها عضباء لاجله، أو يكون دون النصف إن صح أن التقدير بالنصف المروي عن سعيد بن المسيب لغوي أو شرعي، ولا يلزم تقييد هذا الحديث بما في حديث عتبة من النهي عن المستأصلة وهي ذاهبة القرن من أصله، لان المستأصلة عضباء وزيادة، وكذلك لا تجزئ التضحية بأعضب الاذن وهو ما صدق عليه اسم العضب لغة أو شرعا، ولكن تفسير المصفرة المذكورة في حديث عتبة بالتي تستأصل أذنها كما ذكره المصنف ومثله، ذكر صاحب النهاية يدل على أن عضب الاذن المانع من الاجزاء هو ذلك لا دونه، وهذا بعد ثبوت اتحاد مدلول عضباء الاذن والمصفرة والظاهر أنهما مختلفان، فلا تجزئ عضباء الاذن وهي ذاهبة نصف الاذن أو مشقوقتها، أو التي جاوز القطع ربعها على حسب الخلاف فيها بين أهل اللغة، ولا المصفرة وهي ذاهبة جميع الاذن لانها عضباء وزيادة، وقد قيل: إن المصفرة هي المهزولة، حكى ذلك صاحب النهاية واقتصر عليه صاحب التلخيص. ووجه التفسير الاول أن صماخها صار صفرا من الاذن. ووجه الثاني أنها صارت صفرا من السمن أي خالية منه. قوله: أربع لا تجوز الخ، فيه دليل على أن متبينة العور والعرج والمرض لا يجوز التضحية بها إلا ماكان من ذلك يسيرا غير بين، وكذلك الكثير التي لا تنقي بضم التاء الفوقية وإسكان النون وكسر القاف أي التي لا نقي لها بكسر النون وإسكان القاف وهو المخ. وفي رواية الترمذي والنسائي: والعجفاء بدل الكسير. قال النووي: وأجمعوا على أن العيوب الاربعة المذكورة في حديث البراء وهي المرض والعجف والعور والعرج البينات لا تجزئ التضحية بها، وكذا ما كان في معناها أو أقبح منها كالعمى وقطع الرجل وشبهه انتهى. قوله: عن المصفرة بضم الميم وإسكان الصاد المهملة وفتح الفاء وقد تقدم تفسيرها. قوله: والبخقاء بفتح الموحدة وسكون الخاء المعجمة بعدها قاف قال في النهاية: البخق أن يذهب البصر وتبقى العين قائمة. وفي القاموس: البخق محركة أقبح العور وأكثره غمصا، أو أن لا يلتقي شفر عينه على حدقته بخق كفرح وكنصر، والعين البخقاء والباخقة والبخيق والبخيقة العوراء، ورجل بخيق كأمير وباخق العين ومبخوقها أبخق وبخق عينه كمنع عورها، وأبخقها فقأها والعين ندرت انتهى. قوله: والمشيعة قال في القاموس:
[ 207 ]
ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المشيعة في الاضاحي بالفتح أي التي تحتاج إلى من يشيعها أي يتبعها الغنم لضعفها، وبالكسر وهي التي تشيع الغنم أي تتبعها لعجفها انتهى. (وهذه الاحاديث) تدل على أنه لا يجزئ في الاضحية ما كان فيه أحد العيوب المذكورة، ومن ادعى أنه يجزئ مطلقا أو يجزئ مع الكراهة احتاج إلى إقامة دليل يصرف النهي عن معناه الحقيقي وهو التحريم المستلزم لعدم الاجزاء، ولا سيما بعد التصريح في حديث البراء بعدم الجواز. وعن أبي سعيد قال: اشتريت كبشا أضحي به، فعدا الذئب فأخذ الالية، قال: فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ضح به رواه أحمد. وهو دليل على أن العيب الحادث بعد التعيين لا يضر. وعن علي عليه السلام قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستشرف العين والاذن، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء. رواه الخمسة وصححه الترمذي. وعن أبي أمامة بن سهل قال: كنا نسمن الاضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين رواه أحمد والعفراء التي بياضها ليس بناصع. وعن أبي سعيد قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكبش أقرن فحيل يأكل في سواد ويمشي في سواد وينظر في سواد رواه أحمد وصححه الترمذي. حديث أبي سعيد الاول أخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جدا، وفيه أيضا محمد بن قرظة بفتح القاف والراء، قال في التلخيص: غير معروف، وقال في التقريب: مجهول، وقد قيل: إنه وثقه ابن حبان، ويقال: إنه لم يسمع من أبي سعيد. قال البيهقي: ورواه حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن عطية عن أبي سعيد: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شاة قطع ذنبها يضحي بها قال: ضح بها والحجاج ضعيف. وحديث علي عليه السلام أخرجه أيضا البزار وابن حبان والحاكم والبيهقي وأعله الدارقطني. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي، ورواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس بلفظ: دم الشاة البيضاء عند الله أزكى من دم السوداوين وفيه حمزة النصيبي قد اتهم بوضع الحديث. ورواه الطبراني أيضا وأبو نعيم من حديث كبيرة بنت
[ 208 ]
سفيان نحو الاول. ورواه البيهقي موقوفا على أبي هريرة، ونقل عن البخاري أن رفعه لا يصح. وحديث أبي سعيد الثاني صححه ابن حبان أيضا وهو على شرط مسلم قاله صاحب الاقتراح وأخرج مسلم من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد ويبرك في سواد، فأتى به ليضحي به فقال: يا عائشة هلمي المدية ثم قال: اشحذيها بحجر ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه الحديث. قوله: فقال ضح به فيه دليل على أن ذهاب الالية ليس عيبا في الضحية، من غير فرق بين أن يكون ذلك بعد التعيين أو قبله، كما يدل على ذلك رواية البيهقي التي ذكرناها. وقالت الهادوية والامام يحيى: إن ذهاب الالية عيب، وتمسكوا بالقياس على ذهاب الاذن والقرن وهو فاسد الاعتبار. قوله: أن نستشرف العين والاذن أي نشرف عليهما ونتأملهما كي لا يقع فيهما نقص وعيب. وقيل: إن ذلك مأخوذ من الشرف بضم الشين وهو خيار المال أي أمرنا أن نتخيرهما. وقال الشافعي معناه: أن نضحي بواسع العينين طويل الاذنين. قوله: بمقابلة بفتح الموحدة، قال في القاموس: هي شاة قطعت أنها من قدام وتركت معلقة، ومثله في النهاية إلا أنه لم يقيد بقدام. قوله: ولا مدابرة بفتح الموحدة أيضا هي التي قطعت أنها من جانب. وفي القاموس ما لفظه: وهو مقابل ومدابر محض من أبويه، وأصله من الاقبالة والادبارة وهو شق في الاذن ثم يفتل ذلك، فإن أقبل به فهو إقبالة، وإن أدبر به فإدبارة، والجلدة المعلقة من الاذن هي الاقبالة والادبارة كأنها زنمة، والشاة مدابرة ومقابلة، وقد دابرها وقابلها انتهى. قوله: ولا شرقاء هي مشقوقة الاذن طولا كما في القاموس. قوله: ولا خرقاء قال في النهاية: الخرقاء التي في أذنها خرق مستدير. قوله: كنا نسمن الخ، فيه استحباب تسمين الاضحية، لان الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك. وحكى القاضي عياض عن بعض أصحاب مالك كراهة ذلك لئلا يتشبه باليهود، قال النووي: وهذا قول باطل. قوله: دم عفراء الخ، فيه استحباب التضحية بالاعفر من الانعام، وأنه أحب إلى الله من أسودين، والعفراء على ما في القاموس البيضاء، قال أيضا: والاعفر من الظباء ما يعلو بياضه حمرة وأقرانه بيض، والابيض ليس بالشديد البياض، انتهى. وحكي في البحر عن الامام يحيى أنه قال: الافضل الابيض ثم الاعفر ثم الاملح والاشعر الاطيب إجماعا لقوله تعالى: * (ومن
[ 209 ]
يعظم شعائر الله) * (سورة الحج، الآية: 32) وما غلا لنفاسته أفضل مما رخص انتهى. قوله: بكبش أقرن قد تقدم الكلام على ذلك. قوله: فحيل فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضحى بالفحيل كما ضحى بالخصي. قوله: يأكل في سواد الخ معناه أن فمه أسود وقوائمه وحول عينيه، وفيه دليل على أنها تستحب التضحية بما كان على هذه الصفة. باب التضحية بالخصي عن أبي رافع قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكبشين أملحين موجوأين خصيين. وعن عائشة قالت: ضحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكبشين سمينين عظيمين أملحين أقرنين موجوأين رواهما أحمد. وعن أبي سلمة عن عائشة وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوأين، فذبح أحدهما عن أمته لمن شهد بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد وآل محمد رواه ابن ماجه. حديث أبي رافع أخرجه أيضا الحاكم، قال في مجمع الزوائد: وإسناده حسن. وحديث عائشة أخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي والحاكم من حديثها. وحديث أبي هريرة ومدار طرقه كلها على عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه مقال، وفي إسناد حديث أبي هريرة وعائشة عيسى بن عبد الرحمن بن فروة وهو ضعيف (وفي الباب) عن جابر عند الحاكم من طريق ابن عقيل وله شاهد من حديث جابر أيضا من طريق أخرى عند أبي داود والبيهقي، وعن أبي الدرداء عند أحمد والطبراني. قوله: أملحين قد تقدم تفسير الاملح والاقرن والموجوء منزوع الانثيين كما ذكره الجوهري وغيره وقيل: هو المشقوق عرق الانثيين والخصيتان بحالهما. قوله: سمينين فيه استحباب التضحية بالسمين (واستدل) بأحاديث الباب على استحباب التضحية بالاقرن الاملح، وقد حكى النووي الاتفاق على ذلك، وتقدم حديث: دم عفراء أحب عند الله من دم سوداوين وتقدم أن الاملح خالص البياض أو المشوب بحمرة، والاعفر كذلك، وتقدم أن مسلوب القرن تجوز التضحية به (واستدل) بأحاديث الباب على استحباب التضحية بالموجوء، وبه
[ 210 ]
قالت الهادوية: والظاهر أنه لا مقتضى للاستحباب لانه قد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم التضحية بالفحيل كما مر في حديث أبي سعيد، فيكون الكل سواء. واستدل بحديث أبي هريرة على أنها تجزئ الشاة عن العدد الكثير، وسيأتي الخلاف في ذلك. باب الاجتزاء بالشاة لاهل البيت الواحد عن عطاء بن يسار قال: سألت أبا أيوب الانصاري كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، حتى تباهى الناس فصار كما ترى رواه ابن ماجه والترمذي وصححه. وعن الشعبي عن أبي سريحة قال: حملني أهلي على الجفاء بعد ما علمت من السنة كان أهل البيت يضحون بالشاة والشاتين والآن يبخلنا جيراننا رواه ابن ماجه. الحديث الاول أخرجه أيضا مالك في الموطأ. وأخرجه الترمذي من طريق يحيى بن موسى عن أبي بكر الحنفي عن الضحاك بن عثمان عن عمارة بن عبد الله قال: سمعت عطاء بن يسار يقول: سألت أبا أيوب فذكره وقال: هذا حديث حسن صحيح، وعمارة بن عبد الله هو مديني، وقد رواه عنه مالك بن أنس، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق، واحتجا بحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضحى بكبش فقال: هذا عمن لم يضح من أمتي وقال بعض أهل العلم: لا تجزئ الشاة إلا عن نفس واحدة وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره من أهل العلم انتهى. وحديث أبي سريحة إسناده في سنن ابن ماجه إسناد صحيح. قوله: يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيه دليل على أن الشاة تجزئ عن أهل البيت، لان الصحابة كانوا يفعلون ذلك في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، والظاهر اطلاعه فلا ينكر عليهم، ويدل على ذلك أيضا حديث: على كل أهل بيت في كل عام أضحية وسيأتي في باب ما جاء في الفرع والعتيرة، وبه قال من تقدم ذكره. وقال الهادي والقاسم: تجزئ الشاة عن ثلاثة، وقيل: تجزئ عن واحد فقط، وبه قال من سلف. وقد زعم النووي أنه متفق عليه وهو غلط، وقد وافقه على دعوى الاجماع ابن رشد، وكذلك
[ 211 ]
زعم المهدي في البحر أنه لا قائل بأن الشاة تجزئ عن أكثر من ثلاثة وهو أيضا غلط، والحق أنها تجزئ عن أهل البيت وإن كانوا مائة نفس أو أكثر كما قضت بذلك السنة، ولعل متمسك من قال: إنها تجزئ عن واحد فقط القياس على الهدي وهو فاسد الاعتبار، وأما من قال: إنها تجزئ عن ثلاثة فقط فقد استدل لهم صاحب البحر بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: عن محمد وآل محمد ثم قال: ولا قائل بأكثر من الثلاثة فاقتصر عليهم انتهى. ولا يخفاك أن الحديث حجة عليه لا له، وأن نفي القائل بأكثر من الثلاثة ممنوع والسند ما سلف، وقد اختلف في البدنة فقالت الشافعية والحنفية والجمهور: إنها تجزئ عن سبعة. وقالت العترة وإسحاق بن راهويه وابن خزيمة: إنها تجزئ عن عشرة وهذا هو الحق هنا لحديث ابن عباس المتقدم في باب أن البدنة من الابل والبقر عن سبع شياه، والاول هو الحق في الهدي للاحاديث المتقدمة هنالك. وأما البقرة فتجزئ عن سبعة فقط اتفاقا في الهدي والاضحية. قوله: فصار كما ترى في نسخة من هذا الكتاب: فصاروا كما ترى، ولفظ الترمذي: فصارت كما ترى. باب الذبح بالمصلى والتسمية والتكبير على الذبح والمباشرة له عن نافع عن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان يذبح وينحر بالمصلى رواه البخاري والنسائي وابن ماجه وأبو داود. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد وينظر في سواد، فأتي به ليضحي به فقال لها: يا عائشة هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها على حجر ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن أنس قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكبشين أملحين أقرنين فرأيته واضعا قدميه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده رواه الجماعة. وعن جابر قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عيد بكبشين فقال حين وجههما: * (وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين) * (سورة الانعام، الآية: 79) * (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) * (سورة الانعام، الآية: 162 - 163) اللهم منك ولك عن محمد وأمته رواه ابن ماجه.
[ 212 ]
حديث جابر أخرجه أيضا أبو داود والبيهقي وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال تقدم، وفي إسناده أيضا أبو عياش، قال في التلخيص: لا يعرف. قوله: كان يذبح وينحر بالمصلى فيه استحباب أن يكون الذبح والنحر بالمصلى وهو الجبانة. والحكمة في ذلك أن يكون بمرأى من الفقراء فيصيبون من لحم الاضحية. قوله: يطأ في سواد الخ أي بطنه وقوائمه وما حول عينيه سود كما تقدم. قوله: هلمي المدية أي هاتيها، والمدية بضم الميم وكسرها وفتحها وهي السكين. قوله: اشحذيها بالشين المعجمة والحاء المهملة المفتوحة وبالذال المعجمة أي حدديها، وفيه استحباب إحسان الذبح وكراهة التعذيب، كأن يذبح بما في حده ضعف. قوله: وأخذ الكبش الخ، هذا الكلام فيه تقديم وتأخير وتقديره فأضجعه ثم أخذ في ذبحه قائلا: بسم الله الخ، مضحيا به، وفيه استحباب إضجاع الغنم في الذبح، وأنها لا تذبح قائمة ولا باركة بل مضجعة لانه أرفق بها، وبهذا جاءت الاحاديث وأجمع عليه المسلمون كما قال النووي، واتفق العلماء على أن إضجاعها يكون على جانبها الايسر، حكى ذلك النووي أيضا لانه أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها باليسار. وفيه استحباب قول المضحي: بسم الله، وكذلك تستحب التسمية في سائر الذبائح وهو مجمع عليه، ولكن وقع الخلاف في وجوبها. قوله: ويكبر فيه دليل على استحباب التكبير مع التسمية فيقول: بسم الله والله أكبر. والصفحة جانب العنق، وإنما فعل ذلك ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من إكمال الذبح أو تؤذيه. قال النووي: وهذا أصح من الحديث الذي جاء بالنهي عن ذلك. قوله: فذبحهما بيده فيه استحباب تولي الانسان ذبح أضحيته بنفسه، فإن استناب قال النووي: جاز بلا خلاف، وإن استناب كتابيا كره كراهة تنزيه وأجزأه وقعت التضحية عن الموكل، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا مالكا في إحدى الروايتين عنه فإنه لم يجوزها، ويجوز أن يستنيب صبيا وامرأة حائضا، لكن يكره توكيل الصبي، وفي كراهة توكيل الحائض وجهان انتهى. ومذهب الهادوية اشتراط أن يكون الذابح مسلما، فلا تحل عندهم ذبيحة الكافر، ولا يجوز توكيله بالذبح. قوله: فقال حين وجههما وجهت الخ فيه استحباب تلاوة هذه الآية عند توجيه الذبيحة للذبح، وقد تقدم ذكرها في دعاء الاستفتاح في الصلاة.
[ 213 ]
باب نحر الابل قائمة معقولة يدها اليسرى قال الله تعالى: * (فاذكروا اسم الله عليها صواف) * (سورة الحج، الآية: 36) قال البخاري: قال ابن عباس: صواف قياما. وعن ابن عمر: أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم متفق عليه. وعن عبد الرحمن بن سابط: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها رواه أبو داود وهو مرسل. حديث عبد الرحمن بن سابط هو في سنن أبي داود من حديث جابر بن عبد الله فلا إرسال، وهكذا ذكره الحافظ في الفتح من حديث جابر وعزاه إلى أبي داود، وقد سكت عنه هو والمنذري، ورجاله رجال الصحيح، وتفسير ابن عباس الذي ذكره البخاري معلقا قد وصله سعيد بن منصور وعبد بن حميد. قوله: صواف بالتشديد جمع صافة أي مصطفة في قيامها، ووقع في مستدرك الحاكم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله صواف صوافن أي قياما على ثلاث قوائم معقولة وهي قراءة ابن مسعود، والصوافن جمع صافنة وهي التي رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. قوله: ابعثها أي أثرها، يقال: بعثت الناقة أي أثرتها. وقوله: قياما مصدر بمعنى قائمة، ووقع في رواية الاسماعيلي: انحرها قائمة. قوله: مقيدة أي معقولة الرجل قائمة على ما بقي من قوائمها كما في الحديث الآخر. قوله: سنة محمد بنصب سنة بعامل مضمر كالاختصاص أو التقدير متبعا سنة محمد، ويجوز الرفع، وفي رواية الحربي: فإنه سنة محمد، وفي هذا الحديث والذي بعده استحباب نحر الابل على الصفة المذكورة. وعن الحنفية يستوي نحرها قائمة وباركة في الفضيلة. وفي الباب عن أنس عند البخاري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحر بيده سبع بدن قياما. باب بيان وقت الذبح عن جندب بن سفيان البجلي أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أضحى قال: فانصرف فإذا هو باللحم وذبائح الاضحى تعرف، فعرف
[ 214 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها ذبحت قبل أن يصلي، فقال: من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله متفق عليه. وعن جابر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد ومسلم. وعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر: من كان ذبح قبل الصلاة فليعد متفق عليه. وللبخاري: من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين. وفي الباب عن البراء عند الجماعة كلهم بلفظ: من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لاهله ليس من النسك في شئ وقد تقدم بنحو هذا اللفظ. قوله: من ذبح قبل أن يصلي في مسلم: قبل أن يصلي أو نصلي الاولى بالياء التحتية والثانية بالنون وهو شك من الراوي. ورواية النون موافقة لقوله في أول الحديث: أنها ذبحت قبل أن يصلي فإن المراد صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وموافقة أيضا لقوله في آخر الحديث: ومن لم يكن ذبح حتى صلينا وهذا يدل على أن وقت الاضحية بعد صلاة الامام لا بعد صلاة غيره، فيكون المراد بقوله في حديث أنس: من كان ذبح قبل الصلاة الصلاة المعهودة وهي صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصلاة الائمة بعد انقضاء عصر النبوة، ويؤيد هذا ما أخرجه الطحاوي من حديث جابر وصححه ابن حبان: أن رجلا ذبح قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهى أن يذبح أحد قبل الصلاة وظاهر قوله في حديث جابر: فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نحر الخ، أن الاعتبار بنحر الامام، وأنه لا يدخل وقت التضحية إلا بعد نحره، ومن فعل قبل ذلك أعادكما هو صريح الحديث، ويجمع بين الحديثين بأن وقت النحر يكون لمجموع صلاة الامام ونحره. وقد ذهب إلى هذا مالك فقال: لا يجوز ذبحها قبل صلاة الامام وخطبته وذبحه. وقال أحمد: لا يجوز قبل صلاة الامام ويجوز بعدها قبل ذبح الامام، وسواء عنده أهل القرى والامصار، ونحوه عن الحسن والاوزاعي وإسحاق. وقال الثوري
[ 215 ]
يجوز بعد صلاة الامام قبل خطبته وفي أثنائها. وقال الشافعي وداود وآخرون: إن وقت التضحية من طلوع الشمس، فإذا طلعت ومضى قدر صلاة العيد وخطبته أجزأ الذبح بعد ذلك سواء صلى الامام أم لا، وسواء صلى المضحي أم لا، وسواء كان من أهل القرى والبوادي أو من أهل الامصار أو من المسافرين. وقال أبو حنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر، ولا يدخل في حق أهل الامصار حتى يصلي الامام ويخطب، فإذا ذبح قبل ذلك لم يجزه. وقالت الهادوية: إن وقتها يدخل بعد صلاة المضحي، سواء صلى الامام أم لا، فإذا لم يصل المضحي وكانت الصلاة واجبة عليه كان وقتها من الزوال، وإن كانت الصلاة غير واجبة عليه لعذر من الاعذار، أو كان ممن لا تلزمه صلاة العيد فوقتها من فجر النحر، ولا يخفى أن مذهب مالك هو الموافق لاحاديث الباب، وبقية هذه المذاهب بعضها مردود بجميع أحاديث الباب وبعضها يرد عليه بعضها. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنها لا تجوز التضحية قبل طلوع الفجر، وأما إذا لم يكن ثم إمام فالظاهر أنه يعتبر لكل مضح بصلاته. وقال ربيعة فيمن لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع الشمس لا تجزئه وبعد طلوعها تجزئه، أما آخر وقت التضحية فسيأتي بيانه. وقد تأول أحاديث الباب من لم يعتبر صلاة الامام وذبحه بأن المراد بها الزجر عن التعجيل الذي يؤدي إلى فعلها قبل وقتها، وبأنه لم يكن في عصره صلى الله عليه وآله وسلم من يصلي قبل صلاته، فالتعليق بصلاته في هذه الاحاديث ليس المراد به إلا التعليق بصلاة المضحي نفسه، لكنها لما كانت تقع صلاتهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير متقدمة ولا متأخرة وقع التعليق بصلاته صلى الله عليه وآله وسلم، بخلاف العصر الذي بعد عصره، فإنها تصلى صلاة العيد في المصر الواحد جماعات متعددة ولا يخفى بعد هذا، فإنه لم يثبت أن أهل المدينة ومن حولهم كانوا لا يصلون العيد إلا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يصلح للتمسك لمن جوز الذبح من طلوع الشمس أو من طلوع الفجر ما ورد من أن يوم النحر يوم ذبح لانه كالعام وأحاديث الباب خاصة فيبنى العام على الخاص. قوله: فليذبح باسم الله الجار والمجرور متعلق بمحذوف أي قائلا: باسم الله. وعن سليمان بن موسى، عن جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل أيام التشريق ذبح رواه أحمد وهو للدارقطني من حديث سليمان
[ 216 ]
بن موسى عن عمرو بن دينار. وعن نافع بن جبير، عن جبير، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه. حديث جبير بن مطعم أخرجه ابن حبان في صحيحه والبيهقي وذكر الاختلاف في إسناده. ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة وفي إسناده معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف. وذكره ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد وذكر عن أبيه أنه موضوع. قال ابن القيم في الهدى: إن حديث جبير بن مطعم منقطع لا يثبت وصله، ويجاب عنه بأن ابن حبان وصله وذكره في صحيحه كما سلف. (وقد استدل) الحديث على أن أيام التشريق كلها أيام ذبح وهو يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وقد تقدم الخلاف فيها في كتاب العيدين، وكذلك روي في الهدى عن علي عليه السلام أنه قال: أيام النحر يوم الاضحى وثلاثة أيام بعده، وكذا حكاه النووي عنه في شرح مسلم، وحكاه أيضا عن جبير بن مطعم وابن عباس وعطاء والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الاسدي فقيه أهل الشام ومكحول والشافعي وداود الظاهري، وحكاه صاحب الهدى عن عطاء والاوزاعي وابن المنذر ثم قال: وروي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كل منى منحر وكل أيام التشريق ذبح وروي من حديث جبير بن مطعم وفيه انقطاع ومن حديث أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر قال يعقوب بن سفيان: أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون انتهى. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: إن وقت الذبح يوم النحر ويومان بعده. قال النووي: وروي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي عليه السلام وابن عمر وأنس، وحكى ابن القيم عن أحمد أنه قال: هو قول غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه الاثرم عن ابن عباس، وكذا حكاه عنه في البحر، وإليه ذهبت الهادوية والناصر. وقال ابن سيرين: إن وقته يوم النحر خاصة. وقال سعيد بن جبير وجابر بن زيد: إن وقته يوم النحر فقط لاهل الامصار، وأيام التشريق لاهل القرى. وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أن وقته في جميع ذي الحجة، فهذه خمسة مذاهب أرجحها المذهب الاول للاحاديث المذكورة في الباب وهي يقوي بعضه بعضا. وقد أجاب عن ذلك صاحب البحر بجواب في غاية السقوط فقال قلنا: لم يعمل به يعني حديث جبير أحد من الصحابة، وقد عرفت أنه قول جماعة من الصحابة، على أن مجرد ترك الصحابة من غير تصريح منهم بعدم الجواز
[ 217 ]
لا يعد قادحا، وأشف ما جاء به من منع من الذبح في اليوم الرابع الحديث الآتي في النهي عن ادخار لحوم الاضاحي فوق ثلاث، قالوا: فيه دليل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط، لانه لا يجوز الذبح في وقت لا يجوز فيه الاكل، ونسخ تحريم الاكل لا يستلزم نسخ وقت الذبح. وقد أجاب عنه ابن القيم بأنه لا يدل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط، لان الحديث دليل على نهي الذابح أن يؤخر شيئا فوق ثلاثة أيام من يوم ذبحه، فلو أخر الذبح إلى اليوم الثالث لجاز له الادخار ما بينه وما بين ثلاثة أيام، وسيأتي بقية الكلام على الحديث. (ووقع الخلاف) في جواز التضحية في ليالي أيام الذبح. فقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والجمهور: أنه يجوز مع كراهة وقال مالك في المشهور عنه وعامة أصحابه ورواية عن أحمد: أنه لا يجزئ بل يكون شاة لحم، ولا يخفى أن القول بعدم الاجزاء وبالكراهة يحتاج إلى دليل، ومجرد ذكر الايام في حديث الباب وإن دل على إخراج الليالي بمفهوم اللقب لكن التعبير بالايام عن مجموع الايام والليالي، والعكس مشهور متداول بين أهل اللغة لا يكاد يتبادر غيره عند الاطلاق وأما ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الذبح ليلا ففي إسناده سليمان بن سلمة الخبايري وهو متروك. وذكره عبد الحق من حديث عطاء بن يسار مرسلا وفيه مبشر بن عبيد وهو أيضا متروك وفي البيهقي عن الحسن: نهى عن جذاذ الليل وحصاده والاضحى بالليل، وهو وإن كانت الصيغة مقتضية للرفع مرسل. باب الاكل والاطعام من الاضحية وجواز ادخار لحمها ونسخ النهي عنه عن عائشة قالت: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الاضحى زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادخروا ثلاثا ثم تصدقوا بما بقي، فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله إن الناس يتخذون الاسقية من ضحاياهم ويجملون فيها الودك، فقال: وما ذاك؟ قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الاضاحي بعد ثلاث، فقال: إنما نهيتكم من أجل الدافة، فكلوا وادخروا وتصدقوا متفق عليه. وعن جابر قال: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى، فرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كلوا وتزودوا متفق عليه. وفي لفظ: كنا نتزود لحوم الاضاحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى
[ 218 ]
المدينة أخرجاه. وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ثم قال بعد: كلوا وتزودوا وادخروا رواه مسلم والنسائي. وعن سلمة بن الاكوع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شئ، فلما كان في العام المقبل قالوا يا رسول الله نفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ قال: كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها متفق عليه. وعن ثوبان قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أضحيته ثم قال: يا ثوبان أصلح لي لحم هذه، فلم أزل أطعمه منه حتى قدم المدينة رواه أحمد ومسلم. وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الاضاحي فوق ثلاثة أيام، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لهم عيالا وحشما وخدما، فقال: كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا رواه مسلم. وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كنت نهيتكم عن لحوم الاضاحي فوق ثلاثة ليتسع ذوو الطول على من لا طول له، فكلوا ما بدا لكم وأطعموا وادخروا رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. وفي الباب عن نبيشة الهذلي عند أحمد وأبي داود وزاد بعد قوله: وادخروا وائتجروا أي اطلبوا الاجر بالصدقة. قوله: دف بفتح الدال المهملة وتشديد الفاء أي جاء، قال أهل اللغة: الدافة بتشديد الفاء قوم يسيرون جميعا سيرا خفيفا، ودافة الاعراب من يريد منهم المصر، والمراد هنا من ورد من ضعفاء الاعراب للمواساة. قوله: حضرة بفتح الحاء وضمها وكسرها والضاد ساكنة فيها كلها وحكى فتحها وهو ضعيف، وإنما تفتح إذا حذفت الهاء، يقال: يحضر فلان كذا قال النووي. قوله: ويجعلون بفتح الياء وسكون الجيم مع كسر الميم وضمها، ويقال بضم الياء من كسر الميم، يقال: جملت الدهن أجمله بكسر الميم وأجمله بضمها جملا وأجملته أجمله إجمالا أي أذبته. قوله: بعد ثلاث قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون ابتداء الثلاث من يوم ذبح الاضحية وإن ذبحت بعد يوم النحر، ويحتمل أن يكون من يوم النحر وإن تأخر الذبح عنه. قال: وهذا أظهر. ورجح ابن القيم الاول، وهذا الخلاف لا يتعلق به فائدة عند من قال بالنسخ إلا باعتبار ما سلف من الاحتجاج بذلك، على أن يوم الرابع ليس من أيام الذبح. قوله: إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا الخ، هذا وما بعده تصريح
[ 219 ]
بالنسخ لتحريم أكل لحوم الاضاحي بعد الثلاث وادخارها، وإليه ذهب الجماهير من علماء الامصار من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وحكى النووي عن علي عليه السلام وابن عمر أنهما قالا: يحرم الامساك للحوم الاضاحي بعد ثلاث، وأن حكم التحريم باق، وحكاه الحازمي في الاعتبار عن علي عليه السلام أيضا والزبير وعبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر، ولعلهم لم يعلموا بالناسخ، ومن علم حجة علي من لم يعلم، وقد أجمع على جواز الاكل والادخار بعد الثلاث من بعد عصر المخالفين في ذلك، ولا أعلم أحدا بعدهم ذهب إلى ما ذهبوا إليه. قوله: كلوا استدل بهذا الامر ونحوه من الاوامر المذكورة في الباب من قال بوجوب الاكل من الاضحية، وقد حكاه النووي عن بعض السلف وأبي الطيب بن سلمة من أصحاب الشافعي، ويؤيده قوله تعالى: * (فكلوا منها) * (سورة الحج، الآية: 28) وحمل الجمهور هذه الاوامر على الندب والاباحة لورودها بعد الحظر وهو عند جماعة للاباحة. وحكى النووي عن الجمهور أنه للوجوب، والكلام في ذلك مبسوط في الاصول. قوله: وأطعموا وفي حديث عائشة: وتصدقوا فيه دليل على وجوب التصدق من الاضحية، وبه قالت الشافعية إذا كانت أضحية تطوع، قالوا: والواجب ما يقع عليه اسم الاطعام والصدقة، ويستحب أن يكون بمعظمها، قالوا: وأدنى الكمال أن يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ويهدي الثلث، وفي قول لهم: يأكل النصف ويتصدق بالنصف، ولهم وجه أنه لا يجب التصدق بشئ وقال القاسم بن إبراهيم : إنه يتصدق بالبعض غير مقدر قال في البحر: وفي جواز أكلها جميعها وجهان عن الامام يحيى أصحهما لا يجوز، إذ يبطل به القربة وهي المقصود، وقيل: والقربة تعلقت بإهراق الدم، فإن فعل لم يضمن شيئا عند الجميع إذ لا دليل قلت: وفي كلام الامام يحيى نظر مع القول بأنها سنة انتهى. قوله: فاردت أن تعينوا فيها بالعين المهملة من الاعانة هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: أن يفشو فيهم بالفاء والشين المعجمة، أي يشيع لحم الاضاحي في الناس وينتفع به المحتاجون. قال القاضي عياض في شرح مسلم: الذي في مسلم أشبه وقال في المشارق: كلاهما صحيح. والذي في البخاري أوجه. والجهد هنا بفتح الجيم وهو المشقة والفاقة. قوله: أصلح لي لحم هذه الخ فيه تصريح بجواز ادخار لحم الاضحية فوق ثلاث، وجواز التزود منه، وأن التزود منه في الاسفار لا يقدح في التوكل ولا يخرج المتزود عنه، وأن الاضحية
[ 220 ]
مشروعه للمسافر كما تشرع للمقيم وبه قال الجمهور. وقال النخعي وأبو حنيفة: لا ضحية على المسافر قال النووي: وروي هذا عن علي رضي الله عنه. وقال مالك وجماعة: لا تشرع للمسافر بمنى ومكة، والحديث يرد عليهم. قوله: حشما قال أهل اللغة: الحشم بفتح الحاء المهملة والشين المعجمة هم اللائذون بالانسان يخدمونه ويقومون بأموره. وقال الجوهري: هم خدم الرجل ومن يغضب له، سموا بذلك لانهم يغضبون له، والحشمة الغضب ويطلق على الاستحياء، ومنه قولهم: فلان لا تحتشم أي لا يستحي، ويقال: حشمته وأحشمته إذا أغضبته وإذا أخجلته فاستحى لخجله قال النووي: وكأن الحشم أعم من الخدم، فلهذا جمع بينهما في هذا الحديث وهو من باب ذكر الخاص بعد العام. وفي القاموس: الحشمة بالكسر الحياء والانقباض، احتشم منه وعنه، وحشمه وأحشمه أخجله، وأن يجلس إليك الرجل فتؤذيه وتسمعه ما يكره، ويضم حشمه يحشمه ويحشمه وأحشمه، وكفرح غضب، وكسمعه أعضبه كأحشمه وحشمه. وحشمة الرجل وحشمة محركتين وإحشامه خاصته الذي يغضبون له من أهل وعبيد أو جبيره، والحشم محركة للواحد والجمع وهو العيال والقرابة أيضا انتهى. قوله: فكلوا ما بدا لكم فيه دليل على عدم تقدير الاكل بمقدار، وأن للرجل أن يأكل من أضحيته ما شاء وإن كثر ما لم يستغرق بقرينة قوله: وأطعموا. باب الصدقة بالجلود والجلال والنهي عن بيعها عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطي الجازر منها شيئا وقال: نحن نعطيه من عندنا متفق عليه. وعن أبي سعيد أن قتادة بن النعمان أخبره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام فقال: إني كنت أمرتكم أن لا تأكلوا لحوم الاضاحي فوق ثلاثة أيام لسعيكم وإني أحله لكم، فكلوا ما شئتم، ولا تبيعوا لحوم الهدي والاضاحي، وكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها، وإن أطعمتم من لحومها شيئا فكلوا أنى شئتم رواه أحمد. حديث قتادة ذكره صاحب الفتح ولم يتعقبه مع جري عادته بتعقب ما فيه ضعف. وقال في مجمع الزوائد إنه مرسل صحيح الاسناد انتهى. قوله: أن أقوم على بدنه أي
[ 221 ]
عند نحرها للاحتفاظ بها، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك أي على مصالحها في علفها ورعيها وسقيها وغير ذلك. ولم يقع في هذه الرواية عدد البدن. ووقع في رواية أخرى للبخاري وغيره أنها مائة بدنة، وقد تقدم ما روي من أنه صلى الله عليه وآله وسلم نحر ثلاثين بدنة كل في رواية أبي داود، أو ثلاثا وستين كما في رواية مسلم وهي الاصح. قوله: وأجلتها جمع جلال بضم الجيم وتخفيف اللام وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه، ويجمع أيضا على جلال بكسر الجيم. قوله: وأن لا أعطي الجازر منها شيئا فيه دليل على أنه لا يعطي الجازر شيئا البتة وليس ذلك المراد، بل المراد أنه لا يعطى لاجل الجزارة لا لغير ذلك. وقد بين النسائي ذلك في روايته من طريق شعيب بن إسحاق عن ابن جريج قال ابن خزيمة: والمراد أنه يقسمها كلها على المساكين إلا ما أمره به من أن يأخذ من كل بدنة بضعة كما في حديث جابر الطويل عند مسلم (والحديث) يدل على أنه لا يجوز إعطاء الجازر من لحم الهدي الذي نحره على وجه الاجرة قال القرطبي: ولم يرخص في إعطاء الجازر منها لاجل أجرته إلا الحسن البصري وعبد الله بن عبيد بن عمير انتهى. وقد روي عن ابن خزيمة والبغوي أنه يجوز إعطاؤه منها إذا كان فقيرا بعد توفير أجرته من غيرها. وقال غيرهما: إن القياس ذلك لولا إطلاق الشارع المنع، وظاهره عدم جواز الصدقة والهدية كما لا تجوز الاجرة، وذلك لانها قد تقع مسامحة من الجازر في الاجرة لاجل ما يعطاه من اللحم على وجه الصدقة أو الهدية، وقد استدل به على منع بيع الجلد والجلال. قال القرطبي: فيه دليل على أن جلود الهدي وجلالها لا تباع لعطفهما على اللحم وإعطائهما حكمه، وقد اتفقوا على أن لحمها لا يباع، فكذلك الجلود والجلال. وأجازه الاوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو وجه عند الشافعية، قالوا: ويصرف ثمنه مصرف الاضحية. قوله: ما شئتم فيه إطلاق المقدار الذي يأكله المضحي من أضحيته وتفويضه إلى مشيئته. قوله: ولا تبيعوا لحوم الاضاحي فيه دليل على منع بيع لحوم الاضاحي وظاهره التحريم، وقد بين الشارع وجوه الانتفاع في الاضحية من الاكل والتصدق والادخار والائتجار. قوله: واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها فيه رد على الاوزاعي ومن معه، وفيه أيضا الاذن بالانتفاع بها بغير البيع. وقد روي عن محمد بن الحسن أن له أن يشتري بمسكها غربالا أو غيرها من آلة البيت لا شيئا من المأكول. وقال الثوري:
[ 222 ]
لا يبيعه ولكن يجعله سقاء وشنا في البيت وهو ظاهر الحديث. قوله: وإن أطعمتم الخ، فيه دليل على أنه يجوز لمن أطعمه غيره من لحم الاضحية أن يأكل كيف شاء وإن كان غنيا. باب من أذن في انتهاب أضحيته عن عبد الله بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أعظم الايام عند الله يوم النحر ثم يوم القر، وقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس بدنات أو ست ينحرهن فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها، فلما وجبت جنوبها قال كلمة خفية لم أفهمها فسألت بعض من يليني ما قال؟ قالوا: قال: من شاء اقتطع رواه أحمد وأبو داود، وقد احتج به من رخص في نثار العروس ونحوه. الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن حبان في صحيحه، وسكت عنه أبو داود والمنذري. قوله: ابن قرط بضم القاف وآخره طاء مهملة. قوله: يوم النحر هو يوم الحج الاكبر على الصحيح عند الشافعية ومالك وأحمد لما في البخاري: أنه صلى الله عليه وآله وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات وقال: هذا يوم الحج الاكبر وفي الحديث دلالة على أنه أفضل أيام السنة، ولكنه يعارضه حديث خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة وقد تقدم في أبواب الجمعة وتقدم الجمع، ويعارضه أيضا ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الارض أهل السماء، فلم ير يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة وقد ذهبت الشافعية إلى أنه أفضل من يوم النحر، ولا يخفى أن حديث الباب ليس فيه إلا أن يوم النحر أعظم وكونه أعظم وإن كان مستلزما لكونه أفضل، لكنه ليس كالتصريح بالافضلية كما في حديث جابر، إذ لا شك أن الدلالة المطابقية أقوى من الالتزامية، فإن أمكن الجمع بحمل أعظمية يوم النحر على غير الافضلية فذاك وإلا يمكن، فدلالة حديث جابر على أفضلية يوم عرفة أقوى من دلالة حديث عبد الله بن قرط على أفضلية يوم النحر. قوله: يوم القر بفتح القاف وتشديد الراء وهو اليوم الذي يلي يوم النحر، سمي بذلك لان الناس يقرون فيه بمنى وقد فرغوا من طواف الافاضة
[ 223 ]
والنحر فاستراحوا، ومعنى قروا استقروا، ويسمى يوم النفر الاول ويوم الاكارع. قوله: يزدلفن أي يفترين، وأصل الدال تاء ثم أبدلت منه، ومنه المزدلفة لاقترابها إلى عرفات. ومنه قوله تعالى: * (وأزلفت الجنة للمتقين) * وفي هذه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث تسارع إليه الدواب التي لا تعقل لاراقة دمها تبركا به، فيالله العجب من هذا النوع الانساني، كيف يكون هذا النوع البهيمي أهدى من أكثره وأعرف تقرب إليه هذه العجم لازهاق أرواحها، وفري أوداجها، وتتنافس في ذلك وتتسابق إليه، ومع كونها لا ترجو جنة ولا تخاف نارا، أو يبعد ذلك الناطق العاقل عنه مع كونه ينال بالقرب النعيم الاجل والعاجل، ولا يصيبه ضرر في نفس ولا مال، حتى قال القائل مظهرا لندة حرصه على قتل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ابن محمد؟ لا نجوت إن نجا وأرق الآخر دمه وكسر ثنيته، فانظر إلى هذا التفاوت الذي يضحك منه إبليس، ولامر ما كان الكافر شر الدواب عند الله. قوله: فلما وجبت جنوبها أي سقطت إلى الارض جنوبها والوجوب السقوط. قوله: من شاء اقتطع أي من شاء أن يقتطع منها فليقتطع. هذا محل الحجة على جواز انتهاب الهدي والاضحية، واستدل به على جواز انتهاب نثار العروس كما ذكره المصنف. ومن جملة من استدل به البغوي ووجه الدلالة قياس انتهاب النثار على انتهاب الاضحية، وقد رويت في النثار وانتهابه أحاديث لا يصح منها شئ وليس هذا محل ذكرها، وقد ذهب أهل العلم إلى كراهة انتهاب النثار، وروي ذلك عن ابن مسعود وإبراهيم النخعي وعكرمة، وتمسكوا بما ورد في النهي وهو يعم كل ما صدق عليه انتهاب ولا يخرج منه إلا ما خص بمخصص صالح. كتاب العقيقة وسنة الولادة عن سلمان بن عامر الضبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الاذى رواه الجماعة إلا مسلما. وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه رواه الخمسة وصححه الترمذي.
