نيل الأوطار
الشوكاني ج 4

[ 1 ]
نيل الاوطار من احاديث سيد الاخبار شرح منتقى الاخبار للشيخ الامام المجتهد العلامة الرباني قاضي قضاة القطر اليماني محمد بن علي ابن محمد الشوكاني المتوفي سنة 1255 ه‍. الجزء الرابع دار الجيل بيروت - لبنان ص - ب - 8747
[ 2 ]
كتاب صلاة الخوف [ رم 393 ] باب الانواع المروية في صفتها عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ذات الرقاع: أن الطائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لانفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو. وجاءت الطائفة الاخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته فأتموا لانفسهم فسلم بهم رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وفي رواية للجماعة عن صالح بن خوات عن سهل ابن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذه الصفة. قوله: عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل: هو سهل بن أبي حثمة كما وقع في الرواية الاخرى. وقد أخرج البيهقي وابن منده في المعرفة الحديث عن صالح بن خوات عن ابيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيمكن أن يكون هو المبهم. قوله: يوم ذات الرقاع هي غزوة نجد لقي بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمعا من غطفان فتواقفوا ولم يكن بينهم قتال، وصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الخوف، وسميت ذات الرقاع لانها نقبت أقدامهم، فلفوا على أرجلهم الخرق. قيل: إن ذلك المحل الذي غزوا إليه حجارة مختلفة الالوان كالرقاع المختلفة. (والحديث) يدل على أن من صفات صلاة الخوف أن يصلي الامام في الثنائية بطائفة ركعة ثم ينتظر حتى يتموا لانفسهم ركعة ويذهبوا فيقوموا وجاه العدو، ثم تأتي الطائفة الاخرى فيصلون معه الركعة الثانية، ثم ينتظر حتى يتموا لانفسهم ركعة ويسلم بهم. وقد حكي في البحر أن هذه الصفة لصلاة الخوف، قال بهما علي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وزيد بن ثابت وأبو موسى
[ 3 ]
وسهل بن أبي حثمة والهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو العباس. قال النووي: وبها أخذ مالك والشافعي وأبو ثور وغيرهم انتهى. وقد أخذ بكل نوع من أنواع صلاة الخوف الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من أهل العلم كما سيأتي. والحق الذي لا محيص عنه أنها جائزة على كل نوع من الانواع الثابتة، وقد قال أحمد بن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثا إلا صحيحا، فلا وجه للاخذ ببعض ما صح دون بعض، إذ لا شك أن الاخذ بأحدها فقط تحكم محض. (وقد اختلف) في عدد الانواع الواردة في صلاة الخوف فقال ابن القصار المالكي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاها في عشرة مواطن. وقال النووي: أنه يبلغ مجموع أنواع صلاة الخوف ستة عشر وجها كلها جائزة. وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. وسرد ابن المنذر في صفتها ثمانية أوجه. وكذا ابن حبان وزاد تاسعا. وقال ابن حزم: صح فيها أربعة عشر وجها وبينها في جزء مفرد. وقال ابن العربي: جاء فيها روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة ولم يبينها، وقد بينها العراقي في شرح الترمذي وزاد وجها آخر فصارت سبعة عشر وجها. وقال في الهدى: أصولها ست صفات وبلغها بعضهم أكثر. وهؤلاء كما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها فصارت سبعة عشر، لكن يمكن أن تتداخل أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو من اختلاف الرواة. قال الحافظ: وهذا هو المعتمد. وقال ابن العربي أيضا: صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعا وعشرين مرة. وقال أحمد: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة، وكذا رجحه الشافعي ولم يختر إسحاق شيئا على شئ، وبه قال الطبري وغير واحد منهم ابن المنذر، وقال النووي ومذهب العلماء كافة: أن صلاة الخوف مشروعة اليوم كما كانت إلا أبا يوسف والمزني فقالا: لا تشرع بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى. وقال بقولهما الحسن بن زياد واللؤلؤي من أصحابه وإبراهيم بن علية كما في الفتح، واستدلوا بمفهوم قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) * (النساء: 102) وأجاب الجمهور عن ذلك بأن شرط كونه صلى الله عليه وآله وسلم فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده. والتقدير: بين لهم بفعلك لكونه أوضح من القول كما قال ابن العربي وغيره. وقال ابن المنير:
[ 4 ]
الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم كالخوف في قوله تعالى: * (أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) * (النساء: 101) وقال الطحاوي: كان أبو يوسف قد قال مرة: لا تصلي صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وزعم أن الناس إنما صلوها معه صلى الله عليه وآله وسلم لفضل الصلاة معه، قال: وهذا القول عندنا ليس بشئ انتهى. وأيضا الاصل تساوي الامة في الاحكام المشروعة، فلا يقبل التخصيص بقوم دون قوم إلا بدليل، واحتج عليهم الجمهور بإجماع الصحابة على فعل هذه الصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم. وقد اختلف في صلاة الخوف في الحضر فمنع من ذلك ابن الماجشون والهادوية وأجازه الباقون. (احتج الاولون) بقوله تعالى: * (إذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * (النساء: 101) ورد بما تقدم في أبواب صلاة المسافر، واحتجوا أيضا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا في سفر ورد بأن اعتبار السفر وصف طردي لى س‍ بشرط ولا سبب، وإلا لزم أن لا يصلي إلا عند الخوف من العدو الكافر. وأما الاحتجاج بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يصلها يوم الخندق، وفات عليه العصران وقضاهما بعد المغرب، ولو كانت جائزة في الحضر لفعلها، فيجاب عنه بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف كما رواه النسائي وابن حبان والشافعي. وقد تقدم الكلام على هذا في باب الترتيب في قضاء الفوائت. نوع آخر وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الاخر مواجهة للعدو ثم انصرفوا، وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعة ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة متفق عليه. الحديث فيه أن من صفة صلاة الخوف أن يصلي الامام بطائفة من الجيش
[ 5 ]
ركعة والطائفة الاخرى قائمة تجاه العدو، ثم تنصرف الطائفة التي صلت معه الركعة وتقوم تجاه العدو، وتأتي الطائفة الاخرى فتصلي معه ركعة، ثم تقضي كل طائفة لنفسها ركعة. قال في الفتح: وظاهر قوله: ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة أنهم أتموا في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب، قال: وهو الراجح من حيث المعنى وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الامام وحده، ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه: ثم سلم وقام هؤلاء أي الطائفة الثانية فصلوا لانفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لانفسهم ركعة ثم سلموا قال: وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الاولى بعدها. قال النووي: وبهذا الحديث أخذ الاوزاعي وأشهب المالكي وهو جائز عند الشافعي. وقال في الفتح: وبهذه الكيفية أخذ الحنفية، وحكى هذه الكيفية في البحر عن محمد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. واستدل بقوله طائفة على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد، لكن لا بد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة بها في ذلك. قال في الفتح: والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف جاز لاحدهم أن يصلي بواحد ويحرس واحد ثم يصلي الآخر، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة انتهى. وقد رجح ابن عبد البر هذه الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الاسناد ولموافقة الاصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه. نوع آخر عن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف، فصفنا صفين خلفه، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف الآخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وآله
[ 6 ]
وسلم وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الاولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجود بالصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلمنا جميعا رواه أحمد ومسلم وابن ماجة. والنسائي. وروى أحمد وأبو داود والنسائي هذه الصفة من حديث أبي عياش الزرقي وقال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين: مرة بعسفان ومرة بأرض بني سليم. الحديث الثاني رجال إسناده عند أبي داود والنسائي رجال الصحيح. وفي الحديثين أن صلاة الطائفتين من الامام جميعا واشتراكهم في الحراسة ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود، فتسجد معه طائفة وتنتظر الاخرى حتى تفرغ الطائفة الاولى ثم تسجد، وإذا فرغوا من الركعة الاولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة وتأخرت المتقدمة. قال النووي: وبهذا الحديث قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف: إذا كان العدو في جهة القبلة قال: ويجوز عند الشافعي تقدم الصف الثاني وتأخر الاول كما في رواية جابر، ويجوز بقاؤهما على حالهما كما هو ظاهر حديث ابن عباس انتهى. قوله: مرة بعسفان أشار البخاري إلى أن صلاة جابر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت بذات الرقاع كما سيأتي، ويجمع بتعداد الواقعة وحضور جابر في الجميع. نوع آخر عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذات الرقاع وأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الاخرى ركعتين، فكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع وللقوم ركعتان متفق عليه. وللشافعي والنسائي عن الحسن عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم. عن الحسن عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة
[ 7 ]
الخوف، فصلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم تأخروا، وجاء الآخرون فكانوا في مقامهم، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فصار للنبي صلى الله عليه وآله أربع ركعات، وللقوم ركعتان ركعتان رواه أحمد والنسائي وأبو داود وقال: وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وكذلك قال سليمان البشكري، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. رواية الحسن عن جابر أخرجها أيضا ابن خزيمة، وروايته عن أبي بكرة أخرجها أيضا ابن حبان والحاكم والدارقطني، وأعلها ابن القطان بأن أبا بكرة بعد وقوع صلاة الخوف بمدة. قال الحافظ: وهذه ليست بعلة، فإنه يكون مرسل صحابي. وحديث جابر وأبي بكرة يدلان على أن من صفات صلاة الخوف أن يصلي الامام بكل طائفة ركعتين، فيكون مفترضا في ركعتين ومتنفلا في ركعتين قال النووي: وبهذا قال الشافعي، وحكوه عن الحسن البصري، وادعى الطحاوي أنه منسوخ ولا تقبل دعواه، إذ لا دليل لنسخه انتهى. وهكذا ادعى نسخ هذه الكيفية الامام المهدي في البحر فقال: قلنا منسوخ أو في الحضر انتهى. والحامل له وللطحاوي على ذلك أنهما لا يقولان بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل، وقد قدمنا الاستدلال على صحة ذلك بما فيه كفاية. قال أبو داود في السنن: وكذلك المغرب يكون للامام ست ركعات وللقوم ثلاث انتهى. وهو قياس صحيح. نوع آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف عام غزوة نجد فقام إلى صلاة العصر، فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابل العدو ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه، ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو، ثم قام وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى
[ 8 ]
الله عليه وآله وسلم كما هو، ثم قاموا، فركع ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد ومن معه، ثم كان السلام فسلم وسلموا جميعا، فكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتان، ولكل طائفة ركعتان رواه أحمد وأبو داود والنسائي. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات عند أبي داود والنسائي، وساقه أبو داود أيضا من طريق أخرى عن أبي هريرة، وفي إسنادها محمد بن إسحاق وفيه مقال مشهور إذا لم يصرح بالتحديث وقد عنعن ههنا (والحديث) فيه أن من صفة صلاة الخوف أن تدخل الطائفتان مع الامام في الصلاة جميعا، ثم تقوم إحدى الطائفتين بإزاء العدو وتصلي معه إحدى الطائفتين ركعة ثم يذهبون فيقومون في وجاه العدو، ثم تأتي الطائفة الاخرى فتصلي لنفسها ركعة والامام قائم، ثم يصلي بهم الركعة التي بقيت معه، ثم تأتي الطائفة القائمة في وجاه العدو فيصلون لانفسهم ركعة والامام قاعد ثم يسلم الامام ويسلمون جميعا. وقد روى أبو داود في سننه عن عائشة في هذه القصة أنها قالت: كبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبرت الطائفة الذين صفوا معه، ثم ركع فركعوا، ثم سجد فسجدوا، ثم رفع فرفعوا، ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا ثم سجدوا هم لانفسهم الثانية، ثم قاموا فنكصوا على أعقابهم يمشون القهقرى حتى قاموا من ورائهم، وجاءت الطائفة الاخرى فقاموا فكبروا ثم ركعوا لانفسهم، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسجدوا معه، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسجدوا لانفسهم الثانية، ثم قامت الطائفتان جميعا فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فركع فركعوا ثم سجد فسجدوا جميعا، ثم عاد فسجد الثانية وسجدوا معه سريعا كأسرع الاسراع، ثم سلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلموا فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد شاركه الناس في الصلاة كلها. وفي إسناده أيضا محمد بن إسحاق أيضا ولكنه صرح بالتحديث، وهذه الصفة ينبغي أن تكون صفة ثانية من صفات صلاة الخوف غير الصفة التي في حديث أبي هريرة لمخالفتها لها في هيئات كثيرة.
[ 9 ]
نوع آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين: صفا خلفه، وصفا موازي العدو فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة رواه النسائي. وعن ثعلبة بن زهدم رضي الله عنه قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا رواه أبو داود والنسائي. وروى النسائي بإسناده عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة حذيفة، كذا قال. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض الله الصلاة على نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. حديث ابن عباس الاول ساقه النسائي بإسناد رجاله ثقات، وقد احتج به الحافظ في الفتح وليتكلم عليه. وقال الشافعي لا يثبت، واعترض عليه الحافظ بأنه قد صححه ابن حباوغيره. وحديث ثعلبة بن زهدم سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده رجال الصحيح. وحديث زيد بن ثابت أخرجه أيضا أبو داود وابن حبان ويشهد للجميع حديث ابن عباس المذكور. (وفي الباب) عن جابر عند النسائي. وعن ابن عمر عند البزار بإسناد ضعيف قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الخوف ركعة على أي وجه كان. وأحاديث الباب تدل على أن من صفة صلاة الخوف الاقتصار على ركعة لكل طائفة، قال في الفتح: وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف يقول الثوري وإسحاق ومن تبعهما، وقال به أبو هريرة وأبو موسى الاشعري وغير واحد من التابعين، ومنهم من قيد بشدة الخوف، وقال الجمهور: قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد، وتأولو هذه الاحاديث بأن المراد بها ركعة مع الامام وليس فيها نفي الثانية، ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس: ولم يقضوا ركعة وكذا قوله في حديث حذيفة: ولم يقضوا.
[ 10 ]
وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني: وفي الخوف ركعة وأما تأويلهم قوله لم يقصوا بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الامن فبعيد جدا. (فائدة) وقع الاجماع على أن صلاة المغرب لا يدخلها قصر، ووقع الخلاف هل الاولى أن يصلي الامام بالطائفة الاولى ثنتين والثانية واحدة أو العكس، فذهب إلى الاول أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه والقاسمية، وإلى الثاني الناصر والشافعي في أحد قوليه، قال في الفتح لم يقع في شئ من الاحاديث المروية في صلاة الخوف تعرض لكيفية صلاة المغرب انتهى. وقد أخرج البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا عليه السلام صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير انتهى. وروي أنه صلى بالطائفة الاولى ركعة وبالثانية ركعتين، قال الشافعي: وحفظ عن علي عليه السلام أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير، كما روى صالح بن خوات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدمت رواية صالح، وروى في البحر عن علي عليه السلام أنه صلى بالطائفة الاولى ركعتين قال: وهو توقيف. واحتج لاهل القول الثاني بفعل علي وأجاب عنه بأن الرواية الاولى أرجح، وحكي عن الشافعي التخيير، قال: وفي الافضل وجهان: أصحهما ركعتان بالاولى، واستدل له بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل في صلاة المغرب ولا قول كما عرفت. باب الصلاة في شدة الخوف بالايماء وهل يجوز تأخيرها أم لا عن ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف صلاة الخوف وقال: فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالا وركبانا رواه ابن ماجة. وعن عبد الله بن أنيس رضي الله عنقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عرفة وعرفات فقال: اذهب فاقتله، قال فرأيته وقد حضرت صلاة العصر فقلت: إني لاخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه، فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك، فقال: إني لفي ذلك فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد رواه أحمد وأبو داود.
[ 11 ]
حديث ابن عمر هو في البخاري في تفسير سورة البقرة بلفظ: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال مالك قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في مسلم من قول ابن عمر بنحو ذلك، ورواه ابن خزيمة من حديث مالك بلا شك، ورواه البيهقي عن حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر جزما، قال النووي في شرح المهذب: هو بيان حكم من أحكام صلاة الخوف لا تفسير للآية وحديث عبد الله ابن أنيس سكت عنه أبو داود والمنذري، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (والحديثان) استدلا بهما على جواز الصلاة عند شدة الخوف بالايماء، ولكنه لا يتم الاستدلال على ذلك بحديث عبد الله بن أنيس الاعلى فرض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرره على ذلك، وإلا فهو فعل صحابي لا حجة فيه. قال ابن المنذر: كل من أحفظ عنه العلم يقول: إن المطلوب يصلي على دابته يومئ إيماء، وإن كان طالبا نزل فصلى بالارض، قال الشافعي: إلا أن ينقطع عن أصحابه فيخاف عود المطلوب عليه فيجزئه ذلك، وعرف بهذا أن الطالب فيه التفصيل بخلاف المطلوب، ووجه الفرق أن شدة الخوف في المطلوب ظاهرة لتحقق السبب المقتضى لها. وأما الطالب فلا يخاف استيلاء العدو عليه، وإنما يخاف أن يفوته العدو. قال في الفتح: وما نقله ابن المنذر متعقب بكلام الاوزاعي فإنه قيده بشدة الخوف، ولم يستثن طالبا من مطلوب، وبه قال ابن حبيب من المالكية، وذكر أبو إسحاق الفزاري في كتاب السنن له عن الاوزاعي أنه قال: إذا خاف الطالبون إن نزلوا الارض فوت العدو صلوا حيث وجهوا على كل حال، والظاهر أن مرجع هذا الخلاف إلى الخوف المذكور في الآية، فمن قيده بالخوف على النفس والمال من العدو، وفرق بين الطالب والمطلوب، ومن جعله أعم من ذلك لم يفرق بينهما، وجوز الصلاة المذكورة للراجل والراكب عند حصول أي خوف. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم انصرف عن الاحزاب أن لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فتخوف ناس لفوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنف واحدا
[ 12 ]
من الفريقين رواه مسلم. وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رجع من الاحزاب قال: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد ذلك منا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعنف واحدا منهم رواه البخاري. قوله: لا يصلين أحد العصر في رواية لمسلم عن عبد الله محمد بن أسماء شيخ البخاري في هذا الحديث الظهر. وقد بين في الفتح في كتاب المغازي ما هو الصواب. قوله: فما عنف واحدا فيه دليل على أن كل مجتهد مصيب (والحديث) استدل به البخاري وغيره على جواز الصلاة بالايماء وحال الركوب. قال ابن بطال: لو وجد في بعض طرق الحديث أن الذين صلوا في الطريق صلوا ركبانا لكان بينا في الاستدلال، وان لم يوجد ذلك فالاستدلال يكون بالقياس، يعني أنه كما ساغ لاولئك أن يؤخروا الصلاة عن وقتها المفترض، كذلك يسوغ للطالب ترك، إتمام الاركان والانتقال إلى الايماء. قال ابن المنير: والابين عندي أن وجه الاستدلال من جهة أن الاستعجال المأمور به يقتضي ترك الصلاة أصلا كما جرى لبعضهم، أو الصلاة على الدواب كما وقع لآخرين، لان النزول ينافي مقصود الجد في الوصول، فالاولون بنوا على أن النزول معصية بمعارضته للامر الخاص بالاسراع، وكان تأخيرهم لها لوجود المعارض، والآخرون جمعوا بين دليلي وجوب الاسراع ووجوب الصلاة في وقتها فصلوا ركبانا، فلو فرضنا أنهم نزلوا لكان ذلك مضادة للامر بالاسراع وهو لا يظن بهم لما فيه من المخالفة، وهذا الذي حاوله ابن المنير قد أشار إليه ابن بطال بقوله: لو وجد في بعض طرق الحديث إلى آخره، فلم يستحسن الجزم في النقل بالاحتمال. وأما قوله له، لا يظن بهم المخالفة فمعترض بمثله بأن يقال لا يظن بهم المخالفة بتغيير هيئة الصلاة بغير توقيف وقال الحافظ: والاولى ما قال ابن المرابط، ووافقه الزين بن المنير أن وجه الاستدلال منه بطريق الاولوية، لان الذين أخروا الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة لم يعنفوا مع كونهم فوتوا الوقت، وصلاة من لا يفوت الوقت بالايماء أو كيفما يمكن أولى من تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها. [ رم ]
[ 13 ]
أبواب صلاة الكسوف باب النداء لها وصفتها عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: لما كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نودي أن الصلاة جامعة، فركع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين في سجدة ثم قام فركع ركعتين في سجدة، ثم جلي عن الشمس، قالت عائشة: ما ركعت ركوعا قط ولا سجدت سجودا قط كان أطول منه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث مناديا الصلاة جامعة فقام فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد فقام فكبر وصف الناس وراءه فاقترأ قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من القراءة الاولى، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الاولى، ثم كبر فركع ركوعا هو أدنى من الركوع الاول ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد ثم فعل في الركعة الاخرى مثل ذلك، حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزوجل لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الاول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الاول، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الاول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الاول، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الاول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الاول،
[ 14 ]
ثم سجد، ثم انصرف، وقد تجلت الشمس فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله متفق على هذه الاحاديث. قوله: لما كسفت الشمس الكسوف لغة التغير إلى سواد، ومنه كسف في وجهه، وكسفت الشمس اسودت وذهب شعاعها. قال في الفتح: والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر، واختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه أفصح، وقيل: يتعين ذلك. وحكى عياض عن بعضهم عكسه وغلطه لثبوته بالخاء في القمر في القرآن. وقيل: يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الاحاديث. قال الحافظ: ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف، لان الكسوف التغير إلى سواد والخسوف النقصان أو الذل، قال: ولا يلزم من ذلك أنهما مترادفان. وقيل: بالكاف في الابتداء والخاء في الانتهاء. وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه. وقيل: بالخاء لذهاب كل اللون وبالكاف لتغييره انتهى. وقد روي عن عروة أنه قال: لا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا خسفت، قال في الفتح: وهذا موقوف صحيح رواه سعيد بن منصور عنه. وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عنه، لكن الاحاديث الصحيحة المذكورة في الباب وغيرها ترد ذلك. قوله: ركعتين في سجدة المراد بالسجدة هنا الركعة بتمامها، وبالركعتين الركوعان، وهو موافق لروايتي عائشة وابن عباس. قوله: قالت عائشة الراوي لذلك عنها هو أبو سلمة، ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمرو، فيكون من رواية صحابي عن صحابية. قال في الفتح: ووهم من زعم أنه معلق، فقد أخرجه مسلم وابن خزيمة وغيرهما من رواية أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو، وفيه قول عائشة هذا. قوله: ما ركعت الخ، ذكر الركوع لمسلم والبخاري اقتصر على ذكر السجود، وقد ثبت طول الركوع والسجود في الكسوف في أحاديث كثيرة. منها: المذكورة في الباب. ومنها: عن عبد الله بن عمرو من وجه آخر عند النسائي. وعن أبي هريرة عنده. وعن أبي موسى عند الشيخين. وعن سمرة عند أبي داود والنسائي. وعن جابر وعن أسماء وسيأتيان، وإلى مشروعية التطويل في الركوع والسجود في صلاة الكسوف كما يطول القيام ذهب أحمد وإسحاق والشافعي في أحد قوليه، وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه واختاره ابن سريج.
[ 15 ]
قوله: خسفت الشمس بالخاء المعجمة، وقد تقدم بيان معنى الخسوف. قوله: وصف الناس برفع الناس أي اصطفوا، يقال: صف القوم إذا صاروا صفا، ويجوز النصب والفاعل ضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: وانجلت الشمس قبل أن ينصرف فيه أن الانجلاء وقع قبل انصراف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة. قوله: ثم قام فخطب الناس فيه استحباب الخطبة بعد صلاة الكسوف وقال صاحب الهداية من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة لانه لم ينقل، وتعقب بأن الاحاديث وردت بذلك وهي ذات كثرة كما قال الحافظ، والمشهور عند المالكية أنه لا خطبة في الكسوف، مع أن مالكا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة، وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد لها الخطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس، وتعقب بما في الاحاديث الصحيحة من التصريح لها، وحكاية شرائطها من الحمد والثناء، وغير ذلك مما تضمنته الاحاديث، فلم يقتصر على الاعلام بسبب الكسوف، والاصل مشروعية الاتباع والخصائص لا تثبت إلا بدليل. وقد ذهب إلى عدم استحباب الخطبة في الكسوف مع مالك أبو حنيفة والعترة. قوله: لا ينخسفان في رواية: يخسفان بدون نون كما سيأتي في حديث ابن عباس. قوله: لموت أحد إنما قال صلى الله عليه وآله وسلم كذلك لان ابنه إبراهيم مات فقال الناس: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم. ولاحمد والنسائي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث النعمان بن بشير قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه حتى أتى المسجد، فلم يزل يصلي حتى انجلت فلما انجلت قال: إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك الحديث. وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب. قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير الارض من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله تعالى، ليس لهما سلطان في غيرهما، ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. قوله: ولا لحياته استشكلت هذه الزيادة لان السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم ولم يذكروا الحياة. قال في الفتح: والجواب أن فائدة
[ 16 ]
ذكر الحياة دفع توهم من يقول: لا يلزم من نفي كونه سببا للفقد أن لا يكون سببا للايجاد، فعمم الشارع النفي لدفع هذا التوهم. قوله: فإذا رأيتموهما أكثر الروايات بصيغة ضمير المؤنث، والمراد رأيتم كسوف كل واحد في وقته لاستحالة اجتماعهما في وقت واحد. قوله: فافزعوا بفتح الزاي أي التجؤوا أو توجهوا، وفيه إشارة إلى المبادرة، وأنه لا وقت لصلاة الكسوف معين، لان الصلاة علقت برؤية الشمس أو القمر وهي ممكنة في كل وقت، وبهذا قال الشافعي ومن تبعه، واستثنت الحنفية أوقات الكراهة وهو مشهور مذهب أحمد. وعن المالكية وقتها من وقت محل النافلة إلى الزوال. وفي رواية إلى صلاة العصر، ورجح الاول بأن المقصود إيقاع هذه العبادة قيل الانجلاء، وقد انفقوا على أنها لا تقضى بعده، فلو انحصرت في وقت لامكن الانجلاء قبله فيفوت المقصود. قال في الفتح: ولم أقف على شئ من الطرق مع كثرتها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاها الاضحى، لكن ذلك وقع اتفاقا فلا يدل على منع ما عداه، واتفقت الطرق على أنه بادر إليها انتهى. قوله: نحوا من سورة البقرة فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسر بالقراءة. قوله: وهو دون القيام الاول فيه أن القيام الاول من الركعة الاولى أطول من القيام الثاني منها، وكذا الركوع الاول والثاني منها لقوله: وهو دون الركوع الاول. قال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الاول وركوعه فيهما. قوله: ثم سجد أي سجدتين. قوله: ثم قاقياما طويلا وهو دون القيام الاول فيه دليل لمن قال: إن القيام الاول من الركعة الثانية يكون دون القيام الثاني من الركعة الاولى، وقد قال ابن بطال: إنه لا خلاف أن الركعة الاولى بقيامها وركوعها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعها. قوله: ثم رفع فقام قياما طويلا الخ فيه أنه يشرع تطويل القيامين والركوعين في الركعة الآخرة، وقد ورد تقدير القيام في الثانية بسورة آل عمران كما في سنن أبي داود، وفيه أيضا أن القيام الثاني دون الاول كما في الركعة الاولى وكذلك الركوع، وقد تقدمت حكاية النووي للاتفاق على ذلك. والاحاديث المذكورة في الباب تدل على أن المشروع في صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان. وقد اختلف العلماء في صفتها بعد الاتفاق على أنها سنة غير واجبة، كما حكاه النووي في شرح مسلم، والمهدي في البحر وغيرهما، فذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور إلى أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان، وهي
[ 17 ]
الصفة التي وردت بها الاحاديث الصحيحة المذكورة في الباب وغيرها وحكي في البحر عن العترة جميعا أنها ركعتان في كل ركعة خمسة ركوعات، واستدلوا له بحديث أبي بن كعب وسيأتي وقال أبو حنيفة والثوري والنخعي: أنها ركعتان كسائر النوافل في كل ركعة ركوع واحد، وحكاه النووي عن الكوفيين، واستدلوا بحديث النعمان وسمرة الآتيين. وقال حذيفة: في كل ركعة ثلاثة ركوعات، واستدل بحديث جابر وابن عباس وعائشة وستأتي. قال النووي: وقد قال بكل نوع جماعة من الصحابة، وحكى النووي عن ابن عبد البر أنه قال: أصح ما في الباب ركوعان، وما خالف ذلك فمعلل أو ضعيف، وكذا قال البيهقي، ونقل صاحب الهدى عن الشافعي وأحمد والبخاري أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطا من بعض الرواة، لان أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها إن ذلك كان يوم موت إبراهيم، وإذا اتحدت القصة تعين الاخذ بالراجح، ولا شك أن أحاديث الركوعين أصح، قال في الفتح: وجمع بعضهم بين هذه الاحاديث بتعدد الواقعة، وأن الكسوف وقع مرارا، فيكون كل من هذه الاوجه جائزا، وإلى ذلك ذهب إسحاق لكن لم يثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات. وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك وهو من الاختلاف المباح، وقواه النووي في شرح مسلم، وبمثل ذلك قال الامام يحيى. والحق إن صح تعدد الواقعة أن الاحاديث المشتملة على الزيادة الخارجة من مخرج صحيح يتعين الاخذ بها لعدم منافاتها للمريد، وإن كانت الواقعة ليست إلا مرة واحدة فالمصير إلى الترجيح أمر لا بد منه وأحاديث الركوعين أرجح. وعن أسماء رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الكسوف فأقام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع، ثم سجد فأطال السجود، ثم قام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع فسجد فأطال السجود، ثم رفع ثم سجد فأطال السجود ثم انصرف رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجة. وعن جابر رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد
[ 18 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بأصحابه فأطال القيام حتى جعلوا يخرون، ثم ركع فأطا، ثم رفع فأطال، ثم ركع فأطال، ثم سجد سجدتين ثم قام، فصنع نحوا من ذلك، فكانت أربع ركعات وأربع سجدات رواه أحمد ومسلم وأبو سعيد. ومن الاحاديث المصرحة بالركوعين حديث علي عند أحمد، وحديث أبي هريرة عند النسائي، وحديث ابن عمر عند البزار، وحديث أم سفيان عند الطبراني. قوله: ثم رفع ثم سجد لم يذكر فيه تطويل الرفع الذي يتعقبه السجود ولا في غيره من الاحاديث المتقدمة. ووقع عند مسلم من حديث جابر بلفظ: ثم رفع فأطال ثم سجد. قال النووي: هي رواية شاذة، وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر وفيه: ثم ركع فأطال حتى قيل لا يرفع، ثم رفع فأطال حتى قيل لا يسجد، ثم سجد فأطال حتى قيل لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل لا يسجد، ثم سجد وصحح الحديث الحافظ قال: لم أقف في شئ من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا. وقد نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته، فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام، وإلا فهو محجوج بهذه الرواية، والكلام على ألفاظ الحديثين قد سبق وهما من حجج القائلين بأن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان. باب من أجاز في كل ركعة ثلاث ركوعات وأربعة وخمسة عن جابر رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ست ركعات بأربع سجدا ت رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى في كسوف فقرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم سجد والاخرى مثلها رواه الترمذي وصححه. وعن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى ست ركعات وأربع سجدات رواه أحمد والنسائي. حديث جابر أخرجه أيضا البيهقي وقال عن الشافعي: إنه غلط، وهذه الدعوى يردها ثبوته في الصحيح فإنه رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن نمير،
[ 19 ]
عن عبد الملك، عن عطاء، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث ابن عباس رواه الترمذي عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد علل الحديث بأن حبيبا لم يسمع من طاوس، قال البيهقي، حبيب وإن كان ثقة فإنه كان يدلس ولم يبين سماعه من طاوس. وحديث عائشة هو أيضا في صحيح مسلم بهذا اللف الذي ذكره المصنف. ولعائشة أيضا حديث آخر في صحيح مسلم ولفظه: إن الشمس انكسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام قياما شديدا يقوم قائما، ثم يركع، ثم يقوم، ثم يركع، ثم يقوم، ثم يركع ركعتين في ثلاث ركعات وأربع سجدات وانصرف وقد تجلت الشمس، وكان إذا ركع قال الله أكبر ثم يركع وإذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر الحديث. وهذه الاحاديث الصحيحة ترد ما تقدم عن ابن عبد البر والبيهقي من أن ما خالف أحاديث الركوعين معلل أو ضعيف، وما تقدم عن الشافعي وأحمد والبخاري من عدهم لما خالف أحاديث الركوعين غلطا، وقد استدل بأحاديث الباب على أن المشروع في صلاة الكسوف في كل ركعة ثلاثة ركوعات، وقد تقدم الخلاف في ذلك. قوله: ست ركعات وأربع سجدات أي صلى ركعتين في كل ركعة ثلاثة ركوعات وسجدتان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في كسوف قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، والاخر مثلها. وفي لفظ: صلى ثماني ركعات في أربع سجدات روى ذلك أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. الحديث مع كونه في صحيح مسلم ومع تصحيح الترمذي له قد قال ابن حبان في صحيحه: إنه ليس بصحيح، قال لانه من رواية حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، ولم يسمعه حبيب من طاوس، وحبيب معروف بالتدليس كما تقدم، ولم يصرح بالسماع من طاوس، وقد خالفه سليمان الاحول فوقفه، وروي عن حذيفة نحوه قاله البيهقي. قوله: ثماني ركعات الخ أي ركع ثماني مرات، كل أربع في ركعة، وسجد في كل ركعة
[ 20 ]
سجدتين (والحديث يدل) على أن من جملة صفات صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة أربعة ركوعات. وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بهم، فقرأ بسورة من الطول وركع خمس ركعات وسجدتين، ثم قام إلى الثانية فقرأ بسورة من الطول وركع خمس ركعات وسجدتين ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها. رواه أبو داود وعبد الله بن أحمد في المسند. وقد روي بأسانيد حسان من حديث سمرة والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمرو: أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلاها ركعتين كل ركعة بركوع. وفي حديث قبيصة الهلالي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة والاحاديث بذلك كله لاحمد والنسائي. والاحاديث المتقدمة بتكرار الركوع أصح وأشهر. أما حديث أبي بن كعب فأخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وقال: هذا سند لم يحتج الشيخان بمثله، وهذا توهين منه للحديث بأن سنده مما لا يصلح للاحتجاج به عند الشيخين، لا أنه تقوية للحديث وتعظيم لشأنه كما فهمه بعض المتأخرين، وروي عن ابن السكن تصحيح هذا الحديث، وقال الحاكم: رواته صادقون. وفي إسناده أبو جعفر عيسى بن عبد الله بن ماهان الرازي. قال الفلاس: سيئ الحفظ. وقال ابن المديني: يخلط عن المغيرة. وقال ابن معين: ثقة (وفي الباب) عن علي عليه السلام عند البزار وهو معلول كما قال في الفتح، وقد احتج بهذا الحديث القائلون بأن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة خمسة ركوعات وقد تقدم ذكرهم. وأما حديث سمرة فأخرجه أيضا مسلم وفيه: قرأ بسورتين وصلى ركعتين. وأما حديث النعمان بن بشير فأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وصححه ابن عبد البر، وهو عند بعض هؤلاء باللفظ الذي ذكره المصنف عن قبيصة، وأعله ابن أبي حاتم بالانقطاع. وأما حديث ابن عمرو فأخرجه أيضا أبو داود والترمذي ورجاله ثقات. وأما حديث قبيصة فأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم باللفظ الذي ذكره المصنف، وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح. (وفي الباب)
[ 21 ]
عن أبي بكرة عند النسائي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى ركعتين مثل صلاتكم هذه وقد احتج بهذه الاحاديث القائلون بأن صلاة الكسو ف ركعتان بركوع واحد كسائر الصلوات، وقد تقدم ذكرهم، وقد رجحت أدلة هذا المذهب باشتمالها على القول كما في حديث قبيصة، والقول أرجح من الفعل، وأشار المصنف إلى ترجيح الاحاديث التي فيها تكرار الركوع، ولا شك أنها أرجح من وجوه كثيرة، منها كثرة طرقها، وكونها في الصحيحين، واشتمالها على الزيادة. باب الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته، فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات أخرجاه وفي لفظ: صلى صلاة الكسوف فجهر بالقراءة فيها رواه الترمذي وصححه. وفي لفظ: قال: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى المصلى فكبر فكبر الناس، ثم قرأ فجهر بالقراءة وأطال القيام. وذكر الحديث، رواه أحمد. وعن سمرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كسوف ركعتين لا نسمع له فيها صوتا رواه الخمسة وصححه الترمذي، وهذا يحتمل أنه لم يسمعه لبعده لان في رواية مبسوطة له: أتينا والمسجد قد امتلا. حديث عائشة أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم، والرواية التي أخرجها أحمد أخرجها أيضا أبو داود الطيالسي في مسنده، وأخرج نحوها ابن حبان. وحديث سمرة صححه أيضا ابن حبان والحاكم، وأعله ابن حزم بجهالة ثعلبة بن عباد راويه عن سمرة، وقد قال ابن المديني: إنه مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات مع أنه لا راوي له إلا الاسود بن قيس، كذا قال الحافظ (وفي الباب) عن ابن عباس عند الشافعي وأبي يعلى والبيهقي قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الكسوف فما سمعت منه حرفا من القرآن وفي إسناده ابن لهيعة. وللطبراني نحوه من وجه آخر، وقد وصله البيهقي من ثلاث طرق أسانيدها
[ 22 ]
واهية. ولابن عباس حديث آخر متفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام قياما طويلا من سورة البقرة وقد تقدم، وهو يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجهر قال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة، ورجح الشافعي رواية سمرة بأنها موافقة لرواية ابن عباس المتقدمة ولروايته الاخرى، والزهري قد انفرد بالجهر، وهو وإن كان حافظا فالعدد أولى بالحفظ من واحد، قاله البيهقي. قال الحافظ: وفيه نظر لانه مثبت وروايته مقدمة، وجمع بين حديث سمرة وعائشة بأن سمرة كان في أخريات الناس، فلهذا لم يسمع صوته، ولكن قول ابن عباس: كنت إلى جنبه يدفع ذلك. وجمع النووي: بأن رواية الجهر في القمر ورواية الاسرار في كسوف الشمس، وهو مردود بالرواية التي ذكرها المصنف في حديث عائشة منسوبة إلى أحمد، وبما أخرجه ابن حبان من حديثها بلفظ: كسفت الشمس والصواب أن يقال: إن كانت صلاة الكسوف لم تقع منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا مرة واحدة كما نص على ذلك جماعة من الحفاظ، فالمصير إلى الترجيح متعين، وحديث عائشة أرجح لكونه في الصحيحين، ولكونه متضمنا للزيادة، ولكونه مثبتا، ولكونه معتضدا بما أخرجه ابن خزيمة وغيره عن علي مرفوعا من إثبات الجهر، وإن صح أن صلاة الكسوف وقعت أكثمن مرة كما ذهب إليه البعض، فالمتعين الجمع بين الاحاديث بتعدد الواقعة فلا معارضة بينها، إلا أن الجهر أولى من الاسرار لانه زيادة، وقد ذهب إلى ذلك أحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية، وبه قال صاحبا أبحنيفة وابن العربي من المالكية. وحكى النووي عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة والليث بن سعد وجمهور الفقهاء أنه يسر في كسوف الشمس، ويجهر في خسوف القمر، وإلى مثل ذلك ذهب الامام يحيى وقال الطبري: يخير بين الجهر والاسرار. وإلى مثل ذلك ذهب الهادي ورواه في البحر عن مالك، وهو خلاف ما حكاه غيره عنه. واعلم أنه لم يرد تعيين ما قرأ به صلى الله عليه وآله وسلم إلا في حديث لعائشة، أخرجه الدارقطني والبيهقي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في الاولى بالعنكبو ت، وفي الثانية بالروم أو لقمان، وقد ثبت الفصل بالقراءة بين كل ركوعين كما تقدم من حديث عائشة المتفق عليه،
[ 23 ]
فيتخير المصلي من القرآن ما شاء، ولا بد من القراءة بالفاتحة في كل ركعة لما تقدم من الادلة الدالة على أنها لا تصح ركعة بدوفاتحة. قال النووي: واتفق العلماء على أنه يقرأ الفاتحة في القيام الاول من كركعة، واختلفوا في القيام الثاني، فمذهبنا ومذهب مالك وجمهور أصحابه أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءتها فيه. وقال محمد بن مسلمة من المالكية لا تتعين الفاتحة في القيام الثاني انتهى. وينبغي الاستكثار من الدعاء لورود الامر به في الاحاديث الصحيحة، كما في حديث ابن عباس المتقدم وغيره. باب الصلاة لخسوف القمر في جماعة مكررة الركوع عن محمود بن لبيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وأنهما لا ينكسفان لموت أحد ولالحياته، فإذا رأيتموها كذلك فافزعوا إلى المساجد رواه أحمد. وعن الحسن البصر رضي الله عنه قال: خسف القمر وابن عباس أمير على البصرة، فخرج فصلى بنا ركعتين في كل ركعة ركعتين ثم ركب وقال: إنما صليت كما رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي رواه الشافعي في مسنده. حديث محمود بن لبيد أصله في الصحيحين بدون قوله: فافزعوا إلى المساجد وقد أخرج هذه الزيادة أيضا الحاكم وابن حبان. وحديث ابن عباس أخرجه الشافعي كما ذكر المصنف عن شيخه إبراهيم بن محمد وهو ضعيف ولا يحتج بمثله. وقول الحسن صلى بنا لا يصح، قال الحسن: لم يكن بالبصرة لما كان ابن عباس بها. وقيل: إن هذا من تدليساته، وأن المراد من قوله: صلى بنا أي صلى بأهل البصرة. (والحديثان) يدلان على مشروعية التجميع في خسوف القمر، أما الاول فلقوله فيه: فإذا رأيتموهما كذلك الخ، ولكنه لم يصرح بصلاة الجماعة. وأما الحديث الثاني فلقول ابن عباس بعد أن صلى بهم جماعة في خسوف القمر: إنما صليت كما رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ولكنه يحتمل أن يكون المشبه بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صفتها من الاقتصار في كل ركعة على ركوعين ونحو ذلك، لا أنها مفعولة في خصوص ذلك الوقت
[ 24 ]
الذي فعلها فيه لما تقدم من اتحاد القصة، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة عند موت ولده إبراهيم، نعم أخرج الدارقطني من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأخرج أيضا عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في كسوف القمر ثماني ركعات في أربع سجدات. وذكر القمر في الاول مستغرب كما قال الحافظ، والثاني في إسناده نظر لانه من طريق حبيب عن طاوس ولم يسمع منه. وقد أخرجه مسلم بدون ذكر القمر، وإنما اقتصر المصنف في التبويب على ذكر القمر لان التجميع في كسوف الشمس معلوم من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في الاحاديث الصحيحة المتقدمة وغيرها. وقد ذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أن صلاة الكسوف والخسوف تسن الجماعة فيها. وقال أبو يوسف ومحمد: بل الجماعة شرط فيهما. وقال الامام يحيى: إنها شرط في الكسوف فقط وقال العراقيون: إن صلاة الكسوف والخسوف فرادى، وحكي في البحر عن أبي حنيفة ومالك أن الانفراد شرط. وحكى النووي في شرح مسلم عن مالك أنه يقول بأن الجماعة تسن في الكسوف والخسوف كما تقدم. وحكي في البحر عن العترة أنه يصح الامر أن (احتج الاولون) بالاحاديث الصحيحة المتقدمة، وليس لمن ذهب إلى أن الانفراد شرط، أو أنه أولى من التجميع دليل، وأما من جوز الامرين فقال: لم يرد ما يقتضي اشتراط التجميع لان فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدل على الوجوب فضلا عن الشرطية وهو صحيح، ولكنه لا ينفي أولوية التجميع. باب الحث على الصدقة والاستغفار والذكر في الكسوف وخروج وقت الصلاة بالتجلي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس. وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا
[ 25 ]
وصلوا. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: خسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى وقال: إذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره. وعن المغيرة قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم مات إبراهيم فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فادعوا الله تعالى وصلوا حتى ينجلي متفق. قوله: العتاقة بفتح العين المهملة. وفي لفظ للبخاري في كتاب العتق من طريق غنام بن علي بن هشام: كنا نؤمر عند الكسوف بالعتاقة وفيه مشروعية الاعتاق عند الكسوف. قوله: فادعوا الله الخ فيه الحث على الدعاء والتكبير والتصدق والصلاة. قوله: فافزعوا إلى ذكر الله الخ فيه أيضا الندب إلى الدعاء والذكر والاستغفار عند الكسوف، لانه مما يدفع الله تعالى به البلاء، ومنهم من حمل الذكر والدعاء على الصلاة لكونهما من أجزائها وفيه نظر، لانه قد جمع بين الذكر والدعاء وبين الصلاة في حديث عائشة المذكور في الباب. وفي حديث أبي بكرة عند البخاري وغيره ولفظه: فصلوا وادعوا. قوله: يوم مات إبراهيم يعني ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال الحافظ: وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة، قيل: في ربيع الاول، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، والاكثر أنه في عاشر الشهر، وقيل: في رابعه، في رابع عشره، ولا يصح شئ من هذا على قول ذي الحجة لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذ ذاك بمكة في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت صح، وجزم النووي بأنها كانت سنة الحديبية، وقد استدل بوقوع الكسوف عند موت إبراهيم على بطلان قول أهل الهيئة لانهم كانوا يزعمون أنه لا يقع في الاوقات المذكورة، وقد فرض الشافعي وقوع العيد والكسوف معا، واعترضه بعض من اعتمد على قول أهل الهيئة، ورد عليه أصحاب الشافعي. قوله: حتى ينجلي فيه أن الصلاة والدعاء يشرعان إلى أن ينجلي الكسوف فلا يستحب ابتداء الصلاة بعده، وأما إذا حصل الانجلاء وقد فعل
[ 26 ]
بعض الصلاة فقيل يتمها. وقيل: يقتصر على ما قد فعل. وقيل: يتمها على هيئة النوافل، وإذا وقع الانجلاء بعد الفراغ من صلاة الكسوف وقيل الخطبة فظاهر حديث عائشة المتقدم بلفظ: وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ثم قام فخطب الناس أنها تشرع الخطبة بعد الانجلاء، وفي الحديث أنها تستحب ملازمة الصلاة والذكر إلى الانجلاء وقال الطحاوي: إن قوله: فصلوا وادعوا يدل على أن من سلم من الصلاة قبل الانجلاء يتشاغل بالدعاء حتى تنجلي، وقرره ابن دقيق العيد قال: لانه جعل الغاية لمجموع الامرين، ولا يلزم من ذلك أن يكون غاية لكل واحد منهما على انفراده، فجاز أن يكون الدعاء ممتدا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة فيصير غاية للمجموع، ولا يلزم منه تطويل الصلاة ولا تكريرها. وأما ما وقع عند النسائي من حديث النعمان بن بشير قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يصلي ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت فقال في الفتح: إن كان محفوظا احتمل أن يكون معنى قوله ركعتين أي ركوعين، وقد وقع التعبير بالركوع عن الركعة في حديث الحسن المتقدم في الباب الذي قبل هذا، ويحتمل أن يكون السؤال بالاشارة فلا يلزم التكرار. وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي قلابة: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كلما ركع ركعة أرسل رجلا ينظر هل انجلت فتعين الاحتمال المذكور، وإن ثبت تعدد القصة زال الاشكال. [ رك ] [ كتاب الاستسقاء ] عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث له: [ / سنن ] أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لم ينقص قوم المكيا والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا رواه ابن ماجة. الحديث هذا ذكره ابن ماجة في كتاب الزهد مطولا، وفي إسناده خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك وهو ضعيف، وقد ذكره الحافظ في التلخيص. لم يتكلم عليه. (وفي الباب) عن بريدة عند الحاكم والبيهقي: ما نقض قوم العهد إلا كان
[ 27 ]
فيهم القتل، ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله تعالى عنهم القطر واختلف فيه على عبد الله بن بريدة فقيل عنه هكذا. وقيل عن ابن عباس. قوله: كتاب الاستسقاء قال في الفتح: الاستسقاء لغة طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير، وشرعا طلبه من الله تعالى عند حصول الجدب على وجه مخصوص انتهى. قال الرافعي: هو أنواع أدناها الدعاء المجرد، وأوسطها الدعاء خلف الصلوات، وأفضلها الاستسقاء بركعتين وخطبتين، والاخبار وردت بجميع ذلك انتهى. وسيأتي ذكرها في هذا الكتاب. قوله: لم ينقص قوم المكيال والميزان الخ، فيه أن نقص المكيال والميزان سبب للجدب وشدة المؤنة وجور السلاطين. قوله: ولم يمنعوا زكاة أموالهم الخ، فيه أن منع الزكاة من الاسباب الموجبة لمنع قطر السماء. قوله: ولولا البهائم الخ، فيه أن نزول الغيث عند وقوع المعاصي إنما هو رحمة من الله تعالى للبهائم. وقد أخرج أبو يعلى والبزار من حديث أبي هريرة بلفظ: مهلا عن الله مهلا فإنه لولا شباب خشع، وبهائم رتع وأطفال رضع: لصب عليكم العذاب صبا. وفي إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك بن مالك وهو ضعيف وأخرجه أبو نعيم من طريق مالك بن عبيدة بن مسافع عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لولا عباد لله ركع، وصبية رضع، وبهائم رتع، لصب عليكم العذاب صباوأخرجه أيضا البيهقي وابن عدي ومالك بن عبيدة، قال أبو حاتم وابن معين مجهول وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن عدي: ليس له غير هذا الحديث وله شاهد مرسل، أخرجه أبو نعيم أيضا في معرفة الصحابة عن أبي الزاهرية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من يوم إلا وينادي مناد: مهلا أيها الناس مهلا، فإن لله سطوات، ولولا رجال خشع، وصبيان رضع، ودواب رتع، لصب عليكم العذاب صبا ثم رضضتم به رضا وأخرج الدارقطني والحاكم من حديث أبي هريرة رفعه قال: خرنبي من الانبياء يستسقي فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال: ارجعوا فقد استجيب من أجل شأن النملة وأخرج نحوه أحمد والطحاوي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بدا حاجب الشمس،
[ 28 ]
فقعد على المنبر فكبر وحمد الله عزوجل ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عزوجل أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، لا إله إلا الله، يفعل الله ما يريد اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره وقلب، أو حول رداءه وهو رافيديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله تعالى سحابة فرعد ت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله تعالى، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأسرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه فقال: أشهد أن الله على كل شئ قدير، وأني عبد الله ورسوله رواه أبو داود. الحديث أخرجه أيضا أبو عوانة وابن حبان والحاكم وصححه ابن السكن، وقال أبو داود: هذا حديث غريب إسناده جيد. قوله: قحوط المطر هو مصدر قحط. قوله: فأمر بمنبر الخ فيه استحباب الصعود على المنبر لخطبة الاستسقاء. قوله: ووعد الناس الخ، فيه أنه يستحب للامام أن يجمع الناس ويخرج بهم إلى خارج البلد. قوله: حين بدا حاجب الشمس في القاموس: حاجب الشمس ضوءها أو ناحيتها انتهى. وإنما سمي الضوء حاجبا لانه يحجب جرمها عن الادراك. وفيه استحباب الخروج لصلاة الاستسقاء عند طلوع الشمس. وقد أخرج الحاكم وأصحاب السنن عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صنع في الاستسقاء كما صنع في العيد وسيأتي، وظاهره أنه صلاها وقت صلاة العيد كما قال الحافظ. وقد حكى ابن المنذر الاختلاف في وقتها، قال في الفتح: والراجح أنه لا وقت لها معين وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها مخالفة بأنها لا تختص بيوم معين. ونقل ابن قدامة الاجماع على أنها لا تصلي في وقت الكراهة، وأفاد ابن حبان بأن خروجه صلى الله عليه وآله وسلم للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة. قوله: عن إبان زمانه بكسر الهمز وبعدها باء موحدة مشددة قال في القاموس: إبان الشئ بالكسر حينه أو أوله انتهى. قوله: وقد أمركم الله الخ، يريد قول الله تعالى: * (ادعوني أستجب لكم) * (غافر: 60).