[ 224 ]
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة رواه أحمد والترمذي وصححه. وفي لفظ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين رواه أحمد وابن ماجه. وعن أم كرز الكعبية أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العقيقة فقال: نعم عن الغلام شاتان وعن الانثى واحدة، ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثا رواه أحمد والترمذي وصححه. حديث سمرة أخرجه أيضا البيهقي والحاكم وصححه عبد الحق وهو من رواية الحسن عن سمرة والحسن مدلس، لكنه روى البخاري في صحيحه من طريق الحسن أنه سمع حديث العقيقة من سمرة قال الحافظ: كأنه عنى هذا، وقد تقدم قول من قال: إنه لم يسمع منه غيره. وحديث عائشة أخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي، وحديث أم كرز أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم والدارقطني. قال في التلخيص: وله طرق عند الاربعة والبيهقي. قوله: مع الغلام عقيقة العقيقة الذبيحة التي تذبح للمولود، والعق في الاصل الشق والقطع. وسبب تسميتها بذلك أنه يشق حلقها بالذبح، وقد يطلق اسم العقيقة على شعر المولود، وجعله الزمخشري الاصل، والشاة مشتقة منه. قوله: فأهريقوا عنه دما تمسك بهذا وببقية الاحاديث القائلون بأنها واجبة وهم الظاهرية والحسن البصري، وذهب الجمهور من العترة وغيرهم إلى أنها سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة، وقيل: إنها عنده تطوع (احتج الجمهور) بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من أحب أن ينسك عن ولده، فليفعل وسيأتي وذلك يقضي عدم الوجوب لتفويضه إلى الاختيار، فيكون قرينة صارفة للاوامر ونحوها عن الوجوب إلى الندب، وبهذا الحديث احتج أبو حنيفة على عدم الوجوب والسنية، ولكنه لا يخفى أنه لا منافاة بين التفويض إلى الاختيار وبين كون الفعل الذي وقع فيه التفويص سنة. وذهب محمد بن الحسن إلى ان العقيقة كانت في الجاهلية وصدر الاسلام فنسخت بالاضحية وتمسك بما سيأتي ويأتي الجواب عنه. وحكى صاحب البحر عن أبي حنيفة أن العقيقة جاهلية محاها الاسلام، وهذا أن صح عنه حمل على أنها لم تبلغه الاحاديث الواردة في ذلك. قوله: وأميطوا عنه الاذى المراد احلقوا عنه شعر رأسه كما في الحديث الذي بعده. ووقع عند أبي داود عن ابن سيرين أنه قال: إن
[ 225 ]
لم يكن الاذى حلق الرأس وإلا فلا أدري ما هو. وأخرج الطحاوي عنه أيضا قال: لم أجد من يخبرني عن تفسير الاذى، وقد جزم الاصمعي بأنه حلق الرأس. وأخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن الحسن كذلك. ووقع في الحديث عائشة عند الحاكم بلفظ: وأمر أن يماط عن رؤوسها الاذى قال في الفتح: ولكن لا يتعين ذلك في حلق الرأس، فالاولى حمل الاذى على ما هو أهم من حلق الرأس، ويؤيد ذلك أن في بعض حديث عمرو بن شعيب ويماط عنه أقذاره، رواه أبو الشيخ قوله: كل غلام رهينة بعقيقته قال الخطابي: اختلف الناس في معنى هذا، فذهب أحمد بن حنبل إلى معناه أنه إذا مات وهو طفل ولم يعق عنه لم يشفع لابويه، وقيل: المعنى أن العقيقة لازمة لا بد منها، فشبه لزومها للمولود بلزوم الرهن للمرهون في يد المرتهن. وقيل: إنه مرهون بالعقيقة بمعنى أنه لا يسمى ولا يحلق شعره إلا بعد ذبحها، وبه صرح صاحب المشارق والنهاية. قوله: يذبح عنه يوم سابعه بضم الياء من قوله يذبح وبناء الفعل للمجهول، وفيه دليل على أنه يصح أن يتولى ذلك الاجنبي، كما يصح أن يتولاه القريب عن قريبه والشخص عن نفسه، وفيه أيضا دليل على أن وقت العقيقة سابع الولادة، وأنها تفوت بعده، وتسقط إن مات قبله، وبذلك قال مالك. وحكى عنه ابن وهب أنه قال: إن فات السابع الاول فالثاني ونقل الترمذي عن أهل العلم أنهم يستحبون أن تذبح العقيقة في السابع، فإن لم يمكن ففي الرابع عشر، فإن لم يمكن فيوم أحد وعشرين، وتعقبه الحافظ بأنه لم ينقل ذلك صريحا إلا عن عبد الله البوشنجي، ونقله صالح بن أحمد عن أبيه. ويدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: العقيقة تذبح لسبع ولاربع عشرة ولاحدى وعشرين وعند الحنابلة في اعتبار الاسابيع بعد ذلك روايات. وعند الشافعية أن ذكر السابع للاختيار لا للتعين. ونقل الرافعي أنه يدخل وقتها بالولادة. وقال الشافعي: إن معناه أنها لا تؤخر عن السابع اختيارا، فإن تأخرت إلى البلوغ سقطت عمن كان يريد أن يعق عنه، لكن إن أراد هو أن يعق عن نفسه فعل. ونقل صاحب البحر عن الامام يحيى أنها لا تجزئ قبل السابع ولا بعده إجماعا، ودعوى الاجماع مجازفة لما عرفت من الخلاف المذكور. قوله: ويسمي فيه في رواية: يدمي، وقال أبو داود: إنها وهم من همام. وقال ابن عبد البر: هذا الذي تفرد
[ 226 ]
به همام إن كان حفظه فهو منسوخ. وقد سئل قتادة عن معنى قوله يدمي فقال: إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت بها أوداجها ثم توضع على ياخوخ الصبي حتى يسيل عن رأسه مثل الخيط ثم يعلق ثم يغسل رأسه بعد ويحلق. وقد كره الجمهور التدمية، واستدلوا عن ذلك بما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: كانوا في الجاهلية إذا عقوا عن الصبي خضبوا بطنه بدم العقيقة، فإذا حلقوا رأس المولود وضعوها على رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوا مكان الدم خلوقا زاد أبو الشيخ: ونهى أن يمس رأس المولود بدم وأخرج ابن ماجه عن يزيد بن عبد الله المزني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم وهذا مرسل لان يزيد لا صحبة له، وقد وصله البزار من هذه الطريق وقال عن أبيه، ومع هذا فقد قيل إنه عن أبيه مرسل. وسيأتي حديث بريدة الاسلمي. ونقل ابن حزم عن ابن عمر وعطاء استحباب التدمية، وحكاه في البحر عن الحسن البصري وقتادة. وفي قوله: ويسمي دليل على استحباب التسمية في اليوم السابع، وحمل ذلك بعضهم على التسمية عند الذبح، واستدل لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق همام عن قتادة قال: يسمي على المولود كما يسمي على الاضحية: بسم الله عقيقة فلان ومن طريق سعيد عن قتادة نحوه وزاد: اللهم منك ولك عقيقة فلان بسم الله والله أكبر ولا يخفى بعده لان قوله: ويسمي فيه مشعر بأن المراد تسمية المولود في ذلك اليوم، ولو كان المراد ما ذكره ذلك البعض لقال: ويسمي عليها. قوله: مكافئتان قال النووي: بكسر الفاء بعدها همزة، هكذا صوابه عند أهل اللغة، والمحدثون يقولونه بفتح الفاء، قال أبو داود في سننه: أي مستويتان أو متقاربتان، وكذا قال أحمد: قال الخطابي: والمراد التكافؤ في السن، فلا تكون إحداهما مسنة والاخرى غير مسنة. وقيل معناه: أن يذبح أحداهما مقابلة للاخرى وفي هذا الحديث وحديث أم كرز المذكور بعده، وكذلك حديث بريدة وابن عباس وأبي رافع، وسيأتي دليل على أن المشروع في العقيقة شاتان عن الذكر، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود والامام يحيى وحكاه للمذهب. وحكاه في الفتح عن الجمهور. وقال مالك: إنها شاة عن الذكر والانثى، قال في البحر: وهو المذهب. واستدل على ذلك بحديث بريدة الآتي بلفظ: كنا نذبح شاة الخ، وبحديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن
[ 227 ]
والحسين عليهما السلام كبشا كبشا ويجاب عن ذلك بأن أحاديث الشاتين مشتملة على الزيادة، فهي من هذه الحيثية أولى بالقبول. وأما حديث ابن عباس فسيأتي أيضا في رواية منه أنه عق عن كل واحد بكبشين، وأيضا القول أرجح من الفعل. وقيل: إن في اقتصاره صلى الله عليه وآله وسلم على شاة دليلا على أن الشاتين مستحبة فقط وليست بمتعينة، والشاة جائزة غير مستحبة. وقيل: إنه لم يتيسر إلا شاة، وأما الانثى فالمشروع في العقيقة عنها واحدة إجماعا كما في البحر. قوله: ولا يضركم ذكرانا أو إناثا فيه دليل على أنه لا فرق بين ذكور الغنم وإناثها. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العقيقة فقال: لا أحب العقوق وكأنه كره الاسم، فقالوا يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له، قال: من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الاذى عنه والعق رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وعن بريدة الاسلمي قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لاحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالاسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران رواه أبو داود. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا رواه أبو داود والنسائي وقال: بكبشين كبشين. حديث عمرو بن شعيب الاول سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي في إسناده عمرو ابن شعيب وفيه مقال: يعني في روايته عن أبيه عن جده، وقد سلف بيان ذلك. وحديثه الثاني أخرجه الحاكم. وحديث بريدة أخرجه أيضا أحمد والنسائي، قال في التخليص: وإسناده صحيح انتهى. وفيه نظر، لان في إسناده علي بن الحسين بن واقد وفي مقال. وقد أخرج نحو حديث بريدة هذا ابن حبان وصححه، وابن السكن وصححه من حديث عائشة والطبراني في الصغير من حديث أنس، والبيهقي من حديث فاطمة، والترمذي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والبيهقي من حديث علي عليه السلام، وحديث ابن عباس صححه عبد الحق وابن دقيق العيد، وأخرج
[ 228 ]
نحوه ابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث عائشة بزيادة يوم السابع وسماهما وأمر أن يمط عن رؤوسهما الاذى. قوله: وكأنه كره الاسم وذلك لان العقيقة التي هي الذبيحة، والعقوق للامهات مشتقان من العق الذي هو الشق والقطع، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أحب العقوق بعد سؤاله عن العقيقة للاشارة إلى كراهة اسم العقيقة لما كانت هي والعقوق يرجعان إلى أصل واحد، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: من أحب منكم أن ينسك إرشادا منه إلى مشروعية تحويل العقيقة إلى النسيكة، وما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: مع الغلام عقيقة وكل غلام مرتهن بعقيقته، ورهينة بعقيقته فمن البيان للمخاطبين بما يعرفونه، لان ذلك اللفظ هو المتعارف عند العرب، ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وآله وسلم تكلم بذلك لبيان الجواز، وهو لا ينافي الكراهة التي أشعر بها قوله: لا أحب العقوق. قوله: من أحب منكم قد قدمنا أن التفويض إلى المحبة يقتضي رفع الوجوب وصرف ما أشعر به إلى الندب. قوله: مكافأتان قد تقدم ضبطه وتفسيره. قوله: أمر بتسمية المولود الخ فيه مشروعية التسمية في اليوم السابع، والرد على من حمل التسمية في حديث سمرة السابق على التسمية عند الذبح، وفيه أيضا مشروعية وضع الاذى عنه وذبح العقيقة في ذلك اليوم. قوله: فلما جاء الله بالاسلام الخ، فيه دليل على أن تلطيخ رأس المولود بالدم من عمل الجاهلية وأنه منسوخ كما تقدم، وأصرح منه في الدلالة على النسخ حديث عائشة عند ابن حبان وابن السكن وصححاه كما تقدم بلفظ: فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعلوا مكان الدم خلوقا. قوله: ونلطخه بزعفران فيه دليل على استحباب تلطيخ رأس الصبي بالزعفران أو غيره من الخلوق كما في حديث عائشة المذكور. قوله: عق عن الحسن والحسين فيه دليل على أن تصح العقيقة من غير الاب مع وجوده وعدم امتناعه، وهو يرد ما ذهبت إليه الحنابلة من أنه يتعين الاب أن يموت أو يمتنع. وروي عن الشافعي أن العقيقة تلزم من تلزمه النفقة، ويجوز أن يعق الانسان عن نفسه إن صح ما أخرجه البيهقي عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق عن نفسه بعد البعثة ولكنه قال: إنه منكر وفي عبد الله بن محرر بمهملات وهو ضعيف جدا كما قال الحافظ. وقال عبد الرزاق: إنما تكلموا فيه لاجل هذا الحديث. قال البيهقي: وروي من وجه آخر عن قتادة عن أنس وليس بشئ. وأخرجه
[ 229 ]
أبو الشيخ من وجه آخر عن أنس، وأخرجه أيضا ابن أيمن في مصنفه، والخلال من طريق عبد الله بن المثنى عن ثمامة ابن عبد الله عن أنس عن أبيه به. وقال النووي في شرح المهذب: هذا حديث باطل. وأخرجه أيضا الطبري والضياء من طريق فيها ضعف، وقد احتج بحديث أنس هذا من أنها تجوز العقيقة عن الكبير، وقد حكاه ابن رشد عن بعض أهل العلم. وعن أبي رافع أن حسن بن علي رضي الله عنهما لما ولد أرادت أمه فاطمة رضي الله عنها أن تعق عنه بكبشين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تعقي عنه ولكن احلقي شعر رأسه فتصدقي بوزنه من الورق، ثم ولد حسين رضي الله عنه فصنعت مثل ذلك رواه أحمد. وعن أبي رافع قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن في أذن الحسين حين ولدته فاطمة بالصلاة رواه أحمد وكذلك أبو داود والترمذي وصححه وقالا: الحسن. وعن أنس: أن أم سليم ولدت غلاما قال: فقال لي أبو طلحة: احفظه حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه به وأرسلت معه بتمرات فأخذها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمضغها ثم أخذها من فيه فجعلها في الصبي وحنكه به وسماه عبد الله. وعن سهل بن سعد قال: أبي بالمنذر بن أسيد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين ولد فوضعه على فخذه وأبو أسيد جالس فلهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشئ بين يديه فأمر أسيد بابنه فاحتمل من فخذه فاستفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أين الصبي؟ فقال: أبو أسيد قلبناه يا رسول الله، قال: ما اسمه؟ قال: فلان، قال: ولكن اسمه المنذر فسماه يومئذ المنذر متفق عليهما. حديث أبي رافع الاول أخرجه أيضا البيهقي وفيه إسناده ابن عقيل وفيه مقال. وقال البيهقي: إنه تفرد به، ويشهد له ما أخرجه مالك وأبو داود في المراسيل، والبيهقي من حديث جعفر بن محمد، زاد البيهقي عن أبيه عن جده: أن فاطمة رضي الله عنها وزنت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم رضي الله عنهم فتصدقت بوزنه فضة وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: عق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسن شاة وقال: يا فاطمة احلقي رأسه
[ 230 ]
وتصدقي بزنة شعره فضة فوزناه فكان ورنه درهما أو بعض درهم وروى الحاكم من حديث علي رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فقال: زني شعر الحسين وتصدقي بوزنه فضة، وأعطي القابلة رجل العقيقة ورواه أبو داود في سننه من طريق حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا. وحديث أبي رافع الثاني أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي، ورواه أبو نعيم والطبراني من حديثه بلفظ: أذن في أذن الحسن والحسين رضي الله عنهما ومداره على عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف. قال البخاري: منكر الحديث. وأخرج ابن السني من حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما مرفوعا بلفظ: من ولد له مولودا فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى لم تضره أم الصبيان وأم الصبيان هي التابعة من الجن، هكذا أورد الحديث في التخليص ولم يتكلم عليه. قوله: لا تعقي عنه قيل: يحمل هذا على أنه قد كان صلى الله عليه وآله وسلم عق عنه، وهذا متعين لما قدمنا في رواية الترمذي والحاكم عن علي عليه السلام. قوله: من الورق قال في بعض التخليص: الروايات كلها متفقة على التصدق بالفضة، وليس في شئ منها ذكر الذهب وقال الرافعي: إنه يتصدق بوزن شعره ذهبا وإن لم يفعل ففضة. وقال المهدي في البحر: إنه يتصدق بوزن شعره ذهبا أو فضة، ويدل على ذلك ما أخرجه الطبراني في الاوسط عن ابن عباس قال: سبعة من السنة في الصبي يوم السابع يسمى ويختن ويماط عنه الاذى وتثقب أذنه ويعق عنه ويحلق رأسه ويلطخ بدم عقيقته ويتصدق بوزن شعر رأسه ذهبا أو فضة وفي إسناده رواد بن الجراح وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات وفي لفظه ما ينكر وهو ثقب الاذن والتلطيخ بدم العقيقة. قوله: أذن في الحسين عليه السلام الخ، فيه استحباب التأذين في أذن الصبي عند ولادته وحكي في البحر استحباب ذلك عن الحسن البصري، واحتج على الاقامة في اليسرى بفعل عمر بن عبد العزيز قال: وهو توقيف، وقد روى ذلك ابن المنذر عنه أنه كان إذا ولد له ولد أذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى، قال الحافظ: لم أره عنه مسندا انتهى. وقد قدمنا نحو هذا مرفوعا قوله: فمضغها أي لاكها في فيه. قوله: وحنكه بفتح المهملة بعدها نون مشددة، والتحنيك أن يمضغ المحنك التمر أو نحوه حتى يصير مائعا بحيث يبتلع ثم يفتح فم المولود ويضعها فيه ليدخل شئ منها جوفه، قال النووي: اتفق العلماء على أسباب تحنيك المولود عند ولادته بتمر، فإن تعذر في معناه أو قريب منه من الحلوى قال: ويستحب أن يكون من الصالحين، وممن يبرك به رجلا كان
[ 231 ]
أو امرأة، فإن لم يكن حاضرا عند المولود حمل إليه (وفيه استحباب) التسمية بعبد الله قال النووي وإبراهيم وسائر الانبياء الصالحين قال في البحر: وعبد الرحمن واستحباب تفويض التسمية إلى أهل الصلاح. قوله: أسيد بفتح الهمزة على المشهور، وحكى عياض عن أحمد الضم، وكذا عن عبد الرزاق ووكيع. قوله: فلهى روي بفتح الهاء وكسرها مع الياء والاولى لغة طيئ والثانية لغة الاكثرين ومعناه اشتغل بذلك الشئ، قاله أهل الغريب والشراح. قوله: فاستفاق أي فرغ من ذلك الاشتغال. قوله: قلبناه أي ردناه وصرفناه وفي الحديث استحباب التسمية بالمنذر. (فائدة) قد وقع الخلاف في أبحاث تتعلق بالعقيقة، الاول: هل يجزئ منها غير الغنم أم لا؟ فقيل: لا يجزئ، وقد نقله ابن المنذر عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه. وقال البوشنجي: لا نص للشافعي في ذلك وعندي لا يجزئ غيرها انتهى. ولعل وجه ذلك ذكرها في الاحاديث دون غيرها، ولا يخفى أن مجرد ذكرها لا ينفي إجزاء غيرها، واختلف قول مالك في الاجزاء، وأما الافضل عنده فالكبش مثل الاضحية كما تقدم، والجمهور على إجزاء البقر والغنم. ويدل عليه ما عند الطبراني وأبي الشيخ من حديث أنس مرفوعا بلفظ: يعق عنه من الابل والبقر والغنم ونص أحمد على أنها تشترط بدنة أو بقرة كاملة. وذكر الرافعي أنه يجوز اشتراك سبعة في الابل والبقر كما في الاضحية، ولعل من جوز اشتراك عشرة هناك يجوز هنا. الثاني: هل يشترط فيها ما يشترط في الاضحية؟ وفيه وجهان للشافعية. وقد استدل بإطلاق الشاتين على عدم الاشتراط وهو الحق، لكن لا لهذا الاطلاق بل لعدم ورود ما يدل ههنا على تلك الشروط والعيوب المذكورة في الاضحية وهي أحكام شرعية لا تثبت بدون دليل. وقال المهدي في البحر مسألة الامام يحيى: ويجزئ عنها ما يجزئ أضحية بدنة أو بقرة أو شاة وسنها وصفتها والجامع التقرب بإراقة الدم انتهى. ولا يخفى أنه يلزم على مقتضى هذا القياس أن تثبت أحكام الاضحية في كل دم متقرب به، ودماء الولائم كلها مندوبة المستدل بذلك القياس، والمندوب متقرب به، فيلزم أن يعتبر فيها أحكام الاضحية، بل روي عن الشافعي في أحد قوليه إن وليمة العرس واجبة. وذهب أهل الظاهر إلى وجوب كثير من الولائم، ولا أعرف قائلا يقول بأنه يشترط في ذبائح شئ من هذه الولائم ما يشترط في الاضحية، فقد استلزم هذا
[ 232 ]
القياس ما لم يقل به أحد، وما استلزم الباطل باطل الثالث. في مبدأ وقت ذبح العقيقة. وقد اختلف أصحاب مالك في ذلك فقيل: وقتها وقت الضحايا، وقد تقدم الخلاف فيه هل هو من بعد الفجور، أو من طلوع الشمس، أو من وقت الضحى أو غير ذلك؟ وقيل: إنها تجزئ في الليل. وقيل: لا على حسب الخلاف السابق في الاضحية. وقيل: يجزئ في كل وقت وهو الظاهر لما عرفت من عدم الدليل على أنه يعتبر فيها ما يعتبر في الاضحية. باب ما جاء في الفرع والعتيرة ونسخهما عن مخنف بن سليم قال: كنا وقوفا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرفات فسمعته يقول: يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية رواه أحمد وابن ماجه والترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب. وعن أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله إن كنا نذبح في رجب ذبائح فنأكل منها ونطعم مجاءنا، فقال له: لا بأس بذلك. وعن الحرث بن عمرو أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع قال: فقال رجل: يا رسول الله الفرائع والعتائر، فقال: من شاء فرع، ومن شاء لم يفرع، ومن شاء عتر، ومن شاء لم يعتر، في الغنم أضحية رواهما أحمد والنسائي. وعن نبيشة الهذلي قال: قال رجل: يا رسول الله إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا؟ قال: اذبحوا لله في أي شهر كان، وبروا الله عزوجل وأطعموا قال: فقال: رجل آخر: يا رسول الله إنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية فما تأمرنا؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في كل سائمة من الغنم فرع تغدوه غنمك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه على ابن السبيل فإن ذلك هو خير رواه الخمسة إلا الترمذي. حديث مخنف أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وفي إسناده أبو رملة واسمه عامر. قال الخطابي: هو مجهول، والحديث ضعيف المخرج. وقال أبو بكر المعافري: حديث مخنف بن سليم ضعيف لا يحتج به. وحديث أبي رزين العقيلي أخرجه أيضا البيهقي وأبو داود وصححه ابن حبان بلفظ: أنه قال: يا رسول الله إنا كنا نذبح في الجاهلية
[ 233 ]
ذبائح في رجب فنأكل منها ونطعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا بأس بذلك وحديث الحرث بن عمرو أخرجه أيضا البيهقي والحاكم وصححاه. وحديث نبيشة صححه ابن المنذر، وقال النووي: أسانيده صحيحة. (وفي الباب) عن عائشة عند أبي داود والحاكم والبيهقي قال النووي بإسناد صحيح قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفرعة من كل خمسين واحدة وفي رواية من كل خمسين شاة شاة وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الفرع فقال: الفرع حق وأن تتركوه حتى يكون بكرا أو ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناءك وتوله ناقتك يعني أن ذبحه يذهب لبن الناقة ويفجعها. قوله: في كل عام أضحية هذا من جملة الادلة التي تمسك بها من قال بوجوب الاضحية وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: وعتيرة بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وسكون التحتية بعدها راء وهي ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الاول من رجب ويسمونها الرجبية كما وقع في الحديث المذكور. قال النووي: اتفق العلماء على تفسير العتيرة بهذا. قوله: الفرائع جمع فرع بفتح الفاء والراء ثم عين مهملة، ويقال فيه الفرعة بالهاء هو أول نتاج البهيمة، كانوا يذبحونه ولا يملكونه رجاء البركة في الام وكثرة نسلها، هكذا فسره أكثر أهل اللغة وجماعة من أهل العلم منهم الشافعي وأصحابه، وقيل: هو أول النتاج للابل، وهكذا جاء تفسيره في البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي وقالوا: كانوا يذبحونه لآلهتهم، فالقول الاول باعتبار أول نتاج الدابة على انفرادها والثاني باعتبار نتاج الجميع وإن لم يكن أول ما تنتجه أمه. وقيل: هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة يذبحونه. قال شمر: قال أبو مالك: كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكرا فنحره لصنمه ويسمونه فرعا. قوله: حتى إذا استحمل في رواية لابي داود عن نصر بن علي: استحمل للحجيج أي إذا قدر الفرع على أن يحمله من أراد الحج تصدقت بلحمه على ابن السبيل (وأحاديث الباب يدل بعضها على وجوب العتيرة والفرع، وهو حديث مخنف، وحديث نبيشة، وحديث عائشة، وحديث عمرو بن شعيب. وبعضها يدل على مجرد الجواز من غير وجوب وهو حديث الحرث بن عمرو وأبي رزين، فيكون هذان الحديثان كالقرينة الصارفة للاحاديث المقتضية
[ 234 ]
للوجوب إلى الندب (وقد اختلف) في الجمع بين الاحاديث المذكورة والاحاديث الآتية القاضية بالمنع من الفرع والعتيرة فقيل: إنه يجمع بينها بحمل هذه الاحاديث على الندب، وحمل الاحاديث الآتية على عدم الوجوب، ذكر ذلك جماعة منهم الشافعي والبيهقي وغيرهما، فيكون المراد بقوله: لا فرع ولا عتيرة أي لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة، وهذا لا بد منه مع عدم العلم بالتاريخ، لان المصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع لا يجوز كما تقرر في موضعه. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الاحاديث منسوخة بالاحاديث الآتية، وادعى القاضي عياض أن جماهير العلماء على ذلك، ولكنه لا يجوز الجزم به إلا بعد ثبوت أنها متأخرة ولم يثبت. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا فرع ولا عتيرة، والفرع أول النتاج كان ينتج لهم فيذبحونه، والعتيرة في رجب متفق عليه. وفي لفظ: لا عتيرة في الاسلام ولا فرع رواه أحمد. وفي لفظ: أنه نهى عن الفرع والعتيرة رواه أحمد والنسائي. وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا فرع ولا عتيرة رواه أحمد. حديث ابن عمر رضي الله عنه متنه متن حديث أبي هريرة المتفق عليه فهو شاهد لصحته ولم يذكره في مجمع الزوائد، بل ذكر حديث ابن عمر الآخر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: في العتيرة هي حق وفي بعض نسخ المتن رواه ابن ماجه مكان قوله رواه أحمد. قوله: لا فرع ولا عتيرة قد تقرر أن النكرة الواقعة في سياق النفي تعم فيشعر ذلك بنفي كل فرع وكل عتيرة والخبر محذوف، وقد تقرر في الا صول أن المقتضي لا عموم له فيقدر واحد وهو ألصقها بالمقام، وقد تقدم أن المحذوف هو لفظ واجب وواجبة، ولكن إنما حسن المصير إلى أن المحذوف هو ذلك الحرص على الجمع بين الاحاديث، ولولا ذلك لكان المناسب تقدير ثابت في الاسلام أو مشروع أو حلال، كما يرشد إلى ذلك التصريح بالنهي في الرواية الاخرى. (وقد استدل) بحديثي الباب من قال: بأن الفرع والعتيرة منسوخان وهم من تقدم ذكره. وقد عرفت أن النسخ لا يتم إلا بعد معرفة تأخر تاريخ ما قيل إنه ناسخ، فأعدل الاقوال الجمع بين الاحاديث بما سلف، ولا يعكر على ذلك رواية النهي، لان
[ 235 ]
معنى النهي الحقيقي وإن كان هو التحريم، لكن إذا وجدت قرينة أخرجته عن ذلك، ويمكن أن يجعل النهي موجها إلى ما كانوا يذبحونه لاصنامهم فيكون على حقيقته، ويكون غير متناول لما ذبح من الفرع والعتيرة لغير ذلك مما فيه وجه قربة. وقد قيل: إن المراد بالنفي المذكور نفي مساواتهما للاضحية في الثواب أو تأكد الاستحباب، وقد استدل الشافعي بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: اذبحوا لله في أي شهر كان كما تقدم في حديث نبيشة على مشروعية الذبح في كل شهر إن أمكن، قال في سنن حرملة: أنها إن تيسرت كل شهر كان حسنا. وإلى هنا انتهى النصف الاول من نيل الاوطار شرح منتقى الاخبار بمعونة العزيز الغفار، وصلى الله وسلم على نبيه المختار وآله الاخيار. بك اللهم أستعين على نيل الاوطار، من أسرار منتقى الا خبار، متوسلا إليك بنبيك المختار قال المصنف رحمه الله تعالى. كتاب البيوع أبواب ما يجوز بيعه وما لا يجوز باب ما جاء في بيع النجاسة وآلة المعصية وما لا نفع فيه عن جابر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ان الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والاصنام، فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى به السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك. قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه رواه الجماعة. وعن ابن عباس: أن النبي صلى
[ 236 ]
الله عليه وآله وسلم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وأن الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه رواه أحمد وأبو داود، وهو حجة في تحريم بيع الدهن النجس. حديث ابن عباس في التنفير عنها، وأما تحريم بيعها على أهل الذمة فمبني على الخلاف في خطاب الكافر بالفروع. قوله: والميتة بفتح الميم وهي ما زالت عنها الحياة لا بذكاة شرعية. ونقل ابن المنذر أيضا الاجماع على تحريم بيع الميتة، والظاهر أنه تحرم بيعها بجميع أجزائها، قيل: ويستثنى من ذلك السمك والجراد وما لا تحله الحياة. قوله: والخنزير فيه دليل على تحريم بيعه بجميع أجزائه وقد حكى صاحب الفتح الاجماع على ذلك. وحكى ابن المنذر عن الاوزاعي وأبي يوسف وبعض المالكية الترخيص
[ 237 ]
في القليل من شعره، والعلة في تحريم بيعه وبيع الميتة هي النجاسة عند جمهور العلماء، فيتعدى ذلك إلى كل نجاسة، ولكن المشهور عن مالك طهارة الخنزير. قوله: والاصنام جمع صنم قال الجوهري الوثن، وقال غيره: الوثن ما له جثة، والصنم ما كان مصورا، فبينهما على هذا عموم وخصوص من وجه ومادة اجتماعهما إذا كان الوثن مصورا، والعلة في تحريم بيعها عدم المنفعة المباحة، فإن كان ينتفع بها بعد الكسر جاز بيعها عند البعض ومنعه الاكثر. قوله: أرأيت شحوم الميتة الخ، أي فهل بيعها لما ذكر من المنافع فإنها مقتضية لصحة البيع، كذا في الفتح. قوله: ويستصبح بها الناس الاستصباح استفعال من المصباح وهو السراج الذي يشتعل منه الضوء. قوله: لا هو حرام الاكثر على أن الضمير راجع إلى البيع، وجعله بعض العلماء راجعا إلى الانتفاع فقال: يحرم الانتفاع بها وهو قول أكثر العلماء، فلا ينتفع من الميتة بشئ إلا ما خصه دليل كالجلد المدبوغ، والظاهر أن مرجع الضمير البيع لانه المذكور صريحا والكلام فيه. ويؤيد ذلك قوله في آخر الحديث: فباعوها وتحريم الانتفاع يؤخذ من دليل آخر كحديث: لا تنتفعوا من الميتة بشئ وقد تقدم، والمعنى: لا تظنوا أن هذه المنافع مقتضية لجواز الميتة فإن بيعها حرام. قوله: جملوه بفتح الجيم والميم أي أذابوه، يقال: جمله إذا أذابه والجميل الشحم المذاب. وفي رواية للبخاري: جملوها ثم باعوها وحديث ابن عباس فيه دليل على إبطال الحبل والوسائل إلى المحرم، وأن كل ما حرمه الله على العباد فبيعه حرام لتحريم ثمنه، فلا يخرج من هذه الكلية إلا ما خصه دليل، والتنصيص على تحريم بيع الميتة في حديث الباب مخصص لعموم مفهوم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما حرم من الميتة أكلها وقد تقدم. وقوله: لعن الله اليهود زاد في سنن أبي داود: ثلاثا. وعن أبي جحيفة أنه اشترى حجاما فأمر فكسرت محاجمه وقال: إن
[ 238 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم الدم وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله، ولعن المصورين متفق عليه. وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن رواه الجماعة. وعن ابن عباس قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ثمن الكلب وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملا كفه ترابا رواه أحمد وأبو داود. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور رواه أحمد ومسلم وأبو داود. حديث ابن عباس سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجاله ثقات، لان أبا داود رواه من طريق عبيد الله بن عمرو الرقي وهو من رجال الجماعة عن عبد الكريم بن مالك الجزري، وهو كذلك عن قيس بن حبتر بفتح الحاء المهملة وإسكان الموحدة وفتح الفوقية، وهو من ثقات التابعين كما قال ابن حبان. وحديث جابر هو في مسلم بلفظ: سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور فقال: زجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وقد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ثمن الهر وقال الترمذي: غريب وقال النسائي: هذا حديث منكر وفي إسناده عمر بن زيد الصنعاني. قال ابن حبان: يتفرد بالمناكير عن المشاهير حتى خرج عن حد الاحتجاج به. وقال الخطابي: قد تكلم بعض العلماء في إسناد هذا الحديث وزعم أنه غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال ابن عبد البر: حديث بيع السنور لا يثبت رفعه. وقال النووي: الحديث صحيح رواه مسلم وغيره انتهى. وليخرجه مسلم من طريق عمر بن زيد المذكور، بل رواه من حديث معقل بن عبد الله الجزري عن أبي الزبير قال: سألت جابرا وقد أخرج الحديث أيضا أبو داود والترمذي من طريق أخرى ليس فيها عمر بن زيد الصنعاني باللفظ الذي ذكره المصنف ولكن في إسناده اضطراب كما قال الترمذي. قوله: حرم ثمن الدم اختلف في المراد به فقيل أجره الحجامة، فيكون دليلا لمن قال بأنها غير حلال، وسيأتي الكلام على ذلك في باب ما جاء في كسب الحجام من أبواب الاجارة. وقيل: المراد به ثمن الدم نفسه فيدل على تحريم بيعه وهو حرام إجماعا كما في الفتح. قوله: وثمن الكلب فيه دليل على تحريم بيع
[ 239 ]
الكلب وظاهره عدم الفرق بين المعلم وغيره، سواء كان مما يجوز اقتناؤه أو مما لا يجوز، وإليه ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: يجوز وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره. ويدل عليه ما أخرجه النسائي من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد قال في الفتح: ورجال إسناده ثقات إلا أنه طعن في صحته، وأخرج نحوه الترمذي من حديث أبي هريرة لكن من رواية أبي المهزم وهو ضعيف، فينبغي حمل المطلق على المقيد، ويكون المحرم بيع ما عدا كلب الصيد إن صلح هذا المقيد للاحتجاج به. وقد اختلفوا أيضا هل تجب القيمة على متلفه؟ فمن قال بتحريم بيعه قال بعد الوجوب ومن قال بجوازه قال بالوجوب. ومن فصل في البيع فصل في لزوم القيمة وروي عن مالك أنه لا يجوز بيعه وتجب القيمة. وروي عنه أن بيعه مكروه فقط. قوله: وكسب البغي في الرواية الثانية: ومهر البغي والمراد ما تأخذه الزانية على الزنا وهو مجمع على تحريمه، والبغي بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد التحتانية. وأصل البغي الطلب غير أنه أكثر ما يستعمل في الفساد، واستدل به على أن الامة إذا أكرهت على الزنا فلا مهر لها، وفي وجه للشافعية يجب للسيد الحكم. قوله: ولعن الواشمة والمستوشمة سيأتي الكلام على هذا في باب ما يكرهه من تزين النساء من كتاب الوليمة إن شاء الله. قوله: وآكل الربا وموكله يأتي إن شاء الله الكلام على هذا في باب التشديد في الربا من أبواب الربا. قوله: ولعن المصورين فيه أن التصوير من أشد المحرمات، لان اللعن لا يكون إلا على ما هو كذلك، وقد تقدم ما يحرم من التصوير وما لا يحرم في أبواب اللباس. قوله: وحلوان الكاهن الحلوان
[ 240 ]
بضم الحاء المهملة مصدر حلوته إذا أعطيته. قال في الفتح: وأصله من الحلاوة شبه بالشئ: الحلو من حيث إنه يؤخذ سهلا بلا كلفة ولا مشقة، والحلوان أيضا الرشوة، والحلوان أيضا ما يأخذه الرجل من مهر ابنته لنفسه. والكاهن قال الخطابي: هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن. قال في الفتح: حلوان الكاهن حرام بالاجماع لما فيه من أخذ العوض على أمر باطل، وفي معناه التنجيم والضرب بالحصى وغير ذلك مما يتعاناه العرافون من استطلاع الغيب. قوله: فاملا كفه ترابا كناية عن منعه من الثمن كما يقال للطالب الخائب لم يحصل في كفه غير التراب. وقيل: المراد التراب خاصة حملا للحديث على ظاهره، وهذا جمود لا ينبغي التعويل عليه. ومثله حمل من حمل حديث: احثوا التراب في وجوه المداحين على معناه الحقيقي. قوله: والسنور بكسر السين المهملة وفتح النون المشددة وسكون الواو بعدها راء وهو الهر، وفيه دليل على تحريم بيع الهر، وبه قال أبو هريرة ومجاهد وجابر وابن زيد، حكى ذلك عنهم ابن المنذر، وحكاه المنذري أيضا عن طاوس، وذهب الجمهور إلى جواز بيعه، وأجابوا عن هذا الحديث. بما تقدم من تضعيفه وقد عرفت دفع ذلك. وقيل: إنه يحمل النهي على كراهة التنزيه، وأن بيعه ليس من مكارم الاخلاق ولا من المروءات ولا يخفى أن هذا إخراج للنهي عن معناه الحقيقي بلا مقتض. باب النهي عن بيع فضل الماء عن إياس بن عبد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع فضل الماء رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي. وعن جابر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله رواه أحمد وابن ماجه. حديث إياس قال القشيري: هو على شرط الشيخين، وحديث جابر هو في صحيح
[ 241 ]
مسلم ولفظه لفظ حديث إياس، وكذا أخرجه النسائي (والحديثان) يدلان على تحريم بيع فضل الماء وهو الفاضل عن كفاية صاحبه، والظاهر أنه لا فرق بين الماء الكائن في أرض مباحة أو في أرض مملوكة، وسواء كان للشرب أو لغيره، وسواء كان لحاجة الماشية أو الزرع، وسواء كان في فلاة أو في غيرها. وقال القرطبي: ظاهر هذا اللفظ النهي عن نفس بيع الماء الفاضل الذي يشرب فإنه السابق إلى الفهم. وقال النووي: حاكيا عن أصحاب الشافعي: أنه يجب بذل الماء في الفلاة بشروط، أحدها: أن لا يكون ماء آخر يستغنى به. الثاني: أن يكون البذل لحاجة الماشية لا لسقي الزرع. الثالث: أن لا يكون مالكه محتاجا إليه. ويؤيد ما ذكرنا من دلالة الحديثين على المنع من بيع الماء على العموم حديث أبي هريرة عند الشيخين مرفوعا بلفظ: لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلا وذكره صاحب جامع الاصول بلفظ: لا يباع فضل الماء وهو لفظ مسلم، وسيأتي هذا الحديث وما معناه في باب النهي عن منع فضل الماء من كتاب إحياء الموات، ويؤيد المنع من البيع أيضا أحاديث: الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلا والنار وستأتي في باب: الناس شركاء في ثلاث من كتاب إحياء الموات أيضا. وقد حمل الماء المذكور في حديثي الباب على ماء الفحل، وهو مع كونه خلاف الظاهر مردود بما في حديث جابر الذي أشار إليه المصنف فإنه في صحيح مسلم بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع فضل الماء وعن منع ضراب الفحل وقد خصص من عموم حديثي المنع من البيع للماء ما كان منه محرزا في الآنية فإنه يجوز بيعه قياسا على جواز بيع الحطب إذا أحرزه الحاطب لحديث الذي أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالاحتطاب ليستغني به عن المسألة، وهو متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم في الزكاة، وهذا القياس بعد تسليم صحته إنما يصح على مذهب من جوز التخصيص بالقياس، والخلاف في ذلك معروف في الاصول، ولكنه يشكل على النهي عن بيع الماء على الاطلاق ما ثبت في الحديث الصحيح من أن عثمان اشترى نص ف بئر رومة من اليهودي وسبلها للمسلمين بعد أن سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من يشتري بئر رومة فيوسع بها على المسلمين وله الجنة وكان اليهودي يبيع ماءها الحديث، فإنه كما يدل على جواز بيع البئر نفسها، وكذلك العين بالقياس عليها يدل على جواز بيع الماء لتقريره
[ 242 ]
صلى الله عليه وآله وسلم لليهودي على البيع، ويجاب بأن هذا كان في صدر الاسلام، وكانت شوكة اليهود في ذلك الوقت قوية والنبي صلى الله عليه وآله وسلم صالحهم في مبادئ الامر على ما كانوا عليه، ثم استقرت الاحكام وشرع لامته تحريم بيع الماء، فلا يعارضه ذلك التقرير، وأيضا الماء هنا دخل لبيع البئر ولا نزاع في جواز ذلك. باب النهي عن ثمن عسب الفحل عن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ثمن عسب الفحل رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود. عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع ضراب الفحل رواه مسلم والنسائي. وعن أنس: أن رجلا من كلاب سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عسب الفحل فنهاه فقال: يا رسول الله إنا نطرق الفحل فنكرم فرخص له في الكرامة رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. في الباب عن أنس غير حديث الباب عند الشافعي، وعن علي عليه السلام عند الحاكم في علوم الحديث وابن حبان والبزار، وعن البراء عند الطبراني، وعن ابن عباس عنده أيضا. قوله: عسب الفحل بفتح العين المهملة وإسكان السين المهملة أيضا وفي آخره موحدة، ويقال له العسيب أيضا، والفحل الذكر من كل حيوان فرسا كان جملا أو تيسا أو غير ذلك. وقد روى النسائي من حديث أبي هريرة نهى عن عسيب التيس، واختلف فيه فقيل: هو ماء الفحل، وقيل: أجرة الجماع، ويؤيد الاول حديث جابر المذكور في الباب (وأحاديث الباب) تدل على أن بيع ماء الفحل وإجارته حرام، لانه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه، وإليه ذهب الجمهور، وفي وجه للشافعية والحنابلة، وبه قال الحسن وابن سيرين وهو مروي عن مالك أنها تجوز إجارة الفحل للضراب مدة معلومة، وأحاديث الباب ترد عليهم لانها صادقة على الاجارة. قال صاحب الافعال: أعسب الرجل عسبا اكترى منه فحلا ينزيه، ولا يصح القياس على تلقيح النخل، لان ماء الفحل صاحبه عاجز عن تسليمه بخلاف التلقيح،
[ 243 ]
قال في الفتح: وأما عارية ذلك فلا خلاف في جوازه. قوله: فرخص له في الكرامة فيه دليل أن المعير إذا أهدي إليه المستعير هدية بغير شرط حلت له، وقد ورد الترغيب في إطراق الفحل. أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي كبشة مرفوعا: من أطرق فرسا فأعقب كان له كأجر سبعين فرسا. باب النهي عن بيوع الغرر عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر رواه الجماعة إلا البخاري. وعن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر رواه أحمد. وعن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع حبل الحبلة رواه أحمد ومسلم والترمذي. وفي رواية: نهى عن بيع حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت رواه أبو داود. وفي لفظ: كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك متفق عليه. وفي لفظ: كانوا يبتاعون الجزور إلى حبل الحبلة، فنهاهم صلى الله عليه وآله وسلم عنه رواه البخاري. حديث ابن مسعود في إسناده يزيد بن أبي زياد عن المسيب بن رافع عن ابن مسعود، قال البيهقي: فيه إرسال بين المسيب وعبد الله والصحيح وقفه. وقال الدارقطني في العلل: اختلف فيه والموقوف أصح، وكذلك قال الخطيب وابن الجوزي. وقد روى أبو بكر بن أبي عاصم عن عمران بن حصين حديثا مرفوعا وفيه النهي عن بيع السمك في الماء فهو شاهد لهذا. قوله: نهى عن بيع الحصاة اختلف في تفسيره فقيل: هو أن يقول: بعتك من هذه الاثواب ما وقعت عليه هذه الحصاة ويرمي الحصاة أو من هذه الارض ما انتهت إليه في الرمي وقيل: هو أن يشرط الخيار إلى أن يرمي الحصاة. وقيل: هو أن يجعل نفس الرمي بيعا. ويؤيده ما أخرجه البزار من طريق حفص بن عاصم عنه أنه قال يعني إذا قذف الحصاة فقد وجب البيع. قوله: وعن بيع الغرر بفتح المعجمة وبراءين مهملتين
[ 244 ]
وقد ثبت النهي عنه في أحاديث، منها: المذكور في الباب. ومنها: عن ابن عمر عند أحمد وابن حبان. ومنها: عن ابن عباس عند ابن ماجه. ومنها: عن سهل بن سعد عند الطبراني ومن جملة بيع الغرر بيع السمك في الماء كما في حديث ابن مسعود، ومن جملته بيع الطير في الهواء وهو مجمع على ذلك، والمعدوم والمجهول والآبق وكل مادخل فيه الغرر بوجه من الوجوه قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل كثيرة جدا، ويستثنى من بيع الغرر أمران: أحدهما ما يدخل في البيع تبعا بحيث لو أفرد لم يصح بيعه. والثاني ما يتسامح بمثله إما لحقارته أو للمشقة في تمييزه أو تعيينه. ومن جملة ما يدخل تحت هذين الامرين بيع أساس البناء واللبن في ضرع الدابة والحمل في بطنها والقطن المحشو في الجبة. قوله: حبل الحبلة الحبل بفتح الحاء المهملة والباء، وغلط عياض من سكن الباء وهو مصدر حبلت تحبل، والحبلة بفتحهما أيضا جمع حابل مثل ظلمة وظالم، وكتبة وكاتب، والهاء فيه للمبالغة، وقيل: هو مصدر سمي به الحيوان، والاحاديث المذكورة في الباب تقضي ببطلان البيع لان النهي يستلزم ذلك كما تقرر في الاصول. واختلف في تفسير حبل الحبلة، فمنهم من فسره بما وقع في الرواية من تفسير ابن عمر كما جزم به ابن عبد البر. وقال الاسماعيلي والخطيب: هو من كلام نافع ولا منافاة بين الروايتين، ومن جملة الذاهبين إلى هذا التفسير مالك والشافعي وغيرهما وهو أن يبيع لحم الجزور بثمن مؤجل إلى أن يلد ولد الناقة، وقيل: إلى أن يحمل ولد الناقة، ولا يشترط وضع الحمل، وبه جزم أبو إسحاق في التنبيه وتمسك بالتفسيرين المذكورين في الباب فإنه ليس فيهما ذكر أن يلد الولد، ولكنه وقع في رواية متفق عليها بلفظ: كان الرجل يبتاع إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها، وهو صريح في اعتبار أن يلد الولد ومشتمل على زيادة فيرجح. وقال أحمد وإسحاق وابن حبيب المالكي والترمذي وأكثر أهل اللغة منهم أبو عبيدة وأبو عبيد: هو بيع ولد الناقة الحامل في الحال، فتكون علة النهي على القول الاول جهلة الاجل، وعلى القول الثاني بيع الغرر لكونه معدوما ومجهولا وغير مقدور على تسليمه، ويرجح الاول قوله في حديث الباب: لحوم الجزور وكذلك قوله: يبتاعون الجزور قال ابن التين: محصل الخلاف هو المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين، وعلى الاول هل المراد بالاجل ولادة الام أم ولادة ولدها؟ وعلى الثاني هل المراد بيع الجنين
[ 245 ]
الاول أو جنين الجنين، فصارت أربعة أقوال كذا في الفتح. قوله: أن تنتج بضم أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه والفاعل الناقة، قال في الفتح: وهذا الفعل وقع في لغة العرب على صيغة الفعل المسند إلى المفعول. قوله: الجزور بفتح الجيم وضم الزاي وهو البعير ذكرا كان أو أنثى. وعن شهر بن حوشب عن أبي سعيد قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شراء ما في بطون الانعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض وعن ضربة الغائص رواه أحمد وابن ماجه، وللترمذي منه شراء المغانم وقال: غريب. وعن ابن عباس قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع المغانم حتى تقسم رواه النسائي. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله، رواه أحمد وأبو داود. وعن ابن عباس قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يباع ثمر حتى يطعم، أو صوف على ظهر، أو لبن في ضرع أو سمن في لبن رواه الدارقطني. حديث أبي سعيد أخرجه أيضا البزار والدارقطني، وقد ضعف الحافظ إسناده وشهر ابن حوشب فيه مقال تقدم وقد حسن الترمذي ما أخرجه منه، ويشهد لاكثر الاطراف التي اشتمل عليها أحاديث أخر منها أحاديث النهي عن بيع الغرور، وما ورد في النهي عن بيع الملاقيح والمضامين، وما ورد في حبل الحبلة على أحد التفسيرين، وحديث أبي هريرة في إسناد أبي داود رجل مجهول، وحديث ابن عباس الآخر أخرجه أيضا البيهقي وفي إسناده عمر بن فروخ، قال البيهقي: تفرد به ليس بالقوي انتهى ولكنه قد وثقه ابن معين وغيره. وقد رواه عن وكيع مرسلا أبو داود في المراسيل، وابن أبي شيبة في مصنفه قال: ووفقه غيره على ابن عباس وهو المحفوظ. وأخرجه أيضا أبو داود من طريق أبي إسحاق عن عكرمة، والشافعي من وجه آخر عن ابن عباس، والطبراني في الاوسط من طريق عمر المذكور وقال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بهذا الاسناد. وفي الباب عن عمران بن حصين مرفوعا عند أبي بكر بن أبي عاصم بلفظ: نهى عن بيع ما في ضروع الماشية قبل أن تحلب، وعن الجنين في بطون الانعام وعن بيع السمك في الماء، وعن المضامين، والملاقيح وحبل الحبلة، وعن بيع الغرر. قوله: عن شراء ما في بطون الانعام فيه دليل على أنه لا يصح شراء الحمل وهو مجمع
[ 246 ]
عليه، والعلة الغرر وعدم القدرة على التسليم. قوله: وعن بيع ما في ضروعها هو أيضا مجمع على عدم صحة بيعه قبل انفصاله لما فيه من الغرر والجهالة، إلا أن يبيعه منه كيلا نحو أن يقول: بعت منك صاعا من حليب بقرتي، فإن الحديث يدل على جوازه لارتفاع الغرر والجهالة. قوله: وعن شراء العبد الآبق فيه دليل على أنه لا يصح بيعه، وقد ذهب إلى ذلك الهادي والشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه والمؤيد بالله وأبو طالب: إنه يصح موقوفا على التسليم، واستدلوا بعموم قوله تعالى: * (وأحل الله البيع) * (سورة البقرة، الآية: 275) وهو من التمسك بالعام في مقابلة ما هو أخص منه مطلقا وعلة النهي عدم القدرة على التسليم إن كانت عين العبد الآبق معلومة، وإلا فجموع الجهالة والغرر وعدم القدرة على التسليم. قوله: وشراء المغانم مقتضى النهي عدم صحة بيعها قبل القسمة لانه لا ملك على ما هو الاظهر من قول الشافعي وغيره لاحد من الغانمين قبلها، فيكون ذلك من أكل أموال الناس بالباطل. قوله: وعن شراء الصدقات فيه دليل على أنه لا يجوز للمتصدق عليه بيع الصدقة قبل قبضها لانه لا يملكها إلا به، وقد خصص من هذا العموم المصدق فقيل: يجوز له بيع الصدقات قبل قبضها وهو غير مقبول إلا بدليل يخص هذا العموم، وجعل التخلية إليه بمنزلة القبض دعوى مجردة، وعلى التسليم قيامها مقام القبض، فلا فرق بينه وبين غيره. قوله: وعن ضربة الغائص المراد بذلك أن يقول من يعتاد الغوص في البحر لغيره: ما أخرجته في هذه الغوصة فهو لك بكذا من الثمن، فإن هذا لا يصح لما فيه من الغرر والجهالة. قوله: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يباع ثمر حتى يطعم سيأتي الكلام على هذا باب النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه. قوله: أو صوف على ظهر فيه دليل على عدم صحة بيع الصوف ما دام على ظهر الحيوان، وإلى ذلك ذهب العترة والفقهاء، والعلة الجهالة والتأدية إلى الشجار في موضع القطع. قوله: أو سمن في لبن يعني لما فيه من الجهالة والغرر. وعن أبي سعيد قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه وينبذ الآخر بثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض متفق عليه. وعن أنس قال: نهى النبي صلى الله
[ 247 ]
عليه وآله وسلم عن المحافلة والمخاضرة والمنابذة والملامسة والمزابنة رواه البخاري. قوله: عن الملامسة والمنابذة هما مفسران بما ذكر في الحديث ذكر البخاري ذلك في اللباس عن الزهري، وقد فسرا بأن الملامسة أن يمس الثوب ولا ينظر إليه، والمنابذة أن يطرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه وينظر إليه وهو كالتفسير الاول. قال في الفتح: ولابي عوانة عن يونس أن يتابع القوم السلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها أو يتنابذ القوم السلع كذلك فهذا من أبواب القمار وفي رواية لابن ماجه من طريق سفيان عن الزهري: المنابذة أن يقول: ألق إلي ما معك وألقي إليك ما معي والنسائي من حديث أبي هريرة الملامسة أن يقول الرجل للرجل: أيبيعك ثوب بثوبك ولا ينظر أحد منهما إلى ثوب الآخر ولكن يلمسه لمسا. والمنابذة أن يقول: أنبذ ما معي وتنبذ ما معك فيشتري كل واحد منهما من الآخر ولا يدري كم مع الآخر. وروى أحمد عن معمر أنه فسر المنابذة بأن يقول: إذا نبذت هذا الثوب لقد وجب البيع. والملامسة أن يلمس بيده ولا ينشره ولا يقلبه إذا مسه وجب البيع. ولمسلم عن أبي هريرة: الملامسة أن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل. والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر لم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه. قال الحافظ: وهذا التفسير الذي في حديث أبي هريرة أقعد بلفظ الملامسة والمنابذة لانها مفاعلة، فتستدعي وجود الفعل من الجانبين. قال: واختلف العلماء في تفسير الملامسة على ثلاث صور هو أوجه للشافعية، أصحها أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام فيقول له صاحب الثوب: بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك ولا خيار لك إذا رأيته، وهذا موافق للتفسير الذي في الاحاديث. الثاني: أن يجعلا نفس اللمس بيعا بغير صيغته زائدة. الثالث: أن يجعلا اللمس شرطا في قطع خيار المجلس والبيع على التأويلات كلها باطل. ثم قال: واختلفوا في المنابذة على ثلاثة أقوال وهو ثلاثة أوجه للشافعية، أصحها أن يجعلا نفس النبذ بيعا كما تقدم في الملامسة وهو الموافق للتفسير المذكور في الاحاديث والثاني: أن يجعلا النبذ بيعا بغير صيغة. والثالث: أن يجعلا النبذ قاطعا للخيار، هكذا في الفتح. والعلة في النهي عن الملامسة والمنابذة لغرور الجهالة وإبطال خيار المجلس وحديث أنس يأتي الكلام على ما اشتمل عليه من المحاقلة والمزابنة في باب النهي
[ 248 ]
عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وأما المخاضرة المذكورة فيه فهي بالخاء والضاد المعجمتين وهي بيع الثمر خضراء قبل بدو صلاحها، وسيأتي الخلاف في ذلك. باب النهي عن الاستثناء في البيع إلا أن يكون معلوما عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والثنيا إلا أن تعلم رواه النسائي والترمذي وصححه. الحديث أخرجه مسلم بلفظ: نهى عن الثنيا وأخرجه أيضا بزيادة: إلا أن تعلم النسائي وابن حبان في صحيحه، وغلط ابن الجوزي فزعم أن هذا الحديث متفق عليه وليس الامر كذلك، فإن البخاري لم يذكر في كتابه الثنيا، وهو يدل على تحريم المحاقلة والمزابنة، وسيأتي الكلام عليهما، والثنيا بضم المثلثة وسكون النون المراد بها الاستثناء في البيع، نحو أن يبيع الرجل شيئا ويستثني بعضه، فإن كان الذي استثناه معلوما نحو أن يستثني واحدة من الاشجار أو منزلا من المنازل أو موضوعا معلوما من الارض صح بالاتفاق، وإن كان مجهولا نحو أن يستثني شيئا غير معلوم لم يصح البيع، وقد قيل: إنه يجوز أن يستثني مجهول العين إذا ضرب لاختياره مدة معلومة لانه بذلك صار كالمعلوم، وبه قالت الهادوية. وقال الشافعي: لا يصح لما في الجهالة حال البيع من الغرر وهو الظاهر لدخول هذه الصورة تحت عموم الحديث، وإخراجها يحتاج إلى دليل ومجرد كون مدة الاختيار معلومة، وإن صار به على بصيرة في التعيين بعد ذلك لكنه لم يصر به على بصيرة حال العقد وهو المعتبر (والحكمة) في النهي عن استثناء المجهول ما يتضمنه من الغرر مع الجهالة. باب بيعتين في بيعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا رواه أبو داود. وفي لفظ: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيعتين في بيعة رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. وعن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
[ 249 ]
عن صفقتين في صفقة، قال سماك: هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسا بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا رواه أحمد. حديث أبي هريرة باللفظ الاول في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير و احد، قال المنذري: والمشهور عنه من رواية الدراوردي ومحمد بن عبد الله الانصاري أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيعتين في بيعة انتهى، وهو باللفظ الثاني عند من ذكره المصنف، وأخرجه أيضا الشافعي ومالك في بلاغاته، وحديث ابن مسعود أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات وأخرجه أيضا البزار والطبراني في الكبير والاوسط، وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني وابن عبد البر. قوله: من باع بيعتين فسره سماك بما رواه المصنف عن أحمد عنه، وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال: بأن يقول بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا ونقل ابن الرفعة عن القاضي أن المسألة مفروضة على أنه قبل على الابهام، أما لو قال: قبلت بألف نقدا أو بألفين بالنسيئة صح ذلك. وقد فسر ذلك الشافعي بتفسير آخر فقال هو أن يقول: بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا، أي إذا وجب لك عندي وجب لي عندك، وهذا يصلح تفسيرا للرواية الاخرى من حديث أبي هريرة لا للاولى، فإن قوله: فله أوكسهما يدل على أنه باع الشئ الواحد بيعتين بيعة بأقل وبيعة بأكثر. وقيل في تفسير ذلك: هو أن يسلفه دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الاجل وطالب بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بفقزين فصار ذلك بيعتين في بيعة، لان البيع الثاني قد دخل على الاول فيرد إليه أوكسهما وهو الاول، كذا في شرح السنن لابن رسلان. قوله: فله أوكسهما أي أنقصهما قال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بظاهر الحديث، وصحح البيع بأوكس الثمنين إلا ما حكي عن الاوزاعي وهو مذهب فاسد انتهى. ولا يخفى أن ما قاله هو ظاهر الحديث، لان الحكم له بالاوكس يستلزم صحة البيع به. قوله: الربا يعني أو يكون قد دخل هو وصاحبه في الربا المحرم إذا لم يأخذ الاوكس بل أخذ الاكثر، وذلك ظاهر في التفسير الذي ذكره ابن رسلان. وأما في التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك وذكره الشافعي ففيه متمسك لمن قال: يحر بيع الشئ بأكثر من سعر يومه لاجل النساء، وقد ذهب إلى ذلك
[ 250 ]
زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والامام يحيى. وقالت الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور: إنه يجوز لعموم الادلة القاضية بجوازه وهو الظاهر، لان ذلك المتمسك هو الرواية الاولى من حديث أبي هريرة، وقد عرفت ما في راويها من المقال، ومع ذلك فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره وهو النهي عن بيعتين في بيعة ولا حجة فيه على المطلوب، ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوي صالحة للاحتجاج لكان احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان قادحا في الاستدلال بها على المتنازع فيه، على أن غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة وهي أن يقول: نقدا بكذا ونسيئة بكذا، إلا إذا قال من أول الامر نسيئة بكذا فقط وكان أكثر من سعر يومه، مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة، ولا يدل الحديث على ذلك فالدليل أخص من الدعوى، وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها شفاء الغلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الاجل، وحققناها تحقيقا لم نسبق إليه، والعلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشئ الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك، ولزوم الربا في صورة القفيز الحنطة. قوله: أو صفقتين في صفقة أي بيعتين في بيعة. باب النهي عن بيع العربون عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع العربان رواه أحمد والنسائي وأبو داود وهو لمالك في الموطأ. الحديث منقطع لانه من رواية مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب ولم يدركه فبينهما راو لم يسم، وسماه ابن ماجه فقال عن مالك عن عبد الله بن عامر الاسلمي، وعبد الله لا يحتج بحديثه وفي إسناد ابن ماجه هذا أيضا حبيب كاتب الامام مالك وهو ضعيف لا يحتج به. وقد قيل: إن الرجل الذي لم يسم هو ابن لهيعة ذكر ذلك ابن عدي وهو أيضا ضعيف. ورواه الدارقطني. والخطيب عن مالك عن عمرو بن الحرث عن عمرو بن شعيب وفي إسنادهما الهيثم بن اليمان وقد ضعفه الازدي، وقال
[ 251 ]
أبو حاتم: صدوق ورواه البيهقي موصولا من غير طريق مالك وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم: إنه سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العربان في البيع فاصله وهو مرسل، وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف. قوله: العربان بضم العين المهملة وإسكان الراء ثم موحدة مخففة، ويقال فيه عربون بضم العين والياء، ويقال بالهمزة مكان العين. قال أبو داود: قال مالك وذلك فيما نرى والله أعلم أن يشتري الرجل العبد أو يتكارى الدابة ثم يقول: أعطيك دينارا على أني إن تركت السلعة أو الكراء فما أعطيتك لك انتهى. وبمثل ذلك فسره عبد الرزاق عن زيد بن أسلم، والمراد أنه إذا لم يختر السلعة أو اكترى الدابة كان الدينار أو نحوه للمالك بغير شئ، وإن اختارهما أعطاه بقية القيمة أو الكراء وحديث) الباب يدل على على تحريم البيع مع العربان، وبه قال الجمهور، وخالف في ذلك أحمد فأجازه، وروي نحوه عن عمر وابنه. ويدل على ذلك حديث زيد بن أسلم المتقدم وفيه المقال المذكور، والاولى ما ذهب إليه الجهمور لان حديث عمرو بن شعيب قد ورد من طرق يقوي بعضها بعضا، ولانه يتضمن الحظر وهو أرجح من الاباحة كما تقرر في الاصول. والعلة في النهي عنه اشتماله على شرطين فاسدين. أحدهما: شرط كون ما دفعه إليه يكون مجانا إن اختار ترك السلعة. والثاني: شرط الرد على البائع إذا لم يقع منه الرضا بالبيع. باب تحريم بيع العصير ممن يتخذه خمرا وكل بيع أعان على معصية عن أنس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليها، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له رواه الترمذي وابن ماجه. وعن ابن عمر قال: لعنت الخمرة على عشرة وجوه، لعنت الخمرة بعينها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود بنحوه، لكنه لم يذكر: وآكل ولم يقل عشرة. الحديث الاول قال الحافظ في التلخيص: ورواته ثقات، والحديث الثاني في إسناده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أمير الاندلس، قال يحيى: لا أعرفه، وقال قوم:
[ 252 ]
هو معروف وصححه ابن السكن (وفي الباب) عن أبي هريرة عند أبي داود، وعن ابن عباس عند ابن حبان، وعن ابن مسعود عند الحاكم، وعن بريدة عند الطبراني في الاوسط من طريق محمد بن أحمد بن أبي خيثمة بلفظ: من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة حسنه الحافظ في بلوغ المرام. وأخرجه البيهقي بزيادة: أو ممن يتخذه خمرا وقد استدل المصنف رحمه الله بحديثي الباب على تحريم بيع العصير ممن يتخذه خمرا، وتحريم كل بيع أعان على معصية قياسا على ذلك، وليس في حديثي الباب تعرض لتحريم بيع العنب ونحوه ممن يتخذه خمرا، لان المراد بلعن بائعها وآكل ثمنها بائع الخمر وآكل ثمن الخمر، وكذلك بقية الضمائر المذكورة هي للخمر ولو مجازا، كما في عاصرها ومعتصرها فإنه يؤول المعصور إلى الخمر، والذي يدل على مراد المصنف حديث بريدة الذي ذكرناه لترتيب الوعيد الشديد على من باع العنب إلى من يتخذه خمرا، ولكان قوله: حبس وقوله: أو ممن يعلم أن يتخذه خمرا يدلان على اعتبار القصد والتعمد للبيع إلى من يتخذه خمرا، ولا خلاف في التحريم مع ذلك، وأما مع عدمه فذهب جماعة من أهل العلم إلى جواز منهم الهادوية مع الكراهة ما لم يعلم أنه يتخذه لذلك، ولكن الظاهر أن البيع من اليهودي والنصراني لا يجوز لانه مظنه لجعل العنب خمرا، ويؤيد المنع مع من البيع مع ظن استعمال المبيع في معصية ما أخرجه الترمذي وقال: غريب من حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشتروهن ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام. باب النهي عن بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه ويسلمه عن حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال: لا تبع ما ليس عندك رواه الخمسة. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن حكيم انتهى. وفي بعض طرقه عبد الله بن عصمة زعم عبد
[ 253 ]
الحق أنه ضعيف جدا، ولم يتعقبه ابن القطان بل نقل عن ابن حزم أنه مجهول. قال الحافظ: وهو جرح مردود، فقد روى عنه ذلك ثلاثة كما في التلخيص وقد احتج به النسائي (وفي الباب) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك. قوله: ما ليس عندك أي ما ليس في ملكك وقدرتك، والظاهر أنه يصدق على العبد المغصوب الذي لا يقدر على انتزاعه ممن هو في يده، وعلى الآبق الذي لا يعرف مكانه، والطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه، ويدل على ذلك معنى عند لغة قال الرضى: إنها تستعمل في الحاضر القريب وما هو في حوزتك وإن كان بعيدا انتهى. فيخرج عن هذا ما كان غائبا خارجا عن الملك أو داخلا فيه خارجا عن الحوزة، وظاهره أنه يقال لما كان حاضرا وإن كان خارجا عن الملك. فمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تبع ما ليس عندك أي ما ليس حاضرا عندك ولا غائبا في ملكك وتحت حوزتك. قال البغوي: النهي في هذا الحديث عن بيوع الاعيان التي لا يملكها أما بيع شئ موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروطه، فلو باع شيئا موصوفا في ذمته عام الوجود عند المحل المشروط في البيع جاز، وإن لم يكن المبيع موجودا في ملكه حالة العقد كالسلم، قال: وفي معنى بيع ما ليس عنده في الفساد بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه إلى محله، فإن اعتاد الطائر أن يعود ليلا لم يصح أيضا عند الاكثر إلا النحل فإن الاصح فيه الصحة، كما قاله النووي في زيادات الروضة، وظاهر النهي تحريم ما لم يكن في ملك الانسان ولا داخلا تحت مقدرته، وقد استثني من ذلك السلم، فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم، وكذلك إذا كان المبيع في ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض. باب من باع سلعة من رجل ثم من آخر عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما امرأة زوجها وليان فهي للاول منهما، وأيما رجل باع بيعا من رجلين فهو للاول منهما رواه
[ 254 ]
الخمسة، إلا أن ابن ماجه لم يذكر فيه فصل النكاح، وهو يدل بعمومه على فساد بيع البائع المبيع وإن كان في مدة الخيار. الحديث هو من رواية الحسن عن سمرة وفي سماعه منه خلاف قد تقدم، وقد حسنه الترمذي وصححه أبو زرعة وأبو حاتم والحاكم. قال الحافظ: وصحته متوقفة على ثبوت سماع الحسن من سمرة ورجاله ثقات، ورواه الشافعي وأحمد والنسائي من طريق قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر، قال الترمذي: الحسن عن سمرة في هذا أصح. قوله: فهي للاول منهما فيه دليل على أن المرأة إذا عقد لها وليان لزوجين كانت لمن عقد له أول الوليين من الزوجين وبه قال الجمهور، وسواء كان قد دخل بها الثاني أم لا، وخالف في ذلك مالك وطاوس والزهري. وروي عن عمر فقالوا: إنها تكون للثاني إذا كان قد دخل بها لان الدخول أقوى، والخلاف في تفاصيل هذه المسألة بين المفرعين طويل. قوله: وأيما رجل باع الخ فيه دليل على أن من باع شيئا من رجل ثم باعه من آخر لم يكن للبيع للآخر حكم بل هو باطل لانه باع غير ما يملك، إذ قد صار في ملك المشتري الاول، ولا فرق بين أن يكون البيع الثاني وقع في مدة الخيار انقراضها، لان البيع قد خرج عن مكة بمجرد البيع. باب النهي عن بيع الدين بالدين وجوازه بالعين ممن هو عليه عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ رواه الدارقطني. وعن ابن عمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: أني أبيع الابل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شئ رواه الخمسة. وفي لفظ بعضهم: أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير وفيه دليل على جواز التصرف في الثمن قبل قبضه وإن كان في مدة الخيار، وعلى أن خيار الشرط لا يدخل الصرف. الحديث الاول صححه الحاكم على شرط مسلم، وتعقب بأنه تفرد به موسى بن عبيدة الربذي كما قال الدارقطني وابن عدي. وقد قال فيه أحمد: لا تحل الرواية عنه عندي، ولا أعرف هذا الحديث عن غيره وقال: ليس في هذا أيضا حديث يصح، ولكن
[ 255 ]
إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين. وقال الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث اه. ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع كالئ بكالئ دين بدين ولكن في إسناده موسى المذكور فلا يصح شاهدا، والحديث الثاني صححه الحاكم وأخرجه ابن حبان والبيهقي، وقال الترمذي: لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث سماك بن حرب، وذكر أنه روي عن ابن عمر موقوفا، وأخرجه النسائي موقوفا عليه أيضا. قال البيهقي: والحديث تفرد برفعه سماك بن حرب، وقال شعبة رفعه لنا سماك وأنا أفرقه. قوله: الكالئ بالكالئ هو مهموز، قال الحاكم عن أبي الوليد حسان: هو بيع النسيئة بالنسيئة، كذا نقله أبو عبيد في الغريب، وكذا نقله الدارقطني عن أهل اللغة وروى البيهقي عن نافع قال: هو بيع الدين بالدين. وفيه دليل على عدم جواز بيع الدين بالدين. وهو إجماع كما حكاه أحمد في كلامه السابق وكذا لا يجوز بيع كل معدوم بمعدوم. قوله: بالبقيع قال الحافظ: بالباء الموحدة كما وقعت عند البيهقي في بقيع الغرقد. قال النووي: ولم يكن إذ ذاك قد كثرت فيه القبور. وقال ابن باطيش: لم أر من ضبطه والظاهر أنه بالنون، حكي ذلك عنه في التلخيص وابن رسلان في شرح السنن. قوله: لا بأس الخ فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثمن الذي في الذمة بغيره، وظاهره أنهما غير حاضرين جميعا بل الحاضر أحدهما وهو غير اللازم، فيدل على أن ما في الذمة كالحاضر. قوله: ما لم تفترقا وبينكما شئ فيه دليل على أن جواز الاستبدال مقيد بالتقابض في المجلس، لان الذهب والفضة مالان ربويان فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر إلا بشرط وقوع التقابض في المجلس، وهو محكي عن عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما، والحسن والحكم وطاوس والزهري ومالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والاوزاعي وأحمد وغيرهم وروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب وهو أحد قولي الشافعي أنه مكروه أي الاستبدال المذكور والحديث يرد عليهم واختلف الاولون فمنهم من قال: يشترط أن يكون بسعر يومها كما وقع في الحديث وهو مذهب أحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي: إنه يجوز بسعر يومها وأغلى وأرخص، وهو خلاف ما في الحديث من قوله: بسعر يومها وهو أخص من حديث: إذا اختلفت هذه الاصناف فبيعوا كيف إذا كان يدا بيد فيبنى العام على الخاص.