[ 29 ]
قوله: قوة لنا وبلاغا إلى حين أي اجعله سببا لقوتنا ومده لنا مدا طويلا. قوله: ثم رفع يديه الخ فيه استحباب المبالغة في رفع اليدين عند الاستسقاء، وسيأتي حديث أنس أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يرفع يديه في شئ من دعائه إلا في الاستسقاء. قوله: ثم حول إلى الناس ظهره فيه استحباب استقبال الخطيب عند تحويل الرداء القبلة، والحكمة في ذلك التفاؤل بتحوله عن الحالة التي كان عليها، وهي المواجهة للناس إلى الحالة الاخرى، وهي استقبال القبلة واستدبارهم ليتحول عنهم الحال الذي هم فيه وهو الجدب، بحال آخر وهو الخصب. قوله: وقلب أو حول رداءه سيأتي الكلام على تحويل الرداء في الباب الذي عقده المصنف لذلك. قوله: ونزل فصلى ركعتين فيه استحباب الصلاة في الاستسقاء، وسيأتي الكلام على ذلك. قوله: إلى الكن بكسر الكاف وتشديد النون. قال في القاموس: الكن وقاء كل شئ وستره كالكنة والكنان بكسرهما، والبيت الجمع أكنان. وأكنة انتهى. قوله: حتى بدت نواجذه النواجذ على ما ذكره صاحب القاموس أقصى الاضراس وهي أربعة، أو هي الانياب أو التي تلي الانياب، أو هي الاضراس كلها، جمع ناجذ، والنجذ شدة العض بها انتهى. باب صفة صلاة الاستسقاء وجوازها قبل الخطبة وبعدها عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله عزوجل وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه، ثم قلب رداءه فجعل الايمن على الايسر والايسر على الايمن رواه أحمد وابن ماجه. وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة وبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم استقبل القبلة فدعا رواه أحمد. وعنه أيضا قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خرج يستسقي قال: فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي. ورواه مسلم ولم يذكر الجهر بالقراءة.
[ 30 ]
الحديث الاول أخرجه أيضا أبو عوانة والبيهقي وقال: تفرد به النعمان بن راشد، وقال في الخلافيات: رواته ثقات، والرواية الاولى من حديث عبد الله بن زيد ذكرها الحافظ في التلخيص والفتح ولم يتكلم عليها مع معارضتها للرواية الاخرى المذكورة في الصحيحين. وقد أخرج نحوها ابن قتيبة في الغريب من حديث أنس. وقد اختلفت الاحاديث في تقديم الخطبة على الصلاة أو العكس، ففي حديث أبي هريرة، وحديث أنس، وحديث عبد الله بن زيد عند أحمد أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وفي حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين وغيرهما. وكذا في حديث ابن عباس عند أبي داود، وحديث عائشة المتقدم أنه بدأ بالخطبة قبل الصلاة، ولكنه لم يصرح في حديث عبد الله بن زيد الذي في الصحيحين أنه خطب، وإنما ذكر تحويل الظهر لمشابهتها للعيد. وكذا قال القرطبي يعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة بمشابهتها للعيد، وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة، قال في الفتح: ويمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب، فاقتصر بعض الرواة على شئ وعبر بعضهم بالدعاء عن الخطبة فلذلك وقع الاختلاف، والمرجح عند الشافعية والمالكية الشروع بالصلاة، وعن أحمد رواية كذلك. قال النووي: وبه قال الجماهير وقال الليث بعد الخطبة: وكان مالك يقول به ثم رجع إلى قول الجماهير. قال: قال أصحابنا ولو قدم الخطبة على الصلاة صحتا، ولكن الافضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها. وجاء في الاحاديث ما يقتضي جواز التقديم والتأخير، واختلفت الرواية في ذلك عن الصحابة انتهى. وجواز التقديم والتأخير بلا أولوية هو الحق، وحكى المهدي في البحر عن الهادي والمؤيد بالله أنه لا خطبة في الاستسقاء، واستدلا لذلك بقول ابن عباس الآتي ولم يخطب كخطبتكم وهو غفلة عن أحاديث الباب، وابن عباس إنما نفى وقوع خطبة منه صلى الله عليه وآله وسلم مشابهة لخطبة المخاطبين، ولم ينف وقوع مطلق الخطبة منه صلى الله عليه وآله وسلم، كما يدل على ذلك ما وقع في الرواية التي ستأتي من حديثه أنه صلى الله عليه وآله وسلم: كما يدل على ذلك ما وقع في الرواية التي ستأتي من حديثه أنه صلى الله عليه وآله وسلم رقى المنبر. وقد دلت الاحاديث الكثيرة على مشروعية صلاة الاستسقاء، وبذلك قال جمهور العلماء من السلف والخلف، ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة مستدلا بأحاديث الاستسقاء التي ليس فيها صلاة. (واحتج الجمهور) بالاحاديث الثابتة في الصحيحين
[ 31 ]
وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الاستسقاء ركعتين وهي مشتملة على الزيادة التي لم تقع منافية فلا معذرة عن قبولها، وقد وقع الاجماع من المثبتين للصلاة على أنها ركعتان، كما حكى ذلك النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح للتصريح بذلك في أحاديث الباب وغيرها. وقال الهادي: إنها أربع بتسليمتين، واستدل له بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استسقى في الجمعة وهي بالخطبة أربع، ونصب مثل هذا الكلام الذي هو عن الدلالة على مطلوب المستدل بمراحل في مقابلة الادلة الصحيحة الصريحة من الغرائب التي يتعجب منها ووقع الاتفاق أيضا بين القائلين بصلاة الاستسقاء على أنها سنة غير واجبة كما حكى ذلك النووي وغيره واختلف في صفة صلاة الاستسقاء، فقال الشافعي وابن جرير وروي عن ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز أنه يكبر فيها كتكبير العيد، وبه قال زيد بن علي ومكحول وهو مروي عن أبي يوسف ومحمد. وقال الجمهور: إنه لا تكبير فيها، واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك، وقال داود إنه مخير بين التكبير وتركه (استدل) الاولون بحديث ابن عباس الآتي بلفظ: فصلى ركعتين كما يصلي في العيد وتأوله الجمهور على أن المراد كصلاة العيد في العدد والجهر بالقراءة وكونها قبل الخطبة. وقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عباس أنه يكبر فيها سبعا وخمسا كالعيد، وأنه يقرأ فيها بسبح وهل أتاك، وفي إسناده محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري وهو متروك (وأحاديث الباب) تدل على أنه يستحب للامام أن يستقبل القبلة، ويحول ظهره إلى الناس، ويحول ردائه، وسيأتي الكلام على ذلك قوله: جهر فيهما بالقراءة قال النووي في شرح مسلم: أجمعوا على استحبابه، وكذلك نقل الاجماع على استحباب الجهر ابن بطال. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، وسئل عن الصلاة في الاستسقاء فقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متواضعا مبتذلا متخشعا متضرعا، فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. وفي رواية: خرج متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فرقي المنبر ولم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين رواه أبو داود، وكذلك النسائي والترمذي وصححه لكن قالا: وصلى ركعتين ولم يذكر الترمذي رقي المنبر.
[ 32 ]
الحديث أخرجه أيضا أبو عوانة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي، وصححه أيضا، أبو عوانة وابحبان. قوله: متبذلا أي لابسا لثياب البذلة، تاركا لثياب الزينة تواضعا لله تعالى. قوله: متخشعا أي مظهرا للخشوع ليكون ذلك وسيلة إلى نيل ما عند الله عز وجل، وزاد في رواية: مترسلا أي غير مستعجل في مشيه. قوله: متضرعا أي مظهرا للضراعة وهي التذلل عند طلب الحاجة. قوله: فصلى ركعتين فيه دليل على استحباب الصلاة وأنها قبل الخطبة، وقد تقدم الكلام في ذلك. قوله: كما يصلي في العيد تمسك به الشافعي ومن معه في مشروعية التكبير في صلاة الاستسقاء، وقد تقدم الجواب عليه. قوله: ولم يخطب خطبتكم هذه النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد، كما يدل على ذلك الاحاديث المصرحة بالخطبة، ويدل عليه أيضا قوله في هذا الحديث، فرقي المنبر ولم يخطب خطبتكم هذه، فلا يصح التمسك به لعدم مشروعية الخطبة كما تقدم. باب الاستسقاء بذوي الصلاح وإكثار الاستغفار ورفع الايدي بالدعاء وذكر أدعية مأثورة في ذلك عن أنس رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا فيسقون رواه البخاري. قوله: كان إذا قحطوا قال في الفتح: قحطوا بضم القاف وكسر المهملة أي أصابهم القحط، قال: وقد بين الزبير بن بكار في الانساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناده أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الارض وعاش الناس. وأخرج أيضا من طريق داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب وذكر الحديث وفيه: فخطب الناس
[ 33 ]
عمر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله. وفيه فما برحوا حتى أسقاهم الله، وأخرج البلاذري من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم فقال عن أبيه بدل ابن عمر، فيحتمل أن يكون لزيد فيه شيخان وذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثماني عشرة، وكان ابتداؤه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر، والرمادة بفتح الراء وتخفيف الميم سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب، فاغبرت الارض جدا من عدم المطر، قال: ويستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيه فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه، انتهى كلام الفتح. وظاهر قوله: كان إذا قحطوا استسقى بالعباس أنه فعل ذلك مرارا كثيرة، كما يدل عليه لفظ كان، فإن صح أنه لم يقع منه ذلك إلا مرة واحدة كانت كان مجردة عن معناها الذي هو الدلالة على الاستمرار. [ رح 1348 ] وعن الشعبي رضي الله عنه قال: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار فقالوا: ما رأيناك استسقيت، فقال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء الذي يستنزل به المطر ثم قرأ: * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا) * و * (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه) * الآية رواه سعيد في سننه. قوله: فلم يزد على الاستغفار فيه استحباب الاستكثار من الاستغفار، لان منع القطر متسبب عن المعاصي، والاستغفار بمحوها، فيزول بزوالها المانع من القطر. قوله: بمجاديح بجيم ثم دال مهملة ثم حاء مهملة أيضا جمع مجدح كمنبر قال في القاموس: مجاديح السماء أنواؤها انتهى. والمراد بالانواء النجوم التي يحصل عندها المطر عادة فشبه الاستغفار بها. واستدل عمر بالآيتين، على أن الاستغفار الذي ظن الاقتصار عليه يكون استسقاء من أعظم الاسباب التي يحصل عندها المطر والخصب، لان الله جل جلاله قد وعد عباده بذلك وهو لا يخلف الوعد، ولكن إذا كان الاستغفار واقعا من صميم القلب وتطابق عليه الظاهر والباطن وذلك مما يقل وقوعه. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم
[ 34 ]
لا يرفع يديه في شئ من دعائه إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه متفق عليه. ولمسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استسقى فأشار بظهر كفه إلى السماء. قوله: إلا فالاستسقاء ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض للاحاديث الثابتة في الرفع في غير الاستسقاء وهي كثيرة، وقد أفردها البخاري بترجمة في آخر كتاب الدعوات وساق فيها عدة أحاديث، وصنف المنذري في ذلك جزءا. وقال النووي في شرح مسلم: وهي أكثر من أن تحصر، قال: وقد جمعت منها نحوا من ثلاثين حديثا من الصحيحين أو أحدهما، قال: وذكرتها في آخر باب صفة الصلاة في شرح المهذب انتهى. فذهب بعض أهل العلم إلى أن العمل بها أولى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لاجل الجمع بأن يحمل النفي على جهة مخصوصة، إما على الرفع البليغ، ويدل عليه قوله: حتى يرى بياض إبطيه ويؤيده أن غالب الاحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد بها مد اليدين أو بسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء زاد على ذلك، فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه، وحينئذ يرى بيا ض إبطيه. وإما على صفة رفع اليدين في ذلك كما في رواية مسلم المذكورة في البا ب. ولابي داود من حديث أنس كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الارض حتى رأيت بياض إبطيه. والظاهر أنه ينبغي البقاء على النفي المذكور عن أنس، فلا ترفع اليد في شئ من الادعية إلا في المواضع التي ورد فيها الرفع ويعمل فيما سواها بمقتضى النفي، وتكون الاحاديث الواردة في الرفع في غير الاستسقاء أرجح من النفي المذكور في حديث أنس، إما لانها خاصة فيبنى العام على الخاص، أو لانها مثبتة وهي أولى من النفي، وغاية ما في حديث أنس أنه نفى الرفع فيما يعلمه، ومن علم حجة على من لم يعلم. قوله: فأشار بظهر كفه إلى السماء قال في الفتح قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع بلاء أن يرفع يديه جاعلا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بحصول شئ أو تحصيله أن يجعل بطن كفيه إلى السماء، وكذا قال النووي في شرح مسلم حاكيا بذلك عن جماعة من العلماء (وقيل الحكمة) في الاشار بظهر الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقلب الحال
[ 35 ]
كما قيل في تحويل الرداء، وقد أخرج أحمد من حديث السائب بن خلاد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه، وإذا استعاذ جعل ظاهرهما إليه وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال مشهور. وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء أعرابي يوم الجمعة فقال: يا رسول الله هلكت الماشية، وهلكت العيال، وهلك الناس، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا مختصر من البخاري. قوله: جاء أعرابي لفظ البخاري: أتى رجل أعرابي من أهل البادية، وفي لفظ له: جاء رجل. وفي لفظ: دخل رجل المسجد يوم جمعة وسيأتي، قال في الفتح: لم أقف على تسمية هذا الرجل. قوله: هلكت الماشية في الرواية الآتية في باب ما يقول وما يصنع: هلكت الاموال وهي أعم من الماشية، ولكن المراد هنا الماشية كما سيأتي. وفي رواية للبخاري: هلكت الكراع بضم الكاف وهي تطلق على الخيل وغيرها. قوله: وهلكت العيال وهلك الناس هو من عطف العام على الخاص. قوله: فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زاد مسلم في رواية شريك: حذاء وجهه. ولابن خزيمة: حتى رأيت بياض إبطيه وزاد البخاري في رواية ذكرها في الادب: فنظر إلى السماء، والحديث سيأتي بطوله، وإنما ذكره المصنف ههنا للاستدلال به على مشروعية رفع اليدين عند الاستسقاء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله لقد جئتك من عند قوم ما يتزود لهم راع ولا يخطر لهم فحل فصعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فحمد الله ثم قال: اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا طبقا غدقا عاجلا غير رائث ثم نزل، فما يأتيه أحد من وجه من الوجوه إلا قالوا: قد أحيينا رواه ابن ماجة. الحديث إسناده في سنن ابن ماجة، هكذا حدثنا محمد بن أبي القاسم أبو الأحوص، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا الربيع، حدثنا عبد الله بن إدريس، حدثنا حصين عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس فذكره ورجاله ثقات، أخرجه أيضا أبو عوانة وسكت عنه الحافظ في التلخيص، وقد رويت بعض هذه الالفاظ وبعض معانيها عن
[ 36 ]
جماعة من الصحابة مرفوعة. منها عن أنس وسيأتي. وعن جابر عند أبي داود والحاكم. وعن كعب بن مرة عند الحاكم في المستدرك. وعن عبد الله بن جراد عند البيهقي وإسناده ضعيف جدا. وعن عمرو بن شعيب وسيأتي. وعن المطلب بن حنطب وسيأتي أيضا. وعن ابن عمر عند الشافعي. وعن عائشة بنت الحكم عن أبيها عند أبي عوانة بسندواه. وعن عامر بن خارجة بن سعيد عن جده عند أبي عوانة أيضا. وعن سمرة عند أبي عوانة أيضا وإسناده ضعيف. وعن عمرو بن حريث عن أبيه عند أبي عوانة أيضا. وعن أبي أمامة عند الطبراني وسنده ضعيف: ولا يخطر لهم فحل بالخاء المعجمة ثم الطاء المهملة بعدها راء قال في القاموس: خطر الفحل بذنبه يخطر خطرا وخطرانا وخطيرا، ضرب به يمينا وشمالا انتهى. وأراد بقوله: لا يخطر لهم فحل أن مواشيهم قد بلغت لقلة المرعى إلى حد من الضعف لا تقوى معه على تحريك أذنابها. قوله: غيثا الغيث المطر ويطلق على النبات تسمية له باسم سببه. قوله: مغيثا بضم الميم وكسر الغين المعجمة وسكون الياء التحتية بعدها ثاء مثلثة وهو المنقذ من الشدة. قوله: مريئا بالهمزة هو المحمود العاقبة المنمى للحيوان. قوله: مريعا بضم الميم وفتحها وكسر الراء وسكون الياء التحتية بعدها عين مهملة هو الذي يأتي بالربع وهو الزيادة، مأخوذ من المراعة وهي الخصب ومن فتح الميم جعله اسم مفعول أصله مريوع كمهيب ومعناه مخصب، ويروى بضم الميم وسكون الراء بعدها موحدة مكسورة من قولهم: أربع يربع إذا أكل الربيع، ويروى بضم الميم ومثناة فوقية مكسورة من قولهم: أربع المطر إذا أنبت ما ترتع فيه الماشية. قوله: طبقا هو المطر العام كما في القاموس. قوله: غدقا الغدق هو الماء الكثير، وأغدق المطر وأغدودق كبر قطره، وغيدق كثر براقه. قوله: غير رائث الريث الابطاء، والرائث المبطئ. قوله: قد أحيينا أي مطرنا لما كان المطر سببا للحياة عبر عن نزوله بالاحياء. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استسقى قال: اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت رواه أبو داود. وعن المطلب بن حنطب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عند المطر: اللهم سقيا رحمة
[ 37 ]
ولا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم على الظراب ومنابت الشجر، اللهم حوالينا ولا علينا رواه الشافعي في مسنده وهو مرسل. الحديث الاول أخرجه أبو داود متصلا، ورواه مالك مرسلا، ورجحه أبو حاتم، والحديث الثاني هو مرسل كما قال المصنف وأكثر ألفاظه في الصحيحين، وقد تقدم ما في الباب من الاحاديث. قوله: على الظراب بكسر المعجمة وآخره موحدة جمع ظرب بكسر الراء وقد تسكن، قيل: هو الجبل المنبسط الذي ليس بالعالي، وقال الجوهري: الرابية الصغيرة. قوله: اللهم حوالينا بفتح اللام وفيه حذف تقديره جعل أو أمطر، والمراد به صرف المطر عن الابنية والدور. قوله: ولا علينا فيه بيان للمراد بقوله: حوالينا لانه يشمل الطرق التي حولهم، فأراد إخراجها بقوله: ولا علينا قال الطيبي في إدخال الواو هنا معنى لطيف، وذلك لانه لو أسقطها لكان مستسقيا للاكمام وما معها فقط، ودخول الواو يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصودا لعينه، ولكن ليكون وقاية من أذى المطر، فليست الواو محصلة للعطف ولكنها للتعليل كقولهم: تجوع الحرة ولا تأكل بثديها، فإن الجوع ليس مقصودا لعينه، ولكن ليكون مانعا من الرضاع بأجرة، إذ كانوا يكرهون ذلك أنفا، انتهى. (والحديث الاول) يدل على استحباب الدعاء بما اشتمل عليه عند الاستسقاء، والحديث الثاني يدل على استحباب الدعاء بما فيه عند نزول المطر. باب تحويل الامام والناس أرديتهم في الدعاء وصفته ووقته عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين استسقى لنا أطال الدعاء وأكثر المسألة قال: ثم تحول إلى القبلة وحول رداءه فقلبه ظهرا لبطن وتحول الناس معه رواه أحمد. وفي رواية: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما يستسقي، فحول رداءه وجعل عطافه الايمن على عاتقه الايسر، وجعل عطافه الايسر على عاتقه الايمن، ثم دعا الله عزوجل رواه أحمد وأبو داود. وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وآله
[ 38 ]
وسلم استسقى وعليه خميصة له سوداء فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها فثقلت عليه فقلبها الايمن على الايسر والايسر على الايمن رواه أحمد وأبو داود. حديث عبد الله بن زيد أصله في الصحيح وله ألفاظ منها هذه الروايات التي أوردها المصنف، ومنها ألفاظ أخر، وقد سبق بعضها في باب صفة صلاة الاستسقاء، ورجال أبي داود ورجال الصحيح. قوله: ثم تحول إلى القبلة في لفظ للبخاري: ثم حول إلى الناس ظهره فيه استحباب استقبال القبلة حال تحويل الرداء، وقد سبق بيان الحكمة في ذلك، ومحل هذا التحويل بعد الفراغ من الخطبة وإرادة الدعاء كما في الفتح. قوله: وحول رداءه ذكر الواقدي أن طول ردائه صلى الله عليه وآله وسلم ستة أذرع في عرض ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبر في ذراعين وشبر انتهى. وقد اختلفت الروايات، ففي بعضها أنه صلى الله عليه وآله وسلم حول رداءه، وفي بعضها أنه قلبه، وفسر التحويل في هذه الرواية بالقلب، فدل ذلك على أنهما بمعنى واحد كما قال الزين بن المنير، واختلف في حكمة التحويل، فجزم المهلب أنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه، وتعقبه ابن العربي بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه قيل له: حول رداءك لتحول حالك. قال الحافظ وتعقب بأن الذي جزم به يحتاج إلى نقل، والذي رده ورد فيه حديث رجاله ثقات، أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر، ورجح الدارقطني إرساله وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن. وقال بعضهم: إنما حول رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع يديه في الدعاء فلا يكون سنة في كل حال، وأجيب بأن التحويل من جهة إلى جهة لا يقتضي الثبوت على العاتق، فالحمل على المعنى الاول أولى، فإن الاتباع أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص انتهى. وقد اختلف في صفة التحويل فقال الشافعي ومالك: هو جعل الاسفل أعلى مع التحويل، وروى القرطبي عن الشافعي أنه اختار في الجديد تنكيس الرداء، لا تحويله، والذي في الام هو الاول. وذهب الجمهور إلى استحباب التحويل فقط، واستدل الشافعي ومالك بهمه صلى الله عليه وآله وسلم بقلب الخميصة لانه لم يدع ذلك إلا لثقلها، كما في الرواية
[ 39 ]
المذكورة في الباب. قال في الفتح: ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط انتهى. وذلك لانه اختار الجمع بين التحويل والتنكيس كما تقدم، وإذا كان مذهبه ما رواه عنه القرطبي فليس بأحوط. (واستدل الجمهور) بقوله في رواية حديث الباب فجعل عطافه الايمن الخ، وبقوله: فقلبها الايمن على الايسر الخ. قال الغزالي في صفة التحويل: أو يجعل الباطن ظاهرا وهو ظاهر قوله: فقلبه ظهرا لبطن، أي جعل ظاهره باطنا وباطنه ظاهرا. وقال أبو حنيفة وبعض المالكية: أنه لا يستحب شئ من ذلك وخالفهم الجمهور. قوله: وتحول الناس معه هكذا رواه المصنف رحمه الله تعالى، ورواه غيره بلفظ: وحول وفيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من استحباب تحويل الناس بتحويل الامام. وقال الليث وأبو يوسف: يحول الامام وحده، وظاهر قوله: ويحول الناس أنه يستحب ذلك للنساء. وقال ابن الماجشون: لا يستحب في حقهن. قوله: وعليه خميصة قال في القاموس: الخميصة كساء أسود مربع له علمان انتهى. باب ما يقول وما يصنع إذا رأى المطر وما يقول إذا كثر جدا عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى المطر قال: اللهم صيبا نافعا رواه أحمد والبخاري والنسائي. وعن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطر قال: فخسر ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا: لم صنعت هذا؟ قال: لانه حديث عهد بربه رواه أحمد ومسلم وأبو داود. قوله: صيبا بالنصب بفعل مقدر أي اجعله صيبا ونافعا صفة للصيب ليخرج الضار منه، والصيب المطر قاله ابن عباس، وإليه ذهب الجمهور، وقال بعضهم: الصيب السحاب ولعله أطلق ذلك مجازا، وهو من صاب المطر يصوب إذا نزل فأصاب الارض (والحديث) فيه استحباب الدعاء عند نزول المطر، وقد أخرج مسلم من حديث عائشة قالت: كان إذا كان يوم ريح عرف ذلك في وجهه فيقول: إذا رأى المطر رحمة وأخرجه أبو داود والنسائي عنها بلفظ: كان إذا رأى ناشئا
[ 40 ]
من أفق السماء ترك العمل، فإن كشف حمد الله، فإن مطر قال: اللهم صيبا نافعا. قوله: حسر أي كشف بعض ثوبه. قوله: لانه حديث عهد بربه قال العلماء: أي بتكوين ربه إياه. قال النووي ومعناه: أن المطر رحمة، وهو قريب العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها. (وفي الحديث) دليل أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف بدنه ليناله المطر لذلك. وعن شريك بن أبي نمر عن أنس أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما ثم قال: يا رسول الله هلكت الاموال وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الاموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الاودية ومنابت الشجر، قال: فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس، قال شريك: فسألت أنسا أهو الرجل الاول: قال: لا أدري متفق عليه. قوله: أن رجلا في مسند أحمد ما يدل على أن هذا المبهم كعب بن مرة، وفي البيهقي من طريق مرسلة ما يدل على أنه خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وزعم بعضهم أنه أبو سفيان بن حرب. قال في الفتح: وفيه نظر لانه جاء في واقعة أخرى وقال الحافظ: لم أقف على تسميته كما تقدم. قوله: يوم جمعة فيه دليل على أنه إذا اتفق وقوع الاستسقاء يوم جمعة اندرجت خطبة الاستسقاء وصلاتها في الجمعة وقد بوب لذلك البخاري وذكر حديث الباب. قوله: من باب كان نحو دار القضاء فسر بعضهم دار القضاء بأنها دار الامامة، قال في الفتح: وليس كذلك وإنما هي دار عمر بن الخطاب،
[ 41 ]
وسميت دار القضاء لانها بيعت في قضاء دينه، فكان يقال لها دار قضاء دين عمر، ثم طال ذلك فقيل لها دار القضاء، ذكره الزبير بن بكار بسنده إلى ابن عمر. وقد قيل في تفسيرها غير ذلك. قوله: ثم قال: يا رسول الله هذا يدل على أن السائل كان مسلما، وبه يرد على من قال إنه أبو سفيان لانه حين سؤاله لذلك لم يكن قد أسلم. قوله: هلكت الاموال المراد بالاموال هنا الماشية لا الصامت. قوله: وانقطعت السبل المراد بذلك أن الابل ضعفت لقلة القوت عن السفر، لكونها لا تجد في طريقها من الكلا ما يقيم أودها. وقيل: المراد نفاد ما عند الناس من الطعام أو قلته، فلا يجدون ما يجلبونه ويحملونه إلى الاسواق. قوله: فادع الله يغثنا هكذا في رواية للبخاري بالجزم، وفي رواية له يغيثنا بالرفع، وفي رواية له أن يغيثنا، فالجزم ظاهر، والرفع على الاستئناف أي فهو يغيثنا، قال في الفتح: وجائز أن يكون من الغوث أو من الغيث، والمعروف في كلام العرب غثنا لانه من الغوث. وقال ابن القطاع غاث الله عباده غيثا وغياثا سقاهم المطر وأغاثهم أجاب دعاءهم، ويقال: غاث وأغاث بمعنى. قال ابن دريد: الاصل غاثه الله يغوثه غوثا، واستعمل أغاثه ومن فتح أوله فمن الغيث، ويحتمل أن يكون معنى أغثنا أعطنا غوثا وغيثا. قوله: فرفع يديه فيه استحباب رفع اليد عند دعاء الاستسقاء، وقد تقدم الكلام عليه. قوله: من سحاب أي مجتمع. قوله: ولا قزعة بفتح القاف والزاي بعدها مهملة أي سحاب متفرق. وقال ابن سيده: القزع قطع من السحاب رقاق. قال أبو عبيدة: وأكثر ما يجئ في الخريف. قوله: وما بيننا وبين سلع بفتح المهملة وسكون اللام جبل معروف بالمدينة، وقد حكي أنه بفتح اللام. قوله: من بيت ولا دار أي يحجبنا من رؤيته، وأشار بذلك إلى أن السحاب كان مفقودا لا مستترا ببيت ولا غيره. قوله: فطلعت أي ظهرت من وراء سلع. قوله: مثل الترس أي مستديرة، ولم يرد أنها مثله في القدر. وفي رواية: فنشأت سحابة مثل رجل الطائر. قوله: فلما توسطت السماء انتشرت هذا يشعر بأنها استمرت مستديرة حتى انتهت إلى الافق وانبسطت حينئذ، وكأن فائدته تعميم الارض بالمطر. قوله: ما رأينا الشمس سبتا هذا كناية عن استمرار الغيم الماطر، وهو كذلك في الغالب، وإلا فقد يستمر المطر والشمس بادية، وقد تحتجب الشمس بغير مطر. وأصرح من ذلك ما وقع في رواية
[ 42 ]
أخرى للبخاري بلفظ: فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد ومن بعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الاخرى. والمراد بقوله سبتا أي من السبت إلى السبت، قاله ابن المنير والطبري، قال: وفيه تجوز لان السبت لم يكن مبتدأ، ولا الثاني منتهي، وإنما عبر أنس بذلك لانه كان من الانصار، وقد كانوا جاوروا اليهود فأخذوا بكثير من اصطلاحهم، وإنما سموا الاسبوع سبتا لانه أعظم الايام عند اليهود، كما أن الجمعة عند المسلمين كذلك، وفي تعبيره عن الاسبوع بالسبت مجاز مرسل، والعلاقة الجزئية والكلية. وقال صاحب النهاية: أراد قطعة من الزمان، وكذا قال النووي. ووقع في رواية ستا أي ستة أيام. ووقع في رواية: فمطرنا من جمعة إلى جمعة. قوله: ثم دخل رجل من ذلك الباب ظاهره أنه غير الاول، لان النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، وقد قال شريك في آخر هذا الحديث: سألت أنسا أهو الرجل الاول؟ فقال: لا أدري، وهذا يقتضي أنه لم يجزم بالتغاير. وفي رواية للبخاري عن أنس: فقام ذلك الرجل أو غيره وفي رواية له عنه: فأتى الرجل فقال: يا رسول الله. ومثلها لابي عوانة، وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدا، فلعل أنسأ تذكره بعد أن نسيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي عنه بلفظ: فقال الرجل يعني الذي سأله يستسقي قوله: هلكت الاموال انقطعت السبل أي بسبب غير السبب الاول، والمراد أن كثرة الماء انقطع المرعى بسببها، فهلكت المواشي من عدم المرعى أو لعدم ما يمكنها من المطر، ويدل على ذلك ما عند النسائي بلفظ من كثرة الماء. وأما انقطاع السبل فلتعذر سلوك الطريق من كثرة الماء. وفي رواية عند ابن خزيمة: واحتبس الركبان، وفي رواية للبخاري: تهدمت البيوت. وفي رواية له: هدم البناء وغرق المال. قوله: يمسكها يجوز ضم الكاف وسكونها، والضمير يعود إلى الامطار أو إلى السحاب أو إلى السماء. قوله: اللهم حوالينا ولا علينا تقدم الكلام عليه. قوله: على الاكام بكسر الهمزة وقد تفتح جمع أكمة مفتوحة الحروف جميعا، قيل: هي التراب المجتمع، وقيل: هي الحجر الواحد وبه قال الخليل. وقال الخطابي: هي الهضبة الضخمة. وقيل: الجبل الصغير. وقيل: ما ارتفع من الارض. قوله: والظراب تقدم تفسيره وضبطه. قوله: وبطون الاودية المراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به. قوله: فانقلعت أي السماء أو السحابة الماطرة، والمعنى أنها أمسكت عن المطر على المدينة.
[ 43 ]
(وفي الحديث) فوائد منها جواز المكالمة من الخطيب حال الخطبة، وتكرار الدعاء، وإدخال الاستسقاء في خطبة الجمعة، والدعاء به على المنبر، وترك تحويل الرداء، والاستقبال، والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء كما تقدم. وفيه علم من أعلام النبوة في إجابة الله تعالى دعاء نبيه وامتثال السحاب أمره، كما وقع في كثير من الروايات، وغير ذلك من الفوائد. [ رك ] كتاب الجنائز هي جمع جنازة بكسر الجيم وفتحها، قال ابن قتيبة وجماعة: والكسر أفصح، وحكى صاحب المطالع أنه يقال بالفتح للميت وبالكسر للنعش عليه الميت، ويقال عكس ذلك انتهى. والجنازة مشتقة من جنز إذا ستر، قاله ابن فارس وغيره، والمضارع يجنز بكسر النون قاله النووي. والجنائز بفتح الجيم لا غير، قاله النووي والحافظ وغيرهما. باب عيادة المريض عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس متفق عليه. وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن المسلم إذا عاأخاه المسلم لم يزل في مخرفة الجنة حتى يرجع رواه أحمد ومسلم والترمذي. قوله: خمس في رواية لمسلم: حق المسلم على المسلم ست وزاد: وإذا استنصحك فانصح له. وفي رواية للبخاري من حديث البراء: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبع وذكر الخمس المذكورة في حديث الباب وزاد: ونصر المظلوم وإبرار القسم والمراد بقوله: حق المسلم أنه لا ينبغي تركه، ويكون فعله إما واجبا أو مندوبا ندبا مؤكدا شبيها بالواجب الذي لا ينبغي تركه، ويكون استعماله في المعنيين
[ 44 ]
من باب استعمال المشترك في معنييه، فإن الحق يستعمل في معنى الواجب، كذا ذكره ابن الاعرابي، وكذا يستعمل في معنى الثابت، ومعنى اللازم، ومعنى الصدق وغير ذلك. وقال ابن بطال: المراد بالحق هنا الحرمة والصحبة. وقال الحافظ: الظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية. قوله: رد السلام فيه دليل على مشروعية رد السلام، ونقل ابن عبد البر الاجماع على أن ابتداء السلام سنة وأن رده فرض، وصفة الرد أن يقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وهذه الصفة أكمل وأفضل، فلو حذف الواو جاز وكان تاركا للافضل، وكذا لو اقتصر على وعليكم السلام بالواو أو بدونها أجزاه، فلو اقتصر على وعليكم لم يجزه بلا خلاف، ولو قال: وعليكم بالوا ففي إجزائه وجهان لاصحاب الشافعي. وظاهر قوله: حق المسلم أنه لا يرد على الكافر. وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم. وفي الصحيحين عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم. وأخرج البخاري نحوه من حديث ابن عمر، وقد قطع الاكثر بأنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام. وفي الصحيحين عن أسامة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين فسلم عليهم وفي الصحيحين أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى. قوله: وعيادة المريض فيه دلالة على شرعية عيادة المريض وهي مشروعة بالاجماع، وجزم البخاري بوجوبها فقال: باب وجوب عيادة المريض، قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الوجوب للكفاية كإطعام الجائع وفك الاسير، ويحتمل أن يكون الوارد فيها محمولا على الندب، وجزم الداودي بالاول، وقال الجمهور بالندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض وعن الطبري تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يراعى حاله، وتباح فيما عدا ذلك، وفي الكافر خلاف ونقل النووي الاجماع على عدم الوجوب. قال الحافظ: يعني على الاعيان وعامة في كل مرض. قوله: واتباع الجنائز فيه أن اتباعها مشروع وهو سنة بالاجماع، واختلف في وجوبه، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. قوله: وإجابة الدعوة فيه مشروعية إجابة الدعوة وهي أعم من الوليمة، وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب
[ 45 ]
الوليمة إن شاء الله تعالى. قوله: وتشميت العاطس التشميت بالسين المهملة والمعجمة لغتان مشهورتان. قال الازهري قال الليث: التسميت ذكر الله تعالى على كل شئ، ومنه قولك للعاطس: يرحمك الله. وقال ثعلب: الاصل فيه المهملة فقلبت معجمة. وقال صاحب المحكم: تسميت العاطس معناه الدعاء له بالهداية إلى السمت الحسن. وفيه دليل على مشروعية تسميت العاطس وهو أن يقول له يرحمك الله وأخرج أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال، وليقل أخوه أو صاحبه يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم. وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال: يرحمك الله، فليقل له، يهديكم الله ويصلح بالكم. وأخرج مالك في الموطأ عن ابن عمر قال: إذا عطس أحدكم فقيل له يرحمك الله يقول: يرحمنا الله وإياكم ويغفر لنا وإياكم والتسميت سنة على الكفاية، ولو قال بعض الحاضرين أجزأ عن الباقين، ولكن الافضل أن يقول كل واحد لما في البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول: يرحمك الله تعالى. وقال أهل الظاهر: إنه يلزم كل واحد، وبه قال ابن أبي مريم، واختاره ابن العربي، والتسميت إنما يكون مشروعا للعاطس إذا حمد الله كما في حديث أبي هريرة المذكور. وفي الصحيحين عن أنس: قال عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمت أحدهما ولم يسمت الآخر فقال الذي لم يسمته فلان عطس فسمته وعطست فلم تسمتني، فقال: هذا حمد الله وأنت لم تحمد الله. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الاشعري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه. وإذا تكرر العطاس فهل يشرع تكرير التسميت أو لا، فيه خلاف. وقد أخرج ابن السني بإسناد فيه من لم يتحقق حاله عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا عطس أحدكم فليسمته جليسه، وإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ولا يسمت بعد ثلاث. وفي مسلم عن سلمة بن الاكوع أنه قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الثانية: إنك مزكوم. وأخرج أبو داود والترمذي
[ 46 ]
من حديث سلمة أنه قال له في الثالثة: يرحمك الله هذا رجل مزكوم. وأخرج أبو داود والترمذي أيضا عن عبيد بن رفاعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تسميت العاطس ثلاثا، فإن زاد شئت سمته وإن شئت فلا. ولكنه حديث ضعيف، قال الترمذي إسناده مجهول. قال ابن العربي: ومعنى قوله إنك مزكوم أي إنك لست ممن يسمت بعد هذا، لان هذا الذي بك زكام ومرض لا خفة العطاس، ولكنه يدعى له بدعاء المسلم للمسلم بالعافية والسلامة، ولا يكون من باب التسميت. والسنة للعاطس أن يضع ثوبه أو يده على فيه عند العطاس لما أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عطس وضع ثوبه أو يده على فيه وخفض أو عض بها صوته وحسنة الترمذي. ويكره رفع الصوت بالعطاس لما أخرجه ابن السني عن عبد الله أن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عزوجل يكره رفع الصوت بالتثاؤب والعطاس. وأخرج أيضا عن أم سلمة. قال ت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: التثاؤب الرفيع والعطسة الشديدة من الشيطان. قوله: لم يزل في مخرفة الجنة بالخاء المعجمة على زنة مرحلة وهي البستان ويطلق على الطريق اللاحب أي الواضح. ولفظ الترمذي: لم يزل في خرفة الجنة والخرف بالضم المخترف والمجتني أفاده صاحب القاموس. عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا عاد المسلم أخاه مشى في خرافة الجنة حتى يجلس فإذا جلس غمرته الرحمة فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح رواه أحمد وابن ماجة. وللترمذي وأبي داود ونحوه. وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث رواه ابن ماجة. [ رح ] وعن زيد بن أرقم قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وجع كان بعيني رواه أحمد وأبو داود. حديث علي قال أبو داود: إنه أسند عن علي من غير وجه صحيح وقال الترمذي أنه حسن غريب. وقال أبو بكر البزار هذا الحديث رواه أبو معاوية عن الاعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلي. ورواه شعبة عن الحكم عن عبد الله عن
[ 47 ]
نافع وهذا اللفظ لا يعلم رواه الاعلى. وقد روي عن علي من غير وجه وحديث أنس في إسناده مسلم بن علي وهو متروك وحديث زيد بن أرقم سكت عنه أبداود والمنذري وأخرجه أيضا البخاري في الادب المفرد وصححه الحاكم. وفي الباب عن أبي موسى عند البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني وعن جابر عند البخاري وأبي داود قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعودني ليس براكب بغل ولا برذون وعن أنس غير حديث الباب عند أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: من توضأ فأحسن الوضوء وعاد أخاه المسلم محتسبا بوعد من جهنم مسير سبعين خريفا وفي إسناد الفضل بن دلهم. قال يحيى بن معين ضعيف الحديث وقال أحمد: لا يحفظ. وقال مرة ليس به بأس. وقال ابن حبان: كان ممن يخطئ فلا يفحش خطؤه حتى يبطل الاحتجاج به ولا اقتفى أثر العدول فيسلك به سنتهم فهو غير محتج به إذا انفرد. وعن عائشة عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي قال: لما أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب وعن عائشة بنت سعد عن أبيها قال: اشتكيت فجاءني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعودني ووضع يده علي جبهتي ثم مسح صدري وبطني ثم قال: اللهم اشف سعدا وأتمم له هجرته أخرجه البخاري وأبو داود. وعن البراء أشار إليه الترمذي. وعن أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجة بلفظ: من عاد مريضا نادى مناد من السماء طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا. قوله: من خرافة بزنة كناسة المخترف والمجتني كذا قال في القاموس قال في الفتح خرفة بضم المعجمة وسكون الراء بعدها فاء هي الثمرة وقيل المراد بها هنا الطريق. والمعنى أن العائد يمشي في طريق يؤديه إلى الجنة والتفسير الاول أولى فقد أخرجه البخاري في الادب من هذا الوجه وفيه قلت لابي قلابة: ما خرفة الجنة قال: جناها وهو عند مسلم من جملة المرفوع. قوله: إلا بعد ثلاث يدل على أن زيارة المريض إنما تشرع بعد مضي ثلاثة أيام من ابتداء مرضه فتقيد به مطلقات الاحاديث الواردة في الزيارة ولكنه غير صحيح ولا حسن كما عرفت فلا يصلح لذلك. قوله: من وجع كان بعيني فيه أن وجع العين من الامراض التي تشرع لها الزيارة فيرد بالحديث على من لم يقل باستحباب زيارة من كان مرضه الرمد ونحوه من الامراض الخفيفة.
[ 48 ]
وأحاديث الباب تدل على تأكد مشروعية زيارة المريض وقد تقدم الخلاف في حكمها ويستحب الدعاء للمريض وقد ورد في صفته أحاديث منها حديث عائشة بنت سعد المتقدم. ومنها حديث ابن عباس عند أبي داود والنسائي والترمذي وحسنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض وفي إسناده يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد المعروف بالدالاني، وقد وثقه أبو حاتم وتكلم فيه غير واحد ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا جاء الرجل يعود مريضا فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدوا أو يمشي لك إلى جنازة. باب من كان آخر قوله لا إله إلا اللهوتلقين المحتضر وتوجيهه وتغميض الميت والقراءة عنده عن معاذ قال: سمع‍ ت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا الحاكم وفي إسناده صالح بن أبي غريب. قال ابن القطان لا يعرف واعل الحديث به وتعقب بأنه روى عنه جماعة وذكره ابن حبان في الثقات وقد عزا هذا الحديث ابن معن إلى الصحيحين فغلط فإنه ليس فيهما والذي فيهما لم يقيد بالموت ولكنه روى مسلم من حديث عثمان: من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة عند الطبراني بلفظ: من قال عند موته لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله لا تطعمه النار أبدا وفي إسناد جابر بن يحيى الحضرمي. وأخرج النسائي نحوه عن أبي هريرة وحده وأخرج مسلم من حديث أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة وأخرج الحاكم عن عمر مرفوعا: أني لاعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من قلبه فيموت على ذلك إلا حرم على النار لا إله إلا
[ 49 ]
الله وفي الباب أيضا عن طلحة وعبادة وعمر عند أبي نعيم في الحلية. وعن ابن مسعود عند الخطيب مثل حديث الباب. وعن حذيفة عنده أيضا بنحوه. وعن جابر وابن عمر عند الدارقطني في العلل بنحوه أيضا: والحديث فيه دليل على نجاة من كان آخر قوله: لا إله إلا الله من النار واستحقاقه لدخول الجنة وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة أن مجرد قوله: لا إله إلا الله من موجبات دخول الجنة من غير تقييد بحال الموت فبالاولى أن توجب ذلك إذا قالها في وقت لا تتعقبه معصية. وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله رواه الجماعة إلا البخاري. وفي الباب عن أبي هريرة عند مسلم بمثل حديث أبي سعيد ورواه ابن حبان عنه وزاد: فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة يوما من الدهر وإن أصابه ما أصابه قبل ذلك وعنه أيضا حديث آخر بلفظ: إذا ثقلت مرضاكم فلا تملوهم قول لاإله إلا الله ولكن لقنوهم فإنه لم يختم به لمنافق قط وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية وهو متروك. وعن عائشة عند النسائي بنحو حديث الباب. وعن عبد الله بن جعفر عند ابن ماجة وزاد: الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين. وعن جابر عند الطبراني في الدعاء والعقيلي في الضعفاء وفيه عبد الله بن مجاهد وهو متروك. وعن عروة بن مسعود الثقفي عند العقيلي بإسناد ضعيف. وعن حذيفة عند ابن أبي الدنيا وزاد: فإنها تهدم ما قبلها من الخطايا. وعن ابن عباس عند الطبراني. وعن ابن مسعود عنده أيضا. وعن عطاء بن السائب عن أبيه عن جده عنده أيضا. قال العقيلي: روي في الباب أحاديث صحاح عن غير واحد من الصحابة. وروي فيه أيضا عن عمر وعثمان وابن مسعود وأنس وغيرهم هكذا في التلخيص. قوله: لقنوا موتاكم قال النووي: أي من حضره الموت، والمراد ذكروه لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه كما في الحديث: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة والامر بهذا التلقين أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين وكرهوا الاكثار عليه والموالاة لئلا يضجره لضيق حاله وشدة كربه، فيكره ذلك بقلبه أو يتكلم بكلام لا يليق، قالوا: وإذا قاله مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر،
[ 50 ]
فيعاد التعريض له به ليكون آخر كلامه. ويتضمن الحديث الحضور عند المحتضر لتذكيره وتأنيسه وإغماض عينيه والقيام بحقوقه، وهذا مجمع عليه، اه كلام النووي، ولكنه ينبغي أن ينظر ما القرينة الصارفة للامر عن الوجوب. وعن عبيد بن عمير عن أبيه وكانت له صحبة: أن رجلا قال يا رسول الله ما الكبائر قال: هي سبع فذكر منها واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا رواه أبو داود. الحديث أخرجه أيضا النسائي والحاكم ولفظه عند أبي داود والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال، وقد سأله رجل عن الكبائر فقال: هن تسع: الشرك والسحر وقتل النفس وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات وعقوق الوالدين واستحلال البيت الحديث. وفي الباب: عن ابن عمر عند البغوي في الجعديات بنحو حديث الباب ومداره على أيوب بن عتبة وهو ضعيف وقد اختلف عليه فيه. قوله: قال: هي سبع بتقديم السين هكذا وقع في نسخ الكتاب الصحيحة التي وقفنا عليها والصواب تسع بتقديم التاء الفوقية. والحديث استدل به على مشروعية توجيه المحتضر إلى القبلة لقوله: واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا. وفي الاستدلال به على ذلك نظر لان المراد بقوله: أحياء عند الصلاة وأمواتا في اللحد والمحتضر حي غير مصل فلا يتناوله الحديث والالزام وجوب التوجه إلى القبلة على كل حي وعدم اختصاصه بحال الصلاة وهو خلاف الاجماع. والاولى الاستدلال لمشروعية التوجيه بما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي قتاده: أن البراء بن معرور أوصى أن يوجه للقبلة إذا احتضر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أصاب الفطرة وقد ذكر هذا الحديث في التلخيص وسكت عنه. وقد اختلف في صفة التوجيه إلى القبلة فقال الهادي والناصر والشافعي في أحد قوليه: أنه يوجه مستلقيا ليستقبلها بكل وجهه. وقال المؤيد بالله وأبو حنيفة والامام يحيى والشافعي في أحد قوليه: إنه يوجه على جنبه الايمن، وروي عن الامام يحيى أنه قال: الامران جائزان والاولى أن يوجه على جنبه الايمن لما أخرجه ابن عدي في الكامل ولم يضعفه من حديث البراء بلفظ: إذا أخذ أحدكم مضجعه فليتوسد يمينه الحديث. أخرجه البيهقي في الدعوات
[ 51 ]
بإسناد قال الحافظ: حسن، وأصل الحديث في الصحيحين بلفظ: إذا أويت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الايمن وقل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك وفي آخره: فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة وفي الباب عن عبد الله بن زيد عند النسائي والترمذي وأحمد بلفظ: كان إذا نام وضع يده اليمنى تحت خده وعن ابن مسعود عند النسائي والترمذي وابن ماجة. وعن حفصة عند أبي داود. وعن سلمى أم أبي رافع عند أحمد في المسند بلفظ: إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند موتها استقبلت القبلة ثم توسدت يمينها وعن حذيفة عند الترمذي وعن أبي قتادة عند الحاكم والبيهقي بلفظ: كان إذا عرس وعليه ليل توسد يمينه وأصله في مسلم. ووجه الاستدلال بأحاديث توسد اليمين عن النوم على استحباب أن يكون المحتضر عند الموت كذلك أن النوم مظنة للموت وللاشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة بعد قوله: ثم اضطجع على شقك الايمن فإنه يظهر منها أنه ينبغي أن يكون المحتضر على تلك الهيئة. وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت رواه أحمد وابن ماجة. الحديث أخرجه أيضا الحاكم والطبراني في الاوسط والبزار في إسناده قزعة بن سويد قال في التقريب قزعة بفتح القاف والزاي والعين قال في الخلاصة: قال أبو حاتم محله صدق ليس بذاك القوي. وفي الباب عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر أخرجه مسلم. قوله: فإن البصر يتبع الروح قال النووي معناه: إذا خرج الروح من الجسد تبعه البصر ناظرا أين يذهب، قال: وفي الروح لغتان التذكير والتأنيث، قال: وفيه دليل لمذهب أصحابنا المتكلمين ومن وافقهم أن الروح أجسام لطيفة متخللة في البدن، وتذهب الحياة عن الجسد بذهابها، وليس عرضا كما قاله آخرون، ولا دما كما قاله آخرون، وفيها كلام متشعب للمتكلمين اه. قوله: وقولوا خيرا الخ هذا في صحيح مسلم من حديث أم سلمة بلفظ: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير
[ 52 ]
فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون والحديث فيه الندب إلى قول الخير حينئذ من الدعاء والاستغفار له، وطلب اللط ف به، والتخفيف عنه ونحوه، وحضور الملائكة حينئذ وتأمينهم. وفيه أن تغميض الميت عند موته مشروع. قال النووي: وأجمع المسلمون على ذلك قالوا: والحكمة فيه أن لا يقبح منظره لو ترك إغماضه. وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقرؤوا يس على موتاكم رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد ولفظه: يس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له واقرؤوها على موتاكم. الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن حبان وصححه وأعله ابن القطان بالاضطراب وبالوقف وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه المذكورين في السند. وقال الدارقطني: هذا حديث ضعيف الاسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث، قال أحمد في مسنده: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان قال: كانت المشيخة يقولون إذا قرئت يعني يس لميت خفف عنه بها وأسنده صاحب مسند الفردوس من طريق مروان بن سالم عن صفوان بن عمر وعن شريح عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم: ما من ميت يموت فيقرأ عنده يس إلا هون الله عليه وفي الباب عن أبي ذر وحده أخرجه أبو الشيخ في فضل القرآن هكذا في التلخيص. قال ابن حبان في صحيحه قوله: اقرؤوا على موتاكم يس أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يقرأ عليه وكذلك: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ورده المحب الطبري في القراءة وسلم له في التلقين اه. واللفظ نص في الاموات وتناوله للحي المحتضر مجاز فلا يصار إليه إلا لقرينة. باب المبادرة إلى تجهيز الميت وقضاء دينه عن الحصين بن وحوح: أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فقال: إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فأذنوني به وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله رواه أبو داود.
[ 53 ]
الحديث سكت عنه أبو داود، وقال المنذري قال أبو القاسم البغوي: ولا أعلم روى هذا الحديث غير سعيد بن عثمان البلوي وهو غريب اه. وقد وثق سعيد المذكور ابن حبان، ولكن في إسناد هذا الحديث عروة بن سعيد الانصاري، ويقال عزرة عن أبيه وهو وأبوه مجهولان (وفي الباب) عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثلاث يا علي لا يؤخرن: الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والايم إذا وجدت كفؤا أخرجه أحمد وهذا لفظه، والترمذي بهذا اللفظ ولكنه قال: لا تؤخرها مكان قوله لا يؤخرن وقال: هذا حديث غريب وما أرى إسناده بمتصل. وأخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم وابن حبان وغيرهم، وإعلال الترمذي له بعدم الاتصال لانه من طريق عمر بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب، قيل: ولم يسمع منه، وقد قال أبو حاتم: أنه سمع منه فاتصل إسناده، وقد أعله الترمذي أيضا بجهالة سعيد بن عبد الله الجهني ولكنه عده ابن حبان في الثقات. قوله: عن الحصين بن وحوح هو أنصاري وله صحبة، ووحوح بفتح الواو وسكون الحاء المهملة وبعدها واو مفتوحة وحاء مهملة أيضا. وطلحة بن البراء أنصاري له صحبة. (والحديث) يدل على مشروعية التعجيل بالميت والاسراع في تجهيزه، وتشهد له أحاديث الاسراع بالجنازة وستأتي. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن. الحديث رجال إسناده ثقات إلا عمبن أبي سلمة بن عبد الرحمن وهو صدوق يخطئ. فيه الحث للورثة على قضاء دين الميت والاخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وهذا مقيد بمن له مال يقضي منه دينه، وأما من لا مال له ومات عازما على القضاء فقد ورد في الاحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه، بل ثبت أن مجرد محبة المديون عند موته للقضاء موجبة لتولي الله سبحانه لقضاء دينه، وإن كان له مال ولم يقض منه الورثة، أخرج الطبراني عن أبي أمامة مرفوعا: من دان بدين في نفسه وفاؤه تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء، ومن دان بدين وليس في نفسه وفاؤه ومات اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة. وأخرج أيضا من حديث ابن عمر: الدين دينان فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات ولا ينوي قضاءه فذلك الذي يؤخذ من حسناته ليس
[ 54 ]
يومئذ دينار ولا درهم وأخرج أيضا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر: يؤتى بصاحب الدين يوم القيامة فيقول الله: فيم أتلفت أموال الناس؟ فيقول: يا رب إنك تعلم أنه أتى علي إما حرق وإما عرق، فيقول: فإني سأقضي عنك اليوم فيقضي عنه. وأخرج أحمد وأبو نعيم في الحلية والبزار والطبراني بلفظ: يدعى بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عزوجل فيقول: يا بن آدم فيم أخذت هذا الدين؟ وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول: يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشر ب ولم أضيع ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة، فيقول الله: صدق عبدوأنا أحق من قضى عنك، فيدعو الله بشئ فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته فيدخل الجنة بفضل رحمته. وأخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله. وأخرج ابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث ميمونة. ما من مسلم يدان دينا يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أدى الله عنه في الدنيا والآخرة. وأخرج الحاكم بلفظ: من تداين بدين في نفسه وفاؤه ثم مات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء. وقد ورد أيضا ما يدل على أن من مات من المسلمين مديونا فدينه على من إليه ولاية أمور المسلمين يقضيه عنه من بيت مالهم، وإن كان له مال كان لورثته. أخرج البخاري من حديث أبي هريرة: ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه. وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي، وأخرج أحمد وأبو يعلى من حديث أنس: من ترك مالا فلاهله، ومن ترك دينا فعلى الله وعلى رسوله. وأخرج ابن ماجة من حديث عائشة: من حمل من أمتي دينا فجهد في قضائه فمات قبل أن يقضيه فأنا وليه وأخرج ابن سعد من حديث جابر يرفعه: أحسن الهدي هدي محمد، وشر الامور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة من مات فترك مالا فلاهله، ومن ترك دينا أو ضياعافإلي وعلي. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة في حديث آخر: من ترك ما فلاهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي وأنا أولى بالمؤمنين. وفي معنى ذل‍ ك عدة أحاديث ثبتت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قالها بعد أن كان يمتنع من الصلاة على المديون، فلما فتح
[ 55 ]
الله عليه البلاد وكثرت الاموال صلى على من مات مديونا وقضى عنه، وذلك مشعر بأن من مات مديونا استحق أن يقضى عنه دينه من بيت مال المسلمين وهو أحد المصارف الثمانية، فلا يسقط حقه بالموت، ودعوى من ادعى اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ساقطة، وقياس الدلالة ينفي هذه الدعوى في مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: وأنا وارث من لا وراث له أعقل عنه وأرثه أخرجه أحمد وابن ماجة وسعيد بن منصور والبيهقي، وهم لا يقولون أن ميراث من لا وارث له مختص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد أخرج الطبراني من حديث سلمان ما يدل على انتفاء هذه الخصوصية المدعاة ولفظه: من ترك مالا فلورثته، ومن ترك دينا فعلي وعلى الولاة من بعدي من بيت المال. باب تسجية الميت والرخصة في تقبيله عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين توفي سجي ببرد حبرة متفق عليه. [ رح 1369 م ] وعن عائشة: أن أبا بكر دخل فبصر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مسجى ببرده فكشف عن وجهه وأكب عليه فقبله رواه أحمد والبخاري والنسائي. وعن عائشة وابن عباس: أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته رواه البخاري والنسائي وابن ماجة. وعن عائشة قالت: قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل على وجهه رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. حديث عائشة الرابع في إسناده عاصم بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب وهو ضعيف. قوله: سجي بضم السين وبعدها جيم مشددة مكسورة أي غطي. قوله: حبرة بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها راء مهملة وهي ثوب فيه أعلام وهي ضرب من بروداليمن، وفيه استحباب تسجية الميت، قال النووي: وهو مجمع عليه، وحكمته صيانته من الانكشاف وستر عورته المتغيرة عن الاعين. قال أصحاب الشافعي: ويلف طرف الثوب المسجى به تحت رأسه وطرفه الآخر تحت رجليه لئلا ينكشف منه، قال: وتكون التسجية بعد نزع ثيابه التي توفي فيها لئلا يتغير
[ 56 ]
بدنه بسببها. قوله: فقبله فيه جواز تقبيل الميت تعظيما وتبركا، لانه لم ينقل أنه أنكر أحد من الصحابة على أبي بكر فكان إجماعا. قوله: قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عثمان فيه دلالة على جواز تقبيل الميت كما تقدم. قوله: حتى رأيت الدموع الخ فيه جواز البكاء على الميت وسيأتي تحقيقه. أبواب غسل الميت باب من يليه ورفقه به وستره عليه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من غسل ميتا فأدى فيه الامانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وقال: ليلة أقربكم إن كان يعلم، فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة رواه أحمد. وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن كسر عظم الميت مثل كسر عظمه حيا رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة متفق عليه. وعن أبي بن كعب: أن آدم عليه السلام قبضته الملائكة وغسلوه وكفنوه وحنطوه وحفروا له وألحدوا وصلوا عليه، ثم دخلوا قبره فوضعوه في قبره ووضعوا عليه اللبن، ثم خرجوا من القبر، ثم حثوا عليه التراب، ثم قالوا: يا بني آدم هذه سنتكم رواه عبد الله بن أحمد في المسند. حديث عائشة الاول أخرجه أيضا الطبراني في الاوسط وفي إسناده جابر الجعفي وفيه كلام كثير، وحديث عائشة الثاني رجاله رجال الصحيح على كلام في سعد بن سعيد الانصاري. وحديث أبي بن كعب أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الاسناد ولم يخرجاه. قوله: فأدى فيه الامانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك المراد بتأدية الامانة إما كتم ما يرى منه مما يكرهه الناس ويكون قوله لم يفش عطفا تفسيريا، أو يكون المراد بتأدية الامانة أن يغسل الغسل الذي وردت به الشريعة، لان العلم عند حامله أمانة، واستعماله في مواضعه من تأديتها. قوله:
[ 57 ]
ليلة أقربكم فيه أن الاحق بغسل الميت من الناس الاقرب إلى الميت، بشرط أن يكون عالما بما يحتاج إليه من العلم، وقد قال بتقديم القريب على غيره الامام يحيى. قوله: فمن ترون عنده حظمن ورع وأمانة فيه دليل لما ذهبت إليه الهادوية من اشتراط العدالة في الغاسل وخالفهم الجمهور، فإن صح هذا الحديث فذاك، وإلا فالظاهر عدم اختصاص هذه القربة بمن ليس فاسقا، لانه مكلف بالتكاليف الشرعية، وغسل الميت من جملتها، وإلا لزم عدم صحة كل تكليف شرعي منه، وهو خلاف الاجماع، ودعوى صحة بعضها دون بعض بغير دليل تحكم. وقد حكى المهدي في البحر الاجماع على أن غسل الميت واجب على الكفاية. وكذلك حكى الاجماع النووي، وناقش دعوى الاجماع صاحب ضوء النهار مناقشة واهية حاصلها أنه لا مستند له إلا أحاديث الفعل، وهي لا تفيد الوجوب، وأحاديث الامر بغسل الذي وقصته ناقته، والامر بغسل ابنته صلى الله عليه وآله وسلم، والامر مختلف في كونه للوجوب أو للندب، ورد كلامه بأنه إن ثبت الاجماع على الوجوب فلا يضر جهل المستند، ويرد أيضا بأن الاختلاف في كون الامر للوجوب لا يستلزم الاختلاف في كل مأمور به، لانه ربما شهدت لبعض الاوامر قرائن يستفاد منها وجوبه، وهذا مما لا يخالف فيه القائل بأن الامر ليس للوجوب، لان محل الخلا ف الامر المجرد كما تقرر في الاصول، نعم قال في الفتح، وقد نقل النووي الاجماع على أن غسل الميت فرض كفاية وهو ذهول شديد، فإن الخلاف مشهور جدا عند المالكية على أن القرطبي رجح في شرح مسلم أنه سنة ولكن الجمهور على وجوبه، وقد رد ابن العربي على من لم يقل بذلك وقال: قد توارد به القول والعمل انتهى. وهكذا فليكن التعقب لدعوى الاجماع. قوله: إن كسر عظم الميت الخ فيه دليل على وجوب الرفق بالميت في غسله وتكفينه وحمله وغير ذلك، لان تشبيه كسر عظمه بكسر عظم الحي إن كان في الاثم فلا شك في التحريم، وإن كان في التألم، فكما يحرم تأليم الحي يحرم تأليم الميت، وقد زاد ابن ماجة من حديث أم سلمة لفظ: في الاثم فيتعين الاحتمال الاول. قوله: من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة فيه الترغيب في ستر عورات المسلم، وظاهره عدم الفرق بين الحي والميت، فيدخل في عمومه سترما يراه الغاسل ونحوه من الميت، وكراهة إفشائه والتحدث به، وأيضا قد صح أن الغيبة هي ذكرك لاخيك
[ 58 ]
بما يكره، ولا فرق بين الاخ الحي والميت، ولا شك أن الميت يكره أن يذكر بشئ من عيوبه التي تظهر موته، فيكون على هذا ذكرها محرما وسيأتي بقية الكلام على هذا في باب الكف عن ذكر مساوي الاموات. قوله: وعن أبي ابن كعب أن آدم الخ سيأتي الكلام في تفاصيل ما اشتمل عليه حديث أبي بن كعب، هذا في أبوابه من هذا الكتاب. باب ما جاء في غسل أحد الزوجين للآخر عن عائشة قالت: رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي وأقول: وارأساه، فقال: بل أنا وارأساه، ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك رواه أحمد وابن ماجة. [ رح 1377 ] وعن عائشة أنها كانت تقول: لو استقبلت من الامر ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا نساؤه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وقد ذكرنا أن الصديق أوصى أسماء زوجته أن تغسله فغسلته. حديث عائشة الاول أخرجه أيضا الدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي، وفي إسناده محمد بن إسحاق وبه أعله البيهقي قال الحافظ: ولم ينفرد به، بل تابعه عليه صالح بن كيسان عند أحمد والنسائي. وأماابن الجوزي فقال: لم يقل غسلتك إلا ابن إسحاق، وأصل الحديث عند البخاري بلف: ذاك لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك. وأثرها الثاني سكت عنه أبوداو والمنذري ورجاله ثقات إلا ابن إسحاق وقد عنعن. وغسل أسماء لابي بكر الذي أشار إليه المصنف قد تقدم في باب الغسل من غسل الميت من أبواب الغسل، وليس فيه أن ذلك كان بوصية من أبي بكر. قوله: فغسلتك فيه دليل على أن المرأة يغسلها زوجها إذا ماتت وهي تغسله قياسا، وبغسل أسماء لابي بكر كما تقدم، وعلي لفاطمة كما أخرجه الشافعي والدارقطني وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن، ولم يقع من سائر الصحابة إنكار على علي وأسماء فكان إجماعا. وقد ذهب إلى ذلك العترة والشافعية والاوزاعي وإسحاق والجمهور. وقال أحمد: لا تغسله لبطلان النكاح، ويجوز العكس عنده كالجمهور. وقال أبو حنيفة:
[ 59 ]
وأصحابه والشعبي والثوري: لا يجوز أن يغسلها لمثل ما ذكر أحمد، ويجوز العكس عندهم كالجمهور قالوا: لانه لا عدة عليه بخلافها. ويجاب عن المذهبين الآخرين بأنه إذا سلم ارتفاع حل الاستمتاع بالموت وأنه العلة في جواز نظر الفرج فغايته تحريم نظر الفرج، فيجب ستره عند غسل أحدهما للآخر، وقد قيل: إن النظر إلى الفرج وغيره لازم من لوازم العقد، فلا يرتفع بارتفاع جواز الاستمتاع المرتفع بالموت، والاصل بقاء حل النظر على ما كان عليه قبل الموت. قوله: لو استقبلت من الامر الخ، قيل: فيه أيضا متمسك لمذهب الجمهور، ولكنه لا يدل على عدم جواز غسل الجنس لجنسه مع وجود الزوجة، ولا على أنها أولى من الرجال لانه قول صحابية ولا حجة فيه، وقد تولى غسله صلى الله عليه وآله وسلم علي والفضل بن العباس وأسامة بن زيد يتناول الماء والعباس واقف قال ابن دحية: لم يتخلف في أن الذين غسلوه صلى الله عليه وآله وسلم علي والفضل، واختلف في العباس وأسامة وقثم وشقران انتهى. وقد استوفى صاحب التلخيص الطرق في ذلك ولم ينقل إلينا أن أحدا من الصحابة أنكر ذلك فكان إجماعا منهم. وروى البزار من طريق يزيد بن بلال قال: قال علي: أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يغسله أحد غيري. وروى ابن المنذر عن أبي بكر أنه أمرهم أن يغسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنو أبيه وخرج من عندهم. باب ترك غسل الشهيد وما جاء فيه إذا كان جنبا عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم رواه البخاري والنسائي وابن ماجة والترمذي وصححه. ولاحمد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في قتلى أحد: لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة، ولم يصل عليهم. قوله: يجمع بين الرجلين الخ، فيه جواز جمع الرجلين في كفن واحد عند
[ 60 ]
الحاجة إلى ذلك، والظاهر أنه كان يجمعهما في ثوب واحد. وقيل: كان يقطع الثوب بينهما نصفين. وقيل: المراد بالثوب القبمجازا، ويرده ما وقع في رواية عن جابر: فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة. وقد ترجم البخاري على هذا الحديث باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد، وأورده مختصرا بلفظ: كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد وليس فيه تصريح بالدفن. قال ابن رشيد: إنه جرى على عادته من الاشارة إلى ما ليس على شرطه أو اكتفى بالقيا س يعني على جمعهم في ثوب واحد انتهى. ولا يخفى أن قوله في هذا الحديث قدمه في اللحد يدل على الجمع بين الرجلين فصاعدا في الدفن. وقد أورد الحديث البخاري باللفظ الذي ذكره المصنف في باب الصلاة على الشهيد، فلعل البخاري أشار بما أورده مختصرا إلى هذا لا إلى ما ليس على شرطه، ولاسيما مع اتصال باب دفن الرجلين والثلاثة بباب الصلاة على الشهيد بلا فاصل، وقد ثبت عند عبد الرزاق بلفظ: وكان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد وورد ذكره الصلاة أيضا في هذه القصة عند الترمذي وغيره. وروى أصحاب السنن من حديث هشام بن عامر الانصاري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الانصار أن يجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر وصححه الترمذي، قال في الفتح: ويؤخذ من هذا جواز دفن المرأتين في قبر واحد، وأما دفن الرجل مع المرأة فروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الاسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد، فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه، وكأنه كان يجعل بينهما حاجزا لاسيما إذا كانا أجنبيين. قوله: أيهم أكثر أخذا للقرآن فيه استحباب تقديم من كان أكثر قرآنا، ومثله سائر أنواع الفضائل قياسا. قوله: ولم يغسلوا فيه دليل على أن الشهيد لا يغسل وبه قال الاكثر، وسيأتي الكلام في بيان ماهية الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله في الصلاة على الشهيد. وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري حكاه عنهما ابن المنذر وابن أبي شيبة أنه يغسل، وبه قال ابن سريج من الشافعية، والحق ما قاله الاولون، والاعتذار عن حديث الباب بأن الترك إنما كان لكثرة القتلى وضيق الحال مردود بعلة الترك المنصوصة كما في رواية أحمد المتقدمة وهي رواية لا مطعن فيها. (وفي الباب) أحاديث منها عن أنس عند أحمد والحاكم وأبي داود والترمذي وقال: غريب، وغلط بعض المتأخرين فقال وحسنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على قتلى أحد ولم يغسلهم
[ 61 ]
وعن جابر حديث آخر غير حديث الباب عند أبي داود قال: رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإسناده على شرط مسلم. وعن ابن عباس عند أبي داود وابن ماجة قال: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم. وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي: وقد تكلم فيه جماعة وعطاء بن السائب وفيه مقال: (وفي الباب) أيضا عن رجل من الصحابة وسيأتي، وقد اختلف في الشهيد إذا كان جنبا أو حائضا، وسيأتي الكلام على ذلك، وأما سائر من يطلق عليه اسم الشهيد كالطعين والمبطون والنفساء ونحوهم فيغسلون إجماعا كما في البحر. قوله: ولم يصل عليهم قال في التلخيص هو بفتح اللام وعليه المعنى، قال النووي: ويجوز أن يكون بكسرها ولا يفسد لكنه لا يبقى فيه دليل على ترك الصلاة عليهم مطلقا، لانه لا يلزم من قوله: لم يصل عليهم، أن لا يأمر غيره بالصلاة عليهم انتهى. وسيأتي الكلام في الصلاة على الشهيد. وروى محمد بن إسحاق في المغازي بإسناده عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن صاحبكم لتغسله الملائكة يعني حنظلة، فسألوا أهله ما شأنه؟ فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهائعة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لذلك غسلته الملائكة. الحديث قال في الفتح: قصته مشهورة رواها ابن إسحاق وغيره انتهى. وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، والحاكم والبيهقي من حديث ابن الزبير، والحاكم في الاكليل من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف، والسرقسطي في غريبه من طريق الزهري مرسلا، والحاكم أيضا في المستدرك، والطبراني والبيهقي عن ابن عباس أيضا، وفي إسناد الحاكم معلى بن عبد الرحمن وهو متروك، وفي إسناد الطبراني حجاج وهو مدلس، وفي إسناد البيهقي أبو شيبة الواسطي وهو ضعيف جدا. (وفي الباب) أيضا عن ابن عباس عند الطبراني بإسناد قال الحافظ: لا بأس به، عنه قال: أصيب حمزة بن عبد المطلب وحنظلة بن الراهب وهما جنب فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت الملائكة تغسلهما وهو غريب في ذكر حمزة كما قال في الفتح. قوله:
[ 62 ]
الهائعة هي الصوت الشديد. وقد استدل بالحديث من قال: إنه يغسل الشهيد إذا كان جنبا، وبه قال أبو حنيفة والمنصور بالله. وقال الشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد وإليه ذهب الهادي والقسم والمؤيد بالله وأبو طالب أنه لا يغسل لعموم الدليل وهو الحق، لانه لو كان واجبا علينا ما اكتفى فيه بغسل الملائكة، وفعلهم ليس من تكليفنا ولا أمرنا بالاقتداء بهم. وعن أبي سلام عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من المسلمين رجلا منهم فضربه فأخطأه وأصاب نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أخوكم يا معشر المسلمين، فابتدر الناس فوجدوه قد مات فلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه ودفنه، فقالوا: يا رسول الله أشهيد هو؟ قال: نعم وأنا له شهيد رواه أبو داود. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وفي إسناده سلام بن أبي سلام وهو مجهول. وقال أبو داود بعد إخراجه عن سلام المذكور: إنما هو عن زيد بن سلام عن جده أبي سلام انتهى. وزيد ثقة. قوله: فلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثيابه ودمائه ظاهره أنه لم يغسله ولا أمر بغسله، فيكون من أدلة القائلين بأن الشهيد لا يغسل كما تقدم، وهو يدل على أن من قتل نفسه في المعركة خطأ، حكمه حكم من قتله غيره في ترك الغسل، وأما من قتل نفسه عمدا فإنه لا يغسل عند العترة والاوزاعي لفسقه لا لكونه شهيدا. قوله: وصلى عليه فيه إثبات الصلاة على الشهيد، وسيأتي الكلام على ذلك. قوله: قال نعم الخ فيه أن من قتل نفسه خطأ شهيد، وقد أخرج مسلم والنسائي وأبو داود عن سلمة بن الاكوع قال: لما كان يوم خيبر قاتل أخقتالا شديدا فارتد عليه سيفه فقتله فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وشكوا فيه رجل مات بسلاحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مات جاهدا مجاهدا وفي رواية: كذبوا مات جاهدا مجاهدا فله أجره مرتين. هذا لفظ أبي داود. باب صفة الغسل عن أم عطية قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 63 ]
حين توفيت ابنته فقال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر، واجعلن في الاخيرة كافورا أو شيئا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه فقال: أشعرنها إياه يعني إزاره رواه الجماعة. وفي رواية لهم: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها. وفي لفظ: اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن. وفيه قالت: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها متفق عليهما لكن ليس لمسلم فيه: فألقيناها خلفها. قوله: حين توفيت ابنته في رواية متفق عليها: ونحن نغسل ابنته قال في الفتح: ويجمع بينهما بأن المراد أنه دخل حين شرع النسوة في الغسل وابنته المذكورة هي زينب زوج أبي العاص بن الربيع كما في مسلم. وقال الداودي: إنها أم كلثوم زوج عثمان. ويدل عليه ما أخرجه ابن ماجة بإسناد على شرط الشيخين كما قال الحافظ ولفظه: دخل علينا ونحن نغسل ابنته أم كلثوم وكذا وقع لابن بشكوال في المبهمات عن أم عطية والدولابي في الذرية الطاهرة، قال في الفتح: فيمكن ترجيح أنها أم كلثوم بمجيئه من طرق متعددة، ويمكن الجمع بأن تكون أم عطية حضرتهما جميعا، فقد جزم ابن عبد البر في ترجمتها بأنها كانت غاسلة الميتات انتهى. قوله: اغسلنها قال ابن بريدة: استدل به على وجوب غسل الميت، قال ابن دقيق العيد: لكن قوله: ثلاثا الخ، ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء، فيتوقف الاستدلال به على تجويز إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد، لان قوله ثلاثا غير مستقل بنفسه، فلا بد أن يكون داخلا تحت صيغة الامر، فيراد بلفظ الامر الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل، أو الندب بالنسبة إلى الايتار انتهى. فمن جوز ذلك جوز الاستدلال بهذا الامر على الوجوب، ومن لم يجوزه حم الامر على الندب لهذه القرينة، واستدل على الوجوب بدليل آخر. وقد ذهب الكوفيون وأهل الظاهر والمزني إلى إيجاب الثلاث، وروي ذلك عن الحسن، وهو يردما حكاه في البحر من الاجماع على أن الواجب مرة فقط. قوله: من ذلك بكسر الكاف لانه خطاب للمؤنث. قال في الفتح: ولم أر في شئ من الروايات بعد قوله سبعا التعبير بأكثر من ذلك إلا في رواية لابي داود، وأما سواه فإما أو سبعا، وإما أو أكثر من ذلك انتهى وهو ذهول منه عما أخرجه البخاري في باب يجعل الكافور، فإنه
[ 64 ]
روى حديث أم عطية هنالك بلفظ: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك. وقد صرح المصنف رحمه الله تعالى بأن الجمع بين التعبير بسبع وأكثر متفق عليه كما وقع في حديث الباب، لكن قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا قال بمجاوزة السبع. وصرح بأنها مكروهة أحمد والماوردي وابن المنذر. قوله: إن رأيتن ذلك فيه دليل على التفويض إلى اجتهاد الغاسل، ويكون ذلك بحسب الحاجة لا التشهي كما قال في الفتح. قال ابن المنذر: إنما فوض الرأي إليهن بالشرط المذكور وهو الايتار. قوله: بماء وسدر قال الزين بن المنير: ظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل، لان قوله بماء وسدر يتعلق بقوله: اغسلنها، قال: وهو مشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير، لان الماء المضاف لا يتطهر به وتعقبه الحافظ بمنع لزوم مصير الماء مضافا بذلك لاحتمال أن لا يغير السدر وصف الماء بأن يمعك بالسدر، ثم يغسل بالماء في كل مرة، فإن لفظ الخبر لا يأتي ذلك. قوله: واجعلن في الاخيرة كافورا أو شيئا من كافور وهو شك من الراوي، قال فالفتح، والاول محمول على الثاني لانه نكرة في سياق الاثبات فيصدق بكل شئ منه وقد جزم البخاري في رواية باللفظ الاول وظاهره أنه يجعل الكافور في الماء وبه قال الجمهور. وقال النخعي والكوفيون: إنما يجعل الكافور في الحنوط، والحكمة في الكافور كونه طيب الرائحة وذلك وقت تحضر فيه الملائكة تبريد وقوة نفوذ، وخاصة في تصلب بدن الميت، وطرد الهوام عنه، وردع ما يتحلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه، وإذا عدم قام غيره مقامه مما فيه الخواص أو بعضها قوله: فآذنني أي أعلمنني. قوله: فأعطانا حقوه قال في الفتح: بفتح المهملة، ويجوز كسرها وهي لغة هذيل بعدها قاف ساكنة، والمراد هنا الازار كما وقع مفسرا في آخر هذه الرواية والحقو في الاصل معقد الازار، وأطلق على الازار مجازا. وفي رواية للبخاري: فنزع عن حقوه إزاره والحقو على هذا حقيقة. قوله: فقال أشعرنها إياه أي ألففنها فيه، لان الشعار ما يلي الجسد من الثياب، والمراد اجعلنشعارا لها، قال في الفتح قيل: الحكمة في تأخير الازار معه إلى أن يفرغن من الغسل ولم يناولهن إياه أولا، ليكون قريب العهد من جسده، حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل، وهو أصل في التبرك بآثار الصالحين وفيه جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل، وقد نقل ابن بطال الاتفاق على ذلك. قوله: ابدأن بميامنها ومواضع
[ 65 ]
الوضوء منها، ليس بين الامرين تناف لامكان البداءة بمواضع الوضوء وبالميامن معا. قال الزين بن المنير. قوله: ابدأن بميامنها أي في الغسلات التي لا وضوء فيها، ومواضع الوضوء منها أي في الغسلة المتصلة بالوضوء، وفي هذا رد على من لم يقل باستحباب البداءة بالميامن وهم الحنفية، واستدل به على استحباب المضمضة والاستنشاق في غسل الميت خلافا للحنفية. قوله: اغسلنها وترا ثلاثا الخ استدل به على أن أقل الوتر ثلاث، قال الحافظ: ولا دلالة فيه لانه سيق مساق البيان للمراد، إذ لو أطلق لتناول الواحدة فما فوقها. قوله: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون هو بضاد وفاء خفيفة، وفيه استحباب ضفر شعر المرأة، وجعله ثلاثة قرون وهي ناصيتها وقرناها أي جانبا رأسها كما وقع في رواية وكيع عن سفيان عند البخاري تعليقا ووصل ذلك الاسماعيلي، وتسمية الناصية قرنا تغليب، وقال الاوزاعي والحنفية إنه يرسل شعر المرأة خلفها وعلى وجهها مفرقا. قال القرطبي: وكأن سبب الخلاف أن الذي فعلته أم عطية هل استندت فيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون مرفوعا، أو هو شئ رأته ففعلته استحبابا؟ كلا الامرين محتمل، لكن الاصل أن لا يفعل في الميت شئ من جنس القرب إلا بإذن الشرع، ولم يرد ذلك مرفوعا، كذا قال. وقال النووي: الظاهر عدم اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقريره له، وتعقب ذلك الحافظ بأن سعيد بن منصور روى عن أم عطية أنها قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اغسلنها وترا واجعلن شعرها ضفائر، وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أم عطية مرفوعا بلفظ: واجعلن لها ثلاثة قرون. قوله: فألقيناها خلفها فيه استحباب جعل ضفائر المرأة خلفها، وقد زعم ابن دقيق العيد أن الوارد في ذلك حديث غريب. قال في الفتح: وهو مما يتعجب منمع كون الزيادة في صحيح البخاري وقد توبع رواتها عليها، وقد استوفى تلك المتابعات وذكر للحديث فوائد غير ما تقدم. وعن عائشة قالت: لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري كيف نصنع؟ أنجرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟ قالت: فلما اختلفوا أرسل الله عليهم السنة حتى والله ما من القوم من رجل إلا ذقنه في صدره نائما، قالت: ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو فقال: اغسلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم
[ 66 ]
وعليه ثيابه، قالت: فثاروا إليه فغسلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قميصه يفاض عليه الماء والسدر ويدلك الرجال بالقميص رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم. وفي رواية لابن حبان: فكان الذي أجلسه في حجره علي بن أبي طالب، وروى الحاكم عن عبد الله بن الحرث قال: غسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي وعلى يده خرقة فغسله فأدخل يده تحت القميص فغسله والقميص عليه. وفي الباب عن بريدة عند ابن ماجة والحاكم والبيهقي قال: لما أخذوا في غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناداهم مناد من الداخل لا تنزعوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قميصه. وعن ابن عباس عند أحمد: أن عليا أسند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى صدره وعليه قميصه وفي إسناده حسين بن عبد الله وهو ضعيف. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عند عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي والشافعي قال: غسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا بسدر، وغسل وعليه قميص، وغسل من بئر يقال لها الغرس بقبا كانت لسعد بن خيثمة وكان يشرب منها، وولي سفلته علي والفضل محتضنه والعباس يصب الماء فجعل الفضل يقول: أرحني قطعت وتيني إني لاجد شيئا يترطل علي قال الحافظ: وهو مرسل جيد. قوله: السنة بسين مهملة مكسورة بعدها نون وهي ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمى النعاس، قال عدي بن الرقاع العاملي: [ شع ] وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم [ / شع ] [ رم ] أبواب الكفن وتوابعه باب التكفين من رأس المال عن خباب بن الارت أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلا، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نغطي بها رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الاذخر رواه الجماعة إلا ابن ماجة. وعن خباب أيضا: أن حمزة لم يوجد له
[ 67 ]
كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه وجعل على قدميه الاذخر رواه أحمد. الحديث الثاني أخرجه أيضا الحاكم عن أنس. قوله: أن مصعب بن عمير قتل في رواية للبخاري: أن عبد الرحمن بن عوف قال: قتل مصعب بن عمير وكان خيرا مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، وقتل حمزة أو رجل آخر فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة. قال فالفتح. قوله: أو رجل آخر لم أقف على اسمه، ولم يقع في أكثر الروايات إلا بلفظ حمزة ومصعب فقط. قوله: إلا نمرة هي شملة فيها خطوط بيض وسود أو بردة من صوف يلبسها الاعراب، كذا في القاموس. قوله: فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نغطي بها رأسه فيه دليل على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما يلي الرأس وجعل النقص مما يلي الرجلين. قال النووي: فإن ضاق عن ذلك سترت العورة، فإن فضل شئ جعل فوقها، وإن ضاق عن العورة ستر ت السوأتان لانهما أهم، وهما الاصل في العورة، قال: وقد يستدل بهذا الحديث على أن الواجب في الكفن ستر العورة فقط، ولا يجب استيعاب البدن عند التمكن (فإقيل) لم يكونوا متمكنين من جميع البدن لقوله: لم يوجد له غيرها فجوابه معناه لم يوجد مما يملكه الميت إلا نمرة، ولو كان ستر جميع البدن واجبا لوجب على المسلمين الحاضرين تتميمه إن لم يكن له قريب يلزمه نفقته، فإن كان وجبت عليه. (فإن قيل) كانوا عاجزين عن ذلك لان القضية جرت يوم أحد وقد كثرت القتلى من المسلمين واشتغلوا بهم وبالخوف من العدو عن ذلك، وجوابه أنه يبعد من حال الحاضرين المتولين دفنه أن لا يكون مع واحد منهم قطعة من ثوب ونحوها انتهى. وقد استدل بالحديثين على أن الكفن يكون من رأس المال، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالتكفين في النمرة ولا مال غيرها. قال ابن المنذر: قال بذلك جميع أهل العلم إلا رواية شاذة عن خلاس بن عمر وقال: الكفن من الثلث. وعن طاوس قال: من الثلث إن كان قليلا. وحكي في البحر عن الزهري وطاوس أنه من الثلث إن كان معسرا. وقد أخرج الطبراني في الاوسط من حديث علي أن الكفن من جميع المال وإسناده ضعيف، وأخرجه ابن أبي حاتم في العلل من حديث جابر وحكى عن أبيه أنه منكر، وقد أخرجهما عبد الرزاق.
[ 68 ]
قوله: ونجعل على رجليه شيئا من الاذخر فيه أنه يستحب إذا لم يوجد ساتر البتة لبعض البدن أو لكله أن يغطى بالاذخر، فإن لم يوجد فما تيسر من نبات الارض، وقد كان الاذخر مستعملا لذلك عند العرب، كما يدل عليه قول العباس، إلا الاذخر فإنه لبيوتنا وقبورنا. باب استحباب احسان الكفن من غير مغالاة عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه رواه ابن ماجة والترمذي. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقبر ليلا، فزجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبر الرجل ليلا حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه رواه أحمد ومسلم وأبو داود. حديث أبي قتادة حسنه الترمذي ورجال إسناده ثقات. وفي الباب عن أم سلمة عند الديلمي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أحسنوا الكفن ولا تؤذوا موتاكم بعويل ولا بتزكية ولا بتأخير وصية ولا بقطيعة، وعجلوا بقضاء دينه، واعدلوا عن جيران السوء، وإذا حفرتم فاعمقوا ووسعوا. وعن جابر غير حديث الباب عند الديلمي أيضا قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أحسنوا كفن موتاكم فإنهم يتباهون ويتزاورون بها في قبورهم. قوله: فليحسن كفنه ضبط بفتح الحاء وإسكانها. قال النووي: وكلاهما صحيح، والمراد بإحسان الكفن نظافته ونقاؤه وكثافته وستره وتوسطه وكونه من جنس لباسه في الحياة لا أفخر منه ولا أحقر، قال العلماء: وليس المراد بإحسانه السرف فيه والمغالاة ونفاسته، وإنما المراد ما تقدم. قوله: غير طائل أي حقير غير كامل. قوله: حتى يصلى عليه هو بفتح اللام كما قال النووي، وإنما نهى عن القبر ليلا حتى يصلى عليه لان الدفن نهارا يحضره كثيرون من الناس ويصلون عليه، ولا يحضره في الليل إلا أفراد. وقيل: لانهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن فلا يبين في الليل، ويؤيده أول الحديث وآخره. قال
[ 69 ]
القاضي: العلتان صحيحتان، قال: والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصدهما معا، قال: وقد قيل غير هذا. قوله: إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك يدل على أنه لا بأس به في وقت الضرورة. (وقد اختلف) العلماء في الدفن بالليل فكرهه الحسن البصري إلا لضرورة، وقال جماعة العلماء من السلف والخلف لا يكره واستدلوا بأن أبا بكر الصديق وجماعة من السلف دفنوا ليلا من غير إنكار. وبحديث المرأة السوداء أو الرجل الذي كان يقم المسجد فتوفي بالليل فدفنوه ليلا، وسألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه فقالوا: توفي فدفناه في الليل فقال: ألا آذنتموني؟ قالوا: كانت ظلمة، ولم ينكر عليهم أخرجه البخاري. وسيأتي في باب الدفن ليلا، وأجابوا عن حديث الباب بأن النهي كان لترك الصلاة لا لمجرد الدفن بالليل أو عن إساءة الكفن أو عن المجموع، وتأتي بقية الكلام إن شاء الله في باب الدفن ليلا. وعن عائشة: أن أبا بكر نظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيها، قلت: إن هذا خلق، قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للمهلة مختصر من البخاري. قوله: به ردع بسكون المهملة بعدها عين مهملة أي لطخ لم يعمه كله. قوله: وزيدوا عليه ثوبين في رواية جديدين. قوله: فكفنوني فيها رواية أبي ذر فيهما. وفسر الحافظ ضمير المثنى بالمزيد والمزيد عليه، وفي رواية غير أبي ذر فيها كما وقع عند المصنف. قوله: خلق بفتح المعجمة واللام أي غير جديد. وفي رواية عند ابن سعد: ألا نجعلها جددا كلها؟ قال: لا. وظاهره أن أبا بكر كان يرى عدم المغالاة في الاكفان ويؤيده قوله: إنما هو للمهلة. وروى أبو داود من حديث علي عليه السلام مرفوعا: لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعا. ولا يعارضه حديث جابر في الامر بتحسين الكفن كما تقدم، فإنه يجمع بينهما بحمل التحسين على الصفة، وحمل المغالاة على الثمن. وقيل: التحسين حق للميت، فإذا أوصى بتركه اتبع كما فعل الصديق، ويحتمل أن يكون اختار ذلك الثوب بعينه لمعنى فيه من التبرك، لكونه صار إليه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكونه قد كان جاهد فيه أو تعبد فيه. ويؤيده ما رواه ابن سعد من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: أبو بكر:
[ 70 ]
كفنوني في ثوبي اللذين كنت أصلي فيهما. قوله: إنما هو أي الكفن للمهلة قال القاضي عياض: روي بضم الميم وفتحها وكسرها وبذلك جزم الخليل. وقال ابن حبيب: هو بالكسر الصديد، وبالفتح التمهل، وبالضم عكر الزيت، والمراد هنا الصديد، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: وإنما هو أي الجديد، وأن يكون المراد المهلة على هذا التمهل أي الجديد لمن يريد البقاء. قال الحافظ: والاول أظهر. (وفي هذا الاثر) استحباب التكفين في ثلاثة أكفان، وجواز التكفين في الثياب المغسولة، وإيثار الحي بالجديد. ويدل على استحباب أن يكون الكفن جديدا ما أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد: أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الميت يبعث في ثيابه التي مات فيها. ورواه ابن حبان بدون القصة وقال: أراد بذلك أعماله لقوله تعالى: * (وثيابك فطهر) * (المدثر: 4) يريد وعملك فأصلحه، قال: والاخبار الصحيحة صريحة أن الناس يحشرون حفاة عراة، وحكى الخطابي في الجمع بينهما أنه يبعث في ثيابه ثم يحشر عريانا. باب صفة الكفن للرجل والمرأة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفن في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه وحلة نجرانية الحلة ثوبان رواه أحمد وأبو داود. [ رح 1389 ] وعن عائشة قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد يمانية، ليس فيها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجا رواه الجماعة. ولهم إلا أحمد والبخاري ولفظه لمسلم: وأما الحلة فإنما ما شبه على الناس فيها إنما اشتريت ليكفن فيها فتركت الحلة وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية. ولمسلم: قالت: أدرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حلة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت عنه وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها عمامة ولا قميص. حديث ابن عباس في إسناده يزيد بن أبي زياد وقد تغير وهذا من أضعف حديثه.