[ 256 ]
باب نهي المشتري عن بيع ما اشتراه قبل قبضه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه رواه أحمد ومسلم. وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يشترى الطعام ثم يباع حتى يستوفى رواه أحمد ومسلم. ولمسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله. وعن حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه رواه أحمد. وعن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم رواه أبو داود والدارقطني. وعن ابن عمر قال: كانوا يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعوه حتى ينقلوه رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه، وفي لفظ في الصحيحين: حتى يحولوه للجماعة إلا الترمذي: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه. ولاحمد: من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه ولابي داود والنسائي: نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شئ إلا مثله رواه الجماعة إلا الترمذي. وفي لفظ في الصحيحين: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله. حديث حكيم بن حزام أخرجه أيضا الطبراني في الكبير وفي إسناده العلاء بن خالد الواسطي، وثقه ابن حبان وضعفه موسى بن إسماعيل، وقد أخرج النسائي بعضه، وهو طرف من حديثه المتقدم في باب النهي عن بيع ما لا يملكه. وحديث زيد بن ثابت أخرجه أيضا الحاكم وصححه، وابن حبان وصححه أيضا. قوله: إذا ابتعت طعاما وكذا قوله في الحديث الثاني: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخ، وكذا قوله: من اشترى طعاما وكذلك بقية ما فيه التصريح بمطلق الطعام في حديث الباب، في جميعها دليل على أنه لا يجوز لمن اشترى طعاما.
[ 257 ]
أن يبيعه حتى يقبضه، من غير فرق بين الجزاف وغيره، وإلى هذا ذهب الجمهور وروي عن عثمان البتي أنه يجوز بيع كل شئ قبل قبضه والاحاديث ترد عليه فإن النهي يقتضي التحريم بحقيقته، ويدل على الفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الاصول، وحكي في الفتح عن مالك في المشهور عنه الفرق بين الجزاف وغيره، فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه، وبه قال الاوزاعي وإسحاق، واحتجوا بأن الجزاف يرى فيكفي فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون. وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا: من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه ورواه أبو داود والنسائي بلفظ: نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه كما ذكر المصنف. وللدارقطني من حديث جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الطعام حتى يجزي فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة قال في الفتح بإسناد حسن، قالوا: وفي ذلك دليل على أن القبض إنما يكون شرطا في المكيل والموزون دون الجزاف، واستدل الجهمور بإطلاق أحاديث الباب وبنص حديث ابن عمر، فإنه صرح فيه بأنهم كانوا يبتاعون جزافا الحديث. ويدل لما قالوا حديث حكيم بن حزام المذكور لانه يعم كل مبيع، ويجاب عن حديث ابن عمر وجابر اللذين احتج بهما مالك ومن معه بأن التنصيص على كون الطعام المنهي عن بيعه مكيلا أو موزونا لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في غيره، نعم لو لم يوجد في الباب إلا أحاديث التي فيها إطلاق لفظ الطعام لامكن أن يقال: إنه يحمل المطلق على المقيد بالكيل والوزن، وأما بعد التصريح بالنهي عن بيع الجزاف قبل قبضه كما في حديث ابن عمر فيحتم المصير إلى أن حكم الطعام متحد من غير فرق بين الجزاف وغيره ورجح صاحب ضوء النهار أن هذا الحكم أعني تحريم بيع الشئ قبل قبضه مختص بالجزاف دون المكيل والموزون وسائر المبيعات من غير الطعام وحكي هذا عن مالك ويجاب عنه بما تقدم من إطلاق الطعام والتصريح بما هو أعم منه كما في حديث حكيم، والتنصيص على تحريم بيع المكيل من الطعام والموزون كما في حديث ابن عمر وجابر، وما حكاه عن مالك خلاف ما حكاه عنه غيره فإن صاحب الفتح حكى عنه ما تقدم وهو مقابل لما حكاه عنه. وكذلك روي عن مالك ما يخالف ذلك ابن دقيق العيد وابن القيم وابن
[ 258 ]
رشد في بداية المجتهد وغيرهم، وقد سبق صاحب ضوء النهار إلى هذا المذهب ابن المنذر، ولكنه لم يخصص بعض الطعام دون بعض بل سوى بين الجزاف وغيره، ونفي اعتبار القبض عن غير الطعام وقد حكى ابن القيم في بدائع الفوائد عن أصحاب مالك كقول ابن المنذر: ويكفي في رد هذا المذهب حديث حكيم فإنه يشمل بعمومه غير الطعام، وحديث زيد بن ثابت فإنه مصرح بالنهي في السلع، وقد استدل من خصص هذا الحكم بالطعام بما في البخاري من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى من عمر بكرا كان ابنه راكبا عليه وهبه لابنه قبل قبضه ويجاب عن هذا بأنه خارج عن محل النزاع، لان البيع معاوضة بعوض، وكذلك الهبة إذا كانت بعوض، وهذ الهبة الواقعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست على عوض، وغاية ما في الحديث جواز التصرف في المبيع قبل قبضه بالهبة بغير عوض، ولا يصح الالحاق للبيع وسائر التصرفات بذلك، لانه مع كونه فاسد الاعتبار قياس مع الفارق، وأيضا قد تقرر في الاصول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر الامة أو نهاها أمرا أو نهيا خاصا بها ثم فعل ما يخالف ذلك ولم يقم دليل يدل على التأسي في ذلك الفعل بخصوصه كان مختصا به، لان هذا الامر أو النهي الخاصين بالامة في مسألة مخصوصة هما أخص من أدلة التأسي العامة مطلقا فيبنى العام على الخاص وذهب بعض المتأخرين إلى تخصيص التصرف الذي نهى عنه قبل القبض بالبيع دون غيره. قال: فلا يحل البيع ويحل غيره من التصرفات، وأراد بذلك الجمع بين أحاديث الباب وحديث شرائه صلى الله عليه وآله وسلم للبكر، ولكنه يعكر عليه أن ذلك يستلزم إلحاق جميع التصرفات التي بعوض وبغير بعوض بالهبة بغير عوض وهو إلحاق مع الفارق، وأيضا إلحاقها بالهبة المذكورة دون البيع الذي وردت بمنعه الاحاديث تحكم، والاولى الجمع بإلحاق التصرفات بعوض بالبيع، فيكون فعلها قبل القبض غير جائز، وإلحاق التصرفات التي لا عوض فيها بالهبة المذكورة وهذا هو الراجح، ولا يشكل عليه ما قدمنا من أن ذلك الفعل مختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لان ذلك إنما هو على طريق التنزل مع ذلك القائل بعد فرض أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف ما دلت عليه أحاديث الباب، وقد عرفت أنه لا مخالفة فلا اختصاص، ويشهد لما ذهبنا إليه إجماعهم على صحة الوقف والعتق قبل القبض، ويشهد له أيضا
[ 259 ]
ما علل به النهي فإنه أخرج البخاري عن طاوس قال: قلت: لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: دراهم بدراهم والطعام مرجئا، استفهمه عن سبب النهي فأجابه بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باع دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه قال لما سأله طاوس: ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجأ؟ وذلك لانه إذا اشترى طعاما بمائة دينار ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين مثلا فكأنه اشترى بذهبه ذهبا أكثر منه، ولا يخفى أن مثل هذه العلة لا ينطبق على ما كان من التصرفات بغير عوض، وهذا التعليل أجود ما علل به النهي، لان الصحابة أعرف بمقاصد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شك أن المنع من كل تصرف قبل القبض من غير فرق بين ما كان بعوض وما لا عوض فيه لا دليل عليه إلا الالحاق لسائر التصرفات بالبيع، وقد عرفت بطلان إلحاق ما لا عوض فيه بما فيه عوض، ومجرد صدق اسم التصرف على جميع لا يجعله مسوغا للقياس عارف بعلم الاصول. قوله: حتى يحوزها التجار إلى رحالهم فيه دليل على أنه لا يكفي مجرد القبض، بل لا بد من تحويله إلى المنزل الذي يسكن فيه المشتري أو يضع فيه بضاعته، وكذلك يدل على هذا قوله في الرواية الاخرى: حتى يحولوه وكذلك ما وقع في بعض طرق مسلم عن ابن عمر بلفظ: كنا نبتاع الطعام فبعث علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه وقد قال صاحب الفتح: إنه لا يعتبر الايواء إلى الرحال لان الامر به خرج مخرج الغالب، ولا يخفى أن هذه دعوى تحتاج إلى برهان لانه مخالفة لما هو الظاهر، ولا عذر لمن قال إنه يحمل المطلق على المقيد من المصير إلى ما دلت عليه هذه الروايات: قوله: جزافا بتثليث الجيم والكسر أفصح من غيره. وهو ما لم يعلم قدره على التفصيل. قال ابن قدامة: يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا فإذا جهل البائع والمشتري قدرها. قوله: ولا أحسب كل شئ إلا مثله استعمل ابن عباس القياس، ولعله لم يبلغه النص المقتضي لكون سائر الاشياء كالطعام كما سلف. قوله: حتى يكتاله قيل: المراد بالاكتيال القبض والاستيفاء كما في سائر الروايات، ولكنه لما كان الاغلب في الطعام ذلك صرح بلفظ الكيل وهو خلاف الظاهر كما عرفت، والظاهر أن من اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فلا يكون إلا بالكيل
[ 260 ]
أو الوزن، فإن قبضه جزافا كان فاسدا، وبهذا قال الجمهور، كما حكاه الحافظ عنهم في الفتح ويدل عليه حديث اختلاف الصاعين. باب النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان عن جابر قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري رواه ابن ماجه والدارقطني. وعن عثمان قال: كنت أبتاع التمر من بطن من اليهود يقال لهم بنو قينقاع وأبيعه بربح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عثمان إذا ابتعت فاكتل وإذا بعت فكل رواه أحمد والبخاري منه بغير إسناد كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. حديث جابر أخرجه أيضا البيهقي وفي إسناده ابن أبي ليلى، قال البيهقي: وقد روي من وجه آخر (وفي الباب) عن أبي هريرة عند البزار بإسناد حسن. وعن أنس وابن عباس عند ابن عدي بإسنادين ضعيفين جدا كما قال الحافظ. وحديث عثمان أخرجه عبد الرزاق، ورواه الشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. قال البيهقي: روي موصولا من أوجه إذا ضم بعضها إلى بعض قوي. وقال في مجمع الزوائد: إسناده حسن، واستدل بهذه الاحاديث على أن من اشترى شيئا مكايلة وقبضه ثم باعه إلى غيره لم يجز تسليمه بالكيل الاول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا، وإليه ذهب الجمهور كما حكاه في الفتح عنهم. قال وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الاول مطلقا وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الاول، وإن باعه بنسيئة لم يجز الاول، والظاهر ما ذهب إليه الجمهور من غير فرق بين بيع وبيع للاحاديث المذكورة في الباب التي تفيد بمجموعها ثبوت الحجة، وهذا إنما هو إذا كان الشراء مكايلة، وأما إذا كان جزافا فلا يعتبر الكيل المذكور عند أن يبيعه المشتري. باب ما جاء في التفريق بين ذوي المحارم عن أبي أيوب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من
[ 261 ]
فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة رواه أحمد والترمذي. وعن علي عليه السلام قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما وفرقت بينهما، فذكرت ذلك له فقال: أدركهما فارتجعهما ولا تبعهما إلا جميعا رواه أحمد. وفي رواية: وهب لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال لي: يا علي ما فعل غلامك؟ فأخبرته فقال: رده رده رواه الترمذي وابن ماجه. وعن أبي موسى قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فرق بين الوالد وولده وبين الاخ وأخيه رواه ابن ماجه والدارقطني. وعن علي عليه السلام أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ورد البيع رواه أبو داود والدارقطني. حديث أبي أيوب أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم وصححه وحسنه الترمذي وفي إسناده حي بن عبد الله المعافري وهو مختلف فيه، وله طريق أخرى عند البيهقي وفيها انقطاع لانها من رواية العلاء بن كثير الاسكندراني عن أبي أيوب ولم يدركه. وله طريق أخرى عند الدارمي. وحديث أبي موسى إسناده لا بأس به، فإن محمد بن عمر بن الهياج صدوق وطليق بن عمران مقبول. وحديث علي الاول رجال إسناده ثقات كما قال الحافظ، وقد صححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم والطبراني وابن القطان، وحديثه الثاني هو من رواية ميمون بن أبي شبيب عنه، وقد أعله أبو داود بالانقطاع بينهما، وأخرجه الحاكم وصحح إسناده ورجحه البيهقي لشواهده. (وفي الباب) عن أنس عند ابن عدي بلفظ: لا يولهن والد عن ولده وفي إسناده مبشر بن عبيد وهو ضعيف ورواه من طريق أخرى فيها إسماعيل بن عياش عن الحجاج بن أرطاة، وقد تفرد به إسماعيل وهو ضعيف في غير الشاميين. وعن أبي سعيد عند الطبراني بلفظ: لا توله والدة بولدها وأخرجه البيهقي بإسناد ضعيف عن الزهري مرسلا (والاحاديث) المذكورة في الباب فيها دليل على تحريم التفريق بين الوالدة والولد وبين الاخوين، أما بين الوالدة وولدها فقد حكي في البحر عن الامام يحيى أنه إجماع حتى يستغني الولد بنفسه، وقد اختلف في انعقاد البيع فذهب الشافعي إلى أنه لا ينعقد. وقال أبو حنيفة وهو قول للشافعي: إنه ينعقد. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يحرم التفريق بين الاب والابن،
[ 262 ]
وأجاب عليه صاحب البحر بأنه مقيس على الام، ولا يخفى أن حديث أبي موسى المذكور في الباب يشمل الاب، فالتعويل عليه إن صح أولى من التعويل على القياس، وأما بقية القرابة فذهبت الهادوية والحنفية إلى أنه يحرم التفريق بينهم قياسا، وقال الامام يحيى والشافعي: لا يحرم والذي يدل عليه النص هو تحريم التفريق بين الاخوة، وأما بين ما عداهم من الارحام فإلحاقه بالقياس فيه نظر، لانه لا تحصل منهم بالمفارقة مشقة، كما تحصل بالمفارقة بين الولد والوالد، وبين الاخ وأخيه، فلا إلحاق لوجود الفارق، فينبغي الوقوف على ما تناوله النص، وظاهر الاحاديث أنه يحرم التفريق، سواء كان بالبيع أو بغيره مما فيه مشقة تساوي التفريق بالبيع، إلا التفريق الذي لا اختيار فيه للمفرق كالقسمة، والظاهر أيضا أنه لا يجوز التفريق بين من ذكر لا قبل البلوغ ولا بعده، وسيأتي بيان ما استدل به على جوازه بعد البلوغ. وعن سلمة بن الاكوع قال: خرجنا مع أبي بكر أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغزونا فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة فقتلنا على الماء من قتلنا، ثم نظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء نحو الجبل وأنا أعدو في إثرهم، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل، قال: فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر وفيهم امرأة من فزارة عليها قشع من أدم ومعها ابنة لها من أحسن العرب وأجمله، فنفلني أبو بكر ابنتها، فلم أكشف لها ثوبا حتى قدمت المدينة، ثم بت فلم أكشف لها ثوبا، فلقيني النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السوق فقال: يا سلمة هب لي المرأة، فقلت: يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا، فسكت وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني في السوق فقال: يا سلمة هب المرأة لله أبوك فقلت: هي لك يا رسول الله، قال: فبعث بها إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين ففداهم بتلك المرأة رواه أحمد ومسلم وأبو داود. قوله: فعرسنا التعريس النزول آخر الليل للاستراحة. قوله: شننا الغارة شن الغارة هو إتيان العدو من جهات متفرقة. قال في القاموس: شن الغارة عليهم صبها من كل وجه كأشنها. قوله: عنق أي جماعة من الناس قال في القاموس: العنق بالضم وبضمتين. وكأمير وصرد الجيد ويؤنث الجمع أعناق والجماعة من الناس والرؤساء.
[ 263 ]
قوله: قشع من أدم أي نطع. قال في القاموس: القشع بالفتح الفر والخلق، ثم قال: ويثلث، والنطع أو قطعة من نطع. قوله: فلم أكشف لها ثوبا كناية عن عدم الجماع، وقد استدل بهذا الحديث على جواز التفريق وبوب عليه أبو داود بذلك، لان الظاهر أن البنت قد كانت بلغت، قال المصنف رحمه الله: وهو حجة في جواب التفريق بعد البلوغ، وجواز تقديم القبول بصيغة الطلب على الايجاب في الهبة ونحوها، وفيه أن ما ملكه المسلمون من الرقيق يجوز رده إلى الكفار في الفداء اه. وقد حكي في الغيث الاجماع على جواز التفريق بعد البلوغ، فإن صح فهو المستند لاهذا الحديث، لان كون بلوغها هو الظاهر غير مسلم إلا أن يقال: إنه حمل الحديث على ذلك للجمع بين الادلة. وقد روي عن المنصور بالله والناصر في أحد قوليه: إن حد تحريم التفريق إلى سبع، وقد استدل على جواز التفريق بين البالغين بما أخرجه الدارقطني والحاكم من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: لا تفرق بين الام وولدها قيل: إلى متى؟ قال: حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية، وهذا نص على المطلوب صريح لولا أن في إسناده عبد الله بن عمرو الواقفي وهو ضعيف، وقد رماه علي بن المديني بالكذب، ولم يروه عن سعيد بن عبد العزيز غيره، وقد استشهد له الدارقطني بحديث سلمة المذكور، ولا شك أن مجموع ما ذكر من الاجماع وحديث سلمة، وهذا الحديث منتهض للاستدلال به على التفرقة بين الكبير والصغير. باب النهي أن يبيع حاضر لباد عن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيع حاضر لباد رواه البخاري والنسائي. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض رواه الجماعة إلا البخاري. وعن أنس قال: نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه لابيه وأمه متفق عليه. ولابي داود والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أباه وأخاه. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد، فقيل لابن عباس: ما قوله
[ 264 ]
لا يبع حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارا رواه الجماعة إلا الترمذي. قوله: حاضر لباد الحاضر ساكن الحضر، والبادي ساكن البادية. قال في القاموس: الحضر والحاضرة والحضارة وتفتح خلاف البادية، والحضارة الاقامة في الحضر، ثم قال: والحاضر خلاف البادي. وقال: البدو والبادية والبادات والبداوة خلاف الحضر، وتبدى أقام بها، وتبادى تشبه بأهلها، والنسبة بداوي وبدوي وبدا القوم خرجوا إلى البادية انتهى. قوله: دعوا الناس الخ في مسند أحمد من طريق عطاء بن السائب عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض فإذا استنصح الرجل فلينصح له رواه البيهقي من حديث جابر مثله. قوله: لا تلقوا الركبان سيأتي الكلام عليه. قوله: سمسارا بسينين مهملتين، قال في الفتح: وهو في الاصل القيم بالامر والحافظ، ثم استعمل في متولي البيع والشراء لغيره. (وأحاديث الباب) تدل على أنه لا يجوز للحاضر أن يبيع للبادي من غير فرق بين أن يكون البادي قريبا له أو أجنبيا، وسواء كان في زمن الغلاء أو لا، وسواء كان يحتاج إليه أهل البلد أم لا، وسواء باعه له على التدريج أم دفعة واحدة. وقالت الحنفية: إنه يختص المنع من ذلك بزمن الغلاء وبما يحتاج إليه أهل المصر، وقالت الشافعية والحنابلة: إن الممنوع إنما هو أن يجئ البلد بسامة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال فيأتيه الحاضر فيقول: ضعه عندي لابيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر، قال في الفتح: فجعلوا الحكم منوطا بالبادي ومن شاركه في معناه، قالوا: وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب فألحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضرين، وجعلت المالكية البداوة قيدا. وعن مالك: لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه، فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والاسواق فليسوا داخلين في ذلك. وحكى ابن المنذر عن الجمهور أن النهي للتحريم إذا كان البائع عالما والمبتاع مما تعم الحاجة إليه ولم يعرضه البدوي على الحضري، ولا يخفى أن تخصيص العموم بمثل هذه الامور من التخصيص بمجرد الاستنباط وقد ذكر ابن دقيق العيد فيه تفصيلا حاصله: أنه يجوز التخصيص به حيث يظهر المعنى لا حيث يكون خفيا، فاتباع اللفظ أولى، ولكنه لا يطمئن الخاطر إلى التخصيص به مطلقا، فالبقاء على ظواهر النصوص هو الاولى، فيكون بيع الحاضر للبادي محرما
[ 265 ]
على العموم، وسواء كان بأجرة أم لا وروي عن البخاري أنه حمل النهي على البيع بأجرة لا بغير أجرة فإنه من باب النصيحة. وروي عن عطاء ومجاهد وأبي حنيفة أنه يجوز بيع الحاضر للبادي مطلقا وتمسكوا بأحاديث النصيحة. وروي مثل ذلك عن الهادي وقالوا: إن أحاديث الباب منسوخة، واستظهروا على الجواز بالقياس على توكيل البادي للحاضر فإنه جائز، ويجاب عن تمسكهم بأحاديث النصيحة بأنها عامة مخصصة بأحاديث الباب (فأن قيل) إن أحاديث النصيحة وأحاديث الباب بينها عموم وخصوص من وجه لان بيع الحاضر للبادي قد يكون على غير وجه النصيحة، فيحتاج حينئذ إلى الترجيح من خارج، كما هو شأن الترجيح بين العمومين المتعارضين، فيقال: المراد بيع الحاضر للبادي الذي جعلناه أخص مطلقا هو البيع الشرعي بيع المسلم للمسلم الذي بينه الشارع للامة، وليس بيع الغش والخدع داخلا في مسمى هذا البيع الشرعي، كما أنه لا يدخل فيه بيع الربا وغيره مما لا يحل شرعا، فلا يكون البيع باعتبار ما ليس بيعا شرعيا أعم من وجه حتى يحتاج إلى طلب مرجح بين العمومين، لان ذلك ليس هو البيع الشرعي، ويجاب عن دعوى النسخ بأنها إنما تصح عند العلم بتأخر الناسخ ولم ينقل ذلك. وعن القياس بأنه فاسد الاعتبار لمصادمته النص على أن أحاديث الباب أخص من الادلة القاضية بجواز التوكيل مطلقا فيبنى العام على الخاص (واعلم) أنه كما لا يجوز أن يبيع الحاضر للبادي كذلك لا يجوز أن يشتري له، وبه قال ابن سيرين والنخعي. وعن مالك روايتان، ويدل لذلك ما أخرجه أبو داود عن أنس بن مالك أنه قال: كان يقال لا بيع حاضر لباد وهي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يبتاع له شيئا، ولكن في إسناده أبو هلال محمد بن سليم الراسبي وقد تكلم فيه غير واحد. وأخرج أبو عوانة في صحيحه عن ابن سيرين قال: لقيت أنس بن مالك فقلت: لا يبع حاضر لباد، أنهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم؟ قال: نعم، قال محمد: صدق أنها كلمة جامعة، ويقوي ذلك العلة التي نبه عليها صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض فإن ذلك يحصل بشراء من لا خبرة له بالاثمان كما يحصل ببيعه، وعلى فرض عدم ورود نص يقضي بالشراء حكمه حكم البيع فقد تقرر أن لفظ البيع يطلق على الشراء، وأنه مشترك بينهما، كما أن لفظ الشراء يطلق على البيع لكونه مشتركا بينهما،
[ 266 ]
والخلاف في جواز استعمال المشترك في معنيه أو معانيه معروف في الاصول، والحق الجواز إن لم يتناقضا. باب النهي عن النجش عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد، وأن يتناجشوا. وعن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النجش. متفق عليهما. قوله: النجش بفتح النون وسكون الجيم بعدها معجمة، قال في الفتح: وهو في اللغة تنفير الصيد واستثارته من مكان ليصاد، يقال: نجشت الصيد أنجشه بالضم نجشا، وفي الشرع الزيادة في السلعة ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الاثم، ويقع ذلك بغير علم البائع فيختص بذلك الناجش، وقد يختص به البائع، كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغر غيره بذلك. وقال ابن قتيبة: النجش الختل والخديعة، ومنه قيل للصائد ناجش لانه يختل الصيد ويحتال له. قال الشافعي: النجش أن تحضر السلعة تباع فيعطى بها الشئ وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السوام فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يسمعوا سومه. قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك. ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع إذا وقع على ذلك، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان بمواطأة البائع أو صنعته، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار وهو وجه للشافعية قياسا على المصراة، والاصح عندهم صحة البيع مع الاثم وهو قول الحنفية والهادوية، وقد اتفق أكثر العلماء على تفسير النجش في الشرع بما تقدم، وقيد ابن عبد البر وابن حزم وابن العربي التحريم بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل، ووافقهم على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية، وهو تقييد للنص بغير مقتض للتقييد، وقد ورد ما يدل على جواز لعن الناجش، فأخرج الطبراني عن ابن أبي أوفى مرفوعا الناجش آكل ربا خائن ملعون وأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور موقوفا مقتصرين على قوله: آكل الربا خائن.
[ 267 ]
باب النهي عن تلقي الركبان عن ابن مسعود قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تلقي البيوع متفق عليه. وعن أبي هريرة قال نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق رواه الجماعة إلا البخاري، وفيه دليل على صحة البيع. في الباب عن ابن عمر عند الشيخين وعن ابن عباس عندهما أيضا قوله: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تلقي البيوع فيه دليل على أن التلقي محرم، وقد اختلف في هذا النهي هل يقتضي الفساد أم لا؟ فقيل: يقتضي الفساد، وقيل: لا وهو الظاهر، لان النهي ههنا لامر خارج وهو لا يقتضيه كما تقرر في الاصول، وقد قال بالفساد المرادف للبطلان بعض المالكية وبعض الحنابلة وقال غيرهم بعدم الفساد لما سلف. ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فصاحب السلعة فيها بالخيار فإنه يدل على انعقاد البيع ولو كان فاسدا لم ينعقد، وقد ذهب إلى الاخذ بظاهر الحديث الجمهور فقالوا: لا يجوز تلقي الركبان، واختلفوا هل هو محرم أو مكروه فقط؟ وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه أجاز التلقي، وتعقبه الحافظ بأن الذي في كتب الحنفية أنه يكره التلقي في حالتين: أن يضر بأهل البلد، وأن يلبس السعر على الواردين اه. والتنصيص على الركبان في بعض الروايات خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام يكون في الغالب راكبا، وحكم الجالب الماشي حكم الراكب، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة المذكور فإن فيه النهي عن تلقي الجلب من غير فرق. وكذلك حديث ابن مسعود المذكور، فإن فيه النهي عن تلقي البيوع. قوله: الجلب بفتح اللام مصدر بمعنى اسم المفعول المجلوب، يقال: جلب الشئ جاء به من بلد إلى بلد للتجارة. قوله: بالخيار اختلفوا هل يثبت له الخيار مطلقا أو بشرط أن يقع له في البيع عين؟ ذهبت الحنابلة إلى الاول وهو الاصح عند الشافعية وهو الظاهر، وظاهره أن النهي لاجل صنعة البائع وإزالة الضرر عنه وصيانته ممن يخدعه. قال ابن المنذر: وحمله مالك على نفع أهل السوق لا على نفع رب السلعة، وإلى
[ 268 ]
ذلك جنح الكوفيون والاوزاعي، قال: والحديث حجة للشافعي لانه أثبت الخيار للبائع لا لاهل السوق اه. وقد احتج مالك ومن معه بما وقع في رواية من النهي عن تلقي السلع حتى تهبط الاسواق، وهذا لا يكون دليلا لمدعاهم، لانه يمكن أن يكون ذلك رعاية لمنفعة البائع، لانها إذا هبطت الاسواق عرف مقدار السعر فلا يخدع، ولا مانع من أن يقال: العلة في النهي مراعاة نفع البائع ونفع أهل السوق. واعلم أنه لا يجوز تلقيهم للبيع منهم، كما لا يجوز للشراء منهم، لان العلة التي هي مراعاة نفع الجالب أو أهل السوق أو الجميع حاصلة في ذلك، ويدل على ذلك ما في رواية للبخاري بلفظ: لا يبع فإنه يتناول البيع لهم والبيع منهم، وظاهر النهي المذكور في الباب عدم الفرق بين أن يبتدئ المتلقي الجالب بطلب الشراء أو البيع أو العكس، وشرط بعض الشافعية في النهي أن يكون المتلقي هو الطالب، وبعضهم اشترط أن يكون المتلقي قاصدا لذلك، فلو خرج للسلام على الجالب أو للفرجة أو لحاجة أخرى فوجدهم فبايعهم لم يتناوله النهي، ومن نظر إلى المعنى لم يفرق وهو الاصح عند الشافعي، وشرط الجويني في النهي أن يكذب المتلقفي سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل. وشرط المتولي من أصحاب الشافعي أن يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول، وشرط أبو إسحاق الشيرازي أن يخبرهم بكساد ما معهم، والكل من هذه الشروط لا دليل عليه، والظاهر من النهي أيضا أنه يتناول المسافة القصيرة والطويلة وهو ظاهر إطلاق الشافعية. وقال بعض المالكية: ميل. وقال بعضهم أيضا: فرسخان. وقال بعضهم: يومان. وقال بعضهم: مسافة قصر، وبه قال الثوري. وأما ابتداء التلقي فقيل: الخروج من السوق وإن كان في البلد، وقيل: الخروج من البلد وهو قول الشافعية، وبالاول قال أحمد وإسحاق والليث والمالكية. باب النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه وسومه إلا في المزايدة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له رواه أحمد. وللنسائي: لا بيع أحدكم على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر وفيه بيان أنه أراد بالبيع الشراء. وعن أبي هريرة: أن النبي
[ 269 ]
صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سومه. وفي لفظ: لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه متفق عليه. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم باع قدحا وحلسا فيمن يزيد رواه أحمد والترمذي. حديث ابن عمر أخرجه أيضا باللفظ الاول مسلم، وأخرجه أيضا البخاري في النكاح بلفظ: نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وأن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب وأخرج نحو الرواية الثانية من حديثه ابن خزيمة وابن الجارود والدارقطني وزادوا: إلا الغنائم والمواريث وحديث أنس أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وحسنه الترمذي وقال: لا نعرفه إلا من حديث الاخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عنه، وأعله ابن القطان بجهل حال أبي بكر الحنفي، ونقل عن البخاري أنه قال: لم يصح حديثه. ولفظ الحديث عند أبي داود وأحمد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نادى على قدح وحلس لبعض أصحابه، فقال رجل: هما علي بدرهم، ثم قال آخر: هما علي بدرهمين. وفيه: إن المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة وقد تقدم. (وفي الباب) عن أبي هريرة عند الشيخين، وعن عقبة بن عامر عند مسلم. قوله: لا يبيع الاكثر بإثبات الياء على أن لا نافية، ويحتمل أن تكون ناهية وأشبعت الكسرة كقراءة من قرأ: * (إنه من يتقي ويصبر) * (سورة يوسف، الآية: 90) وهكذا ثبتت الياء في بقية ألفاظ الباب. قوله: إلا أن يأذن له يحتمل أن يكون استثناء من الحكمين، ويحتمل أن يختص بالاخير، والخلاف في ذلك وبيان الراجح مستوفى في الاصول، ويدل على الثاني في خصوص هذا المقام رواية البخاري التي ذكرناها. قوله: لا يخطب الرجل الخ سيأتي الكلام على الخطبة في النكاح إن شاء الله. قوله: ولا يسوم صورته أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول المالك: رده لابيعك خيرا منه بثمنه، أو يقول للمالك: استرده لاشتريه منك بأكثر، وإنما يمنع من ذلك بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر، فإن كان ذلك تصريحا فقال في الفتح: لا خلاف في التحريم، وإن كان ظاهرا ففيه وجهان للشافعية. وقال ابن حزم: إن لفظ الحديث لا يدل على اشتراط الركون، وتعقب بأنه لا بد من أمر مبين لموضع التحريم في السوم، لان السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد لا يحرم اتفاقا، كما حكاه في الفتح عن ابن عبد البر
[ 270 ]
فتعين أن السوم المحرم ما وقع فيه قدر زائد على ذلك. وأما صورة البيع على البيع والشراء على الشراء فهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار: افسخ لابيعك بأنقص، أو يقول للبائع: افسخ لاشتري منك بأزيد، قال في الفتح: وهذا مجمع عليه. وقد اشترط بعض الشافعية في التحريم أن لا يكون المشتري مغبونا غبنا فاحشا، وإلا جاز البيع على البيع والسوم على السوم لحديث: الدين النصيحة وأجيب عن ذلك بأن النصيحة لا تنحصر في البيع على البيع والسوم على السوم، لانه يمكن أن يعرفه أن قيمتها كذا فيجمع بذلك بين المصلحتين، كذا في الفتح. وقد عرفت أن أحاديث النصيحة أعم مطلقا من الاحاديث القاضية بتحريم أنواع من البيع فيبنى العام على الخاص، واختلفوا في صحة البيع المذكور، فذهب الجمهور إلى صحته مع الاثم. وذهبت الحنابلة والمالكية إلى فساده في إحدى الروايتين عنهم، وبه جزم ابن حزم. والخلاف يرجع إلى ما تقرر في الاصول من أن النهي المقتضي للفساد هو النهي عن الشئ لذاته ولوصف ملازم لا لخارج. قوله: وحلسا بكسر الحاء المهملة وسكون اللام كساء رقيق يكون تحت برذعة البعير، قاله الجوهري. والحلس البساط أيضا، ومنه حديث: كن حلس بينك حتى يأتيك يد خاطئة أو ميتة قاضية كذا في النهاية. قوله: فيمن يزيد فيه دليل على جواز بيع المزايدة وهو البيع على الصفة التي فعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سلف. وحكى البخاري عن عطاء أنه قال: أدركت الناس لا يرون بأسا في بيع المغانم فيمن يزيد، ووصله ابن أبي شيبة عن عطاء ومجاهد. وروى هو وسعيد بن منصور عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد، وكذلك كانت تباع الاخماس. وقال الترمذي عقب حديث أنس المذكور: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم لم يروا بأسا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث. قال ابن العربي: لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث فإن الباب واحد والمعنى مشترك اه. ولعلهم جعلوا تلك الزيادة التي زادها ابن خزيمة وابن الجارود والدارقطني قيدا لحديث أنس المذكور، ولكن لم ينقل أن الرجل الذي باع عنه صلى الله عليه وآله وسلم القدح والحلس كانا معه من ميراث أو غنيمة، فالظاهر الجواز مطلقا، إما لذلك وإما لالحاق غيرهما بهما، ويكون ذكرهما خارجا مخرج الغالب، لانهما الغالب على ما كانوا يعتادون البيع فيه مزايدة، وممن قال باختصاص الجواز بهما الاوزاعي
[ 271 ]
وإسحاق. وروي عن النخعي أنه كره بيع المزايدة، واحتج بحديث جابر الثابت في الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في مدبر: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم واعترضه الاسماعيلي فقال: ليس في قصة المدبر بيع المزايدة، فإن بيع المزايدة أن يعطي به واحد ثمنا ثم يعطي به غيره زيادة عليه، نعم يمكن الاستدلال له بما أخرجه البزار من حديث سفيان بن وهب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن بيع المزايدة ولكن في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف. باب البيع بغير إشهاد عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ابتاع فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشي وأبطأ الاعرابي، فطفق رجال يعترضون الاعرابي فيساومونه بالفرس لا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتاعه، فنادى الاعرابي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن كنت مبتاعا هذه الفرس فابتعه وإلا بعته، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سمع نداء الاعرابي: أو ليس قد ابتعته منك؟ قال الاعرابي: لا والله ما بعتك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بلى قد ابتعته، فطفق الاعرابي يقول: هلم شهيدا، قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد ابتعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل شهادة خزيمة شهادة رجلين رواه أحمد والنسائي وأبو داود. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده عند أبي داود ثقات. وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك. قوله: ابتاع فرسا قيل: هذا الفرس هو المرتجز المذكور في أفراس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سمي بذلك لحسن صهيله، كأنه بصهيله ينشد رجز الشعر الذي هو أطيبه وكان أبيض. وقيل: هو الطرف بكسر الطاء، وقيل: هو النجيب. قوله: في أعرابي قيل هو سواء بن الحرث. وقال الذهبي: هو سواء بن قيس المحاربي. قوله: فاستتبعه السين للطلب أي أمره أن يتبعه إلى مكانه كاستخدامه إذا أمره أن يخدمه، وفيه شراء السلعة وإن لم يكن الثمن حاضرا،
[ 272 ]
وجواز تأجيل البائع بالثمن إلى أن يأتي إلى منزله. قوله: فطفق بكسر الفاء على اللغة المشهورة، وبفتحها على اللغة القليلة. قوله: بالفرس الباء زائدة في المفعول لان المساومة تتعدى بنفسها، تقول: سمت الشئ. قوله: لا يشعرون الخ، أي لم يقع من الصحابة السوم المنهي عنه بعد استقرار البيع، والنهي إنما يتعلق بمن علم لان العلم شرط التكليف. قوله: لا والله ما بعتك قيل: إنما أنكر هذا الصحابي البيع وحلف على ذلك، لان بعض المنافقين كان حاضرا، فأمره بذلك وأعلمه أن البيع لم يقع صحيحا وأنه لا إثم عليه في الحلف على أنه ما باعه، فاعتقد صحة كلامه لانه لم يظهر له نفاقه، ولو علمه لما اغتر به، وهذا وإن كان هو اللائق بحال من كان صحابيا، ولكن لا مانع من أن يقع مثل ذلك من الذين لم يدخل حب الايمان في قلوبهم، وغير مستنكر أن يوجد في ذلك الزمان من يؤثر العاجلة، فإنه قد كان بهذه المثابة جماعة منهم كما قال تعالى: * (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) * (سورة آل عمران، الآية: 152) والله يغفر لنا ولهم. قوله: هلم هلم بضم اللام وبناء الآخر على الفتح لانه اسم فعل، وشهيدا منصوب به، وهو فعيل بمعنى فاعل أي هلم شاهدا، زاد النسائي فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد ابتعته منك، فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والاعرابي وهما يتراجعان، وطفق الاعرابي يقول: هلم شاهدا أني قد بعتكه. قوله: بم تشهد أي بأي شئ تشهد على ذلك ولم تك حاضرا عند وقوعه. وفي رواية للطبراني: بم تشهد ولم تكن حاضرا؟. (والحديث) استدل به المصنف على جواز البيع بغير إشهاد. قال الشافعي: لو كان الاشهاد حتما لم يتبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني الاعرابي من غير حضور شهادة، ومراده أن الامر في قوله تعالى: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * (سورة البقرة، الآية: 282) ليس على الوجوب بل هو على الندب، لان فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرينة صارفة للامر من الوجوب إلى الندب. وقيل: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * (سورة البقرة، الآية: 283) وقيل: محكمة والامر على الوجوب، قال ذلك أبو موسى الاشعري وابن عمرو الضحاك وابن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وعطاء والشعبي والنخعي وداود بن علي وابنه أبو بكر والطبري، قال الضحاك: هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل قال الطبري: لا يحل لمسلم إذا باع أو اشترى أن يترك الاشهاد وإلا كان مخالفا لكتاب الله. قال ابن العربي: وقول العلماء كافة أنه على الندب وهو الظاهر، وقد ترجم أبو داود على
[ 273 ]
هذا الحديث باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به. وبه يقول شريح. وفي البخاري: أن مروان قضى بشهادة ابن عمر وحده، وأجاب عنه الجمهور بأن شهادة ابن عمر كانت على جهة الاخبار، ويجاب أيضا عن شهادة خزيمة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جعلها بمثابة شهادة رجلين، فلا يصح الاستدلال بها على قبول شهادة الواحد. وذكر ابن التين أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لخزيمة لما جعل شهادته بشهادتين: لا تعد أي تشهد على ما لم تشاهده. وقد أجيب عن ذلك الاستدلال بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما حكم على الاعرابي بعلمه، وجرت شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد. وقد تمسك بهذا الحديث جماعة من أهل البدع، فاستحلوا الشهادة لمن كان معروفا بالصدق على كل شئ ادعاه وهو تمسك باطل، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة لا يجوز أن يحكم لغيره بمقاربتها فضلا عن مساواتها حتى يصح الالحاق. أبواب بيع الاصول والثمار باب من باع نخلا مؤبرا عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ابتاع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع رواه ابن ماجه. وعن عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى أن ثمرة النخل لمن أبرها إلا أن يشترط المبتاع، وقضى أن مال المملوك لمن باعه إلا أن يشترط المبتاع رواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد في المسند. حديث عبادة في إسناده انقطاع، لانه من رواية إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن عبادة ولم يدركه. قوله: نخلا اسم جنس يذكر ويؤنث والجمع نخيل. قوله: بعد أن يؤبر التأبير التشقيق والتلقيح، ومعناه شق طلع النخلة الانثى ليذر فيها شئ من طلع النخلة الذكر. وفيه دليل على أن من باع نخلا
[ 274 ]
وعليها ثمرة مؤبرة لم تدخل الثمرة في البيع بل تستمر على ملك البائع، ويدل بمفهومه على أنها إذا كانت غير مؤبرة تدخل في البيع وتكون للمشتري، وبذلك قال جمهور العلماء، وخالفهم الاوزاعي وأبو حنيفة فقالا: تكون للبائع قبل التأبير وبعده. وقال ابن أبي ليلى: تكون للمشتري مطلقا، وكلا الاطلاقين مخالف لحديثي الباب الصحيحين، وهذا إذا لم يقع شرط من المشتري بأنه اشترى الثمرة ولا من البائع بأنه استثنى لنفسه الثمرة، فإن وقع ذلك كانت الثمرة للشارط من غير فرق بين أن تكون مؤبرة أو غير مؤبرة. قال في الفتح: لا يشترط في التأبير أن يؤبره أحد، بل لو تأبر بنفسه لم يختلف الحكم عند جميع القائلين به. قوله: إلا أن يشترط المبتاع أي المشتري بقرينة الاشارة إلى البائع بقوله: من باع وظاهره أنه يجوز له أن يشترط بعضها أو كلها. وقال ابن القاسم: لا يجوز اشتراط بعضها، ووقع الخلاف فيما إذا باع نخلا بعضه قد أبر وبعضه لم يؤبر فقال الشافعي: الجميع للبائع. وقال أحمد: الذي قد أبر للبائع والذي لم يؤبر للمشتري وهو الصواب. قوله: ومن ابتاع عبدا الخ فيه دليل على أن العبد إذا ملكه سيده مالا ملكه، وبه قال مالك والشافعي في القديم. وقال في الجديد وأبو حنيفة والهادوية: أن العبد لا يملك شيئا أصلا. والظاهر الاول، لان نسبة المال إلى المملوك تقتضي أنه يملك، وتأويله بأن المراد أن يكون شئ في يد العبد من مال سيده وأضيف إلى العبد للاختصاص والانتفاع لا للملك، كما يقال: الجل للفرس خلاف الظاهر. واستدل بالحديثين على أن مال العبد لا يدخل في البيع حتى الحلقة التي في أذنه، والخاتم الذي في أصبعه، والنعل التي في رجله، والثياب التي على بدنه. (وقد اختلف) في الثياب على ثلاثة أقوال: الاول أنه لا يدخل شئ منها وهو الذي نسبه الماوردي إلى جميع الفقهاء وصححه النووي، قال الماوردي: لكن العادة جارية بالعفو عنها فيما بين التجار. الثاني: أنها تدخل في مطلق البيع للعادة، وبه قال أبو حنيفة، وكذلك قالت الهادوية في ثياب البذلة. الثالث: يدخل قدر ما يستر العورة، والمذهب الاول هو الاولى، والتخصيص بالعادة مذهب مرجوح. قوله: إن مال المملوك فيه التسوية بين العبد والامة. (واعلم) أن ظاهر حديثي الباب يخالف الاحاديث التي ستأتي في النهي عن بيع الثمرة قبل صلاحها، لانه يقضي بجواز بيع الثمرة قبل التأبير وبعده، قال في الفتح: والجمع بين حديث التأبير وحديث النهي عن بيع الثمرة
[ 275 ]
قبل بدو الصلاح سهل، وهو أن الثمرة في بيع النخل تابعة للنخل، وحديث النهي مستقلة، وهذا واضح جدا. اه. باب النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع رواه الجماعة إلا الترمذي. وفي لفظ: نهى عن بيع النخل حتى تزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تتبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد رواه الخمسة إلا النسائي. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهى، قالوا: وما تزهى؟ قال: تحمر، وقال: إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك أخرجاه. حديث أنس الاول أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححه. قوله: يبدو بغير همزة أي يظهر، والثمار بالمثلثة جمع ثمرة بالتحريك وهي أعم من الرطب وغيره. قوله: صلاحها أي حمرتها وصفرتها. وفي رواية لمسلم: ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته. (واختلف السلف) هل يكفي بدو الصلاح في جنس الثمار حتى لو بدا الصلاح في بستان من البلد مثلا جاز بيع جميع البساتين، أو لا بد من بدو الصلاح في كل بستان على حدة، أو لا بد من بدو الصلاح في كل جنس على حدة، أو في كل شجرة على حدة على أقوال. والاول: قول الليث وهو قول المالكية بشرط أن يكون متلاحقا. والثاني: قول أحمد. والثالث: قول الشافعية. والرابع: رواية عن أحمد. قوله: نهى البائع والمبتاع أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأما المشتري فلئلا يضيع ماله ويساعد البائع على الباطل. قوله: تزهو يقال: زهاالنخل يزهو إذا ظهرت ثمرته، وأزهى يزهى إذا احمر أو اصفر، هكذا في الفتح. وقال الخطابي: إنه لا يقال في النخل تزهو إنما يقال تزهى لا غير، وهذه الرواية ترد عليه. قوله: عن بيع السنبل حتى
[ 276 ]
يبيض بضم السين وسكون النون وضم الباء الموحدة سنابل الزرع. قال النووي: معناه يشتد حبه وذلك بدو صلاحه. قوله: ويأمن العاهة هي الآفة تصيبه فيفسد، لانه إذا أصيب بها كان أخذ ثمنه من أكل أموال الناس بالباطل. وقد أخرج أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا: إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهة عن كل بلد وفي رواية: رفعت العاهة عن الثمار النجم هو الثريا، وطلوعها صباحا يقع في أول فصل الصيف وذلك عند اشتداد الحر في بلاد الحجاز وابتداء نضج الثمار. وأخرج أحمد من طريق عثمان بن عبد الله بن سراقة: سألت ابن عمر عن بيع الثمار فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة، قلت: ومتى ذلك؟ قال: حتى تطلع الثريا. قوله: حتى يسود زاد مالك في الموطأ: فإنه إذا اسود ينجو من العاهة والآفة واشتداد الحب قوته وصلابته. قوله: إذا منع الله الثمرة الخ، صرح الدارقطني بأن هذا مدرج من قول أنس وقال رفعه خطأ، ولكنه قد ثبت مرفوعا من حديث جابر عند مسلم بلفظ: إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق، وسيأتي، وفيه دليل على وضع الجوائح، لان معناه: أن الثمر إذا تلف كان الثمن المدفوع بلا عوض فكيف يأكله البائع بغير عوض؟ وسيأتي الكلام على وضع الجوائح. (والاحاديث) المذكورة في الباب تدل على أنه لا يجوز بيع الثمر قبل بدو صلاحها. وقد اختلف في ذلك على أقوال، الاول: أنه باطل مطلقا وهو قول ابن أبي ليلى والثوري، وهو ظاهر كلام الهادي والقاسم، قال في الفتح: ووهم من نقل الاجماع فيه. الثاني: أنه إذا شرط القطع لم تبطل وإلا بطل وهو قول الشافعي وأحمد ورواية عن مالك، ونسبه الحافظ إلى الجمهور، وحكاه في البحر عن المؤيد بالله. الثالث: أنه يصح إن لم يشترط التبقية وهو قول أكثر الحنفية، قالوا: والنهي محمول على بيع الثمار قبل أن توجد أصلا. وقد حكى صاحب البحر الاجماع على عدم جواز بيع الثمر قبل خروجه. وحكي أيضا الاتفاق على عدم جواز بيعه قبل صلاحه بشرط البقاء. وحكي أيضا عن الامام يحيى أنه خص جواز البيع بشرط القطع الاجماع. وحكي عنه أيضا أنه يصح البيع بشرط القطع إجماعا، ولا يخفى ما في دعوى بعض هذه الاجماعات من المجازفة. وحكي في البحر أيضا عن زيد بن علي والمؤيد