[ 71 ]
وقال النووي: إنه مجمع على ضعف يزيد المذكور، وقد بين مسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكفن في الحلة، وإنما شبه على الناس كما ذكر المصنف. (وفي الباب) عن جابر بن سمرة عند البزار وابن عدي في الكامل أنه كفن صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب: قميص وإزار ولفافة. وفي إسناده ناصح وهو ضعيف. وعن ابن عباس غير حديث الباب عند ابن عدي قال: كفن صلى الله عليه وآله وسلم في قطيفة حمراء. وفي إسناده قيس بن الربيع وهو ضعيف. قال الحافظ: كأنه اشتبه عليه بحديث جعل في قبره قطيفة حمراء فإنه يروى بالاسناد المذكور بعينه وعن علي عند ابن أبي شيبة وأحمد والبزار قال: كفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سبعة أثواب وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيئ الحفظ لا يصلح الاحتجاج بحديثه إذا خالف الثقات كما هنا، وقد خالف هنا رواية نفسه فإنه روى عن جابر أنه صلى الله عليه وآله وسلم كفن في ثوب نمرة. قال الحافظ: وروى الحاكم من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر ما يعضد رواية ابن عقيل عن ابن الحنفية عن علي بمعنى أنه صلى الله عليه وآله وسلم كفن في سبعة وعن جابر عند أبي داود أنه صلى الله عليه وآله وسلم كفن في ثوبين وبرد حبرة. وفي رواية النسائي فذكر لعائشة قولهم في ثوبين وبرد حبرة فقالت: قد أتي بالبرد ولكنهم ردوه. وأخرج مسلم والترمذي عنها أنها قالت: إنهم نزعوها عنه. وروى عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لف في برد حبرجفف فيه ثم نزع عنه. قال الترمذي: تكفينه في ثلاثة أثواب أصح ما ورد في كفنه. قوله: قميصه الذي مات فيه دليل لمن قال باستحباب القميص في الكفن وهم الحنفية ومالك وزيد بن علي والمؤيد بالله، وذهب الجمهور إلى أنه غير مستحب، واستدلوا بقول عائشة: ليس فيها قميص ولا عمامة، وأجابوا عن حديث ابن عباس بأنه ضعيف الاسناد كما تقدم، وأجاب القائلون بالاستحباب أن قول عائشة ليس فيها قميص ولا عمامة يحتمل نفي وجودهما، ويحتمل أن يكون المراد نفي المعدود أي الثلاثة خارجة عن القميص والعمامة وهما زائدان، وأن يكون معناه ليس فيها قميص جديد، أو ليس فيها القميص الذي غسل فيه، أو ليس فيها قميص مكفوف الاطراف، ويجاب بأن الاحتمال الاول هو الظاهر، وما عداه متعسف فلا يصار إليه. قوله: جدد هكذا وقع عند المصنف، وكذلك رواه البيهقي
[ 72 ]
وليس في الصحيحين لفط جدد. ووقع في رواية لهما بدل جدد من كرسف وهو القطن. قوله: بيض فيه دليل على استحباب التكفين في الابيض، قال النووي: وهو مجمع عليه. قوله: سحولية بضم المهملتين، ويروى بفتح أوله نسبة إلى سحول قرية باليمن، قال النووي: والفتح أشهر وهو رواية الاكثرين، قال ابن الاعرابي وغيره: هي ثياب بيض نقية لا تكون إلامن القطن، وقال ابن قتيبة، ثياب بيض ولم يخصها بالقطن، وفي رواية للبخاري سحول بدون نسبة وهو جمع سحل والسحل الثوب الابيض النقي، ولا يكون إلا من قطن كما تقدم. وقال الازهري: بالفتح المدينة، وبالضم الثياب، وقيل: النسبة إلى القرية بالضم، وأما بالفتح فنسبة إلى القصار لانه يسحل الثياب أي ينقيها، كذا في الفتح. قوله: يمانية بتخفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة. وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما لغة في تشديدها. ووجه الاول أن الالف بدل من باء النسبة فلا يجتمعان، فيقال يمنية بالتشديد أو يمانية بالتخفيف، وكلاهما نسبة إلى اليمن. قوله: فإنما شبه على الناس بضم الشين المعجمة وكسر الباء المشددة ومعناه اشتبه عليهم، واعلم أنه قد اختلف في أفضل. الكفن بعد الاتفاق على أنه لا يجب أكثر من ثوب واحد يستر جميع البدن، فذهب الجمهور إلى أن أفضلها ثلاثة أثواب بيض، واستدلوا بحديث عائشة المذكور، قال في الفتح: وتقرير الاستدلال به أن الله عز وجل لم يكن ليختار لنبيه إلا الافضل، وعن الحنفية أن المستحب أن يكون في أحدها ثوب حبرة، وتمسكوا بحديث جابر المتقدم وإسناده كما قال الحافظ حسن، ولكنه معارض بالمتفق عليه من حديث عائشة، على أنا قد قدمنا عن عائشة أنهم نزعوا عنه ثوب الحبرة، وبذلك يجمع بين الروايات. وقال الهادي: إن المشروع إلى سبعة ثياب، واستدل بحديث علي المتقدم، وأجيب عنه بأنه لا ينتهض لمعارضة حديث عائشة الثابت في الصحيحين وغيرهما. وقد قال الحاكم: إنها تواتر ت الاخبار عن علي وابن عباس وابن عمر و عبد الله بن مغفل وعائشة في تكفين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، ولكنه لا يخفى أن إثبات ثلاثة ثياب لا ينفي الزيادة عليها، وقد تقرر أن ناقل الزيادة أولى بالقبول، على أنه لو تعرض رواة الثلاثة لنفي ما زاد عليها لكان المثبت أولى من النافي، نعم حديث علي فيه المقال المتقدم، فإن صلح الاحتجاج معه فالمصير إلى الجمع بما ذكرنا متعين، وإن لم يصلح فلا فائدة في الاشتغال
[ 73 ]
به لا سيما وقد اقتصر على رواية الثلاثة جماعة من الصحابة، ويبعد أن يخفى على جميعهم الزيادة عليها، وقد قال الامام يحيى: إن السبعة غير مستحبة إجماعا. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. الحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان. وأخرجه أيضا الترمذي وصححه، وابن ماجة والنسائي والحاكم من حديث سمرة، واختلف في وصله وإرساله وقد تقدم في اللباس. (وفي الباب) عن عمران بن الحصين عند الطبراني. وعن أنس عند أبي حاتم في العلل والبزار في مسنده. وعن ابن عمر عند ابن عدي في الكامل. وعن أبي الدرداء عند ابن ماجة يرفعه: أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض (والحديث) يدل على مشروعية لبس البياض، وقد تقدم الكلام على ذلك في أبواب اللباس، وعلى مشروعية تكفين الموتى في الثياب البيض وهو إجماع، كما تقدم في شرح الحديث الذي قبله، وقد تقدم أيضا عن الحنفية أنهم يستحبون أن يكون في الاكفان ثوب حبرة واستدلوا بما سلف. ومن أدلتهم حديث جابر عند أبي داود بإسناد حسن كما قال الحافظ بلفظ: إذا توفي أحدكم فوجد شيئا فليكفن في ثوب حبرة والامر باللبس والتكفين في الثياب البيض محمول على الندب لما قدمنا في أبواب اللباس. وعن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند وفاتها، وكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحقا ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الباب معه كفنها يناولنا ثوبا ثوبا رواه أحمد وأبو داود. قال البخاري قال الحسن: الخرقة الخامسة يشد بها الفخذان والوركان تحت الدرع. الحديث في إسناده ابن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث، وفي إسناده أيضا نوح بن حكيم. قال ابن القطان: مجهول، ووثقه ابن حبان، وقال ابن إسحاق: كان قارئا للقرآن، وفي إسناده أيضا داود رجل من بني عروة بن مسعود، فإن كان داود بن
[ 74 ]
عاصم بن عروة بن مسعود فهو ثقة، وقد جزم بذلك ابن حبان، وإن كان غيره فينظر فيه. قوله: ليلى بنت قانف بالقاف بعد الالف نوثم فاء. قوله: الحقا بكسر المهملة وتخفيف القاف مقصور، قيل: هو لغة في الحقو وهو الازار. (والحديث) يدل على أن المشروع في كفن المرأة أن يكون إزار، أو درعا وخمارا وملحفة ودرجا، ولم يقع تسمية أم عطية في هذا الحديث فيمن حضر. وقد وقع عند ابن ماجة أن أم عطية قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نغسل ابنته أم كلثوم الحديث. ورواه مسلم فقال زينب ورواته أتقن وأثبت، وقد تقدم الكلام على هذا الاختلاف في باب صفة الغسل. قوله: قال البخاري: قال الحسن الخ، وصله ابن أبي شيبة قال في الفتح: وهذا يدل على أن أول الكلام أن المرأة تكفن في خمسة أثواب. وروى الخوارزمي من طريق إبراهيم بن حبيب ابن الشهيد عن هشام بن حسان عن حفصة عن أم عطية أنها قالت: وكفناها في خمسة أثواب وخمرناها كما نخمر الحي قال الحافظ: وهذه الزيادة صحيحة الاسناد، وقول الحسن: إن الخرقة الخامسة يشد بها الفخذان والوركان قال به زفر. وقالت طائفة: تشد على صدرها ليضم أكفانها، ولا يكره القميص للمرأة على الراجح عند الشافعية والحنابلة. باب وجوب تكفين الشهيد في ثيابه التي قتل فيها عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بالشهداء أن ننزع عنهم الحديد والجلود وقال: ادفنوهم بدمائهم وثيابهم رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن عبد الله بن ثعلبة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم أحد: زملوهم في ثيابهم، وجعل يدفن في القبر الرهط ويقول: قدموا أكثرهم قرآنا رواه أحمد. الحديث الاول في إسناده عطاء بن السائب وهو مما حدث به بعد الاختلاط، وحديث عبد الله بن ثعلبة أخرجه أيضا أبو داود بإسناد رجاله رجال الصحيح، وفي الباب أحاديث قد تقدم ذكرها في باب ترك غسل الشهيد. (والحديثان)
[ 75 ]
المذكوران في الباب وما في معناهما فيها مشروعية دفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب، ونزع الحديد والجلود عنه وكل ما هو آلة حرب. وقد روى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي أنه قال: ينزع من الشهيد الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسراويل إلا أن يكون أصاب السراويل دم، وفي إسناده أبو خالد الواسطي والكلام فيه معروف. وقد روى ذلك أحمد بن عيسى في أماليه من طريق الحسين بن علوان عن أبي خالد المذكور عن زيد بن علي، والحسين بن علوان متكلم فيه أيضا، والظاهر أن الامر بدفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب للوجوب. قوله: وجعل يدفن في القبر الخ، قد تقدم الكلام على هذا في باب ترك غسل الشهيد. باب تطييب بدن الميت وكفنه إلا المحرم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا رواه أحمد. عن ابن عباس قال: بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة ملبيا رواه الجماعة. وللنسائي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اغسلوا المحرم في ثوبيه اللذين أحرم فيهما واغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة محرما. حديث جابر أخرجه أيضا البيهقي والبزار قيل: ورجاله رجال الصحيح، وأخرج نحوه أحمد بن حنبل أيضا عن جابر مرفوعا بلفظ: إذا أجمرتم الميت فأوتروا. قوله: إذا أجمرتم الميت أي بخرتموه وفيه استحباب تبخير الميت ثلاثا. قوله: بينما رجل قال في الفتح: لم أقف في شئ من الطرق على تسمية المحرم المذكور، ووهم بعض المتأخرين فزعم أن اسمه واقد بن عبد الله، وعزاه إلى ابن قتيبة في ترجمة عمر من كتاب المغازي، وسبب الوهم أن ابن قتيبة لما ذكر ترجمة عمر ذكر أولاده
[ 76 ]
ومنهم عبد الله بن عمر، ثم ذكر أولاد عبد الله فذكر فيهم واقد بن عبد الله بن عمر فقال: وقع عن بعيره وهو محرم فهلك، فظن هذا المتأخر أن لواقد بن عبد الله صحبة، وأنه صاحب القصة التي وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس كما ظن، فإن واقدا المذكور لاصحبة له، فإن أمه صفية بنت أبي عبيدو، إنما تزوجها أبوه في خلافة عمر، وفي الصحابة أيضا واقد بن عبد الله آخر ولكنه مات في خلافة عمر كما ذكر ابن سعد. قوله: فوقصته بفتح الواو بعدها قاف ثم صاد مهملة. وفي رواية للبخاري: فأقصعته. وفي أخرى له أيضا: أقصعته، وفي أخرى له أيضا: أو قصته، والوقص الكسر كما في القاموس، والقصع الهشم وقيل هو خاص بكسر العظم. قال الحافظ: ولو سلم فلا مانع أن يستعار لكسر الرقبة، والقمص القتل في الحال، ومنه قعاص الغنم وهو موتها كذا في الفتح. قوله: اغسلوه بماء وسدر فيه دليل على وجوب الغسل بالماء والسدر، وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: وكفنوه في ثوبيه فيه أنه يكفن المحرم في ثيابه التي مات فيها وقيل: إنما اقتصر على تكفينه في ثوبيه لكونه مات فيهما، وهو متلبس بتلك العبادة الفاضلة، ويحتمل أنه لم يجد غيرهما. قوله: ولا تحنطوه هو من الحنوط بالمهملة، وهو الطيب الذي يوضع للميت. قوله: ولا تخمروا رأسه أي لا تغطوه، وفيه دليل على بقاء حكم الاجرام، وكذلك قوله: ولا تحنطوه وأصرح من ذلك التعليل بقوله: فإن الله يوم القيامة يبعثه ملبيا. وقوله: في الرواية الاخرى: فإنه يبعث يوم القيامة محرما وخالف في ذلك المالكية والحنفية وقالوا: إن قصة هذا الرجل واقعة عين لا عموم لها فتختص به، وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة هي كونه في النسك وهي عامة في كل محرم، والاصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثبت لغيره حتى يثبت التخصيص. وما أحسن ما اعتذر به الداودي عن مالك فقال: إنه لم يبلغه الحديث. قوله: ولا تمسوه بضم أوله وكسر الميم من أمس. قال ابن المنذر: وفي الحديث إباحة غسل المحرم الحي بالسدر خلافا لمن كرهه، وأن الوتر في الكفن ليس بشرط، وأن الكفن من رأس المال لامره صلى الله عليه وآله وسلم بتكفينه في ثوبيه، ولم يستفصل هل عليه دين مستغرق أم لا، وفيه استحباب تكفين المحرم في
[ 77 ]
إحرامه، وأن إحرامه باق، وأنه لا يكفن في المحنط كما تقدم، وأنه يجوز التكفين في الثياب الملبوسة، وأن الاحرام يتعلق بالرأس. أبواب الصلاة على الميت باب من يصلى عليه ومن لا يصلى عليه الصلاة على الانبياء عن ابن عباس قال: دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسالا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء، حتى إذا فرغوا أدخلوا الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد رواه ابن ماجة. الحديث أخرجه أيضا البيهقي، قال الحافظ: وإسناده ضعيف لانه من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة (وفي الباب) عن أبي عسيب عند أحمد: أنه شهد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فقال كيف نصلي عليك؟ قال: ادخلوا أرسالا كذا في التلخيص. وعن جابر وابن عباس أيضا عند الطبراني وفي إسناده عبد المنعم بن ادريس وهو كذاب. وقد قال البزار إنه موضوع. وعن ابن مسعود عند الحاكم بسند واه. وعن نبيط بن شريط عند البيهقي وذكره مالك بلاغا. (وفي الحديث) أن الصلاة كانت عليه صلى الله عليه وآله وسلم فرادى الرجال ثم النساء ثم الصبيان. قال ابن عبد البر: وصلاة الناس عليه أفرادا بجمع عليه عند أهل السير، وجماعة أهل النقل لا يختلفون فيه وتعقبه ابن دحية بأن ابن القصار حكى الخلاف فيه، هل صلوا عليه الصلاة المعهودة أو دعوا فقط؟ وهل صلوا فرادى أو جماعة؟ واختلفوا فيمن أم بهم فقيل: أبو بكر، روي بإسناد قال الحافظ: لا يصح وفيه حرام وهو ضعيف جدا قال ابن دحية: هو باطل بيقين لضعف رواته وانقطاعه، قال: والصحيح أن المسلمين صلوا عليه أفرادا لا يؤمهم أحد وبه جزم الشافعي. قال: وذلك لعظم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي هو وأمي وتنافسهم في أن لا يتولى الامامة عليه في الصلاة واحد. قال ابن دحية: كان المصلون عليه ثلاثين ألفا،
[ 78 ]
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق الحديث: وتمسك به من قدم النساء على الصبيان في الصلاة على جنائزهم وحال دفنهم في القبر الواحد اه. باب ترك الصلاة على الشهيد عن أنس: أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وقد أسلفنا هذا المعنى من رواية جابر، وقد رويت الصلاة عليهم بأسانيد لا تثبت. أما حديث أنس فأخرجه أيضا الحاكم. وقال الترمذي: إنه حديث غريب لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا الوجه. وأخرجه أبو داود في المراسيل والحاكم من حديثه قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حمزة وقد مثل به ولم يصل على أحد من الشهداء غيره، وأعله البخاري والترمذي والدارقطني بأنه غلط فيه أسامة بن زيد فرواه عن الزهري عن أنس، ورجحوا رواية الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر. وأما حديث جابر فقد تقدم في باب ترك غسل الشهيد، وأما الاحاديث الواردة في الصلاة على شهداء أحد التي أشار إليها المصنف وقال: إنها بأسانيد لا تثبت فستعرف الكلام عليها، وفي الصلاة على الشهيد أحاديث. منها: ما أخرجه الحاكم من حديث جابر قال: فقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمزة حين جاء الناس من القتال فقال رجل: رأيته عند تلك الشجيرات فلما رآه ورأى ما مثل به شهق وبكى فقام رجل من الانصار فرمى عليه بثوب ثم جئ بحمزة فصلى عليه الحديث وفي إسناده أبو حماد الحنفي وهو متروك. وعن شداد بن الهاد عند النسائي بلفظ: أن رجلا من الاعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فآمن به واتبعه وفي الحديث: أنه استشهد فصلى عليه صلى الله عليه وآله وسلم فحفظ من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم له: اللهم إن هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل في سبيلك وحمل البيهقي هذا على أنه لم يمت في المعركة، وعن أنس عند أبي داود في المراسيل. وقد تقدم لفظه. وعن عقبة بن عامر في البخاري وغيره. أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد
[ 79 ]
بعد ثمان سنين صلاته على ميت كالمود للاحياء والاموات وفي رواية لابن حبان: ثم دخل بيته ولم يخرج حتى قبضه الله. وعن ابن عباس عند ابن إسحاق قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحمزة فسجي ببرده ثم صلى عليه وكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فيصلي عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة. وفي إسناده رجل مبهم لان ابن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم عن مقسم مولى ابن عباس عن ابن عباس، قال السهيلي: إن كان الذي أبهمه ابن إسحاق هو الحسن بن عمارة فهو ضعيف وإلا فهو مجهول لا حجة فيه. قال الحافظ: الحامل للسهيلي على ذلك ما وقع في مقدمة مسلم عن شعبة أن الحسن بن عمارة حدثه عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد، فسألت الحكم فقال: لم يصل عليهم اه. لكن حديث ابن عباس روي من طرق أخرى منها ما أخرجه الحاكم وابن ماجة والطبراني والبيهقي من طريق يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس مثله وأتم منه، ويزيد فيه ضعف يسير. (وفي الباب) أيضا عن أبي مالك الغفاري عند أبي داود في المراسيل من طريقه وهو تابعي اسمه غزوان ولفظه: أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد عشرة عشرة في كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلاة. قال الحافظ: ورجاله ثقات، وقد أعله الشافعي بأنه متدافع لان الشهداء كانوا سبعين، فإذا أتى بهم عشرة عشرة يكون قد صلى سبع صلوات فكيف تكون سبعين؟ قال: وإن أراد التكبير فيكون ثمانية وعشرين تكبيرة، وأجيب بأن المراد صلى على سبعين نفسا وحمزة معهم كلهم، فكأنه صلى عليه سبعين صلاة. وعن ابن مسعود عند أحمد بلفظ: رفع الانصاري حمزة فصلى عليه ثم جئ برجل من الانصار ووضعوه إلى جنبه فصلى عليه فرفع الانصاري وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة. (وفي الباب) أيضا حديث أبي سلام عن رجل من الصحابة عند أبي داود وقد تقدم في باب ترك غسل الشهيد، هذا جملة ما وقفنا عليه في هذا الباب من الاحاديث المتعارضة، وقد اختلف أهل العلم في ذلك قاله الترمذي، قال بعضهم: يصلى على الشهيد وهو قول الكوفيين وإسحاق، وقال بعضهم: لا يصلى عليه وهو قول المدنيين والشافعي وأحمد اه. وبالاول قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والمزني والحسن
[ 80 ]
البصري وابن المسيب، وإليه ذهب العترة واستدلوا بالاحاديث التي ذكرناها، وأجاب عنها القائلون بأنه لا يصلى على الشهيد، فقالوا: أما حديث جابر ففيه متروك كما تقدم، وأما حديث شداد بن الهاد فهو مرسل لان شدادا تابعي، وقد أجيب عنه بما تقدم عن البيهقي، وبأن المراد بالصلاة الدعاء، وأما حديث أنس فقد تقدم أن البخاري والترمذي والدارقطني قالوا بأنه غلط فيه أسامة، وقد قال البيهقي عن الدارقطني أن قوله فيه: ولم يصل على أحد من الشهداء غيره ليست بمحفوظة، على أنه يقال: الحديث حجة عليهم لا لهم، لانها لو كانت واجبة لما خص بها واحدا من سبعين. وأما حديث عقبة فلنبدأ بتقرير الاستدلال به، ثم نذكر جوابه وتقريره ما قاله الطحاوي أن معنى صلاته صلى الله عليه وآله وسلم عليهم لا يخلو من ثلاثة معان، إما أن يكون ناسخا لما تقدم من ترك الصلاة عليهم، أو يكون من سنتهم أن لا يصلى عليهم إلا بعد هذه المدة، أو تكون الصلاة عليهم جائزة بخلاف غيرهم فإنها واجبة، وأيها كان فقد ثبت بصلاته عليهم الصلاة على الشهداء، ثم الكلام بين المختلفين في عصرنا إنما هو في الصلاة عليهم قبل دفنهم، وإذا ثبتت الصلاة عليهم بعد الدفن كانت قبل الدفن أولى اه. وأجيب بأن صلاته عليهم تحتمل أمورا أخر منها أن تكون من خصائصه، ومنها أن تكون بمعنى الدعاء، ثم هي واقعة عين لا عموم لها فكيف ينتهض الاحتجاج بها لدفع حكم قد ثبت؟ وأيضا لم يقل أحد من العلماء بالاحتمال الثاني الذي ذكره الطحاوي، كذا قال الحافظ، وأنت خبير بأن دعوى الاختصاص خلاف الاصل، ودعوى أن الصلاة بمعنى الدعاء يردها قوله في الحديث صلاته على الميت، وأيضا قد تقرر في الاصول أن الحقائق الشرعية مقدمة على اللغوية، فلو فرض عدم ورود هذه الزيادة لكان المتعين المصير إلى حمل الصلاة على حقيقتها الشرعية وهي ذات الاذكار والاركان، ودعوى أنها واقعة عين لا عموم لها يردها أن الاصل فيما ثبت لواحد أو لجماعة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم ثبوته للغير، على أنه يمكن معارضة هذه الدعوى بمثلها فيقال: ترك الصلاة على الشهداء في يوم أحد واقعة عين لا عموم لها، فلا تصلح للاستدلال بها على مطلق الترك بعد ثبوت مطلق الصلاة على الميت، ووقوع الصلاة منه على خصوص الشهيد في غيرها كما في حديث شداد بن الهاد وأبي سلام. وأما حديث ابن عباس وما ورد في معناه من الصلاة على قتلى أحد قبل دفنهم فأجاب عن ذلك الشافعي بأن الاخبار جاءت كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى
[ 81 ]
الله عليه وآله وسلم لم يصل على قتلى أحد، قال: وما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عار ض بذلك هذه الاحاديث أن يستحي على نفسه اه. وأجيب أيضا بأن تلك الحالة الضيقة لا تتسع لسبعين صلاة، وبأنها مضطربة، وبأن الاصل عدم الصلاة، ولا يخفى عليك أنها رويت من طرق يشد بعضها بعضا، وضيق تلك الحالة لا يمنع من إيقاع الصلاة، فأنها لو ضاقت عن الصلاة لكان ضيقها عن الدفن أولى، ودعوى الاضطراب غير قادحة، لان جميع الطرق قد أثبتت الصلاة وهي محل النزاع، ودعوى أن الاصل عدم الصلاة مسلمة قبل ورود الشرع، وأما بعد وروده فالاصل الصلاة على مطلق الميت والتخصيص ممنوع، وأيضا أحاديث الصلاة قد شد من عضدها كونها مثبتة، والاثبات مقدم على النفي، وهذا مرجح معتبر، والقدح في اعتباره في المقام يبعد غفلة الصحابة عن إيقاع الصلاة على أولئك الشهداء معارض بمثله، وهو بعد غفلة الصحابة عن الترك الواقع على خلاف ما كان ثابتا عنه صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة على الاموات، فكيف يرجح ناقلة وهو أقل عددا من نقله الاثبات الذي هو مظنة الغفول عنه لكونه واقعا على مقتضى عادته صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة على مطلق الميت، ومن مرجحات الاثبات الخاصة بهذا المقام أنه لم يرو النفي إلا أنس وجابر، وأنس عند تلك الواقعة من صغار الصبيان، وجابر قد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على حمزة وكذلك أنس كما تقدم، فقد وافقا غيرهما في وقوع مطلق الصلاة على الشهيد في تلك الواقعة، ويبعد كل البعد أن يخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصلاته حمزة لمزية القرابة ويدع بقية الشهداء، ومع هذا فلو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل عليهم حال الواقعة وتركنا جميع هذه المرجحات لكانت صلاته عليهم بعد ذلك مفيدة للمطلوب لانها كالاستدراك لما فات مع اشتمالها على فائدة أخرى، وهي أن الصلاة على الشهيد لا ينبغي أن تترك بحال، وإن طالت المدة وتراخت إلى غاية بعيدة. وأما حديث أبي سلام فلم أقف للمانعين من الصلاة على جواب عليه، وهو أدلة المثبتين لانه قتل في المعركة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسماه شهيدا وصلى عليه، نعم لو كان النفي علما غير مقيد بوقعة أحد، ولم يرد في الاثبات غير هذا الحديث لكان مختصا بمن قتل على مثل صفته. واعلم أنه قد اختلف في الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله
[ 82 ]
والصلاة عليه هل هو مختص بمن قتل في المعركة أو أعم من ذلك، فعند الشافعي أن المراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار، وخرج بقوله في المعركة من جرح في المعركة وعاش بعد ذلك حياة مستقرة، وخرج بحرب الكفار من مات في قتال المسلمين كأهل البغي، وخرج بجميع ذلك من يسمى شهيدا بسبب غير السبب المذكور، ولا خلاف أن من جمع هذه القيود شهيد، وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن من جرح في المعركة، أن من مات قبل الارتثاث فشهيد، والارتثاث أن يحمل ويأكل أو يشرب أو يوصي أو يبقى في المعركة يوما وليلة حيا، وذهبت الهادوية إلى أن من جرح في المعركة يقال له شهيد وإن مات بعد الارتثاث، وأما من قتل مدافعا عن نفس أو مال أو في الممر ظلما فقال أبو حنيفة وأبو يوسف والهادوية إنه شهيد. وقال الامام يحيى والشافعي: إنه قيل له شهيد فليس من الشهداء الذين لا يغسلون. وذهبت العترة والحنفية والشافعي في قول له: إن قتيل البغاة شهيد قالوا: إذ لم يغسل علي أصحابه وهو توقيف. (فائدة) لم يرد في شئ من الاحاديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على شهداء بدر ولا أنه لم يصل عليهم. وكذلك في شهداء سائر المشاهد النبوية؟ إلا ما ذكرنا في هذا البحث فليعلم ذلك. باب الصلاة على السقط والطفل عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها، والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة رواه أحمد وأبو داود وقال فيه: والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها ويسارها قريبا منها وفي رواية: الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها والطفل يصلى عليه رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصححه والحاكم وقال على شرط البخاري بلفظ: السقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة. وأخرجه بهذا اللفظ الترمذي وصححه، ولكن رواه الطبراني موقوفا على المغيرة، ورجح الدارقطني في
[ 83 ]
العلل الموقوف. (وفي الباب) عن علي عند ابن عدي وفي إسناده عمرو بن خالد وهو متروك. وعن ابن عباس عنده أيضا من رواية شريك، عن أبي إسحاق، عن عطاء عنه، وقواه ابن طاهر في الذخيرة، وقد ذكره البخاري من قول الزهري تعليقا ووصله ابن أبي شيبة. وعن أبي هريرة عند ابن ماجة يرفعه بلفظ: صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم وإسناده ضعيف. قوله: الراكب خلف الجنازة أي يمشي، وسيأتي الكلام على المشي مع الجنازة. قوله: والسقط يصلى عليه فيه دليل على مشروعية الصلاة على السقط، وإليه ذهبت العترة والفقهاء، ولكنها إنما تشرع الصلاة عليه إذا كان قد استهل، والاستهلال الصياح أو العطاس أو حركة يعلم بها حياة الطفل. وقد أخرج البزار عن ابن عمر مرفوعا: استهلال الصبي العطاس قال الحافظ: وإسناده ضعيف. ويدل على اعتبار الاستهلال حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي بلفظ: إذا استهل السقط صلي عليه وورث وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي عن أبي الزبير عنه وهو ضعيف، قال الترمذي: رواه أشعث بن سوار وغير واحد عن أبي الزبير عن جابر. ورواه النسائي أيضا، وابن حبان في صحيحه، والحاكم من طريق إسحاق الازرق عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر وصححه الحاكم على شرط الشيخين قال الحافظ: ووهم لان أبا الزبير ليس من شرط البخاري وقد عنعن فهو علة هذا الخبر إن كان محفوظا عن سفيان، قال: ورواه الحاكم أيضا من طريق المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير مرفوعا وقال: لا أعلم أحدا رفعه عن أبي الزبير غير المغيرة، وقد وقفه ابن جريج وغيره، وروي أيضا من طريق بقية عن الاوزاعي عن أبي الزبير مرفوعا. وقال الشافعي: إنما يغسل لاربعة أشهر، إذ يكتب في الاربعين الرابعة رزقه وأجله وإنما ذلك للحي. وقد رجح المصنف رحمه الله تعالى هذا واستدل له فقال قلت: وإنما يصلى عليه إذا نفخت فيه الروح وهو أن يستكمل أربعة أشهر، فأما إن سقط لدونها فلا لانه ليس بميت إذ لم ينفخ فيه روح وأصل ذلك حديث ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح
[ 84 ]
متفق عليه اه. ومحل الخلاف فيمن سقط بعد أربعة أشهر ولم يستهل. وظاهر حديث الاستهلال أنه لا يصلى عليه وهو الحق، لان الاستهلال يدل على وجود الحياة قبل خروج السقط، كما يدل على وجودها بعده، فاعتبار الاستهلال من الشارع دليل على أن الحياة بعد الخروج من البطن معتبرة في مشروعية الصلاة على الطفل، وأنه لا يكتفي بمجرد العلم بحياته في البطن فقط. باب ترك الامام الصلاة على الغال وقاتل نفسه عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلا من المسلمين توفي بخيبر وأنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه القوم لذلك، فلما رأى الذي بهم قال: إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود ما يساوي درهمين رواه الخمسة إلا الترمذي. وعن جابر بن سمرة: أن رجلا قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه الجماعة إلا البخاري. الحديث الاول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح. قوله: فقال صلوا على صاحبكم فيه جواز الصلاة على العصاة، وأما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة عليه فلعله للزجر عن الغلول، كما امتنع من الصلاة على المديون وأمرهم بالصلاة عليه. قوله: ففتشنا متاعه الخ، فيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاخباره بذلك وانكشاف الامر كما قال. قوله: ما يساوي درهمين فيه دليل على تحريم الغلول وإن كان شيئا حقيرا، وقد ورد في الوعيد عليه أحاديث كثيرة ليس هذا محل بسطها. قوله: بمشاقص جمع مشقص كمنبر نصل عريض أو سهم فيه ذلك، والنصل الطويل أو سهم فيه ذلك يرمى به الوحش، كذا في القاموس. قوله: فلم يصل عليه فيه دليل لمن قال: إنه لا يصلى على الفاسق وهم العترة وعمر بن عبد العزيز والاوزاعي فقالوا: لا يصلى على الفاسق تصريحا أو تأويلا، ووافقهم أبو حنيفة وأصحابه في الباغي والمحارب، وافقهم الشافعي في قول له في قاطع الطريق، وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء إلى أنه يصلى على الفاسق، وأجابوا
[ 85 ]
عن حديث جابر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لم يصل عليه بنفسه زجرا للناس وصلت عليه الصحابة. ويؤيد ذلك ما عند النسائي بلفظ: أما أنا فلا أصلي عليه وأيضا مجرد الترك لو فرض أنه لم يصل عليه هو ولا غيره لا يدل على الحرمة المدعاة. ويدل على الصلاة على الفاسق حديث: صلوا على من قال: لا إله إلا الله وقد تقدم الكلام عليه في باب ما جاء في إمامة الفاسق من أبواب الجماعة. باب الصلاة على من قتل في حد عن جابر: أن رجمن أسلم جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع مرات فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: أحصنت؟ قال: نعم فأمر به فرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة فر، فأدرك فرجم حتى مات، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيرا وصلى عليه رواه البخاري في صحيحه، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وقالوا: ولم يصل عليه ورواية الاثبات أولى، وقد صح عنه عليه السلام أنه صلى على الغامدية، وقال الامام أحمد: ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه. حديث جابر أخرجه البخاري باللفظ الذي ذكره المصنف عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عنه وقال: لم يقل يونس وابن جريج عن الزهري وصلى عليه، وعلل بعضهم هذه الزيادة أعني قوله: فصلى عليه بأن محمد بن يحيى لم يذكرها وهو أضبط من محمود بن غيلان قال: وتابع محمد بن يحيى نوح بن حبيب، وقال غيره: كذا روي عن عبد الرزاق والحسن بن علي ومحمد بن المتوكل ولم يذكروا الزيادة وقال: ما أرى مسلما ترك حديث محمود بن غيلان إلا لمخالفة هؤلاء، وقد خالف محمودا أيضا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه، وحميد بن زنجويه، وأحمد بن منصور الرمادي، وإسحاق بن إبراهيم الديري، فهؤلاء ثمانية من أصحاب عبد الرزاق خالفوا محمودا، وفيهم هؤلاء الحفاظ إسحاق بن راهويه، ومحمد بن يحيى الذهلي، وحميد بن زنجويه وقد أخرجه مسلم
[ 86 ]
في صحيحه عن إسحاق عن عبد الرزاق ولم يذكر لفظه، غير أنه قال نحو رواية عقيل. وحديث عقيل الذي أشار إليه ليس فيه ذكر الصلاة. وقال البيهقي: ورواه البخاري عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق إلا أنه قال: فصلى عليه وهو خطأ لاجماع أصحاب عبد الرزاق على خلافه، ثم إجماع أصحاب الزهري على خلافه انتهى. وعلى هذا تكون زيادة. قوله: وصلى عشاذة، ولكنه قد تقرر في الاصول أن زيادة الثقة إذا وقعت غير منافية كان‍ ت مقبولة وهي ههنا كذلك، باعتبار رواية الجماعة المذكورين لاصل الحديث، وأما باعتبار ما وقع عند أحمد وأهل السنن من أنه لم يصل عليه فرواية الصلاة أرجح من جهات، الاولى: كونها في الصحيح. الثانية: كونها مثبتة الثالثة: كونها معتضدة بما أخرجه مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عمران بن حصين: أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إنها قد زنت وهي حبلى، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليها فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحسن إليها فإذا وضعت فجئ بها فلما وضعت جابها فأمر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها، الحديث. وبما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث بريدة أن امرأة من غامد أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر نحو حديث عمران وقال: فأمر بها فصلى عليها الحديث، وبما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم امرأة وفيه فلما طفئت أخرجها فصلى عليها وفي إسناده مجهول، ومن المرجحات أيضا الاجتماع على الصلاة على المرجوم، قال النووي: قال القاضي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا اه. ويتعقب بأن الزهري يقول: لا يصلى على المرجوم، وقتادة يقول: لا يصلى على ولد الزنا، وأما قاتل نفسه فقد تقدم الخلاف فيه. (ومن جملة) المرجحات ما حكاه المصنف عن أحمد أنه قال: ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك الصلاة على أحد إلا الغال وقاتل نفسه. وأما ما أخرجه أبو داود من حديث أبي برزة الاسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على ماعز ولم ينه عن الصلاة عليه ففي إسناده مجاهيل،
[ 87 ]
وبقية الكلام على حديث ماعز والغامدية يأتي إن شاء الله في الحدود، وهذا المقدار هو الذي تدعو إليه الحاجة في المقام. الصلاة على الغائب بالنية وعلى القبر إلى شهر عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه أربعا. وفي لفظ قال: توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلموا فصلوا عليه، فصففنا خلفه فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه ونحن صفوف متفق عليهما. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات. رواه الجماعة. وفي لفظ: نعى النجاشي لاصحابه ثم قال: استغفروا له، ثم خرج بأصحابه إلى المصلى ثم قام فصلى بهم كما يصلى على الجنازة رواه أحمد. وعن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه، قال: فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت، وصلينا عليه كما يصلى على الميت رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. قوله: على أصحمة قال في الفتح: وقع في جميع الروايات التي اتصلت بنا من طريق البخاري أصحمة بمهملتين بوزن أفعله مفتوح العين. ووقع في مصنف ابن أبي شيبة صحمة بفتح الصاد وسكون الحاء، وحكى الاسماعيلي أن في رواية عبد الصمد أصخمة بخاء معجمة وإثبات الالف، قال: وهو غلط، وحكى الكرماني أن في بعض النسخ صحبة بالموحدة بدل الميم انتهى. وهو اسم النجاشي. قال ابن قتيبة وغيره: ومعناه بالعربية عطية، والنجاشي بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الالف شين معجمة ثم ياء كياء النسب، وقيل بالتخفيف، ورجحه الصغاني لقب لمن ملك الحبشة، وحكى المطرزي تشديد الجيم عن بعضهم وخطأه. قال المطرزي وابن خالويه وآخرون: أن كل من ملك المسلمين يقال له أمير المؤمنين، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الروم قيصر، ومن ملك الفرس كسرى، ومن ملك الترك خاقان، ومن ملك القبط فرعون، ومن ملك مصر
[ 88 ]
العزيز، ومن ملك اليمن تبع، ومن ملك حمير القيل، بفتح القاف، وقيل: أقل درجة من الملك. قوله: فكبر عليه أربعا فيه دليل على أن المشروع في تكبير الجنازة أربع، وسيأتي الكلام في ذلك. قوله: وخرج بهم إلى المصلى تمسك به من قال بكراهة صلاة الجنازة في المسجد، وسيأتي البحث في ذلك، وقد استدل بهذه القصة القائلون بمشروعية الصلاة على الغائب عن البلد، قال في الفتح: وبذلك قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. قال الشافعي: الصلاة على الميت دعاء له، فكيف لا يدعى له وهو غائب أو في القبر؟ وذهبت الحنفية والمالكية وحكاه في البحر عن العترة أنها لا تشرع الصلاة على الغائب مطلقا، قال الحافظ وعن بعض أهل العلم: إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه أو ما قرب منه لا إذا طالت المدة، حكاه ابن عبد البر، وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة، قال المحب الطبري: لم أر ذلك لغيره، واعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن هذه القصة بأعذار منها أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد، ومن ثم قال الخطابي: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس فيها من يصلي عليه، واستحسنه الروياني وترجم بذلك أبو داود في السنن فقال: باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر، قال الحافظ: وهذا محتمل إلا أنني لم أقف في شئ من الاخبار أنه لم يصل عليه في بلده أحد انتهى. وممن اختار هذا التفصيل شيخ الاسلام ابن تيمية حفيد المصنف والمحقق المقبلي، واستدل له بما أخرجه الطيالسي وأحمد وابن ماجة وابن قانع والطبراني والضياء المقدسي. وعن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أخاكم مات بغير أرضكم فقوموا فصلوا عليه. ومن الاعذار قولهم إنه كشف له صلى الله عليه وآله وسلم حتى رآه فيكون حكمه حكم الحاضر بين يدي الامام الذي لا يراه المؤتمون، ولا خلاف في جواز الصلاة على من كان كذلك. قال ابن دقيق العيد: هذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال، وتعقبه بعض الحنفية بأن الاحتمال كاف في مثله، هذا من جهة المانع. قال الحافظ: وكأن مستند القائل بذلك ما ذكره الواحدي في أسباب النزول بغير إسناد عن ابن عباس قال: كشف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه. ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقاموا وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه ولابي عوانة من طريق أبان وغيره عن يحيى: فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن
[ 89 ]
الجنازة قدامنا. ومن الاعذار أن ذلك خاص بالنجاشي، لانه لم يثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على ميت غائب غيره، وتعقب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على معاوية بن معاوية الليثي وهو مات بالمدينة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذ ذاك بتبوك، ذكر ذلك في الاستيعاب. وروي أيضا عن أبي أمامة الباهلي مثل هذه القصة في حق معاوية بن مقرن، وأخرج مثلها أيضا عن أنس في ترجمة معاوية بن معاوية المزني ثم قال بعد ذلك: أسانيد هذه الاحاديث ليست بالقوية ولو أنها في الاحكام لم يكن شئ منها حجة وقال الحافظ في الفتح متعقبا لمن قال إنه لم يصل على غير النجاشي قال: وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثي، وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قوي بالنظر إلى مجموع طرقه انتهى. وقال الذهبي: لا نعلم في الصحابة معاوية بن معاوية، وكذلك تكلم فيه البخاري. وقال ابن القيم، لا يصح حديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على معاوية بن معاوية: لان في إسناده العلاء بن يزيد، قال ابن المديني: كان يضع الحديث، وقال النووي مجيبا على من قال بأن ذلك خاص بالنجاشي أنه لو فتح با ب هذا الخصوص لا نسد كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شئ مما ذكروه لتوفرت الدواعي إلى نقله. وقال ابن العربي: قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد، قلنا: وما عمل به محمد تعمل به أمته، يعني لان الاصل عدم الخصوص، قالوا: طويت له الارض وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربنا عليه لقادر، وإن نبينا لاهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم، ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم، ولا تحدثوا إلا بالثابتات، ودعوا الضعاف فإنه سبيل إتلاف إلى ما ليس له تلاف. وقال الكرماني: قولهم رفع الحجاب عنه ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا عن الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (والحاصل) أنه لم يأت المانعون من الصلاة على الغائب بشئ يعتد به سوى الاعتذار بأن ذلك مختص بمكان في أرض لا يصلى عليه فيها، وهو أيضا جمود على قصة النجاشي يدفعه الاثر والنظر. وعن ابن عباس قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعا. وعن أبي هريرة: أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا ففقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 90 ]
فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات، قال: أفلا آذنتموني؟ قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره فقال: دلوني على قبره فدلوه فصلى عليها ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وأن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم متفق عليهما، وليس للبخاري: إن هذه القبور مملوءة ظلمة إلى آخر الخبر. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قبر بعد شهر. وعنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على ميت بعد ثلاث رواهما الدارقطني. وعن سعيد بن المسيب: أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم غائب، فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر رواه الترمذي. حديث ابن عباس الآخر أخرج الدارقطني الرواية الاولى منه من طريق بشر بن آدم عن أبي عاصم عن سفيان الثوري عن الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس. وأخرجه أيضا البيهقي، وأخرج الثانية من طريق سفيان عن الشيباني به. ووقع في الاوسط للطبراني من طريق محمد بن الصباح الدولابي عن إسماعيل بن زكريا عن الشيباني به أنه صلى بعد دفنه بليلتين. وحديث سعيد بن المسيب أخرجه البيهقي. قال الحافظ: وإسناده مرسل صحيح. وقد رواه البيهقي عن ابن عباس وفي إسناده سويد بن سعيد. (وفي الباب) عن أبي هريرة عند الشيخين بنحو حديث الباب. وعن أنس عند البزار نحوه. وعن أبي أمامة بن سهل عند مالك في الموطأ نحوه أيضا. وعن زيد بن ثابت عند أحمد والنسائي نحوه أيضا. وعن أبي سعيد عند ابن ماجة وفي إسناده ابن لهيعة. وعن عقبة بن عامر البخاري وعن عمران بن حصين عند الطبراني في الاوسط وعن ابن عمر عنده أيضا. وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة عند النسائي. وعن أبي قتادة عند البيهقي أنه صلى الله عليه وآله وسلم على قبر البراء. وفي رواية بعد شهر. قال حرب الكرماني. (وفي الباب) أيضا عن عامر بن ربيعة وعبادة وبريدة بن الحصيب. قوله: إلى قبر رطب أي لم ييبس ترابه لقرب وقت الدفن فيه. قوله: وكبر أربعا فيه أن المشروع في تكبير صلاة الجنازة أربع وسيأتي. قوله: أن امرأة سوداء سماها البيهقي أم محجن، وذكر ابن منده في الصحابة خرقاء اسم امرأة سوداء كانت تقم المسجد، فيمكن أن يكون اسمها خرقاء وكنيتها أم محجن. قوله: أو شابا هكذا وقع الشك في ألفاظ
[ 91 ]
الحديث. وفي حديث أبي هريرة الجزم بأن صاحبة القصة امرأة، وجزم بذلك ابن خزيمة في روايته لحديث أبي هريرة. قوله: كانت تقم بضم القاف أي تجمع القمامة وهي الكناسة. قوله: ثم قال إن هذه القبور مملوءة ظلمة الخ، احتج بهذه الرواية من قال بعدم مشروعية الصلاة على القبر وهو النخعي ومالك وأبو حنيفة والهادوية قالوا: إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: وأن الله ينورهم بصلاتي عليهم، يدل على أن ذلك من خصائصه، وتعقب ذلك ابن حبان فقال في ترك إنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب هذا التعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينتهض دليلا للاصالة. (ومن جملة) ما أجاب به الجمهور عن هذه الزيادة أنها مدرجة في هذا الاسناد، وهي من مراسيل ثابت بين ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد، قال الحافظ: وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتاب بيان المدرج. قال البيهقي: يغلب على الظن أن هذه الزيادة من مراسيل ثابت كما قال أحمد انتهى. وقد عرفت غير مرة أن الاختصاص لا يثبت إلا بدليل ومجرد كون الله ينور القبور بصلاته صلى الله عليه وآله وسلم على أهلها، لا ينفي مشروعية الصلاة على القبر لغيره، لاسيما بعد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي وهذا باعتبار من كان قد صلى عليه قبل الدفن، وأما من لم يصل عليه ففرض الصلاة عليه الثابت بالادلة وإجماع الامة باق، وجعل الدفن مسقطا لهذا الفرض محتاج إلى دليل، وقد قال بمشروعية الصلاة على القبر الجمهور كما قال ابن المنذر، وبه قال الناصر من أهل البيت. وقد استدل بحديث الباب على رد قول من فصل فقال: يصلى على قبر من ليكن قد صلى عليه قبل الدفن، لا من كان قد صلى عليه، لان القصة وردت فيمن قد صلى عليه، والمفصل هو بعض المانعين الذين تقدم ذكرهم، واختلفوا في أمد ذلك فقيده بعضهم إلى شهر وقيل: ما لم يبل الجسد. وقيل: يجوز أبدا. وقيل: إلى اليوم الثالث. وقيل: إلى أن يترب. (ومن جملة) ما اعتذر به المانعون من الصلاة على القبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما فعل ذلك حيث صلى من ليس بأولى بالصلاة مع إمكان صلاة الاولى، وهذا تمحل لا ترد بمثله هذه السنة، لاسيما مع ما تقدم من صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على البراء بن معرور، مع أنه مات والنبي صلى الله عليه وآله وسلم غائب في مكة قبل الهجرة، وكان ذلك
[ 92 ]
بعد موته بشهر. وعلى أم سعد وكان أيضا عند موتها غائبا وعلى غيرهما. باب فضل الصلاة على الميت وما يرجى له بكثرة الجمع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين متفق عليه. ولاحمد ومسلم: حتى توضع في اللحد بدل تدفن وفيه دليل فضيلة اللحد على الشق. وفي الباب عن عائشة عند البخاري. وعن ثوبان عند مسلم. وعن عبد الله بن مغفل عند النسائي. وعن أبي سعيد عند أحمد، وعن ابن مسعود عند أبي عوانة قال الحافظ: وأسانيده هذه صحاح. وعن أبي بن كعب عن ابن ماجة. وعن ابن مسعود عند البيهقي في الشعب وأبي عوانة. وعن أنس عند الطبراني في الاوسط وعن واثلة بن الاسقع عند ابن عدي. وعن حفصة عند حميد بن زنجويه في فضائل الاعمال. قال الحافظ: وفي كل من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف. قوله: من شهد في رواية للبخاري: من شيع. وفي أخرى له: من تبع. وفي رواية لمسلم: من خرج مع جنازة من بيتها ثم تبعها حتى تدفن فينبغي أن تكون هذه الرواية مقيدة لبقية الروايات، فالتشييع والشهادة والاتباع يعتبر في كونها محصلة للاجر المذكور في الحديث أن يكون ابتداء الحضور من بيت الميت. ويدل على ذلك ما وقع في رواية لابي هريرة عند البزار بلفظ: من أهلها وما عند أحمد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: فمشى معها من أهلها ومقتضاه أن القيراط يختص بمن حضر من أول الامر إلى انقضاء الصلاة، وبذلك جزم الطبري. قال الحافظ: والذي يظهر لي أن القيراط يحصل لمن صلى فقط، لان كل ما قبل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع وصلى واستدل بما عند مسلم بلفظ: من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط وبما عند أحمد عن أبي هريرة: ومن صلى ولم يتبع فله قيراط فدل على أن الصلاة تحصل القيراط وإن لم يقع اتباع، قال: ويمكن أن يحمل الاتباع هنا على ما بعد الصلاة انتهى. وهكذا الخلاف في قيراط الدفن
[ 93 ]
هل يحصل بمجرد الدفن من دون اتباع أو لا بد منه. قوله: حتى يصلى عليه قال في الفتح: اللام للاكثر مفتوحة. وفي بعض الروايات بكسرها، ورواية الفتح محمولة عليها، فإن حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصل له انتهى. قال ابن المنير: إن القيراط لا يحصل إلا لمن اتبع وصلى، أو اتبع وشيع وحضر الدفن، لا لمن اتبع مثلا وشيع ثم انصرف بغير صلاة، وذلك لان الاتباع إنما هو وسيلة لاحد مقصودين: إما الصلاة وإما الدفن، فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المترتب على المقصود، وإن كان يترجى أن يحصل لذلك فضل ما يحتسب. وقد روى سعيد بن منصور عن مجاهد أنه قال: اتباع الجنازة أفضل النوافل، وفي رواية عبد الرزاق عنه، اتباع الجنازة أفضل من صلاة التطوع. قوله: فله قيراط بكسر القاف قال في الفتح: قال الجوهري: القيراط نصف دانق، وقال: والدانق سدس الدرهم فهو على هذا نصف سدس الدرهم كما قال ابن عقيل، وذكر القيراط تقريبا للفهم لما كان الانسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته، فضرب له المثل بما يعلم، ثم لما كان مقدار القيراط المتعارف حقيرا نبه على عظم القيراط الحاصل لمن فعل ذلك فقال مثل أحدكما في بعض الروايات، وفي أخرى أصغرهما مثل أحد. وفي حديث الباب مثل الجبلين العظيمين. قوله: ومن شهدها حتى تدفن ظاهره أن حصول القيرا متوقف على فراغ الدفن وهو أصح الاوجه عند الشافعية وغيرهم، وقيل: يحصل بمجرد الوضع في اللحد، وقيل: عند انتهاء الدفن قبل إهالة التراب. وقد وردت الاخبار بكل ذلك، فعند مسلم: حتى يفرغ منها. وعنده في أخرى: حتى توضع في اللحد. وعنده أيضا: حتى توضع في القبر وعند أحمد: حتى يقضى قضاؤها. وعند الترمذي: حتى يقضى دفنها. وعند أبي عوانة: حتى يسوى عليها أي التراب. وقيل: يحصل القيراط بكل من ذلك ولكن يتفاوت والظاهر أنها تحمل الروايات المطلقة عن الفراغ من الدفن وتسوية التراب بالمقيدة بهما. قوله: مثل الجبلين في رواية: مثل أحد. وفي رواية للنسائي: كل واحد منهما أعظم من أحد. وعند مسلم أصغرهما مثل أحد. وعند ابن عدي: أثقل من أحد. فأفادت هذه الرواية بيان وجه التمثيل بجبل أحد، وأن المراد به زنة الثواب المترتب على ذلك. قوله: حتى توضع في اللحد استدل به المصنف على أن اللحد أفضل من الشق، وسيأتي الكلام على ذلك.