[ 277 ]
بالله والامام يحيى وأبي حنيفة والشافعي أنه يصح بيع الثمر قبل الصلاح تمسكا بعموم قوله تعالى: * (وأحل الله البيع) * (سورة البقرة، الآية: 275) قال أبو حنيفة: ويؤمر بالقطع، والمشهور من مذهب الشافعي هو ما قدمنا، فأما البيع بعد الصلاح فيصح مع شرط القطع إجماعا، ويفسد مع شرط البقاء إجماعا إن جهلت المدة، كذا في البحر. قال الامام يحيى: فإن علمت صح عند القاسمية إذ لا غرر. وقال المؤيد بالله: لا يصح للنهي عن بيع وشرط. (واعلم) أن ظاهر أحاديث الباب وغيرها المنع من بيع الثمر قبل الصلاح، وأن وقوعه في تلك الحالة باطل كما هو مقتضى النهي، ومن ادعى أن مجرد شرط القطع يصحح البيع قبل الصلاح فهو محتاج إلى دليل يصلح لتقييد أحاديث النهي، ودعوى الاجماع على ذلك لا صحة لها لما عرفت من أن أهل القول الاول يقولون بالبطلان مطلقا، وقد عول المجوزون مع شرط القطع في الجواز على علل مستنبطة فجعلوها مقيدة للنهي، وذلك مما لا يفيد من ليسمح بمفارقة النصوص لمجرد خيالات عارضة وشبه واهية تنهار بأيسر تشكيك، فالحق ما قاله الاولون من عدم الجواز مطلقا، وظاهر النصوص أيضا أن البيع بعد ظهور الصلاح صحيح، سواء شرط البقاء أم لم يشرط، لان الشارع قد جعل النهي ممتدا إلى غاية بدو الصلاح، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها، ومن ادعى أن شرط البقاء مفسد فعليه الدليل، ولا ينفعه في المقام ما ورد من النهي عن بيع وشرط، لانه يلزمه في تجويزه للبيع قبل الصلاح مع شرط القطع وهو بيع وشرط، وأيضا ليس كل شرط في البيع منهيا عنه، فإن اشترط جابر بعد بيعه للجمل أن يكون له ظهره إلى المدينة قد صححه الشارع كما سيأتي، وهو شبيه بالشرط الذي نحن بصدده، وتقدم أيضا جواز البيع مع الشرط في النخل والعبد لقوله: إلا أن يشترط المبتاع، وأما دعوى الاجماع على الفساد بشرط البقاء كما سلف فدعوى فاسدة، فإنه قد حكى صاحب الفتح عن الجمهور أنه يجوز البيع بعد الصلاح بشرط البقاء، ولم يحك الخلاف في ذلك إلا عن أبي حنيفة، وأما بيع الزرع أخضر وهو الذي يقال له القصيل فقال ابن رسلان في شرح السنن: اتفق العلماء المشهورون على جواز بيع القصيل بشرط القطع، وخالف سفيان الثوري وابن أبي ليلى فقالا: لا يصح بيعه بشرط القطع، وقد اتفق الكل على أنه لا يصح بيع القصيل من غير شرط القطع، وخالفه ابن حزم الظاهري فأجاز بيعه بغير شرط تمسكا بأن النهي إنما ورد عن السنبل، قال:
[ 278 ]
ولم يأت في منع بيع الزرع مذ نبت إلى أن يسنبل نص أصلا. وروي عن أبي إسحاق الشيباني قال: سألت عكرمة عن بيع القصيل فقال: لا بأس، فقلت: إنه يسنبل فكرهه اه. كلام ابن رسلان. (والحاصل) أن الذي في الاحاديث النهي عن بيع الحب حتى يشتد، وعن بيع السنبل حتى يبيض، فما كان من الزرع قد سنبل أو ظهر فيه الحب كان بيعه قبل اشتداد حبه غير جائز، وأما قبل أن يظهر فيه الحب والسنابل فإن صدق على بيعه حينئذ أنه مخاضرة كما قال البعض أنها بيع الزرع قبل أن يشتد لم يصح بيعه لورود النهي عن المخاضرة، كما تقدم في باب النهي عن بيوع الغرر، لان التفسير المذكور صادق على الزرع الاخضر قبل أن يظهر فيه الحب والسنابل وهو الذي يقال له القصيل، ولكن الذي في القاموس أن المخاضرة بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وكذا في كثير من شروح الحديث، فلا يتناول الزرع لان الثمار حمل الشجر كما في القاموس، وسيأتي في تفسير المحاقلة عند البعض ما يرشد إلى أنها بيع الزرع قبل أن تغلظ سوقه، فإن صح ذلك فذاك، وإلا كان الظاهر ما قاله ابن حزم من جواز بيع القصيل مطلقا. وعن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وفي لفظ بدل المعاومة: وعن بيع السنين. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه. وفي رواية: حتى يطيب. وفي رواية: حتى يطعم. وعن زيد بن أبي أنيسة عن عطاء عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة، وأن يشتري النخل حتى يشقه، والاشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شئ، والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم، والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من الثمر، والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك، قال زيد: قلت لعطاء: أسمعت جابرا يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم. متفق على جميع ذلك إلا الاخير فإنه ليس لاحمد. قوله: المحاقلة قد اختلفت في تفسيرها، فمنهم من فسرها بما في الحديث فقال: هي بيع الحقل بكيل من الطعام معلوم، وقال أبو عبيد: هي بيع الطعام في سنبله، والحقل الحرث وموضع الزرع. وقال الليث: الحقل الزرع إذا تشعب من قبل أن تغلظ سوقه، وأخرج الشافعي في المختصر عن جابر أن المحاقلة أن يبيع الرجل الرجل الزرع بمائة فرق
[ 279 ]
من الحنطة. قال الشافعي: وتفسير المحاقلة والمزابنة في الاحاديث يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يكون من رواية من رواه. وفي النسائي عن رافع بن خديج والطبراني عن سهل بن سعد أن المحاقلة مأخوذة من الحقل جمع حقلة. قال الجوهري: وهي الساحات جمع ساحة. وفي القاموس: الحقل قراح طيب يزرع فيه كالحقلة، ومنه لا ينبت البقلة إلا الحقلة. والزرع قد تشعب ورقه وظهر وكثر، أو إذا استجمع خروج نباته أو ما دام أخضر وقد أحقل في الكل، والمحاقل المزارع، والمحاقلة بيع الزرع قبل بدو صلاحه أو بيعه في سنبله بالحنطة أو المزارعة بالثلث أو الربع أو أقل أو أكثر أو اكتراء الارض بالحنطة اه. وقال مالك: المحاقلة أن تكرى الارض ببعض ما ينبت منها وهي المخابرة، ولكنه يبعد هذا عطف المخابرة عليها في الاحاديث. قوله: والمزابنة بالزاي والموحدة والنون. قال في الفتح: هي مفاعلة من الزبن بفتح الزاي وسكون الموحدة وهو الدفع الشديد، ومنه سميت الحرب الزبون لشدة الدفع فيها. وقيل: للبيع المخصوص مزابنة كأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه، أو لان أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع لفسخه، وأراد الآخر دفعه عن هذه الارادة بإمضاء البيع اه. وقد فسرت بما في الحديث أعني بيع النخل بأوساق من التمر وفسرت بهذا، وبيع العنب بالزبيب كما في الصحيحين، وهذا أصل المزابنة. وألحق الشافعي بذلك كل بيع مجهول أو معلوم من جنس يجري الربا في نقده، وبذلك قال الجمهور. ووقع في البخاري عن ابن عمر أن المزابنة أن يبيع الثمر بكيل إن زاد فلي وإن نقص فعلي. وفي مسلم عن نافع: المزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا، وبيع العنب بالزبيب كيلا، وبيع الزرع بالحنطة كيلا، وكذا في البخاري. وقال مالك: إنها بيع كل شئ من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده إذا بيع بشئ مسمى من الكيل وغيره، سواء كان يجري فيه الربا أم لا. قال ابن عبد البر: نظر مالك إلى معنى المزابنة لغة وهي المدافعة. قال في الفتح: وفسر بعضهم المزابنة بأنها بيع الثمر قبل بدو صلاحه وهو خطأ، قال: والذي تدل عليه الاحاديث في تفسيرها أولى. وقيل: إن المزابنة المزارعة. وفي القاموس: الزبن بيع كل ثمر على شجرة بتمر كيلا. قال: والمزابنة بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر. وعن مالك: كل جزاف لا يعلم كيله ولا عدده ولا وزنه، أو بيع مجهول بمجهول من جنسه، أو هي بيع المغابنة في
[ 280 ]
الجنس الذي لا يجوز فيه الغين اه. قوله: والمعاومة هي بيع الشجر أعواما كثيرة، وهي مشتقة من العام كالمشاهرة من الشهر. وقيل: هي اكتراء الارض سنين، وكذلك بيع السنين هو أن يبيع ثمر النخلة لاكثر من سنة في عقد واحد، وذلك لانه بيع غرر لكونه بيع ما لم يوجد. وذكر الرافعي وغيره لذلك تفسيرا آخر وهو أن يقول: بعتك هذا سنة على أنه إذا انقضت السنة فلا يبيع بيننا وأرد أنا الثمن وترد أنت المبيع. قوله: والمخابرة سيأتي تفسيرها والكلام عليها في كتاب المساقاة والمزارعة قوله: حتى يطيب هذه الرواية وما بعدها من قوله حتى يطعم ينبغي أن يقيد بهما سائر الروايات المذكورة. قوله: حتى يشقه بضم أوله ثم شين معجمة ثم قاف. وفي رواية للبخاري: يشقح وهي الاصل والهاء بدل من الحاء، وإشقاح النخل احمراره واصفراره كما في الحديث، والاسم الشقحة بضم الشين المعجمة وسكون القاف بعدها مهملة. (وقد استدل) أحاديث الباب ونحوها على تحريم المحاقلة والمزابنة وما شاركهما في العلة قياسا، وهي إما مظنة الربا لعدم علم التساوي أو الغرر، وعلى تحريم بيع السنين، وعلى تحريم بيع الثمر قبل صلاحه، وقد تقدم الكلام عليه. وقد وقع الاتفاق على تحريم بيع الرطب بالتمر في غير العرايا، وعلى تحريم بيع الحنطة في سنابلها بالحنطة منسلة، وعلى تحريم بيع العنب بالزبيب، ولا فرق عند جمهور أهل العلم بين الرطب والعنب على الشجر، وبين ما كان مقطوعا منهما، وجوز أبو حنيفة بيع الرطب المقطوع بخرصه من اليابس. باب الثمرة المشتراة يلحقها جائحة عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع الجوائح رواه أحمد والنسائي وأبو داود. وفي لفظ لمسلم: أمر بوضع الجوائح. وفي لفظ قال: إن بعت من أخيك ثمرا فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وفي الباب عن عائشة عند البيهقي بنحوه وفي إسناده حارثة بن أبي الرجال وهو ضعيف، ولكنه في الصحيحين عنها مختصر وعن أنس، وقد تقدم في باب بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. قوله: الجوائح جمع جائحة وهي الآفة التي
[ 281 ]
تصيب الثمار فتهلكها، يقال: جاحهم الدهر واجتاحهم بتقديم الجيم على الحاء فيهما إذا أصابهم بمكروه عظيم، ولا خلاف أن البرد والقحط والعطش جائحة، وكذلك كل ما كان آفة سماوية، وأما ما كان من الآدميين كالسرقة ففيه خلاف، منهم من لم يره جائحة لقوله في الحديث السابق عن أنس: إذا منع الله الثمرة. ومنهم من قال: إنه جائحة تشبيها بالآفة السماوية. وقد اختلف أهل العلم في وضع الجوائح إذا بيعت الثمرة بعد بدو صلاحها وسلمها البائع للمشتري بالتخلية ثم تلفت بالجائحة قبل أوان الجذاذ فقال الشافعي وأبو حنيفة وغيره من الكوفيين والليث: لا يرجع المشتري على البائع بشئ، قالوا: وإنما ورد وضع الجوائح فيما إذا بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، فيحمل مطلق الحديث في رواية جابر على ما قيد به في حديث أنس المتقدم. واستدل الطحاوي على ذلك بحديث أبي سعيد: أصيب رجل في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تصدقوا عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك. أخرجه مسلم وأصحاب السنن. قال: فلما لم يبطل دين الغرماء بذهاب الثمار بالعاهات ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثمن ممن باعها منه دل على أن وضع الجوائح ليس على عمومه. وقال الشافعي في القديم: هي من ضمان البائع، فيرجع المشتري عليه بما دفعه من الثمن، وبه قال أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهم، قال القرطبي: وفي الاحاديث دليل واضح على وجوب إسقاط ما اجتيح من الثمرة عن المشتري، ولا يلتفت إلى قول من قال: إن ذلك لم يثبت مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لانه من قول أنس، بل الصحيح رفع ذلك من حديث جابر وأنس. وقال مالك: إن أذهبت الجائحة دون الثلث لم يجب الوضع، وإن كان الثلث فأكثر وجب لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الثلث والثلث كثير قال أبو داود: لم يصح في الثلث شئ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو رأي أهل المدينة. والراجح الوضع مطلقا من غير فرق بين القليل والكثير، وبين البيع قبل بدو الصلاح وبعده، وما احتج به الاولون من حديث أنس المتقدم يجاب عنه بأن التنصيص على الوضع مع البيع قبل الصلاح لا ينافي الوضع مع البيع بعده ولا يصلح مثله لتخصيص ما دل على وضع الجوائح ولا لتقييده. وأما ما احتج به الطحاوي فغير صالح للاستدلال به على محل النزاع،
[ 282 ]
لانه لا تصريح فيه بأن ذهاب ثمرة ذلك الرجل كان بعاهات سماوية، وأيضا عدم نقل تضمين بائع الثمرة لا يصلح للاستدلال به لانه قد نقل ما يشعر بالتضمين على العموم، فلا ينافيه عدم النقل في قضية خاصة، وسيأتي أحاديث أبي سعيد في كتاب التفليس، ويأتي في شرحه بقية الكلام على الوضع. أبواب الشروط في البيع باب اشتراط منفعة المبيع وما في معناها عن جابر أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه قال: ولحقني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر مثله، فقال: بعنيه، فقلت: لا، ثم قال: بعنيه فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي متفق عليه. وفي لفظ لاحمد والبخاري: وشرطت ظهره إلى المدينة. قوله: أعيا الاعياء التعب والعجز عن السير. قوله: بعنيه زاد في رواية متفق عليها بوقية وفي أخرى: بخمس أواق. وفي أخرى أيضا بأوقيتين ودرهم أو درهمين، وفي بعضها بأربعة دنانير. وفي بعضها بثمانمائة. وفي بعضها بعشرين دينارا. وقد جمع بين هذه الروايات بما لا يخلو عن تكلف. واستدل بهذا على جواز طلب البيع من المالك قبل عرض المبيع للبيع. قوله: حملانه بضم الحاء المهملة والمراد الحمل عليه، وتمام الحديث في الصحيحين: فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري فقال: أتراني ماكستك لا آخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك وللحديث ألفاظ فيها اختلاف كثير وفي بعضها طول، وهو يدل على جواز البيع مع استثناء الركوب، وبه قال الجمهور، وجوزه مالك إذا كانت مسافة السفر قريبة وحدها بثلاثة أيام. وقال الشافعي وأبو حنيفة وآخرون: لا يجوز ذلك سواء قلت المسافة أو كثرت، واحتجوا بحديث النهي عن بيع وشرط، وحديث النهي عن الثنيا، وأجابوا عن حديث الباب بأنه قصة عين تدخلها الاحتمالات، ويجاب بأن حديث النهي عن بيع وشرط مع ما فيه من المقال هو أعم من حديث الباب مطلقا فيبنى العام على
[ 283 ]
الخاص. وأما حديث النهي عن الثنيا فقد تقدم تقييده بقوله: إلا أن يعلم. وللحديث فوائد مبسوطة في مطولات شروح الحديث. باب النهي عن جمع شرطين من ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك. رواه الخمسة إلا ابن ماجه فإن له منه: ربح ما لم يضمن، وبيع ما ليس عندك قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الحديث صححه أيضا ابن خزيمة والحاكم، وأخرجه ابن حبان والحاكم أيضا بلفظ: لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع. وهو عند هؤلاء كلهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ووجد في النسخ الصحيحة من هذا الكتاب عن عبد الله بن عمر بدون واو والصواب إثباتها. وأخرجه ابن حزم في المحلى والخطابي في المعالم والطبراني في الاوسط والحاكم في علوم الحديث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: نهي عن بيع وشرط وقد استغربه النووي وابن أبي الفوارس. قوله: لا يحل سلف وبيع قال البغوي: المراد بالسلف هنا القرض. قال أحمد: هو أن يقرضه قرضا ثم يبايعه عليه بيعا يزداد عليه وهو فاسد، لانه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن، وقد يكون السلف بمعنى السلم، وذلك مثل أن يقول: أبيعك عبدي هذا بألف على أن تسلفني مائة في كذا وكذا، أو يسلم إليه في شئ ويقول: إن لم يتهيأ المسلم فيه عندك فهو بيع لك، وفي كتب جماعة من أهل البيت عليهم السلام أن السلف والبيع صورته أن يريد الشخص أن يشتري السلعة بأكثر من ثمنها لاجل النساء، وعنده أن ذلك لا يجوز فيحتال فيستقرضه الثمن من البائع ليعجله إليه حيلة، والاولى تفسير الحديث بما تقتضيه الحقيقة الشرعية أو اللغوية أو العرفية أو المجاز عند تعذر الحمل على الحقيقة لا بما هو معروف في بعض المذاهب غير معروف في غيره، وقد عرفت الكلام في جواز بيع الشئ بأكثر من سعر يومه لاجل النساء. قوله: ولا شرطان في بيع قال البغوي: هو أن يقول: بعتك هذا العبد بألف
[ 284 ]
نقدا أو بألفين نسيئة، فهذا بيع واحد تضمن شرطين يختلف المقصود فيه باختلافهما، ولا فرق بين شرطين وشروط، وهذا التفسير مروي عن زيد بن علي وأبي حنيفة، وقيل معناه أن يقول: بعتك ثوبي بكذا وعلى قصارته وخياطته فهذا فاسد عند أكثر العلماء، وقال أحمد: إنه صحيح، وقد أخذ بظاهر الحديث بعض أهل العلم فقال: إن شرط في البيع شرطا واحدا صح، وإن شرط شرطين أو أكثر لم يصح، فيصح مثلا أن يقول: بعتك ثوبي على أن أخيطه، ولا يصح أن يقول: على أن أقصره وأخيطه. ومذهب الاكثر عدم الفرق بين الشرط والشرطين، واتفقوا على عدم صحة ما فيه شرطان. قوله: ولا ربح ما لم يضمن يعني لا يجوز أن يأخذ ربح سلعة لم يضمنها، مثل أن يشتري متاعا ويبيعه إلى آخر قبل قبضه من البائع، فهذا البيع باطل وربحه لا يجوز، لان المبيع في ضمان البائع الاول، وليس في ضمان المشتري منه لعدم القبض. قوله: ولا بيع ما ليس عندك قد قدمنا الكلام عليه في باب النهي عن بيع ما لا يملكه. باب من اشترى عبدا بشرط أن يعتقه عن عائشة أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترطوا ولاءها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق متفق عليه، ولم يذكر البخاري لفظة أعتقيها. قوله: بريرة هي بفتح الباء الموحدة وبراءين بينهما تحتية بوزن فعيلة مشتقة من البربر وهو ثمر الاراك، وقيل: إنها فعيلة من البر بمعنى مفعولة أي مبرورة، أو بمعنى فاعلة كرحيمة أي بارة وكانت لناس من الانصار كما وقع عند أبي نعيم، وقيل لناس من بني هلال قاله ابن عبد البر. وقد ذكر المصنف رحمه الله ههنا هذا الطرف من الحديث للاستدلال به على جواز البيع بشرط العتق، وسيأتي الحديث بكماله قريبا. قال النووي: قال العلماء: الشرط في البيع أقسام. أحدها: يقتضيه إطلاق العقد كشرط تسليمه. الثاني: شرط فيه مصلحة كالرهن وهما جائزان اتفاقا. الثالث: اشتراط العتق في العبد وهو جائز عند الجمهور لهذا الحديث. الرابع: ما يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري كاستثناء منفعته فهو باطل.
[ 285 ]
باب أن من شرط الولاء أو شرطا فاسدا لغا وصح العقد عن عائشة قالت: دخلت علي بريرة وهي مكاتبة فقالت: اشتريني فأعتقيني، قلت: نعم، قالت: لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي، قلت: لا حاجة لي فيك، فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بلغه فقال: ما شأن بريرة؟ فذكرت عائشة ما قالت فقال: اشتريها فأعتقيها ويشترطوا ما شاؤوا، قالت: فاشتريتها فأعتقتها، واشترط أهلها ولاءها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مائة شرط. رواه البخاري. ولمسلم معناه. وللبخاري في لفظ آخر: خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق. وعن ابن عمر أن عائشة أرادت أن تشتري جارية تعتقها، فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا، فذكر ت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لا يمنعك ذلك فإن الولاء لمن أعتق رواه البخاري والنسائي وأبو داود، وكذلك مسلم لكن قال فيه عن عائشة جعله من مسندها. وعن أبي هريرة قال: أرادت عائشة أن تشتري جارية تعتقها، فأبى أهلها إلا أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لا يمنعك ذلك فإن الولاء لمن أعتق رواه مسلم. قوله: اشتريها في ذلك دليل على جواز بيع المكاتب إذا رضي ولو لم يعجز نفسه، وبه قال أحمد وربيعة والاوزاعي والليث وأبو ثور ومالك والشافعي في أحد قوليه، واختاره ابن جرير وابن المنذر وغيرهما على تفاصيل لهم في ذلك كذا في الفتح، وإلى مثل ذلك ذهب الهادي وأتباعه. وقال أبو حنيفة والشافعي في أصح القولين عنه وبعض المالكية أنه لا يجوز بيعه مطلقا، ويروى عن ابن مسعود، وأجابوا عن حديث الباب بأن بريرة عجزت نفسها بدليل استعانتها لعائشة كما في كثير من الروايات، ويجاب بأنه ليس في استعانتها لعائشة ما يستلزم العجز. قوله: ويشترطوا ما شاؤوا فيه دليل على أن شرط البائع للعبد أن يكون الولاء له لا يصح بل الولاء لمن أعتق بإجماع المسلمين. قوله: وإن اشترطوا مائة شرط قال النووي: أي لو شرطوا مائة مرة توكيدا فالشرط باطل، وإنما حمل ذلك على التوكيد، لان الدليل قد دل على بطلان
[ 286 ]
جميع الشروط التي ليست في كتاب الله فلا حاجة إلى تقييدها قوله: واشترطي لهم الولاء بالمائة، فإنها لو زاد عليها كان الحكم كذلك قوله واشترطي لهم الولاء استشكل صدور الاذن منه صلى الله عليه وآله وسلم فاسد في البيع، واختلف العلماء في ذلك، فمنهم من أنكر الشرط في الحديث، فروى الخطابي في المعالم بسنده إلى يحيى بن أكثم أنه أنكر ذلك، وعن الشافعي في الام الاشارة إلى تضعيف هذه الرواية التي فيها الاذن بالاشتراط لكونه انفرد بها هشام بن عروة دون أصحاب أبيه، وأشار غيره إلى أنه روي بالمعنى الذي وقع له وليس كما ظن، وأثبت الرواية آخرون وقالوا: هشام ثقة حافظ، والحديث متفق على صحته فلا وجه لرده، ثم اختلفوا في توجيه ذلك فقال الطحاوي: إن اللام في قوله: لهم بمعنى على كقوله تعالى: * (وإن أسأتم فلها) * (سورة الاسراء، الآية: 7) وقد أسند هذا البيهقي في المعرفة عن الشافعي، وجزم به الخطابي عنه وهو مشهور عن المزني. وقال النووي: إن هذا تأويل ضعيف، وكذلك قال ابن دقيق العيد، وقال آخرون: الامر في قوله: اشترطي للاباحة أي اشترطي لهم أولا فإن ذلك لا ينفعهم، ويقوي هذا قوله: ويشترطوا ما شاؤوا وقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كان أعلم الناس أن اشتراط الولاء باطل، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدم لهم العلم ببطلانه أطلق الامر مريدا به التهديد كقوله تعالى: * (اعملوا ما شئتم) * (سورة فصلت، الآية: 40) فكأنه قال: اشترطي لهم الولاء فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم، ويؤيد هذا ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك: ما بال رجال يشترطون شروطا الخ، فوبخهم بهذا القول مشيرا إلى أنه قد تقدم منه بيان، إبطاله، إذ لو لم يتقدم منه ذلك لبدأ ببيان الحكم لا بالتوبيخ بعدم المقتضى له، إذ هم يتمسكون بالبراءة الاصلية، وقال الشافعي: إنه أذن في ذلك لقصد أن يعطل عليهم شروطهم ليرتدعوا عن ذلك ويرتدع به غيرهم، وكان ذلك من باب الادب، وقيل معنى اشترطي اتركي مخالفتهم فيما يشترطونه ولا تظهري، نزاعهم فيما دعوا إليه مراعاة لتنجيز العتق لتشوف الشرع إليه. وقال النووي: أقوى الاجوبة أن هذا الحكم خاص بعائشة في هذه القصة، وأن سببه المبالغة في الزجر عن هذا الشرط لمخالفته حكم الشرع، وهو كفسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بتلك الحجة مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج، ويستفاد منه ارتكاب أخف المفسدتين إذا استلزم إزالة أشدهما، وتعقب بأنه استدلال بمختلف فيه على مختلف فيه، وتعقبه ابن دقيق العيد
[ 287 ]
بأن التخصيص لا يثبت إلا بدليل. وقال ابن الجوزي ليس في الحديث أن اشتراط الولاء والعتق كان مقارنا للعقد، فيحمل على أنه كان سابقا للعقد، فيكون الامر بقوله: اشترطي مجرد وعدو لا يجب الوفاء به، وتعقب باستبعاد أن يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شخصا أن يعد مع علمه بأنه لا يفي بذلك الوعد. وقال ابن حزم: كان الحكم ثابتا لجواز اشتراط الولاء لغير المعتق، فوقع الامر باشتراطه في الوقت الذي كان ذلك جائزا فيه، ثم نسخ بخطبته صلى الله عليه وآله وسلم وهو بعيد قوله: فإنما الولاء لمن أعتق فيه إثبات الولاء للمعتوه نفيه عما عداه كما تقتضيه، إنما الحصرية، واستدل بذلك على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل أو وقع بينه وبين رجل محالفة ولا للملتقط، وسيأتي الكلام على بقية هذا الحديث في كتاب العتق إن شاء الله تعالى. باب شرط السلامة من الغبن عن ابن عمر قال: ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يخدع في البيوع فقال: من بايعت فقل لا خلابة متفق عليه. وعن أنس أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبتاع وكان في عقدته يعني في عقله ضعف، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف فدعاه ونهاه فقال: يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع، فقال: إن كنت غير تارك للبيع فقل هاوها ولا خلابة رواه الخمسة وصححه الترمذي. وفيه صحة الحجر على السفيه لانهم سألوه إياه وطلبوه منه وأقرهم عليه، ولو لم يكن معروفا عندهم لما طلبوه ولا أنكر عليهم. وعن ابن عمر أن منقذا سفع في رأسه في الجاهلية مأمومة فخبلت لسانه، فكان إذا بايع يخدع في البيع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بايع وقل لا خلابة، ثم أنت بالخيار ثلاثا، قال ابن عمر: فسمعته يبايع ويقول: لا خذابة لا خذابة رواه الحميدي في مسنده فقال: حدثنا سفيان عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر فذكره. وعن محمد بن يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمر، وكان رجلا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت
[ 288 ]
لسانه وكان لا يدع على ذلك التجارة فكان لا يزال يغبن، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فقال: إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال إن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها رواه البخاري في تاريخه وابن ماجه والدراقطني. حديث أنس أخرجه أيضا الحاكم. وحديث ابن عمر الثاني أخرجه أيضا البخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه وفي إسناده محمد بن إسحاق (وفي الباب) عن عمر بن الخطاب عند الشافعي وابن الجارود والحاكم والدارقطني وفيه أن الرجل اسمه حبان بن منقذ، أخرجه أيضا عنه الدارقطني والطبراني في الاوسط، وقيل: إن القصة لمنقذ والد حبان كما في حديث الباب. قال النووي: وهو الصحيح وبه جزم عبد الحق، وجزم ابن الطلاع بأنه حبان بن منقذ، وتردد الخطيب في المبهمات وابن الجوزي في التنقيح، قال ابن الصلاح: وأما رواية الاشتراط فمنكرة لا أصل لها. قوله: لا خلابة بكسر المعجمة وتخفيف اللام أي لا خديعة، قال العلماء: لقنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا القول ليتلفظ به عند البيع فيطلع به صاحبه، على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة ويرى له ما يرى لنفسه، والمراد أنه إذا ظهر غبن رد الثمن واسترد المبيع، واختلف العلماء في هذا الشرط هل كان خاصا بهذا الرجل أم يدخل فيه جميع من شرط هذا شرط؟ فعند أحمد ومالك في رواية عنه والمنصور بالله والامام يحيى أنه يثبت الرد لكل من شرط هذا الشرط، ويثبتون الرد بالغبن لمن لم يعرف قيمة السلع، وقيده بعضهم بكون الغبن فاحشا وهو ثلث القيمة عنده، قالوا: بجامع الخدع الذي لاجله أثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الرجل الخيار، وأجيب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما جعل لهذا الرجل الخيار للضعف الذي كان في عقله كما في حديث أنس المذكور، فلا يلحق به إلا من كان مثله في ذلك بشرط أن يقول هذه المقالة، ولهذا روي أنه كان إذا غبن يشهد رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جعله بالخيار ثلاثا فيرجع في ذلك، وبهذا يتبين أنه لا يصح الاستدلال بمثل هذه القصة على ثبوت الخيار لكل مغبون وإن كان صحيح العقل، ولا على ثبوت الخيار لمن كان ضعيف العقل إذا غبن ولم يقل هذه المقالة، وهذا مذهب الجمهور وهو الحق، واستدل بهذه القصة على ثبوت الخيار لمن قال
[ 289 ]
لا خلابة، سواء غبن أم لا، وسواء وجد غشا أو عيبا أم لا، ويؤيده حديث ابن عمر الآخر، والظاهر أنه لا يثبت الخيار إلا إذا وجدت خلابة لا إذا لم توجد، لان السبب الذي ثبت الخيار لاجله هو وجود ما نفاه منها، فإذا لم يوجد فلا خيار، واستدل بذلك أيضا على جواز الحجر للسفه كما أشار إليه المصنف وغيره وهو استدلال صحيح، لكن بشرط أن يطلب ذلك من الامام أو الحاكم قرابة من كان في تصرفه سفه كما في حديث أنس. قوله: في عقدته العقدة العقل كما يشعر بذلك التفسير المذكور في الحديث، وفي التلخيص: العقدة الرأي، وقيل: هي العقدة في اللسان كما يشعر بذلك ما في رواية ابن عمر أنها خبلت لسانه، وكذلك قوله: فكسرت لسانه وعدم إفصاحه بلفظ الخلابة حتى كان يقول لا خذابة بإبدال اللام ذالا معجمة. وفي رواية لمسلم أنه كان يقول: لا خنابة بإبدال اللام نونا، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: * (واحلل عقدة من لساني) * (سورة طه، الآية: 27) ولم يذكر في القاموس إلا عقدة اللسان. قوله: سفع بالسين المهملة ثم الفاء ثم العين المهملة أي ضرب، والمأمومة التي بلغت أم الرأس وهي الدماغ أو الجلدة الرقيقة التي عليه. قوله: ثم أنت بالخيار ثلاثا استدل به على أن مدة هذا الخيار ثلاثة أيام من دون زيادة، قال في الفتح: لانه حكم ورد على خلاف الاصل فيقتصر به على أقصى ما ورد فيه، ويؤيده جعل الخيار في المصراة ثلاثة أيام واعتبار الثلاث في غير موضع وأغرب بعض المالكية فقال: إنما قصره على ثلاث لان معظم بيعه كان في الرقيق وهذا يحتاج إلى دليل، ولا يكفي فيه مجرد الاحتمال انتهى. قوله: وعن محمد بن يحيى بن حبان بفتح الحاء المهملة وهو غير صاحب الصحيح المعروف بابن حبان بكسر الحاء. باب إثبات خيار المجلس عن حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: البيعان بالخيار ما لم يفترقا، أو قال: حتى يفترقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، وربما قال: أو يكون بيع
[ 290 ]
الخيار. وفي لفظ: إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكان جميعا، أو يخبر أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع متفق على ذلك كله. وفي لفظ: كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار متفق عليه أيضا. وفي لفظ: المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار. وفي لفظ: إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان بيعهما عن خيار فقد وجب، قال نافع: وكان ابن عمر رحمه الله إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنية ثم رجع أخرجاهما. قوله: البيعان بتشديد التحتانية يعني البائع والمشتري، والبيع هو البائع أطلق على المشتري على سبيل التغليب، أو لان كل واحد من اللفظين يطلق على الآخر كما سلف. قوله: بالخيار بكسر الخاء المعجمة اسم من الاختيار أو التخيير، وهو طلب خير الامرين من إمضاء البيع أو فسخه، والمراد بالخيار هنا خيار المجلس. قوله: ما لم يفترقا قد اختلف هل المعتبر التفرق بالابدان أو بالاقوال، فابن عمر حمله على التفرق بالابدان كما في الرواية المذكورة عنه في الباب، وكذلك حمله أبوبرزة الاسلمي حكى ذلك عنه أبو داود قال صاحب الفتح: ولا يعلم لهما مخالف من الصحابة، قال أيضا: ونقل ثعلب عن الفضل بن سلمة أنه يقال: افترقا بالكلام، وتفرقا بالابدان، ورده ابن العربي بقوله: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) * (سورة البينة، الآية: 4) فإنه ظاهر في التفرق بالكلام لانه بالاعتقاد، وأجيب بأنه من لازمه في الغالب، لان من خالف آخر في عقيدته كان مستدعيا لمفارقته إياه ببدنه، ولا يخفى ضعف هذا الجواب، والحق حمل كلام الفضل على الاستعمال بالحقيقة، وإنما استعمل أحدهما في موضع الآخر اتساعا انتهى. ويؤيد حمل التفرق على تفرق الابدان ما رواه البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: حتى يتفرقا من مكانهما وروايات حديث الباب بعضها بلفظ التفرق وبعضها بلفظ الافتراق كما عرفت، فإذا كانت حقيقة كل واحد منهما مخالفة لحقيقة الآخر كما سلف فينبغي أن يحمل أحدهما على المجاز توسعا، وقد دل الدليل على إرادة حقيقة التفرق بالابدان، فيحمل ما دل على
[ 291 ]
التفرق بالاقوال على معناه المجازي، ومن الادلة الدالة على إرادة التفرق بالابدان قوله في حديث ابن عمر المذكور: ما لم يتفرقا وكانا جميعا وكذلك قوله: وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع، فإن فيه البيان الواضح أن التفرق بالبدن. قال الخطابي: وعلى هذا وجدنا أمر الناس في عرف اللغة وظاهر الكلام، فإذا قيل: تفرق الناس كان المفهوم منه التميز بالابدان، قال: ولو كان المراد تفرق الاقوال كما يقول أهل الرأي لخلا الحديث عن الفائدة وسقط معناه، وذلك أن العلم محيط بأن المشتري ما لم يوجد منه قبول المبيع فهو بالخيار، وكذلك البائع خياره في ملكه ثابت قبل أن يعقد البيع، وهذا من العلم العام الذي استقر بيانه، قال: وثبت أن المتابعين هما المتعاقدان، والبيع من الاسماء المشتقة من أفعال الفاعلين، ولا يقع حقيقة إلا بعد حصول الفعل منهم كقولهم: زان وسارق، وإذا كان كذلك فقد صح أن المتبايعين هما المتعاقدان، وليس بعد العقد تفرق إلا التميز بالابدان انتهى. فتقرر أن المراد بالتفرق المذكور في الباب تفرق الابدان، وبهذا تمسك من أثبت خيار المجلس وهم جماعة من الصحابة منهم على صلوات الله عليه، وأبو برزة الاسلمي وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم، ومن التابعين شريح والشعبي وطاوس وعطاء وابن أبي مليكة، نقل ذلك عنهم البخاري. ونقل ابن المنذر القول به أيضا عن سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب من أهل المدينة. وعن الحسن البصري والاوزاعي وابن جريج وغيرهم، وبالغ ابن حزم فقال: لا يعرف لهم مخالف من التابعين إلا النخعي وحده ورواية مكذوبة عن شريح، والصحيح عنه القول به ومن أهل البيت بالباقر والصادق وزين العابدين وأحمد بن عيسى والناصر والامام يحيى، نقل ذلك عنهم صاحب البحر. وحكاه أيضا عن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وذهبت المالكية إلا ابن حبيب والحنفية كلهم وإبراهيم النخعي إلى أنها إذا وجبت الصفقة فلا خيار، وحكاه صاحب البحر عن الثوري والليث والامامية وزيد بن علي والقاسمية والعنبري. قال ابن حزم: لا نعلم لهم سلفا إلا إبراهيم وحده، وهذا الخلاف إنما هو بعد التفرق بالاقوال، وأما قبله فالخيار ثابت إجماعا كما في البحر. ولاهل القول الآخر أجوبة عن الاحاديث القاضية بثبوت خيار المجلس، فمنهم من رده لكونه معارضا لما هو أقوى منه نحو قوله تعالى: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * (سورة البقرة، الآية: 282) قالوا: ولو ثبت خيار المجلس لكانت الآية غير مفيدة لان الاشهاد
[ 292 ]
إن وقع قبل التفرق لم يطابق الامر، وإن وقع بعد التفرق لم يصادف محلا. وقوله تعالى: * (تجارة عن تراض) * (سورة النساء، الآية: 29) فإنها تدل على أنه بمجرد الرضا يتم البيع. وقوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (سورة المائدة، الآية: 1) لان الراجع عن موجب العقد قبل التفرق لم يف به، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: المسلمون على شروطهم والخيار بعد العقد يفسد الشرط. ومنه حديث التحالف عند اختلاف المتبايعين لاقتضائه الحاجة إلى اليمين وذلك يستلزم لزوم العقد، ولو ثبت خيار المجلس لكان كافيا في رفع العقد، لا يخفى أن هذه الادلة على فرض شمولها لمحل النزاع أعم مطلقا، فيبنى العام على الخاص، والمصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع غير جائز كما تقرر في موضعه ومن أهل القول الثاني من أجاب عن أحاديث خيار المجلس بأنها منسوخة بهذه الادلة. قال في الفتح: ولا حجة في شئ من ذلك لان النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الدليلين مهما أمكن لا يصار معه إلى الترجيح، والجمع هنا ممكن بين الادلة المذكورة بغير تعسف ولا تكلف انتهى. وأجاب بعضهم بأن إثبات خيار المجلس مخالف للقياس الجلي في إلحاق ما قبل التفرق بما بعده وهو قياس فاسد الاعتبار لمصادمته النص. وأجاب بعضهم: بأن التفرق بالابدان محمول على الاستحباب تحسينا للمعاملة مع المسلم، ويجاب عنه بأنه خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلا لدليل، وهكذا يجاب عن قول من قال: إنه محمول على الاحتياط للخروج من الخلاف، وقيل: إنه يحمل التفرق المذكور في الباب على التفرق في الاقوال، كما في عقد النكاح والاجارة. قال في الفتح: وتعقب بأنه قياس مع ظهور الفارق، لان البيع ينقل منه ملك رقبة المبيع ومنفعته بخلاف ما ذكر. وقيل: المراد بالمتبايعين المتساومان، قال في الفتح: ورد بأنه مجاز، فالحمل على الحقيقة أوما يقرب منها أولى. وقد احتج الطحاوي على ذلك بآيات وأحاديث استعمل فيها المجاز، وتعقب بأنه لا يلزم من استعمال المجاز في موضع استعماله في كل موضع. قال البيضاوي: ومن نفى خيار المجلس ارتكب مجازين: لحمله التفرق على الاقوال، وحمله للمتبايعين على المتساومين، وأيضا فكلام الشارع يصان عن الحمل عليه لانه يصير تقديره: أن المتساومين إن شاءا عقد البيع وإن شاءا لم يعقداه وهو تحصيل حاصل لان كل أحد يعرف ذلك. ولاهل القول الآخر أجوبة غير هذه، فمنها ما سيأتي في آخر الباب، ومنها
[ 293 ]
غيره، وقد بسطها صاحب الفتح وأجاب عن كل واحد منها، وقد ذكرنا هنا ما كان تحتاج منها إلى الجواب وتركنا ما كان ساقطا، فمن أحب الاستيفاء فليرجع إلى المطولات، وقد اختلف القائلون بأن المراد بالتفرق تفرق الابدان هل له حد ينتهي إليه أم لا؟ والمشهور الراجح من مذاهب العلماء على ما ذكره الحافظ أن ذلك موكول إلى العرف، فكل ما عد في العرف تفرقا حكم به وما لافلا قوله: فإن صدقا وبينا أي صدق البائع في إخبار المشتري وبين العيب إن كان في السلعة وصدق المشتري في قدر الثمن وبين العيب إن كان في الثمن، ويحتمل أن يكوالصدق والبيان بمعنى واحد، وذكر أحدهما تأكيدا للآخر. قوله: محقت بركة بيعهما يحتمل أن يكون على ظاهره، وأن شؤم التدليس والكذب وقع في ذلك العقد فمحق بركته وإن كان مأجورا والكاذب مأزورا، ويحتمل أن يكون ذلك مختصا بمن وقع منه التدليس بالعيب دون الآخر، ورجحه ابن أبي حمزة. قوله: أو يقول أحدهما لصاحبه اختر وربما قال: أو يكون بيع الخيار، قد اختلف العلماء في المراد بقوله إلا بيع الخيار، فقال الجمهور: هو استثناء من امتداد الخيار إلى التفرق، والمراد أنهما إن اختارا إمضاء البيع قبل التفرق فقد لزم البيع حينئد وبطل اعتبار التفرق، فالتقدير إلا البيع الذي جرى فيه التخاير، وقيل: هو استثناء من انقطاع الخيار بالتفرق، والمراد بقوله: أو يخير أحدهما الآخر أي فيشترط الخيا مدة معينة، فلا ينقضي الخيار بالتفرق بل يبقى حتى تمضي المدة، حكاه ابن عبد البر عن أبي ثور ورجح الاول بأنه أقل في الاضمار، ولا يخفى أن قوله في هذا الحديث: فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع معين للاحتمال الاول، وكذلك قوله في الرواية الاخرى: فإذا كان بيعهما عن خيار فقد وجب، وفي رواية للنسائي: إلا أن يكون البيع كان عن خيار، فإن كان البيع عن خيار وجب البيع، وقيل: هو استثناء من إثبات خيار المجلس، والمعنى: أو خير أحدهما الآخر فيختار عدم ثبوت خيار المجلس فينتفي الخيار، قال الفتح: وهذا أضعف هذه الاحتمالات، وقيل: المراد بذلك أنهما بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يتخايرا ولو قبل التفرق، وإلا أن يكون البيع بشرط الخيار ولو بعد التفرق. قال في الفتح: وهو قول يجمع التأويلين الاولين، ويؤيده ما وقع في رواية للبخاري بلفظ: إلا بيع الخيار أو يقول لصاحبه: اختر إن حملت، أو على التقسيم لا على الشك. قوله: أو يخير بإسكان الراء عطفا على قوله: ما لم يتفرقا ويحتمل
[ 294 ]
نصب الراء على أن، أو بمعنى إلا أن كما قيل إنها كذلك في قوله أحدهما لصاحبه اختر. قوله: قال نافع: وكان ابن عمر هو موصول بإسناد الحديث، ورواه مسلم من طريق ابن جريج عن نافع وهو ظاهر في أن ابن عمر كان يذهب إلى أن التفرق المذكور بالابدان كما تقدم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: البيع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقبله رواه الخمسة إلا ابن ماجه. ورواه الدارقطني. وفي لفظ: حتى يتفرقا من مكانهما. وعن ابن عمرو قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان مالا بالوادي بمال له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا رواه البخاري. وفيه دليل على أن الرؤية حالة العقد لا تشترط بل تكفي الصفة أو الرؤية المتقدمة. حديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا البيهقي وحسنه الترمذي، وفي الباب عن أبي بزرة عند أبي داود وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات: أن رجلا باع فرسا بغلام ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما يعني البائع والمشتري، فلما أصبح من الغد حضر الرحيل فقام الرجل إلى فرسه يسرجه فندم فأتى الرجل وأخذه بالبيع فأبى الرجل أن يدفعه إليه فقال: بيني وبينك أبوبرزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيا أبا برزة فقال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: البيعان بالخيار ما لم يفترقا زاد في رواية أنه قال: ما أراكما افترقتما وفي الباب أيضا عن سمرة عند النسائي، وعن ابن عباس عند ابن حبان والحاكم والبيهقي، وعن جابر عند البزار والحاكم وصححه. قوله: صفقة خيار بالرفع على إن كان تامة وصفقة فاعلها، والتقدير: إلا أن توجد أو تحدث صفقة خيار، والنصب على إن كان ناقصة واسمها مضمر وصفقة خبر، والتقدير: إلا أن تكون الصفقة صفقة خيار، والمراد أن المتبايعين إذا قال أحدهما لصاحبه: اختر إمضاء البيع أو فسخه فاختار أحدهما تم البيع وإن لم يتفرقا كما تقدم: خشية أن يستقيله بالنصب على أنه مفعول له، واستدل بهذا
[ 295 ]
القائلون بعدم ثبوت خيار المجلس وقد تقدم ذكرهم، قالوا: لان في هذا الحديث دليلا على أن صاحبه لا يملك الفسخ إلا من جهة الاستقالة، وأجيب بأن الحديث حجة عليهم لا لهم، ومعناه: لا يحل له أن يفارقه بعد البيع خشية أن يختار فسخ البيع، فالمراد بالاستقالة فسخ النادم منهما للبيع، وعلى هذا حمله الترمذي وغيره من العلماء قالوا: ولو كانت الفرقة بالكلام لم يكن له خيار بعد البيع، ولو كان المراد حقيقة الاستقالة لم تمنعه من المفارقة لانها لا تختص بمجلس العقد، وقد أثبت في أول الحديث الخيار ومده إلى غاية التفرق، ومن المعلوم أن من له الخيار لا يحتاج إلى الاستقالة فتعين حملها على الفسخ، وحملوا نفي الحل على الكراهة لانه لا يليق بالمرء وحسن معاشرة المسلم لا أن اختيار الفسخ حرام. قوله: رجعت على عقبي الخ، قيل: لعله لم يبلغ ابن عمر حديث عمرو بن شعيب المذكور في الباب، ويمكن أن يقال إنه بلغه، ولكنه عرف أنه لا يدل على التحريم كما تقدم. والمراد بقوله بالوادي وادي القرى. قوله: أن يرادني بتشديد الدال وأصله يراددني أي يطلب مني استرداده. قوله: وكانت السنة الخ، يعني أن هذا هو السبب في خروجه من بيت عثمان وأنه فعل يجب البيع ولا يبقى لعثمان خيار في فسخه. أبواب الربا قال الزمخشري في الكشاف: كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة، وزيدت الالف بعدها تشبيها بواو الجمع. وقال في الفتح: الربا مقصور وحكي مده وهو شاذ، وهو من ربا يربو فيكتب بالالف، ولكن وقع في خط المصاحف بالواو اه. قال الفراء: إنما كتبوه بالواو لان أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ولغتهم الربو، فعلموهم الخط على صورة لغتهم، قال: وكذا قرأه أبو سماك العدوي بالواو، وقرأه حمزة والكسائي بالامالة بسبب كسرة الراء، وقرأه الباقون بالتفخيم لفتحة الباء، قال: ويجوز كتبه بالالف والواو والياء اه. وتثنيته ربوان، وأجاز الكوفيون كتابة تثنيته بالياء بسبب الكسر في أوله وغلطهم البصريون. قال في الفتح: وأصل الزيادة إما في نفس الشئ كقوله تعالى: * (اهتزت وربت) * (سورة الحج، الآية: 5) وإما في مقابلة كدرهم بدرهمين فقيل: هو
[ 296 ]
حقيقة فيهما. وقيل: حقيقة في الاول مجاز في الثاني زاد ابن سريج: إنه في الثاني حقيقة شرعية، ويطلق الربا على كل مبيع محرم اه. ولا خلاف بين المسلمين في تحريم الربا وإن اختلفوا في تفاصيله. باب التشديد فيه عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه رواه الخمسة وصححه الترمذي، غير أن لفظ النسائي: آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة. وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية رواه أحمد. حديث ابن مسعود أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه، وأخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهديه هم سواء. وفي الباب عن علي عليه السلام عند النسائي، وعن أبي جحفة تقدم في أول البيع وحديث عبد الله بن حنظلة، وأخرجه أيضا الطبراني في الاوسط والكبير، قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح، ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ: الربا اثنان وستون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه وحديث أبي هريرة عند البيهقي بلفظ الربا سبعون بابا أدناها الذي يقع على أمه. وأخرجه عنه جرير نحوه وكذلك أخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا، وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه بلفظ: الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم. قوله: آكل الربا بمد الهمزة ومؤكله بسكون الهمزة بعد الميم، ويجوز إبدالها واوا، أي ولعن مطعمه غيره، وسمي آخذ المال آكلا ودافعه مؤكلا، لان المقصود منه الاكل وهو أعظم منافعه، وسببه إتلاف أكثر الاشياء. قوله: وشاهديه رواية أبي داود بالافراد، والبيهقي وشاهديه أو شاهده. قوله: وكاتبه فيه دليل على تحريم كتابة الربا إذا علم ذلك، وكذلك الشاهد لا يحرم عليه
[ 297 ]
الشهادة إلا مع العلم، فأما من كتب أو شهد غير عالم فلا يدخل في الوعيد (ومن جملة) ما يدل على تحريم كتابة الربا وشهادته وتحليل الشهادة والكتابة في غيره قوله تعالى: * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * (سورة البقرة، الآية: 282) وقوله تعالى: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * (سورة البقرة، الآية: 282) فأمر بالكتابة والاشهاد فيما أحله، وفهم منه تحريمهما فيما حرمه. قوله: أشد من ست وثلاثين الخ، يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي، لان المعصية التي تعدل معصية الزنا التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور بل أشد منها لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح، وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم، ولهذا جعلها الشارع أربى الربا، وبعد الرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة ولا تزيد في ماله ولا جاهه، فيكون إثمه عند الله أشد من إثم من زنى ستا وثلاثين زنية، هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل، نسأل الله تعالى السلامة آمين آمين. باب ما يجري فيه الربا عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منهما غائبا بناجز متفق عليه. وفي لفظ: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء رواه أحمد والبخاري. وفي لفظ: لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء رواه أحمد ومسلم. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه رواه مسلم. وعن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن رواه مسلم والنسائي وأبو داود.