[ 94 ]
وعن مالك بن هبيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من مؤمن يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له، فكان مالك بن هبيرة يتحرى إذا قل أهل الجنازة أن يجعلهم ثلاثة صفوف رواه الخمسة النسائي. وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه. وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أبيات من جيرانه الادنين إلا قال الله تعالى: قد قبلت علمهم فيه وغفرت له ما لا يعلمون رواه أحمد. حديث مالك بن هبيرة في إسناده محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد، عن مالك، وفيه مقال معروف إذا عنعن. وقد حسن الحديث الترمذي. وقال: رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق، وروى إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق هذا الحديث، وأدخل بين مرثد ومالك بن هبيرة رجلا، ورواية هؤلاء أصح عندنا، قال: وفي الباب عن عائشة وأم حبيبة وأبي هريرة، ثم ذكر حديث عائشة بنحو اللفظ الذي ذكره المصنف من طريق ابن أبي عمر عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب وعن أحمد بن منيع وعلي بن حجر، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة ثم قال: حسن صحيح، وقد وقفه بعضهم ولم يرفعه قال النووي: من رفعه ثقة وزيادة الثقة مقبولة. وحديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن ماجة. وحديث أنس أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعا. ولاحمد من حديث أبي هريرة نحوه وقال: ثلاثة بدل أربعة. وفي إسناده رجل لم يسم، وله شاهد من مراسيل بشير بن كعب، أخرجه أبو مسلم الكجي. قوله: يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف فيه دليل على أن من صلى عليه ثلاثة صفوف من المسلمين غفر له، وأقل ما يسمى صفا رجلان ولا حد لاكثره. قوله: يبلغون مائة فيه استحباب تكثير جماعة الجنازة، ويطلب
[ 95 ]
بلوغهم إلى هذا العدد الذي يكون من موجبات الفوز، وقد قيد ذلك بأمرين: الاول أن يكونوا شافعين فيه أي مخلصين له الدعاء سائلين له المغفرة. الثاني: أن يكونوا مسلمين ليس فيهم من يشرك بالله شيئا كما في حديث ابن عباس، قال القاضي: قيل هذه الاحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد عن سؤاله. قال النووي: ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به، ثم بقبول شفاعة أربعين فأخبر به، ثم ثلاثة صفوف وإن قل عددهم فأخبر به. قال: ويحتمل أيضا أن يقال هذا مفهوم عدد، ولا يحتج به جماهير الاصوليين، فلا يلزم من الاخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك، وكذا في الاربعين مع ثلاثة صفوف، وحينئذ كل الاحاديث معمول بها، وتحصل الشفاعة بأقل الامرين من ثلاثة صفوف وأربعين. قوله: أربعة أبيات ليس عند ابن حبان والحاكم لفظ أبيات، وفيه أن شهادة أربعة من جيران الميت من موجبات مغفرة الله تعالى له. ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري وغيره عن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة، فقلنا: واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد. قال الزين بن المنير: إنما لم يسأله عمر عن الواحد استعبادا منه أن يكتفي في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب. قال الداودي: المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفسقة، لانهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ولا من بينه وبين الميت عداوة، لان شهادة العدو لا تقبل وقد أخرج الشيخان وغيرهما من حديث أنس قال: مر بجنازة فاثنوا عليها خيرا فقال: وجبت، ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت، فقال عمر: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الارض هذا لفظ البخاري. وفي مسلم، وجبت وجبت وجبت ثلاثا في الموضعين. قال النووي قال بعضهم: معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل وكان ذلك. مطابقا للواقع فهو من أهل الجنة، فإن كان غير مطابق فلا وكذا عكسه. قالوا والصحيح أنه على عمومه، وأن من مات فألهم الله تعالى الناس الثناء عليه بخير كان دليلا على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، فإن الاعمال داخلة تحت المشيئة، وهذا الالهام يستدل
[ 96 ]
به على تعيينها، وبهذا تظهر فائدة الثناء انتهى. قال الحافظ: وهذا في جانب الخير واضح، وأما في جانب الشر فظاهر الاحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره، وقد وقع في رواية من حديث أنس المتقدم: إن لله عزوجل ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر. باب ما جاء في كراهة النعي عن ابن مسعود: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إياكم والنعي فإن النعي عمل الجاهلية. رواه الترمذي كذلك. ورواه موقوفا وذكر أنه أصح. وعن حذيفة أنه قال: إذا مت فلا تؤذنوا بي أحدا إني أخاف أن يكون نعيا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن النعي رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. [ رح 1417 ] وعن إبراهيم أنه قال: لا بأس إذا مات الرجل أن يؤذن صديقه وأصحابه إنما كان يكره أن يطاف في المجالس فيقال: أنعي فلانا فعل أهل الجاهلية رواه سعيد في سننه. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتذرفان، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له رواه أحمد والبخاري. حديث ابن مسعود في إسناده أبو حمزة ميمون الاعور، وليس بالقوي عند أهل الحديث. وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي وقفه كما قال المصنف وقال: إنه حديث غريب. وحديث حذيفة قال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، وكلام إبراهيم الذي رواه سعيد بن منصور هو من طريق ابن علية عن ابن عون قال: قلت لابراهيم: هل كانوا يكرهون النعي؟ قال: نعم، ثم ذكره. وروى أيضا سعيد بن منصور بهذا الاسناد إلى ابن سيرين أنه قال: لا أعلم بأسا أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه. قوله: إياكم والنعي النعي هو الاخبار بموت الميت كما في الصحاح والقاموس وغيرهما كتب اللغة، قال في القاموس: نعاه له نعيا ونعيا ونعيانا أخبره بموته. وفي النهاية نعى الميت نعيا إذا أذاع موته وأخبر به انتهى. فمدلول النعي لغة هو هذا، وإليه
[ 97 ]
يتوجه النهي لوجوب حمل كلام الشارع على مقتضى اللغة العربية عند عدم وجود اصطلاح له يخالفه. وقال في الفتح: إنما نهى عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، وكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والاسواق. وقال ابن المرابط: إن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح، وإن كان فيه إدخال الكرب والمصاب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمة لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته، وتهيئة أمره، والصلاة عليه، والدعاء له والاستغفار، وتنفيذ وصاياه، وما يترتب على ذلك من الاحكام انتهى. ويستدل لجواز مجرد الاعلام بحديث أنس المذكور في الباب فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بقتل الثلاثة الامراء المقتولين بموتة وقصتهم مشهورة وهم: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة. وبحديث أبي هرير: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه كما تقدم وقد بوب عليه البخاري باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه وبحديث أبي هريرة وغيره: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عند أن أخبر بموت السوداء أو الشاب الذي كان يقم المسجد: ألا آذنتموني وقد تقدم. وفي حديث ابن عباس: ما منعكم أن تعلموني؟ وقد بوب عليه البخاري باب الاذن بالجنازة. وبحديث الحصين بن وحوح، وقد تقدم في باب المبادرة إلى تجهيز الميت، فهذه الاحاديث تدل على أن مجرد الاعلام بالموت لا يكون نعيا محرما، وإن كان باعتبار اللغة مما يصدق عليه اسم النعي ما تقدم ويؤيد ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي وابن سيرين كما سلف. وقال ابن العربي، يؤخذ من مجموع الاحاديث ثلاث حالات، الاولى: إعلام الاهل والاصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة. والثانية: الدعوة للمفاخرة بالكثرة فهذا مكروه. الثالثة: الاعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فهذا يحرم انتهى. (فالحاصل) أن الاعلام للغسل والتكفين والصلاة والحمل والدفن مخصوص من عموم النهي، لان إعلام من لا تتم هذه الامور إلا مما وقع الاجماع على فعله في زمن النبوة وما بعده وما جاوز هذا المقدار فهو داخل تحت عموم النهي.
[ 98 ]
باب عدد تكبير صلاة الجنائز قد ثبت الاربع في رواية أبي هريرة وابن عباس وجابر. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا، وأنه كبر خمسا على جنازة فسألته فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكبرها رواه الجماعة إلا البخاري. حديث أبي هريرة وابن عباس وجابر تقدم في الصلاة على الغائب، وممن روى الاربع كما قال البيهقي: عقبة بن عامر، والبراء بن عازب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود. وروى ابن عبد البر في الاستذكار من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وسبعا وثمانيا حتى جاء موت النجاشي فخرج فكبر أربعا، ثم ثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أربع حتى توفاه الله تعالى. وكذا قال القاضي عياض. وأخرج الطبراني في الاوسط عن جابر مرفوعا: صلوا على موتاكم بالليل والنهار والصغير والكبير والدنئ والامير أربعا. وفي إسناده عمرو بن هشام البيروتي، تفرد به عن ابن لهيعة. وإلى مشروعية الاربع التكبيرات في الجنازة ذهب الجمهور، قال الترمذي: العمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغيرهم يرون التكبير على الجنازة أربع تكبيرات، وهو قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق انتهى. قال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم، إلى أن التكبير أربع انتهى. وقد اختلف السلف في ذلك، فروي عن زيد بن أرقم أنه كان يكبر خمسا كما في حديث الباب. وروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه صلى على جنازة رجل من بني أسد فكبر خمسا وروي أيضا عن ابن مسعود عن علي أنه كان يكبر على أهل بدر ستا، وعلى الصحابة خمسا، وعلى سائر الناس أربعا. وروي ذلك أيضا ابن أبي شيبة والطحاوي والدارقطني عن عبد خير عنه. وروى ابن المنذر أيضا بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كبر على جنازة ثلاثا. قال القاضي عياض: اختلفت الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع. قال ابن عبد البر: وانعقد الاجماع
[ 99 ]
بعد ذلك على أربع. وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالامصار على أربع على ما جاء في الاحاديث الصحيح وما سوى ذلك عندهم شذوذ لا يلتفت إليه وقال: لا نعلم أحدا من فقهاء الامصار يخمس إلا ابن أبي ليلى، وقال علي بن الجعد: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة، سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن عمر قال: كل ذلك قد كان أربعا وخمسا فاجتمعنا على أربع رواه البيهقي ورواه ابن عبد البر من وجه آخر عن شعبة. وروى البيهقي أيضا عن أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعا وخمسا وستا وسبعا، فجمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبر كل رجل منهم بما رأى، فجمعهم عمر على أربع تكبيرات. وروي أيضا من طريق إبراهيم النخعي أنه قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أبي مسعود فاجتمعوا على أن التكبير على الجنازة أربع. وروي أيضا بسنده إلى الشعبي قال: صلى ابن عمر على زيد بن عمر وأمه أم كلثوم بنت علي فكبر أربعا وخلفه ابن عباس والحسين بن علي وابن الحنفية. قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكبرها استدل به من قال: إن تكبير الجنازة خمس، وقد حكاه في البحر عن العترة جميعا، وأبي ذر، وزيد بن أرقم، وحذيفة، وابن عباس، ومحمد ابن الحنفية، وابن أبي ليلى، وحكاه في المبسوط عن أبي يوسف، وفي دعوى إجماع العترة نظر، لان صاحب الكافي حكى عن زيد بن علي القول بالاربع، واستدلوا أيضا بحديث حذيفة الآتي، وبما تقدم عن جماعة من الصحابة قالوا: والخمس زيادة يتحتم قبولها لعدم منافاتها، وأورد عليهم أنه كان يلزمكم الاخذ بأكثر من خمس لانها زيادة، وقد وردت كما أخرجه البيهقي عن أبي وائل وقد تقدم، ورجح الجمهور ما ذهبوا إليه من مشروعية الاربع بمرجحات أربعة، الاول أنها ثبتت من طريق جماعة من الصحابة أكثر عددا ممن روى منهم الخمس. الثاني أنها في الصحيحين. الثالث: أنه أجمع على العمل بها الصحابة كما تقدم. الرابع: أنها آخر ما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم، كما أخرج الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ. آخر: ما كبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجنائز أربع وفي إسناده الفرات بن سلمان. وقال الحاكم بعد ذكر الحديث ليس من شرط الكتاب. ورواه أيضا البيهقي بإسناد فيه النضر بن عبد الرحمن وهو ضعيف وقد تفرد به كما قال البيهقي.
[ 100 ]
قال الحافظ: وروي هذا اللفظ من وجوه أخر كلها ضعيفة. وقال الاثرم: رواه محمد بن معاوية النيسابوري عن أبي المليح عن ميمون بن مهران عن ابن عباس. وقد سألت أحمد عنه فقال: محمد هذا روى أحاديث موضوعة منها هذا واستعظمه. وقال: كان أبو المليح أتقى لله وأصح حديثا من أن يروي مثل هذا، وقال حرب عن أحمد: هذا الحديث إنما رواه محمد بن زياد الطحان وكان يضع الحديث. وقال ابن القيم قال أحمد: هذا كذب ليس له أصل اه. ورواه ابن الجوزي في الناسخ والمنسوخ من طريق ابن شاهين عن ابن عمر وفي إسناده زافر بن الحرث عن أبي العلاء عن ميمون بن مهران عنه. قال ابن الجوزي: وخالفه غيره ولا يثبت فيه شئ، ورواه الحرث بن أبي أسامة عن جعفر بن حمزة عن فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عمر بنحو، ويجاب عن الاول من هذه المرجحات، والثاني منها بأنه إنما يرجح بهما عند التعارض، ولا تعارض بين الاربع والخمس، لان الخمس مشتملة زيادة غير معارضة وعن الرابع بأنه لم يثبت، ولو ثبت لكان غير رافع للنزاع، لان اقتصاره على الاربع لا ينفي مشروعية الخمس بعد ثبوتها عنه، وغاية ما فيه جواز الامرين. نعم المرجح الثالث أعني إجماع الصحابة على الاربع هو الذي يعول عليه في مثل هذا المقام إن صح، وإلا كان الاخذ بالزيادة الخارجة من مخرج صحيح هو الراجح. وفي المسألة أقوال أخر: منها ما روي عن أحمد بن حنبل أنه لا ينقص عن أربع ولا يزاد على سبع. ومنها: ما روي عن بكر بن عبد الله المزني أنه لا ينقص عن ثلاث ولا يزاد على سبع ومنها: ما روي عن ابن مسعود أنه قال: التكبير تسع وسبع وخمس وأربع وكبر ما كبر الامام، روى ذلك جميعه ابن المنذر. ومنها: ما روي عن أنس أن تكبير الجنازة ثلاث، كما روى عنه ابن المنذر أنه قيل له: إن فلانا كبر ثلاثا، فقال: وهل التكبير إلا ثلاث؟ وروى عنه ابن أبي شيبة أنه كبر ثلاثا لم يزد عليها، وروى عنه عبد الرزاق أنه كبر على جنازة ثلاثا ثم انصرف ناسيا فقالوا له: يا ابا حمزة إنك كبرت ثلاثا، قال: فصفوا فصفوا فكبر الرابعة. وروى عنه البخاري تعليقا نحو ذلك، وجمع بين الروايات عنه الحافظ بأنه إما كان يرى الثلاث مجزئة والاربع أكمل منها، وإما بأن من أطلق عنه الثلاث لم يذكر الاولى لانها افتتاح الصلاة. وعن حذيفة: أنه صلى على جنازة فكبر خمسا ثم التفت فقال: ما نسيت ولا وهمت
[ 101 ]
ولكن كبرت كما كبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على جنازة فكبر خمسا رواه أحمد. وعن علي: أنه كبر على سهل بن حنيف ستا وقال: إنه شهد بدر رواه البخاري. وعن الحكم بن عتيبة، أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا رواه سعيد في سننه. حديث حذيفة ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري وهو متكلم عليه، والاثر المذكور عن علي هو في البخاري بلفظ: أنه كبر على سهل بن حنيف زاد البرقاني في مستخرجه: ستا وكذذكره البخاري في تاريخه وسعيد بن منصور. ورواه ابن أبي خيثمة من وجه آخر عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن مغفل فقال: خمسا. وروى البيهقي عنه أنه كبر على أبي قتادة سبعا وقال: إنه غلط، لان أبا قتادة عاش بعد ذلك، قال الحافظ: وهذه علة غير قادحة لانه قد قيل إن أبا قتادة مات في خلافة علي وهذا هو الراجح اه. وقول الحكم بن عتيبة أورده الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه، وقد تقدم الخلاف في عدد التكبير وما هو الراجح. وفي فعل على دليل على استحباب تخصيص من له فضيلة بإكثار التكبير عليه، وكذلك في رواية الحكم بن عتيبة عن السلف، وقد تقدم من فعله صلى الله عليه وآله وسلم بصلاته على حمزة ما يدل على ذلك. باب القراءة والصلاة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيها عن ابن عباس: أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنه من السنة رواه البخاري وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وقال فيه: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر فلما فرغ قال: سنة وحق. وعن أبي أمامة بن سهل: أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الامام يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الاولى سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، ولا يقرأ في شئ منهن ثم يسلم سرا في نفسه رواه الشافعي، في
[ 102 ]
مسنده. وعن فضالة بن أبي أمية قال: قرأ الذي صلى على أبي بكر وعمر بفاتحة الكتاب رواه البخاري في تاريخه. حديث عباس أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم. وحديث أبي أمامة بن سهل في إسناده مطرف، ولكنه قد قواه البيهقي بما رواه في المعرفة من طريق عبد الله بن أبي زياد الرصافي عن الزهري بمعناه وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر، وأخرجه أيضا النسائي وعبد الرزاق، قال في الفتح: وإسناده صحيح وليس فيه قوله: بعد التكبيرة ولا قوله: ثم يسلم سرا في نفسه ولكنه أخرج الحاكم نحوها. (وفي الباب) عن ابن عباس حديث آخر عند الترمذي وابن ماجة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب وفي إسناده إبراهيم بن عثمان أبو شيبة الواسطي وهو ضعيف جدا، وقال الترمذي: لا يصح هذا عن ابن عباس، والصحيح عنه قوله: من السنة وعن أم شريك عند ابن ماجة قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرأعلى الجنازة بفاتحة الكتاب. وفي إسناده ضعف يسير كما قال الحافظ. وعن ابن عباس حديث آخر أيضا عند الحاكم: أنه صلى على جنازة بالابواء فكبر ثم قرأ الفاتحة رافعا صوته، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: اللهم هذا عبدك وابن عبديك أصبح فقيرا إلى رحمتك فأنت غني عن عذابه، إن كان زاكيا فزكه وإن كان مخطئا فاغفر له اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده، ثم كبر ثلاث تكبيرات ثم انصرف فقال: أيها الناس إن لم أقرأ عليها أي جهرا إلا لتعلموا أنه سنة وفي إسناده شرحبيل بن سعد وهو مختلف في توثيقه. وعن جابر عند النسائي في المجتبى والحاكم والشافعي وأبي يعلى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ فيها بأم القرآن وفي إسناده الشافعي والحاكم إبراهيم بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل. وعن محمد بن مسلمة عند ابن أبي حاتم في العلل أنه قال: السنة على الجنائز أن يكبر الامام ثم يقرأ أم القرآن في نفسه، ثم يدعو ويخلص الدعاء للميت، ثم يكبر ثلاثا ثم يسلم وينصرف، ويفعل من وراءه ذلك. وقال: سألت أبي عنه فقال: هذا خطأ إنما هو حبيب بن مسلمة. قال الحافظ: حديث حبيب في المستدرك من طريق الزهري عن أبي أمامة
[ 103 ]
بن سهل باللفظ السابق. قوله: لتعلموا أنه من السنة فيه وفي بقية أحاديث الباب دليل على مشروعية قراء فاتحة الكتاب في صلاة الجنازة، وقد حكى ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور بن مخرمة، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وبه قال الهادي والقاسم والمؤيد بالله، ونقل ابن المنذر أيضا عن أبي هريرة وابن عمر أنه ليس فيها قراءة وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين، وإليه ذهب زيد بن علي والناصر، وأحاديث الباب ترد عليهم. (واختلف الاولون) هل قراءة الفاتحة واجبة أم لا؟ فذهب إلى الاول الشافعي وأحمد وغيرهما، واستدلوا بحديث أم شريك المتقدم، وبالاحاديث المتقدمة في كتاب الصلاة، كحديث: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. ونحوه، وصلاة الجنازة صلاة وهو الحق. قوله: وسورة فيه مشروعية قراءة سورة مع الفاتحة في صلاة الجنازة، ولا محيص عن المصير إلى ذلك، لانها زيادة خارجة من مخرج صحيح. ويؤيد وجوب قراءة السورة في صلاة الجنازة الاحاديث المتقدمة في باب وجوب قراءة الفاتحة من كتاب الصلاة فإنها ظاهرة في كل صلاة. قوله: وجهر فيه دليل على الجهر في قراءة صلاة الجنازة، وقال بعض أصحاب الشافعي: إنه يجهر بالليل كالليلية، وذهب الجمهور إلى أنه لا يستحب الجهر في صلاة الجنازة وتمسكوا بقول ابن عباس المتقدم: لم أقرأ أي جهرا إلا لتعلموا أنه سنة. وبقوله في حديث أبي أمامة سرا في نفسه. قوله: بعد التكبيرة الاولى فيه بيان محل قراءة الفاتحة، وقد أخرج الشافعي والحاكم عن جابر مرفوعا بلفظ: وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الاولى وفي إسناده إبراهيم بن محمد وهو ضعيف جدا وقد صرح العراقي في شرح الترمذي بأن إسناده حديث جابر ضعيف. قوله: ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة، ويؤيد ذلك الاحاديث المتقدمة في الصلاة كحديث: لا صلاة لمن لم يصل علي ونحوه وروى إسماعيل القاضي في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبي إمامة أنه قال: إن السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب ويصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت حتى يفرغ ولا يقرأ إلا مرة ثم يسلم. وأخرجه ابن الجارود في المنتقى، قال الحافظ: ورجاله مخرج لهم في الصحيحين. قوله: ثم يسلم سرا في نفسه فيه دليل على مشروعية السلام في صلاة الجنازة والاسرار به وهو مجمع عليه ذلك في البحر،
[ 104 ]
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال: ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعلهن تركهن الناس إحداهن التسليم على الجنائز مثل التسليم في الصلاة. وله أيضا نحوه عن عبد الله بن أبي أوفى، فحصل من الاحاديث المذكورة في الباب أن المشروع في صلاة الجنازة قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الاولى وقراءة سورة، وتكون أيضا بعد التكبيرة الاولى مع الفاتحة لقوله في حديث أبي أمامة بن سهل: ويخلص الدعاء للميت في التكبيرات ولا يقرأ في شئ منهن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد ما يدل على تعيين موضعها، والظاهر أنها تفعل بعد القراءة، ثم يكبر بقية التكبيرات، ويستكثر من الدعاء بينهن للميت مخلصا له، ولا يشتغل بشئ من الاستحسانات التي وقعت في كتب الفقه فإنه لا مستند لها إلا التخيلات، ثم بعد فراغه من التكبير والدعاء المأثور يسلم، وقد اختلف في مشروعية الرفع عند كل تكبيرة، فذهب الشافعي إلى أنه يشرع مع كل تكبيرة. وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وسالم بن عبد الله، وقيس بن أبي حازم، والزهري، والاوزاعي، وأحمد، وإسحاق، واختاره ابن المنذر، وقا الثوري وأبو حنيفة وأصحاب الرأي: أنه لا يرفع عند سائر التكبيرات بل عند الاولفقط. وعن مالك ثلاث روايات، الرفع في الجميع، وفي الاولى فقط، وعدمه في كلها، وقالت العترة، بمنعه في كلها. (احتج الاولون) بما أخرجه البيهقي عن ابن عمر قال الحافظ: بسند صحيح، وعلقه البخاري ووصله في جزء رفع اليدين أنه كان يرفع يديه في جميع تكبيرات الجنازة ورواه الطبراني في الاوسط في ترجمة موسى بن عيسى مرفوعا وقال: لم يروه عن نافع إلا عبد الله بن محرر، تفرد به عباد بن صهيب، قال في التلخيص: وهما ضعيفان، ورواه الدارقطني من طريق يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن نافع عنه مرفوعا، لكن قال في العلل: تفرد به برفعه عمر بن شبة عن يزيد بن هارون ورواه الجماعة عن يزيد موقوفا وهو الصواب، وروى الشافعي عمن سمع سلمة بن وردان يذكر عن أنس أنه كان يرفع يديه كلما كبر على الجنازة. وروى أيضا الشافعي عن عروة وابن المسيب مثل ذلك قال: وعلى ذلك أدركنا أهل العلم ببلدنا. (واحتج القائلون) بأنه لا يرفع يديه إلا عند تكبيرة الافتتاح بما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس وأبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى على جنازة رفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود. قال الحافظ:
[ 105 ]
ولا يصح فيه شئ، وقد صح عن ابن عباس أنه كان يرفع يديه في تكبيرات الجنازة، رواه سعيد بن منصور اه. واحتجوا أيضا بما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر على جنازة فرفع يديه في أول تكبيرة ووضع اليمنى على اليسرى وقال: غريب وفي إسناده يزيد بن سنان الرهاوي وهو ضعيف عند أهل الحديث. والحاصل أنه لم يثبت في غير التكبيرة الاولى شئ يصلح للاحتجاج به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأفعال الصحابة وأقوالهم لا حجة فيها، فينبغي أن يقتصر على الرفع عند تكبيرة الاحرام، لانه لم يشرع في غيرها إلا عند الانتقال من ركن إلى ركن كما في سائر الصلوات، ولا انتقال في صلاة الجنازة. باب الدعاء للميت وما ورد فيه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء رواه أبو داود وابن ماجة. وعن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى على جنازة قال: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الاسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الايمان رواه أحمد والترمذي ورواه أبو داود وابن ماجة وزاد: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده. الحديث الاول أخرجه أيضا ابن حبان وصححه والبيهقي، وفي إسناده ابن إسحاق وقد عنعن، ولكن أخرجه ابن حبان من طريق أخرى عنه مصرحا بالسماع. والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم وقال: وله شاهد صحيح من حديث عائشة نحوه. وأخرج هذا الشاهد الترمذي وأعله بعكرمة بن عمار، وفي إسناد حديث الباب يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال أبو حاتم: الحفاظ لا يذكرون أبا هريرة إنما يقولون أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا، ولا يوصله بذكر أبي هريرة إلا غير متقن، والصحيح أنه مرسل. وقال الترمذي روى هذا الحديث هشام الدستوائي وعلي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا اه. وقد رواه يحيى بن
[ 106 ]
أبي كثير من حديث أبي إبراهيم الاشهلي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل حديث أبي هريرة، أخرجه من هذا الوجه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح، وقال: أصح الروايات في هذا يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم الاشهلي عن أبيه، وسألته عن اسم أبي إبراهيم فلم يعرفه. وقال أبو حاتم: أبو إبراهيم مجهول اه. ولكن جهالة الصحابي غير قادحة. وقد أخرجه الترمذي والحاكم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة، ولكن في إسناده هذه الطريق عكرمة بن عمار كما تقدم. وأخرجه أيضا الترمذي عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد توهم بعض الناس أن أبا إبراهيم الاشهلي هو عبد الله بن أبي قتادة، قال الحافظ: وهو غلط لان أبا إبراهيم من بني عبد الاشهل، وأبو قتادة من بني سلمة. (وفي الباب) عن أبي هريرة حديث آخر عند أبي داود والنسائي: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته على الجنازة يقول: اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها، وأنت قبضت روحها، وانت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر لها وعن عوف بن مالك وواثلة وسيأتيان. قوله: فأخلصوا له الدعاء فيه دليل على أنه لا يتعين دعاء مخصوص من هذه الادعية الواردة، وأنه ينبغي للمصلي على الميت أن يخلص الدعاء له، سواء كان محسنا أو مسيئا، فإن ملابس المعاصي أحوج الناس إلى دعاء إخوانه المسلمين وأفقرهم إلى شفاعتهم، ولذلك قدموه بين أيديهم وجاؤوا به إليهم، لا كما قال بعضهم: إن المصلي يلعن الفاسق ويقتصر في الملتبس على قوله: اللهم إن كان محسنا فزده إحسانا، وإن كان مسيئا فأنت أولى بالعفو عنه فإن الاول من إخلاص السب لا من إخلاص الدعاء، والثاني من باب التفويض باعتبار المسئ لا من باب الشفاعة والسؤال، وهو تحصيل للحاصل، والميت غني عن ذلك. قوله: فأحيه على الاسلام هذا اللفظ هو الثابت عند الاكثر، وفي سنن أبي داود: فأحيه على الايمان وتوفه على الاسلام (واعلم) أنه قد وقع في كتب الفقه ذكر أدعية غير المأثورة عنه صلى الله عليه وآله وسلم والتمسك بالثابت عنه أولى، واختلاف الاحاديث في ذلك محمول على أنه كان يدعو لميت بدعاء ولآخر بآخر، والذي أمر به صلى الله عليه وآله وسلم إخلاص الدعاء (فائدة) إذا كان المصلى عليه طفلا استحب أن
[ 107 ]
يقول المصلي اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وأجرا روى ذلك البيهقي من حديث أبي هريرة، وروى مثله سفيان في جامعه عن الحسن. وعن عوف بن مالك قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على جنازة يقول: اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وقه فتنة القبر، وعذاب النار، قال عوف: تمنيت أن لو كنت أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الميت رواه مسلم والنسائي. وعن واثلة بن الاسقع قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول: اللهم إن فلان ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك، فقه فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم فاغفر له وارحمه إنك الغفور الرحيم رواه أبو داود. الحديث الاول أخرجه أيضا الترمذي مختصرا، والحديث الثاني أخرجه أيضا ابن ماجة وسكت عنه أبو داود والمنذري، وفي إسناده مروان بن جناح وفيه مقال. قوله: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك قوله: فسمعته وفي رواية لمسلم من حديث عوف: فحفظت من دعائه جميع ذلك يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهر بالدعاء، وهو خلاف ما صربه جماعة من استحباب الاسرار بالدعاء، وقد قيل: إن جهره صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء لقصد تعليمهم. وأخرج أحمد عن جابر قال: ما أباح لنا في دعاء الجنازة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أبو بكر ولا عمر وفسر أباح بمعنى قدر. قال الحافظ: والذي وقفت عليه باح بمعنى جهر، والظاهر أن الجهر والاسرار بالدعاء جائزان. قوله: واغسله بماء وثلج الخ، هذه الالفاظ قد تقدم شرحها في الصلاة. (واعلم) أنه لم يرد تعيين موضع هذه الادعية، فإن شاء المصلي جاء بما يختار منها دفعة، إما بعد فراغه من التكبير، أو بعد التكبيرة الاولى أو الثانية أو الثالثة، أو يفرقه بين كل تكبيرتين، أو يدعو بين كل تكبيرتين بواحد من هذه الادعية، ليكون مؤديا لجميع ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وأما حديث عبد الله بن أبي أوفى الآتي فليس فيه أنه لم يدع إلا بعد التكبيرة الرابعة، إنما فيه أنه دعا بعدها، وذلك لا يدل على أن الدعاء مختص بذلك
[ 108 ]
الموضع. قوله: إن فلان ابن فلان فيه دليل على استحباب تسمية الميت باسمه واسم أبيه، وهذا إن كمعروفا، وإلا جعل مكان ذلك: اللهم إن عبدك هذا أو نحوه، والظاهر أنه يدعو بهذه الالفاظ الواردة في هذه الاحاديث، سواء كان الميت ذكرا أو أنثى، ولا يحول الضمائر المذكورة إلى صيغة التأنيث إذا كان الميت أنثى لان مرجعها الميت، وهو يقال على الذكر والانثى. وعن عبد الله بن أبي أوفى أنه ماتت ابنة له فكبر عليه أربعا ثم قام بعد الرابعة قدر ما بين التكبيرتين يدعو ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصنع في الجنازة هكذا رواه أحمد وابن ماجة بمعناه. الحديث أخرجه أيضا البيهقي في السنن الكبرى. وفي رواية: كبر أربعا حتى ظننت أنه سيكبر خمسا، ثم سلم عن يمينه وعن شماله، فلما انصرف قلنا له: ما هذا؟ فقال: إني لا أزيد على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصنع، وهكذا كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح وفيه دليل على استحباب الدعاء بعد التكبيرة الآخرة قبل التسليم وفيه خلاف، والراجح الاستحباب لهذا الحديث. وقال الشافعي في كتاب البويطي: أنه يقوبعدها: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. وقال أبو علي بن أبي هريرة: كان المتقدمون يقولون في الرابعة: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنوقنا عذاب النار. وقال الهادي والقاسم: إنه يقول بعد الرابعة: سبحان من سبحت له السموات والارضون، سبحان ربنا الاعلى سبحانه وتعالى، اللهم هذا عبدك وابن عبديك وقد صار إليك، وقد أتيناك مستشفعين له سائلين له المغفرة، فاغفر له ذنوبه وتجاوز عن سيئاته، وألحقه بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اللهم وسع عليه قبره، وأفسح له أمره، وأذقه عفوك ورحمتك يا أكرم الاكرمين، اللهم ارزقنا حسن الاستعداد لمثل يومه ولا تفتنا بعده، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، ثم يكبر الخامسة ثم يسلم.
[ 109 ]
باب موقف الامام من الرجل والمرأة وكيف يصنع إذا اجتمعت أنواع عن سمرة قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وسطها رواه الجماعة. وعن أبي غالب الحناط قال: شهد ت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه، فلما رفعت أتي بجنازة امرأة فصلى عليها فقام وسطها وفينا العلاء بن زياد العلوي، فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة قال: يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم من الرجل حيث قمت؟ ومن المرأة حيث قمت؟ قال: نعم رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وأبو داود. وفي لفظه فقال العلاء بن زياد: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الجنازة كصلاتك، يكبر عليها أربعا ويقوم عند رأ س الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم. الحديث الثاني حسنه الترمذي وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص، ورجال إسناده ثقات. قوله: وسطها بسكون السين وفيه دليل على أن المصلي على المرأة الميتة يستقبل وسطها، ولا منافاة بين هذا الحديث وبين قوله في حديث أنس: وعجيزة المرأة لان العجيزة يقال لها وسط، وأما الرجل فالمشروع أن يقف الامام حذاء رأسه لحديث أنس المذكور، ولم يصب من استدل بحديث سمرة على أنه يقام حذاء وسط الرجل والمرأة، وقال: إنه نص في المرأة ويقاس عليها الرجل، لان هذا قياس مصادم للنص وهو فاسد الاعتبار، ولا سيما مع تصريح من سأل أنسا بالفرق بين الرجل والمرأة، وجوابه عليه بقوله: نعم، وإلى ما يقتضيه هذان الحديثان من القيام عند رأس الرجل ووسط المرأة ذهب الشافعي وهو الحق. وقال أبو حنيفة، حذاء صدرهما، وفي رواية: حذاءوسطهما. وقال مالك: حذاء الرأس منهما. وقال الهادي: حذاء رأس الرجل، وثدي المرأة، واستدل بفعل علي عليه السلام قال أبو طالب: وهو رأي أهل البيت لا يختلفون فيه. وحكي في البحر عن القاسم أنه يستقبل صدر المرأة وبينه وبين السرة من الرجل، قال في البحر بعد حكاية الخلاف مؤيدا لما ذهب إليه الهادي: لنا إجماع العترة أولى من استحسانهم انتهى. وقد عرفت أن الادلة دلت على ما ذهب إليه الشافعي، وأن ما عداه لا مستند له
[ 110 ]
من المرفوع إلا مجرد الخطأ في الاستدلال أو التعويل على محض الرأي، أو ترجيح ما فعله الصحابي على ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، نعم لا ينتهض مجرد الفعل دليلا للوجوب، ولكن النزاع فيما هو الاولى والاحسن، ولا أولى ولا أحسن من الكيفية التي فعلها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: العلاء بن زياد العلوي. الذي في غير هذا الكتاب كجامع الاصول والكاشف وغيرهما العدوي وهو الصواب. وعن عمار مولى الحرث بن نوفل قال: حضرت جنازة صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم، ووضعت المرأة وراءه، فصلى عليهما وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة فسألتهم عن ذلك فقالوا: السنة رواه النسائي وأبو داود وعن عمار أيضا: أن أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر أخرجت جنازتاهما فصلى عليهما أمير المدينة فجعل المرأة بين يدي الرجل وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ كثير وثمت الحسن والحسين. وعن الشعبي: أن أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر توفيا جميعا فأخرجت جنازتاهما فصلى عليهما أمير المدينة فسوى بين رؤوسهما وأرجلهما حين صلى عليهما رواهما سعيد في سننه. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، ورجال إسناده ثقات، وأخرجه أيضا البيهقي. وقال: وفي القوم الحسن والحسين وابن عمر وأبو هريرة ونحو من ثمانين نفسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي رواية للبيهقي: أن الامام في هذه القصة ابن عمر. وفي أخرى له وللدارقطني، والنسائي في المجتبى من رواية نافع بن عمر أنه صلى على سبع جنائز رجال ونساء، فجعل الرجال مما يلي الامام، وجعل النساء مما يلي القبلة، وصفهم صفا واحدا، ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر وابن لها يقال له زيد، والامام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس يومئذ ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة، فوضع الغلام مما يلي الامام فقلت: ما هذا؟ قالوا: السنة. وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى، قال الحافظ: وإسناده صحيح. قوله: أمير المدينة هو سعيد بن العاص كما وقع مبينا في سائر الروايات، ويجمع بينه وبين ما وقع فيه أن الامام كان ابن عمر، بأن ابن عمر أم بهم بإذنه. قال الحافظ: ويحمل قوله: إن الامام
[ 111 ]
يومئذ سعيد بن العاص يعني الامير، لا أنه كان إماما في الصلاة، ويرده قوله في حديث الباب فصلى عليهما أمير المدينة. قال الحافظ: أيحمل على أن نسبة ذلك إلى ابن عمر لكونه أشار بترتيب وضع تلك الجنائز. (والحديث) يدل على أن السنة إذا اجتمعت جنائز أن يصلى عليها صلاة واحدة، وقد تقدم في كيفية صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على قتلى أحد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على كل واحد منهم صلاة، وحمزة مع كل واحد، وأنه كان يصلي على كل عشرة صلاة. وأخرج ابن شاهين أن عبد الله بن معقل بن مقرن أتى بجنازة رجل وامرأة فصلى على الرجل، ثم صلى على الرجل، ثم صلى على المرأة وفيه انقطاع. (وفي الحديث) أيضا أن الصبي إذا صلى عليه مع امرأة كان الصبي مما يلي الامام، والمرأة مما يلي القبلة، وكذلك إذا اجتمع رجل وامرأة أو أكثر من ذلك كما تقدم عن ابن عمر. وقد ذهب إلى ذلك الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو طالب والشافعية والحنفية، وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر والحسن البصري وسالم بن عبد الله: بل الاولى العكس ليلي القبلة الافضل. وفيه أيضا دليل على أن الاولى بالتقدم للصلاة على الجنازة ذو الولاية ونائبه، ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يؤم الرجل في سلطانه. وقد تقدم في الصلاة، وقد وقع الخلاف إذا اجتمع الامام والولي أيهما أولى؟ فعند أكثر العترة وأبي حنيفة وأصحابه أن الامام وواليه أولى، وعند الشافعي والمؤيد بالله والناصر في رواية عنه أن الولي أولى. باب الصلاة على الجنازة في المسجد عن عائشة أنها قالت: لما توفي سعد بن أبي وقاص أدخلوا به المسجد حتى أصلي عليه، فأنكروا ذلك عليها فقالت: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه رواه مسلم. وفي رواية: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سهيل ابن البيضاء إلا في جوف المسجد رواه الجماعة إلا البخاري. وعن عروة قال: صلي على أبي بكر في المسجد. وعن ابن عمر: قال: صلي على عمر في المسجد رواهما سعيد وروى الثاني مالك. وأخرج الصلاة على أبي بكر وعمر أيضا في المسجد ابن أبي شيبة بلفظ: أن
[ 112 ]
عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر في المسجد. قوله: على ابني بيضاء قال النووي قال العلماء: بنو بيضاء ثلاثة إخوة: سهل وسهيل وصفوان، وأمهم البيضاء اسمها دعد، والبيضاء وصف، وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي الفهري. (والحديث) يدل على جواز إدخال الميت إلى المسجد والصلاة عليه فيه، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور. قال ابن عبد البر، ورواه المدنيون في رواية عن مالك، وبه قال ابن حبيب المالكي، وكرهه ابن أبي ذئب وأبو حنيفة ومالك في المشهور عنه والهادوية، وكل من قال بنجاسة الميت، وأجابوا عن حديث الباب بأنه محمول على أن الصلاة على ابني بيضاء وهما كانا خارج المسجد والمصلون داخله وذلك جائز بالاتفاق، ورد بأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بإدخال الجنازة المسجد، وأجابوا أيضا بأن الامر استقر على ترك ذلك، لان الذين أنكروا على عائشة كانوا من الصحابة، ورد بأن عائشة لما أنكرت ذلك الانكار سلموا لها، فدل على أنها حفظت ما نسوه، وأن الامر استقر على الجواز، ويدل على ذلك الصلاة على أبي بكر وعمر في المسجد لما تقدم، وأيضا العلة التي لاجلها كرهوا الصلاة على الميت في المسجد هي زعمهم أنه نجس وهي باطلة لما تقدم: أن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا وأنهض ما استدلوا به على الكراهة ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ له. وأخرجه ابن ماجه ولفظه: فليس له شئ وفي إسناده صالح مولى التوأمة وقد تكلم فيه غير واحد من الائمة. قال النووي: وأجابوا عنه يعني الجمهور بأجوبة: أحدها أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به، قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة وهو ضعيف. والثاني: أن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من سنن أبي داود: من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ عليه فلا حجة لهم حينئذ. والثالث: أنه لو ثبت الحديث وثبت أنه فلا شئ له لوجب تأويله بأن له بمعنى عليه ليجمع بين الروايتين، قال: وقد جاء بمعنى عليه كقوله تعالى: * (وإن أسأتم فلها) * (الاسراء: 7). الرابع: أنه محمول على نقص الاجر في حق من صلى في المسجد ورجع ولم يشيعها إلى المقبرة لما فاته من تشييعه إلى المقبرة وحضور دفنه انتهى. [ رم ]
[ 113 ]
أبواب حمل الجنازة والسير بها عن ابن مسعود قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة، ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع رواه ابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا أبو داود الطيالسي والبيهقي من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال الدارقطني في العلل: اختلف في إسناده على منصور بن المعتمر، وفي الباب عن أبي الدرداء عند ابن أبي شيبة في مصنفه، وعن ثوبان عند ابن الجوزي في العلل وإسناده ضعيف. وعن أنس عنده أيضا فيها وإسناده ضعيف. وأخرجه الطبراني في الاوسط مرفوعا بلفظ: من حمل جوانب السرير الاربع كفر الله عنه أربعين كبيرة. وعن بعض الصحابة عند الشافعي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين. ورواه أيضا ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي حبيبة عن شيوخ من بني عبد الاشهل. وروي حمل الجنازة عن جماعة من الصحابة والتابعين، فأخرج الشافعي عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: رأيت سعد بن أبي وقاص في جنازة عبد الرحمن بن عوف قائما بين العمودين المقدمين واضعا للسرير على كاهله. ورواه الشافعي أيضا بأسانيد من فعل عثمان وأبي هريرة وابن الزبير وابن عمر، أخرجها كلها البيهقي. وروى ذلك البيهقي أيضا من فعل المطلب بن عبد الله بن حنطب وغيره، وفي البخاري أن ابن عمر حمل ابنا لسعيد بن زيد، وروى ابن سعد ذلك عن عثمان وأبي هريرة ومروان، وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريق علي الازدي قال: رأيت ابن عمر في جنازة يحمل جوانب السرير الاربع. وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة أنه قال: من حمل الجنازة بجوانبها الاربع فقد قضى الذي عليه. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من تبع الجنازة وحملها ثلاث مرات فقد قضى ما عليه من حقها قال الترمذي: هذا حديث غريب. ورواه بعضهم بهذا الاسناد ولم يرفعه. (والحديث) يدل على مشروعية الحمل للميت، وأن السنة أن يكون بجميع جوانب السرير.