[ 298 ]
قوله: الذهب بالذهب يدخل في الذهب جميع أنواعه من مضروب ومنقوش، وجيد وردئ، وصحيح ومكسر، وحلي وتبر، وخالص ومغشوش. وقد نقل النووي وغيره الاجماع على ذلك. قوله: إلا مثلا بمثل هو مصدر في موضع الحال، أي الذهب يباع بالذهب موزونا بموزون، أو مصدر مؤكد أي يوزن وزنا بوزن. وقد جمع بين المثل والوزن في رواية مسلم المذكورة. قوله: ولا تشفوا بضم أوله وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء رباعي من أشف، والشف بالكسر الزيادة ويطلق على النقص والمراد هنا لا تفضلوا. قوله: بناجز بالنون والجيم والزاي أي لا تبيعوا مؤجلا بحال. ويحتمل أن يراد بالغائب أعم من المؤجل كالغائب عن المجلس مطلقا، مؤجلا كان أو حالا، والناجز الحاضر. قوله: والفضة بالفضة يدخل في ذلك جميع أنواع الفضة كما سلف في الذهب. قوله: والبر بالبر بضم الباء وهو الحنطة والشعير بفتح أوله ويجوز الكسر وهو معروف، وفيه رد على من قال: إن الحنطة والشعير صنف واحد، وهو مالك والليث والاوزاعي، وتمسكوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الطعام بالطعام كما سيأتي، ويأتي الكلام على ذلك. قوله: فمن زاد الخ، فيه التصريح بتحريم ربا الفضل وهو مذهب الجمهور للاحاديث الكثيرة في الباب وغيرها فإنها قاضية بتحريم بيع هذه الاجناس بعضها ببعض متفاضلا. وروي عن ابن عمر أنه يجوز ربا الفضل ثم رجع عن ذلك. وكذلك روي عن ابن عباس واختلف في رجوعه فروى الحاكم أنه رجع عن ذلك لما ذكر له أبو سعيد حديثه الذي في الباب واستغفر الله وكان ينهي عنه أشد النهي. وروي مثل قولهما عن أسامة بن زيد وابن الزبير وزيد بن أرقم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، واستدلوا على جواز ربا الفضل بحديث أسامة عند الشيخين وغيرهما بلفظ: إنما الربا في النسيئة زاد مسلم في رواية عن ابن عباس: لا ربا فيما كان يدا بيد وأخرج الشيخان والنسائي عن أبي المنهال قال: سألت زيد بن أرقم والبراء بن عازب عن الصرف فقالا: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا وأخرج مسلم عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف فقال: إلا يدا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس، فأخبرت أبا سعيد فقال أو قال ذلك إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه وله من وجه آخر عن أبي نضرة: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، وأني لقاعد عند أبي سعيد فسألته عن الصرف فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك لقولهما، فذكر الحديث قال: فحدثني
[ 299 ]
أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه فكرهه. قال في الفتح: واتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد. فقيل: إن حديث أسامة منسوخ لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وقيل: المعنى في قوله: لا ربا الربا الاغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الاكمل لا نفي الاصل، وأيضا نفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد لان دلالته بالمنطوق، ويحمل حديث أسامة على الربا الاكبر اه. ويمكن الجمع أيضا بأن يقال: مفهوم حديث أسامة عام لانه يدل على نفي ربا الفضل عن كل شئ، سواء كان من الاجناس المذكورة في أحاديث الباب أم لا، فهو أعم منها مطلقا، فيخصص هذا المفهوم بمنطوقها. وأما ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه لا ربا فيما كان يدا بيد كما تقدم فليس ذلك مرويا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تكون دلالته على نفي ربا الفضل منطوقه، ولو كان مرفوعا لما رجع ابن عباس واستغفر لما حدثه أبو سعيد بذلك كما تقدم وقد روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عند أن سمع عمر بن الخطاب وابنه عبد الله يحدثان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يدل على تحريم ربا الفضل وقال: حفظتما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم أحفظ وروى عنه الحازمي أيضا أنه قال: كان ذلك برأيي، وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتركت رأيي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى تسليم أن ذلك الذي قاله ابن عباس مرفوع فهو عام مخصص بأحاديث الباب لانها أخص منه مطلقا. وأيضا الاحاديث القاضية بتحريم ربا الفضل ثابتة عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما. قال الترمذي بعد أن ذكر حديث أبي سعيد: وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبي هريرة وهشام بن عامر والبراء وزيد بن أرقم وفضالة بن عبيد وأبي بكرة وابن عمر وأبي الدرداء وبلال اه. وقد ذكر المصنف بعض ذلك في كتابه هذا، وأخرج الحافظ في التلخيص بعضها، فلو فرض معارضة حديث أسامة لها من جميع الوجوه وعدم إمكان الجمع أو الترجيح بما سلف لكان الثابت عن الجماعة أرجح من الثابت عن الواحد. قوله: ولا الورق بالورق بفتح الواو وكسر الراء وبإسكانها على
[ 300 ]
المشهور ويجوز فتحهما، كذا في الفتح وهو الفضة، وقيل: بكسر الواو المضروبة وبفتحها المال. والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة. قوله: إلا وزنا بوزن، مثلا بمثل، سواء بسواء الجمع بين هذه الالفاظ لقصد التأكيد أو للمبالغة. قوله: إلا ما اختلفت ألوانه المراد أنهما اختلفا في اللون اختلافا يصير به كل واحد منهما جنسا غير جنس مقابله، فمعناه معنى ما سيأتي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا اختلفت هذه الاصناف فبيعوا كيف شئتم وسنذكر إن شاء الله ما يستفاد منه. وعن أبي بكرة قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا أخرجاه، وفيه دليل على جواز الذهب بالفضة مجازفة. وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء متفق عليه. وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الاصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد رواه أحمد ومسلم وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه وفي آخره: وأمرنا أن نبيع البر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد كيف شئنا وهو صريح في كون البر والشعير جنسين. وعن معمر بن عبد الله قال: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الطعام بالطعام مثلا بمثل، وكان طعامنا يومئذ الشعير رواه أحمد ومسلم. وعن الحسن عن عبادة وأنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان فلا بأس به رواه الدارقطني. حديث أنس وعبادة أشار إليه في التلخيص ولم يتكلم عليه وفي إسناده الربيع بن صبيح، وثقه أبو زرعة وغيره وضعفه جماعة. وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضا، ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا وغيره من الاحاديث. قوله: كيف شئنا هذا الاطلاق مقيد بما في حديث عبادة من قوله: إذا كان يدا بيد فلا
[ 301 ]
يد في بيع بعض الربويات ببعض من التقابض ولا سيما في الصرف، وهو بيع الدراهم بالذهب وعكسه فإنه متفق على اشتراطه. وظاهر هذا الاطلاق والتفويض إلى المشيئة أنه يجوز بيع الذهب بالفضة والعكس، وكذلك سائر الاجناس الربوية إذا بيع بعضها ببعض من غير تقييد بصفة من الصفات غير صفة القبض، ويدخل في ذلك بيع الجزاف وغيره. قوله: إلا هاء وهاء بالمد فيهما وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل: بالسكون، وحكي القصر بغير همز، وخطأها الخطابي، ورد عليه النووي وقال: هي صحيحة لكن قليلة والمعنى: خذ وهات، وحكي بزيادة كاف مكسورة، ويقال هاء بكسر الهمزة بمعنى هات، وبفتحها بمعنى خذ. وقال ابن الاثير: هاء هاء هو أن يقول كل واحد من البيعين هاء فيعطيه ما في يده، وقيل معناهما خذ وأعط، قال: وغير الخطابي يجيز فيه السكون. وقال ابن مالك: هاء اسم فعل بمعنى خذ. وقال الخليل: هاء كلمة تستعمل عند المناولة، والمقصود من قوله هاء وهاء أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه هاء فيتقابضان في المجلس، قال: فالتقدير لا تبيعوا الذهب بالورق إلا مقولا بين المتعاقدين هاء وهاء. قوله: فإذا اختلفت هذه الاصناف الخ ظاهر هذا أنه لا يجوز بيع جنس ربوي بجنس آخر إلا مع القبض، ولا يجوز مؤجلا ولو اختلفا في الجنس والتقدير كالحنطة والشعير بالذهب والفضة، وقيل: يجوز مع الاختلاف المذكور، وإنما يشترط التقابض في الشيئين المختلفين جنسا المتفقين تقديرا كالفضة بالذهب والبر بالشعير، إذ لا يعقل التفاضل والاستواء إلا فيما كان كذلك، ويجاب بأن مثل هذا لا يصلح لتخصيص النصوص وتقييدها، وكون التفاضل والاستواء لا يعقل في المختلفين جنسا وتقديرا ممنوع، والسند أن التفاضل معقول لو كان الطعام يوزن أو النقود تكال ولو في بعض الازمان والبلدان، ثم إنه قد يبلغ ثمن الطعام إلى مقدار من الدراهم كثير عند شدة الغلاء، بحيث يعقل أن يقال: الطعام أكثر من الدراهم وما المانع من ذلك؟ وأما الاستدلال على جواز ذلك بحديث عائشة عند البخاري ومسلم وغيرهما قالت: اشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يهودي طعاما بنسيئة وأعطاه درعا له رهنا فلا يخفى أن غاية ما فيه أن يكون مخصصا للنص المذكور لصورة الرهن، فيجوز في هذه الصورة لا في غيرها لعدم صحة إلحاق ما لا عوض فيه عن الثمن بما فيه عوض عنه وهو الرهن، نعم إن صح الاجماع الذي حكاه المغربي في شرح بلوغ المرام فإنه قال: وأجمع العلماء على
[ 302 ]
جواز بيع الربوي بربوي، لا يشاركه في العلة متفاضلا أو مؤجلا، كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل اه. كان ذلك هو الدليل على الجواز عند من كان يرى حجية الاجماع، وأما إذا كان الربوي يشارك مقابله في العلة فإن كان بيع الذهب بالفضة أو العكس فقد تقدم أنه يشترط التقابض إجماعا إن كان في غير ذلك من الاجناس، كبيع البر بالشعير أو بالتمر أو العكس، فظاهر الحديث عدم الجواز، وإليه ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن علية: لا يشترط والحديث يرد عليه. وقد تمسك مالك بقوله: إلا يدا بيد وبقوله الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، على أنه يشترط القبض في الصرف عند الايجاب بالكلام، ولا يجوز التراخي ولو كان في المجلس. وقال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: أن المعتبر التقابض في المجلس وإن تراخى عن الايجاب، والظاهر الاول، ولكنه أخرج عبد الرزاق وأحمد وابماجه عن ابن عمر: أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اشتر الذهب بالفضة فإذا أخذت واحدا منهما فلا تفارق صاحبك وبينكما لبس فيمكن أن يقال: إهذه الرواية تدل على اعتبار المجلس. قوله: أن يبيع البر بالشعير الخ فيه كما قال المصنف: تصريح بأن البر والشعير جنسان وهو مذهب الجمهور، وحكي عن مالك والليث والاوزاعي كما تقدم أنهما جنس واحد، وبه قال معظم علماء المدينة، وهو محكي عن عمر وسعد وغيرهما من السلف، وتمسكوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الطعام بالطعام كما في حديث معمر بن عبد الله المذكور، ويجاب عنه بما في آخر الحديث من قوله: وكان طعامنا يومئذ الشعير فإنه في حكم التقييد لهذا المطلق، وأيضا التصريح بجواز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا كما في حديث عبادة، وكذلك عطف أحدهما على الآخر كما في غيره من أحاديث الباب مما لا يبقى معه ارتياب في أنهما جنسان (واعلم) أنه قد اختلف هل يلحق بهذه الاجناس المذكورة في الاحاديث غيرها فيكون حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء مع الاتفاق في الجنس، وتحريم النساء فقط مع الاختلاف في الجنس والاتفاق في العلة؟ فقالت الظاهرية: إنه لا يلحق بها غيرها في ذلك. وذهب من عداهم من العلماء إلى أنه يلحق بها ما يشاركها في العلة، ثم اختلفوا في العلة ما هي؟ فقال الشافعي: هي الاتفاق في الجنس والطعم فيما عدا النقدين، وأما هما فلا يلحق بهما غيرهما من الموزونات، واستدل على اعتبار الطعم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الطعام بالطعام
[ 303 ]
وقال مالك في النقدين كقول الشافعي: وفي غيرهما العلة الجنس والتقدير والاقتيات. وقال ربيعة: بل اتفاق الجنس ووجوب الزكاة. وقالت العترة جميعا: بل العلة في جميعها اتفاق الجنس، والتقدير بالكيل والوزن، واستدلوا على ذلك بذكره صلى الله عليه وآله وسلم للكيل والوزن في أحاديث الباب. ويدل على ذلك أيضا حديث أنس المذكور، فإنه حكم فيه على كل موزون مع اتحاد نوعه وعلى كل مكيل كذلك، بأنه مثل بمثل، فأشعر بأن الاتفاق في أحدهما مع اتحاد النوع موجب لتحريم التفاضل بعموم النص لا بالقياس، وبه يرد على الظاهرية لانهم إنما منعوا من الالحاق لنفيهم للقياس. ومما يؤيد ذلك ما سيأتي في حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الميزان مثل ما قال في المكيل، على ما سيبينه المصنف إن شاء الله تعالى، وإلى مثل ما ذهبت إليه العترة ذهب أبو حنيفة وأصحابه، كما حكى ذلك عنه المهدي في البحر، وحكى عنه أنه يقول: العلة في الذهب الوزن، وفي الاربعة الباقية كونها مطعونة موزونة أو مكيلة (والحاصل) أنه قد وقع الاتفاق بين من عدا الظاهرية بأن جزء العلة الاتفاق في الجنس، واختلفوا في تعيين الجزء الآخر على تلك الاقوال، ولم يعتبر أحد منهم العدد جزءا من العلة مع اعتبار الشارع له، كما في رواية من حديث أبي سعيد: ولا درهمين بدرهم وفي حديث عثمان عند مسلم لا تبيعوا الدينار بالدينارين. وعن أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا. وقال في الميزان مثل ذلك رواه البخاري. الحديث أخرجه أيضا مسلم. قوله: رجلا صرح أبو عوانة والدارقطني أن اسمه سواد بن غزية بمعجمة فزاي فياء مشددة كعطية. قوله: جنيب بفتح الجيم وكسر النون وسكون التحتية وآخره موحدة، اختلف في تفسيره فقيل: هو الطيب، وقيل: الصلب. وقيل: ما أخرج منه حشفه ورديئه، وقيل: ما لا يختلط بغيره. وقال في القاموس: أن الجنيب تمرجيد. قوله: بع الجمع بفتح الجيم وسكون الميم قال في الفتح: هو التمر المختلط بغيره. وقال في القاموس: هو الدقل أو صنف من التمر (والحديث) يدل على أنه لا يجوز
[ 304 ]
بيع ردئ الجنس بجيده متفاضلا، وهذا أمر مجمع عليه لا خلاف بين أهل العلم فيه، وأما سكوت الرواة عن فسخ البيع المذكور فلا يدل على عدم الوقوع إما ذهولا وإما اكتفاء بأن ذلك معلوم. وقد ورد في بعض طرق الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: هذا هو الربا فرده، كما نبه على ذلك في الفتح. وقد استدل أيضا بهذا الحديث على جواز بيع العينة لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يشتري بثمن الجمع جنيبا، ويمكن أن يكون بائع الجنيب منه هو الذي اشترى منه الجمع، فيكون قد عادت إليه الدراهم التي هي عين ماله، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره بأن يشتري الجنيب من غير من باع منه الجمع، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم. قال في الفتح: وتعقب بأنه مطلق والمطلق لا يشمل، فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به في غيرها، فلا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باع منه تلك السلعة بعينها انتهى. وسيأتي الكلام على بيع العينة. قوله: وقال في الميزان مثل ذلك أي مثل ما قال في المكيل من أنه لا يجوز بيع بعض الجنس منه ببعضه متفاضلا، وإن اختلفا في الجودة والرداءة، بل يباع رديئه بالدراهم ثم يشترى بهذا الجيد، والمراد بالميزان هنا الموزون. قال المصنف رحمه الله: وهو حجة في جريان الربا في الموزونات كلها لان قوله في الميزان أي في الموزون وإلا فنفس الميزان ليست من أموال الربا انتهى. باب في أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر رواه مسلم والنسائي، وهو يدل بمفهومه على أنه لو باعها بجنس غير التمر لجاز. قوله: الصبرة قال في القاموس: والصبرة بالضم ما جمع من الطعام بلا كيل ووزن انتهى. قوله: لا يعلم كيلها صفة كاشفة للصبرة لانه لا يقال لها صبرة إلا إذا كانت مجهولة الكيل (والحديث) فيه دليل على أنه لا يجوز أن يباع جنس بجنسه وأحدهما مجهول المقدار، لان العلم بالتساوي مع الاتفاق في الجنس شرط لا يجوز البيع بدونه، ولا شك أن الجهل بكلا البدلين أو بأحدهما فقط مظنة للزيادة والنقصان،
[ 305 ]
وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه، وتجنب هذه المظنة إنما يكون بكيل المكيل ووزن الموزون من كل واحد من البدلين. باب من باع ذهبا وغيره بذهب عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لا يباع حتى يفصل رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه. وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا حتى تميز بينه وبينه، فقال: إنما أردت الحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا حتى تميز بينهما، قال: فرده حتى ميز بينهما رواه أبو داود. الحديث قال في التلخيص: له عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا في بعضها قلادة فيها خرز وذهب. وفي بعضها ذهب وجوهر. وفي بعضها خرز وذهب. وفي بعضها خرز معلقة بذهب. وفي بعضها باثني عشر دينارا. وفي بعضها بتسعة دنانير. وفي أخرى بسبعة دنانير. وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة. قال الحافظ: والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحال ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذ ينبغي الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقات، فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم، فيكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة انتهى. وبعض هذه الروايات التي ذكرها الطبراني في صحيح مسلم وسنن أبي داود. قوله: ففصلتها بتشديد الصاد. (الحديث) استدل به على أنه لا يجوز بيع الذهب مع غيره بذهب حتى يفصل من ذلك الغير ويميز عنه ليعرف مقدار الذهب المتصل بغيره، ومثله الفضة مع غيرها بفضة، وكذلك سائر الاجناس الربوية لاتحادها في العلة وهي تحريم بيع الجنس بجنسه متفاضلا. ومما يرشد إلى استواء الاجناس الربوية في هذا ما تقدم من النهي
[ 306 ]
عن بيع الصبرة من التمر بالكيل المسمى من التمر. وكذلك نهيه عن بيع التمر بالرطب خرصا لعدم التمكن من معرفة التساوي على التحقيق، وكذلك في مثل مسألة القلادة يتعذر الوقوف على التساوي من دون فصل، ولا يكفي مجرد الفصل، بل لا بد من معرفة مقدار المفصول والمقابل له من جنسه. وإلى العمل بظاهر الحديث ذهب عمر بن الخطاب وجماعة من السلف والشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحكم المالكي. وقالت الحنفية والثوري والحسن بن صالح والعترة أنه يجوز إذا كان الذهب المنفرد أكثر من الذي في القلادة ونحوها لا مثله ولا دونه. وقال مالك: يجوز إذا كان الذهب تابعا لغيره بأن يكون الثلث فما دون. وقال حماد بن أبي سليمان: إنه يجوز بيع الذهب مع غيره بالذهب مطلقا، سواء كان المنفصل مثل المتصل أو أقل أو أكثر، واعتذرت الحنفية ومن قال بقولهم عن الحديث بأن الذهب كان أكثر من المنفصل، واستدلوا بقوله: ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، والثمن إما سبعة أو تسعة، وأكثر ما روي أنه اثنا عشر. وأجيب عن ذلك بما تقدم عن البيهقي من أن القصة التي شهدها فضالة كانت متعددة، فلا يصح التمسك بما وقع في بعضها وإهدار البعض الآخر، وأجيب أيضا بأن العلة هي عدم الفصل، وظاهر ذلك عدم الفرق بين المساوي والاقل والاكثر والغنيمة وغيرها، وبهذا يجاب عن الخطابي حيث قال: إن سبب النهي كون تلك القلادة كانت من الغنائم مخافة أن يقع المسلمون في بيعها، وقد أجاب الطحاوي عن الحديث بأنه مضطرب. قال السبكي: وليس ذلك باضطراب قادح، ولا ترد الاحاديث الصحيحة بمثل ذلك انتهى. وقد عرفت مما تقدم أنه لا اضطراب في محل الحجة، والاضطراب في غيره لا يقدح فيه، وبهذا يجاب أيضا على ما قاله مالك. وأما ما ذهب إليه حماد بن أبي سليمان فمردود بالحديث على جميع التقادير، ولعله يعتذر عنه بمثل ما قال الخطابي أو لم يبلغه. قوله: حتى تميز بضم تاء المخاطب في أوله وتشديد الياء المسكورة بعد الميم. قوله: إنما أردت الحجارة يعني الخرز الذي في القلادة ولم أرد الذهب.
[ 307 ]
باب مرد الكيل والوزن عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة رواه أبو داود والنسائي. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه أيضا البزار، وصححه ابن حبان والدار قطني. وفي رواية لابي داود عن ابن عباس مكان ابن عمر. قوله: المكيال مكيال أهل المدينة الخ، فيه دليل على أنه يرجع عند الاختلاف في الكيل إلى مكيال المدينة، وعند الاختلاف في الوزن إلى ميزان مكة. أما مقدار ميزان مكة فقال ابن حزم: بحثت غاية البحث عن كل من وثقت بتمييزه فوجدت كلا يقول: إن دينار الذهب بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة بالحب من الشعير، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم سبع وخمسون حبة وستة أعشار حبة وعشر عشر حبة، فالرطل مائة وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور، وأما مكيال المدينة فقد قدمنا تحقيقه في الفطرة. ووقع في رواية لابي داود من طريق الوليد بن مسلم عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي قال: وزن المدينة ومكيال مكة، والرواية المذكورة في الباب من طريق سفيان الثوري عن حنظلة عن طاوس عن ابن عمر وهي أصح. وأما الرواية التي ذكرها أبو داود عن ابن عباس فرواها أيضا للدارقطني من طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان عن حنظلة عن طاوس عن ابن عباس، ورواه من طريق أبي نعيم عن الثوري عن حنظلة عن سالم بدل طاوس عن ابن عباس، قال الدارقطني: أخطأ أبو أحمد فيه. باب النهي عن بيع كل رطب من حب أو تمر بيابسه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المزابنة أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله متفق عليه. ولمسلم في رواية وعن كل تمر بخرصه. وعن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن
[ 308 ]
اشتراء التمر بالرطب فقال لمن حوله: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك رواه الخمسة وصححه الترمذي. حديث سعد أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححوه، وصححه أيضا ابن المديني، وأخرجه الدارقطني والبيهقي، وقد أعله جماعة منهم الطحاوي والطبري وابن حزم وعبد الحق بأن في إسناده زيدا أبا عياش وهو مجهول. قال في التلخيص: والجواب أن الدارقطني قال: إنه ثقة ثبت. وقال المنذري: وقد روى عنه ثقات، واعتمده مالك مع شدة نقده. وقال الحاكم: لا أعلم أحدا طعن فيه. قوله: عن المزابنة قد تقدم ضبطها في باب النهي عن بيع التمر قبل بدو صلاحه. قوله: ثمر حائطه بالمثلثة وفتح الميم، قال في الفتح: والمراد به الرطب خاصة. قوله: بتمر كيلا بالمثناة من فوق وسكون الميم والمراد بالكرم العنب، قال في الفتح: وهذا أصل المزابنة، وألحق الجمهور بذلك كل بيع بمجهول أو بمعلوم من جنس يجري فيه الربا. قال: فأما من قال: أضمن لك صبرتك هذه بعشرين صاعا مثلا فما زاد فلي وما نقص فعلي فهو من القمار وليس من المزابنة، وتعقبه الحافظ بأنه قد ثبت في البخاري عن ابن عمر تفسير المزابنة ببيع التمر بكيل إن زاد فلي وإن نقص فعلي قال: فثبت أن من صور المزابنة هذه الصورة من القمار، ولا يلزم من كونها قمارا أن لا تسمى مزابنة. قال: ومن صور المزابنة بيع الزرع بالحنطة بما أخرجه مسلم في تفسير المزابنة عن نافع بلفظ: المزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا، وبيع العنب بالزبيب كيلا، وبيع الزرع بالحنطة كيلا. وقد أخرج هذا الحديث البخاري كما ذكره المصنف ههنا ولم ينفرد به مسلم، وقد قدمنا مثل هذا في باب النهي عن بيع التمر قبل بدو صلاحه، وقدمنا أيضا ما فسر به مالك المزابنة. قوله: أينقص الاستفهام ههنا ليس المراد به حقيقته أعني طلب الفهم، لانه صلى الله عليه وآله وسلم كان عالما بأنه ينقص إذا يبس، بل المراد تنبيه السامع بأن هذا الوصف الذي وقع عنه الاستفهام هو علة النهي، ومن المشعرات بذلك الفاء في قوله: فنهى عن ذلك، ويستفاد من هذا عدم جواز بيع الرطب بالرطب لان نقص كل واحد منهما لا يحصل العلم بأنه مثل نقص الآخر، وما كان كذلك فهو مظنة للربا. وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وجمهور أصحابه وعبد الملك بن الماجشون وأبو حفص العكبري من الحنابلة، وذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه
[ 309 ]
والمزني والروياني من أصحاب الشافعي إلى أنه يجوز. قال ابن المنذر: إن العلماء اتفقوا على جواز ذلك إلا الشافعي، ويدل على عدم الجواز أن الاسماعيلي في مستخرجه على البخاري روى حديث ابن عمر بلفظ: نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الثمرة بالثمرة وذلك يشمل بيع الرطب بالرطب. باب الرخصة في بيع العرايا عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم رواه أحمد والبخاري والترمذي وزاد فيه: وعن بيع العنب بالزبيب وعن كل ثمر بخرصه. وعن سهل بن أبي حثمة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرايا أن يشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبا متفق عليه. وفي لفظ: عن بيع الثمر بالتمر وقال ذلك الربا تلك المزابنة، إلا أنه رخص في بيع العرية النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا متفق عليه. وعن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حين أذن لاهل العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول: الوسق والوسقين والثلاثة والاربعة رواه أحمد. وعن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا رواه أحمد والبخاري. وفي لفظ: رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا متفق عليه. وفي لفظ آخر: رخص في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك أخرجاه. وفي لفظ: بالتمر وبالرطب رواه أبو داود. حديث جابر أخرجه أيضا الشافعي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وفي الباب عن أبي هريرة عند الشيخين: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق. قوله: بيع الثمر بالتمر الاول بالمثلثة وفتح الميم والثاني بالمثناة الفوقية وسكون الميم، والمراد بالاول ثمر النخلة، وقد صرح بذلك مسلم في رواية فقال: ثمر النخلة وليس
[ 310 ]
المراد الثمر من غير النخل لانه يجوز بيعه بالتمر بالمثناة والسكون. قوله: إلا أصحاب العرايا جمع عرية، قال في الفتح: وهي في الاصل عطية ثمر النخل دون الرقبة، كانت العرب في الجدب تتطوع بذلك على من لا ثمر له، كما يتطوع صاحب الشاة أو الابل بالمنيحة وهي عطية اللبن دون الرقبة، ويقال: عريت النخلة بفتح العين وكسر الراء تعرى إذا أفردت عن حكم أخواتها بأن أعطاها المالك فقيرا، قال مالك: العرية أن يعري الرجل الرجل النخلة أي يهبها له أو يهب له ثمرها ثم يتأذى بدخوله عليه، ويرخص الموهوب له للواهب أن يشتري رطبها منه بتمر يابس، هكذا علقه البخاري عن مالك، ووصله ابن عبد البر من رواية ابن وهب. وروى الطحاوي عن مالك أن العرية النخلة للرجل في حائط غير فيكره صاحب النخل الكثير دخول الآخر عليه فيقول: أنا أعطيك بخرص نخلة تمرا فيرخص له في ذلك، فشرط العرية عند مالك أن يكون لاجل التضرر من المالك بدخول غيره إلى حائطه، أو لدفع الضرر عن الآخر لقيام صاحب النخل بما يحتاج إليه. وقال الشافعي في الام وحكاه عنه البيهقي: أن العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة بخرصه من التمر بشرط التقابض في الحال، واشترط مالك أن يكون التمر مؤجلا. وقال ابن إسحاق في حديثه عن ابن عمر عند أبي داود والبخاري تعليقا: أن يعري الرجل الرجل أي يهب له في ماله النخلة والنخلتين فيشق عليه أن يقوم عليها فيبيعها بمثل خرصها. وأخرج الامام أحمد عن سفيان بن حسين أن العريا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها، فرخص لهم أن يبيعوها بما شاؤوا من التمر. وقال يحيى بن سعيد الانصاري: العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا. قال القرطبي: كأن الشافعي اعتمد في تفسير العرية على قول يحيى بن سعيد. وأخرج أبو داود عن عبد ربه بن سعيد الانصاري وهو أخو يحيى المذكور أنه قال: العرية الرجل يعري الرجل النخلة، أو الرجل يستثني من ماله النخلة يأكلها رطبا فيبيعها تمرا، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن وكيع قال: سمعنا في تفسير العرية أنها النخلة يعريها الرجل للرجل ويشتريها في بستان الرجل. وقال في القاموس: وأعراه النخلة وهبة ثمرة عامها، والعرية النخلة المعراة والتي أكل ما عليها. وقال الجوهري: هي النخلة التي يعريها صاحبها رجلا محتاجا بأن يجعل له ثمرها عاما من عراه إذا
[ 311 ]
قصده. قال في الفتح: صور العرية كثيرة. منها: أن يقول رجل لصاحب النخل: يعني ثمر نخلات بأعيانها بخرصها من التمر فيخرصها ويبيعها ويقبض منه التمر ويسلم له النخلات بالتخلية فينتفع برطبها. ومنها: أن يهب صاحب الحائط لرجل نخلات أو ثمر نخلات معلومة من حائطه ثم يتضرر بدخوله عليه فيخرصها ويشتري رطبها بقدر خرصه بتمر معجل. ومنها: أن يهبه إياها فيتضرر الموهوب له بانتظار صيرورة الرطب تمرا، ولا يجب أكلها رطبا لاحتياجه إلى التمر، فيبيع ذلك الرطب بخرصه من الواهب أو من غيره بتمر يأخذه معجلا. ومنها: أن يبيع الرجل ثمر حائطه بعد بدو صلاحه، ويستثني منه نخلات معلومة يبقيها لنفسه أو لعياله، وهي التي عفى له عن خرصها في الصدقة وسميت عرايا لانها أعريت عن أن تخرص في الصدقة، فرخص لاهل الحاجة الذين لا نقدلهم وعندهم فضول من تمر قوتهم أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها، ومما يطلق عليه اسم العرية أن يعري رجلا ثمر نخلات يبيح له أكلها والتصرف فيها وهذه هبة محضة. ومنها: أن يعري عامل الصدقة لصاحب الحائط من حائطه نخلات معلومة لا يخرصها في الصدقة، وهاتان الصورتان من العرايا لا بيع فيهما، وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعي والجمهور، وقصر مالك العرية في البيع على الصورة الثانية. وقصرها أبو عبيد على الصورة الاخيرة من صور البيع، وأراد به رخص لهم أن يأكلوا الرطب ولا يشترونه لتجارة ولا ادخار، ومنع أبو حنيفة صور البيع كلها وقصر العرية على الهبة، وهي أن يعري الرجل الرجل ثمر نخلة من نخله ولا يسلم ذلك ثم يبدو له أن يرتجع تلك الهبة، فرخص له أن يحتبس ذلك ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب بخرصه تمرا، وحمله على ذلك أخذه بعموم النهي عن بيع الثمر بالتمر، وتعقب بالتصريح باستثناء العرايا في الاحاديث. قال ابن المنذر: الذي رخص في العرية هو الذي نهى عن بيع الثمر بالتمر في لفظ واحد من رواية جماعة من الصحابة. قال: ونظير ذلك الاذن في السلم مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تبع ما ليس عندك قال: ولو كان المراد الهبة لما استثنيت العرية من البيع، ولانه عبر بالرخصة، والرخصة لا تكون إلا في شئ ممنوع، والمنع إنما كان في البيع لا الهبة وبأنها قيدت بخمسة أوسق، والهبة لا تتقيد. وقد احتج أصحاب أبي حنيفة لمذهبه بأشياء تدل
[ 312 ]
على أن العرية العطية، ولا حجة في شئ منه، لانه لا يلزم من كون أصل العرية العطية أن لا تطلق شرعا على صور أخرى. وقالت الهادوية وهو وجه في مذهب الشافعي: أن رخصة العرايا مختصة بالمحاويج الذين لا يجدون رطبا، فيجوز لهم أن يشتروا منه بخرصه تمرا، واستدلوا بما أخرجه الشافعي في مختلف الحديث عن زيد بن ثابت أنه سمى رجالا محتاجين من الانصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا ويأكلون مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر، ويجاب عن دعوى اختصاص العرايا بهذه الصورة، أما أولا فبالقدح في هذا الحديث فإنه أنكره محمد بن داود الظاهري على الشافعي، وقال ابن حزم: لم يذكر الشافعي له إسنادا فبطل. وأما ثانيا فعلى تسليم صحته لا منافاة بينه وبين الاحاديث الدالة على أن العرية أعم من الصورة التي اشتمل عليها. (والحاصل) أن كل صورة من صور العرايا ورد بها حديث صحيح أو ثبتت عن أهل الشرع أو أهل اللغة فهي جائزة لدخولها تحت مطلق الاذن، والتنصيص في بعض الاحاديث على بعض الصور لا ينافي ما ثبت في غيره. قوله: بخرصه بفتح الخاء المعجمة، وأشار ابن التين إلى جواز كسرها، وجزم ابن العربي بالكسر وأنكر الفتح، وجوزهما النووي وقال: الفتح أشهر قال: ومعناه بقدر ما فيه إذا صار تمرا، فمن فتح قال: هو اسم الفعل، ومن كسر قال: هو اسم للشئ المخروص قال في الفتح: والخرص هو التخمين والحدس. قوله: يقول الوسق والوسقين الخ، استدل بهذا من قال: إنه لا يجوز في بيع العرايا إلا دون خمسة أوسق وهم الشافعية والحنابلة وأهل الظاهر، قالوا: لان الاصل التحريم، وبيع العرايا رخصة، فيؤخذ بما يتحقق فيه الجواز ويلقي ما وقع فيه الشك، ولكن مقتضى الاستدلال بهذا الحديث أن لا يجوز مجاوزة الاربعة الاوسق، مع أنهم يجوزونها إلى دون الخمسة بمقدار يسير. والذي يدل على ما ذهبوا إليه حديث أبي هريرة الذي ذكرناه لقوله فيه: فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق، فيلقي الشك وهو الخمسة، ويعمل بالمتيقن وهو ما دونها، وقد حكى هذا القول صاحب البحر عن أبي حنيفة ومالك والقاسم وأبي العباس، وقد عرفت ما سلف من تحقيق مذهب أبي حنيفة في العرايا. وحكي في الفتح أن الراجح عند المالكية الجواز في الخمسة عملا برواية الشك،
[ 313 ]
واحتج لهم بقول سهل بن أبي حثمة: إن العرية ثلاثة أوسق أو أربعة أو خمسة. قال في الفتح: ولا حجة فيه لانه موقوف. وحكى الماوردي عن ابن المنذر أنه ذهب إلى تحديد ذلك بالاربعة الاوسق، وتعقبه الحافظ بأن ذلك لم يوجد في شئ من كتب ابن المنذر. وقد حكى هذا المذهب ابن عبد البر عن قوم وهو ذهاب إلى ما فيه حديث جابر من الاقتصار على الاربعة، وقد ترجم عليه ابن حبان الاحتياط لا يزيد على أربعة أوسق. قال الحافظ: وهذا الذي قاله يتعين المصير إليه، وأما جعله حدا لا يجوز تجاوزه فليس بالواضح اه. وذلك لان دون الخمسة المذكورة في حديث أبي هريرة يقضي بجواز الزيادة على الاربعة، إلا أن يجعل الدون مجملا مبينا بالاربعة كان واضحا، ولكنه لا يخفى أنه لا إجمال في قوله: دون خمسة أوسق لانها تتناول ما صدق عليه الدون لغة، وما كان كذلك لا يقال له مجمل، ومفهوم العدد في الاربعة لا يعارض المنطوق الدال على جواز الزيادة عليها. قوله: ولم يرخص في غير ذلك فيه دليل على أنه لا يجوز شراء الرطب على رؤوس النخل بغير التمر والرطب. وفيه أيضا دليل على جواز الرطب المخروص على رؤوس النخل بالرطب المخروص على الارض، وهو رأي بعض الشافعية منهم ابن خيران. وقيل: لا يجوز وهو رأي الاصطخري منهم وصححه جماعة، وقيل: إن كانا نوعا واحدا لم يجز إذ لا حاجة إليه، وإن كانا نوعين جاز وهو رأي أبي إسحاق وصححه ابن أبي عصرو. وهذا كله فيما إذا كان أحدهما على النخل والآخر على الارض، وأما في غير ذلك فقد قدمنا الكلام عليه في الباب الذي قبل هذا. باب بيع اللحم بالحيوان وعن سعيد بن المسيب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان رواه مالك في الموطأ. الحديث أخرجه أيضا الشافعي مرسلا من حديث سعيد وأبو داود في المراسيل، ووصله الدارقطني في الغريب عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد وحكم بضعفه، وصوب الرواية المرسلة المذكورة، وتبعه ابن عبد البر، وله شاهد من حديث ابن عمر
[ 314 ]
عند البزار وفي إسناده ثابت بن زهير وهو ضعيف. وأخرجه أيضا من رواية أبي أمية بن يعلى عن نافع أيضا وأبو أمية ضعيف. وله شاهد أقوى منه من رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي وابن خزيمة، وقد اختلف في صحة سماعه منه. وروى الشافعي عن ابن عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني منها، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا. وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف ولا يخفى أن الحديث ينتهض للاحتجاج بمجموع طرقه فيدل على عدم جواز بيع اللحم بالحيوان، وإلى ذلك ذهبت العترة والشافعي إذا كان الحيوان مأكولا، وإن كان غير مأكول جاز عند العترة ومالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه لاختلاف الجنس. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز لعموم النهي. وقال أبو حنيفة: يجوز مطلقا واستدل على ذلك بعموم قوله تعالى * (وأحل الله البيع) * (سورة البقرة، الآية: 275) وقال محمد بن الحسن الشيباني: إن غلب اللحم جاز ليقابل الزائد منه الجلد. باب جواز التفاضل والنسيئة في غير المكيل والموزون عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى عبدا بعبدين رواه الخمسة وصححه الترمذي. ولمسلم معناه. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى صفية بسبعة أرؤوس من دحية الكلبي رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. قوله: ولمسلم معناه ولفظه عن جابر قال: جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الهجرة ولم يشعر أنه عبد فجاء سيده يريده فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعنيه، واشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدا بعد حتى يسأله أعبد هو؟ وفي الحديثين دليل على جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلا إذا كان يدا بيد، وهذا مما لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وسيأتي وقصة صفية أشار إليها البخاري في البيع وذكرها في غزوة خيبر. وعن عبد الله بن عمرو قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أبعث جيشا على إبل كانت عندي، قال: فحملت الناس عليها حتى نفدت الابل وبقيت
[ 315 ]
بقية من الناس، قال: فقلت: يا رسول الله الابل قد نفدت وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم، فقال لي: ابتع علينا إبلا بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى تنفذ هذا البعث، قال: وكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى نفذت ذلك البعث، فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد وأبو داود والدارقطني بمعناه. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه باع جملا يدعى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل رواه مالك في الموطأ والشافعي في مسنده. وعن الحسن عن سمرة قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة رواه الخمسة وصححه الترمذي. وروى عبد الله بن أحمد مثله من رواية جابر بن سمرة. حديث ابن عمرو في إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف، وقوى الحافظ في الفتح إسناده، وقال الخطابي: في إسناده مقال، ولعله يعني من أجل محمد بن إسحاق، ولكن قد رواه البيهقي في سننه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأثر علي عليه السلام هو من طريق الحسن بن محمد بن علي عن علي عليه السلام وفيه انقطاع بين الحسن وعلي. وقد روي عنه ما يعارض هذا، فأخرج عبد الرزاق من طريق ابن المسيب عنه أنه كره بعيرا ببعيرين نسيئة. وروى ابن أبي شيبة عنه نحوه، وحديث سمرة صححه ابن الجارود ورجاله ثقات كما قال في الفتح إلا أنه اختلف في سماع الحسن من سمرة. وقال الشافعي: هو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث جابر بن سمرة عزاه صاحب الفتح إلى زيادات المسند لعبد الله بن أحمد كما فعل المصنف وسكت عنه. (وفي الباب) عن ابن عباس عند البزار والطحاوي وابن حبان والدارقطني بنحو حديث سمرة، قال في الفتح: ورجاله ثقات إلا أنه اختلف في وصله وإرساله، فرجح البخاري وغير واحد إرساله انتهى. قال البخاري: حديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة من طريق عكرمة عن ابن عباس رواه الثقات عن ابن عباس موقوفا. وعن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. (وفي الباب) أيضا عن ابن عمر عند الطحاوي والطبراني، وعنه أيضا عند مالك في الموطأ والشافعي أنه اشترى راحلة بأربعة أبعرة يوفيها صاحبها بالربذة. وذكره البخاري تعليقا. وعنه أيضا عند عبد الرزاق وابن أبي شيبة
[ 316 ]
أنه سئل عن بعير ببعيرين فكرهه. وروى البخاري تعليقا عن ابن عباس ووصله الشافعي أنه قال: قد يكون البعير خيرا من البعيرين. وروى البخاري تعليقا أيضا عن رافع بن خديج ووصله عبد الرزاق أنه اشترى بعيرا ببعيرين فأعطاه أحدهما وقال: آتيك بالآخر غدا. وروى البخاري أيضا ومالك وابن أبي شيبة عن ابن المسيب أنه قال: لا ربا في الحيوان. وروى البخاري أيضا وعبد الرزاق عن ابن سيرين أنه قال: لا بأس ببعيرين. قوله: حتى نفدت الابل بفتح النون وكسر الفاء وفتح الدال المهملة وآخره تاء التأنيث. قوله: بقلائص قال ابن رسلان: جمع قلوص وهي الناقة الشابة. قوله: حتى نفذت ذلك البعث بفتح النون وتشديد الفاء بعدها دال معجمة ثم تاء المتكلم أي حتى تجهز ذلك الجيش وذهب إلى مقصده، والاحاديث والآثار المذكورة في الباب متعارضة كما ترى، فذهب الجمهور إلى جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلا مطلقا، وشرط مالك أن يختلف الجنس، ومنع من ذلك مطلقا مع النسيئة أحمد بن حنبل وأبو حنيفة وغيره من الكوفيين والهادوية، وتمسك الاولون بحديث ابن عمرو وما ورد في معناه من الآثار، وأجابوا عن حديث سمرة بما فيه من المقال. وقال الشافعي: المراد به النسيئة من الطرفين لان اللفظ يحتمل ذلك، كما يحتمل النسيئة من طرف، وإذ كانت النسيئة من الطرفين فهي من بيع الكالئ بالكالئ وهو لا يصح عند الجميع، واحتج المانعون بحديث سمرة وجابر بن سمرة وابن عباس وما في معناها من الآثار، وأجابوا عن حديث ابن عمرو بأنه منسوخ، ولا يخفى أن النسخ لا يثبت إلا بعد تقرر تأخر الناسخ ولم ينقل ذلك، فلم يبق ههنا إلا الطلب لطريق الجمع إن أمكن ذلك أو المصير إلى التعارض. قيل: وقد أمكن الجمع بما سلف عن الشافعي، ولكنه متوقف على صحة إطلاق النسيئة على بيع المعدوم بالمعدوم، فإن ثبت ذلك في لغة العرب أو في اصطلاح الشرع فذاك، وإلا فلا شك أن أحاديث النهي وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال لكنها ثبتت من طريق ثلاثة من الصحابة: سمرة وجابر بن سمرة وابن عباس، وبعضها يقوي بعضا، فهي أرجح من حديث واحد غير خال عن المقال وهو حديث عبد الله بن عمرو، ولا سيما وقد صحح الترمذي وابن الجارود حديث سمرة فإن ذلك مرجح آخر. وأيضا قد تقرر في الاصول أن دليل التحريم أرجح من دليل الاباحة، وهذا أيضا مرجح ثالث.
[ 317 ]
وأما الآثار الواردة عن الصحابة فلا حجة فيها، وعلى فرض ذلك فهي مختلفة كما عرفت. باب أن من باع سلعة بنسيئة لا يشتريها بأقل مما باعها عن ابن إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت: يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: بئس ما اشتريت وبئس ما شريت، إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بطل إلا أن يتوب رواه الدارقطني. الحديث في إسناده الغالية بنت أيفع، وقد روي عن الشافعي أنه لا يصح، وقرر كلامه ابن كثير في إرشاده، وفيه دليل على أنه لا يجوز لمن باع شيئا بثمن نسيئة أن يشتريه من المشتري بدون ذلك الثمن نقدا قبل قبض الثمن الاول، أما إذا كان المقصود التحيل لاخذ النقد في الحال ورد أكثر منه بعد أيام فلا شك أن ذلك من الربا المحرم الذي لا ينفع في تحليله الحيل الباطلة، وسيأتي الخلاف في بيع العينة في الباب الذي بعد هذا. والصورة المذكورة هي صورة بيع العينة، وليس في حديث الباب ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن هذا البيع، ولكن تصريح عائشة بأن مثل هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أنها قد علمت تحريم ذلك بنص من الشارع، إما على جهة العموم كالاحاديث القاضية بتحريم الربا الشامل لمثل هذه الصورة، أو على جهة الخصوص كحديث العينة الآتي، ولا ينبغي أن يظن بها أنها قالت هذه المقالة من دون أن تعلم بدليل يدل على التحريم، لان مخالفة الصحابي لرأي صحابي آخر لا يكون من الموجبات للاحباط.
[ 318 ]
باب ما جاء في بيع العينة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم رواه أحمد وأبو داود. ولفظه: إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم. الحديث أخرجه أيضا الطبراني وابن القطان وصححه. قال الحافظ في بلوغ المرام: ورجاله ثقات. وقال في التلخيص: وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول، لانه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحا لان الاعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني، فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر انتهى. وإنما قال هكذا لان الحديث رواه أحمد والطبراني من طريق أبي بكر بن عياش عن الاعمش عن عطاء عن ابن عمر، ورواه أحمد وأبو داود من طريق عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر. وقال المنذري في مختصر السنن ما لفظه: في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني نزيل مصر لا يحتج بحديثه، وفيه أيضا عطاء الخراساني وفيه مقال انتهى. قال الذهبي في الميزان: إن هذا الحديث من مناكيره، وقد ورد النهي عن العينة من طرق عقد لها البيهقي في سننه بابا ساق فيه جميع ما ورد في ذلك وذكر علله. وقال: روي حديث العينة من وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال: وروي عن ابن عمر موقوفا أنه كره ذلك. قال ابن كثير: وروي من وجه ضعيف أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا، ويعضده حديث عائشة يعني المتقدم في الباب الذي قبل هذا، وهذه الطرق يشد بعضها بعضا. قوله: بالعينة بكسر العين المهملة ثم ياء تحتية ساكنة ثم نون. قال الجوهري: العينة بالكسر السلف. وقال في القاموس: وعين أخذ بالعينة بالكسر أي السلف أو أعطى بها، قال: والتاجر باع سلعته بثمن إلى أجل ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن انتهى. قال الرافعي: وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن
[ 319 ]
بثمن نفد أقل من ذلك القدر انتهى. قال ابن رسلان في شرح السنن: وسميت هذا المبايعة عينة لحصول النقد لصاحب العينة، لان العين هو المال الحاضر، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل به إلى مقصوده اه. وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد والهادوية، وجوز ذلك الشافعي وأصحابه، مستدلين على الجواز بما وقع من ألفاظ البيع التي لا يراد بها حصول مضمونه، وطرحوا الاحاديث المذكورة في الباب، واستدل ابن القيم على عدم جواز العينة بما روي عن الاوزاعي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع قال: وهذا الحديث وإن كان مرسلا فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له وهي الاحاديث الدالة على تحريم العينة، فإنه من المعلوم أن العينة عند من يستعملها إنما يسميها بيعا، وقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غير اسمها إلى المعاملة وصورتها إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة، وإنما هو حيلة ومكر وخديعة لله تعالى فمن أسهل الحيل على من أراد فعله أن يعطيه مثلا ألفا إلا درهما باسم القرض ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة درهم. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الاعمال بالنيات أصل في إبطال الحيل، فإن من أراد أن يعامله معاملة يعطيه فيها ألفا بألف وخمسمائة إنما نوى بالاقراض تحصيل الربح الزائد الذي أظهر أنه ثمن الثوب، فهو في الحقيقة أعطاه ألفا حالة بألف وخمسمائة مؤجلة، وجعل صورة القرض وصورة البيع محللا لهذا الحرم، ومعلوم أن هذا لا يرفع التحريم، ولا يرفع المفسدة التي حرم الربا لاجلها، بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة، منها أنه يقدم على مطالبة الغريم المحتاج من جهة السلطان والحكام إقداما لا يفعله المربي لانه واثق بصورة العقد الذي تحيل به. هذا معنى كلام ابن القيم. قوله: واتبعوا أذناب البقر المراد الاشتغال بالحرث. وفي الرواية الاخرى: وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وقد حمل هذا على الاشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد. قوله: وتركوا الجهاد أي المتعين فعله. وقد روى الترمذي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين
[ 320 ]
على صف الروم حتى دخل بينهم، فصاح المسلمون وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب فقال: يا أيها الناس إنكم لتأولون هذا التأويل وإنما نزلت هذه الآية لما أعز الله الاسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا: أن أموالنا قد ضاعت، وأن الله قد أعز الاسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منا، فأنزل الله على نبيه ما يرد علينا فقال: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (سورة البقرة، الآية: 195) فكانت التهلكة الاموال وإصلاحها وترك الغزو. قوله: ذلا بضم الذال المعجمة وكسرها أي صغارا ومسكنة. ومن أنواع الخراج الذي يسلمونه كل سنة لملاك الارض، وسبب هذا الذل والله أعلم أنهم لما تركوا الجهاد في سبيل الله الذي فيه عز الاسلام وإظهاره على كل دين عاملهم الله بنقيضه وهو إنزال الذلة بهم، فصاروا يمشون خلف أذناب البقر بعد أن كانوا يركبون على ظهور الخيل التي هي أعز مكان. قوله: حتى ترجعوا إلى دينكم فيه زجر بليغ، لانه نزل الوقوع في هذه الامور منزلة الخروج من الدين، وبذلك تمسك من قال بتحريم العينة. وقيل: إن دلالة الحديث على التحريم غير واضحة، لانه قرن العينة بالاخذ بأذناب البقر والاشتغال بالزرع وذلك غير محرم، وتوعد عليه بالذل وهو لا يدل على التحريم، ولكنه لا يخفى ما في دلالة الاقتران من الضعف، ولا نسلم أن التوعد بالذل لا يدل على التحريم، لان طلب أسباب العزة الدينية وتجنب أسباب الذلة المنافية للدين واجبان على كل مؤمن، وقد توعد على ذلك بإنزال البلاء وهو لا يكون إلا لذنب شديد، وجعل الفاعل لذلك بمنزلة الخارج من الدين المرتد على عقبه، وصرحت عائشة بأنه من المحبطات للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث السالف وذلك إنما هو شأن الكبائر. باب ما جاء في الشبهات عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما يشتبه عليه من الاثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الاثم أو شك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه متفق عليه.
[ 321 ]
قوله: الحلال بين الخ، فيه تقسيم للاحكام إلى ثلاثة أشياء وهو تقسيم صحيح، لان الشئ إما أن ينص الشارع على طلبه مع الوعيد على تركه، أو ينص على تركه مع الوعيد على فعله، أو لا ينص على واحد منهما. فالاول: الحلال البين. والثاني: الحرام البين. والثالث: المشتبه لخفائه فلا يدري أحلال هو أم حرام؟ وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه، لانه إن كان في نفس الامر حراما فقد برئ من التبعة، وإن كان حلالا فقد استحق الاجر على الترك لهذا القصد، لان الاصل مختلف فيه حظرا وإباحة. وهذا التقسيم قد وافق قول من قال ممن سيأتي: أن المباح والمكروه من المشبهات، ولكنه يشكل عليه المندوب، فإنه لا يدخل في قسم الحلال البين على ما زعمه صاحب هذا التقسيم، والمراد بكون كل واحد من القسمين الاولين بينا أنه مما لا يحتاج إلى بيان، أو مما يشترك في معرفته كل أحد وقد يردان جميعا أي ما يدل على ا لحل والحرمة، فإن علم المتأخر منهما فذاك، وإلا كان ما ورد فيه من القسم الثالث. قوله: أمور مشتبهة أي شبهت بغيرها مما لم يتبين فحكمه على التعيين، زاد في رواية للبخاري: لا يعلمها كثير من الناس أي لا يعلم حكمها، وجاء واضحا في رواية للترمذي ولفظه: لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام؟ ومفهوم قوله كثير أن معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من الناس وهم المجتهدون، فالشبهات على هذا في حق غيرهم، وقد تقع لهم حيث لا يظهر ترجيح أحد الدليلين. قوله: والمعاصي حمى الله في رواية للبخاري وغيره: ألا إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه والمراد بالمحارم والمعاصي فعل المنهي المحرم أو ترك المأمور الواجب، والحمى المحمي أطلق المصدر على اسم المفعول. وفي اختصاص التمثيل بالحمى نكتة، وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مخصبة يتوعدون من رعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثل لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شئ منه فبعده أسلم له، وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه، فلا يأمن أن يقع فيه بعض مواشيه بغير اختياره، وربما أجدب المكان الذي هو فيه، ويقع الخصب في الحمى فلا يملك نفسه أن يقع فيه، فالله سبحانه هو الملك حقا وحماه محارمه (وقد اختلف) في حكم الشبهات فقيل التحريم وهو مردود،
[ 322 ]
وقيل الكراهة. وقيل الوقف وهو كالخلاف فيما قبل الشرع واختلف العلماء أيضا في تفسير الشبهات. فمنهم من قال: إنها ما تعارضت فيه الادلة. ومنهم من قال: إنها ما اختلف فيه العلماء وهو منتزع من التفسير الاول. ومنهم من قال: إن المراد بها قسم المكروه لانه يجتذبه جانبا الفعل والترك، ومنهم من قال: هي المباح. ونقل ابن المنير عن بعض مشايخه أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه. ويؤيد هذا ما وقع في رواية لابن حبان من الزيادة بلفظ: اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه قال في الفتح بعد أن ذكر التفاسير للمشتبهات التي قدمناها ما لفظه: والذي يظهر لي رجحان الوجه الاول، قال: ولا يبعد أن يكون كل من الاوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف الناس، فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه، ومن دونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الاحوال، ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جراءة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده لارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم، أو يكون ذلك لسر فيه وهو أن من تعاطي ما نهى عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: فمن ترك ما يشتبه عليه من الاثم الخ. (واعلم أن العلماء) قد عظموا أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الاحكام كما نقل عن أبي داود وغيره وقد جمعها من قال: عمدة الدين عندنا كلمات * مسندات من قول خير البرية اترك الشبهات وازهد ودع ما * ليس يعنيك واعملن بنيه والاشارة بقوله ازهد إلى حديث: ازهد فيما في أيدي الناس أخرجه ابن ماجه وحسن إسناده الحافظ، وصححه الحاكم عن سهل بن سعد مرفوعا بلفظ: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس. وله شاهد عند أبي نعيم من حديث أنس ورجاله ثقات. والمشهور عن أبي داود عد حديث: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه مكان حديث: ازهد المذكور. وعد حديث الباب بعضهم ثالث ثلاثة وحذف الثاني، وأشار ابن العربي أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الاحكام،
[ 323 ]
قال القرطبي: لانه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره وعلى تعلق جميع الاعمال بالقلب فمن هناك يمكن أن ترد جميع الاحكام إليه. وقد ادعى أبو عمر الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير النعمان بن بشير، فإن أراد من وجه صحيح فمسلم، وإن أراد على الاطلاق فمردود، فإنه في الاوسط للطبراني من حديث ابن عمر وعمار، وفي الكبير له من حديث ابن عباس، وفي الترغيب للاصبهاني من حديث واثلة، وفي أسانيدها مقال كما قال الحافظ. وعن عطية السعدي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس رواه الترمذي. وعن أنس قال: إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصيب التمرة فيقول: لولا أني أخشى أنها من الصدقة لاكلتها متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه، وإن سقاه شرابا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه رواه أحمد. وعن أنس بن مالك قال: إذا دخلت على مسلم لا يتهم فكل من طعامه واشرب من شرابه ذكره البخاري في صحيحه. حديث عطية السعدي حسنه الترمذي، وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي الدرداء نحوه ولفظه: تمام التقوى أن يتقي الله حتى يترك ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا الطبراني في الاوسط وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي ضعفه الجمهور وقد وثق. قال في مجمع الزوائد: وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. هذه الاحاديث ذكرها المصنف رحمه الله للاشارة إلى ما فيه شبهة كحديث أنس، وإلى ما لا شبهة فيه كحديث أبي هريرة، وقد ذكر البخاري في تفسير الشبهات حديث عقبة بن الحرث في الرضاع لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف وقد قيل وحديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: واحتجبي منه يا سودة فإن الظاهر أن الامر بالمفارقة في الحديث الاول والاحتجاب في الثاني لاجل الاحتياط وتوقي الشبهات، وفي ذلك نزاع يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قال الخطابي: ما شككت فيه فالورع اجتنابه وهو على ثلاثة أقسام: واجب ومستحب ومكروه، فالواجب اجتناب ما يستلزم ارتكاب المحرم. والمندوب
[ 324 ]
اجتناب معاملة من أكثر ماله حرام. والمكروه اجتناب الرخص المشروعة اه. وقد أرشد الشارع إلى اجتناب ما لا يتيقن المرء حله بقوله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وابن حبان والحاكم من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. (وفي الباب) عن أنس عند أحمد. وعن ابن عمر عند الطبراني، وعن أبي هريرة وواثلة بن الاسقع. ومن قول ابن عمر وابن مسعود وغيرهما. وروى البخاري وأحمد وأبو نعيم عن حسان بن أبي سنان البصري أحد العباد في زمن التابعين أنه قال: إذا شككت في شئ فاتركه. ولابي نعيم من وجه آخر: أنه اجتمع يونس بن عبيد وحسان بن أبي سنان فقال يونس: ما عالجت شيئا أشد علي من الورع، فقال حسان: ما عالجت شيئا أهون علي منه، قال: كيف؟ قال حسان: تركت ما يريبني إلى ما لا يريبني فاسترحت. قال الغزالي: الورع أقسام، ورع الصديقين وهو ترك ما لم يكن عليه بينة واضحة. وورع المتقين وهو ترك ما لا شبهة فيه ولكن يخشى أن يجر إلى الحرام. وورع الصالحين وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع، فإن لم يكن فهو ورع الموسوسين. قال: ووراء ذلك ورع الشهود وهو ترك ما يسقط الشهادة، أي أعم من أن يكون ذلك المتروك حراما أم لا اه. وقد أشار البخاري إلى أن الوساوس ونحوها ليست من المشبهات. فقال: باب من لم ير الوساوس ونحوها من المشبهات. قال في الفتح: هذه الترجمة معقودة لبيان ما يكره من التنطع في الورع. أبواب أحكام العيوب باب وجوب تبيين العيب عن عقبة بن عامر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلا بينه له رواه ابن ماجه. وعن واثلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل لاحد أن يبيع شيئا إلا بين ما فيه، ولا يحل لاحد يعلم ذلك إلا بينه رواه أحمد. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يبيع طعاما فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال: من غشنا فليس منا رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي.
[ 325 ]
وعن العداء بن خالد بن هوذة قال: كتب لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابا: هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم رواه ابن ماجه والترمذي. حديث عقبة أخرجه أيضا أحمد والدارقطني والحاكم والطبراني من حديث أبي شماسة عنه، ومداره على يحيى بن أيوب، وتابعه ابن لهيعة، قال في الفتح: وإسناده حسن، وحديث واثلة أخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم في المستدرك وفي إسناد أحمد أبو جعفر الرازي وأبو سباع، والاول مختلف فيه، والثاني قيل إنه مجهول. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا الحاكم وفيه قصة وادعى أن مسلما لم يخرجها فلم يصب. وقد أخرج نحوه أحمد والدارمي من حديث ابن عمر وابن ماجه من حديث أبي الحمراء والطبراني، وابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود، وأحمد من حديث أبي بردة بن نيار، والحاكم من حديث عمير بن سعيد عن عمه. وحديث العداء أخرجه أيضا النسائي وابن الجارود وعلقه البخاري. قوله: لا يحل لمسلم الخ، وكذلك قوله: لا يحل لاحد الخ، فيهما دليل على تحريم كتم العيب ووجوب تبيينه للمشتري. قوله: فليس منا لفظ مسلم: فليس مني قال النووي: كذا في الاصول ومعناه: ليس ممن اهتدى بهديي واقتدى بعلمي وعملي وحسن طريقتي، كما يقول الرجل لولده: إذا لم يرض فعله: لست مني، وهكذا في نظائره مثل قوله: من حمل علينا السلاح فليس منا وكان سفيان بن عيينة يكره تفسير مثل هذا ويقول: بئس مثل القول، بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر اه. وهو يدل على تحريم الغش وهو مجمع على ذلك . قوله: العداء بفتح العين المهملة وتشديد الدال المهملة أيضا وآخره همزة بوزن الفعال، وهوذة هو ابن ربيعة بن عمرو بن عامر أبو صعصعة، والعداء صحابي قليل الحديث أسلم بعد حنين. قوله: لا داء قال المطرزي: المراد به الباطن سواء ظهر منه شئ أم لا كوجع الكبد والسعال. وقال ابن المنير: لا داء أي يكتمه البائع، وإلا فلو كان بالعبد داء وبينه البائع كان من بيع المسلم للمسلم (ومحصله) أنه لم يرد بقوله: لا داء نفي الداء مطلقا، بل نفي داء مخصوص وهو ما لم يطلع عليه. قوله: ولا غائلة قيل: المراد بها إلا باق. وقال ابن بطال: هو من قولهم اغتالني فلان إذا احتال بحيلة سلب بها مالي. قوله: ولا خبثة بكسر المعجمة وبضمها وسكون الموحدة وبعدها
[ 326 ]
مثلثة قيل: المراد الاخلاق الخبيثة كالاباق. وقال صاحب العين هي الدنية. وقيل: المراد الحرام كما عبر عن الحلال بالطيب، وقيل: الداء ما كان في الخلق بفتح الخاء، والخبثة ما كان في الخلق بضمها، والغائلة سكوت البائع عن بيان ما يعلم من مكروه في المبيع، قاله ابن العربي. باب أن الكسب الحادث لا يمنع الرد بالعيب عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى أن الخراج بالضمان رواه الخمسة. وفي رواية: أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله ثم وجد به عيبا فرده بالعيب، فقال البائع: غلة عبدي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغلة بالضمان رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وفيه حجة لمن يرى تلف العبد المشتري قبل القبض من المشتري. الحديث أخرجه أيضا الشافعي وأبو داود الطيالسي، وصححه الترمذي وابن حبان وابن الجارود والحاكم وابن القطان. (ومن جملة) من صححه ابن خزيمة كما حكي ذلك عنه في بلوغ المرام وحكي عنه في التلخيص أنه قال: لا يصح، وضعفه البخاري. ولهذا الحديث في سنن أبي داود ثلاث طرق: اثنتان رجالهما رجال الصحيح، والثالثة قال أبو داود: إسنادها ليس بذاك، ولعل سبب ذلك أن فيه مسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي، وقد وثقه يحيى بن معين وتابعه عمر بن علي المقدمي وهو متفق على الاحتجاج به. قوله: إن الخراج بالضمان الخراج هو الدخل والمنفعة، أي يملك المشتري الخراج الحاصل من المبيع بضمان الاصل الذي عليه أي بسببه فالباء للسببية، فإذا اشترى الرجل أرضا فاستغلها أو دابة فركبها أو عبدا فاستخدمه ثم وجد به عيبا قديما فله الرد، ويستحق الغلة في مقابلة الضمان للمبيع الذي كان عليه. وظاهر الحديث عدم الفرق بين الفوائد الاصلية والفرعية، وإلى ذلك ذهب الشافعي، وفصل مالك فقال: يستحق المشتري الصوف والشعر دون الولد، وفرق أهل الرأي والهادوية بين الفوائد الفرعية والاصلية فقالوا: يستحق المشتري الفرعية كالكراء دون الاصلية كالولد والثمر، وهذا الخلاف إنما هو مع انفصال الفوائد عن المبيع، وأما إذا كانت متصلة وقت الرد وجب ردها بالاجماع،
[ 327 ]
قيل: إن هذا الحكم مختص بمن له ملك في العين التي انتفع بخراجها كالمشتري الذي هو سبب وورد الحديث، وإلى ذلك مال الجمهور. وقالت الحنفية: إن الغاصب كالمشتري قياسا ولا يخفى ما في هذا القياس، لان الملك فارق يمنع الالحاق، والاولى أن يقال: إن الغاصب داخل تحت عموم اللفظ، ولا عبرة بخصوص السبب كما تقرر في الاصول. قوله: فاستغله بالغين المعجمة وتشديد اللام أي أخذ غلته. باب ما جاء في المصراة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تصروا الابل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر متفق عليه. وللبخاري وأبي داود: من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر، وهو دليل على أن الصاع من التمر في مقابلة اللبن وأنه أخذ قسطا من الثمن. وفي رواية: إذا ما اشترى أحدكم لقحة مصراة أو شاة مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، أما هي وإلا فليردها وصاعا من تمر رواه مسلم، وهو دليل على أنه يمسك بغير أرش. وفي رواية: من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ومعها صاعا من تمر لا سمراء رواه الجماعة إلا البخاري. وعن أبي عثمان النهدي قال: قال عبد الله: من اشترى محفلة فردها فليردها معها صاعا رواه البخاري والبرقاني على شرطه وزاد: من تمر. قوله: لا تصروا بضم أوله وفتح الصاد المهملة وضم الراء المشددة من صريت اللبن في الضرع إذا جمعته، وظن بعضهم أنه من صررت، فقيده بفتح أوله وضم ثانيه. قال في الفتح: والاول أصح، قال: لانه لو كان من صررت لقيل مصرورة أو مصررة لا مصراة، على أنه قد سمع الامر أن في كلام العرب، ثم استدل على ذلك بشاهدين عربيين، ثم قال: وضبطه بعضهم بضم أوله وفتح ثانيه بغير واو على البناء للمجهول والمشهور الاول اه. قال الشافعي: التصرية هي ربط أخلاف الشاة أو الناقة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أن ذلك عادتها فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة
[ 328 ]
لبنها وأصل التصرية حبس الماء، يقال منه صريت الماء إذا حبسته، قال أبو عبيدة وأكثر أهل اللغة: التصرية حبس اللبن في الضرع حتى يجتمع، وإنما اقتصر على ذكر الابل والغنم دون البقر لان غالب مواشيهم كانت من الابل والغنم والحكم واحد خلافا لداود. قوله: فمن ابتاعها بعد ذلك أي اشتراها بعد التصرية. قوله: بعد أن يحلبها ظاهره أن الخيار لا يثبت إلا بعد الحلب، والجمهور على أنه إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار على الفور ولو لم يحلب، لكن لما كانت التصرية لا يعرف غالبها إلا بعد الحلب جعل قيدا في ثبوت الخيار. قوله: إن رضيها أمسكها استدل بهذا على صحة بيع المصراة مع ثبوت الخيار. قوله: وصاعا من تمر الواو عاطفة على الضمير في ردها، ولكنه يعكر عليه أن الصاع مدفوع ابتداء لامر داود، ويمكن أن يقال: إنه مجاز عن فعل يشمل الامرين نحو سلمها أو ادفعها كما في قول الشاعر: علفتها تبنا وماء باردا * أي ناولتها، ويمكن أن يقدر قبل آخر يناسب المعطوف أي ردها، وسلم أو اعط صاعا من تمر، كما قيل: إن التقدير في قول الشاعر المذكور: وسقيتها ماء باردا وقيل: يجوز أن تكون الواو بمعنى مع، ولكنه يعكر عليه قول جمهور النحاة أن شرط المفعول معه أن يكون فاعلا في المعنى نحو: جئت أنا وزيدا. وقمت أنا وزيدا. نعم جعله مفعولا معه صحيح عند من قال بجواز مصاحبته للمفعول به وهم القليل. وقد استدل بالتنصيص على الصاع من التمر، على أنه لا يجوز رد اللبن ولو كان باقيا على صفته لم يتغير، ولا يلزم البائع قبوله لذهاب طراوته واختلاطه بما تجدد عند المشتري. قوله: لقحة هي الناقة الحلوب أو التي نتجت. قوله: ثلاثة أيام فيه دليل على امتداد الخيار هذا المقدار، فتقيد بهذه الرواية الروايات القاضية بأن الخيار بعد الحلب على الفور كما في قوله: بعد أن يحلبها وإلى هذا ذهب الشافعي والهادي والناصر، وذهب بعض الشافعية إلى أن الخيار على الفور، وحملوا رواية الثلاث على ما إذا لم يعلم أنها مصراة قبل الثلاث، قالوا: وإنما وقع التنصيص عليها لان الغالب أنه لا يعلم بالتصرية فيما دونها. واختلفوا في ابتداء الثلاث فقيل: من وقت بيان التصرية وإليه ذهبت الحنابلة، وقيل: من حين العقد وبه قال الشافعي: وقيل: من وقت التفرق. قال في الفتح: ويلزم عليه أن يكون الفور أوسع من الثلاث في بعض الصور وهو ما إذا تأخر ظهور التصريح إلى آخر الثلاث، ويلزم عليه أن تحسب المدة قبل التمكن من الفسخ، وأن يفوت المقصود من التوسيع بالمدة اه.
[ 329 ]
قوله: من تمر لا سمراء لفظ مسلم وأبي داود: من طعام لا سمراء وينبغي أن تحمل الطعام على التمر المذكور في هذه الرواية وفي غيرها من الروايات، ثم لما كان المتبادر من لفظ الطعام القمح نفاه بقوله: لا سمراء، ويشكل على هذا الجمع ما في رواية للبزار بلفظ: صاع من بر لا سمراء وأجيب عن ذلك بأنه يحتمل أن يكون على وجه الرواية بالمعنى، لما ظن الراوي أن الطعام مساو للبر، عبر عنه بالبر لان المتبادر من الطعام البر كما سلف في الفطرة، ويشكل على ذلك الجمع أيضا ما في مسند أحمد بإسناد صحيح كما قال الحافظ عن رجل من الصحابة بلفظ: صاعا من طعام أو صاعا من تمر فإن التخيير يقتضي المغايرة، وأجاب عنه في الفتح باحتمال أن يكون شكا من الراوي، والاحتمال قادح في الاستدلال، فينبغي الرجوع إلى الروايات التي لم تختلف. ويشكل أيضا ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر بلفظ: ردها ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا وأجاب عن ذلك الحافظ بأن إسناد الحديث ضعيف، قال: وقال ابن قدامة: إنه متروك الظاهر بالاتفاق. قوله: محفلة بضم الميم وفتح الحاء المهملة والفاء المشددة من التحفيل وهو التجمع، قال: أبو عبيدة: سميت بذلك لكون اللبن يكثر في ضرعها وكل شئ كثرته فقد حفلته. تقول: ضرع حافل أي عظيم، واحتفل القوم إذا كثر جمعهم، ومنه سمي المحفل. وقد أخذ بظاهر الحديث الجمهور، قال في الفتح: وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة ولا مخالف لهما في الصحابة. وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده، ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلا كان أو كثيرا، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا، وخالف في أصل المسألة أكثر الحنفية وفي فروعها آخرون، أما الحنفية فقالوا: لا يرد بعيب التصرية، ولا يجب رد الصاع من التمر، وخالفهم زفر فقال بقول الجمهور، إلا أنه قال: مخير بين صاع من التمر أو نصف صاع من بر. وكذا قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف في رواية إلا أنهما قالا: لا يتعين صاع التمر بل قيمته. وفي رواية عن مالك وبعض الشافعية كذلك، ولكن قالوا: يتعين قوت البلد قياسا على زكاة الفطر. وحكى البغوي أنه لا خلاف في مذهب الشافعية أنهما لو تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره كفى، وأثبت ابن كج الخلاف في ذلك. وحكى الماوردي وجهين فيما إذا عجز عن التمر هل يلزمه قيمتقه ببلده أو بأقرب البلاد التي فيها التمر إليه؟ وبالثاني قالت الحنابلة،
[ 330 ]
اه كلام الفتح. والهادوية يقولون: إن الواجب رد اللبن إن كان باقيا وإن كان تالفا فمثله، وإن لم يوجد المثل فالقيمة. وقد اعتذر الحنفية عن حديث المصراة بأعذار بسطها صاحب فتح الباري وسنشير إلى ما ذكره باختصار، ونزيد عليه ما لا يخلو عن فائدة العذر الاول الطعن في الحديث بكون راويه أبا هريرة، قالوا: ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة، فلا يؤخذ بما يرويه إذا كان مخالفا للقياس الجلي، وبطلان هذا العذر أوضح من أن يشتغل ببيان وجهه، فإن أبا هريرة رضي الله عنه من أحفظ الصحابة وأكثرهم حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يكن أحفظهم على الاطلاق وأوسعهم رواية لاختصاصه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بالحفظ كما ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة بسطه لردائه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كان بهذه المنزلة لا ينكر عليه تفرده بشئ من الاحكام الشرعية. وقد اعتذر رضي الله عنه عن تفرده بكثير مما لا يشاركه فيه غيره بما ثبت عنه في الصحيح من قوله: إن أصحابي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالاسواق وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا. وأيضا لو سلم ما ادعوه من أنه ليس كغيره في الفقه لم يكن ذلك قادحا في الذي يتفرد به، لان كثيرا من الشريعة بل أكثرها وارد من غير طريق المشهورين بالفقه من الصحابة، فطرح حديث أبي هريرة يستلزم طرح شطر الدين، على أن أبا هريرة لم ينفرد برواية هذا الحكم عن رسول الله بل رواه معه ابن عمر، كما أخرج ذلك من حديثه أبو داود والطبراني وأنس، كما أخرج ذلك من حديثه أبو يعلى وعمرو بن عوف المزني، كما أخرج ذلك عنه البيهقي ورجل من الصحابة لم يسم، كما أخرجه أحمد بإسناد صحيح وابن مسعود، كما أخرجه الاسماعيلي وإن كان قد خالفه الاكثر ورووه موقوفا عليه كما فعله البخاري وغيره وتبعهم المصنف، ولكن مخالفة ابن مسعود للقياس الجلي مشعرة بثبوت حديث أبي هريرة. قال ابن عبد البر: ونعم ما قال إن هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل، واعتل من لم يأخذ به بأشياء لاحقيقة لها. العذر الثاني من أعذار الحنفية الاضطراب في متن الحديث قالوا: لذكر التمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن أخرى، واعتبار الصاع تارة، والمثل أو المثلين أخرى، وأجيب بأن الطرق
[ 331 ]
الصحيحة لا اختلاف فيها، والضعيف لا يعل به الصحيح. العذر الثالث: أنه معارض لعموم قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * (سورة النحل، الآية: 126) وأجيب بأنه من ضمان المتلفات لا العقوبات، ولو سلم دخوله تحت العموم فالصاع مثل لانه عوض المتلف وجعله مخصوصا بالتمر دفعا للشجار، ولو سلم عدم صدق المثل عليه فعموم الآية مخصص بهذا الحديث، إما على مذهب الجمهور فظاهر، وإما على مذهب غيرهم فلانه مشهور وهو صالح لتخصيص العمومات القرآنية. العذر الرابع: أن الحديث منسوخ، وأجيب بأن النسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال، ولو كفى ذلك لرد من شاء ما شاء، واختلفوا في تعيين الناسخ فقال بعضهم: هو حديث ابن عمر عند ابن ماجه في النهي عن بيع الدين بالدين، وذلك لان لبن المصراة قد صار دينا في ذمة المشتري، فإذا ألزم بصاع من تمر صار دينا بدين، كذا قال الطحاوي وتعقب بأن الحديث ضعيف باتفاق المحدثين، ولو سلمت صلاحيته فكون ما نحن فيه من بيع الدين بالدين ممنوع، لانه يرد الصاع مع المصراة حا ضرا لا نسيئة، من غير فرق بين أن يكون اللبن موجودا أو غير موجود، ولو سلم أنه من بيع الدين بالدين فحديث الباب مخصص لعموم ذلك النهي لانه أخص منه مطلقا. وقال بعضهم: إن ناسخه حديث الخراج بالضمان وقد تقدم، وذلك لان اللبن فضلة من فضلات الشاة، ولو تلفت لكانت من ضمان المشتري فتكون فضلاتها له. وأجيب بأن المغروم هو ما كان فيها قبل البيع لا الحادث، وأيضا حديث الخراج بالضمان بعد تسليم شموله لمحل النزاع عام مخصوص بحديث الباب فكيف يكون ناسخا؟ وأيضا لم ينقل تأخره، والنسخ لا يتم بدون ذلك، ثم لو سلمنا مع عدم العلم بالتاريخ جواز المصير إلى التعارض وعدم لزوم بناء العام على الخاص لكان حديث الباب أرجح لكونه في الصحيحين وغيرهما، ولتأيده بما ورد في معناه عن غير واحد من الصحابة. وقال بعضهم: ناسخه الاحاديث الواردة في رفع العقوبة بالمال، هكذا قال عيسى بن أبان، وتعقبه الطحاوي بأن التصرية إنما وجدت من البائع، فلو كان من ذلك الباب لكانت العقوبة له، والعقوبة في حديث المصراة للمشتري فافترقا، وأيضا عموم الاحاديث القاضية بمنع العقوبة بالمال على فرض ثبوتها مخصوصة بحديث المصراة، وقد قدمنا البحث في التأديب بالمال مبسوطا في كتاب الزكاة. وقال بعضهم: ناسخه حديث البيعان بالخيار ما لم يفترقا
[ 332 ]
وقد تقدم، وبذلك أجاب محمد ابن شجاع. ووجه الدلالة أن الفرقة قاطعة للخيار من غير فرق بين المصراة وغيرها. وأجيب بأن الحنفية لا يثبتون خيار المجلس كما سلف فكيف يحتجون بالحديث المثبت له؟ وأيضا بعد تسليم صحة احتجاجهم به هو مخصص بحديث الباب. وأيضا قد أثبتوا خيار العيب بعد التفرق وما هو جوابهم فهو جوابنا. العذر الخامس: أن الخبر من الآحاد وهي لا تفيد إلا الظن وهو لا يعمل به إذا خالف قياس الاصول، وقد تقرر أن المثلى يضمن بمثله، والقيمي بقيمته من أحد النقدين، فكيف يضمن بالتمر على الخصوص؟ وأجيب بأن التوقف في خبر الواحد إنما هو إذا كان مخالفا للاصول لا لقياس الاصول، والاصول الكتاب والسنة والاجماع والقياس، والاولان هما الاصل، والآخران مردودان إليهما، فكيف يرد الاصل بالفرع؟ ولو سلم أن الآحادي يتوقف فيه على الوجه الذي زعموا فلا أقل لهذا الحديث الصحيح من صلاحيته تخصيص ذلك القياس المدعي. وقد أجيب عن هذا العذر بأجوبة غير ما ذكر ولكن أمثلها ما ذكرناه. ومن جملة ما خالف فيه هذا الحديث القياس عندهم أن الاصول تقتضي أن يكون الضمان بقدر التالف وهو مختلف، وقد قدر ههنا بمقدار معين وهو الصاع، وأجيب بمنع التعميم في جميع المضمونات، فإن الموضحة أرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر، وكذلك كثير من الجنايات. والغرة مقدرة في الجنين مع اختلافه. (والحكمة) في تقدير الضمان ههنا بمقدار واحد لقطع التشاجر لما كان قد اختلط اللبن الحادث بعد العقد باللبن الموجود قبله فلا يعرف مقداره حتى يسلم المشتري نظيره. (والحكمة) في التقدير بالتمر أنه أقرب الاشياء إلى اللبن لانه كان قوتهم إذ ذاك كالتمر. (ومن جملة) ما خالف به الحديث القياس عندهم أنه جعل الخيار فيه ثلاثا مع أن خيار العيب لا يقدر بالثلاث، وكذلك خيار الرؤية والمجلس، وأجيب بأنه حكم المصراة تفرد بأصله عن مماثله، فلا يستغرب أن ينفرد بوصف يخالف غيره، وذلك لان هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الغرر، بخلاف خيار الرؤية والعيب والمجلس فلا يحتاج إلى مدة. (ومن جملة) ما خالف به القياس عندهم أنه يلزم من الاخذ به الجمع بين العوض والمعوض، فيما إذا كان قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها،
[ 333 ]
وأجيب بأن التمر عوض اللبن لا عوض الشاة فلا يلزم ما ذكر. (ومن جملة) ما خالف به القياس عندهم أنه إذا استرد مع الشاة صاعا وكان ثمن الشاة صاعا كان قد باع شاة وصاعا بصاع فيلزم الربا، وأجيب بأن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ، بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يتفرقا قبل القبض، ولو تقابلا في هذا العقد بعينه جاز التفرق قبل القبض. (ومن جملة) المخالفة أنه يلزم من الاخذ به ضمان الاعيان مع بقائها فيما إذا كان اللبن موجودا، وأجيب بأنه تعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث وتعذر تمييزه، فأشبه الآبق بعد الغصب فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر رده. ومنها أنه يلزم من الاخذ به إثبات الرد بغير عيب ولا شرط، وأجيب بأن أسباب الرد لا تنحصر في الامرين المذكورين، بل له أسباب كثيرة منها الرد بالتدليس، وقد أثبت به الشارع الرد في الركبان إذا تلقفوا كما سلف، ولا يخفى على منصف أن هذه القواعد التي جعلوا هذا الحديث مخالفا لها لو سلم أنها قد قامت عليها الادلة لم يقصرا الحديث عن الصلاحية لتخصيصها، فيالله العجب من قوم يبلغون في المحاماة عن مذاهب أسلافهم وإيثارها على السنة المطهرة الصريحة الصحيحة إلى هذا الحد الذي يسر به إبليس، وينفق في حصول مثل هذه القضية التي قل طمعه في مثلها، لا سيما من علماء الاسلام النفس والنفيس، وهكذا فلتكن ثمرات التمذهبات وتقليد الرجال في مسائل الحرام والحلال. العذر السادس: أن الحديث محمول على صورة مخصوصة وهي إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب مثلا خمسة أرطال وشرط فيها الخيار فالشرط فاسد، فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد، وإن لم يتفقا بطل ووجب رد الصاع من التمر لانه كان قيمة اللبن يومئذ، وأجيب بأن الحديث معلق بالتصرية، ومذكروه يقتضي تعليقه بفساد الشرط، سواء وجدت تصرية أم لا فهو تأويل متعسف. وأيضا لو سلم أن ما ذكروه من جملة صور الحديث فالقصر على صورة معينة هي فرد من أفراد الدليل لا بد من إقامة دليل عليه. قال في الفتح: واختلف القائلون بالحديث في أشياء. منها: لو كان عالما بالتصرية هل يثبت له الخيار؟ فيه وجه للشافعية. قال: ومنها لو صار لبن المصراة عادة واستمر على كثرته هل له الرد فيه وجه لهم أيضا خلافا للحنابلة في المسألتين. ومنها: لو تصرت بنفسها أوصراها المالك لنفسه ثم بدا له فباعها فهل يثبت ذلك الحكم؟ فيه خلاف، فمن نظر
[ 334 ]
إلى المعنى أثبته لان العيب يثبت الخيار ولا يشترط فيه تدليس، ومن نظر إلى أن حكم التصرية خارج عن القياس خصه بمورده وهو حالة العمد فإن النهي إنما يتناولها فقط. ومنها: لو كان الضرع مملوءا لحما فظنه المشتري لبنا فاشتراها على ذلك ثم ظهر له أنه لحم هل يثبت له الخيار؟ فيه وجهان حكاهما بعض المالكية. ومنها: لو اشترى غير مصراة ثم اطلع على عيب بها بعد حلبها فقد نص الشافعي على جواز الرد مجانا لانه قليل غير معتني بجمعه. وقيل: يرد بدل اللبن كالمصراة. وقال البغوي: يرد صاعا من تمر انتهى. والظاهر عدم ثبوت الخيار مع علم المشتري بالتصرية لانتفاء الغرر الذي هو السبب للخيار. وأما كون سبب الغرر حاصلا من جهة البائع فيمكن أن يكون معتبرا، لان حكمه صلى الله عليه وآله وسلم بثبوت الخيار بعد النهي عن التصرية مشعر بذلك، وأيضا المصراة المذكورة في الحديث اسم مفعول، وهو يدل على أن التصرية وقعت عليها من جهة الغير، لان اسم المفعول هو لمن وقع عليه فعل الفاعل، ويمكن أن لا يكون معتبرا، لان تصري الدابة من غير قصد، وكون ضرعها ممتلئا لحما يحصل به من الغرر ما يحصل بالتصرية عن قصد فينظر. قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل في النهي عن الغش، وأصل في ثبوت الخيار لمن دلس عليه بعيب. وأصل في أنه لا يفسد أصل البيع. وأصل في أن مدة الخيار ثلاثة أيام. وأصل في تحريم التصرية وثبوت الخيار بها. باب النهي عن التسعير عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله لو سعرت، فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لارجو أن ألقى الله عزوجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. الحديث أخرجه أيضا الدارمي والبزار وأبو يعلى، قال الحافظ: وإسناده على شرط مسلم، وصححه أيضا ابن حبان. (وفي الباب) عن أبي هريرة عند أحمد وأبي داود قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله سعر، فقال: بل ادعو الله، ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله سعر، فقال:
[ 335 ]
بل الله يخفض ويرفع قال الحافظ: وإسناده حسن. وعن أبي سعيد عند ابن ماجه والبزار والطبراني نحو حديث أنس ورجاله رجال الصحيح وحسنه الحافظ. وعن علي عليه السلام عند البزار نحوه. وعن ابن عباس عند الطبراني في الصغير. وعن أبي جحيفة عنده في الكبير. قوله: لو سعرت التسعير هو أن يأمر السلطان أو نوابه أو كل من ولي من أمور المسلمين أمرا أهل السوق أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا، فيمنع من الزيادة عليه أو النقصان لمصلحة. قوله: المسعر فيه دليل على أن المسعر من أسماء الله تعالى وأنها لا تنحصر في التسعة والتسعين المعروفة. وقد استدل بالحديث وما ورد في معناه على تحريم التسعير وأنه مظلمة. ووجهه أن الناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، والامام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الامران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لانفسهم وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضي به مناف لقوله تعالى: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض) * (سورة النساء، الآية: 29) وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، وروي عن مالك أنه يجوز للامام التسعير، وأحاديث الباب ترد عليه. وظاهر الاحاديث أنه لا فرق بين حالة الغلاء وحالة الرخص، ولا فرق بين المجلوب وغيره، وإلى ذلك مال الجمهور. وفي وجه للشافعية جواز التسعير في حالة الغلاء وهو مردود. وظاهر الاحاديث عدم الفرق بين ما كان قوتا للآدمي ولغيره من الحيوانات، وبين ما كان من غير ذلك من الادامات وسائر الامتعة، وجوز جماعة من متأخري أثمة الزيدية جواز التسعير فيما عدا قوت الآدمي والبهيمة كما حكى ذلك منهم صاحب الغيث. وقال شارح الاثمار: إن التسعير في غير القوتين لعله اتفاق والتخصيص يحتاج إلى دليل، والمناسب الملغى لا ينتهض لتخصيص صرائح الادلة، بل لا يجوز العمل به على فرض عدم وجود دليل كما تقرر في الاصول. باب ما جاء في الاحتكار عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله العدوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحتكر إلا خاطئ، وكان سعيد يحتكر الزيت رواه أحمد
[ 336 ]
ومسلم وأبو داود. وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من دخل في شئ من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ رواهما أحمد. وعن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والافلاس رواه ابن ماجه. حديث معمر أخرجه أيضا الترمذي وغيره. وحديث معقل أخرجه الطبراني في الكبير والاوسط وفي إسناده زيد بن مرة أبو المعلى. قال في مجمع الزوائد: ولم أجد من ترجمه وبقية رجاله رجال الصحيح. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا الحاكم وزاد: وقد برئت منه ذمة الله، وفي إسناد حديث أبي هريرة أبو معشر وهو ضعيف وقد وثق. وحديث عمر في إسناده الهيثم بن رافع، قال أبو داود: روى حديثا منكرا. قال الذهبي: هو الذي خرجه ابن ماجه يعني هذا وفي إسناده أيضا أبويحيى المكي وهو مجهول، ولبقية أحاديث الباب شواهد. منها: حديث ابن عمر عند ابن ماجه والحاكم وإسحاق بن راهويه والدارمي وأبي يعلى والعقيلي في الضعفاء بلفظ: الجالب مرزوق والمحتكر ملعون وضعف الحافظ إسناده. ومنها: حديث آخر عند ابن عمر أيضا عند أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى بلفظ: من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه زاد الحاكم: وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وفي إسناده أصبغ بن زيد وكثير بن مرة، والاول مختلف فيه، والثاني قال ابن حزم: إنه مجهول، وقال غيره: معروف، ووثقه ابن سعد وروى عنه جماعة واحتج به النسائي. قال الحافظ: ووهم ابن الجوزي فأخرج هذا الحديث في الموضوعات. وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه أنه منكر، ولا شك أن أحاديث الباب تنتهض بمجموعها للاستدلال على عدم جواز الاحتكار لو فرض عدم ثبوت شئ منها في الصحيح، فكيف وحديث معمر المذكور في صحيح مسلم والتصريح بأن المحتكر خاطئ كاف في إفادة عدم الجواز، لان الخاطئ المذنب العاصي، وهو اسم فاعل من خطئ بكسر العين وهمز اللام، خطأ بفتح العين وبكسر الفاء وسكون العين إذا أثم في فعله، قاله
[ 337 ]
أبو عبيدة وقال: سمعت الازهري يقول: خطئ إذا تعمد، وأخطأ إذا لم يتعمد. قوله: بعظم بضم العين المهملة وسكون الظاء المعجمة أي بمكان عظيم من النار. قوله: حكرة بضم الحاء المهملة وسكون الكاف وهي حبس السلع عن البيع. وظاهر أحاديث الباب أن الاحتكار محرم من غير فرق بين قوت الآدمي والدواب وبين غيره، والتصريح بلفظ: الطعام في بعض الروايات لا يصلح لتقييد بقية الروايات المطلقة، بل هو من التنصيص على فرد من الافراد التي يطلق عليها المطلق، وذلك لان نفي الحكم عن غير الطعام إنما هو لمفهوم اللقب وهو غير معمول به عند الجمهور، وما كان كذلك لا يصلح للتقييد على ما تقرر في الاصول، وذهبت الشافعية إلى أن المحرم إنما هو احتكار الاقوات خاصة لا غيرها ولا مقدار الكفاية منها، وإلى ذلك ذهبت الهادوية. قال ابن رسلان في شرح السنن: ولا خلاف في أن ما يدخره الانسان من قوت وما يحتاجون إليه من سمن وعسل وغير ذلك جائز لا بأس به انتهى. ويدل على ذلك ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعطي كل واحدة من زوجاته مائة وسق من خيبر. قال ابن رسلان في شرح السنن: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخر لاهله قوت سنتهم من تمر وغيره. قال أبو داود: قيل لسعيد يعني ابن المسيب: فإنك تحتكر، قال: ومعمر كان يحتكر، وكذا في صحيح مسلم. قال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا يحتكران الزيت، وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه، وكذلك حمله الشافعي وأبو حنيفة وآخرون. ويدل على اعتبار الحاجة وقصد إغلاء السعر على المسلمين قوله في حديث معقل: من دخل في شئ من أسعار المسلمين ليغليه عليهم وقوله في حديث أبي هريرة: يريد أن يغلي بها على المسلمين قال أبو داود: سألت أحمد ما الحكرة؟ قال: ما فيه عيش الناس أي حياتهم وقوتهم. وقال الاثرم: سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يسأل عن أي شئ الاحتكار؟ فقال: إذا كان من قوت الناس فهو الذي يكره، وهذا قول ابن عمر. وقال الاوزاعي: المحتكر من يعترض السوق أي ينصب نفسه للتردد إلى الاسواق ليشتري منها الطعام الذي يحتاجون إليه ليحتكره. قال السبكي: الذي ينبغي أن يقال في ذلك أنه إن منع غيره من الشراء وحصل به ضيق حرم، وإن كانت الاسعار رخيصة وكان القدر الذي يشتريه لا حاجة بالناس إليه فليس لمنعه من شرائه وادخاره إلى وقت حاجة الناس إليه معنى. قال القاضي حسين
[ 338 ]
والروياني: وربما يكون هذا حسنة لانه ينفع به الناس، وقطع المحاملي في المقنع باستحبابه، قال أصحاب الشافعي: الاولى بيع الفاضل عن الكفاية، قال السبكي: أما إمساكه حالة استغناء أهل البلد عنه رغبة في أن يبيعه إليهم وقت حاجتهم إليه فينبغي أن لا يكره بل يستحب. (والحاصل) أن العلة إذا كانت هي الاضرار بالمسلمين لم يحرم الاحتكار إلا على وجه يضربهم، ويستوي في ذلك القوت وغيره لانهم يتضررون بالجميع. قال الغزالي في الاحياء: ما ليس بقوت ولا معين عليه فلا يتعدى النهي إليه وإن كان مطعوما، وما يعين على القوت كاللحم والفواكه، وما يسد مسد شئ من القوت في بعض الاحوال وإن كان لا يمكن المداومة عليه فهو في محل النظر، فمن العلماء من طرد التحريم في السمن والعسل والشيرج والجبن والزيت وما يجرى مجراه. وقال السبكي: إذا كان في وقت قحط كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها إضرار فينبغي أن يقضي بتحريمه، وإذا لم يكن إضرار فلا يخلو احتكار الاقوات عن كراهة. وقال القاضي حسين: إذا كان الناس يحتاجون الثياب ونحوها لشدة البرد أو لستر العورة فيكره لمن عنده ذلك إمساكه. قال السبكي: إن أراد كراهة تحريم فظاهر، وإن أراد كراهة تنزيه فبعيد. وحكى أبو داود عن قتادة أنه قال: ليس في التمر حكرة. وحكي أيضا عن سفيان أنه سئل عن كبس القت فقال: كانوا يكرهون الحكرة، والكبس بفتح الكاف وإسكان الموحدة، والقت بفتح القاف وتشديد التاء الفوقية وهو اليابس من القضب. قال الطيبي: إن التقييد بالاربعين اليوم غير مراد به التحديد انتهى. ولم أجد من ذهب إلى العمل بهذا العدد. باب النهي عن كسر سكة المسلمين إلا من بأس عن عبد الله بن عمرو المازني قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تنكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وزاد: نهى أن تكسر الدراهم فتجعل فضة، وتكسر الدنانير فتجعل ذهبا وضعفه ابن حبان، ولعل وجه الضعف كونه في
[ 339 ]
إسناده محمد بن فضاء بفتح الفاء والضاد المعجمة الازدي الحمصي البصري المعبر للرؤيا، قال المنذري: لا يحتج بحديثه. قوله: سكة بكسر السين المهملة أي الدراهم المضروبة على السكة الحديد المنقوشة التي تطبع عليها الدراهم والدنانير. قوله: الجائزة يعني النافقة في معاملتهم. قوله: إلا من بأس كأن تكون زيوفا، وفي معنى كسر الدارهم كسر الدنانير والفلوس التي عليها سكة الامام، لا سيما إذا كان التعامل بذلك جاريا بين المسلمين كثيرا. (والحكمة) في النهي ما في الكسر من الضرر بإضاعة المال لما يحصل من النقصان في الدراهم ونحوها إذا كسرت وأبطلت المعاملة بها. قال ابن رسلان: لو أبطل السلطان المعاملة بالدراهم التي ضربها السلطان الذي قبله وأخرج غيرها جاز كسر تلك الدراهم التي أبطلت وسبكها لاخراج الفضة التي فيها، وقد يحصل في سبكها وكسرها ربح كثير لفاعله انتهى. ولا يخفى أن الشارع لم يأذن في الكسر إلا إذا كان بها بأس، ومجرد الابدال لنفع البعض ربما أفضى إلى الضرر بالكثير من الناس، فالجزم بالجواز من غير تقييد بانتفاء الضرر لا ينبغي. قال أبو العباس بن سريج: إنهم كانوا يقرضون أطراف الدراهم والدنانير بالمقراض ويخرجونهما عن السعر الذي يأخذونهما به، ويجمعون من تلك القراضة شيئا كثيرا بالسبك، كما هو معهود في المملكة الشامية وغيرها، وهذه الفعلة هي التي نهى الله عنها قوم شعيب بقوله: * (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) * (سورة الاعراف، الآية: 185) فقالوا: انتهانا أن نفعل في أموالنا يعني الدراهم والدنانير ما نشاء من القرض، ولم ينتهوا عن ذلك فأخذتهم الصيحة. (فائدة) قال في البحر مسألة: الامام يحيى لو باع بنقد ثم حرم السلطان التعامل به قبل قبضه فوجهان: يلزم ذلك النقد إذ عقد عليه. الثاني يلزم قيمته إذ صار لكساده كالعرض انتهى. قال في المنار: وكذلك لو صار كذلك يعني النقد لعارض آخر، وكثير ما وقع هذا في زمننا لفساد الضربة لاهمال الولاة النظر في المصالح، والاظهر أن اللازم القيمة لما ذكره المصنف انتهى. باب ما جاء في اختلاف المتبايعين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة أو يترادان رواه أحمد
[ 340 ]
وأبو داود والنسائي وزاد فيه ابن ماجه: والبيع قائم بعينه وكذلك أحمد في رواية: والسلعة كما هي وللدارقطني عن أبي وائل عن عبد الله قال: إذا اختلف البيعان والبيع مستهلك فالقول قول البائع ورفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولاحمد والنسائي عن أبي عبيدة: وأتاه رجلان تبايعا سلعة فقال هذا: أخذت بكذا وكذا، وقال هذا: بعت بكذا وكذا، فقال أبو عبيدة أتى عبد الله في مثل هذا فقال: حضرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذا فأمر بالبائع أن يستحلف ثم يخير المبتاع إن شاء أخذ وإن شاء ترك. الحديث روي عن عبد الله بن مسعود من طرق بألفاظ ذكر المصنف رحمه الله بعضها. وقد أخرجه أيضا الشافعي من طريق سعيد بن سالم عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عمير عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود، وقد اختلف فيه على إسماعيل بن أمية ثم على ابن جريج. وقد اختلف في صحة سماع أبي عبيدة من أبيه. ورواه من طريق أبي عبيدة أحمد والنسائي والدارقطني، وقد صححه الحاكم وابن السكن. ورواه أيضا الشافعي من طريق سفيان بن عجلان عن عون بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود، وفيه أيضا انقطاع، لان عونا لم يدرك ابن مسعود. ورواه الدارقطني من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن جده، وفيه إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة. ورواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الاشعث ابن قيس عن أبيه عن جده عن ابن مسعود. وأخرجه أيضا من طريق محمد بن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن ابن مسعود، ومحمد بن أبي ليلى لا يحتج به، وعبد الرحمن لم يسمع من أبيه. ورواه ابن ماجه والترمذي من طريق عون بن عبد الله أيضا عن ابن مسعود وقد سبق أنه منقطع. قال البيهقي: وأصح إسناد روي في هذا الباب رواية أبي العميس عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الاشعث بن قيس عن أبيه عن جده، ورواه أيضا الدارقطني من طريق القاسم بن عبد الرحمن، قال الحافظ: ورجاله ثقات، إلا أن عبد الرحمن اختلف في سماعه من أبيه. ورواية التراد رواها أيضا مالك بلاغا، والترمذي وابن ماجه بإسناد منقطع. ورواه أيضا الطبراني بلفظ: البيعان إذا اختلفا في البيع ترادا. قال الحافظ: رواته ثقات،
[ 341 ]
لكن اختلف في عبد الرحمن بن صالح يعني الراوي له عن فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: وما أظنه حفظه، فقد جزم الشافعي أن طرق هذا الحديث عن ابن مسعود ليس فيها شئ موصول. ورواه أيضا النسائي والبيهقي والحاكم من طريق عبد الرحمن بن قيس بالاسناد الذي رواه عنه أبو داود كما سلف، وصححه من هذا الوجه الحاكم وحسنه البيهقي، ورواه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن جده بلفظ: إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لاحدهما تحالفا. ورواه من هذا الوجه الطبراني والدارمي. وقد انفرد بقوله: والسلعة قائمة محمد بن أبي ليلى ولا يحتج به كما عرفت لسوء حفظه. قال الخطابي: إن هذه اللفظة يعني والسلعة قائمة لا تصح من طريق النقل مع احتمال أن يكون ذكرها من التغليب، لان أكثر ما يعرض النزاع حال قيام السلعة كقوله تعالى: * (في حجوركم) * (سورة النساء، الآية: 23) ولم يفرق أكثر الفقهاء في البيوع الفاسدة بين القائم والتالف انتهى. وأبو وائل الراوي لقوله: والبيع مستهلك كما في حديث الباب هو عبد الله بن بحير شيخ عبد الرزاق الصنعاني القاص وثقه ابن معين، وقال ابن حبان: يروي العجائب التي كأنها معمولة لا يحتج به، وليس هذا المذكور عبد الله بن بحير بن ريشان فإنه ثقة، وعلى هذا فلا يقبل ما تفرد به أبو وائل المذكور. وأما قوله فيه تحالفا فقال الحافظ: لم يقع عند أحد منهم وإنما عندهم، والقول قول البائع أو يترادان البيع انتهى. قال ابن عبد البر: إن هذا الحديث منقطع، إلا أنه مشهور الاصل عند جماعة تلقوه بالقبول وبنوا عليه كثيرا من فروعه، وأعله ابن حزم بالانقطاع، وتابعه عبد الحق وأعله هو وابن القطان بالجهالة في عبد الرحمن وأبيه وجده. وقال الخطابي: هذا حديث قد اصطلح الفقهاء على قبوله، وذلك يدل على أن له أصلا وإن كان في إسناده مقال، كما اصطلحوا على قبول لا وصية لوارث وإسناده فيه ما فيه انتهى. قوله: البيعان أي البائع والمشتري كما تقدم في الخيار، ولم يذكر الامر الذي فيه الاختلاف، وحذف المتعلق مشعر بالتعميم في مثل هذا المقام على ما تقرر في علم المعاني، فيعم الاختلاف في المبيع والثمن وفي كل أمر فرجع إليهما، وفي سائر الشروط المعتبرة، والتصريح بالاختلاف في الثمن في بعض الروايات كما وقع في الباب لا ينافي هذا العموم المستفاد من الحذف. قوله: صاحب السلعة هو البائع كما وقع التصريح به في سائر الروايات، فلا وجه لما روي عن البعض أن رب السلعة في الحال هو المشتري. وقد استدل بالحديث من قال: إن القول قول البائع إذا وقع
[ 342 ]
الاختلاف بينه وبين المشتري في أمر من الامور المتعلقة بالعقد ولكن مع يمينه، كما وقع في الرواية الآخرة، وهذا إذا لم يقع التراضي بينهما على التراد، فإن تراضيا على ذلك جاز بلا خلاف، فلا يكون لهما خلاص عن النزاع إلا التفاسخ أو حلف البائع، والظاهر عدم الفرق بين بقاء المبيع وتلفه لما عرفت من عدم انتهاض الرواية المصرح فيها باشتراط بقاء المبيع للاحتجاج، والتراد مع التلف ممكن بأن يرجع كل واحد منهما بمثل المثلى وقيمة القيمى إذا تقرر لك ما يدل عليه هذا الحديث من كون القول قول البائع من غير فرق، فاعلم أنه لم يذهب إلى العمل به في جميع صور الاختلاف أحد فيما أعلم، بل اختلفوا في ذلك اختلافا طويلا على حسب ما هو مبسوط في الفروع، ووقع الاتفاق في بعض الصور والاختلاف في بعض، وسبب الاختلاف في ذلك ما سيأتي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: البينة على المدعي واليمين علالمدعى عليه لانه يدل بعمومه على أن اليمين على المدعى عليه والبينة على المدعي من غير فرق بين أن يكون أحدهما بائعا والآخر مشتريا أو لا. وحديث الباب يدل على أن القول قول البائع مع يمينه، والبينة على المشتري، من غير فرق بين أن يكون البائع مدعيا أو مدعى عليه، فبين الحديثين عموم وخصوص من وجه فيتعارضان باعتبار مادة الاتفاق وهي حيث يكون البائع مدعيا، فينبغي أن يرجع في الترجيح إلى الامور الخارجية، وحديث أن اليمين على المدعى عليه عزاه المصنف في كتاب الاقضية إلى أحمد ومسلم، وهو أيضا في صحيح البخاري في الرهن، وفي باب اليمين على المدعى عليه، وفي تفسير آل عمران. وأخرجه الطبراني بلفظ: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. وأخرجه الاسماعيلي بلفظ ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب وأخرجه البيهقي بلفظ: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر وهذه الالفاظ كلها في حديث ابن عباس ممن رام الترجيح بين الحديثين لم يصعب عليه ذلك بعد هذا البيان، ومن أمكنه الجمع بوجه مقبول فهو المتعين. كتاب السلم عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم
[ 343 ]
رواه الجماعة، وهو حجة في السلم في منقطع الجنس حالة العقد. قوله: كتاب السلم هو بفتح السين المهملة واللام كالسلف، وزنا ومعنى، وحكي في الفتح عن الماوردي أن السلف لغة أهل العراق، والسلم لغة أهل الحجاز. وقيل: السلف تقديم رأس المال والسلم تسليمه في المجلس فالسلف أعم. قال في الفتح: والسلم شرعا بيع موصوف في الذمة وزيد في الحد ببدل يعطى عاجلا وفيه نظر، لانه ليس داخلا في حقيقته. قال: واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب، واختلفوا في بعض شروطه، واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع، وعلى تسليم رأس المال في المجلس، واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا اه. قوله يسلفون بضم أوله. قوله: السنة والسنتين في رواية للبخاري: عامين أو ثلاثة والسنة بالنصب على الظرفية أو على المصدر، وكذلك لفظ سنتين وعامين. قوله: في كيل معلوم احترز بالكيل عن السلم في الاعيان وبقوله معلوم عن المجهول من المكيل والموزون، وقد كانوا في المدينة حين قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون في ثمار نخيل بأعيانها فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر، إذ قد تصاب تلك النخيل بعاهة فلا تثمر شيئا، قال الحافظ: واشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل متفق عليه من أجل اختلاف المكاييل إلا أن لا يكون في البلد سوى كيل واحد فإنه ينصرف إليه عند الاطلاق. قوله: إلى أجل معلوم فيه دليل على اعتبار الاجل في السلم، وإليه ذهب الجمهور وقالوا: لا يجوز السلم حالا، وقالت الشافعية: يجوز، قالوا: لانه إذا جاز مؤجلا مع الغرر فجوازه حالا أولى، وليس ذكر الاجل في الحديث لاجل الاشتراط، بل معناه: إن كان لاجل فليكن معلوما وتعقب بالكتابة فإن التأجيل شرط فيها. وأجيب بالفرق لان الاجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالبا، واستدل الجمهور على اعتبار التأجيل بما أخرجه الشافعي والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * (سورة البقرة، الآية: 282) ويجاب بأن هذا يدل على جواز السلم إلى أجل، ولا يدل على أنه لا يجوز إلا مؤجلا. وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه قال: لا تسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا ويجاب بأن هذا ليس بحجة لانه موقوف عليه. وكذلك يجاب
[ 344 ]
عن قول أبي سعيد الذي علقه البخاري ووصله عبد الرزاق بلفظ: السلم بما يقوم به السعر ربا، ولكن السلف في كيل معلوم إلى أجل وقد اختلف الجمهور في مقدار الاجل فقال أبو حنيفة: لا فرق بين الاجل القريب والبعيد، وقال أصحاب مالك: لا بد من أجل تتغير فيه الاسواق وأقله عندهم ثلاثة أيام، وكذا عند الهادوية، وعند ابن القاسم خمسة عشر يوما، وأجاز مالك السلم إلى العطاء والحصاد ومقدم الحاج، ووافقه أبو ثور، واختار ابن خزيمة تأقيته إلى الميسرة واحتج بحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلى يهودي: ابعث إلي ثورين إلى الميسرة وأخرجه النسائي وطعن ابن المنذر في صحته، وليس في ذلك دليل على المطلوب، لان التنصيص على نوع من أنواع الاجل لا ينفي غيره. وقال المنصور بالله: أقله أربعون يوما، وقال الناصر: أقله ساعة، والحق ما ذهبت إليه الشافعية من عدم اعتبار الاجل لعدم ورود دليل يدل عليه، فلا يلزم التعبد بحكم بدون دليل. وأما ما يقال من أنه يلزم مع عدم الاجل أن يكون بيعا للمعدوم ولم يرخص فيه إلا في السلم، ولا فارق بينه وبين البيع إلا الاجل، فيجاب عنه بأن الصيغة فارقة وذلك كاف. (واعلم) أن للسلم شروطا غير ما اشتمل عليه الحديث مبسوطة في كتب الفقه، ولا حاجة لنا في التعرض لما لا دليل عليه، إلا أنه وقع الاجماع على اشتراط معرفة صفة الشئ المسلم فيه على وجه يتميز بتلك المعرفة عن غيره. وعن عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى، قيل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك رواه أحمد والبخاري. وفي رواية: كنا نسلف على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزيت والتمر وما نراه عندهم رواه الخمسة إلا الترمذي. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره رواه أبو داود وابن ماجه. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أسلف شيئا فلا يشرط على صاحبه غير قضائه وفي لفظ: من أسلف في شئ فلا يأخذ إلاما أسلف فيه أو رأس ماله رواهما الدارقطني. واللفظ الاول دليل امتناع الرهن والضمين فيه، والثاني بمنع الاقالة في البعض.