[ 114 ]
باب الاسراع بها من غير رمل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتمونها إلى الخير، وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم رواه الجماعة. وعن أبي موسى قال: مرت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنازة تمخض مخض الزق فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليكم القصد رواه أحمد. وعن أبي بكرة قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا رواه أحمد والنسائي. وعن محمود بن لبيد عن رافع قال: أسرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ أخرجه البخاري في تاريخه. حديث أبي موسى أخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي وقاسم بن أصبغ، وفي إسناده ضعف كما قال الحافظ. وأخرج البيهقي عن أبي موسى من قوله: إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا في المشي قال: وهذا يدل على أالمراد كراهة شدة الاسراع. وحديث أبي بكرة أخرجه أيضا أبو داود والحاكم. (وفي الباب) عن ابن مسعود عند الترمذي وأبي داود قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال: ما دون الخبب، فإن كان خيرا عجلتموه، وإن كان شرا فلا يبعد إلا أهل النار. وقد ضعف هذا الحديث البخاري والترمذي وابن عدي والنسائي والبيهقي وغيرهم، لان في إسناده أبا ماجدة، قال الدارقطني: مجهول. وقال يحيى الرازي وابن عدي: منكر الحديث، والرواي عنه يحيى الجابر بالجيم والباء الموحدة، قال البيهقي وغيره: إنه ضعيف. قوله: أسرعوا قال ابن قدامة: هذا الامر للاستحباب بلا خلاف بين العلماء، وشذ ابن حزم فقال بوجوبه، والمراد بالاسراع شدة المشي، وعلى ذلك حمله بعض السلف وهو قول الحنفية. قال صاحب الهداية: ويمشون بها مسرعين دون الخبب، وفي المبسوط: ليس فيه شئ مؤقت غير أن العجلة أحب إلى أبي حنيفة. وعن الجمهور: والمراد بالاسراع ما فوق سجية المشي المعتاد. قال في الفتح: والحاصل أنه يستحب الاسراع بها، لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث
[ 115 ]
مفسدة الميت أو مشقة على الحامل أو المشيع، لئلا يتنافى المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم. قال القرطبي: مقصود الحديث أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن، لان التباطئ ربما أدى إلى التباهي والاختيال اه. وحديث أبي بكرة وحديث محمود بن لبيد يدلان على أن المراد بالسرعة المأمور بها في حديث أبي هريرة هي السرعة الشديدة المقاربة للرمل. وحديث ابن مسعود يدل على أن المراد بالسرعة ما دون الخبب، والخبب على ما في القاموس هو ضرب من العدو أو كالرمل أو السرعة، فيكون المراد بالخبب في الحديث ما هو كالرمل بقرينة الاحاديث المتقدمة لا مجرد السرعة. وحديث أبي موسى يدل على أن المشي المشروع بالجنازة هو القصد، والقصد ضد الافراط كما في القاموس، فلا منافاة بينه وبين الاسراع ما لم يبلغ إلى حد الافراط، ويدل على ذلك ما رواه البيهقي من قول أبي موسى كما تقدم. قوله: بالجنازة أي بحملها إلى قبرها، وقيل: المعنى الاسراع بتجهيزها فهو أعم من الاول. قال القرطبي والاول أظهر. وقال النووي: الثاني باطل مردود بقوله في الحديث: تضعونه عن رقابكم. وقد قوى الحافظ الثاني بما أخرجه الطبراني بإسناد حسن عن ابن عمر: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره وبما أخرجه أيضا أبو داود من حديث الحصين بن وحوح مرفوعا: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله الحديث تقدم. قوله: فإن كانت صالحة أي الجثة المحمولة. قوله: تضعونه استدل به على أن حمل الجنازة يختص بالرجال للاتيان فيه بضمير الذكور ولا يخفى ما فيه. قال الحافظ: والحديث فيه استحباب المبادرة إلى دفن الميت، لكن بعد أن يتحقق أنه مات، أما مثل المطعون والمفلوج والمسبوت فينبغي أن لا يسرع في تجهيزهم حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم، نبه على ذلك ابن بزيزة. ويؤخذ من الحديث ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين اه. باب المشي أمام الجنازة وما جاء في الركوب معها قد سبق في ذلك حديث المغيرة. وعن ابن عمر: أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة رواه الخمسة واحتج به أحمد.
[ 116 ]
حديث المغيرة تقدم في الصلاة على السقط، وحديث ابن عمر أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وصححه، والبيهقي من حديث ابن عيينة عن الزهري، عن سالم، عن أبيه به، قال أحمد: إنما هو عن الزهري مرسل. وحديث سالم فعل ابن عمر. وحديث ابن عيينة وهم. قال الترمذي: أهل الحديث يرون المرسل أصح، قاله ابن المبارك، قال: وروى معمر ويونس ومالك عن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمشي أمام الجنازة قال الزهري: وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة، قال الترمذي: ورواه ابن جريج عن الزهري مثل ابن عيينة، ثم روي عن ابن المبارك أنه قال: أرى ابن جريج أخذه عن ابن عيينة. وقال النسائي: وصله خطأ والصواب مرسل. وقال أحمد: حدثنا حجاج قرأت على ابن جريج، حدثنا زياد بن سعد أن ابن شهاب أخبره حدثني سالم عن ابن عمر أنه كان يمشي بين يدي الجنازة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر يمشون أمامها. وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه من فعل ابن عمر وأبي بكر وعمر وعثمان، قال الزهري: وكذلك السنة. قال الحافظ في التلخيص: فهذا أصح من حديث ابن عيينة، وصحح الدارقطني بعد ذكر الاختلاف أنه فعل ابن عمر، ورجح البيهقي الموصول لان ابن عيينة ثقة حافظ، وقد أتى بزيادة على من أرسل والزيادة مقبولة. وقد قال لما قال له ابن المديني أنه قد خالفه الناس في هذا الحديث: أن الزهري حدثه به مرارا عن سالم عن أبيه، قال الحافظ: وهذا لا ينفي الوهم لانه ضبط أنه سمعه منه عن سالم عن أبيه وهو كذلك إلا أن فيه إدراجا، وقد جزم بصحة الحديث ابن المنذر وابن حزم. (وفي الباب) عن أنس عند الترمذي مثله وقال: سألت عنه البخاري فقال: هذا خطأ أخطأ فيه محمد بن بكر. وقد اختلف أهل العلم هل الافضل لمتبع الجنازة أن يمشي خلفها أو أمامها، فقال الزهري ومالك والشافعي وأحمد والجمهور وجماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وابن عمرو وأبو هريرة: أن المشي أمام الجنازة أفضل واستدلوا بحديث ابن عمر المذكور في الباب. وقال أبو حنيفة وأصحابه، وحكاه الترمذي عن سفيان الثوري وإسحاق، وحكاه في البحر عن العترة أن المشي خلفها أفضل، واستدلوا بما تقدم من حديث ابن مسعود عند الترمذي وأبي داود قال: سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال: ما دون الخبب. فقرر قولهم خلف الجنازة ولم ينكره، واستدلوا أيضا بما روي عن طاوس أنه قال: ما مشى رسول الله صلى الله
[ 117 ]
عليه وآله وسلم حتى مات إلا خلف الجنازة وهذا مع كونه مرسلا لم أقف عليه في شئ من كتب الحديث. وروي في البحر عن علي عليه السلام أنه قال: المشي خلف الجنازة أفضل، وحكي في البحر عن الثوري أنه قال: الراكب يمشي خلفها، والماشي أمامها، ويدل لما قاله حديث المغيرة المتقدم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها. أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم، وهذا مذهب قوي لولا ما سيأتي من الادلة الدالة على كراهة الركوب لمتبع الجنازة. وقال أنس بن مالك: إنه يمشي بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها، رواه البخاري عنه تعليقا، ووصله عبد الوهاب بن عطاء في كتاب الجنائز، ووصله أيضا ابن أبي شيبة وعبد الرزاق. وعن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتبع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس رواه الترمذي. وفي رواية: أتي بفرس معرور فركبه حين انصرفنا من جنازة ابن الدحداح ونحن نمشي حوله. رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن ثوبان قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة فرأى ناسا ركبانا فقال: ألا تستحيون إن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب؟ رواه ابن ماجه والترمذي. وعن ثوبان أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بدابة وهو مع جنازة فأبى أن يركبها، فلما انصرف أتي بدابة فركب فقيل له فقال: إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لاركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت رواه أبو داود. حديث جابر بن سمرة قال الترمذي: حسن صحيح. وفي لفظ له: وهو على فرس له يسعى ونحن حوله وهو يتوقص به وحديث ثوبان الاول قال الترمذي: قد روي عنه مرفوعا، ولم يتكلم عليه بحسن ولاضعف، وفي إسناده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف. وحديث ثوبان الثاني سكت عن أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح. قوله: ابن الدحداح بدالين مهملتين وحاء بين مهملتين، ويقال: أبوالدحداح، ويقال: أبو الدحداحة، قال ابن عبد البر: لا يعرف اسمه. قوله: ورجع على فرس فيه أنه لا بأس بالركوب عند الرجوع من دفن الميت. قوله: معرور بضم الميم وفتح الراء، قال أهل اللغة: اعروريت الفرس إذا ركبته عريانا فهو معرور. قال النووي: ولم يأت افعوعل معدي إلا قولهم: اعروريت
[ 118 ]
الفرس واحلوليت الشئ اه. قوله: ونحن نمشي حوله فيه جواز مشي الجماعة مع كبيرهم الراكب، وأنه لا كراهة فيه في حقه ولا في حقهم إذا لم يكن فيه مفسدة، وإنما يكره ذلك إذا حصل فيه انتهاك للتابعين، أو خيف إعجاب أنحو ذلك من المفاسد. قوله: ألا تستحيون فيه كراهة الركوب لمن كان متبعا للجنازة، ويعارضه حديث المغيرة المتقدم من أذنه للراكب أن يمشي خلف الجنازة، ويمكن الجمع بأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الراكب خلفها لا يدل على عدم الكراهة، وإنما يدل على الجواز، فيكون الركوب جائزا مع الكراهة، أو بأن إنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على من ركب وتركه للركوب إنما كان لاجل مشي الملائكة ومشيهم مع الجنازة التي مشى معها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يستلزم مشيهم مع كل جنازة، لامكان أن يكون ذلك منهم تبركا به صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون الركوب على هذا جائزا غير مكروه، والله تعالى أعلم. باب ما يكره مع الجنازة من نياحة أو نار عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتبع جنازة معها رانة رواه أحمد وابن ماجة. وعن أبي بردة قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال: لا تتبعوني بمجمر قالوا: أو سمعت فيه شيئا؟ قال: نعم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه ابن ماجة. الحديث الاول إسناده عند ابن ماجة، هكذا حدثنا أحمد بن يوسف، حدثنا عبيد الله، أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عمر. وأبو يحيى هذا القتات وفيه مقال وبقية رجاله ثقات. والحديث الثاني في إسناده أبو حريز مولى معاوية، قال في التقريب: شامي مجهول. وقال في الخلاصة: مجهول. قوله: معها رانة هي بالراء المهملة وبعد الالف نون مشددة أي مصوتة. قال في القاموس: رن يرن رنينا صاح اه. (وفيه دليل) على تحريم اتباع الجنازة التي معها النائحة، وعلى تحريم النوح، وسيأتي الكلام عليه. قوله: بمجمر المجمر كمنير الذي يوضع فيه الجمر. وفيه دليل على أنه لا يجوز اتباع الجنائز بالمجامر وما يشابهها لان ذلك من فعل الجاهلية، وقد هدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وزجر عنه.
[ 119 ]
باب من اتبع الجنازة فلا يجلس حتى توضع عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن اتبعها فلا يجلس حتى توضع رواه الجماعة إلا ابن ماجه، لكن إنما لابي داود منه: إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع وقال: روى هذا الحديث الثوري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال فيه: حتى توضع في الارض ورواه أبو معاوية عن سهيل: حتى توضع في اللحد وسفيان أحفظ من أبي معاوية. وعن علي بن أبي طالب عليه السلام: أنه ذكر القيام في الجنائز حتى توضع، فقال علي عليه السلام: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قعد رواه النسائي والترمذي وصححه. ولمسلم معناه. ولفظ مسلم من حديث علي عليه السلام قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني في الجنازة ثم قعد. قوله: إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فيه مشروعية القيام للجنازة إذا مرت لمن كان قاعدا، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا. قوله: فمن اتبعها فلا يجلس فيه النهي عن جلوس الماشي مع الجنازة قبل أن توضع على الارض، فقال الاوزاعي وإسحاق وأحمد ومحمد بن الحسن أنه مستحب، حكى ذلك عنهم النووي والحافظ في الفتح، ونقله ابن المنذر عن أكثر الصحابة والتابعين قالوا: والنسخ إنما هو في قيام من مرت به في قيام من شيعها. وحكي في الفتح عن الشعبي والنخعي أنه يكره القعود قبل أن توضع، قال: وقال بعض السلف: يجب القيام، واحتج له برواية النسائي عن أبي سعيد وأبي هريرة أنهما قالا: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع انتهى. ولا يخفى أن مجرد الفعل لا ينتهض دليلا للوجوب، فالاولى الاستدلال له بحديث الباب، فإن فيه النهي عن القعود قبل وضعها، وهو حقيقة للتحريم وترك الحرام واجب. ومثل ذلك حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا: من صلى على جنازة ولم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه فإن مشى معها فلا يقعد حتى توضع. وروى الحافظ عن الشعبي والنخعي أن القعود مكروه قبل أن توضع. ومما يدل على الاستحباب ما رواه البيهقي عن أبي هريرة وابن عمر وغيرهما أن القائم مثل الحامل يعني في
[ 120 ]
الاجر. قوله: حتى توضع في الارض قد ذكر المصنف كلام أبي داود في ترجيح هذه الرواية على الرواية الاخرى أعني قوله: حتى توضع في اللحد وكذلك أشار البخاري إلى ترجيحها بقوله: باب من شهد جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال. وأخرج أبو نعيم عن سهيل قال: رأيت أبا صالح لا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال. وهذا يدل على أن الرواية الاولى أرجح، لان أبا صالح راوي الحديث وهو أعرف بالمراد منه، وقد تمسك بالرواية الثانية صاحب المحيط من الحنفية فقال: الافضل أن لا يقعد حتى يهال عليها التراب انتهى. وإذا قعد الماشي مع الجنازة قبل أن توضع فهل يسقط القيام أو يقوم؟ الظاهر الثاني، لان أصل مشروعية القيام تعظيم أمر الموت وهو لا يفوت بذلك. وقد روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة ومروان كانا مع جنازة فقعدا قبل أن توضع، فجاء أبو سعيد فأخذ بيد مروان فأقامه، وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك، فقال أبو هريرة: صدق. ورواه الحاكم بنحو ذلك وزاد: أن مروان لما قال له أبو سعيد: قم قام، ثم قال له: لم أقمتني؟ فذكر له الحديث، فقال لابي هريرة: فما منعك أن تخبرني فقال: كنت إماما فجلست فجلست. (وقد استدل) المهلب بقعود أبي هريرة ومروان، على أن القيام ليس بواجب، وأنه ليس عليه العمل. قال الحافظ: إن أراد أنه ليس بواجب عندهما فظاهر، وإن أراد في نفس الامر فلا دلالة فيه على ذلك. قوله: وعن علي عليه السلام الخ، ذكر المصنف هذا الحديث للاستدلال به على نسخ مشروعية القيام لمن تبع الجنازة حتى توضع لقوله فيه: حتى توضع فإنه يدل على أن المراد به قيام التابع للجنازة لا قيام من مرت به، لانه لا يشرع حتى توضع بل حتى تخلفه كما سيأتي، ولكنه سيأتي في باب القيام للجنازة من حديث عامر بن ربيعة عند الجماعة بلفظ: حتى تخلفكم أو توضع فذكر الوضع في حديث علي عليه السلام لا يكون نصا، على أن المراد قيام التابع، وقد استدل به الترمذي على نسخ قيام من رأى الجنازة فقال بعد إخراجه له وهذا ناسخ للاول: إذا رأيتم الجنازة فقوموا اه. ولو سلم أن المراد بالقيام المذكور في حديث علي هو قيام التابع للجنازة فلا يكون تركه صلى الله عليه وآله وسلم ناسخا مع عدم ما يشعر بالتأسي به في هذا الفعل بخصوصه، لما تقرر في الاصول من أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بالامة ولا بنسخه.
[ 121 ]
باب ما جاء في القيام للجنازة إذا مرت عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع رواه الجماعة. ولاحمد: وكان ابن عمر إذا رأى جنازة قام حتى تجاوزه. وله أيضا عنه: أنه ربما تقدم الجنازة فقعد حتى إذ رآها قد أشرفت قام حتى توضع. وعن جابر قال: مر بنا جنازة فقام لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقمنا معه فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي، فقال إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها. [ رح 1454 ] وعن سهل بن حنيف وقيس بن سعد: إنهما كانا قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما فقيل لهما إنها من أهل الارض أي من أهل الذمة، فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرت به جنازة فقام فقيل له: إنها جنازة يهودي فقال: أليست نفسا متفق عليهما. وللبخاري عن ابن أبي ليلى قال: كان أبو مسعود وقيس يقومان للجنازة. قوله: حتى تخلفكم بضم أوله وفتح المعجمة وتشديد اللام المكسورة أي تترككم ورائها. قوله: مر بنا في رواية الكشميهني: مرت بفتح الميم. قوله: فقال إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها زاد البيهقي: إن الموت فزع. وكذا لمسلم من وجه آخر، قال القرطبي: معناه أن الموت يفزع. قال البيضاوي: وهو مصدر جرى مجرى الوصف للمبالغة أو فيه تقدير أي الموت ذو فزع. ويؤيد ذلك ما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ: إن للموت فزعا. وعن ابن عباس مثله عند البزار. قوله: أليست نفسا هذا لا يعارض التعليل المتقدم حيث قال: إن للموت فزعا، وكذا ما أخرج الحاكم عن أنس مرفوعا: إنما قمنا للملائكة ونحوه لاحمد من حديث أبي موسى، ولاحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: إنما تقومون إعظاما للذي يقبض النفوس. ولفظ ابن حبان إعظاما لله تعالى الذي يقبض الارواح، فإن ذلك لا ينافي التعليل السابق، لان القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لامر الله تعالى، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة. فأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي قال: إنما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأذيا بريح اليهود، زاد الطبراني:
[ 122 ]
فأذاه ريح بخورها. وللطبراني والبيهقي من وجه آخر عنه كراهية أن يعلو على رأسه، فإن ذلك لا يعارض الاخبار الاولى الصحيحة، أما أولا فلان أسانيد هذه لا تقاوم تلك في الصحة، وأما ثانيا فلان التعليل بذلك راجع إلى ما فهم الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكأن الراوي لم يسمع التصريح بالتعليل منه صلى الله عليه وآله وسلم، فعلل باجتهاده، ومقتضى التعليل بقوله: أليست نفسا أن ذلك يستحب لكل جنازة. (واختلف العلماء) في هذه المسألة فذهب أحمد وإسحاق وابن حبيب وابن الماجشون أن القيام للجنازة لم ينسخ، والقعود منه صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث علي الآتي إنما هو لبيان الجواز، فمن جلس فهو في سعة، ومن قام فله أجر. وكذا قال ابن حزم: أن قعوده صلى الله عليه وآله وسلم بعد أمره بالقيام يدل على أن الامر للندب، ولا يجوز أن يكون نسخا. قال النووي: والمختار أنه مستحب، وبه قال المتولي وصاحب المهذب من الشافعية. وممن ذهب إلى استحباب القيام ابن عمر، وابن مسعود، وقيس بن سعد، وسهل بن حنيف، كما يدل على ذلك الروايات المذكورة في الباب. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: إن القيام منسوخ بحديث علي الآتي. قال الشافعي: إما أن يكون القيام منسوخا أو يكون لعلة، وأيهما كان فقد ثبت أنه تركه بعد فعله، والحجة في الآخر من أمره، والقعود أحب إلي انتهى. وسيأتي بيان ما هو الحق. وظاهر أحاديث الباب أنه يشرع القيام لجنازة المسلم والكافر كما تقدم. وعن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه بنحوه. وعن ابن سيرين: أن جنازة مرت بالحسن وابن عباس فقام الحسن ولم يقم ابن عباس، فقال الحسن لابن عباس: أما قام لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: قام وقعد رواه أحمد والنسائي. الحديث الاول رجال إسناده ثقات عند أبي داود وابن ماجة، وقد أخرجه ابن حبان بهذا اللفظ، والبيهقي بلفظ: ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود. وقد خرج حديث علي مسلم باللفظ الذي تقدم في الباب الاول. والحديث الثاني رجال إسناده ثقات، وقد أشار إليه الترمذي أيضا. (وفي الباب) عن عبادة بن الصامت عند
[ 123 ]
أبي داود والترمذي وابن ماجة والبزار: أن يهوديا قال: لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم للجنازة هكذا يفعل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اجلسوا وخالفوهم وفي إسناده بشر بن رافع وليس بالقوي كما قال الترمذي. وقال البزار: تفرد به بشر وهو لين. قال الترمذي: حديث عبادة غريب. وقال أبو بكر الهمداني: ولو صح لكان صريحا في النسخ، غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت فلا يقاومه هذا الاسناد، وقد تمسك بهذه الاحاديث من قال: إن القيام للجنازة منسوخ، وقد تقد ذكرهم. قال القاضي عياض: ذهب جمع من السلف إلى أن الامر بالقيام منسوخ بحديث علي هذا، وتعقبه النووي بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع وهو ههنا ممكن. (واعلم) أن حديث علي باللفظ الذي سبق في الباب الاول لا يدل على النسخ لما عرفناك من أن فعله لا ينسخ القول الخاص بالامة. وأما حديثه باللفظ الذي ذكره هنا فإن صح صلح النسخ لقوله فيه: وأمرنا بالجلوس ولكنه لم يخرج هذه الزيادة مسلم ولا الترمذي ولا أبو داود، بل اقتصروا على قوله: ثم قعد. وأما حديث ابن عباس فكذلك أيضا لا يدل على النسخ لما عرفت. وأما حديث عبادة بن الصامت فهو صريح في النسخ لولا ضعف إسناده، فلا ينبغي أن يستند في نسخ تلك السنة الثابتة بالاحاديث الصحيحة من طريق جماعة من الصحابة إلى مثله، بل المتحتم الاخذ بها واعتقاد مشروعيتها، حتى يصح ناسخ صحيح، ولا يكون الامر بالجلوس، أو نهي عن القيام، أو إخبار من الشارع، بأن تلك السنة منسوخة بكذا، واقتصار جمهور المخرجين لحديث علي عليه السلام وحفاظهم على مجرد القعود بدون ذكر زيادة الامر بالجلوس، مما يوجب عدم الاطمئنان إليها والتمسك بها في النسخ لما هو من الصحة في الغاية، لاسيما بعد أن شد من عضدها عمل جماعة من الصحابة بها يبعد كل البعد أن يخفى على مثلهم الناسخ، ووقوع ذلك منهم بعد عصر النبوة. ويمكن أن يقال: إن الامر بالجلوس لا يعارض بفعل بعض الصحابة بعد أيام النبوة، لان من علم حجة علي من لم يعلم. وحديث عبادة وإن كان ضعيفا فهو لا يقصر عن كونه شاهدا لحديث الامر بالجلوس. [ رم ]
[ 124 ]
أبواب الدفن وأحكام القبور باب تعميق القبر واختيار اللحد على الشق عن رجل من الانصار قال: خرجنا في جنازة فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حفيرة القبر فجعل يوصي الحافر ويقول: أوسع من قبل الرأس، وأوسع من قبل الرجلين، رب عذق له في الجنة رواه أحمد وأبو داود. وعن هشام بن عامر قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد فقلنا: يا رسول الله الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احفروا وأعمقوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، فقالوا: فمن نقدم يا رسول الله؟ قال: قدموا أكثرهم قرآنا، وكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد رواه النسائي والترمذي بنحوه وصححه. الحديث الاول أخرجه أيضا البيهقي، قال الحافظ: إسناده صحيح. والحديث الثاني أخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة، واختلف فيه على حميد بن هلال راويه عن هشام، فمنهم من أدخل بينه وبين سعد بن هشام ابنه، ومنهم من أدخل بينهما أبا الدهماء، ومنهم من لم يذكر بينهما أحدا. قوله: يوصي بالواو والصاد من التوصية، وذكر ابن المواق أن الصواب يرمي بالراء والميم وأطال في ذلك. وفيه مشروعية التوصية من الحاضرين للدفن بتوسد القبر وتفقد ما يحتاج إلى التفقد. قوله: رب عذق العذق بفتح العين النخلة والجمع أعذق وإعذاق، وبكسر العين القنو منها، والعنقود من العنب، والجمع أعذاق وعذوق. قوله: وأعمقوا وأحسنوا فيه دليل على مشروعية إعماق القبر وإحسانه. وقد اختلف في حد الاعماق فقال الشافعي: قامة. وقال عمر بن عبد العزيز: إلى السرة. وقال الامام يحيى: إلى الثدي، وأقله ما يواري الميت ويمنع السبع. وقال مالك: لا حد لاعماقه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال: أعمقوا القبر إلى قدر قامة وبسطة. قوله: وادفنوا الاثنين الخ، فيه جواز الجمع بين جماعة في قبر واحد، ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة كما في مثل هذه الواقعة وإلا كان
[ 125 ]
مكروها كما ذهب إليه الهادي والقاسم وأبو حنيفة والشافعي. قا المهدي في البحر: أو تبركا كقبر فاطمة فيه خمسة: يعني فاطمة، والحسن بن علوعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وولده جعفر بن محمد الصاد، وهذا من المجاورة لا من الجمع بين جماعة في قبر واحد الذي هو المدعي. وقد قدمنا في باب ترك غسل الشهيد طرفا من الكلام على دفن الجماعة في قبر. قوله: قدموا أكثرهم قرآنا فيه دليل على أنه يقدم في اللحد من كان أكثرهم أخذا للقرآن، ويلحق بذلك سائر المزايا الدينية لعدم الفارق. وعن عامر بن سعد قال: قال سعد: ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة. وعن أنس قال: لما توفي رسول اللصلى الله عليه وآله وسلم كان رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فلحدوا له رواه أحمد وابن ماجة. ولابن ماجة هذا المعنى من حديث ابن عباس وفيه: أن أبا عبيدة بن الجراح كان يضرح وأن أبا طلحة كان يلحد. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللحد لنا والشق لغيرنا رواه الخمسة. قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. حديث أنس قال الحافظ: إسناده حسن، وحديث ابن عباس الاول قال الحافظ أيضا: في إسناده ضعف. وحديثه الثاني أخرجه من ذكر المصنف عن سعيد بن جبير عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصححه ابن السكن وحسنه الترمذي، كما وجدنا ذلك في بعض النسخ الصحيحة من جامعه. وفي إسناده عبد الاعلى بن عامر وهو ضعيف. (وفي الباب) عن جرير بن عبد الله عند أحمد والبزار وابن ماجة بنحو حديث ابن عباس الثاني وفيه عثمان بن عمير وهو ضعيف، وزاد أحمد بعد قوله لغيرنا أهل الكتاب. وعن ابن عمر عند أحمد وفيه عبد الله العمري بلفظ: أنهم ألحدوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لحدا. وأخرجه ابن أبي شيبة عنه بلفظ: ألحدوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولابي بكر وعمر وعن جابر عند ابن شاهين بنحو حديث سعد بن أبي وقاص. وعن بريدة عند ابن عدي في الكامل. وعن عائشة
[ 126 ]
عند ابن ماجة بنحو حديث أنس وإسناده ضعيف، وله طريق أخر عند ابن أبي حاتم في العلل وقال: إنها خطأ والصواب المحفوظ مرسل، وكذا رجح الدارقطني المرسل. قوله: الحدوا قال النووي في شرح مسلم: هو بوصل الهمزة وفتح الحاء، ويجوز بقطع الهمزة وكسر الحاء، يقال: لحد يلحد كذهب يذهب، وألحد يلحد إذا حفر القبر، واللحد بفتح اللام وضمها معروف وهو الشق تحت الجانب القبلي من القبر انتهى. قال الفراء: الرباعي أجود، وقال غيره: الثلاثي أكثر ويؤيده حديث عائشة في قصة دفن النبي صلى الله ليه وآله وسلم فأرسلوا إلى الشقاق واللاحد. وسمي اللحد لحدا لانه شق يعمل في جانب القبر فيميل عن وسطه، والالحاد في أصل اللغة الميل والعدول. ومنه قيل للمائل عن الدين ملحد. قوله: وانصبوا علي اللبن نصبا فيه استحباب نصب اللبن لانه الذي صنع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتفاق الصحابة. قال النووي: وقد نقلوا أن عدد لبناته صلى الله عليه وآله وسلم تسع. قوله: كان يضرح أي يشق في وسط القبر. قال الجوهري: الضرح الشق. (والاحاديث) المذكورة في الباب تدل على استحباب اللحد، وأنه أولى من الضرح، وإلى ذلك ذهب الاكثر كما قال النووي، وحكي في شرح مسلم إجماع العلماء على جواز اللحد والشق انتهى. ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرر من كان يضرح ولم يمنعه. ولا يقدح في صحة حديث ابن عباس الثاني، وما في معناه تحير الصحابة عند موته صلى الله عليه وآله وسلم هل يلحدون له أو يضرحون؟ بأن يقال: لو كان عندهم علم بذلك لم يتحيروا، لانه يمكن أن يكون من سمع منه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لم يحضر عند موته. باب من أين يدخل الميت قبره وما يقال عند ذلك والحثي في القبر عن أبي إسحاق قال: أوصى الحرث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة رواه أبو داود وسعيد في سننه وزاد ثم قال: أنشطوا الثوب فإنما يصنع هذا بالنساء. وعن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان إذا وضع الميت في القبر قال: بسم
[ 127 ]
الله وعلى ملة رسول الله. وفي لفظ: وعلى سنة رسول الله رواه الخمسة إلا النسائي. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا رواه ابن ماجة. الحديث الاول سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص، ورجال إسناد رجال الصحيح. (وفي الباب) عن ابن عباس عند الشافعي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سل من قبل رأسه سلا. وعن ابن عمر عند أبي بكر النجاد مثله. وعن أبي رافع عند ابن ماجة قال: سل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ سلا ورش على قبره الماء. وأما الزيادة التي زادها سعيد فسيأتي الكلام فيها. والحديث الثاني أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم. (وفي الباب) عن ابن عمر عند النسائي والحاكم وغيرهما وفيه الامر به، وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الدارقطني والنسائي الوقف، ورجح غيرهما الرفع، وقد رواه ابن حبان من طريق سعيد عن قتادة مرفوعا. وروى البزار والطبراني عن ابن عمر نحوه، وابن ماجة عنه مرفوعا وفي إسناده حماد بن عبد الرحمن الكلبي وهو مجهول. وعن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه عند الطبراني قال: قال لي اللجلاج: يا بني إذا أنامت فألحدني، فإذا وضعتني في لحدي فقل: بسم الله وعلى ملة رسول الله، ثم شن علي التراب شنا، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك. واللام الاولى. وعن أبي حازم مولى الغفاري: حدثني البياضي وهو صحابي كما في الكاشف وغيره عند الحاكم يرفعه بلفظ: الميت إذا وضع في قبره فليقل الذين يضعونه حين يوضع في اللحد: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعن أبي أمامة عند الحاكم والبيهقي بلفظ: لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القبر قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم: * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) * (طه: 55) بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله الحديث وسنده ضعيف كما قال الحافظ. والحديث الثالث قال أبو حاتم في العلل: هذا حديث باطل. وقال الحافظ: إسناده ظاهر الصحة، قال ابن ماجة: حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا يحيى بن صالح، حديثنا سلمة ابن كلثوم، حدثنا الاوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة فذكره ورجاله ثقات، وقد رواه ابن أبي داود من هذا الوجه وصححه، قال الحافظ: لكن أبو حاتم إمام لم يحكم عليه
[ 128 ]
بالبطلان إلا بعد أن تبين له، وأظن العلة فيه عنعنة الاوزاعي وعنعنة شيخه، وهذا كله إن كان يحيى بن صالح هو الوحاظي شيخ البخاري. (وفي الباب) عن عامر بن ربيعة عند البزار والدارقطني قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين دفن عثمان بن مظعون صلى عليه وكبر عليه أربعا، وحثى على قبره بيديه ثلاث حثيات من التراب وهو قائم عند رأسه وزاد البزار: فأمر فرش عليه الماء قال البيهقي: وله شاهد من حديث جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن جعفر. وعن أبي المنذر عند أبي داود في المراسيل: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حثى في قبر ثلاثا قال أبو حاتم في العلل: أبو المنذر مجهول. وعن أبي أمامة عند البيهقي قال: توفي رجل فلم تصب له حسنة إلا ثلاث حثيات حثاها على قبر فغفرت له ذنوبه. وعن أبي هريرة غير حديث الباب عند أبي الشيخ مرفوعا: من حثى على مسلم احتسابا كتب له بكل ثراة حسنة قال الحافظ: إسناده ضعيف. قوله: وقال هذا من السنة فيه وفيما قدمنا دليل على أنه يستحب أن يدخل الميت من قبل رجلي القبر، أي موضع رجلي الميت منه عند وضعه فيه، وإلى ذلك ذهب الشافعي وأحمد والهادي والناصر والمؤيد بالله، وقال أبو حنيفة: إنه يدخل القبر من جهة القبلة معرضا إذ هو أيسر، واتباع السنة أولى من الرأي. وقد استدل لابي حنيفة بما رواه البيهقي من حديث ابن عباس وابن مسعود وبريدة أنهم أدخلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة القبلة، ويجاب بأن البيهقي ضعفها. وقد روي عن الترمذي تحسين حديث ابن عباس منها، وأنكر ذلك عليه، لان مداره على الحجاج بن أرطأة، قال في ضوء النهار: على أنه لا حاجة إلى التضعيف بذلك، لان قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عن يمين الداخل إلى البيت لاصقا بالجدار، والجدار الذي ألحد تحته هو القبلة، فهو مانع من إدخال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة القبلة ضرورة انتهى. قال في البدر المنير بعد أن ذكر أنه أدخل صلى الله عليه وآله وسلم من جهة القبلة وهو غير ممكن كما ذكره الشافعي في الام وأطنب في الشناعة على من يقول ذلك، ونسبه إلى الجهالة ومكابرة الحس انتهى. قوله: ثم قال: أنشطوا الثوب بهمزة فنون فشين معجمة فطاء مهملة أي اختلسوه، ذكر معناه في القاموس، وقد أخرج نحو هذه الزيادة يوسف القاضي بإسناد له عن رجل عن علي: أنه أتاهم وهم يدفنون قيسا وقد بسط الثوب على قبره فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء والطبراني عن أبي إسحاق أيضا أن عبد الله بن يزيد صلى على الحرث الاعور وفيه ثم لم
[ 129 ]
يدعهم يمدون ثوبا على القبر وقال: هكذا السنة، وقد رواه ابن أبي شيبة من طريق الثوري عن أبي إسحاق بلفظ: شهدت جنازة الحرث فمدوا على قبره ثوبا فجذبه عبد الله بن يزيد وقال: إنما هو رجل ورواه البيهقي بإسناد صحيح إلى أبي إسحاق السبيعي أنه حضر جنازة الحرث الاعور فأمر عبد الله بن يزيد أن يبسطوا عليه ثوبا. قال الحافظ: لعل الحديث كان فيه، فأمر أن لا يبسطوا فسقطت لا، أو كان فيه فأبى بدل فأمر. وروى البيهقي من حديث ابن عباس قال: جلل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر سعد بثوبه قال البيهقي: لا أحفظه إلا من حديث يحيى بن عقبة بن أبي العيزار وهو ضعيف. وروى عبد الرزاق عن الشعبي عن رجل أن سعد بن مالك قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فستر على القبر حتى دفن سعد بن معاذ فيه، فكنت ممن أمسك الثوب وفي إسناده هذا المبهم. وقد أوله القائلون باختصاص ذلك بالمرأة على أنه إنما فعل صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بقبر سعد لانه كان مجروحا وكان جرحه قد تغير. قوله: قال بسم الله الخ، فيه استحباب هذا الذكر عند وضع الميت في قبره. قوله: من قبل رأسه فيه دليل على أن المشروع أن يحثى على الميت من جهة رأسه، ويستحب أن يقول عند ذلك: * (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) * (طه: 55) ذكره أصحاب الشافعي. وقال الهادي: بلغنا عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه أنه كان إذا حثى على ميت قال: اللهم إيمانا بك، وتصديقا برسلك، وإيقانا ببعثك، هذا ما وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله، ثم قال: من فعل ذلك كان له بكل ذرة حسنة. [ رم ] (436 م) باب تسنيم القبر ورشه بالماء وتعليمه ليعرف وكراهة البناء والكتابة عليه عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسنما رواه البخاري في صحيحه. وعن القاسم قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه بالله اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء
[ 130 ]
رواه أبو داود. الرواية الاولى أخرجها أيضا ابن أبي شيبة من طريق سفيان المذكور وزاد: وقبر أبي بكر وقبر عمر كذلك. وكذلك أخرجه أبو نعيم، وذكر هذه الزيادة التي ذكرها ابن أبي شيبة والرواية الثانية أخرجها أيضا الحاكم من هذا الوجه وزاد: ورأيت قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقدما، وأبو بكر رأسه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعمر رأسه عند رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (وفي الباب) عن صالح بن أبي صالح عند أبي داود في المراسيل قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شبرا أو نحو شبر وعن عثيم بن بسطام المديني عند أبي بكر الاجري في كتاب صفة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رأيت قبره صلى الله عليه وآله وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه. قوله: مسنما أي مرتفعا. قال في القاموس: التسنيم ضد التسطيح، وقال: سطحه كمنعه بسطه قوله: ولا لاطئة أي ولا لازقة بالارض. (وقد اختلف أهل العلم) في الافضل من التسنيم والتسطيح بعد الاتفاق على جواز الكل، فذهب الشافعي وبعض أصحابه، والهادي والقاسم والمؤيد بالله إلى أن التسطيح أفضل، واستدلوا برواية القاسم بن محمد بن أبي بكر المذكورة وما وافقها قالوا: وقول سفيان التمار لا حجة فيه كما قال البيهقي، لاحتمال أن قبره صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن في الاول مسنما، بل كان في أول الامر مسطحا، ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك صيروها مرتفعة، وبهذا يجمع بين الروايات ويرجح التسطيح ما سيأتي من أمره صلى الله عليه وآله وسلم عليا أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه. وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية، وادعى القاضي حسين اتفاق أصحاب الشافعي عليه، ونقله القاضي عياض عن أكثر العلماء أن التسنيم أفضل، وتمسكوا بقول سفيان التمار، والارجح أن الافضل التسطيح لما سلف. وعن أبي الهياج الاسدي عن علي قال: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته رواه
[ 131 ]
الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. قوله: عن أبي الهياج هو بفتح الهاء وتشديد الياء واسمه حيان بن حصين. قوله: لا تدع تمثالا إلا طمسته فيه الامر بتغيير صور ذوات الارواح. قوله: ولا قبرا مشرفا إلا سويته في أن السنة أن القبر لا يرفع رفعا كثيرا من غير فرق بين من كان فاضلا ومن كان غير فاضل، والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم، وقد صرح بذلك أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك، والقول بأنه غير محظور لوقوعه من السلف والخلف بلا نكير، كما قال الامام يحيى والمهدي في الغيث لا يصح، لان غاية ما فيه أنهم سكتوا عن ذلك، والسكوت لا يكون دليلا إذا كان في الامور الظنية، وتحريم رفع القبور ظني، ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولا أوليا القبب، والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعل ذلك كما سيأتي، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الاسلام، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للاصنام وعظم ذلك، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها، واستغاثوا، وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالاصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالما ولا متعلما، ولا أميرا ولا وزيرا، ولا ملكا، وقد توارد إلينا من الاخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الادلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة، فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للاسلام أشد من الكف؟ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن هذا الشرك البين واجبا؟ [ شع ] لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي [ / شع ] [ شع ]
[ 132 ]
ولو نارا نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد [ / شع ] [ رح ] 1468 وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء رواه الشافعي. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلم قبر عثمان بن مظعون بصخرة رواه ابن ماجة. الحديث الاول مرسل، وأخرجه أيضا سعيد بن منصور والبيهقي من هذا الوجه مرسلا بهذا اللفظ وزادا: ورفع قبره قدر شبر. (وفي الباب) عن جابر عند البيهقي قال: رش على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالماء رشا فكان الذي رش على قبره بلال بن رباح، بدأ من قبل رأسه من شقه الايمن حتى انتهى إلى رجليه. وفي إسناده الواقدي والكلام فيه معروف. (وفي الباب) عن عامر بن ربيعة تقدم في الباب الاول، وروى سعيد بن منصور أن الرش على القبر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى مشروعية الرش على القبر ذهب الشافعي وأبو حنيفة والقاسمية، والحديث الثاني أخرجه أيضا ابن عدي، قال أبو زرعة: هذا خطأ، والصواب رواية من روى عن المطلب بن حنطب وسيأتي. وقد رواه الطبراني في الاوسط من حديث أنس بإسناد آخر فيه ضعف، ورواه الحاكم في المستدرك في ترجمة عثمان بن مظعون بإسناد آخر فيه الواقدي من حديث أبي رافع فذكر معناه. وروى أبو داود من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: لما مات عثمان بن مظعون خرج بجنازته فدفن، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا أن يأتي بحجر فلم يستطع حمله فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحسر عن ذراعيه قال المطلب: قال الذي أخبرني: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين حسر عنهما ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال: أعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي قال الحافظ وإسناده حسن ليس فيه إلا كثير بن زيد، راويه عن المطلب وهو صدوق انتهى. والمطلب ليس صحابيا، ولكنه بين أن مخبرا أخبره ولم يسمه، وإيهام الصحابي لا يضر (وفيه دليل) على جعل علامة على قبر الميت كنصب حجرا ونحوها. قال الامام يحيى: فأما نصب حجرين على المرأة وواحدة على الرجل فبدعة، قال في البحر قلت: لا بأس به لقصد التمييز لنصبه على قبر ابن مظعون.
[ 133 ]
وعن جابر قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه ولفظه: نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ وفي لفظ النسائي: نهى أن يبنى على القبر، أو يزاد عليه، أو يجصص، أو يكتب عليه. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجة وابن حبان والحاكم، وقال الحاكم: الكتابة وإن لم يذكرها مسلم فهي على شرطه وهي صحيحة غريبة. وقال أهل العلم من أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب على خلاف ذلك. (وفي البا ب) عن ابن مسعود ذكره صاحب مسند الفردوس عن الحاكم مرفوعا: لا يزال الميت يسمع الاذان ما لم يطين عليه قال الحافظ: وإسناده باطل، فإنه من رواية محمد بن القاسم الطايكاني وقد رموه بالوضع. قوله: أن يجصص القبر في رواية لمسلم: عن تقصيص القبور والتقصيص بالقاف وصادين مهملتين هو التجصيص. والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة هي الجص، وفيه تحريم تجصيص القبور. وأما التطيين فقال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم في تطيين القبور منهم الحسن البصري والشافعي. وقد روى أبو بكر النجاد من طريق جعفر بن محمد عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع قبره من الارض شبرا وطين بطين أحمر من العرصة. وحكي في البحر عن الهادي والقاسم أنه لا بأس بالتطيين لئلا ينطمس. وقال الامام يحيى وأبو حنيفة: يكره. قوله: وأن يقعد عليه فيه دليل على تحريم القعود على القبر، وإليه ذهب الجمهور، وقال مالك في الموطأ: المراد بالقعود الحدث. قال النووي: وهذا تأويل ضعيف أو باطل، والصواب أن المراد بالعقود الجلوس، ومما يوضحه الرواية الواردة بلفظ: لا تجلسوا على القبور كما سيأتي. قوله: وأن يبنى عليه فيه دليل على تحريم البناء على القبر، وفصل الشافعي وأصحابه فقالوا: إن كان البناء في ملك الباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام، ولا دليل على هذا التفصيل، وقد قال الشافعي: رأيت الائمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويدل على الهدم حديث علي المتقدم. قوله: وأن يكتب عليها فيه تحريم الكتابة على القبور، وظاهره عدم الفرق بين كتابة اسم الميت على القبر وغيرها، وقد استثنت الهادوية رسم الاسم فجوزوه، لا على وجه الزخرفة قياسا على وضعه صلى الله عليه وآله وسلم على قبر عثمان كما تقدم وهو من التخصيص بالقياس، وقد قال به الجمهور، لا أنه قياس في مقابلة النص كما قال في ضوء النهار، ولكن الشأن في صحة هذا القياس.