[ 345 ]
حديث أبي سعيد في إسناده عطية بن سعد العوفي، قال المنذري: لا يحتج بحديثه. قوله: ابن أبزى بالموحدة والزاي على وزن أعلى وهو الخزاعي أحد صغار الصحابة ولابيه أبزى صحبة. قوله: أنباط جمع نبيط وهم قوم معروفون كانوا ينزلون بالبطائح من العراقين قاله الجوهري، وأصلهم قوم من العرب دخلوا في العجم واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم، ويقال لهم النبط بفتحتين، والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية، وإنما سموا بذلك لمعرفتهم بإنباط الماء أي استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة، وقيل: هم نصارى الشام وهم عرب دخلوا في الروم ونزلوا بوادي الشام، ويدل على هذا قوله: من أنباط الشام. وقيل: هم طائفتان: طائفة اختلطت بالعجم ونزلوا البطائح، وطائفة اختلطت بالروم ونزلوا الشام. قوله: فنسلفهم بضم النون وإسكان السين المهملة وتخفيف اللام من الاسلاف، وقد تشدد اللام مع فتح السين من التسليف. قوله: ما كنا نسألهم عن ذلك فيه دليل على أنه لا يشترط في المسلم فيه أن يكون عند المسلم إليه، وذلك مستفاد من تقريره صلى الله عليه وآله وسلم لهم مع ترك الاستفصال. قال ابن رسلان: وأما المعدوم عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه. قوله: وما نراه عندهم لفظ أبي داود: إلى قوم ما هو عندهم أي ليس عندهم أصل من أصول الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقد اختلف العلماء في جواز السلم فيما ليس بموجود في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول الاجل، فذهب إلى جوازه الجمهور قالوا: ولا يضر انقطاعه قبل الحلول. وقال أبو حنيفة: لا يصح فيما ينقطع قبله، بل لا بد أن يكون موجودا من العقد إلى المحل، ووافقه الثوري والاوزاعي، فلو أسلم في شئ فانقطع في محله لم ينفسخ عند الجمهور، وفي وجه للشافعية ينفسخ. واستدل أبو حنيفة ومن معه بما أخرجه أبو داود عن ابن عمر: أن رجلا أسلف رجلا في نخل فلم يخرج تلك السنة شيئا فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بم تستحل ماله؟ أردد عليه ماله، ثم قال: لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه وهذا نص في التمر وغيره قياس عليه، ولو صح هذا الحديث لكان المصير إليه أولى لانه صريح في الدلالة على المطلوب، بخلاف حديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى فليس فيه إلا مظنة التقرير منه صلى الله
[ 346 ]
عليه وآله وسلم مع ملاحظة تنزيل ترك الاستفصال منزلة العموم، ولكن حديث ابن عمر هذا في إسناده رجل مجهول، فإن أبا داود رواه عن محمد بن كثير عن سفيان عن أبي إسحاق عن رجل نجراني عن ابن عمر، ومثل هذا لا تقوم به حجة. (قال القائلون) بالجواز: ولو صح هذا الحديث لحمل على بيع الاعيان أو على السلم الحال عند من يقول به أو على ما قرب أجله، قالوا: ومما يدل على الجواز ما تقدم من أنهم كانوا يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، ومن المعلوم أن الثمار لا تبقى هذه المدة، ولو اشترط الوجود لم يصح السلم في الرطب إلى هذه المدة، وهذا أولى ما يتمسك به في الجواز. قوله: فلا يصرفه إلى غيره الظاهر أن الضمير راجع إلى المسلم فيه لا إلى ثمنه الذي هو رأس المال، والمعنى: أنه لا يحل جعل المسلم فيه ثمنا لشئ قبل قبضه، ولا يجوز بيعه قبل القبض، أي لا يصرفه إلى شئ غير عقد السلم. وقيل: الضمير راجع إلى رأس مال السلم. وعلى ذلك حمله ابن رسلان في شرح السنن وغيره، أي ليس له صرف رأس المال في عوض آخر كأن يجعله ثمنا لشئ آخر، فلا يجوز له ذلك حتى يقبضه، وإلى ذلك ذهب مالك وأبو حنيفة والهادي والمؤيد بالله. وقال الشافعي وزفر: يجوز ذلك لانه عوض عن مستقر في الذمة فجاز كما لو كان قرضا، ولانه مال عاد إليه بفسخ العقد على فرض تعذر المسلم فيه فجاز أخذ العوض عنه كالثمن في المبيع إذا فسخ العقد. قوله: فلا يشرط على صاحبه غير قضائه فيه دليل على أنه لا يجوز شئ من الشروط في عقد السلم غير القضاء، واستدل به المصنف على امتناع الرهن. وقد روي عن سعيد بن جبير أن الرهن في السلم هو الربا المضمون. وقد روي نحو ذلك عن ابن عمر والاوزاعي والحسن وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ورخص فيه الباقون، واستدلوا بما في الصحيح من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى طعاما من يهودي نسيئة ورهنه درعا من حديد. وقد ترجم عليه البخاري باب الرهن في السلم، وترجم عليه أيضا في كتاب السلم باب الكفيل في السلم، واعترض عليه الاسماعيلي: بأنه ليس في الحديث ما ترجم به، ولعله أراد إلحاق الكفيل بالرهن لانه حق ثبت الرهن به فجاز أخذ الكفيل به، والخلاف في الكفيل كالخلاف في الرهن. قوله: فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه
[ 347 ]
الخ، فيه دليل لمن قال: إنه لا يجوز صرف رأس المال إلى شئ آخر، وقد تقدم الخلاف في ذلك. كتاب القرض باب فضيلته عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة رواه ابن ماجه. الحديث في إسناده سليمان بن بشير وهو متروك، قال الدارقطني: والصواب أنه موقوف على ابن مسعود، وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه مرفوعا: الصدقة بعشرة أمثالها والقرض بثمانية عشر وفي إسناده خالد بن يزيد بن عبد الرحمن الشامي، قال النسائي: ليس بثقة. وعن أبي هريرة عند مسلم مرفوعا: من نفس عن أخيه كربة من كرب الدنيا نفس الله بها عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان في عون أخيه. وفي فضيلة القرض أحاديث، وعمومات الادلة القرآنية والحديثية القاضية بفضل المعاونة وقضاء حاجة المسلم وتفريج كربته وسد فاقته شاملة له، ولا خلاف بين المسلمين في مشروعيته. قال ابن رسلان: ولا خلاف في جواز سؤاله عند الحاجة ولا نقص على طالبه، ولو كان فيه شئ من ذلك لما استسلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال في البحر: وموقعه أعظم من الصدقة إذ لا يفترض إلا محتاج اه. ويدل على هذا الحديث أنس المذكور، وفي حديث الباب دليل على أن قرض الشئ مرتين يقوم مقام التصدق به مرة. باب استقراض الحيوان والقضاء من الجنس فيه وفي غيره عن أبي هريرة قال: استقرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنا فأعطى سنا خيرا من سنه وقال: خياركم أحاسنكم قضاء رواه أحمد والترمذي وصححه. وعن أبي رافع قال: استلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكرا فجاءته إبل
[ 348 ]
الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره، فقلت: إني لم أجد في الابل إلا جملا خيارا رباعيا فقال: أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء رواه الجماعة إلا البخاري. وعن أبي سعيد قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتقاضاه دينا كان عليه فأرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فاقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك مختصر لابن ماجه. حديث أبي هريرة هو في الصحيحين بلفظ: كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حق فأغلظ له، فهم به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا، فقال لهم: اشتروا له سنا فأعطوه إياه، فقالوا: إنا لا نجد إلا سنا هو خير من سنه، قال: فاشتروه وأعطوه إياه فإن من خيركم أو أخيركم أحسنكم قضاء وسيأتي وفي الباب عن العرباض بن سارية عند النسائي والبزار قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكرا وأتيته أتقاضاه فقلت: أقض ثمن بكري، فقال: لا أقضيك إلا نجيبة، فدعاني فأحسن قضائي، ثم جاء أعرابي فقال: أقض بكري فقضاه بعيرا وحديث أبي سعيد في إسناده عند ابن ماجه ابن أبي عبيدة عن أبيه وهما ثقتان وبقية إسناده ثقات. قوله: أحاسنكم قضاء جمع أحسن. ورواية الصحيحين: أحسنكم كما سلف وهو الفصيح. ووقع في رواية لابي داود محاسنكم بالميم كمطلع ومطالع. وقوله: بكرا بفتح الباء الموحدة وهو الفتى من الابل. قال الخطابي: هو من الابل بمنزلة الغلام من الذكور، والقلوص بمنزلة الجارية من الاناث. قوله رباعيا بفتح الراء وتخفيف الموحدة وهو الذي استكمل ست سنين ودخل في السابعة (وفي الحديثين) دليل على جواز الزيادة على مقدار القرض من المستقرض، وسيأتي الكلام على ذلك قال الخطابي وفي حديث أبي رافع من الفقه جواز تقديم الصدقة قبل محلها وذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل له الصدقة، فلا يجوز أن يقضي من إبل الصدقة شيئا كان استسلفه لنفسه، فدل على أنه استسلفه لاهل الصدقة من أرباب المال، وهذا استدلال الشافعي (وقد اختلف) العلماء في جواز تقديم الصدقة عن محل وقتها، فأجازه الاوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه وابن حنبل وابن راهويه. وقال الشافعي، يجوز أن يعجل الصدقة سنة واحدة، وقال الشافعي: لا يجوز أن يخرجها قبل حلول الحول، وكرهه سفيان الثوري، وقد تقدم في الزكاة ذكر ما يدل على
[ 349 ]
الجواز. (وفي الحديثين) أيضا جواز قرض الحيوان وهو مذهب الجمهور، ومنع ذلك الكوفيون والهادوية قالوا: لانه نوع من البيع مخصوص، وقد نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان كما سلف. ويجاب بأن الاحاديث متعارضة في المنع من بيع الحيوان بالحيوان، والجواز وعلى تسليم أن المنع هو الراجح، فحديث أبي هريرة وأبي رافع والعرباض بن سارية مخصصة لعموم النهي. (وأما الاستدلال) على المنع بأن الحيوان مما يعظم فيه التفاوت فممنوع، وقد استثنى مالك والشافعي وجماعة من العلماء قرض الولائد فقالوا: لا يجوز لانه يؤدي إلى عارية الفرج، وأجاز ذلك مطلقا داود والطبري والمزني ومحمد بن داود وبعض الخراسانيين، وأجازه بعض المالكية بشرط أن يرد غير ما استقرضه وأجازه بعض أصحاب الشافعي وبعض المالكية فيمن يحرم وطؤه على المستقرض. وقد حكى إمام الحرمين عن السلف والغزالي عن الصحابة النهي عن قرض الولائد. وقال ابن حزم: ما نعلم في هذا أصلا من كتاب ولا من رواية صحيحة ولا سقيمة، ولا من قول صاحب إجماع ولا قياس أهو حديث أبي سعيد المذكور فيه دليل على أنه يجوز لمن عليه دين أن يقضيه بدين آخر، ولا خلاف في جواز ذلك فيما أعلم. باب جواز الزيادة عند الوفاء والنهي عنها قبله عن أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سن من الابل فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها، فقال أعطوه، فقال: أوفيتني أوفاك الله فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن خيركم أحسنكم قضاء. وعن جابر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان لي عليه دين فقضاني وزادني متفق عليهما. وعن أنس وسئل الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك رواه ابن ماجه. وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أقرض فلا يأخذ هدية رواه البخاري في تاريخه. وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله
[ 350 ]
بن سلام فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدي إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا رواه البخاري في صحيحه. حديث أنس في إسناده يحيى بن أبي إسحاق الهنائي وهو مجهول، وفي إسناده أيضا عتبة بن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد، والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف. قوله: سن أي جمل له سن معين. وفي حديث أبي هريرة دليل على جواز المطالبة بالدين إذا حل أجله، وفيه أيضا دليل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتواضعه وإنصافه. وقد وقع في بعض ألفاظ الصحيح: أن الرجل أغلظ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا كما تقدم. وفيه دليل على جواز قرض الحيوان، وقد تقدم الخلاف في ذلك. وفيه جواز رد ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في النقد، وبه قال الجمهور. وعن المالكية إن كانت الزيادة بالعدد لم يجز، وإن كانت بالوصف جازت، ويرد عليهم حديث جابر المذكور في الباب، فإنه صرح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زاده، والظاهر أن الزيادة كانت في العدد، وقد ثبت في رواية للبخاري أن الزيادة كانت قيراطا، وأما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فتحرم اتفاقا، ولا يلزم من جواز الزيادة في القضاء على مقدار الدين جواز الهدية ونحوها قبل القضاء لانها بمنزلة الرشوة فلا تحل، كما يدل على ذلك حديثا أنس المذكور ان في الباب، وأثر عبد الله بن سلام (والحاصل) أن الهدية والعارية ونحوهما إذا كانت لاجل التنقيس في أجل الدين، أو لاجل رشوة صاحب الدين، أو لاجل أن يكون لصاحب الدين منفعة في مقابل دينه فذلك محرم لانه نوع من الربا أو رشوة، وإن كان ذلك لاجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس، وإن لم يكن ذلك لغرض أصلا فالظاهر المنع لاطلاق النهي عن ذلك، وأما الزيادة على مقدار الدين عند القضاء بغير شرط ولا إضمار فالظاهر الجواز، من غير فرق بين الزيادة في الصفة والمقدار والقليل والكثير، لحديث أبي هريرة وأبي رافع والعرباض وجابر، بل هو مستحب. قال المحاملي وغيره من الشافعية: يستحب للمستقرض أن يرد أجود مما أخذ للحديث الصحيح في ذلك يعني قوله: إن خيركم أحسنكم قضاء. ومما يدل على عدم حل القرض الذي يجر إلى المقرض نفعا ما أخرجه
[ 351 ]
البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ: كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا ورواه في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم. ورواه الحرث بن أبي أسامة من حديث علي عليه السلام بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قرض جر منفعة وفي رواية: كل قرض جر منفعة فهو ربا وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك، قال عمر ابن زيد في المغني: لم يصح فيه شئ، ووهم إمام الحرمين والغزالي فقالا: إنه صح ولا خبرة لهما بهذا الفن، وأما إذا قضى المقترض المقرض دون حقه وحلله من البقية كان ذلك جائزا، وقد استدل البخاري على جواز ذلك بحديث جابر في دين أبيه وفيه: فسألتهم أن يقبلوا ثمرة حائطي ويحللوا أبي وفي رواية للبخاري أيضا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل له غريمه في ذلك قال ابن بطال: لا يجوز أن يقضي دون الحق بغير محاللة، ولو حلله من جميع الدين جاز عند العلماء، فكذلك إذا حلله من بعضه اه. قوله: أو حمل قت بفتح القاف وتشديد التاء المثناة وهو الجاف من النبات المعروف بالفصفصة بكسر الفاءين وإهمال الصادين، فما دام رطبا فهو الفصفصة، فإذا جف فهو القت، والفصفصة هي القضب المعروف، وسمي بذلك لانه يجز ويقطع، والقت كلمة فارسية عربت، فإذا قطعت الفصفصة كبست وضم بعضها على بعض إلى أن تجف وتباع لعلف الدواب كما في بلاد مصر ونواحيها. كتاب الرهن عن أنس قال: رهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لاهله رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى طعاما من يهودي إلى أجل ورهنه درعا من حديد. وفي لفظ: توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير أخرجاهما. ولاحمد والنسائي وابن ماجه مثله من حديث ابن عباس، وفيه من الفقه جواز الرهن في الحضر ومعاملة أهل الذمة. حديث ابن عباس أخرجه أيضا الترمذي وصححه. وقال صاحب الاقتراح: هو
[ 352 ]
شرط البخاري. قوله: رهن الرهن بفتح أوله وسكون الهاء في اللغة الاحتباس من قولهم: رهن الشئ إذا دام وثبت، ومنه * (كل نفس بما كسبت رهينة) * (سورة المدثر، الآية: 38) وفي الشرع جعل مال وثيقه على دين، ويطلق أيضا على العين المرهونة تسمية للمفعول به باسم المصدر. وأما الرهن بضمتين فالجمع ويجمع أيضا على رهان بكسر الراء ككتب وكتاب وقرئ بهما. قوله: عند يهودي هو أبو الشحم كما بينه الشافعي والبيهقي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رهن درعا له عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظفر في شعير اه. وأبو الشحم بفتح المعجمة وسكون المهملة كنيته، وظفر بفتح الظاء والفاء بطن من الاوس وكان حليفا لهم، وضبطه بعض المتأخرين بهمزة ممدودة وموحدة مكسورة اسم فاعل من الاباء وكأنه التبس عليه بآبي اللحم الصحابي. قوله: بثلاثين صاعا من شعير في رواية الترمذي والنسائي من هذا الوجه بعشرين، ولعله صلى الله عليه وآله وسلم رهنه أول الامر في عشرين ثم استزاده عشرة، فرواه الراوي تارة على ما كان الرهن عليه أولا، وتارة على ما كان عليه آخرا. وقال في الفتح: لعله كان دون الثلاثين، فجبر الكسر تارة، وألغى الجبر أخرى. ووقع لابن حبان عن أنس أن قيمة الطعام كانت دينارا، وزاد أحمد في رواية: فما وجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يفكها به حتى مات. (والاحاديث) المذكورة فيها دليل على مشروعية الرهن وهو مجمع على جوازه، وفيها أيضا دليل على صحة الرهن في الحضر وهو قول الجمهور، والتقييد بالسفر في الآية خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له لدلالة الاحاديث على مشروعيته في الحضر، وأيضا السفر مظنة فقد الكاتب، فلا يحتاج إلى الرهن غالبا إلا فيه. وخالف مجاهد والضحاك فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر، والاحاديث ترد عليهم وقال ابن حزم: إن شرط المرتهن الرهن في الحضر لم يكن له ذلك وإن تبرع به الراهن جاز، وحمل أحاديث الباب على ذلك، وفيها أيضا دليل على جواز معاملة الكفار، فيما لم يتحقق تحريم العين المتعامل فيها، وجواز رهن السلاح عند أهل ا لذمة لا عند أهل الحرب بالاتفاق، وجواز الشراء بالثمن المؤجل، وقد تقدم تحقيق ذلك. قال العلماء: والحكمة في عدوله صلى الله عليه وآله وسلم عن معاملة مياسير الصحابة إلى
[ 353 ]
معاملة اليهود إما بيان الجواز أو لانهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجتهم، أو خشي أنهم لا يأخذون منه ثمنا أو عوضا فلم يرد التضييق عليهم. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي. وفي لفظ: إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته رواه أحمد. الحديث له ألفاظ منها ما ذكر المصنف. ومنها بلفظ: الرهن مركوب ومحلوب رواه الدارقطني والحاكم وصححه من طريق الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. قال الحاكم: لم يخرجاه لان سفيان وغيره وقفوه على الاعمش، وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه على الاعمش وغيره ورجح الموقوف، وبه جزم الترمذي. وقال ابن أبي حاتم: قال أبي رفعه يعني أبا معاوية مرة ثم ترك الرفع بعد، ورجح البيهقي أيضا الوقف. قوله: الظهر أي ظهر الدابة. قوله: يركب بضم أوله على البناء للمجهول لجميع الرواة كما قال الحافظ، وكذلك يشرب وهو خبر في معنى الامر كقوله تعالى: * (والوالدات يرضعن) * (سورة البقرة، الآية: 233) وقد قيل: إن فاعل الركوب والشرب لم يتعين فيكون الحديث مجملا، وأجيب بأنه لا إجمال، بل المراد المرتهن بقرينة أن انتفاع الراهن بالعين المرهونة لاجل كونه مالكا، والمراد هنا الانتفاع في مقابلة النفقة، وذلك يختص بالمرتهن، كما وقع التصريح بذلك في الرواية الاخرى. ويؤيده ما وقع عند حماد بن سلمة في جامعه بلفظ: إذا ارتهن شاة شرب المرتهن من لبنها بقدر علفها، فإن استفضل من اللبن بعد ثمن العلف فهو ربا ففيه دليل على أنه يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن إذا قام بما يحتاج إليه ولو لم يأذن المالك، وبه قال أحمد وإسحاق والليث والحسن وغيرهم. وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء: لا ينتفع المرتهن من الرهن بشئ، بل الفوائد للراهن والمؤن عليه، قالوا: والحديث ورد على خلاف القياس من وجهين: أحدهما التجويز لغير المالك أن يركب ويشرب بغير إذنه. والثاني تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة. قال ابن عبد البر: هذا الحديث عند جمهور الفقهاء ترده أصول مجمع عليها وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها، ويدل على نسخه حديث ابن عمر عند البخاري وغيره
[ 354 ]
بلفظ: لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه ويجاب عن دعوى مخالفة هذا الحديث الصحيح للاصول بأن السنة الصحيحة من جملة الاصول، فلا تر إلا بمعارض أرجح منها بعد تعذر الجمع. وعن حديث ابن عمر بأنه عام، وحديث الباب خاص، فيبنى العام على الخاص، والنسخ لا يثبت إلا بدليل يقضي بتأخر الناسخ على وجه يتعذر معه الجمع لا بمجرد الاحتمال مع الامكان. وقال الاوزاعي والليث وأبو ثور: إنه يتعين حمل الحديث على ما إذا امتنع الراهن من الانفاق على المرهون فيباح حينئذ للمرتهن، وأجود ما يحتج به للجمهور حديث أبي هريرة الآتي وستعرف الكلام عليه. قوله: الدر بفتح الدال المهملة وتشديد الراء مصدر بمعنى الدارة أي لبن الدابة ذات الضرع. وقيل: هو ههنا من إضافة الشئ إلى نفسه كقوله تعالى: * (حب الحصيد) * (سورة ق، الآية: 9). وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه رواه الشافعي والدارقطني وقال: هذا إسناد حسن متصل. الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وابن حبان في صحيحه، وأخرجه أيضا ابن ماجه من طريق أخرى، وصحح أبو داود والبزار والدارقطني وابن القطان إرساله عن سعيد ابن المسيب بدون ذكر أبي هريرة. قال في التلخيص: وله طرق في الدارقطني والبيهقي كلها ضعيفة. وقال في بلوغ المرام: إن رجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله اه. وساقه ابن حزم من طريق قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا يحيى بن أبي طالب الانطاكي وغيره من أهل الثقة، حدثنا نصر بن عاصم الانطاكي، حدثنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يغلق الرهن الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه قال ابن حزم هذا: إسناد حسن، وتعقبه الحافظ بأن قوله نصر بن عاصم تصحيف وإنما هو عبد الله بن نصر الاصم الانطاكي وله أحاديث منكرة. وقد رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن نصر المذكور، وصحح هذه الطريق عبد الحق، وصحح أيضا وصله ابن عبد البر وقال: هذه اللفظة يعني له غنمه وعليه غرمه اختلف الرواة في رفعها ووقفها، فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما، ووقفها غيرهم. وقد روى ابن وهب هذا الحديث فجوده وبين أن هذه اللفظة من
[ 355 ]
قول سعيد بن المسيب. وقال أبو داود في المراسيل. قوله له غنمه وعليه غرمه من كلام سعيد بن المسيب نقله عنه الزهري. قوله: لا يغلق الرهن يحتمل أن تكون لا نافية، ويحتمل أن تكون ناهية. قال في القاموس: غلق الرهن كفرح استحقه المرتهن، وذلك إذا لم يفتكه في الوقت المشروط اه. وقال الازهري: الغلق في الرهن ضد الفك، فإذا فك الراهن الرهن فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه. وروى عبد الرزاق عن معمر أنه فسر غلاق الرهن بما إذا قال الرجل: إن لم آتك بما لك فالرهن لك، قال: ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا، إنما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه. وقد روي أن المرتهن في الجاهلية كان يتملك الرهن، إذ لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المضروب فأبطله الشارع. قوله: له غنمه وعليه غرمه فيه دليل المذهب الجمهور المتقدم، لان الشارع قد جعل الغنم والغرم للراهن، ولكنه قد اختلف في وصله وإرساله ورفعه ووقفه، وذلك مما يوجب عدم انتهاضه لمعارضة ما في صحيح البخاري وغيره كما سلف. كتاب الحوالة والضمان باب وجوب قبول الحوالة على الملئ عن أبي هريرة قال: مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع رواه الجماعة. وفي لفظ لاحمد: ومن أحيل على ملئ فليحتل وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مطل الغني ظلم وإذا أحلت على ملئ فاتبعه رواه ابن ماجه. حديث ابن عمر إسناده في سنن ابن ماجه، هكذا حدثنا إسماعيل بن توبة، حدثنا هشيم عن يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر فذكره. وإسماعيل بن توبة قال ابن أبي حاتم: صدوق وبقية رجاله رجال الصحيح، وقد أخرجه أيضا الترمذي وأحمد. قوله: الحوالة هي بفتح الحاء المهملة وقد تكسر، قال في الفتح: مشتقة من التحويل أو من الحول، يقال: حال عن العهد إذا انتقل عنه حولا، وهي عند الفقهاء نقل دين من
[ 356 ]
ذمة إلى ذمة، واختلفوا هل هي بيع دين بدين رخص فيه فاستثنى من النهي عن بيع الدين بالدين أو هي استيفاء؟ وقيل: هي عقد إرفاق مستقبل، ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف، والمحتال عند الاكثر، والمحال عليه عند بعض. ويشترط أيضا تماثل النقدين في الصفات وأن يكون في شئ معلوم، ومنهم من خصها بالنقدين ومنعها في الطعام لانها بيع طعام قبل أن يستوفى اه. قوله: مطل الغني من إضافة المصدر إلى الفاعل عند الجمهور، والمعنى: أنه يحرم على الغني القادر أن يمطل صاحب الدين بخلاف العاجز، وقيل: هو من إضافة المصدر إلى المفعول أي يجب على المستدين أن يوفي صاحب الدين ولو كان المستحق للدين غنيا، فإن مطله ظلم فكيف إذا كان فقيرا فإنه يكون ظلما بالاولى، ولا يخفى بعد هذا كما قال الحافظ، والمطل في الاصل المد، وقال الازهري: المدافعة. قال في الفتح: والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر. قوله: وإذا أتبع بإسكان التاء المثناة الفوقية على البناء للمجهول. قال النووي: هذا هو المشهور في الرواية واللغة. وقال القرطبي: أما أتبع فبضم الهمزة وسكون التاء مبنيا لما لم يسم فاعله عند الجميع، وأما فليتبع فالاكثر على التخفيف، وقيده بعضهم بالتشديد، والاول أجود، وتعقب الحافظ ما ادعاه من الاتفاق بقول الخطابي: إن أكثر المحدثين يقولونه يعني أتبع بتشديد التاء والصواب التخفيف، والمعنى: إذا أحيل فليحتل كما وقع في الرواية الاخرى. قوله: على ملئ قيل: هو بالهمز وقيل بغير همز، ويدل على ذلك قول الكرماني الملي كالغني لفظا ومعنى. وقال الخطابي: إنه في الاصل بالهمز ومن رواه بتركها فقد سهله. قوله: فاتبعه قال في الفتح: هذا بتشديد التاء بلا خلاف (والحديثان) يدلان على أنه يجب على من أحيل بحقه على ملئ أن يحتال، وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر وأكثر الحنابلة وأبو ثور وابن جرير، وحمله الجمهور على الاستحباب. قال الحافظ: ووهم من نقل فيه الاجماع. (وقد اختلف) هل المطل مع الغني كبيرة أم لا؟ وقد ذهب الجمهور إلى أنه موجب للفسق، واختلفوا هل يفسق بمرة أو يشترط التكرار؟ وهل يعتبر الطلب من المستحق أم لا؟ قال في الفتح: وهل يتصف بالمطل من ليس القدر الذي عليه حاضرا عنده لكنه قادر على تحصيله بالتكسب مثلا؟ أطلق أكثر الشافعية عدم الوجوب، وصرح بعضهم بالوجوب مطلقا، وفصل آخرون بين أن يكون
[ 357 ]
أصل الدين وجب بسبب يعصى به فيجب وإلا فلا اه. والظاهر الاول لان القادر على التكسب ليس بملئ، والوجوب إنما هو عليه فقط، لان تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية. باب ضمان دين الميت المفلس عن سلمة بن الاكوع قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتي بجنازة فقالوا: يا رسول الله صل عليها، قال: هل ترك شيئا؟ قالوا: لا، فقال هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلي دينه فصلى عليه رواه أحمد والبخاري والنسائي. وروى الخمسة إلا أبا داود. هذه القصة من حديث أبي قتادة وصححه الترمذي وقال فيه النسائي وابن ماجه: فقال أبو قتادة: أنا أتكفل به وهذا صريح في أن الانشاء لا يحتمل الاخبار بما مضى. وعن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلي على رجل مات عليه دين، فأتي بميت فسأل عليه دين؟ قالوا نعم ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه، فلما فتح الله على رسوله قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته رواه أحمد وأبو داود والنسائي. حديث أبي قتادة أخرجه أيضا ابن حبان، وحديث جابر أخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم، وفي الباب عن أبي سعيد عند الدارقطني والبيهقي بأسانيد، قال الحافظ: ضعيفة بلفظ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة فلما وضعت قال صلى الله عليه وآله وسلم: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم درهمان، قال: صلوا على صاحبكم، فقال علي عليه السلام: يا رسول الله هما علي وأنا لهما ضامن، فقام يصلي، ثم أقبل على علي عليه السلام فقال: جزاك الله عن الاسلام خيرا وفك رهانك كما فككت رهان أخيك، ما من مسلم فك رهان أخيه إلا فك الله رهانه يوم القيامة، فقال بعضهم: هذا لعلي رضي الله عنه خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال: بل للمسلمين عامة وعن أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته:
[ 358 ]
من خلف مالا أو حقا فلورثته، ومن خلف كلا أو دينا فكله إلي ودينه علي وعن سلمان عند الطبراني بنحو حديث أبي هريرة وزاد: وعلى الولاة من بعدي من بيت مال المسلمين وفي إسناده عبد الله بن سعيد الانصاري متروك ومتهم. وعن أبي أمامة عند ابن حبان في ثقاته. قوله: ثلاثة دنانير في الرواية الاخرى: ديناران وفي رواية لابن ماجه وأحمد وابن حبان من حديث أبي قتادة: سبعة عشر درهما وفي رواية لابن حبان من حديثه: ثمانية عشر وهذان دون دينارين، وفي رواية لابن حبان أيضا من حديثه ديناران، وفي رواية له أيضا من حديث أبي أمامة نحو ذلك. وفي مختصر المازني من حديث أبي سعيد الخدري أن الدين كان درهمين، ويجمع بين رواية الدينارين والثلاثة بأن الدين كان دينارين وشطرا، فمن قال ثلاثة جبر الكسر، ومن قال ديناران ألغاه، أو كان أصلهما ثلاثة فوفى قبل موته دينارا وبقي عليه ديناران، فمن قال ثلاثة فباعتبار الاصل، ومن قال ديناران فباعتبار ما بقي من الدين، والاول أليق، كذا في الفتح، ولا يخفى ما في ذلك من التعسف، والاولى الجمع بين الروايات كلها بتعدد القصة (وأحاديث الباب) تدل على أنها تصح الضمانة عن الميت ويلزم الضمين ما ضمن به، سواء كان الميت غنيا أو فقيرا، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وأجاز مالك للضامن الرجوع على مال الميت إذا كان له مال، وقال أبو حنيفة: لا تصح الضمانة إلا بشرط أن يترك الميت وفاء دينه وإلا لم يصح. والحكمة في ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة على من عليه دين تحريض الناس على قضاء الديون في حياتهم والتوصل إلى البراءة لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال في الفتح: وهل كانت صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على من دين محرمة عليه أو جائزة؟ وجهان. قال النووي: الصواب الجزم بجوازها مع وجود الضامن كما في حديث مسلم. وحكى القرطبي أنه ربما كان يمتنع من الصلاة على من أدان دينا غير جائز، وأما من استدان لامر هو جائز فما كان يمتنع وفيه نظر، لان في حديث أبي هريرة ما يدل على التعميم حيث قال في رواية للبخاري: من توفي وعليه دين ولو كان الحال مختلفا لبينه صلى الله عليه وآله وسلم، نعم جاء في حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما امتنع من الصلاة على من عليه دين جاءه جبريل عليه السلام فقال: إنما الظالم في الديون التي حملت في البغي والاسراف،
[ 359 ]
فأما المتعفف وذو العيال فأنا ضامن له أؤدي عنه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك وقال: من ترك ضياعا، الحديث. قال الحافظ: وهو ضعيف. وقال الحازمي بعد أن أخرجه: لا بأس به في المبايعات، وليس فيه أن التفصيل المذكور كان مستمرا وإنما فيه أنه طرأ بعد ذلك، وأنه السبب في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من ترك دينا فعلي وفي صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على من عليه دين بعد أن فتح الله عليه إشعار بأنه كان يقضيه من مال المصالح. وقيل: بل كان يقضيه من خالص ملكه، وهل كان القضاء واجبا عليه أم لا؟ فيه وجهان، قال ابن بطال: وهكذا يلزم المتولي لامر المسلمين أن يفعله بمن مات وعليه دين فإن لم يفعل فالاثم عليه، إن كان حق الميت في بيت المال يفي بقدر ما عليه وإلا فبقسطه. قوله: فعلي قال ابن بطال: هذا ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين، وقد حكى الحازمي إجماع الامة على ذلك. باب في أن المضمون عنه إنما يبرأ بأداء الضامن لا بمجرد ضمانه عن جابر قال: توفي رجل فغسلناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: تصلي عليه؟ فخطى خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران فانصرف، فتحملهما أبو قتادة فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران علي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منه الميت قال نعم فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم ما فعل الديناران إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الآن بردت عليه جلده رواه أحمد، وإنما أراد بقوله والميت منهما برئ دخوله في الضمان متبرعا لا ينوي به رجوعا بحال. الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي والدارقطني، وصححه ابن حبان والحاكم. قوله: أتينا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم زاد الحاكم: ووضعناه حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل عليه السلام. قوله: فانصرف لفظ البخاري في حديث أبي هريرة: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا على صاحبكم وتقدم نحوه في حديث سلمة. قوله: ألآن بردت عليه فيه دليل على أن خلوص الميت من ورطة الدين وبراءة ذمته على الحقيقة ورفع العذاب عنه إنما يكون بالقضاء
[ 360 ]
عنه لا بمجرد التحمل بالدين بلفظ الضمانة، ولهذا سارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤال أبي قتادة في اليوم الثاني عن القضاء، وفيه دليل على أنه يستحب للامام أن يحض من تحمل حمالة عن ميت على الاسراع بالقضاء. وكذلك يستحب لسائر المسلمين لانه من المعاونة على الخير، وفيه أيضا دليل على صحة التبرع بالضمانة عن الميت، وقد تقدم الكلام على ذلك. باب في أن ضمان درك المبيع على البائع إذا خرج مستحقا عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به ويتبع البيع من باعه رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وفي لفظ: إذا سرق من الرجل متاع أو ضاع منه فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به ويرجع المشتري على البائع بالثمن رواه أحمد وابن ماجه. سماع الحسن من سمرة فيه خلاف قد ذكرناه، وبقية الاسناد رجاله ثقات، لان أبا داود رواه عن عمرو بن عوف الواسطي الحافظ شيخ البخاري عن هشيم عن موسى بن السائب، وثقه أحمد عن قتادة عن الحسن. قوله: من وجد عين ماله يعني المغصوب أو المسروق عند رجل أو امرأة فهو أحق به من كل أحد إذا ثبت أنه ملكه بالبينة أو صدقه من في يده العين، ثم إن كانت العين بحوزه فله مع أخذ العين المطالبة بمنفعتها مدة بقائه في يده، سواء انتفع بها من كانت في يده أم لا، وإذا كانت العين قد نقصت بغير استعمال كتعثث الثوب وعمى العبد، وسقوط يده بآفة، فقيل: يجب أخذ الارش مع أجرته سليما لما قبل النقص وناقصا لما بعده، وكذلك لو كان النقص بالاستعمال. قوله: البيع بتشديد التحتية مكسورة وهو المشتري، أي يرجع على من باع تلك العين منه، ولا يرجع عند الهادوية إلا إذا كان تسليم المبيع إلى مستحقه بإذن البائع، أو بحكم الحاكم بالبينة أو بعلمه، لا إذا كان الحكم مستندا إلى إقرار المشتري أو نكوله فلا يرجع على البائع، ثم إن كان المشتري علم بأن تلك العين مغصوبة فيتوجه عليه من المطالبة كل ما يتوجه إليه على الغاصب من الاجر والارش، وإن جهل لغصب ونحوه كانت يده عليها يد أمانة كالوديعة، وقيل: يد ضمانة،
[ 361 ]
ولكن يرجع بما غرم على البائع. قوله: بالثمن يعني الذي دفعه إلى البائع. كتاب التفليس باب ملازمة الملئ وإطلاق المعسر عن عمر بن الشريد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته رواه الخمسة إلا الترمذي. قال أحمد قال وكيع: عرضه شكايته وعقوبته حبسه. الحديث أخرجه أيضا البيهقي والحاكم وابن حبان وصححه وعلقه البخاري، قال الطبراني في الاوسط: لا يروى عن الشريد إلا بهذا الاسناد تفرد به بن أبي دليلة، قال في الفتح: وإسناده حسن. قوله: التفليس هو مصدر فلسته أي نسبته إلى الافلاس، والمفلس شرعا من يزيد دينه على موجوده سمي مفلسا لانه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير، إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الاموال وهي الفلوس، أو سمي بذلك لانه يمنع التصرف إلا في الشئ التافه كالفلوس، لانهم ما كانوا يتعاملون بها في الاشياء الخطيرة، أو أنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلسا، فعلى هذا فالهمزة في أفلس للسلب. قوله: لي الواجد اللي بالفتح وتشديد الياء المطل، والواجد بالجيم الغني من الوجد بالضم بمعنى القدرة. قوله: يحل بضم أوله أي يجوز وصفه بكونه ظالما. وروى البخاري والبيهقي عن سفيان مثل التفسير الذي رواه المصنف عن أحمد عن وكيع. واستدل بالحديث على جواز حبس من عليه الدين حتى يقضيه إذا كان قادرا على القضاء تأديبا له وتشديدا عليه، لا إذا لم يكن قادرا لقوله: الواجد فإنه يدل على أن المعسر لا يحل عرضه ولا عقوبته، وإلى جواز الحبس للواجد ذهبت الحنفية وزيد بن علي. وقال الجمهور: يبيع عليه الحاكم لما سيأتي من حديث معاذ، وأما غير الواجد فقال الجمهور: لا يحبس، لكن قال أبو حنيفة: يلازمه من له الدين. وقال شريح: يحبس والظاهر قول الجمهور، ويؤيده قوله تعالى: * (فنظرة إلى ميسرة) * (سورة البقرة، الآية: 280) وقد
[ 362 ]
اختلف هل يفسق الماطل أم لا؟ واختلف أيضا في تقدير ما يفسق به، والكلام في ذلك مبسوط في كتب الفقه. وعن أبي سعيد قال: أصيب رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك رواه الجماعة إلا البخاري. قوله: في ثمار ابتاعها هذا يدل على أن الثمار إذا أصيبت مضمونة على المشتري، وقد تقدم في باب وضع الجوائح ما يدل على أنه يجب على البائع أن يضع عن المشتري لقدر ما أصابته الجائحة، وقد جمع بينهما بأن وضع الجوائح محمول على الاستحباب. وقيل: إنه خاص بما بيع من الثمار قبل بدو صلاحه. وقيل: إنه يؤول حديث أبي سعيد هذا بأن التصدق على الغريم من باب الاستحباب، وكذلك قضاؤه دين غرمائه من باب التعرض لمكارم الاخلاق، وليس التصدق على جهة العزم ولا القضاء للغرماء على جهة الحتم، وهذا هو الظاهر. ويدل عليه قوله في حديث وضع الجوائح: لا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك فإنه صريح في وجوب الوضع لا في استحبابه. وكذلك قوله في هذا الحديث: وليس لكم إلا ذلك فإنه يدل على أن الدين غير لازم، ولو كان لازما لما سقط الدين بمجرد الاعسار، بل كان اللازم الانتظار إلى ميسرة، وقد قدمنا في باب وضع الجوائح عدم صلاحية حديث أبي سعيد هذا للاستدلال به على عدم وضع الجوائح لوجهين ذكرناهما هنالك. وقد استدل بالحديث على أن المفلس إذا كان من المال دون ما عليه من الدين كان الواجب عليه لغرمائه تسليم المال، ولا يجب عليه لهم شئ غير ذلك، وظاهره أن الزيادة ساقطة عنه، ولو أيسر بعد ذلك لم يطالب بها. باب من وجد سلعة باعها من رجل عنده وقد أفلس عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من وجد متاعه عند مفلس بعينه فهو أحق به رواه أحمد. وعن أبي هريرة عن النبي
[ 363 ]
صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره رواه الجماعة. وفي لفظ قال في الرجل الذي يعدم: إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه رواه مسلم والنسائي. وفي لفظ: أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله ولم يكن اقتضى من ماله شيئا فهو له رواه أحمد. وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء رواه مالك في الموطأ وأبو داود وهو مرسل. وقد أسنده أبو داود من وجه ضعيف. حديث سمرة أخرجه أيضا أبو داود قال في الفتح: وإسناده حسن وهو من رواية الحسن البصري عنه، وفي سماعه منه خلاف معروف قد قدمنا الكلام فيه، ولكنه يشهد لصحته حديث أبي هريرة المذكور بعده، ويشهد لصحته أيضا ما أخرجه الشافعي وأبو داود ابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة أنه قال في مفلس أتوه به: لاقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أفلس أو مات فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق به وفي إسناده أبو المعتمر. قال أبو داود والطحاوي وابن المنذر: هو مجهول، ولم يذكر له ابن أبي حاتم إلا راويا واحدا، وذكره ابن حبان في الثقات، وهو للدارقطني والبيهقي من طريق أبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب. وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن هو مرسل كما ذكره المصنف لان أبا بكر تابعي لم يدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ووصله أبو داود من طريق أخرى فقال عن أبي بكر المذكور عن أبي هريرة وهي ضعيفة كما قال المصنف، وذلك لان فيها إسماعيل بن عياش وهو ضعيف إذا روى عن غير أهل الشام، ولكنه ههنا روي عن الحرث الزبيدي وهو شامي، قال الحافظ: وقد اختلف على إسماعيل فأخرجه ابن الجارود من وجه عنه عن موسى بن عقبة عن الزهري موصولا. وقال الشافعي: حديث أبي المعتمر أولى من هذا وهذا منقطع. وقال البيهقي: لا يصح وصله ووصله عبد الرزاق في مصنفه. وذكر ابن حزم أن عراك بن مالك رواه أيضا عن أبي هريرة في غرائب مالك. وفي التمهيد: أن بعض أصحاب مالك وصله. قال أبو داود: والمرسل
[ 364 ]
أصح وقد روى المرسل الشيخان بلفظ: من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق من غيره ووصله ابن حبان والدارقطني وغيرهما من طريق الثوري عن أبي بكر عن أبي هريرة بنحو لفظ الشيخين. قوله: بعينه فيه دليل على أن شرط الاستحقاق أن يكون المال باقيا بعينه لم يتغير ولم يتبدل، فإن تغيرت العين في ذاتها بالنقص مثلا أو في صفة من صفاتها فهي أسوة للغرماء، ويؤيد ذلك قوله في الرواية الثانية ولم يفرقه. وذهب الشافعي والهادوية إلى أن البائع أولى بالعين بعد التغير والنقص. قوله: فهو أحق به أي من غيره كائنا من كان وارثا وغريما، وبهذا قال الجمهور، وخالفت الحنفية في ذلك فقالوا: لا يكون البائع أحق بالعين المبيعة التي في يد المفلس وتأولوا الحديث بأنه خير واحد مخالف للاصول، لان السلعة صارت بالبيع ملكا للمشتري ومن ضمانه، واستحقاق البائع أخذها منه نقض لملكه، وحملوا الحديث على صورة، وهي ماذا كان المتاع وديعة أو عارية أو لقطة؟ وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقيد بالافلاس ولا جعل أحق بها لما تقتضيه صيغة أفعل من الاشتراك، وأيضا يرد ما ذهبوا إليه قوله في حديث أبي بكر: أيما رجل باع متاعا فإن فيه التصريح بالبيع وهو نص في محل النزاع، وقد أخرجه أيضا سفيان في جامعه وابن حبان وابن خزيمة عن أبي بكر عن أبي هريرة بلفظ: إذا ابتاع رجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها وفي لفظ لابن حبان: إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته وفي لفظ مسلم والنسائي: أنه لصاحبه الذي باعه كما ذكره المصنف. وعند عبد الرزاق بلفظ: من باع سلعته من رجل قال الحافظ: بهذا أن الحديث وارد في صورة البيع، ويلتحق به القرض وسائر ما ذكر يعني من العارية والوديعة بالاولى، والاعتذار بأن الحديث خبر واحد مردود بأنه مشهور من غير وجه، من ذلك ما تقدم عن سمرة وأبي هريرة وأبي بكر بن عبد الرحمن، ومن ذلك ما أخرجه ابن حبان بإسناد صحيح عن ابن عمر مرفوعا بنحو أحاديث الباب، وقد قضى به عثمان كما رواه البخاري والبيهقي عنه، حتى قال ابن المنذر: لا نعرف لعثمان مخالفا في الصحابة، والاعتذار بأنه مخالف للاصول اعتذار فاسد، لما عرفناك من أن السنة الصحيحة هي من جملة الاصول، فلا يترك العمل بها إلا لما هو أنهض منها، ولم يرد في المقام ما هو كذلك، وعلى تسليم أنه ورد ما يدل على أن السلعة تصير بالبيع ملكا للمشتري فما ورد في الباب أخص مطلقا فيبنى العام على الخاص،
[ 365 ]
وحمل بعض الحنفية الحديث على ما إذا أفلس المشتري قبل أن يقبض السلعة وتعقب بقوله في حديث سمرة عند مفلس. وبقوله في حديث أبي هريرة عند رجل. وفي لفظ لابن حبان: ثم أفلس وهي عنده وللبيهقي: إذا أفلس الرجل وعنده متاع وقال جماعة: إن هذا الحكم أعني كون البائع أولى بالسلعة التي بقيت في يد المفلس مختص بالبيع دون القرض. وذهب الشافعي وآخرون إلى أن المقرض أولى من غيره، واحتج الاولون بالروايات المتقدمة المصرحة بالبيع قالوا: فتحمل الروايات المطلقة عليها، ولكنه لا يخفى أن التصريح بالبيع لا يصلح لتقييد الروايات المطلقة، لانه إنما يدل على أن غير البيع بخلافه بمفهوم اللقب، وما كان كذلك لا يصح للتقييد إلا على قول أبي ثور كما تقرر في الاصول. وربما يقال: إن المصرح به هنا هو الوصف فلا يكون من مفهوم اللقب. قوله: ولم يكن اقتضى من ماله شيئا فيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن المشتري إذا كان قد قضى بعض الثمن لم يكن البائع أولى بما لم يسلم المشتري ثمنه من المبيع بل يكون أسوة الغرماء. وقال الشافعي والهادوية: إن البائع أولى به والحديث يرد عليهم. قوله: وإن مات المشتري الخ، فيه دليل على أن المشتري إذا مات والسلعة التي لم يسلم المشتري ثمنها باقية لا يكون البائع أولى بها بل يكون أسوة الغرماء، وإلى ذلك ذهب مالك وأحمد. وقال الشافعي: البائع أولى بها، واحتج بقوله في حديث أبي هريرة الذي ذكرناه: من مات أفلس أو مات الخ، ورجحه الشافعي على المرسل المذكور في الباب قال: ويحتمل أن يكون آخره من رأي أبي بكر بن عبد الرحمن لان الذين وصلوه عنه لم يذكروا قضية الموت، وكذلك الذين رووه عن أبي هريرة غيره لم يذكروا ذلك، بل صرح بعضهم عن أبي هريرة بالتسوية بين الافلاس والموت كما ذكرنا، قال في الفتح: فتعين المصير إليه لانها زيادة مقبولة من ثقة، قال: وجزم ابن العربي بأن الزيادة التي في مرسل مالك من قول الراوي، وجمع الشافعي أيضا بين الحديثين بحمل مرسل أبي بكر على ما إذا مات مليئا، وحمل حديث أبي هريرة على ما إذا مات مفلسا، وقد استدل بقوله في حديث أبي هريرة: أو مات على أن صاحب السلعة أولى بها، ولو أراد الورثة أن يعطوه ثمنها لم يكن لهم ذلك ولا يلزمه القبول، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال مالك: يلزمه القبول، وقالت الهادوية: إن الميت إذا خلف الوفاء لم يكن البائع أولى بالسلعة وهو
[ 366 ]
خلاف الظاهر، لان الحديث يدل على أن الموت من موجبات استحقاق البائع للسلعة، ويؤيد ذلك عطفه على الافلاس. واستدل بأحاديث الباب على حلول الدين المؤجل بالافلاس. قال في الفتح: من حيث إن صاحب الدين أدرك متاعه بعينه فيكون أحق به، ومن لوازم ذلك أنها تجوز له المطالبة بالمؤجل وهو قول الجمهور، لكن الراجح عند الشافعية أن المؤجل لا يحل بذلك لان الاجل حق مقصود له فلا يفوت وهو قول الهادوية. واستدل أيضا بأحاديث الباب، على أن لصاحب المتاع أن يأخذه من غير حكم حاكم، قال في الفتح: وهو الاصح من قول العلماء، وقيل: يتوقف على الحكم. باب الحجر على المدين وبيع ماله في قضاء دينه عن كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه رواه الدارقطني. وعن عبد الرحمن بن كعب قال: كان معاذ بن جبل شابا سخيا وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدان حتى غرق ماله في الدين، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكلمه ليكلم غرماءه، فلو تركوا لاحد لتركوا لمعاذ لاجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم ماله حتى قام معاذ بغير شئ رواه سعيد في سننه هكذا مرسلا. حديث كعب أخرجه أيضا البيهقي والحاكم وصححه، ومرسل عبد الرحمن بن كعب أخرجه أيضا أبو داود وعبد الرزاق، قال عبد الحق: المرسل أصح. وقال ابن الطلاع في الاحكام: هو حديث ثابت، وقد أخرج الحديث الطبراني، ويشهد له ما عند مسلم وغيره من حديث أبي سعيد قال: أصيب رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدم. وقد استدل بحجره صلى الله عليه وآله وسلم على معاذ، على أنه يجوز الحجر على كل مديون، وعلى أنه يجوز للحاكم بيع مال المديون لقضاء دينه، من غير فرق بين من كان ماله مستغرقا بالدين ومن لم يكن ماله كذلك، وقد حكى صاحب البحر هذا عن العترة والشافعي ومالك وأبي يوسف ومحمد، وقيدوا الجواز بطلب أهل الدين للحجر
[ 367 ]
من الحاكم. وروي عن الشافعي أنه يجوز قبل الطلب للمصلحة، وحكي في البحر أيضا عن زيد بن علي والناصر وأبي حنيفة أنه لا يجوز الحجر على المديون ولا بيع ماله بل يحبسه الحاكم حتى يقضي، واستدل لهم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم الحديث وهو مخصص بحديث معاذ المذكور. وأما ما ادعاه إمام الحرمين حاكيا لذلك عن العلماء وتبعه الغزالي أن حجر معاذ لم يكن من جهة استدعاء غرمائه بل الاشبه أنه جرى باستدعائه فقال الحافظ: إنه خلاف ما صح من الروايات المشهورة، ففي المراسيل لابي داود التصريح بأن الغرماء التمسوا ذلك. قال: وأما ما رواه الدارقطني أن معاذا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمه ليكلم غرماءه فلا حجة فيه أن ذلك لالتماس الحجر، وإنما فيه طلب معاذ الرفق منهم، وبهذا تجتمع الروايات انتهى. وقد روي الحجر على المديون وإعطاء الغرماء ماله من فعل عمر كما في الموطأ والدارقطني وابن أبي شيبة والبيهقي وعبد الرزاق، ولم ينقل أنه أنكر ذلك عليه أحد من الصحابة. باب الحجر على المبذر عن عروة بن الزبير قال: ابتاع عبد الله بن جعفر بيعا فقال علي رضي الله عنه: لآتين عثمان فلاحجرن عليك، فأعلم ذلك ابن جعفر الزبير فقال: أنا شريكك في بيعتك، فأتى عثمان رضي الله عنهما قال: تعال احجر على هذا فقال الزبير: أنا شريكه فقال عثمان: احجر على رجل شريكه الزبير رواه الشافعي في مسنده. هذه القصة رواها الشافعي عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف القاضي عن هشام ابن عروة عن أبيه وأخرجها أيضا البيهقي. وقال يقال: إن أبا يوسف تفرد به وليس كذلك، ثم أخرجها من طريق الزهري المدني القاضي عن هشام نحوه. ورواها أبو عبيدة في كتاب الاموال عن عفان بن مسلم عن حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال: قال عثمان لعلي عليه السلام: ألا تأخذ على يد ابن أخيك يعني عبد الله بن جعفر وتحجر عليه؟ اشترى سبخة بستين ألف درهم ما يسرني أنها لي ببغلي وقد ساق القصة البيهقي فقال: اشترى عبد الله بن جعفر أرضا سبخة فبلغ
[ 368 ]
ذلك عليا عليه السلام فعزم على أن يسأل عثمان الحجر عليه، فجاء عبد الله بن جعفر إلى الزبير فذكر ذلك له فقال الزبير: أنا شريكك، فلما سأل علي عثمان الحجر على عبد الله بن جعفر قال: كيف أحجر على من شريكه الزبير؟. وفي رواية للبيهقي: أن الثمن ستمائة ألف. وقال الرافعي: الثمن ثلاثون ألفا. قال الحافظ: لعله من غلط النساخ والصواب بستين يعني ألفا، انتهى. وروى القصة ابن حزم فقال: بستين ألفا. وقد استدل بهذه الواقعة من أجاز الحجر على من كان سيئ التصرف، وبه قال علي عليه السلام وعثمان وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر وشريح وعطاء والشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد، هكذا في البحر. قال في الفتح: والجمهور على جواز الحجر على الكبير. وخالف أبو حنيفة وبعض الظاهرية، ووافق أبو يوسف ومحمد، وقال الطحاوي: ولم أر عن أحد من الصحابة منع الحجر على الكبير ولا عن التابعين إلا عن إبراهيم وابن سيرين، ثم حكى صاحب البحر عن العترة أنه لا يجوز مطلقا وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز أن يسلم إليه ماله بعد خمس وعشرين سنة، ولهم أن يجيبوا عن هذه القصة بأنها وقعت عن بعض من الصحابة، والحجة إنما هو إجماعهم، والاصل جواز التصرف لكل مالك من غير فرق بين أنواع التصرفات، فلا يمنع منها إلا ما قام الدليل على منعه، ولكن الظاهر أن الحجر على من كان في تصرفه سفه كان أمرا معروفا عند الصحابة مألوفا بينهم، ولو كان غير جائز لا نكره بعض من اطلع على هذه القصة، ولكان الجواب من عثمان رضي الله عنه عن علي عليه السلام بأن هذا غير جائز، وكذلك الزبير وعبد الله بن جعفر لو كان مثل هذا الامر غير جائز لكان لهما عن تلك الشركة مندوحة، والعجب من ذهاب العترة إلى عدم الجواز مطلقا، وهذا إمامهم وسيدهم أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه يقول بالجواز مع كون أكثرهم يجعل قوله حجة متبعة تجب المصير إليها وتصلح لمعارضة المرفوع، وأما اعتذار صاحب البحر عن ذلك بأن عليا عليه السلام لم يفعل ذلك ففي غاية من السقوط، فإن الحجر لو كان غير جائز لما ذهب إلى عثمان وسأل منه ذلك، وأما اعتذاره أيضا بأن ذلك اجتهاد فمخالف لما تمشى عليه في كثير من الابحاث من الجزم، وبأن قول علي حجة من غير فرق، بين ما كان للاجتهاد فيه مسرح وما ليس كذلك، على أن ما لا مجال للاجتهاد فيه لا فرق فيه بين قول علي عليه السلام وغيره من الصحابة أن له حكم الرفع، وإنما محل النزاع بين أهل البيت عليهم السلام وغيرهم
[ 369 ]
فيما كان من مواطن الاجتهاد، وكثيرا ما ترى جماعة من الزيدية في مؤلفاتهم يجزمون بحجية قول علي عليه السلام إن وافق ما يذهبون إليه، ويعتذرون عنه إن خالف بأنه اجتهاد لا حجة فيه، كما يقع منهم ومن غيرهم إذا وافق قول أحد من الصحابة ما يذهبون إليه فإنهم يقولون لا مخالف له من الصحابة فكان إجماعا، ويقولون إن خالف ما يذهبون إليه قول صحابي لا حجة فيه، وهكذا يحتجون بأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم إن كانت موافقة للمذهب، ويعتذرون عنها إن خالفت بأنها غير معلومة الوجه الذي لاجله وقعت فلا تصلح للحجة، فليكن هذا منك على ذكر، فإنه من المزالق التي يتبين عندها الانصاف والاعتساف. وقد قدمنا التنبيه على مثل هذا وكررناه لما فيه من التحذير عن الاغترار بذلك ومن الادلة الدالة على جواز الحجر على من كان بعد البلوغ سيئ التصرف قول الله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * (سورة النساء، الآية: 5) قال في الكشاف: السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي، ولا يدي لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها، والخطاب للاولياء، وأضاف الاموال إليهم لانها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * (سورة النساء، الآية: 29)، * (فما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * (سورة النساء، الآية: 25) والدليل على أنه خطاب للاولياء في أموال اليتامى. قوله: * (وارزقوهم فيها واكسوهم) * (سورة النساء، الآية: 5) ثم قال في تفسير قوله تعالى: * (وارزقوهم فيها) * واجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا حتى تكون نفقتهم من الارباح لا من صلب المال فلا يأكلها الانفاق وقيل: هو أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء قريب أو أجنبي، رجل أو امرأة، يعلم أنه يضعه فيما لا ينبغي ويفسده انتهى. وقد عرفت بهذا عدم اختصاص السفهاء المذكورين بالصبيان كما قال في البحر فإنه تخصيص لما تدل عليه الصيغة بلا مخصص. ومما يؤيد ذلك نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الاسراف بالماء ولو على نهر جار. ومن المؤيدات عدم إنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على قرابة حبان لما سألوه أن يحجر عليه إن صح ثبوت ذلك، وقد تقدم الحديث بجميع طرقه في البيع، وقد استدل على جواز الحجر على السفيه أيضا برده صلى الله عليه وآله وسلم صدقة الرجل الذي تصدق بأحد ثوبيه، كما أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من حديث أبي سعيد، وأخرجه الدارقطني من حديث جابر. وبما أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث جابر أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رد البيضة على من تصدق