[ 134 ]
قوله: وأن توطأ فيه دليل على تحريم وطئ القبر، والكلام فيه كالكلام في القعود عليه، ولعل مالكا لا يخالف هنا. قوله: أو يزاد عليه بوب على هذه الزيادة البيهقي باب لا يزاد عليه القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع. وظاهره أن المراد بالزيادة عليه الزيادة على ترابه، وقيل: المراد بالزيادة عليه أن يقبر ميت على قبر ميت آخر. باب من يستحب أن يدفن المرأة عن أنس قال: شهدت بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تدفن وهو جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان فقال: هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا، قال: فانزل في قبرها فنزل في قبرها رواه أحمد والبخاري، ولاحمد عن أنس: أن رقية لما ماتت قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله، فلم يدخل عثمان بن عفان القبر. قوله: بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي أم كلثوم زوج عثمان، رواه الواقدي عن طليح بن سليمان، وبهذا الاسناد أخرجه ابن سعد في الطبقات في ترجمة أم كلثوم، وكذا الدولابي في الذرية الطاهرة، والطبري والطحاوي من هذا الوجه، ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فسماها رقية، كما ذكره المصنف عن أحمد، وكذلك أخرجه البخاري في التاريخ الاوسط والحاكم في المستدرك. قال البخاري: ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ببدر لم يشهدها. قال الحافظ: وهم حماد في تسميتها فقط، ويؤيد أنها أم كلثوم ما رواه ابن سعد أيضا في ترجمة أم كلثوم من طريق عمرة بنت عبد الرحمن قالت: نزل في حفرتها أبو طلحة، وأغرب الخطابي فقال: هذه البنت كانت لبعض بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسبت إليه. قوله: لم يقارف بقاف وفاء، زاد ابن المبارك عن فليح: أراه يعني الذنب، ذكره البخاري في باب من يدخل قبر المرأة تعليقا، ووصله الاسماعيلي، وكذا قال شريح بن النعمان عن فليح، أخرجه أحمد عنه. وقيل معناه لم يجامع تلك الليلة، وبه جزم ابن حزم قال: معاذ الله أن يتبجح أبو طلحة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يذنب تلك الليلة انتهى، ويقويه أن في رواية ثابت المذكور بلفظ: لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة فتنحى عثمان. وقد استبعد أن
[ 135 ]
يكون عثمان جامع في تلك الليلة التي حدث فيها موت زوجته لحرصه على مراعاة الخاطر الشريف، وأجيب عنه باحتمال أن يكون مرض المرأة طال واحتاج عثمان إلى الوقاع، ولم يكن يظن موتها تلك الليلة، وليس في الخبر ما يقتضي أنه واقع بعد موتها، بل ولا حين احتضارها. (والحديث) يدل على أنه يجوز أن يدخل المرأة في قبرها الرجال دون النساء لكونهم أقوى على ذلك، وأنه يقدم الرجال الاجانب الذين بعد عهدهم بالملاذ في المواراة على الاقارب الذين قرب عهدهم بذلك كالاب والزوج، وعلل بعضهم تقدم من لم يقارف بأنه حينئذ يأمن من أن يذكره الشيطان بما كان منه تلك الليلة، وحكي عن ابن حبيب أن السر في إيثار أبي طلحة على عثمان، أن عثمان كان قد جامع بعض جواريه في تلك الليلة، فتلطف صلى الله عليه وآله وسلم في منعه من النزول قبر زوجته بغير تصريح. ووقع في رواية حماد المذكورة فلم يدخل عثمان القبر. (وفي الحديث) أيضا جواز الجلوس على شفير القبر وجواز البكا بعد الموت. وحكى ابن قدامة عن الشافعي أنه يكره لخبر: فإذا وجب فلا تبكين باكية يعني إذا مات وهو محمول على الاولوية. والمراد لا ترفع صوتها بالبكاء ويمكن الفرق بين النساء والرجال في ذلك، لان بكاء النساء قد يفضي إلى ما لا يحل من النوح لقلة صبرهن. باب آداب الجلوس في المقبرة والمشي فيها عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الانصاف انتهينا إلى القبر ولم يلحد بعد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستقبل القبلة وجلسنا معه رواه أبو داود. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لان يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. وعن عمرو بن حزم قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئا على قبر فقال: لا تؤذ صاحب هذا القبر أو لا تؤذه رواه أحمد.
[ 136 ]
وعن بشير بن الخصاصية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يمشي في نعلين بين القبور فقال: يا صاحب السبتيتين ألقهم رواه الخمسة إلا الترمذي. حديث البراء سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح على كلام في المنهال بن عمرو، وشيخه زاذان. وقد أخرجه من هذه الطريق النسائي وابن ماجة. وحديث عمرو بن حزم قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح، وحديث بشير سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات إلا خالد بن نمير فإنه يهم. وأخرجه أيضا الحاكم وصححه. قوله: مستقبل القبلة فيه دليل على استحباب الاستقبال في الجلوس لمن كان منتظرا دفن الجنازة. قوله: لان يجلس أحدكم الخ، فيه دليل على أنه لا يجوز الجلوس على القبر، وقد تقدم النهي عن ذلك، وذهاب الجمهور إلى التحريم، والمراد بالجلوس القعود، وروى الطحاوي من حديث محمد بن كعب قال: إنما قال أبو هريرة: من جلس على قبر يبول عليه أو يتغوط فكأنما جلس على جمرة قال في الفتح: لكن إسناده ضعيف، وقال نافع: كان ابن عمر يجلس على القبور. ومخالفة الصحابي لما روى لا تعارض المروي. قوله: لاتؤذ صاحب القبر هذا دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن المراد بالجلوس القعود، وفيه بيان علة المنع من الجلوس أعني التأذي. قوله: السبتيتين قد تقدم تفسير ذلك في باب تغيير الشيب، والمراد بها جلود البقر وكل جلد مدبوغ، وإنما قيل لها السبتية أخذا من السبت وهو الحلق، لان شعرها قد حلق عنها. وفي ذلك دليل على أنه لا يجوز المشي بين القبور بالنعلين، ولا يختص عدم الجواز بكون النعلين سبتيتين لعدم الفارق بينها وبين غيرها. وقال ابن حزم: يجوز وطئ القبور بالنعال التي ليست سبتية لحديث: إن الميت يسمع خفق نعالهم وخص المنع بالسبتية، وجعل هذا جمعا بين الحديثين وهو وهم، لان سماع الميت لخفق النعال لا يستلزم أن يكون المشي على قبر أو بين القبور فلا معارضة. وقال الخطابي: إن النهي عن السبتية لما فيها من الخيلاء ورد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبسها كما تقدم في باب تغيير الشيب.
[ 137 ]
باب الدفن ليلا عن ابن عباس قال: مات إنسان كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فمات بالليل فدفنوه ليلا، فلما أصبح أخبروه فقال ما منعكم أن تعلموني؟ قالوا: كان الليل فكرهنا وكانت ظلمة أن نشق عليك، فأتى قبره فصلى عليه رواه البخاري وابن ماجة. قال البخاري: ودفن أبو بكر ليلا. وعن عائشة قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل ليلة الاربعاء قال محمد بن إسحاق: والمساحي المرور. رواه أحمد. وعن جابر قال: رأى ناس نارا في المقبرة فأتوها فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القبر يقول: ناولوني صاحبكم وإذا هو الذي كان يرفع صوته بالذكر رواه أبو داود. حديث ابن عباس أخرجه أيضا مسلم، وقد روي نحوه عن جماعة من الصحابة قدمنا ذكرهم في باب الصلاة على الغائب، وقدمنا شرح هذا الحديث، والاختلاف في اسم هذا الانسان المبهم هنالك، ودفن أبي بكر بالليل ذكره البخاري تعليقا في باب الدفن بالليل، ووصله في آخر كتاب الجنائز في باب موت يوم الاثنين من حديث عائشة. ولابن أبي شيبة من حديث القاسم بن محمد قال: دفن أبو بكر ليلا. ومن حديث عبيد بن السباق أن عمر دفن أبا بكر بعد العشاء الاخيرة، قال الحافظ في الفتح: وصح أن عليا دفن فاطمة ليلا. وحديث جابر سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات إلا محمد بن مسلم الطائفي ففيه مقال. وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس نحوه ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة وقال: رحمك الله إن كنت لاواها تلاء للقرآن قال الترمذي: حديث ابن عباس حديث حسن. قوله: صوت المساحي هي جمع مسحاة والمسحاة آلة من حديد يجرف بها الطين مشتقة من السحو، وهو كشف وجه الارض، والميم فيها زائدة. قوله: المرور جمع مر بفتح الميم بعدها راء مهملة، وهي المسحاة على ما في القاموس. وقيل: صوت المسحاة على الارض. (والاحاديث) المذكورة في الباب
[ 138 ]
تدل على جواز الدفن بالليل، وبه قال الجمهور، وكرهه الحسن البصري، واستدل بحديث أبي قتادة المتقدم في باب استحباب إحسان الكفن وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زجر أن يقبر الرجل ليلا حتى يصلى عليه. وأجيب عنه أن الزجر منه صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان لترك الصلاة لا للدفن بالليل، أو لاجل أنهم كانوا يدفنون بالليل لرداءة الكفن، فالزجر إنما هو لما كان الدفن بالليل مظنة إساءة الكفن كما تقدم، فإذا لم يقع تقصير في الصلاة على الميت وتكفينه فلا بأس بالدفن ليلا. وقد قيل في تعليل كراهة الدفن بالليل أن ملائكة النهار أرأف من ملائكة الليل، ولم يصح ما يدل على ذلك. باب الدعاء للميت بعد دفنه عن عثمان قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لاخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل رواه أبو داود. وعن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحكيم بن عمير قالوا: إذا سوي على الميت قبره وانصرف الناس عنه كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان قل لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات، يا فلان قل: ربي الله، وديني الاسلام، ونبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم ينصرف رواه سعيد في سننه. الحديث الاول أخرجه أيضا الحاكم وصححه والبزار وقال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وآله إلا من هذا الوجه. والاثر المروي عن راشد وضمرة وحكيم ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه، وراشد المذكور شهد صفين مع معاوية ضعفه ابن حزم، وقال الدارقطني: يعتبر به. والثلاثة كلهم من قدماء التابعين حمصيون، وقد روي نحوه مرفوعا من حديث أبي أمامة عند الطبراني وعبد العزيز الحنبلي في الشافي أنه قال: إذا أنامت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، فإنه يسمعه
[ 139 ]
ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعدا، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: أذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، فإن منكرا ونكيرا يأخذ كل واحد بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته، فقال رجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف أمه؟ قال: ينسبه إلى أمه حواء، يا فلان ابن حواء قال الحافظ في التلخيص وإسناده صالح، وقد قواه الضياء في أحكامه. وفي إسناده سعيد الازدي بيض له أبو حاتم، وقال الهيثمي بعد أن ساقه في إسناده جماعة لم أعرفهم انتهى. وفي إسناد أيضا عاصم بن عبد الله وهو ضعيف. قال الاثرم: قلت لاحمد: هذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول: يا فلان ابن فلانة، قال: ما رأيت أحدا يفعله، إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة، روى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه، وكان إسماعيل بن عياش يرويه يشير إلى حديث أبي أمامة انتهى. وقد استشهد في التلخيص لحديث أبي أمامة بالاثر الذي رواه سعيد بن منصور وذكر له شواهد أخر خارجة عن البحث لا حاجة إلى ذكرها. قوله: إذا فرغ من دفن الميت الخ فيه مشروعية الاستغفار للميت عند الفراغ من دفنه، وسؤال التثبيت له لانه يسأل في تلك الحال، وفيه دليل على ثبوت حياة القبر، وقد وردت بذلك أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر، وفيه أيضا دليل على أن الميت يسأل في قبره، وقد وردت به أيضا أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما، وورد أيضا ما يدل على أن السؤال في القبر مختص بهذه الامة، كما في حديث زيد بن ثابت عند مسلم أن هذه الامة تبتلى في قبورها، وبذلك جزم الحكيم الترمذي. وقال ابن القيم: السؤال عام للامة وغيرها، وليس في الاحاديث ما يدل على الاختصاص. قوله: وعن راشوضمرة هما تابعيان قديمان، وكذلك حكيم بن عمير وكل الثلاثة من حمص. قوله: كانوا يستحبون ظاهره أن المستحب لذلك الصحابة الذين أدركوهم، وقد ذهب إلى استحباب ذلك أصحاب الشافعي. باب النهي عن اتخاذ المساجد والسرج في المقبرة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قاتل
[ 140 ]
الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد متفق عليه. وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه الخمسة إلا ابن ماجة. الحديث الثاني حسنه الترمذي وفي إسناده أبو صالح باذام، ويقال باذان مولى أم هانئ بنت أبي طالب وهو صاحب الكلبي. وقد قيل: إنه لم يسمع من ابن عباس، وقد تكلم فيه جماعة من الائمة، قال ابن عدي: ولا أعلم أحدا من المتقدمين رضيه. وقد روي عن يحيى بن سعيد أنه كان يحسن أمره. قوله: قاتل الله اليهود زاد مسلم: والنصارى، ومعنى قاتل قتل، وقيل: لعن فإنه قد ورد بلفظ اللعن. قوله: اتخذوا جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب المقاتلة كأنه قيل: ما سبب مقاتلتهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا. قوله: مساجد ظاهره أنهم كانوا يجعلونها مساجد يصلون فيها، وقيل: هو أعم من الصلاة عليها وفيها وقد أخرج مسلم: لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها أو عليها وروى مسلم أيضا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ذلك في مرضه الذي مات منه قبل موته بخمس، وزاد فيه: فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك. وفيه دليل على تحريم اتخاذ القبور مساجد، وقد زعم بعضهم أن ذلك إنما كان في ذلك الزمان لقرب العهد بعبادة الاوثان، ورده ابن دقيق العيد. قوله: لعن الله زائرات القبور فيه تحريم زيارة القبور للنساء، وسيأتي الكلام على ذلك. قوله: والسرج فيه دليل على تحريم اتخاذ السرج على المقابر لما يفضي إليه ذلك من الاعتقادات الفاسدة كما عرفت مما تقدم. باب وصول ثواب القرب المهداة إلى الموتى عن عبد الله بن عمرو أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاصنحر حصته خمسين، وأن عمرا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك رواه أحمد. وعن أبى هريرة: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أبي مات ولم يوص أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم رواه أحمد ومسلم
[ 141 ]
والنسائي وابن ماجة. وعن عائشة: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أمي افتلتت نفسها وأراها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم متفق عليه. وعنابن عباس: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، فإن لي مخرفا فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي. وعن الحسن عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت فأتصدق عنها؟ قال: نعم، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء، قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة رواه أحمد والنسائي. حديث سعد رجال إسناده عند النسائي ثقات، ولكن الحسن لم يدرك سعدا، وقد أخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة. قوله: نحر حصته خمسين إنما كانت حصته خمسين لان العاص بن وائل خلف ابنين هشاما وعمرا، فأراد هشام أن يفي بنذر أبيه فنحر حصته من المائة التي نذرها وحصته خمسون، وأراد عمرو أن يفعل كفعل أخيه فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أن موت أبيه على الكفر مانع من وصول نفع ذلك إليه، وأنه لو أقر بالتوحيد لاجزأ ذلك عنه ولحقه ثوابه. (وفيه دليل) على أن نذر الكافر بما هو قربة لا يلزم إذا مات على كفره، وأما إذا أسلم وقد وقع منه نذر في الجاهلية ففيه خلاف، والظاهر أنه يلزمه الوفاء بنذره لما أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر: أن عمر قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: أوف بنذرك. وفي ذلك أحاديث يأتي ذكرها في باب من نذر، وهو مشرك من كتاب النذور. قوله: نفعه ذلك فيه دليل على أن ما فعله الولد لابيه المسلم من الصوم والصدقة يلحقه ثوابه. قوله: افتلتت بضم المثناة بعد الفاء الساكنة وبعدها لام مكسورة على صيغة المجهول ماتت فجأة، كذا في القاموس. وقوله: نفسها بالضم على الاشهر نائب مناب الفاعل. قوله: وأراها بضم الهمزة بمعنى أظنها. قوله: فإن لي مخرفا في رواية مخراف، والمخرف والمخراف الحديقة من النخل أو العنب أو غيرهما. قوله: قال سقي الماء فيه دليل على أن سقي الماء أفضل الصدقة. ولفظ أبي داود: فأي الصدقة أفضل؟ قال: الماء، فحفروا بئرا وقال: هذه لام سعد
[ 142 ]
وأخرج هذا الحديث الدارقطني في غرائب مالك. وقد أخرج الموطأ من حديث سعيد بن سعد بن عبادة: أنه خرج سعد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض مغازيه وحضرت أمه الوفاة بالمدينة فقيل لها: أوصي، فقالت: فيما أوصي والمال مال سعد، فتوفيت قبل أن يقدم سعد فذكر الحديث. وقد قيل: إن الرجل المبهم في حديث عائشة وفي حديث ابن عباس وهو سعد بن عبادة، ويدل على ذلك أن البخاري أورد بعد حديث عائشة حديث ابن عباس بلفظ: أن سعد بن عبادة قال: إن أمي ماتت وعليها نذر وكأنه رمز إلى أن المبهم في حديث عائشة هو سعد. وأحاديث الباب تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل إليهما ثوابها، فيخصص بهذه الاحاديث عموم قوله تعالى: * (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) * (النجم: 39) ولكن ليس في أحاديث البا ب إلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبت أن ولد الانسان من سعيه، فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها. وقد اختلف في غير الصدقة من أعمال البر هل يصل إلى الميت؟ فذهبت المعتزلة إلى أنه لا يصل إليه شئ، واستدلوا بعموم الآية. وقال في شرح الكنز: إن للانسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة كان أو صوما، أو حجا، أو صدقة، أو قراءة قرآن، أو غير ذلك من جميع أنواع البر، ويصل ذلك إلى الميت وينفعه عند أهل السنة انتهى. والمشهور من مذهب الشافعي وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل، كذا ذكره النووي في الاذكار. وفي شرح المنهاج لابن النحوي لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور، والمختار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته، وينبغي الجزم به لانه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعي فلان يجوز بما هو له أولى، ويبقى الامر فيه موقوفا على استجابة الدعاء، وهذا المعنى لا يختص بالقراءة، بل يجري في سائر الاعمال، والظاهر أن الدعاء متفق عليه أنه ينفع الميت والحي القريب والبعيد بوصية وغيرها. وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان أفضل الدعاء أن يدعو لاخيه بظهر الغيب انتهى. وقد حكى النووي في شرح مسلم الاجماع على وصول الدعاء إلى الميت، وكذا حكي أيضا الاجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصل ثوابها، ولم يقيد ذلك بالولد. وحكي أيضا الاجماع على لحوق قضاء
[ 143 ]
الدين، وألحق أنه يخصص عموم الآية بالصدقة من الولد كما في أحاديث الباب، وبالحج من الولد كما في خبر الخثعمية، ومن غير الولد أيضا كما في حديث المحرم عن أخيه شبرمة، ولم يستفصله صلى الله عليه وآله وسلم هل أوصى شبرمة أم لا؟ وبالعتق من الولد كما وقع في البخاري في حديث سعد، خلافا للمالكية على المشهور عندهم، وبالصلاة من الولد أيضا لما روى الدارقطني: أن رجلا قال: يا رسول الله أنه كان لي أبوان أبرهما في حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك. وبالصيام من الولد لهذا الحديث. ولحديث عبد الله بن عمرو المذكور في الباب. ولحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم: أن امرأة قالت: يارسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر فقال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم، قال: فصومي عن أمك. وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي من حديث بريدة: أن امرأة قالت: إنه كان على أمي صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها. ومن غير الولد أيضا لحديث: من مات وعليه صيام صام عنه وليه متفق عليه من حديث عائشة، وبقراءة يس من الولد وغيره لحديث: اقرؤوا على موتاكم يس وقد تقدم، وبالدعاء من الولد لحديث: أو ولد صالح يدعو له. ومن غيره لحديث: استغفروا لاخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل وقد تقدم. ولحديث: فضل الدعاء للاخ بظهر الغيب. ولقوله تعالى: * (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) * (الحشر: 10). ولما ثبت من الدعاء للميت عند الزيارة كحديث بريدة عند مسلم وأحمد وابن ماجة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية. وبجميع ما يفعله الولد لوالديه من أعمال البر لحديث: ولد الانسان من سعيه. وكما تخصص هذه الاحاديث الآية المتقدمة، كذلك يخصص حديث أبي هريرة عند مسلم وأهل السنن. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات الانسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له فإنه ظاهره أنه ينقطع عنه ما عدا هذه الثلاثة كائنا ما كان. وقد قيل: إنه يقاس على هذه المواضع التي وردت بها الادلة غيرها،
[ 144 ]
فيلحق الميت كل شئ فعله غيره. وقال في شرح الكنز: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم) * (الطور: 21) وقيل: الانسان أريد به الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى إخوانه. وقيل: ليس له من طريق العدل وهو له من طريق الفضل، وقيل: اللام بمعنى على كما في قوله تعالى: * (ولهم اللعنة) * (غافر: 52) أي وعليهم انتهى. باب تعزية المصاب وثواب صبره وأمره به وما يقول لذلك عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عزوجل من حلل الكرامة يوم القيامة رواه ابن ماجة. وعن الاسود عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من عزى مصابا فله مثل أجره رواه ابن ماجة والترمذي. وعن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن قدم عهدها فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله تبارك وتعالى له عند ذلك فأعطاه أجرها يوم أصيب رواه أحمد وابن ماجة. حديث عمرو بن حزم رواه ابن ماجة من طريق ابي بكر بن أبي شيبة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثني قيس أبو عمارة مولى الانصار قال: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فساقه، وهؤلاء كلهم ثقات إلا قيسا أبا عمارة ففيه لين، وقد ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وحديث ابن مسعود أخرجه أيضا الحاكم، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن عاصم. ورواه بعضهم عن محمد بن سوقة بهذا الاسناد مثله موقوفا ولم يرفعه ويقال: أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم هذا الحديث نقموه عليه انتهى. قال البيهقي: تفرد به علي بن عاصم، وقال ابن عدي: قد رواه مع علي بن عاصم محمد بن الفضل بن عطية وعبد الرحمن بن مالك بن مغول. وروي عن إسرائيل، وقيس بن الربيع، والثوري وغيرهم. وروى ابن الجوزي في الموضوعات من طريق نصر بن حماد عن شعبة نحوه. وقال الخطيب: رواه عبد الحكم بن منصور والحرث بن عمران الجعفري وجماعة مع علي بن عاصم، وليس
[ 145 ]
شئ منها ثابتا، ويحكى عن أبي داود قال: عاتب يحيى بن سعيد القطان علي بن عاصم في وصل هذا الحديث، وإنما هو عندهم منقطع وقال: إن أصحابك الذين سمعوه معك لا يسندونه فأبى أن يرجع، قال الحافظ: ورواية الثوري مدارها على حماد بن الوليد وهو ضعيف جدا، وكل المتابعين لعلي بن عاصم أضعف منه بكثير، وليس فيها رواية يمكن التعليق بها إلا طريق إسرائيل، فقد ذكرها صاحب الكمال من طريق وكيع عنه ولم أقف على إسنادها بعد. قال في التلخيص: وله شاهد أضعف منه من طريق محمد بن عبد الله العرزمي عن أبي الزبير عن جابر ساقه ابن الجوزي في الموضوعات، وله أيضا شاهد آخر من حديث أبي برزة مرفوعا: من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة قال الترمذي: غريب. ومن شواهده حدي‍ ث عمرو بن حزم الذي قبله، قال السيوطي في التعقبات: وأخرج البيهقي في الشعب عمحمد بن هارون الفأفاء وكان ثقة صدوقا، قال: رأيت في المنام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديث علي بن عاصم الذي يرويه عن ابن سوقة: من عز مصابا هو عنك؟ قال: نعم. فكان محمد بن هارون كلما حدث بهذا الحديث بكى. وقال الذهبي: أبلغ ما شنع به على علي بن عاصم هذا الحديث، وهو مع ضعفه صدوق في نفسه، وله صورة كبيرة في زمانه، وقد وثقه جماعة، قال يعقوب بن شيبة: كان من أهل الدين والصلاح والخير والتاريخ، وكان شديد التوقي، أنكر عليه كثرة الغلط مع تماديه على ذلك. وقال وكيع: ما زلنا نعرف بالخير، فخذوا الصحاح من حديثه ودعوا الغلط. وقال أحمد: أما أنا فأحدث عنكان فيه لجاج ولم يكن متهما. وقال الفلاس: صدوق. وحديث الحسين في إسناده هشام بن زياد وفيه ضعف عن أمه وهي لا تعرف. قوله: من عزى مصابا فيه دليل على أن تعزية المصاب من موجبات الكسوة من الله تعالى لمن فعل ذلك من حلل كرامته. قوله: فله مثل أجره فيه دليل على أنه يحصل للمعزي بمجرد التعزية مثل أجر المصاب، وقد يستشكل ذلك باعتبار أن المشقة مختلفة، ويجاب عنه بجوابات ليس هذا محل بسطها. وثمرة التعزية الحث على الرجوع، إلى الله تعالى ليحصل الاجر. قال في البحر: والمشروع مرة واحدة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: التعزية مرة انتهى. قال الهادي والقاسم والشافعي: وهي بعد الدفن أفضل لعظم المصاب بالمفارقة. وقال أبو حنيفة والثوري: إنما هي قبله لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
[ 146 ]
فإذا وجب فلا تبكين باكية أخرجه مالك والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم، والمراد بالوجوب دخول القبر كما وقع في رواية لاحمد، ولان وقت الموت حال الصدمة الاولى كما سيأتي والتعزية تسلية، فينبغي أن يكون وقت الصدمة التي يشرع الصبر عندها. قوله: فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب فيه دليل على أن استرجاع المصاب عند ذكر المصيبة يكون سببا لاستحقاقه لمثل الاجر الذي كتبه الله له في الوقت الذي أصيب فيه بتلك المصيبة، وإن تقادم عهدها ومضت عليها أيام طويلة، والاسترجاع هو قول القائل: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) *. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما الصبر عند الصدمة الاولى رواه الجماعة. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب رواه الشافعي. وعن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) *، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها، قالت: فلما توفي أبو سلمة قالت: من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: ثم عزم الله لي فقلتها: اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد ومسلم وابن ماجة. حديث جعفر بن محمد في إسناده القاسم بن عبد الله بن عمر وهو متروك، وقد كذبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وقال أحمد أيضا: كان يضع الحديث، ورواه الحاكم عن أنس في مستدركه وصححه وفي إسناده عباد بن عبد الصمد وهو ضعيف جدا، وزاد فقال: أبو بكر وعمر هذا الخضر. قوله: إنما الصبر عند الصدمة الاولى في رواية للبخاري: عند أول صدمة ونحوها لمسلم. والمعنى: إذا وقع الثبات أول شئ يهجم على القلب من مقتضيات الجزع، فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الاجر، وأصل الصدم ضرب الشئ الصلب بمثله، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. وقال الخطابي: المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف
[ 147 ]
ما بعد ذلك. وقال غيره: إن المراد لا يؤجر على المصيبة لانها ليست من صنعه، وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره. وأول الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك يا رسول الله، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الاولى. قوله: إن في الله عزاء من كل مصيبة الخ، فيه دليل على أنه تستحب التعزية لاهل الميت بتعزية الخضر عليه السلام، وأصل العزاء في اللغة الصبر الحسن، والتعزية التصبر، وعزاه صبره، فكل ما يجلب للمصاب صبرا يقال له تعزية بأي لفظ كان، ويحصل به للمعزي الاجر المذكور في الاحاديث السابقة، وأحسن ما يعزى به ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابنا لها في الموت، فقال للرسول: ارجع إليها وأخبرها أن لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شئ عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب الحديث وسيأتي. وهذا لا يختص بالصغير باعتبار السبب، لان كل شخص يصلح أن يقال له وفيه ذلك، ولو سلم أن أول الحديث يختص بمن مات له صغير كان الامر بالصبر والاحتساب المذكور آخر الحديث غير مختص به. قوله: اللهم أجرني قال القاضي: يقال أجرني بالقصر والمد حكاهما صاحب الافعال. قال الاصمعي وأكثر أهل اللغة قالوا: هو مقصور لا يمد، ومعنى أجره الله أعطاه أجره، وجزاء صبره، وهمه في مصيبته. قوله: وأخلف لي قال النووي: هو بقطع الهمزة وكسر اللام. قال أهل اللغة: يقال لمن ذهب له مال أو ولد أو قريب أو شئ يتوقع حصول مثله: أخلف الله عليك أي رد عليك مثله، فإن ذهب ما لا يتوقع مثله بأن ذهب والد أو عم قيل له: خلف الله عليك بغير ألف أي كان الله خليفة منه عليك. قوله: إلا أجره الله قال
[ 148 ]
النووي: هو بقصر الهمزة ومدها، والقصر أفصح وأشهر كما سبق. قوله: ثم عزم الله لي فقلتها أي خلق في عزما. باب صنع الطعام لاهل الميت وكراهيته منهم للناس عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم رواه الخمسة إلا النسائي. [ رح 1494 ] وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة رواه أحمد. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا عقر في الاسلام رواه أحمد وأبو داود. وقال: قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة في الجاهلية. حديث عبد الله بن جعفر أخرجه أيضا الشافعي، وصححه ابن السكن، وحسنه الترمذي، وأخرجه أيضا أحمد والطبرني وابن ماجة من حديث أسماء بنت عميس وهي والدة عبد الله بن جعفر، وحديث جرير أخرجه أيضا ابن ماجة وإسناده صحيح، وحديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح. قوله: اصنعوا لآل جعفر فيه مشروعية القيام بمؤنة أهل الميت مما يحتاجون إليه من الطعام، لاشتغالهم عن أنفسهم بما دهمهم من المصيبة، قال الترمذي: وقد كان بعض أهل العلم يستحب أن يوجه إلى أهل الميت بشئ لشغلهم بالمصيبة، وهو قول الشافعي انتهى. قوله: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت الخ، يعني أنهم كانوا يعدون الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه، وأكل الطعام عندهم نوعا من النياحة لما في ذلك من التثقيل عليهم وشغلتهم، مع ما هم فيه من شغلة الخاطر بموت الميت، وما فيه من مخالفة السنة، لانهم مأمورون بأن يصنعوا لاهل الميت طعاما فخالفوا ذلك وكلفوهم صنعة الطعام لغيرهم. قوله: لا عقر في الاسلام فيه دليل على عدم جواز العقر في الاسلام كما كان في الجاهلية، قال الخطابي: كان أهل الجاهلية
[ 149 ]
يعقرون الابل على قبر الرجل الجواد يقولون: نجازيه على فعله لانه كان يعقرها في حياته فيطعمها الاضياف، فنحن نعقرها عند قبره حتى تأكلها السباع والطير، فيكون مطعما بعد مماته، كما كان مطعما في حياته، قال: ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في القيامة راكبا، ومن لم يعقر عنده حشر راجلا انتهى. وهذا إنما يتم على فرض أنهم كانوا يعقرون الابل فقط لا على ما نقله أبو داود عن عبد الرزاق أنهم كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. باب ما جاء في البكاء على الميت وبيان المكروه منه عن جابر قال: أصيب أبي يوم أحد فجعلت أبكي فجعلوا ينهوني ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه متفق عليه. وعن ابن عباس قال: ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده وقال: مهلا يا عمر ثم قال: إياكن ونعيق الشيطان، ثم قال: إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عزوجل ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان رواه أحمد. حديث ابن عباس فيه علي بن زيد وفيه كلام وهو ثقة، وقد أشار إلى الحديث الحافظ في التلخيص وسكت عنه. قوله: فجعلت أبكي في لفظ للبخاري: فجعلت أكشف الثوب عن وجهه أبكوفي لفظ آخر له: فذهبت أريد أن أكشف عنه فنهاني قومي، ثم ذهبت أكشف عنه فنهاني قومي. قوله: ينهوني في رواية للبخاري: وينهوني. قوله: ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينهاني فيه دليل على جواز البكاء الذي لا صوت معه وسيأتي تحقيق ذلك. قوله: فجعلت عمتي فاطمة تبكي قال في الفتح: هي شقيقة أبيه عبد الله بن عمرو. وفي لفظ للبخاري: فسمع صوت نائحة فقال: من هذه؟ فقالوا: بنت عمرو أو أخت عمرو والشك من سفيان، والصواب بنت عمرو، ووقع في الاكليل للحاكم تسميتها هند بنت عمرو، فلعل لها اسمين، أو
[ 150 ]
أحدهما اسمها والآخر لقبها، أو كانتا جميعا حاضرتين. قوله: تبكين أو لا تبكين قيل: هذا شك من الراوي هل استفهم أو نهى؟ والظاهر أنه ليس بشك، وإنما المراد به التخيير، والمعنى أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه، ومن كان بهذه المثابة تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يبكى عليه بل يفرح له بما صار إليه. وفيه إذن بالبكاء المجرد مع الارشاد إلى أولوية الترك لمن كان بهذه المنزلة. قوله: إياكن ونعيق الشيطان هو النوح والصراخ المنهي عنه بالاحاديث الآتية. قوله: إنه مهما كان من العين والقلب الخ، فيه دليل على جواز البكاء المجرد عما لا يجوز من فعل اليد، كشق الجيب واللطم، ومن فعل اللسان كالصراخ ودعوى الويل والثبور ونحو ذلك. وعن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية فقال: قد قضي؟ فقالوا: لا يا رسول الله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأى القوم بكاءه بكوا قال: ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب؟ ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم. [ رح 1499 ] وعن أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا لها في الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شئ عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب، فعاد الرسول فقال: إنها أقسمت لتأتينها، قال: فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقام مع سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، قال: فانطلقت معهم فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء متفق عليهما.
[ 151 ]
قوله: اشتكى أي ضعف وشكوى بغير تنوين. قوله: فلما دخل عليه زاد مسلم: فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين معه. قوله: وجده في غشية قال النووي: بفتح الغين وكسر الشين المعجمتين وتشديد الياء، قال القاضي: هكذا رواية الاكثرين، قال: وضبطه بعضهم بإسكان الشين وتخفيف الياء. وفي رواية البخاري: في غاشية وكله صحيح وفيه قولان: أحدهما من يغشاه من أهله، والثاني ما يغشاه من كرب الموت. قوله: فلما رأى القوم بكاءه بكوا هذا فيه إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لان عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه، ولم يعترض بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر. قوله: ألا تسمعون لا يحتاج إلى مفعول لانه جعل كالفعل اللازم أي لا توجدون السماع، وفيه إشارة إلا أنه فهم من بعضهم الانكار فبين لهم الفرق بين الحالتين. قوله: إن الله بكسر الهمزة لانه ابتداء كلام، وفيه دليل على جواز البكاء والحزن اللذين لا قدرة للمصاب على دفعهما. قوله: ولكن يعذب بهذا أي إن قال سوءا، أو يرحم إن قال خيرا، ويحتمل أن يكون معنى قوله: ويرحم أي إن لم ينفذ الوعيد. قوله: إحدى بناته هي زينب كما وقع عند ابن أبي شيبة. قوله: أن صبيا لها قيل: هو علي بن أبي العاص بن الربيع وهو من زينب وفيه نظر، لان الزبير بن بكار وغيره من أهل العلم بالاخبار ذكروا أن عليا المذكور عاش حتى ناهز الحلم، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة، وهذا لا يقال في حقه صبيا عرفا وإن جاز من حيث اللغة. وفي الانساب للبلاذري: أن عبد الله بن عثمان بن عفان من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما مات وضعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجره وقال: إنما يرحم الله من عباده الرحماء. وفي مسند البزار من حديث أبي هريرة قال: ثقل ابن لفاطمة فبعثت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر نحو حديث الباب، وفيه مراجعة سعد بن عبادة في البكاء، فعلى هذا الابن المذكور محسن بن علي، وقد اتفق أهل العلم بالاخبار أنه مات صغيرا في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا أولى إن ثبت أن القصة كانت لصبي ولم يثبت أن المرسلة زينب، لكن الصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب كما قال الحافظ، وأن الولد صبية كمفي مسند أحمد،
[ 152 ]
وكذا أخرجه أبو سعيد ابن الاعرابي في معجمه. ويدل على ذلك ما عن أبي داود بلفظ: إن ابنتي أو ابني. وفي رواية: إن ابنتي قد حضرت. قوله: إن لله ما أخذ قدم ذكر الاخذ على الاعطاء وإن كان متأخرا في الواقع لما يقتضيه المقصد، والمعنى أن الذي أراد الله أن يأخذ هو الذي كان أعطاه، فإن أخذه أخذ ما هو له، فلا ينبغي الجزع، لان مستودع الامانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه، ويحتمل أن يكون المراد بالاعطاء إعطاء الحياة لمن بقي بعد الموت، أو ثوابهم على المصيبة، أو ما هو أعم من ذلك. وما في الموضعين مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف. قوله: وكل شئ عنده بأجل مسمى أي كل من الاخذ والاعطاء، أو من الانفس، أو ما هو أعم من ذلك، وهي جملة ابتدائية معطوفة على الجمل المذكورة، ويجوز في كل النصب عطفا على اسم أن فينسحب التأكيد عليه، ومعنى العندية العلم فهو من مجاز الملازمة، والاجل يطلق على الحد الاخير وعلى مطلق العمر. قوله: مسمى أي معلوم أو مقدر أو نحو ذلك. قوله: ولتحتسب أي تنو بصبره طلب الثواب من ربها. قوله: ونفسه تقعقع بفتح التاء والقافين، والقعقعة حكاية صوت الشن اليابس إذا حرك. قوله: كأنها في شنة بفتح الشين وتشديد النون القربة الخلقة اليابسة، شبه البدن بالجلد اليابس، وحركة الروح فيه بما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها. قوله: ففاضت عيناه أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد صرح به في رواية شعبة. قوله: هذه رحمة أي الدمعة أثر رحمة، وفيه دليل على جواز ذلك، وإنما المنهي عنه الجزع وعدم البصر. قوله: وإنما يرحم الله من عباده الرحماء الرحماء جمع رحيم وهو من صيغ المبالغة، ومقتضاه أن رحمة الله تعالى تختص لمن اتصف بالرحمة وتحقق بها، بخلاف من فيه أدنى رحمة، لكن ثبت عند أبي داود وغيره من حديث عبد الله بن عمرو: الراحمون يرحمهم الرحمن والراحمون جمع راحم، فيدخل فيه من فيه أدنى رحمة. ومن فيه قوله من عبادة بيانية، وهي حال من المفعول قدمت ليكون أوقع.
[ 153 ]
وعن عائشة: أن سعد بن معاذ لما مات حضره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر قالت: فوالذي نفسي بيده إني لاعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وأنا في حجرتي رواه أحمد. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم من أحد سمع نساء من عبد الاشهل يبكين على هلكاهن فقال: لكن حمزة لا بواكي له، فجئن نساء الانصار فبكين على حمزة عنده، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ويحهن أيتن ههنا يبكين حتى الآن، مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم رواه أحمد وابن ماجة. وعن جابر بن عتيك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب فصاح به فلم يجبه فاسترجع وقال: غلبنا عليك يا أبا الربيع، فصاح النسوة وبكين، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية، قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: الموت رواه أبو داود والنسائي. حديث عائشة وابن عمر أشار إليهما الحافظ في التلخيص وسكت عنهما، ورجال إسناد حديث ابن عمر ثقات إلا أسامة بن زيد الليثي ففيه مقال. وقد أخرج له مسلم. وحديث جابر بن عتيك أخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم. قوله: وأبو بكر وعمر الخ، محل الحجة من هذا الحديث تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهما على البكاء وعدم إنكاره عليهما، مع أنه قد حصل منهما زيادة على مجرد دمع العين، ولهذا فرقت عائشة وهي في حجرتها بين بكاء أبي بكر وعمر، ولعل الواقع منهما مما لا يمكن دفعه ولا يقدر على كتمه ولم يبلغ إلى الحد المنهي عنه. قوله: ولكن حمزة لا بواكي له هذه المقالة منه صلى الله عليه وآله وسلم مع عدم إنكاره للبكاء الواقع من نساء عبد الاشهل على هلكاهن تدل على جواز مجرد البكاء. وقوله: ولا يبكين على هالك بعد اليوم ظاهره المنع من مطلق البكاء، وكذلك قوله في حديث جابر بن عتيك: فإذا وجب فلا تبكين باكية وذلك يعارض ما في الاحاديث المذكورة في الباب من الاذن بمطلق البكاء بعد الموت، ويعارض أيضا سائر الاحاديث الواردة في الاذن بمطلق البكاء مما لم يذكره المصنف، كحديث عائشة في قصة عثمان بن مظعون عند أبي داود والترمذي. وحديث أبي هريرة عند النسائي وابن ماجة
[ 154 ]
وابن حبان بلفظ: مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنازة فانتهرهن عمر، فقال النبي صلى الله عليوآله وسلم: دعهن يا ابن الخطاب، فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب وحديث بريدة عند مسلم في زيارته صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه وسيأتي. وحديث أنس عند الشيخين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذرفت عيناه لما جعل ابنه إبراهيم في حجره وهو يجود بنفسه فقيل له في ذلك فقال: إنها رحمة، ثم قال: العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وهو عند الترمذي من حديث جابر بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فانطلق به إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه، فأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوضعه في حجره فبكى، فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟ أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ فقال: لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان الحديث، قال الترمذي: حسن، فيجمع بين الاحاديث بحمل النهي عن البكاء مطلقا ومقيدا ببعد الموت على البكاء المفضي إلى ما لا يجوز زمن النوح والصراخ وغير ذلك، والاذن به على مجرد البكاء الذي هو دمع العين، وما لا يمكن دفعه من الصوت، وقد أرشد إلى هذا الجمع قوله: ولكن نهيت عن صوتين الخ، وقوله في حديث ابن عباس المتقدم: إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عزوجل ومن الرحمة. وقوله في حديث ابن عمر السابق: إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب فيكون معنى قوله: لا يبكين على هالك بعد اليوم. وقوله: فإذا وجب فلا تبكين باكية النهي عن البكاء الذي يصحبه شئ مما حرمه الشارع، وقيل: إنه يجمع بأن الاذن بالبكاء قبل الموت والنهي عنه بعده، ويربحديث أبي هريرة المذكور قريبا، وبحديث عائشة الذي ذكره المصنف. وبحدي‍ ث بريدة في قصة زيارته صلى الله عليه وآله وسلم لامه. وبحديث جابر وابن عباس المذكورين في أول الباب. وقيل: إنه يجمع بحمل أحاديث النهي عن البكاء بعد الموت على الكراهة، وقد تمسك بذلك الشافعي فحكى عنه كراهة البكاء بعد المو ت، والجمع الذي ذكرناه أولا هو الراجح. قوله: قالوا وما الوجوب الخ في رواية لاحمد: أن بعض رواة الحديث قالوا: الوجوب إذا دخل قبره، والتفسير المرفوع أصح وأرجح.