[ 370 ]
بها ولا مال له غيرها وبرده صلى الله عليه وآله وسلم عتق من أعتق عبدا له عن دبر ولا مال له غيره، كما أشار إلى ذلك البخاري وترجم عليه باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الامام (ومن جملة) ما استدل على الجواز قول ابن عباس وقد سئل متى ينقضي يتم اليتيم؟ فقال: لعمري أن الرجل لتنبت لحيته وأنه لضعيف الاخذ لنفسه ضعيف العطاء، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما أخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم، حكاه في الفتح. والحكمة في الحجر على السفيه أن حفظ الاموال حكمة لانها مخلوقة للانتفاع بها بلا تبذير، ولهذا قال تعالى: * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) * (سورة الاسراء، الآية: 27) قال في البحر: (فصل) والسفه المقتضي للحجر عند من أثبته هو صرف المال في الفسق أو فيما لا مصلحة فيه، ولا غرض ديني ولا دنيوي كشراء ما يساوي درهما بمائة لا صرفه في أكل طيب ولبس نفيس وفاخر المشموم لقوله تعالى: * (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) * (سورة الاعراف، الآية: 32) الآية، وكذا لو أنفقه في القرب انتهى. باب علامات البلوغ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل رواه أبو داود. وعن ابن عمر قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني رواه الجماعة. وعن عطية قال: عرضنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلى سبيله وكنت ممن لم ينبت فخلى سبيلي رواه الخمسة وصححه الترمذي. وفي لفظ: فمن كان محتلما أو أنبت عانته قتل ومن لا ترك رواه أحمد والنسائي. وعن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم، والشرخ الغلمان الذين لم ينبتوا رواه الترمذي وصححه. حديث علي عليه السلام في إسناده يحيى بن محمد المدني الجاري منسوب إلى الجار بالجيم والراء المهملة، بلدة على الساحل بالقرب من مدينة الرسول صلى الله
[ 371 ]
عليه وآله وسلم. قال البخاري: يتكلمون فيه. وقال ابن حبان: يجب التنكب عما انفرد به من الروايات. وقال العقيلي: لا يتابع يحيى المذكور على هذا الحديث. وفي الخلاصة: أنه وثقه العجلي وابن عدي. قال المنذري: وقد روي هذا الحديث من رواية جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وليس فيها شئ يثبت. وقد أعل هذا الحديث أيضا عبد الحق وابن القطان وغيرهما، وحسنه النووي متمسكا بسكوت أبي داود عليه، ورواه الطبراني في الصغير بسند آخر عن علي عليه السلام. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وأخرج نحو الطبراني في الكبير عن حنظلة بن حذيفة عن جده وإسناده لا بأس به. وأخرج نحوه أيضا ابن عدي عن جابر، وحديث ابن عمر زاد فيه البيهقي وابن حبان في صحيحه بعد قوله: لم يجزني ولم يرني بلغت وبعد قوله: فأجازني ورآني بلغت وقد صحح هذه الزيادة أيضا ابن خزيمة. وحديث عطية القرظي صححه أيضا ابن حبان والحاكم وقال: على شرط الصحيحين. قال الحافظ: وهو كما قال إلا أنهما لم يخرجا لعطية وماله إلا هذا الحديث الواحد. وقد أخرج نحو حديث عطية الشيخان من حديث أبي سعيد بلفظ: فكان يكشف عن مؤتزر المراهقين فمن أنبت منهم قتل ومن لم ينبت جعل في الذراري وأخرج البزار من حديث سعد بن أبي وقاص: حكم على بني قريظة أن يقتل منهم كل من جرت عليه المواسي. وأخرج الطبراني من حديث أسلم بن بحير الانصاري قال: جعلني النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أسارى قريظة، فكنت أنظر في فرج الغلام فإن رأيته قد أنبت ضربت عنقه، وإن لم أره قد أنبت جعلته في مغانم المسلمين قال الطبراني: لا يروى عن أسلم إلا بهذا الاسناد. قال الحافظ: وهو ضعيف. وحديث سمرة أخرجه أيضا أبو داود وهو من رواية الحسن عن سمرة وفي سماعه منه مقال قد تقدم. (وفي الباب) عن أنس عند البيهقي بلفظ: إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود قال في التلخيص: وسنده ضعيف. وعن عائشة عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم بلفظ: رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق. وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي وأحمد والدارقطني والحاكم وابن حبان وابن خزيمة عن علي عليه السلام من طرق، وفيه قصة جرت له مع عمر علقها البخاري، فمن الطرق عن أبي ظبيان عنه بالحديث والقصة
[ 372 ]
ومنها عن أبي ظبيان عن ابن عباس وهي من رواية جرير بن حازم عن الاعمش عنه وذكره الحاكم عن شعبة عن الاعمش كذلك لكنه وقفه. وقال البيهقي تفرد برفعه جرير بن حازم. قال الدارقطني في العلل: وتفرد به عن جرير عبد الله بن وهب، وخالفه ابن فضيل ووكيع فروياه عن الاعمش موقوفا، وكذا قال أبو حصين عن أبي ظبيان، وخالفهم عمار بن رزيق فرواه عن الاعمش ولم يذكر فيه ابن عباس، وكذا قال عطاء بن السائب عن أبي ظبيان عن علي وعمر رضي الله عنهما مرفوعا. قال الحافظ: وقول وكيع وابن فضيل أشبه بالصواب. وقال النسائي: حديث أبي حصين أشبه بالصواب. ورواه أيضا أبو داود من حديث أبي الضحى عن علي عليه السلام بالحديث دون القصة وأبو الضحى. قال أبو زرعة: حديثه عن علي مرسل. ورواه ابن ماجه من حديث القاسم بن يزيد عن علي. قال أبو زرعة: وهو مرسل أيضا. ورواه الترمذي من حديث الحسن البصري، قال أبو زرعة أيضا: وهو مرسل لم يسمع الحسن من علي شيئا. وروى الطبراني عن أبي ادريس الخولاني قال: أخبرني غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثوبان ومالك بن شداد وغيرهما فذكر نحوه وفي إسناده برد بن سنان وهو مختلف فيه. قال الحافظ: وفي إسناده مقال في اتصاله. ورواه الطبراني أيضا من طريق مجاهد عن ابن عباس وإسناده ضعيف كما قال الحافظ. قوله: لا يتم بعد احتلام استدل به على أن الاحتلام من علامات البلوغ. وتعقب بأنه بيان لغاية مدة اليتم، وارتفاع اليتم لا يستلزم البلوغ الذي هو مناط التكليف، لان اليتم يرتفع عند إدراك الصبي لمصالح دنياه، والتكليف إنما يكون عند إدراكه لمصالح آخرته، والاولى الاستدلال بما وقع في رواية لاحمد وأبي داود والحاكم من حديث علي عليه السلام بلفظ: وعن الصبي حتى يحتلم. ويؤيد ذلك قوله في حديث عطية: فمن كان محتلما وقد حكى صاحب البحر الاجماع، على أن الاحتلام مع الانزال من علامات البلوغ في الذكر، ولم يجعله المنصور بالله علامة في الانثى. قوله: ولا صمات الخ، الصمات السكوت، قال في القاموس: وما ذقت صماتا كسحاب شيئا ولا صمت يوم إلى الليل أي لا يصمت يوم تام انتهى. قوله: فلم يجزني. وقوله: فأجازني المراد بالاجازة الاذن بالخروج للقتال، من أجازه إذا أمضاه وأذن له، لا من الجائزة التي هي العطية كما فهمه صاحب ضوء النهار، وقد استدل بحديث ابن عمر هذا من قال: إن مضى خمس عشرة سنة من الولادة يكون بلوغا في الذكر
[ 373 ]
والانثى، وإليه ذهب الجمهور، وتعقب ذلك الطحاوي وابن القصار وغيرهما بأنه لا دلالة في الحديث على البلوغ، لانه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعرض لسنه، وأن فرض خطور ذلك ببال ابن عمر، ويرد هذا التعقب ما ذكرنا من الزيادة في الحديث أعني قوله: ولم يرني بلغت. وقوله: ورآني بلغت والظاهر أن ابن عمر لا يقول هذا بمجرد الظن من دون أن يصدر منه صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على ذلك. وقال أبو حنيفة: بل مضى ثمان عشرة سنة للذكر وسبع عشرة للانثى. قوله: فكان من أنبت الخ. استدل به من قال: إن الانبات من علامات البلوغ، وإليه ذهبت الهادوية وقيدوا ذلك بأن يكون الانبات بعد التسع، وتعقب بأن قتل من أنبت ليس لاجل التكليف بل لرفع ضرره لكونه مظنة للضرر كقتل الحية ونحوها، ورد هذا التعقب بأن القتل لمن كان كذلك ليس إلا لاجل الكفر لا لدفع الضرر لحديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وطلب الايمان وإزالة المانع منه فرع التكليف، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يغزو إلى البلاد البعيدة كتبوك، ويأمر بغزو أهل الاقطار النائية، مع كون الضرر ممن كان كذلك مأمونا، وكون قتال الكفار لكفرهم هو مذهب طائفة من أهل العلم، وذهبت طائفة أخرى إلى أن قتالهم لدفع الضرر، والقول بهذه المقالة هو منشأ ذلك التعقب، ومن القائلين بهذا شيخ الاسلام ابن تيمية حفيد المصنف وله في ذلك رسالة. قوله: شرخهم بفتح الشين المعجمة وسكون الراء المهملة بعدها خاء معجمة. قال في القاموس: هو أول الشباب انتهى. وقيل: هم الغلمان الذين لم يبلغوا، وحمله المصنف على من لم ينبت من الغلمان، ولا بد من ذلك للجمع بين الاحاديث، وإن كان أول الشباب يطلق على من كان في أول الانبات، والمراد بالانبات المذكور في الحديث هو إنبات الشعر الاسود المتجعد في العانة لا إنبات مطلق الشعر فإنه موجود في الاطفال. باب ما يحل لولي اليتيم من ماله بشرط العمل والحاجة عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * (سورة النساء، الآية: 6) أنها أنزلت في ولي اليتيم إذا كان فقيرا أنه يأكل
[ 374 ]
منه مكان قيامه عليه بالمعروف. وفي لفظ: أنزلت في والي اليتيم الذي عليه ويصلح ما له إن كان فقيرا أكل منه بالمعروف أخرجاهما. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني فقير ليس لي شئ ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل رواه الخمسة إلا الترمذي. وللاثرم في سننه عن ابن عمر: أنه كان يزكي مال اليتيم ويستقرض منه ويدفعه مضاربة. حديث عمرو بن شعيب سكت عنه أبو داود، وأشار المنذري إلى أن في إسناده عمرو ابن شعيب، وفي سماع أبيه من جده مقال قد تقدم التنبيه عليه. وقال في الفتح: إسناده قوي، والآية المذكورة تدل على جواز أكل ولي اليتيم ماله بالمعروف إذا كان فقيرا، ووجوب الاستعفاف إذا كان غنيا، وهذا إن كان المراد بالغني والفقير في الآية ولي اليتيم على ما هو المشهور. وقيل: المعنى في الآية اليتيم، أي إن كان غنيا فلا يسرف في الانفاق عليه، وإن كان فقيرا فليطعمه من ماله بالمعروف، فلا يكون على هذا في الآية دلالة على الاكل من مال اليتيم أصلا، وهذا التفسير رواه ابن التين عن ربيعة، ولكن المتعين المصير إلى الاول لقول عائشة المذكور. وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فروي عن عائشة أنه يجوز للولي أن يأخذ من مال اليتيم قدر عمالته، وبه قال عكرمة والحسن وغيرهم، وقيل: لا يأكل منه، إلا عند الحاجة، ثم اختلفوا فقال عبيدة بن عمرو وسعيد بن جبير ومجاهد: إذا أكل ثم أيسر قضى، وقيل: لا يجيب القضاء، وقيل: إن كان ذهبا أو فضة لم يجز له أن يأخذ منه شيئا إلا على سبيل القرض، وإن كان غير ذلك جاز بقدر الحاجة، وهذا أصح الاقوال عن ابن عباس، وبه قال الشعبي وأبو العالية وغيرهما، أخرج جميع ذلك ابن جرير في تفسيره وقال: هو بوجوب القضاء مطلقا وانتصر له، وقال الشافعي: يأخذ أقل الامرين من أجرته ونفقته، ولا يجب الرد على الصحيح عنده، والظاهر من الآية والحديث جواز الاكل مع الفقر بقدر الحاجة من غير إسراف ولا تبذير ولا تأثل، والاذن بالاكل يدل على إطلاقه على عدم وجوب الرد عند التمكن، ومن ادعى الوجوب فعليه الدليل. قوله: غير مسرف ولا مبادر هذا مثل قوله تعالى: * (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا) * (سورة النساء، الآية: 6) أي مسرفين ومبادرين كبر الايتام أو لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم يفرطون
[ 375 ]
في إنفاقها ويقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا. ولفظ أبي داود غير مسرف ولا مبذر. قوله: ولا متأثل قال في القاموس: أثل ما له تأثيلا زكاه وأصله وملكه عظمه والاهل كساهم أفضل كسوة وأحسن إليهم، والرجل كثر ماله انتهى. والمراد هنا أنه لا يدخر من مال اليتيم لنفسه ما يزيد على قدر ما يأكله. قال في الفتح: المتأثل بمثناة ثم مثلثة مشددة بينهما همزة هو المتخذ، والتأثيل اتخاذ أصل المال حتى كأنه عنده قديم واثلة كل شئ أصله. قوله: أنه كان يزكي مال اليتيم الخ، فيه أن ولي اليتيم يزكي ماله ويعامله بالقرض والمضاربة وما شابه ذلك. باب مخالطة الولي اليتيم في الطعام والشراب عن ابن عباس قال: لما نزلت * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * (سورة الانعام، الآية: 152) عزلوا أموال اليتامى حتى جعل الطعام يفسد واللحم ينتن، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت: * (وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) * (سورة البقرة، الآية: 220) قال: فخالطوهم رواه أحمد والنسائي وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا الحاكم وصححه، وفي إسناده عطاء بن السائب وقد تفرد بوصله وفيه مقال. وقد أخرج له البخاري مقرونا. وقال أيوب: ثقة، وتكلم فيه غير واحد. وقال الامام أحمد: من سمع منه قديما فهو صحيح، ومن سمع منه حديثا لم يكن بشئ، ووافقه على ذلك يحيى بن معين، وهذا الحديث من رواية جرير بن عبد الحميد عنه وهو ممن سمع منه حديثا. ورواه النسائي من وجه آخر عن عطاء موصولا وزاد فيه: وأحل لهم خلطهم. ورواه عبد بن حميد عن قتادة مرسلا. ورواه الثوري في تفسيره عن سعيد بن جبير مرسلا أيضا. قال في الفتح: وهذا هو المحفوظ مع إرساله. وروى عبد بن حميد من طريق السدي عمن حدثه عن ابن عباس قال: المخالطة أن تشرب من لبنه ويشرب من لبنك، وتأكل من قصعته ويأكل من قصعتك، والله يعلم المفسد من المصلح، من يتعمد أكل مال اليتيم ومن يتجنبه. وقال أبو عبيد: المراد بالمخالطة أن يكون اليتيم بين عيال الوالي عليه فيشق عليه إفراز طعامه فيأخذ من مال اليتيم قدر ما يرى أنه كافيه بالتحري فيخلطه بنفقة عياله، ولما كان ذلك قد تقع
[ 376 ]
فيه الزيادة والنقصان خشوا منه فوسع الله لهم، وقد ورد التنفير عن أكل أموال اليتامى والتشديد فيه قال الله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * (سورة النساء، الآية: 10) وثبت في الصحيح أن أكل مال اليتيم أحد السبع الموبقات، فالواجب على من ابتلى بيتيم أن يقف على الحد الذي أباحه له الشارع في الاكل من ماله ومخالطته، لان الزيادة عليه ظلم يصلى به فاعله سعيرا ويكون من الموبقين نسأل الله السلامة. كتاب الصلح وأحكام الجوار باب جواز الصلح على المعلوم والمجهول والتحليل منهما عن أم سلمة قالت: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنكم تختصمون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما اقطع من النار يأتي بها أسطاما في عنقه يوم القيامة، فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لاخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه رواه أحمد وأبو داود. وفي رواية لابي داود: إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وسكت عنه داود والمنذري. وفي إسناده أسامة بن زيد بن أسلم المدني مولى عمر، قال النسائي وغيره: ليس بالقوي. وأصل
[ 377 ]
هذا الحديث في الصحيحين، وسيأتي في باب إن حكم الحاكم ينفذ ظاهرا لا باطنا من كتاب الاقضية. قوله: إنكم تختصمون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني في الاحكام. قوله: وإنما أنا بشر البشر يطلق على الواحد كما في الحديث، وعلى الجمع نحو قوله تعالى: * (نذيرا للبشر) * (سورة المدثر، الآية: 36) والمراد إنما أنا مشارك لغيري في البشرية، وإن كان صلى الله عليه وآله وسلم زائدا عليهم بما أعطاه الله تعالى من المعجزات الظاهرة والاطلاع على بعض الغيوب، والحصر ههنا مجازى أي باعتبار علم الباطن. وقد حققه علماء المعاني وأشرنا إلى طرف من تحقيقه في كتاب الصلاة. قوله: ألحن أي أفطن وأعرف، ويجوز أن يكون معناه أفصح تعبيرا عنها وأظهر احتجاجا، فربما جاء بعبارة تخيل إلى السامع أنه محق وهو في الحقيقة مبطل، والاظهر أن يكون معناه أبلغ كما في رواية في الصحيحين أي أحسن إيرادا للكلام، وأصل اللحن الميل عن جهة الاستقامة، يقال: لحن فلان في كلامه إذا مال عن صحيح النطق، ويقال: لحنت لفلان إذا قلت له قولا يفهمه ويخفى على غيره، لانه بالتورية ميل كلامه عن الواضح المفهوم. قوله: وإنما أقضي الخ، فيه دليل على أن الحاكم إنما يحكم بظاهر ما يسمع من الالفاظ مع جواز كون الباطن خلافه، ولم يتعبد بالبحث عن البواطن باستعمال الاشياء التي تفضي في بعض الاحوال إلى ذلك كأنواع السياسة والمداهاة. قوله: فلا يأخذه فيه أن حكم الحاكم لا يحل به الحرام كما زعم بعض أهل العلم. قوله: قطعة بكسر القاف أي طائفة. قوله: أسطاما بضم الهمزة وسكون السين المهملة. قال في القاموس: السطام بالكسر المسعار لحديدة مفطوحة تحرك بها النار ثم قال: والاسطام المسعار اه. والمراد هنا الحديدة التي تسعر بها النار أي يأتي يوم القيامة حاملا لها مع أثقاله. قوله: حقي لاخي فيه دليل على صحة هبة المجهول، وهبة المدعي قبل ثبوته، وهبة الشريك لشريكه. قوله: أما إذا قلتما لفظ أبي داود: أما إذ فعلتما ما فعلتماه فاقتسما قال في شرح السنن: أما بتخفيف الميم يحتمل أن يكون بمعنى حقا وإذ للتعليل. قوله: فاقتسما فيه دليل على أن الهبة إنما تملك بالقبول لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهما بالاقتسام بعد أن وهب كل واحد نصيبه من الآخر. قوله: ثم توخيا بفتح الواو والخاء المعجمة. قال في النهاية: أي اقصدا الحق فيما تصنعان من القسمة، يقال: توخيت الشئ أتوخاه توخيا إذا قصدت إليه وتعمدت فعله. قوله: ثم استهما أي ليأخذ كل واحد منكما ما تخرجه القرعة من القسمة
[ 378 ]
ليتميز سهم كل واحد منكما عن الآخر. وفيه الامر بالقرعة عند المساواة أو المشاحة. وقد وردت القرعة في كتاب الله في موضعين. أحدهما قوله تعالى: * (إذ يلقون أقلامهم) * (سورة آل عمران، الآية: 44) والثاني قوله تعالى: * (فساهم فكان من المدحضين) * (سورة الصافات، الآية: 141) وجاءت في خمسة أحاديث من السنة: الاول هذا الحديث. الثاني: حديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه. الثالث: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقرع في سنة مملوكين. الرابع: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول لاستهموا عليه. الخامس: حديث الزبير: أن صفية جاءت بثوبين لتكفن فيهما حمزة فوجدنا إلى جنبه قتيلا فقلنا: لحمزة ثوب وللانصاري ثوب، فوجدنا أحد الثوبين أوسع من الآخر، فأقرعنا عليهما ثم كفنا كل واحد في الثوب الذي خرج له. والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على هذا وقرره لانه كان حاضرا هنالك، ويبعد أن يخفى عليه مثل ذلك في حق حمزة، وقد كانت الصحابة تعتمد القرعة في كثير من الامور كما روي أنه تشاح الناس يوم القادسية في الآذان فأقرع بينهم سعد. قوله: ثم ليحلل الخ، أي ليسأل كل واحد منكما صاحبه أن يجعله في حل من قبله بإبراء ذمته، وفيه دليل على أنه يصح الابراء من المجهول، لان الذي في ذمة كل واحد ههنا غير معلوم، وفيه أيضا صحة الصلح بمعلوم عن مجهول، ولكن لا بد مع ذلك من التحليل. وحكي في البحر عن الناصر والشافعي أنه لا يصح الصلح بمعلوم عن مجهول. قوله: برأيي هذا مما استدل به أهل الاصول على جواز العمل بالقياس وأنه حجة، وكذا استدلوا بحديث بعث معاذ المعروف. وعن عمرو بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حرما رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وزاد: المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حرما قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الحديث أخرجه أيضا الحاكم وابن حبان وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه وهو ضعيف جدا. قال فيه الشافعي وأبو داود: هو ركن من أركان الكذب، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة وتركه أحمد. وقد نوقش الترمذي في تصحيح حديثه، قال الذهبي: أما الترمذي فروى من حديثه الصلح
[ 379 ]
جائز بين المسلمين وصححه فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيحه. وقال ابن كثير في إرشاده: قد نوقش أبو عيسى يعني الترمذي في تصحيحه هذا الحديث وما شاكله اه. واعتذر له الحافظ فقال: وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وذلك لانه رواه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة، قال الحاكم: على شرطهما وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي. وأخرجه أيضا الحاكم من حديث أنس. وأخرجه أيضا من حديث عائشة وكذلك الدارقطني. وأخرجه أحمد من حديث سليمان بن بلال عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة عن عطاء مرسلا. وأخرجه البيهقي موقوفا على عمر كتبه إلى أبي موسى. وقد صرح الحافظ بأن إسناد حديث أنس وإسناد حديث عائشة واهيان، وضعف ابن حزم حديث أبي هريرة وكذلك ضعفه عبد الحق. وقد روي من طريق عبد الله بن الحسين المصيصي وهو ثقة، وكثير بن زيد المذكور قال أبو زرعة: صدوق، ووثقه ابن معين، والوليد بن رباح صدوق أيضا. ولا يخفى أن الاحاديث المذكورة والطرق يشهد بعضها لبعض، فأقل أحوالها أن يكون المتن الذي اجتمعت عليه حسنا. قوله: الصلح جائز ظاهر هذه العبارة العموم، فيشمل كل صلح إلا ما استثني، ومن ادعى عدم جواز صلح زائد على ما استثناه الشارع في الحديث فعليه الدليل. وإلى العموم ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد والجمهور. وحكي في البحر عن العترة والشافعي وابن أبي ليلى أنه لا يصح الصلح عن إنكار، وقد استدل لهم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه. وبقوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (سورة البقرة، الآية: 188) ويجاب بأن الرضا بالصلح مشعر بطيبة النفس، فلا يكون أكل المال به من أكل أموال الناس بالباطل.
[ 380 ]
واحتج لهم في البحر بأن الصلح معاوضة فلا يصح مع الانكار كالبيع. وأجيب بأنه لا معنى للانكار في البيع لعدم ثبوت حق لاحدهما على الآخر يتعلق به الانكار قبل صدور البيع فلا يصح القياس. قوله: بين المسلمين هذا خرج مخرج الغالب، لان الصلح جائز بين الكفار وبين المسلم والكافر. ووجه التخصيص أن المخاطب بالاحكام في الغالب هم المسلمون لانهم هم المنقادون لها. قوله: إلا صلحا بالنصب على الاستثناء. وفي رواية لابي داود والترمذي بالرفع. والصلح الذي يحرم الحلال كمصالحة الزوجة للزوج على أن لا يطلقها، أو لا يتزوج عليها، أو لا يبيت عند ضرتها، والذي يحلل الحرام كأن يصالحه على وطئ أمة لا يحل له وطؤها، أو أكل مال لا يحل له أكله، أو نحو ذلك. قوله: المسلمون على شروطهم أي ثابتون عليها لا يرجعون عنها. قال المنذري: وهذا في الشروط الجائزة دون الفاسدة، ويدل على هذا قوله: إلا شرطا حرم حلالا الخ، ويؤيده ما ثبت في حديث بريرة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. وحديث: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد والشرط الذي يحل الحرام، كأن يشرط نصرة الظالم أو الباغي أو غزو المسلمين، والذي يحرم الحلال كأن يشرط عليه أن لا يطأ أمته أو زوجته أو نحو ذلك. وعن جابر أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين فاشتد الغرماء
[ 381 ]
في حقوقهم قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمرة حائطي ويحللوا أبي فأبوا، فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حائطي وقال: سنغدو عليك، فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل وداعا في ثمرها بالبركة فجددتها فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها، وفي لفظ: أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمرة نخله بالذي له فأبى، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم النخل فمشى فيها ثم قال لجابر: جد له فأوف له الذي له، فجده بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا وفضلت سبعة عشر وسقا رواهما البخاري. قوله: فجددتها بالجيم ودالين مهملتين، والجداد صرام النحل. والحديث فيه دليل على جواز المصالحة بالمجهول عن المعلوم، وذلك لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل الغريم أن يأخذ ثمر الحائط وهو مجهول القدر في الاوساق التي له وهي معلومة، ولكنه ادعى في البحر الاجماع على عدم الجواز فقال ما لفظه مسألة: ويصح بمعلوم عن معلوم إجماعا، ولا يصح بمجهول إجماعا ولو عن معلوم، كأن يصالح بشئ عن شئ، أو عن ألف بما يكسبه هذا العام اه. فينبغي أن ينظر في صحة هذا الاجماع فإن الحديث مصرح بالجواز. وقال المهلب: لا يجوز عند أحد من العلماء أن يأخذ من له دين تمر تمرا مجازفة بدينه لما فيه من الجهل والغرر، وإنما يجوز أن يأخذ مجاز فة في حقه أقل من دينه إذا علم الاخذ ذلك ورضي اه. وهكذا قال الدمياطي، وتعقبهما ابن المنير فقال: بيع المعلوم بالمجهول مزابنة، فإن كان تمرا نحوه فمزابنة وربا، لكن اغتفر ذلك في الوفاء وتبعه الحافظ على ذلك فقال: إنه يغتفر في القضاء من المعاوضة ما لا يغتفر ابتداء، لان بيع الرطب بالتمر لا يجوز في غير العرايا، ويجوز في المعاوضة عند الوفاء، قال: وذلك بين في حديث الباب انتهى. والحاصل أن هذا الحديث مخصص للعمومات المتقدمة في البيع القاضية بوجوب معرفة مقدار كل واحد من البدلين المتساويين جنسا وتقديرا، فيجوز القضاء مع الجهالة إذا وقع الرضا، ويؤيد هذا حديث أم سلمة السالف، فإنها وقعت فيه المصالحة
[ 382 ]
بمعلوم عن مجهول. والمواريث الدارسة تطلق على الاجناس الربوية وغيرها، فهو يقضي بعمومه أنها تجوز المصالحة مع جهالة أحد العوضين وإن كان المصالح به والمصالح عنه ربوين، ولكن لا بد من وقوع التحليل كما هو مصرح به في الحديثين، وقد استدل المقبلي في الابحاث بهذا الحديث على جواز صرف الفضة بالفضة مع التصريح بتطييب الزائد، وأنه لا يلزم من ذلك إبطال المقصد الشرعي في الربا لان كل حيلة توصل بها إلى السلامة من الاثم فهي جائزة، وأنما المحرم الحيلة التي توصل بها إلى إبطال مقصد شرعي، قال: فعلى هذا يجوز الصرف للقروش بالمحلقة وهما ضربتان كبيرة وصغيرة، ونحو ذلك مما دعت الضرورة إليه. قال: ولنحو ذلك رخص في بيع العرية، وإلا فكان يمكن بيع التمر بالدراهم ثم شراء رطب بالدراهم، أما لو كان الغرض طلب التجارة والارباح كالصيارفة فلا يجوز إلى آخر كلامه. وصرح أيضا بأنه لا حاجة في الصرف إلى تكلف شراء سلعة ثم بيعها كما في حديث تمر الجمع والجنيب السالف، قال: لان ذلك يلحق بالممتنع للضرورة إليه في أكثر الاحوال وغالبها ففيه غاية المشقة، وأنت خبير بأن الحديث ورد على خلاف ما تقتضيه الاصول، فلا يجوز أن يجاوز به مورده وهو صورة القضاء فلا يصح القياس، وهذا على فرض عدم صحة الاجماع على خلاف ما يقتضيه الحديث، فإن صح فالعمل به في تلك الصورة المخصوصة لا يجوز، فكيف يصح إلحاق غيرها بها؟ وأيضا خبر القلادة السالف مشعر بعدم جواز بيع الفضة بالفضة وإن وقعت المراضاة والمباراة، فهذا القياس الذي عول عليه فاسد الاعتبار، فإن قال: إن صرف الدراهم بالقروش يحتاج إليه كل أحد وتدعو الضرورة إليه بخلاف بيع الفضة التي ليست بمضروبة بمثلها فنقول: هذا تخصيص بمجرد الحاجة والمشقة، ومثل ذلك لا ينتهض لتخصيص النصوص، ولا سيما مع إمكان التخلص عن تلك الورطة بأن يشتري بأحد البدلين عينا ويبيعها بالنقد الآخر، كما أرشد إليه الشارع في قضية تمر الجمع والجنيب، فإن بهذه الوسيلة تنتقي الضرورة الحاملة على ارتكاب ما لا يحل، ولو كان مجرد حصول المشقة مجوزا لمخالفة الدليل ومسوغا للمحرم، لكان في ذلك معذرة لمن لا رغبة له في القيام بالواجبات، لان كثيرا منها مصحوب بالمشقة كالحج والجهاد ونحوهما. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من
[ 383 ]
كانت عنده مظلمة لاخيه من عرضه أو شئ فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه رواه البخاري وكذلك أحمد والترمذي وصححه وقالا فيه: مظلمة من مال أو عرض. قوله: مظلمة بكسر اللام على المشهور، وحكى ابن قتيبة وابن التين والجوهري فتحها، وأنكره ابن القوطية، وحكى القزاز الضم. قوله: أو شئ هو من عطف العام على الخاص، فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها. قوله: قبل أن لا يكون دينار ولا درهم أي يوم القيامة كما ثبت في رواية الاسماعيلي. قوله: أخذ من سيئات صاحبه أي صاحب المظلمة فحمل عليه أي على الظالم. وفي رواية مالك: فطرحت عليه وقد أخرج هذا الحديث مسلم من وجه آخر وهو أوضح سياقا من هذا. ولفظه: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وسفك دم هذا وأكل مال هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه وطرح في النار. ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (سورة فاطر، الآية: 18) لانه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه، ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده. (وفي الحديث) دليل على صحة الابراء من المجهول لا طلاقه. وزعم ابن بطال أن في هذا الحديث دليلا على اشتراط التعيين، لا قوله مظلمة يقتضي أن تكون معلومة القدر مشارا إليها. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه. قال ابن المنير: إنما وقع في الحديث التقدير حيث يقتص المظلوم من الظالم حتى يأخذ منه بقدر حقه وهذا متفق عليه، والخلاف إنما هو فيما إذا أسقط المظلوم حقه في الدنيا هل يشترط أن يعرف قدره أم لا؟ وقد أطلق ذلك في الحديث. نعم قام الاجماع على صحة التحليل من المعين المعلوم، فإن كانت العين موجودة صحت هبتها دون الابراء منها. وفي الحديث أيضا دليل على أن من حلل خصمه من مظلمة لا رجوع له في ذلك، أما المعلوم فلا خلاف فيه، وأما المجهول فعند من يجيزه، قال في الفتح: وهو فيما مضى باتفاق، وأما فيما سيأتي ففيه الخلاف.
[ 384 ]
باب الصلح عن دم العمد بأكثر من الدية وأقل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وذلك عقل العمد، وما صالحوا عليه فهو لهم وذلك تشديد العقل رواه أحمد وابن ماجه والترمذي. الحديث حسنه الترمذي، في إسناد أحمد: علي بن زيد بن جدعان وفيه مقال عن يعقوب السدوسي، ويقال فيه عقبة بن أوس عن ابن عمرو، وروى البيهقي بإسناده إلى ابن خزيمة قال: حضرت مجلس المزني يوما وسأله سائل من العراقيين عن شبه العمد فقال السائل: إن الله وصف القتل في كتابه صنفين عمدا وخطأ، فلم قلتم إنه على ثلاثة أصناف؟ فاحتج المزني بحديث ابن عمرو، فقال له يناظره: أتحتج بعلي بن زيد بن جدعان؟ فسكت المزني، فقلت لناظره: قد روي هذا الحديث عن غير علي بن زيد، فقال: من رواه غيره؟ فقلت: أيوب السختياني وجابر الحذاء، قال لي: فمن عقبة بن أوس؟ قلت: رجل من أهل البصرة روى عنه ابن سيرين على جلالته، فقال للمزني: أنت تناظر أم هذا؟ فقال: إذا جاء الحديث فهو يناظر لانه أعلم به مني اه. فدل كلام ابن خزيمة هذا على أن علي بن زيد قد توبع. وأيضا الترمذي رواه عن أحمد بن سعيد الدارمي عن حبان بن هلال عن محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب. قوله: خلفة أي حاملة. ووقع في رواية: أربعون خلفة في بطونها أولادها، واستشكل ذلك لان الخلفة هي التي في بطنها ولدها، وأجيب بأن هذا تفسير لا تقييد، وقيل: تأكيد وإيضاح، وقيل: غير ذلك، والحديث يأتي الكلام على ما اشتمل عليه في أبواب الديات، وإنما ساقه المصنف ههنا للاستدلال بقوله فيه: وما صالحوا عليه فهو لهم فإنه يدل على جواز الصلح في الدماء بأكثر من الدية. باب ما جاء في وضع الخشب في جدار الجار وإن كره عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يمنع جار جاره أن
[ 385 ]
يغرز خشبه في جداره، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين والله لارمين بها بين أكتافكم رواه الجماعة إلا النسائي. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يضع خشبه في حائط جاره، وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع. وعن عكرمة بن سلمة بن ربيعة أن أخوين من بني المغيرة أعتق أحدهما أن لا يغرز خشبا في جداره، فلقيا مجمع بن يزيد الانصاري ورجالا كثيرا فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبا في جداره، فقال الحالف: أي أخي قد علمت أنك مقضي لك علي وقد حلفت فاجعل أسطوانا دون جداري. ففعل الآخر فغرز في الاسطوان خشبه رواهما أحمد وابن ماجه. أما حديث ابن عباس فأخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي والطبراني وعبد الرزاق، قال ابن كثير: أما حديث لا ضرر ولا ضرار فرواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت. وروي من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري وهو حديث مشهور اه. وهو أيضا عند ابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث أبي سعيد، وعند البيهقي أيضا من حديث عبادة. وعند الطبراني في الكبير وأبي نعيم من حديث ثعلبة بن مالك القرظي، وما فيه من جعل الطريق سبعة أذرع ثابت في الصحيحين من حديث أبي هريرة كما سيأتي. وأما حديث مجمع فأخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي وسكت عنه الحافظ في التلخيص. وعكرمة بن سلمة بن ربيعة المذكور مجهول. قوله: لا يمنع بالجزم على النهي. وفي رواية لاحمد: لا يمنعن. وفي لفظ للبخاري بالرفع على الخبرية وهي في معنى النهي. قوله: خشبه قال القاضي عياض: رويناه في مسلم وغيره من الاصول بصيغة الجمع والافراد ثم قال: وقال عبد الغني بن سعيد: كل الناس تقوله بالجمع إلا الطحاوي فإنه قال عن روح بن الفرج: سألت أبا زيد والحرث بن بكير ويونس بن عبد الاعلى عنه فقالوا: كلهم خشبة بالتنوين، ورواية مجمع تشهد لمن رواه بلفظ الجمع، ويؤيدها أيضا ما رواه البيهقي من طريق شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ: إذا سأل أحدكم جاره أن يدعم جذوعه على حائطه فلا يمنعه قال القرطبي: وإنما اعتنى هؤلاء الائمة بتحقيق الرواية في هذا الحرف، لان أمر الخشبة الواحدة يخف على الجار المسامحة به، بخلاف الاخشاب الكثيرة.
[ 386 ]
(والاحاديث) تدل على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من غرز الخشب في جداره، ويجبره الحاكم إذا امتنع، وبه قال أحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكية والشافعي في القديم وأهل الحديث. وقالت الحنفية والهادوية ومالك والشافعي في أحد قوليه والجمهور أنه يشترط إذن المالك، ولا يجبر صاحب الجدار إذا امتنع، وحملوا النهي على التنزيه جمعا بينه وبين الادلة القاضية بأنه: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه. وتعقب بأن هذا الحديث أخص من تلك الادلة مطلقا فيبنى العام على الخاص. قال البيهقي: لم نجد في السنن الصحية ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن يخصها، وحمل بعضهم الحديث على ما إذا تقدم استئذان الجار كما وقع في رواية لابي داود بلفظ: إذا استأذن أحدكم أخاه. وفي رواية لاحمد: من سأله جاره وكذا في رواية لابن حبان، فإذا تقدم الاستئذان لم يكن للجار المنع لا إذا لم يتقدم. قوله: في جداره الظاهر عود الضمير إلى المالك أي في جدار نفسه، وقيل: الضمير يعود على الجار الذي يريد الغرز، أي لا يمنعه من وضع خشبه على جدار نفسه، وإن تضرر به من جهة منع الضوء مثلا. ووقع لابي عوانة من طريق زياد بن سعد عن الزهري أنه يضع جذعه على جدار نفسه ولو تضرر به جاره، والظاهر الاول، ويؤيده قوله في حديث ابن عباس: في حائط جاره. وكذلك قوله في الحديث الآخر: فاجعل أسطوانا دون جداري قيل: وهذا الحكم مشروط عند القائلين بأنه يجب ذلك على الجار بحاجة من يريد الغرز إليه وعدم تضرر المالك، فإن تضرر لم يقدم حاجة جاره على حاجته، ولكنه لا يخفى أن إطلاق الاحاديث قاض بعدم اعتبار عدم تضرر المالك، ولكنه يجب على من يريد الغرز أن يتوقى الضرر بما أمكن، فإن لم يمكن إلا بإضرار وجب على الغارز إصلاحه، وذلك كما يقع عند فتح الجدار لغرز الجذوع، وأما اعتبار حاجة الغارز إلى الغرز فأمر لا بد منه. قوله: ما لي أراكم عنها معرضين أي عن هذه المقالة التي جاءت بها السنة أو عن هذه الوصية أو الموعظة. قوله: والله لارمين بين أكتافكم بالتاء الفوقية أي لاقر عنكم بها كما يضرب الانسان بالشئ بين كتفيه ليستيقظ من غفلته. قال القاضي عياض وابن عبد البر: وقد رواه بعض رواة الموطأ أكنافكم بالنون، والكنف الجانب ونونه مفتوحة، والمعنى: لاصرخن بها بين جماعتكم ولا أكتمها أبدا. وقال الخطابي معناه: إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به
[ 387 ]
راضين لاجعلنها أي الخشبة على رقابكم كارهين أراد بذلك المبالغة. وفي تعليق القاضي حسين أن أبا هريرة قال ذلك حين كان متوليا بمكة أو المدينة، وكأنه قاله لما رآهم توقفوا عن قبول هذا الحكم، كما وقع في رواية لابي داود أنهم نكسوا رؤوسهم لما سمعوا ذلك. قوله: لا ضرر ولا ضرار هذا فيه دليل على تحريم الضرار على أي صفة كان من غير فرق بين الجار وغيره، فلا يجوز في صورة من الصور إلا بدليل يخص به هذا العموم، فعليك بمطالبة من جوز المضارة في بعض الصور بالدليل، فإن جاء به قبلته، وإلا ضربت بهذا الحديث وجهه، فإنه قاعدة من قواعد الدين تشهد له كليات وجزئيات. وقد ورد الوعيد لمن ضار غيره، فأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه من حديث أبي صرمة بكسر الصاد المهملة مالك بن قيس الانصاري وهو ممن شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، قال ابن عبد البر: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه واختلفوا في الفرق بين الضر والضرار فقيل: إن الضر فعل الواحد، والضرار فعل الاثنين فصاعدا. وقيل: الضرار أن تضره من غير أن تنتفع، والضر أن تضره وتنتفع أنت به. وقيل: الضرار الجزاء على الضر، والضر الابتداء، وقيل: هما بمعنى قوله: وللرجل أن يضع خشبه في حائط جاره فيه دليل على جواز وضع الخشبة في جدار الجار، وإذا جاز الغرز جاز الوضع بالاولى لانه أخف منه. قوله: فاجعلوه سبعة أذرع هذا محمول على الطريق التي هي مجرى عامة المسلمين بأحمالهم ومواشيهم، فإذا تشاجر من له أرض يتصل بها مع من له فيها حتى جعل عرضها سبعة أذرع بالذراع المتعارف في ذلك البلد بخلاف بنيات الطريق، فإن الرجل إذا جعل في بعض أرضه طريقا مسبلة للمارين كان تقديرها إلى خيرته والافضل توسيعها، وليس هذه الصورة مراد الحديث، لان المفروض أن هذه لا مدافعة فيها ولا اختلاف، وسيأتي تمام الكلام على الطريق في الباب الذي بعد هذا. قوله: أعتق أحدهما أي حلف بالعتق. باب في الطريق إذا اختلفوا فيه كم تجعل عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا اختلفتم في
[ 388 ]
الطريق فاجعلوه سبعة أذرع رواه الجماعة إلا النسائي. وفي لفظ لاحمد: إذا اختلفوا في الطريق رفع من بينهم سبعة أذرع. وعن عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في الرحبة تكون في الطريق ثم يريد أهلها البنيان فيها، فقضى أن يترك للطريق سبعة أذرع، وكانت تلك الطريق تسمى الميتاء. رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه. حديث عبادة أخرجه أيضا الطبراني بلفظ: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق الميتاء الحديث والراوي له عن عبادة إسحاق بن يحيى ولم يدركه، ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ: إذا اختلفتم في الطريق الميتاء فاجعلوها سبعة أذرع وما أخرجه ابن عدي من حديث أنس بلفظ: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق الميتاء التي تؤتى من كل مكان فذكر الحديث. قال في الفتح: وفي كل من الاسانيد الثلاثة مقال اه. ولكنه يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها كما لا يخفى. قوله: إذا اختلفتم في لفظ للبخاري: إذا تشاجروا. وللاسماعيلي: إذا اختلف الناس في الطريق وزاد المستملي بعد ذكر الطريق فقال: الميتاء قال الحافظ: ولم يتابع عليه وليست محفوظة في حديث أبي هريرة، وإنما ذكرها البخاري في الترجمة مشيرا إلى الاحاديث التي ذكرناها كما جرت بذلك قاعدته. قوله: سبعة أذرع قال في الفتح: الذي يظهر أن المراد بالذراع ذراع الآدمي فيعتبر ذلك بالمعتدل. وقيل: المراد ذراع البنيان المتعارف، ولكن هذا المقدار إنما هو في الطريق التي هي مجرى عامة المسلمين للجمال وسائر المواشي كما أسلفنا، لا الطريق المشروعة بين الاملاك والطرق التي يمر بها بنو آدم فقط، ويدل على ذلك التقييد بالميتاء كما في الاحاديث المذكورة، والميتاء بميم مكسورة وتحتانية ساكنة وبعدها فوقانية ومد بوزن مفعال من الاتيان والميم زائدة. قال أبو عمر والشيباني: الميتاء أعظم الطرق وهي التي يكثر مرور الناس فيها. وقال غيره: هي الطرق الواسعة، وقيل: العامرة. وحكي في البحر عن الهادي أنه إذا التبس عرض الطريق بين الاملاك أو كان حوليها أرض موات بقي لما تجتازه العماريات اثنا عشر ذراعا ولدونه سبعة، وفي المنسدة
[ 389 ]
مثل أعرض باب فيها انتهى. وبهذا التفصيل قالت الهادوية. (والحكمة) في ورود الشرع بتقدير الطريق سبعة أذرع هي أن تسلكها الاحمال والاثقال دخولا وخروجا، وتسع ما لا بد منه كما يطرح عند الابواب. قوله: الرحبة بفتح الحاء المهملة وتسكن على ما في القاموس وهي المكان بناحية ومتسعه، ومن الوادي مسيل مائه من جانبيه. والمراد هنا المكان بجانب الطريق كما في الحديث. باب إخراج ميازيب المطر إلى الشارع عن عبد الله بن عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر فلبس ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان، فلما وافى الميزاب صب ماء بدم الفرخين فأمر عمر بقلعه ثم رجع فطرح ثيابه ولبس ثيابا غير ثيابه ثم جاء فصلى بالناس، فأتاه العباس فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعل ذلك العباس. الحديث لم يذكر المصنف من خرجه كما في النسخ الصحيحة من هذا الكتاب، وفي نسخة أنه أخرجه أحمد، وهو في مسند أحمد بلفظ: كان للعباس ميزاب على طريق عمر فلبس ثيابه يوم الجمعة فأصابه منه ماء بدم فأتاه العباس فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عنه فقال: هو خطأ. ورواه البيهقي من أوجه أخر ضعيفة أو منقطعة ولفظ أحدهما: والله ما وضعه حيث كان إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده. وأورده الحاكم في المستدرك وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف. قال الحاكم: ولم يحتج الشيخان بعبد الرحمن، ورواه أبو داود في المراسيل من حديث أبي هارون المدني قال: كان في دار العباس ميزاب فذكره. (والحديث) فيه دليل على جواز إخراج الميازيب إلى الطرق، لكن بشرط أن لا تكون محدثة تضر بالمسلمين، فإن كانت كذلك منعت لاحاديث المنع من الضرار. قال في البحر مسألة
[ 390 ]
العترة: ويمنع في الطريق الغرس والبناء والحفر ومرور أحمال الشوك ووضع الحطب والذبح فيها وطرح القمامة والرماد وقشر الموز، وإحداث السواحل والميازيب، وربط الكلاب الضارية لما فيها من الاذى اه. ثم حكي في البحر أيضا عن أبي حنيفة والهادوية أنها لا تضيق قرار السكك النافذة ولا هواؤها بشئ وإن اتسعت إذا الهواء تابع للقرار في كونه حقا كتبعية هواء الملك لقراره. وعن الشافعي والمؤيد بالله في أحد قوليه إنما حق المار في القرار لا الهواء فيجوز الروشن والساباط حيث لا ضرر وكذلك الميزاب. قال المؤيد بالله: ويجوز تضييق النافذة المسبلة بما لا ضرر فيه لمصلحة عامة بإذن الامام. وكذلك يجوز تضييق هوائها بالاولى، وإلى مثل ما ذهب إليه المؤيد ذهبت الهادوية وقالوا: يجوز أيضا التضييق لمصلحة خاصة في الطرق المشروعة بين الاملاك. كتاب الشركة والمضاربة عن أبي هريرة رفعه قال: إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما رواه أبو داود. الحديث صححه الحاكم وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وأعله أيضا ابن القطان بالارسال فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال: إنه الصواب، ولم يسنده غير أبي همام محمد بن الزبرقان. وسكت أبو داود والمنذري عن هذا الحديث، وأخرج نحوه أبو القاسم الاصبهاني في الترغيب والترهيب عن حكيم بن حزام. قوله: كتاب الشركة بكسر الشين وسكون الراء، وحكى ابن باطيش فتح الشين وكسر الراء، وذكر صاحب الفتح فيها أربع لغات: فتح الشين وكسر الراء وكسر الشين وسكون الراء، وقد تحذف الهاء وقد يفتح أوله مع ذلك. قوله: والمضاربة هي مأخوذة من الضرب في الارض وهو السفر والمشي والعامل مضارب بكسر الراء. قال الرافعي: ولم يشتق للمالك منه اسم فاعل، لان العامل يختص بالضرب في الارض، فعلى هذا تكون المضاربة من المفاعلة التي تكون من واحد مثل عاقبت اللص. قوله: أنا ثالث الشريكين المراد أن الله جل جلاله يضع البركة
[ 391 ]
للشريكين في مالهما مع عدم الخيانة، وبمدهما بالرعاية والمعونة، ويتولى الحفظ لما لهما. قوله: خرجت من بينهما أي نزعت البركة من المال، زاد رزين: وجاء الشيطان. ورواية الدارقطني: فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما يعني البركة. وعن السائب بن أبي السائب أنه قال: للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداريني ولا تماريني رواه أبو داود وابن ماجه ولفظه: كنت شريكي ونعم الشريك كنت لا تداري ولا تماري. الحديث أخرجه أيضا النسائي والحاكم وصححه. وفي لفظ لابي داود وابن ماجه: أن السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال: مرحبا بأخي وشريكي لا تداري ولا تماري. وفي لفظ: أن السائب قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعلوا يثنون علي ويذكرونني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا أعلمكم به، فقلت: صدقت بأبي أنت وأمي، كنت شريكي فنعم الشريك لا تداري ولا تماري. ورواه أبو نعيم في المعرفة والطبراني في الكبير من طريق قيس بن السائب. وروي أيضا عن عبد الله بن السائب. قال أبو حاتم في العلل: وعبد الله ليس بالقوي. وقد اختلف هل كان الشريك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم السائب المذكور أو ابنه عبد الله. واختلف أيضا في إسلام السائب وصحبته. قال ابن عبد البر: هو من المؤلفة قلوبهم، وممن حسن إسلامه، وعاش إلى زمن معاوية. وروى ابن هشام عن ابن عباس أنه ممن هاجر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاه يوم الجعرانة من غنائم حنين. وقال ابن إسحاق: إنه قتل يوم بدر كافرا، وقيل: إن اسمه السائب بن يزيد وهو وهم، ويقال السائب بن نميلة. قوله: لا تداري ولا تماري أي لا تمانعني ولا تحاورني. (وفي الحديث) بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حسن المعاملة والرفق قبل النبوة وبعدها، وفيه جواز السكوت من الممدوح عند سماع من يمدحه بالحق. وعن أبي المنهال: أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمرهما أن ما كان بنقد فأخبزوه وما كان بنسيئة فردوه رواه أحمد والبخاري بمعناه. لفظ البخاري: ما كان يدا بيد فخذوه وما كان نسيئة فردوه والحديث استدل
[ 392 ]
به على جواز تفريق الصفقة فيصح الصحيح منها ويبطل ما لا يصح، وتعقب باحتمال أن يكونا عقدا عقدين مختلفين، ويؤيده ما في البخاري في باب الهجرة إلى المدينة عن أبي المنهال المذكور فذكر هذا الحديث. وفيه: قدم النبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ونحن نتبايع هذا البيع فقال: ما كان يدا بيد فليس به بأس، وما كان نسيئة فلا يصلح. فمعنى قوله: ما كان يدا بيد فخذوه أي ما وقع لكم فيه التقابض في المجلس فهو صحيح فامضوه، وما لم يقع لكم فيه التقابض فليس بصحيح فاتركوه، ولا يلزم من ذلك أن يكونا جميعا في عقد واحد، واستدل بهذا الحديث أيضا على جواز الشركة في الدراهم والدنانير وهو إجماع كما قال ابن بطال، لكن لا بد أن يكون نقد كل واحد منهما مثل نقد صاحبه ثم يخلطا ذلك حتى لا يتميز ثم يتصرفا جميعا، إلا أن يقيم كل واحد منهما الآخر مقام نفسه. وقد حكى أيضا ابن بطال أن هذا الشرط مجمع عليه، واختلفوا إذا كانت الدنانير من أحدهما والدراهم من الآخر، فمنعه الشافعي ومالك في المشهور عنه والكوفيون إلا الثوري. واختلفوا أيضا هل تصح الشركة في غير النقدين؟ فذهب الجمهور إلى الصحة في كل ما يتملك، وقيل: يختص بالنقد المضروب، والاصح عند الشافعية اختصاصها بالمثلى وحديث اشتراك الصحابة في أزوادهم في غزوة الساحل كما في حديث جابر عند البخاري وغيره يرد على من قال باختصاص الشركة بالنقد، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قررهم على ذلك. وكذلك حديث سلمة بن الاكوع عند البخاري وغيره أنهم جمعوا أزوادهم ودعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم فيها بالبركة. ويرد على الشافعية حديث أبي عبيدة الآتي، وحديث رويفع. والحاصل أن الاصل ا لجواز في جميع أنواع الاموال، فمن ادعى الاختصاص بنوع واحد أو بأنواع مخصوصة ونفي جواز ما عداها فعليه الدليل، وهكذا الاصل جواز جميع أنواع الشرك المفصلة في كتب الفقه، فلا نقبل دعوى الاختصاص بالبعض إلا بدليل. وعن أبي عبيدة عن عبد الله قال: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشئ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وهو حجة في شركة الابدان وتملك المباحات. وعن رويفع بن ثابت قال: إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 393 ]
ليأخذ نضو أخيه على أنه له النصف مما يغنم ولنا النصف، وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح رواه أحمد وأبو داود. الحديث الاول منقطع، لان أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود. والحديث الثاني في إسناده أبو داود شيبان بن أمية القتباني وهو مجهول وبقية رجاله ثقات. وقد أخرجه النسائي من غير طريق هذا المجهول بإسناد رجاله كلهم ثقات. قوله: النضو هو المهزول من الابل. والنصل جديدة السهم. والريش هو الذي يكون على السهم. والقدح بكسر القاف السهم قبل أن يراش وينصل. (استدل) بحديث أبي عبيدة على جواز شركة الابدان كما ذكره المصنف، وهي أن يشترك العاملان فيما يعملانه فيوكل كل واحد منهما صاحبه أن يتقبل ويعمل عنه في قدر معلوم مما استؤجر عليه ويعينان الصنعة، وقد ذهب إلى صحتها مالك بشرط اتحاد الصنعة، وإلى صحتها ذهبت العترة وأبو حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: شركة الابدان كلها باطلة، لان كل واحد منهما متميز ببدنه ومنافعه فيختص بفوائده، وهذا كما لو اشتركا في ماشيتهما وهي متميزة ليكون الدر والنسل بينهما فلا يصح. وأجابت الشافعية عن هذا الحديث بأن غنائم بدر كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدفعها لمن يشاء، وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة وغيره ممن قال إن الوكالة في المباحات لا تصح. والحديث الثاني يدل على جواز دفع أحد الرجلين إلى الآخر راحلته في الجهاد على أن تكون الغنيمة بينهما، والاحتجاج بهذين الحديثين إنما هو على فرض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع وقرر، وعلى فرض عدم الاطلاع والتقرير لا حجة في أفعال الصحابة وأقوالهم إلا أن يصح إجماعهم على أمر. وعن حكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئا من ذلك فقد ضمنت مالي رواه الدارقطني. الاثر أخرجه أيضا البيهقي، وقوى الحافظ إسناده، وفي تجويز المضاربة آثار عن جماعة من الصحابة منها عن علي عليه السلام عند عبد الرزاق أنه قال في المضاربة الوضيعة على المال والربح على ما اصطلحوا عليه. وعن ابن مسعود عند الشافعي في كتاب اختلاف العراقيين أنه أعطى زيد بن جليدة مالا مقارضة، وأخرجه عنه أيضا البيهقي. وعن ابن
[ 394 ]
عباس عن أبيه العباس أنه كان إذا دفع مالا مضاربة فذكر قصة وفيها: أنه رفع الشرط إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأجازه، أخرجه البيهقي بإسناد ضعيف والطبراني وقال: تفرد به محمد بن عقبة عن يونس بن أرقم عن أبي الجارود. وعن جابر عند البيهقي أنه سئل عن ذلك فقال: لا بأس به. وفي إسناده ابن لهيعة. وعن عمر عند الشافعي في كتاب اختلاف العراقيين أنه أعطى مال يتيم مضاربة وأخرجه أيضا البيهقي وابن أبي شيبة. وعن عبد الله وعبيد الله ابني عمر: أنهما لقيا أبا موسى الاشعري بالبصرة منصرفهما من غزوة نهاوند فتسلفا منه مالا وابتاعا منه متاعا وقدما به المدينة فباعاه وربحا فيه، وأراد عمر أخذ رأس المال والربح كله، فقالا: لو كان تلف كان ضمانه علينا فكيف لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فقال: قد جعلته قراضا وأخذ منهما نصف الربح. أخرجه مالك في الموطأ والشافعي والدارقطني. قال الحافظ: إسناده صحيح. قال الطحاوي: يحتمل أن يكون عمر شاطرهما فيه كما شاطر عماله أموالهم. وقال البيهقي: تأول الترمذي هذه القصة بأنه سألهما لبره الواجب عليهما أن يجعلاه كله للمسلمين فلم يجيباه، فلما طلب النصف أجاباه عن طيب أنفسهما. وعن عثمان عند البيهقي أن عثمان أعطى مالا مضاربة، فهذه الآثار تدل على أن المضاربة كان الصحابة يتعاملون بها من غير نكير، فكان ذلك إجماعا منهم على الجواز، وليس فيها شئ مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أخرجه ابن ماجه من حديث صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع لكن في إسناده نصر بن القاسم عن عبد الرحمن بن داود وهما مجهولان. وقد بوب أبو داود في سننه للمضاربة، وذكر حديث عروة البارقي الذي سيأتي، ولا دلالة فيه على أنه أعطى مال يتيم مضاربة وأخرجه أيضا البيهقي وابن أبي شيبة. وعن عبد الله وعبيد الله ابني عمر: أنهما لقيا أبا موسى الاشعري بالبصرة منصرفهما من غزوة نهاوند فتسلفا منه مالا وابتاعا منه متاعا وقدما به المدينة فباعاه وربحا فيه، وأراد عمر أخذ رأس المال والربح كله، فقالا: لو كان تلف كان ضمانه علينا فكيف لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فقال: قد جعلته قراضا وأخذ منهما نصف الربح. أخرجه مالك في الموطأ والشافعي والدارقطني. قال الحافظ: إسناده صحيح. قال الطحاوي: يحتمل أن يكون عمر شاطرهما فيه كما شاطر عماله أموالهم. وقال البيهقي: تأول الترمذي هذه القصة بأنه سألهما لبره الواجب عليهما أن يجعلاه كله للمسلمين فلم يجيباه، فلما طلب النصف أجاباه عن طيب أنفسهما. وعن عثمان عند البيهقي أن عثمان أعطى مالا مضاربة، فهذه الآثار تدل على أن المضاربة كان الصحابة يتعاملون بها من غير نكير، فكان ذلك إجماعا منهم على الجواز، وليس فيها شئ مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أخرجه ابن ماجه من حديث صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع لكن في إسناده نصر بن القاسم عن عبد الرحمن بن داود وهما مجهولان. وقد بوب أبو داود في سننه للمضاربة، وذكر حديث عروة البارقي الذي سيأتي، ولا دلالة فيه على جوازها لان القصة المذكورة فيه ليست من باب المضاربة كما ستعرف ذلك قريبا. قال ابن حزم في مراتب الاجماع: كل أبواب الفقه فلها أصل من الكتاب والسنة حاشا القراض، فما وجدنا له أصلا فيهما البتة ولكنه إجماع صحيح مجرد، والذي يقطع به أنه كان في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلم به وأقره، ولولا ذلك لما جاز انتهى. وقال في البحر: إنها كانت قبل الاسلام فأقرها انتهى. وأحكام المضاربة مبسوطة في كتب الفقه فلا نشتغل بالتطويل بها، لان موضوع هذا الشرح الكلام على ما يتعلق بالحديث. قوله: أن لا تجعل مالي في كبد رطبة أي لا تشتري به الحيوانات، وإنما نهاه عن ذلك لان ما كان له روح عرضة للهلاك بطرو الموت عليه.