[ 155 ]
باب النهي عن النياحة والندب وخمش الوجوه ونشر الشعر ونحوه والرخصة في يسير الكلام من صفة الميت عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوة الجاهلية. وعن أبي بردة قال: وجع أبو موسى وجعا فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئا فلما أفاق قال: أنا برئ ممن برئ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. وعن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنه من نيح عليه يعذب بما نيح عليه. وعن عمر: أالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي. وفي رواية: ببعض بكاء أهله عليه. وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله. وعن عائشة قالت: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه متفق على هذه الاحاديث. ولاحمد ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الميت يعذب في قبره بما نيح عليه. قوله: ليس منا أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه من الدين، وفائدة إيراد هذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست مني، أي ما أنت على طريقتي. وحكي عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويل هذه اللفظة ويقول: ينبغي أن نمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر، وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل أي إنه خرج من فرع من فروع الدين، وإن كان معه أصله، حكاه ابن العربي، قال الحافظ: ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبرء الذي في حديث أبي موسى، وأصل البراءة الانفصال من الشئ، وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته مثلا. قوله: من ضرب الخدود خص الخد بذلك لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله. قوله: وشق الجيوب جمع جيب بالجيم وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقه إكمال
[ 156 ]
فتحه إلى آخره وهو من علامات السخط. قوله: ودعا بدعوة الجاهلية أي من النياحة ونحوها، وكذا الندبة كقولهم: واجبلاه، وكذا الدعاء بالويل والثبور كما سيأتي. وقوله: وجع بكسر الجيم. قوله: في حجر امرأة من أهله الخ في رواية لمسلم: أغمي على أبي موسى فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة ولابي نعيم في المستخرج على مسلم: أغمي على أبي موسى فصاحت امرأته بنت أبي دومة وذلك يدل على أن الصائحة أم عبد الله بنت أبي دومة واسمها صفية، قاله عمر بن شبة في تاريخ البصرة. قوله: أنا برئ قال المهلب: أي ممن فعل ذلك الفعل، ولم يرد نفيه عن الاسلام والبراءة الانفصال كما تقدم. قوله: الصالقة بالصاد المهملة والقاف أي التي ترفع صوتها بالبكاء، ويقال فيه بالسين بدل الصاد. ومنه قوله تعالى: * (سلقوكم بألسنة حداد) * (الاحزاب: 19). وعن ابن الاعرابي: الصلق ضرب الوجه والاول أشهر. قوله: والحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة. قوله: والشاقة هي التي تشق ثوبها. ولفظ مسلم: أنا برئ ممن حلق وصلق وخرق أي حلق شعره، وصلق صوته، أي رفعه، وخرق ثوبه. (والحديثان) يدلان على تحريم هذه الافعال لانها مشعرة بعدم الرضا بالقضاء. قوله: من نيح عليه يعذب بما نيح عليه ظاهره وظاهر حديث عمر وابنه المذكورين بعده أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وقد ذهب إلى الاخذ بظاهر هذه الاحاديث جماعة من السلف منهم عمر وابنه. وروي عن أبي هريرة أنه رد هذه الاحاديث وعارضها بقوله: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (فاطر: 18). وروى عنه أبو يعلى أنه قال: تالله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد فعمدت امرأته سفها وجهلا فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة. وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية منهم الشيخ أبو حامد وغيره، وذهب جمهور العلماء إلى تأويل هذه الاحاديث لمخالفتها للعمومات القرآنية وإثباتها لتعذيب من لا ذنب له، واختلفوا في التأويل فذهب جمهورهم كما قال النووي إلى تأويلها بمن أوصى بأن يبكي عليه لانه بسببه ومنسوب إليه، قالوا: وقد كان ذلك من عادة العرب كما قال طرفة بن العبد: [ شع ] إذا مت فأبكيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا أم معبد [ / شع ] قال في الفتح: واعترض بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور الوصية، والحديث دال على أنه إنما يقع عند الامتثال، والجواب أنه ليس في السياق
[ 157 ]
حصر، فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلا انتهى. ومن التأويلات ما حكاه الخطابي أن المراد أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك أن شدة بكائهم غالبا إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحال يسأل ويبتدأ به عذاب القبر، فيكون معنى الحديث على هذا أن الميت يعذب حال بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سببا لتعذيبه. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التكلف، ولعل قائله أخذه من قول عائشة: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه، وأن أهله ليبكون عليه الآن أخرجه مسلم. ومنها ما جزم به القاضي أبو بكر بن الباقلاني وغيره أن الراوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه، وأن اللام في الميت لمعهود معين، واحتجوا بما أخرجه مسلم من حديث عائشة أنها قالت: يغفر الله لابي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب ولكن نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على يهودية فذكرت الحديث. وأخرج البخاري نحوه عنها. ومنها أن ذلك يختص بالكافر دون المؤمن، واستدل لذلك بحديث عائشة المذكور في الباب، قال في الفتح: وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيها إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر، بل بما استشعرت من معارضة القرآن. وقال القرطبي: إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة والنسيان، وعلى أنه سمع بعضا أو لم يسمع بعضا بعيد، لان الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح. ومنها أن ذلك يقع لمن أهمل نهي أهله عن ذلك، وهو قول داود وطائفة، قال ابن المرابط: إذا علم المرء ما جاء في النهي عن النوح، وعرف أن أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده. ومنها أنه يعذب بسبب الامور التي يبكيه أهله بها ويندبونه لها، فهم يمدحونه بها وهو يعذب بصنيعه، وذلك كالشجاعة فيما لا يحل، والرياسة المحرمة، وهذا اختيار ابن حزم وطائفة، واستدل بحديث ابن عمر المتقدم بلفظ: ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه. وقد رجح هذا الاسماعيلي وقال: قد كثر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال: كل فيها باجتهاده على حسب ما قدر له، ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغزون ويسبون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الافعال المحرمة، فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به،
[ 158 ]
لان الميت يندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر وهي زيادة ذنب في ذنوبه يستحق عليها العقاب. ومنها: أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله، ويدل على ذلك حديث أبي موسى وحديث النعمان بن بشير الآتيان. ومنها: أن معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها، وهذا اختيار أبي جعفر الطبري، ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستدلوا لذلك بما أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم من حديث قيلة بفتح القاف وسكون الياء التحتية، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم قال الحافظ: وهو حسن الاسناد. وأخرج أبو داود والترمذي أطرافا منه. قال الطبري: ويؤيد ما قال أبو هريرة أن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم، ثم ساقه بإسناد صحيح، وقد وهم المغربي في شرح بلوغ المرام، فجعل قول أبي هريرة هذا حديثا، وصحف الطبري بالطبراني. ومن أدلة هذا التأويل حديث النعمان بن بشير الآتي، وكذلك حديث أبي موسى لما فيهما من أن ذلك يبلغ الميت. قال ابن المرابط: حديث قيلة نص في المسألة فلا يعدل عنه. واعترضه ابن رشيد فقال: ليس نصا وإنما هو محتمل، فإن قوله يستعبر إليه صويحبه ليس نصا في أن المراد به الميت، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي، وأن الميت حينئذ يعذب ببكاء الجماعة عليه، قال في الفتح: ويحتمل أن يجمع بين هذه التأويلات، فينزل على اختلاف الاشخاص بأن يقال مثلا: من كان طريقته النوح فمشى أهله على طريقته أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنيعه، ومن كان ظالما فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة وأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيا بذلك التحق بالاول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم عز وجل. قال: وحكى الكرماني تفصيلا آخر وحسنه، وهو التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فيحمل قوله: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (فاطر: 18) على يوم القيامة، وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ انتهى. وأنت خبير بأن الآية عامة، لان الوزر المذكور فيها واقع في سياق النفي، والاحاديث المذكورة في الباب مشتملة على وزر خاص، وتخصيص العمومات القرآنية بالاحاديث الآحادية هو
[ 159 ]
المذهب المشهور الذي عليه الجمهور، فلا وجه لما وقع من رد الاحاديث بهذا العموم، ولا ملجئ إلى تجشم المضايق لطلب التأويلات المستبعدة باعتبار الآية. وأما ما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ذلك في الكافر أو في يهودية معينة فهو غير مناف لرواية غيرها من الصحابة، لان روايتهم مشتملة على زيادة، والتنصيص على بعض أفراد العام لا يوجب نفي الحكم عن بقية الافراد لما تقرر في الاصول من عدم صحة التخصيص بموافق العام، والاحاديث التي ذكر فيها تعذيب مختص بالبرزخ أو بالتألم أو بالاستعبار كما في حديث قيلة لا تدل على اختصاص التعذيب المطلق في الاحاديث بنوع منها، لان التنصيص على ثبوت الحكم لشئ بدون مشعر بالاختصاص به لا ينافي ثبوته لغيره، فلا إشكال من هذه الحيثية، وإنما الاشكال في التعذيب بلا ذنب، وهو مخالف لعدل الله وحكمته على فرض عدم حصول سبب من الاسباب التي يحسن عندها في مقتضى الحكمة، كالوصية من الميت بالنوح، وإهمال نهيهم عنه، والرضا به، وهذا يؤول إلى مسألة التحسين والتقبيح، والخلاف فيها بين طوائف المتكلمين معروف، ونقول: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فسمعنا وأطعنا ولا نزيد على هذا. (واعلم) أن النووي حكى إجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم أن المراد بالبكاء الذي يعذب الميت عليه هو البكاء بصوت ونياحة لا بمجرد دمع العين. وعن أبي مالك الاشعري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالاحساب والطعن في الانساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب رواه أحمد ومسلم. وعن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه واناصراه واكاسباه جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسبها رواه أحمد. وفي لفظ: ما من ميت يموت فيقوم باكيه فيقول: واجبلاه واسنداه أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا كنت رواه الترمذي. وعن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي
[ 160 ]
واجبلاه وا كذا وا كذا تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لي أنت كذلك، فلما مات لم تبك عليه رواه البخاري. حديث أبي موسى رواه أيضا الحاكم وصححه وحسنه الترمذي. وحديث النعمان أخرجه البخاري في المغازي من صحيحه، وأخرجه أيضا مسلم. قوله: والطعن في الانساب هو من المعاصي التي يتساهل فيها العصاة. وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اثنتان في الناس هما بهم: كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت وقد اختلف في توجيه إطلاق الكفر على من فعل هاتين الخصلتين. قال النووي فيه أقوال: أصحها أن معناهما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية. والثاني: أنه يؤدي إلى الكفر. والثالث: كفر النعمة والاحسان. والرابع: أن ذلك في المستحل انتهى. قوله: والاستسقاء بالنجوم هو قول القائل: مطرنا بنوء كذا، أو سؤال المطر من الانواء، فإن كان ذلك على جهة اعتقاد أنها المؤثرة في نزول المطر فهو كفر. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب. وأخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن هذه الاربع لا تتركها أمته من علامات نبوته، فإنها باقية فيهم على تعاقب العصور وكرور الدهور، لا يتركها من الناس إلا النادر القليل. قوله: الميت يعذب ببكاء الحي قتقدم الكلام عليه. قوله: واعضداه الخ، أي أنه كان لها كالعضد، وكان لها ناصرا وكاسبا، وكان لها كالجبل تأوي إليه عند طروق الحوادث فتعتصم به، ومستندا تستند إليه في أمورها. قوله: يلهزانه أي يلكزانه. (وهذه الاحاديث) تدل على تحريم النياحة، وهو مذهب العلماء كافة كما قال النووي، إلا ما يروي عن بعض المالكية فإنه قال: النياحة ليست بحرام، واستدل بما أخرجه مسلم عن أم عطية قالت: لما نزلت هذه الآية * (يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف) * (الممتحنة: 12) قالت: كان منه النياحة، قالت فقلت: يا رسول الله، إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا آل فلان وغاية ما فيه الترخيص لام عطية في آل فلان خاصة،
[ 161 ]
فما الدليل على حل ذلك لغيرها في غير آل فلان؟ وللشارع أن يخص من العموم ما شاء، وقد استشكل القاضي عياض هذا الحديث ولا مقتضي لذلك، فإن للشارع أن يخص من شاء بما شاء. وقد ورد لعن الناءح والمستمعة من حديث أبي سعيد عند أحمد، ومن حديث ابن عمر عند الطبراني والبيهقي. ومن حديث أبي هريرة عند ابن عدي، قال الحافظ في التلخيص: وكلها ضعيفة. وأخرج مسلم من حديث أم عطية أيضا قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع البيعة أن لا ننوح، فما وفت منا امرأة إلا خمس، فذكرت منهن أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر رجلا أنه ينهي نساء جعفر عن البكاء كما في البخاري ومسلم، والمراد بالبكاء ههنا النوح كما تقدم. وعن أنس قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة: أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التراب رواه البخاري. وعن أنس: أن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه رواه أحمد. قوله في حديث أنس الاول: واكرب أبتاه قال في الفتح: في هذا نظر، وقد رواه مبارك بن فضالة عن ثابت بلفظ: واكرباه. قوله: أطابت أنفسكم قال في الفتح: ولسان حال أنس لم تطب أنفسنا لكن قهرناها امتثالا لامره. وقد قال أبو سعيد: ما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا. ومثله عن أنس يريد أن تغيرت عما عهدنا من الالفة والصفاء والرقة لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم. ويؤخذ من قول فاطمة الخ جواز ذكر الميت بما هو متصف به إن كان معلوما، قال الكرماني: وليس هذا من نوح الجاهلية من الكذب ورفع الصوت وغيره، إنما هو ندبة مباحة انتهى. وعلى فرض صدق اسم النوح في لسان الشارع على مثل هذا، فليس في فعل فاطمة وأبي بكر دليل على جواز ذلك، لان فعل الصحابي لا يصلح للحجية كما تقرر في الاصول ويحمل ما وقع منهما على أنهما لم يبلغهما أحاديث النهي عن ذلك
[ 162 ]
الفعل، ولم ينقل أن ذلك وقع منهما بمحضر جميع الصحابة حتى يكون كالاجماع منهم على الجواز لسكوتهم عن الانكار والاصل أيضا عدم ذلك. باب الكف عن ذكر مساوي الاموات عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبوا الاموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا رواه أحمد والبخاري والنسائي. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا رواه أحمد والنسائي. حديث ابن عباس أخرجه عنه بمعناه الطبراني في الاوسط بإسناد فيه صالح بن نبهان وهو ضعيف، وأخرج نحوه الطبراني في الكبير والاوسط من حديث سهل بن سعد والمغيرة. قوله: لا تسبوا الاموات ظاهره النهي عن سب الاموا ت على العموم، وقد خصص هذا العموم بما تقدم في حديث أنس وغيره أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم عند ثنائهم بالخير والشر: وجبت أنتم شهداء الله في أرضه ولم ينكر عليهم. وقيل: إن اللام في الاموات عهدية والمراد بهم المسلمون، لان الكفار مما يتقرب إلى الله عزوجل بسبهم، ويدل على ذلك قوله في حديث ابن عباس المذكور: لا تسبوا أمواتنا وقال القرطبي في الكلام على حديث وجبت أنه يحتمل أجوبة الاول أن الذي كان يحدث عنه بالسر كان مستظهرا به، فيكون من باب لاغيبة لفاسق أو كان منافقا، أو يحمل النهي على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه، أو يكون هذا النهي العام متأخرا فيكون ناسخا. قال الحافظ: وهذا ضعيف. وقال ابن رشيد ما محصله إن السب يكون في حق الكافر وفي حق المسلم، أما في الحق الكافر فيمتنع إذا تأذى به الحي المسلم، وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك كأن يصير من قبيل الشهادة عليه، وقد يجب في بعض المواضع، وقد تكون مصلحة للميت، كمن علم أنه أخذ مالا بشهادة زور ومات الشاهد، فإن ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أن من بيده المال يرده إلى صاحبه، والثناء على الميت بالخير والشر من باب الشهادة لا من باب السب انتهى. والوجه تبقية الحديث على عمومه إلا ما خصه دليل كالثناء على الميت بالشر، وجرح المجروحين من الرواة
[ 163 ]
أحياء وأمواتا لاجماع العلماء على جواز ذلك، وذكر مساوي الكفار والفساق للتحذير منهم والتنفير عنهم. قال ابن بطال: سب الاموات يجري مجرى الغيبة، فإن كان أغلب أحوال المرء الخير وقد تكون منه الفلتة، فالاغتياب له ممنوع، وإن كان فاسقا معلنا فلا غيبة له، وكذلك الميت انتهى. ويتعقب بأن ذكر الرجل بما فيه حال حياته قد يكون لقصد زجره وردعه عن المعصية، أو لقصد تحذير الناس منه وتنفيرهم، وبعد موته قد أفضى إلى ما قدم فلا سواء، وقد عملت عائشة راوية هذا الحديث بذلك في حق من استحق عندها اللعن فكانت تلعنه وهو حي، فلما مات تركت ذلك ونهت عن لعنه، كما روى ذلك عنها عمر بن شبة في كتاب أخبار البصرة، ورواه ابن حبان من وجه آخر وصححه، والمتحري لدينه في اشتغاله بعيوب نفسه ما يشغله عن نشر مثالب الاموات وسب من لا يدري كيف حاله عند بارئ البريات، ولا ريب أن تمزيق عرض من قدم على من قدم وجثا بين يدي من هو بما تكنه الضمائر أعلم، مع عدم ما يحمل على ذلك من جرح أو نحوه أحموقة لا تقع لمتيقظ، ولا يصاب بمثلها متدين بمذهب، ونسأل الله السلامة بالحسنات، ويتضاعف عند وبيل عقابها الحسرات، اللهم اغفر لنا تفلتات اللسان والقلم في هذه الشعاب والهضاب، وجنبنا عن سلوك هذه المسالك التي هي في الحقيقة مهالك ذوي الالباب. قوله: فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا أي وصلوا إلى ما عملوا من خير وشر، والربط بهذه العلة من مقتضيات الحمل على العموم. قوله: فتؤذوا الاحياء أي فيتسبب عن سبهم أذية الاحياء من قراباتهم، ولا يدل هذا على جواز سب الاموات عند عدم تأذي الاحياء، كمن لا قرابة له أو كانوا، ولكن لا يبلغهم ذلك، لان سب الاموات منهي عنه للعلة المتقدمة، ولكونه من الغيبة التي وردت الاحاديث بتحريمها، فإن كان سببا لاذية الاحياء فيكون محرما من جهتين، وإلا كان محرما من جهة. وقد أخرج أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذكرومحاسن أمواتكم وكفوا عن مساويهم وفي إسناده عمران بن أنس المكي وهو منكر الحديث، كما قال البخاري. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. وقال الكرابيسي: حديثه ليس بالمعروف. وأخرجه أبو داود عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات صاحبكم فدعوه لا تقعوا فيه وقد سكت أبو داود والمنذري عن الكلام على هذا الحديث.
[ 164 ]
باب استحباب زيارة القبور للرجال دون النساء وما يقال عند دخولها عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر الآخرة رواه الترمذي وصححه. [ رح 1517 ] وعن أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت رواه الجماعة. الحديث الاول أخرجه أيضا مسلم وأبو داود وابن حبان والحاكم، والحديث الثاني عزاه المصنف إلى الجماعة بدون استثناء، ولم أجده في البخاري ولا عزاه غيره إليه فينظر. وقد أخرجه أيضا الحاكم. (وفي الباب) عن ابن مسعود عند ابن ماجة والحاكم وفي إسناده أيوب بن هانئ مختلف فيه. وعن أبي سعيد الخدري عند الشافعي وأحمد والحاكم. وعن أبي ذر عند الحاكم وسنده ضعيف. وعن علي بن أبي طالب عليه السلام عند أحمد. وعن عائشة عند ابن ماجة. (وهذه الاحاديث) فيها مشروعية زيارة القبور ونسخ النهي عن الزيارة، وقد حكى الحازمي والعبدري والنووي اتفاق أهل العلم على أن زيارة القبور للرجال جائزة. قال الحافظ: كذا أطلقوه وفيه نظر، لان ابن أبي شيبة وغيره رووا عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والشعبي أنهم كرهوا ذلك مطلقا، حتى قال الشعبي: لولا نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزرت قبر ابنتي، فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الامر بعد هؤلاء، وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ والله أعلم. وذهب ابن حزم إلى أن زيارة القبور واجبة ولو مرة واحدة في العمر لورود الامر به، وهذا يتنزل على الخلاف في الامر بعد النهي هل يفيد الوجوب أو مجرد الاباحة فقط، والكلام في ذلك مستوفى في الاصول. قوله: فقد أذن لمحمد الخ فيه دليل على جواز زيارة قبر القريب الذي لم يدرك الاسلام. قال القاضي عياض: سبب زيارته صلى الله عليه وآله وسلم قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها، ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم في
[ 165 ]
آخر الحديث: فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت. قوله: فلم يؤذن لي فيه دليل على عدم جواز الاستغفار لمن مات على غير ملة الاسلام. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن زوارات القبور رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. وعن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن، فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها رواه الاثرم في سننه. الحديث الاول أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه. والحديث الثاني أخرجه أيضا الحاكم. وأخرجه ابن ماجة عن عائشة مختصرا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص في زيارة القبور. (وفي الباب) عن حسان عند أحمد وابن ماجة والحاكم. وعن ابن عباس عند أحمد وأصحاب السنن والبزار وابن حبان والحاكم وفي إسناده أبو صالح مولى أم هانئ وهو ضعيف. (وفي الباب) أيضا أحاديث تدل على تحريم اتباع الجنائز للنساء، فتحريم زيارة القبور تؤخذ منها بفحوى الخطاب منها عن ابن عمر، وعند أبي داود والحاكم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى فاطمة ابنته فقال: ما أخرجك من بيتك؟ فقالت: أتيت أهل هذا الميت فرحمت على ميتهم، فقال لها: فلعلك بلغت معهم الكدى؟ قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر، فقال: لو بلغت معهم الكدى فذكر تشديدا في ذلك، فسألت ربيعة ما الكدى؟ فقال: القبور فيما أحسب. وفي رواية: لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك. قال الحاكم: صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال ابن دقيق العيد: وفيما قاله الحاكم عندي نظر، فإنه رواية ربيعة بن سيف لم يخرج له الشيخين في الصحيح شيئا فيما أعلم. وعن أم عطية عند الشيخين قالت: نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا. وعنها أيضا عند الطبراني وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاهن أن يخرجن في جنازة. وقد ذهب إلى كراهة الزيارة للنساء جماعة من أهل العلم وتمسكوا بأحاديث الباب، واختلفوا في الكراهة هل هي كراهة تحريم أو تنزيه؟ وذهب الاكثر إلى الجواز إذا أمنت الفتنة، واستدلوا بأدلة منها دخولهن تحت الاذن العام بالزيارة،
[ 166 ]
ويجاب عنه بأن الاذن العام مخصص بهذا النهي الخاص المستفاد من اللعن، أما على مذهب الجمهور فمن غير فرق بين تقدم العام وتأخره ومقارنته وهو الحق. وأما على مذهب البعض القائلين بأن العام المتأخر ناسخ فلا يتم الاستدلال به إلا بعد معرفة تأخره. ومنها ما رواه مسلم عن عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله إذا زرت القبور؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين الحديث. ومنها ما أخرجه البخاري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري قالت: إليك عني الحديث ولم ينكر عليها الزيارة. ومنها ما رواه الحاكم أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك، وقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الاذن لهن، لان تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء انتهى. وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون رواه أحمد ومسلم والنسائي. ولاحمد من حديث عائشة مثله وزاد: اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم. وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية رواه أحمد ومسلم وابن ماجة. حديث عائشة أخرجه أيضا مسلم بلفظ: قول السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون وأخرج أيضا عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما كان ليلتها منه يخرج إلى البقيع من آخر الليل فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لاهل بقيع الغرقد. قوله: السلام عليكم دار قوم مؤمنين دار قوم منصوب على النداء أي يا أهل، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: منصوب على الاختصاص، قال صاحب المطالع: ويجوز جره على البدل من الضمير
[ 167 ]
في عليكم. قال الخطابي: إن اسم الدار يقع على المقابر، قال: وهو صحيح فإن الدار في اللغة تقع على الربع المسكون وعلى الخراب غير المأهول. قوله: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون التقييد بالمشيئة على سبيل التبرك وامتثال قول الله تعالى: * (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا إن يشاء الله) * (الكهف: 23) وقيل: المشيئة عائدة إلى الكون معهم في تلك التربة، وقيل غير ذلك. (والاحاديث) فيها دليل على استحباب التسليم على أهل القبور والدعاء لهم بالعافية. قال الخطابي وغيره: إن السلام على الاموات والاحياء سواء في تقديم السلام على عليكم، بخلاف ما كانت الجاهلية عليه كقولهم: [ شع ] عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما [ / شع ] [ رم ] باب ما جاء في الميت ينقل أو ينبش لغرض صحيح عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه. وفي رواية: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي بعدما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه فالله أعلم، وكان كسا عباسا قميصا، قال سفيان: فيرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألبس عبد الله قميصه مكافأة بما صنع رواهما البخاري. وعن جابر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم وكانوا نقلوا إلى المدينة رواه الخمسة وصححه الترمذي. وعن جابر قال: دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة رواه البخاري والنسائي. ولمالك في الموطأ أنه سمع غير واحد يقول: إن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ماتا بالعقيق فحملا إلى المدينة ودفنا بها. ولسعيد في سننه عن شريح بن عبيد الحضرمي أن رجالا قبروا صاحبا لهم لم يغسلوه ولم يجدوا له كفنا، ثم لقوا معاذ بن جبل فأخبروه فأمرهم أن يخرجوه فأخرجوه من قبره ثم غسل وكفن وحنط ثم صلى عليه. قوله: عبد الله بن أبي يعني ابن سلول وهو رأس المنافقين ورئيسهم.: بعدما دفن كان أهل عبد الله بن أبي بادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبي صلى
[ 168 ]
الله عليه وآله وسلم، فلما وصل وجدهم قد دلوه في حفرته فأمر بإخراجه، وفيه دليل على جواز إخراج الميت من قبره إذا كان في ذلك مصلحة له من زيادة البركة عليه ونحوها. قوله: فالله أعلم لفظ البخاري والله أعلم بالواو، وكأن جابرا التبست عليه الحكمة في صنعه صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله ذلك بعدما تبين نفاقه. قوله: وكان كسا عباسا يعني ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك يوم بدر لما أتى بالاسارى وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبي فكساه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياه، فلذلك ألبسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قميصه، هكذا ساقه البخاري في الجهاد، فيمكن أن يكون هذا هو السبب في إلباسه صلى الله عليه وآله وسلم قميصه، ويمكن أن يكون السبب ما أخرجه البخاري أيضا في الجنائز أن ابن عبد الله المذكور قال: يا رسول الله ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك وفي رواية أنه قال: أعطني قميصك أكفنه فيه. ويمكن أن يكون السبب هو المجموع للسؤال والمكافأة ولا مانع من ذلك. قوله: وكانوا نقلوا إلى المدينة فيه جواز إرجاع الشهيد إلى الموضع الذي أصيب فيه بعد نقله منه وليس في هذا أنهم كانوا قد دفنوا بالمدينة ثم أخرجوا من القبور ونقلوا. قوله: فلم تطب نفسي فيه دليل على أنه يجوز نبش الميت لامر يتعلق بالحي، لانه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه، وقد بين جابر ذلك بقوله: فلم تطب نفسي، ولكن هذا إن ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن له بذلك أو قرره عليه، وإلا فلا حجة في فعل الصحابي والرجل الذي دفن معه هو عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام الانصاري وكان صديق والد جابر وزوج أخته هند بنت عمرو. روى ابن إسحاق في المغازي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اجمعوا بينهما فإنهما كانا متصادقين في الدنيا. قوله: حتى أخرجته في لفظ للبخاري: فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير هنية في أذنه وظاهر هذا يخالف ما في الموطأ عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمر بن الجموح وعبد الله بن عمرو يعني والد جابر الانصاريين كانا قد حفر السيل قبرهما وكانا في قبر واحد فحفر عنهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالامس، وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة وقد جمع ابن عبد البر بينهما بتعدد القصة. قال في الفتح: وفيه نظر لان الذي فحديث جابر أنه دفن أباه في
[ 169 ]
قبر وحده بعد ستة أشهر. وفي حديث الموطأ أنهموجدا في قبر واحد بعد ست وأربعين سنة، فإما أن يكون المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو إن السيل خرق أحد القبرين فصارا كقبر واحد. وقد أخرج نحو ما ذكره في الموطأ ابن إسحاق في المغازي وابن سعد من طريق أبي الزبير عن جابر بإسناد صحيح. ومعنى قوله هنية أي شيئا يسيرا، وهي بنون بعدها تحتانية مصغرا وهو تصغير هنة. قوله: فحملا إلى المدينة فيه جواز نقل الميت من الموطن الذي مات فيه إلى موطن آخر يدفن فيه والاصل الجواز، فلا يمنع من ذلك إلا لدليل. قوله: فأمرهم أن يخرجوه الخ، فيه أنه يجوز نبش الميت لغسله وتكفينه والصلاة عليه، وهذا وإن كان قول صحابي ولا حجة فيه، ولكن جعل الدفن مسقطا لما علم من وجوب غسل الميت أو تكفينه أو الصلاة عليه محتاج إلى دليل ولا دليل. [ رك ] كتاب الزكاة الزكاة في اللغة النماء، يقال: زكا الزرع إذا نما، وترد أيضا بمعنى التطهير، وترد شرعا بالاعتبارين معا، أما بالاول فلان إخراجها سبب للنماء في المال، أو بمعنى أن الاجر يكثر بسببها، أو بمعنى أن تعلقها بالاموال ذات النماء كالتجارة والزراعة. ودليل الاول ما نقص مال من صدقة لانها يضاعف ثوابها كما جاء: إن الله تعالى يربي الصدقة. وأما الثاني فلانها طهرة للنفس من رذيلة البخل، وطهرة من الذنوب. قال في الفتح: وهي الركن الثالث من الاركان التي بني الاسلام عليها. قال أبو بكر بن العربي: تطلق الزكاة على الصدقة الواجبة والمندوبة والنفقة والعفو والحق. وتعريفها في الشرع إعطاء جزء من النصاب إلى فقير ونحوه غير متصف بمانع شرعي
[ 170 ]
يمنع من الصرف إليه. ووجوب الزكاة أمر مقطوع به في الشرع يستغني عن تكلف الاحتجاج له، وإنما وقع الاختلاف في بعض فروعها فيكفر جاحدها. وقد اختلف في الوقت الذي فرضت فيه فالاكثر أنه بعد الهجرة. وقال ابن خزيمة: إنها فرضت قبل الهجرة. واختلف الاولون فقال النووي: إن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة. وقال ابن الاثير في التاسعة قال في الفتح: وفيه نظر لانها ذكرت في حديث ضمام بن ثعلبة، وفي حديث وفد عبد القيس، وفي عدة أحاديث، وكذا في مخاطبة أبي سفيان مع هرقل وكانت في أول السابعة وقال فيها يأمرنا بالزكاة. وقد أطال الكلام الحافظ على هذا في أوائل كتاب الزكاة من الفتح فليرجع إليه. باب الحث عليها والتشديد في منعها عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب رواه الجماعة. قوله: لما بعث معاذا كان بعثه سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكره البخاري في أواخر المغازي. وقيل: كان ذلك في سنة تسع عند منصرفه من تبوك، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وقد أخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر، وقيل: بعثه عام الفتح سنة ثمان، واتفقوا على أنه لم يزل باليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها، واختلف هل كان واليا أو قاضيا، فجزم ابن عبد البر بالثاني والغساني بالاول. قوله: تأتي قوما من أهل الكتاب هذا كالتوطئة للوصية لتستجمع همته عليها، لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا يكون في مخاطبتهم كمخاطبته الجهال من عبدة الاوثان. قوله: فادعهم الخ، إنما وقعت البدأة بالشهادتين لانهما أصل الدين الذي لا يصح بشئ غيرهما، فمن
[ 171 ]
كان منهم غير موحد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحدا فالمطالبة له بالجمع بينهما. قوله: فإن هم اطاعوك الخ، استدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث دعوا أولا الايمان فقط ثم دعوا إلى العمل، ورتب ذلك عليه بالفاء، وتعقب بأن مفهوم الشرط مختلف في الاحتجاج به، وبأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في الوجوب، كما أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قدمت إحداهما على الاخرى في هذا الحديث، ورتبت الاخرى عليها بالفاء. قوله: خمس صلوات استدل به على أن الوتر ليس بفرض، وكذلك تحية المسجد وصلاة العيد وقد تقدم البحث عن ذلك. قوله: فإن هم أطاعوك لذلك قال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المراد إن هم أطاعوك بالاقرار بوجوبها عليهم والتزامهم بها. والثاني أن يكون المراد الطاعة بالفعل، وقد رجح الاول بأن المذكور هو الاخبار بالفريضة فتعود الاشارة إليها ويرجع الثاني أنهم لو أخبروا بالفريضة فبادروا إلى الامتثال بالفعل لكفى، ولم يشترط التلفظ بخلاف الشهادتين، فالشرط عدم الانكار والاذعان للوجوب. وقال الحافظ: المراد القدر المشترك بين الامرين، فمن امتثل بالاقرار أو بالفعل كفاه أو بهما فأولى، وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة فإذا صلوا، وبعد ذكر الزكاة فإذا أقروا بذلك فخذ منهم. قوله: صدقة زاد البخاري في رواية: في أموالهم، وفي رواية له أخرى: افترض عليهم زكاة في أموالهم. قوله: تؤخذ من أغنيائهم استدل به على أن الامام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه وإما بنائبه، فمن امتنع منهم أخذت منه قهرا. قوله: على فقرائهم استدل به لقول مالك وغيره: إنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد وفيه بحث كما قال ابن دقيق العيد لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك، وللمطابقة بينهم وبين الاغنياء. قال الخطابي: وقد يستدل به من لا يرى على المديون زكاة إذا لم يفضل من الدين الذي عليه قدر نصاب لانه ليس بغني إذ إخراج ماله مستحق لغرمائه. قوله: فإياك وكرائم أموالهم كرائم منصوب بفعل مضمر يجوز إظهاره، والكرائم جمع كريمة أي نفيسة. (وفيه دليل) على أنه لا يجوز للمصدق أخذ خيار المال لان الزكاة لمواساة الفقراء، فلا يناسب ذلك الاجحاف بالمالك إلا برضاه. قوله: واتق دعوة المظلوم فيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ كرائم الاموال الاشارة إلى أن أخذها ظلم. قوله: حجاب أي ليس لها صارف يصرفها ولا مانع،
[ 172 ]
والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصيا كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا: دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا، ففجره على نفسه. قال الحافظ: وإسناده حسن، وليس المراد أن لله تعالى حجابا يحجبه عن الناس. قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث: وقد احتج به على وجوب صرف الزكاة في بلدها، واشتراط إسلام الفقير وأنها تجب في مال الطفل الغني عملا بعمومه، كما تصرف فيه مع الفقر انتهى. وفيه أيضا دليل على بعث السعاة، وتوصية الامام عامله فيما يحتاج إليه من الاحكام، وقبول خبر الواحد، ووجوب العمل به، وإيجاب الزكاة في مال المجنون للعموم أيضا، وأن من ملك نصابا لا يعطى من الزكاة من حيث إنه جعل أن المأخوذ منه غني وقابله بالفقير، وأن المال إذا تلف قبل التمكن من الاداء سقط ت الزكاة لاضافة الصدقة إلى المال. وقد استشكل عدم ذكر الصوم والحج في الحديث، مع أن بعث معاذ كان في آخر الامر كما تقدم، وأجاب ابن الصلاح بأن ذلك تقصير من بعض الرواة، وتعقب بأنه يفضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الاحاديث النبوية لاحتمال الزيادة والنقصان، وأجاب الكرماني بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كررا في القرآن، فمن ثم لم يذكر الصوم والحج في هذا الحديث مع أنهما من أركان الاسلام، وقيل: إذا كان الكلام في بيان الاركان لم يخل الشارع منه بشئ كحديث: بني الاسلام على خمس فإذا كان في الدعاء إلى الاسلام اكتفى بالاركان الثلاثة: الشهادة والصلاة والزكاة، ولو كان بعد وجود فرض الحج والصوم لقوله تعالى: * (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) * (التوبة: 5 و 11) مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت تستن عليه، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله
[ 173 ]
إما إلى الجنة وإما إلى النار. قالوا: فالخيل يا رسول الله؟ قال: الخير في نواصيها، أ قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما التي هي له أجر فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له فلا تغيب شيئا في بطونها إلا كتب الله له أجرا، ولو رعاها في مرج فما أكلت من شئ إلا كتب الله له بها أجرا، ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر، حتى ذكر الاجر في أبوالها وأرواثها، ولو استنت شرفا أو شرفين كتب له بكل خطوة تخطوها أجر. وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرما وتجملا، ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها، وأما التي هي عليه وزر فالذي يتخذها أشرا وبطرا وبذخا ورياء الناس فذلك الذي هي عليه وزر، قالوا: فالحمر يا رسول الله؟ قال: ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 8 7) رواه أحمد ومسلم. قوله: ما من صاحب كنز قال الامام أبو جعفر الطبري: الكنز كل شئ مجموع بعضه على بعض، سواء كان في بطن الارض أو في ظهرها، قال صاحب العين وغيره: وكان مخزونا. قال القاضي عياض: اختلف السلف في المراد بالكنز المذكور في القرآن وفي الحديث، فقال أكثرهم: هو كل مال وجب فيه صدقة الزكاة فلم تؤد، فأما مال أخرجت زكاته فليس بكنز، وقيل: الكنز هو المذكور عن أهل اللغة، ولكن الآية منسوخة بوجوب الزكاة، وقيل: المراد بالآية أهل الكتاب المذكورون قبل ذلك، وقيل: كل ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز وإن أديت زكاته، وقيل: هو ما فضل عن الحاجة، ولعل هذا كان في أول الاسلام وضيق الحال، واتفق أئمة الفتوى على القول الاول لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تؤدى زكاته وفي صحيح مسلم: من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع. وفي آخره: فيقول: أنا كنزك. وفي لفظ لمسلم بدل قوله: ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته وما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منهما حقهما. قوله: ثم يرى سبيله قال النووي: هو بضم الياء التحتية من يرى وفتحها وبرفع لام سبيله ونصبها. قوله: إلا بطح لها بقاع قرقر القاع المستوي الواسع في سوي من الارض: قال الهروي: وجمعه قيعة وقيعان مثل جار وجيرة وجيران. والقرقر بقافين مفتوحتين وراءين أولهما ساكنة المستوى
[ 174 ]
أيضا من الارض الواسع. والبطح: قال جماعة من أهل اللغة معناه الالقاء على الوجه. قال القاضي عياض: وقد جاء في رواية للبخاري: تخبط وجهه بإخفافها قال: وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البطح أن يكون على الوجه، وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمد، فقد يكون على وجهه وقد يكون على ظهره، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها. قوله: كأوفر ما كانت يعني لا يفقد منها شئ. وفي رواية لمسلم: أعظم ما كانت. قوله: تستن عليه أي تجري عليه وهو بفتح الفوقية وسكون السين المهملة بعدها فوقية مفتوحة ثم نون مشددة. قوله: كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها وقع في رواية لمسلم: كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها قال القاضي عياض: وهو تغيير وتصحيف، وصوابه الرواية الاخرى يعني المذكورة في الكتاب. قوله: ليس فيها عقصاء الخ، قال أهل اللغة: العقصاء ملتوية القرنين وهي بفتح العين المهملة وسكون القاف بعدها صاد مهملة ثم ألف ممدودة. والجلحاء بجيم مفتوحة ثم لام ساكنة ثم حاء مهملة التي لا قرن لها. قوله: تنطحه بكسر الطاء وفتحها لغتان حكاهما الجوهري وغيره والكسر أفصح وهو المعرو ف في الرواية. قوله: الخيل في نواصيها الخير جاء تفسيره في الحديث الآخر في الصحيح بأنه الاجر والمغنم، وفيه دليل على بقاء الاسلام والجهاد إلى يوم القيامة، والمراد قبيل القيامة بيسير، وهو وقت إتيان الريح الطيبة من قبل اليمن التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما ثبت في الصحيح. قوله: فأما التي هي له أجر هكذا في أكثر نسخ مسلم، وفي بعضها: فأما الذي هي له أجر وهي أوضح وأظهر. قوله: في مرج بميم مفتوحة وراء ساكنة ثم جيم وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب. قوله: ولو استنت شرفا أو شرفين أي جرت، والشرف بفتح الشين المعجمة والراء وهو العالي من الارض، وقيل: المراد طلقا أو طلقين. قوله: أشرا وبطرا وبذخا قال أهل اللغة: الاشر بفتح الهمزة والشين المعجمة والمرح واللجاج. والبطر بفتح الباء بواحدة من أسفل والطاء المهملة ثم راء هو الطغيان عند الحق. والبذخ بفتح الباء الموحدة والذال المعجمة بعدها خاء معجمة هو بمعنى الاشر والبطر. قوله: إلا هذه الآية الفاذة الجامعة المراد بالفاذة القليلة النظير وهي بالذال المعجمة المشددة، والجامعة العامة المتناولة لكل خير ومعروف، ومعنى ذلك أنه لم ينزل علي فيها نص بعينها، ولكن نزلت
[ 175 ]
هذه الآية العامة. وقد يحتج بهذا من قال: لا يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويجاب بأنه لم يظهر له فيها شئ‌ومحل ذلك الاصول. (والحديث) يدل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة والابل والغنم. وقد زاد مسلم في هذا الحديث: ولا صاحب بقر الخ، قال النووي: وهو أصح حديث ورد في زكاة البقر، وقد استدل به أبو حنيفة على وجوب الزكاة في الخيل لما وقع في رواية لمسلم عند ذكر الخيل: ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها. وتأول الجمهور هذا الحديث على أن المراد يجاهد بها. وقيل: المراد بالحق في رقابها الاحسان إليها والقيام بعلفها وسائر مؤنها، والمراد بظهورها إطراق فحلها إذا طلبت عاريته، وقيل: المراد حق الله مما يكسبه من مال العدو على ظهورها وهو خمس الغنيمة، وسيأتي الكلام على هذه الاطراف التي دل الحديث عليها. قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه دليل أن تارك الزكاة لا يقطع له بالنار، وآخره دليل في إثبات العموم انتهى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله تعالى، فقال: والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق رواه الجماعة إلا ابن ماجة، لكن في لفظ مسلم والترمذي وأبي داود: لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه بدل العناق. قوله: وكفر من كفر من العرب قال الخطابي: أهل الردة كانوا صنفين: صنفا ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعدلوا إلى الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة، وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما أصحاب مسيلمة الكذاب من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة، وأصحاب الاسود العنسي ومن استجابه من أهل اليمن، وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدعية النبوة لغيره، فقاتلهم أبو بكر حتى قتل مسيلمة باليمامة والعنسي بصنعاء، وانفضت جموعهم وهلك أكثرهم. والطائفة الاخرى ارتدوا عن الدين فأنكروا الشرائع وتركوا
[ 176 ]
الصلاة والزكاة وغيرهما من أمور الدين، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، فلم يكن يسجد لله في الارض إلا في ثلاثة مساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس، قال: والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة، فأنكروا وجوبها ووجوب أدائها إلى الامام، وهؤلاء على الحقيقة أهل البغي، وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمن خصوصا لدخولهم في غمار أهل الردة، وأضيف الاسم في الجملة إلى أهل الردة إذ كانت أعظم الامرين وأهمهما، وأرخ مبدأ قتال أهل البغي من زمن علي بن أبي طالب عليه السلام إذ كانوا منفردين في زمانه لم يخلطوا بأهل الشرك، وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولم يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع، فإنهم قد كانوا جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر بن الخطاب، فراجع أبا بكر وناظره واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس الحديث، وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكر: إن الزكاة حق المال يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال متعلقة بأطراف شرائطها، والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم، ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة إليها فكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعا من الصحابة، ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه. وقد اجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر بالعموم، ومن أبي بكر بالقياس، ودل ذلك إلى أن العموم يخص بالقياس، وأن جميع ما تضمنه الخطاب الوارد في الحكم الواحد من شرط واستثناء مراعى فيه ومعتبر صحته، فلما استقر عند عمر صحة رأي أبي بكر وبان له صوابه تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله: فعرفت أنه الحق يشير إلى انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة. وقد زعم زاعمون من الرافضة أن أبا بكر أول من سبى المسلمين، وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة، وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) * (التوبة: 103) خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره، وأنه مقيد بشرائط لا
[ 177 ]
توجد فيمن سواه، وذلك أنه ليس لاحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومثل هذه الشبهة إذا وجدت كان ذلك مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم، وزعموا أن قتالهم كان عسفا، وهؤلاء قوم لا خلاق لهم في الدين، وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في السلف، وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفارا، ولذلك رأأبوبكر سبي ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة. واستولد علي بن أبي طالب عليه السلام جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمد ابن الحنيفة، ثم لم ينفض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى، فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد كفارا، وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين، وذلك أن الردة اسم لغوي، فكل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتد عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق، وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح، وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا. وأما قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * (التوبة: 103) وما ادعوه من كون الخطاب خاصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن خطاب كتاب الله على ثلاثة أوجه: خطاب عام كقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) * (المائدة: 6) الآية ونحوها. وخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يشركه فيه غيره وهو ما أبين به عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى: * (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) * (الاسراء: 79) وكقوله: خالصة لك من دون المؤمنين. وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * (الاسراء: 78) وكقوله تعالى: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) * (النحل: 98) ونحو ذلك. ومنه قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * (التوبة: 103) وهذا غير مختص به بل يشاركه فيه الامة. والفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله والمبين عنه معنى ما أراد، فقدم اسمه ليكون سلوك الامة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه لهم. وأما التطهير والتزكية والدعاء منه صلى الله عليه وآله وسلم لصاحب الصدقة فإن الفاعل
[ 178 ]
لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله فيها، وكل ثواب موعود على عمل بر كان في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم فإنه باق غير منقطع. قوله: حتى يقولوا لا إله إلا الله الخ، المراد بهذا أهل الاوثان دون أهل الكتاب لانهم يقولون: لا إله إلا الله ويقاتلون ولا يرفع عنهم السيف. قوله: لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة قال النووي: ضبطناه بوجهين: فرق وفرق بتشديد الراء وتخفيفها ومعناه من أطاع في الصلاة وجحد في الزكاة أو منعها. قوله: عناقا بفتح العين بعدها نون وهو الانثى من أولاد المعز. وفي الرواية الاخرى: عقالا وقد اختلف في تفسيره فذهب جماعة إلى أن المراد بالعقال زكاة عام. قال النووي: وهو معروف في اللغة كذلك، وهذا قول الكسائي والنضر بن شميل وأبي عبيد والمبرد وغيرهم من أهل اللغة، وهو قول جماعة من الفقهاء، قال: والعقال الذي هو الحبل الذي يعقل به البعير، لا يجب دفعه في الزكاة فلا يجوز القتال عليه، فلا يصح حمل الحديث على هذا. وذهب كثير من المحققين إلى أن المراد بالعقال الحبل الذي يعقل به البعير، وهذا القول محكي عن مالك وابن أبي ذئب وغيرهما، وهو اختيار صاحب التحرير وجماعة من حذاق المتأخرين. قال صاحب التحرير: قول من قال: المراد صدقة عام تعسف وذهاب عن طريقة العرب، لان الكلام خرج مخرج التضييق والتشديد والمبالغة، فيقتضي قلة ما علق به العقال وحقارته، وإذا حمل على صدقة العام لم يحصل هذا المعنى، قال النووي: وهذا الذي اختاره هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره، وكذلك أقول أنا، ثم اختلفوا في المراد بقوله: منعوني عقالا فقيل قدر قيمته كما في زكاة الذهب والفضة والمعشرات والمعدن والركاز والفطرة والمواشي في بعض أحوالها، وهو حي‍ ث يجوز دفع القيمة. وقيل: زكاة عقال إذا كان من عروض التجارة، وقيل: المراد المبالغة ولا يمكن تصويره ويرده ما تقدم. وقيل: إنه العقال الذي يؤخذ مع الفريضة، لان على صاحبها تسليمها برباطها. (واعلم) أنها قد وردت أحاديث صحيحة قاضية بأن مانع الزكاة يقاتل حتى يعطيها، ولعلها لم تبلغ الصديق ولا الفاروق، ولو بلغتهما لما خالف عمر، ولا احتج أبو بكر بتلك الحجة التي هي القياس. فمنها ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق
[ 179 ]
الاسلام وحسابهم على الله. وأخرج البخاري ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. وأخرج مسلم والنسائي من حديث جابر بن عبد الله نحوه. وفي الباب أحاديث. وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها، وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى لا يحل لآل محمد منها شئ رواه أحمد والنسائي وأبو داود وقال: وشطر ماله وهو حجة في أخذها من الممتنع ووقوعها موقعها. الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي، وقال يحيى بن معين إسناده صحيح إذا كان من دون بهز ثقة، وقد اختلف في بهز فقال أبو حاتم: لا يحتج به، وروى الحاكم عن الشافعي أنه قال: ليس بهز حجة، وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث ولو ثبت لقلنا به، وكان قال به في القديم ثم رجع. وسئل أحمد عن هذا الحديث فقال: ما أدري وجهه، وسئل عن إسناده فقال: صالح الاسناد. وقال ابن حبان: لولا هذا الحديث لادخلت بهزا في الثقات. وقال ابن حزم: إنه غير مشهور العدالة. وقال ابن الطلاع: إنه مجهول، وتعقبا بأنه قد وثقه جماعة من الائمة. وقال ابن عدي: لم أر له حديثا منكرا. وقال الذهبي: ما تركه عالم قط، وقد تكلم فيه أنه كان يلعب بالشطرنج. قال ابن القطان: وليس ذلك بضائر له، فإن استباحته مسألة فقهية مشتهرة، قال الحافظ: وقد استوفيت الكلام فيه في تلخيص التهذيب. وقال البخاري: بهز بن حكيم يختلفون فيه، وقال ابن كثير: الاكثر لا يحتجون به. وقال الحاكم: حديثه صحيح، وقد حسن له الترمذي عدة أحاديث ووثقه واحتج به أحمد وإسحاق والبخاري خارج الصحيح وعلق له فيه، وروي عن أبي داود أنه حجة عنده. قوله: في كل إبل سائمة يدل على أنه لا زكاة في المعلوفة. قوله: في كل أربعين الخ، سيأتي تفصيل الكلام في ذلك. قوله: لا تفرق إبل عن حسابها أي لا يفرق أحد الخليطين ملكه عن ملك صاحبه، وسيأتي أيضا تحقيقه. قوله: مؤتجرا أي طالبا للاجر. قوله: فإنا آخذوها
[ 180 ]
استدل به، على أنه يجوز للامام أن يأخذ الزكاة قهرا، إذ لم يرض رب المال وعلى أنه يكتفي بنية الامام كما ذه‍ ب إلى ذلك الشافعي والهادوية، وعلى أن ولاية قبض الزكاة إلى الامام، وإلى ذل‍ ك ذهبت العترة وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي في أحد قوليه. قوله: وشطر ماله أي بعضه. وقد استدل به على أنه يجوز للامام أن يعاقب بأخذ المال، وإلى ذلك ذهب الشافعي في القديم من قوليه ثم رجع عنه وقال: إنه منسوخ، وهكذا قال البيهقي وأكثر الشافعية، قال في التلخيص: وتعقبه النووي فقال: الذي أدعوه من كون العقوبة كانت بالاموال في أول الاسلام ليس بثابت ولا معروف، ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ. وقد نقل الطحاوي والغزالي الاجماع على نسخ العقوبة بالمال. وحكى صاحب ضوء النهار عن النووي أنه نقل الاجماع مثلهما، وهو يخالف ما قدمنا عنه فينظر. وزعم الشافعي أن الناسخ حديث ناقة البراء لانه صلى الله عليه وآله وسلم حكم عليه بضمان ما أفسدت، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وآله وسلم في تلك القضية أضعف الغرامة، ولا يخفى أن تركه صلى الله عليه وآله وسلم للمعاقبة بأخذ المال في هذه القضية لا يستلزم الترك مطلقا، ولا يصلح للتمسك به على عدم الجواز وجعله ناسخا البتة، وقد ذهب إلى جواز المعاقبة بالمال الامام يحيى والهادوية. وقال في الغيث: لا أعلم في جواز ذلك خلافا بين أهل البيت، واستدلوا بحديث بهز هذا، وبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة وقد تقدم في الجماعة. وبحديث عمر عند أبي داود قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة المديني، قال البخاري: عامة أصحابنا يحتجون به وهو باطل. وقال الدارقطني: أنكروه على صالح ولا أصل له، والمحفوظ أن سالما أمر بذلك في رجل غل في غزاة مع الوليد بن هشام. قال أبو داود: وهذا أصح. وبحديث ابن عمرو بن العاص عند أبي داود والحاكم والبيهقي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال وضربوه وفي إسناده زهير بن محمد، قيل: هو الخراساني، وقيل: غيره وهو مجهول، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في كتاب الجهاد، وله شاهد مذكور هنالك، وبحديث أن سعد بن أبي وقا ص سلب عبدا وجده يصيد في حرم المدينة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من وجدتموه يصيد فيه فخذوا سلبه أخرجه مسلم.
[ 181 ]
وبحديث تغريم كاتم الضالة أن يردها ومثلها. وحديث تضمين من أخرج غير ما يأكل من الثمر المعلق مثليه، كما أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري من حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال: من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شئ عليه، ومن خرج بشئ منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة. وأخرج نحوه النسائي والحاكم وصححه، وسيأتي في كتاب السرقة. ومن الادلة قضية المددي الذي أغلظ لاجله الكلام عوف بن مالك عن خالد بن الوليد لما أخذ سلبه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا ترد عليه أخرجه مسلم. وبإحراق علي بن أبي طالب عليه السلام لطعام المحتكر ودور قوم يبيعون الخمر، وهدمه دار جرير بن عبد الله، ومشاطرة عمر لسعد بن أبي وقاص في ماله الذي جاء به من العمل الذي بعثه إليه، وتضمينه لحاطب بن أبي بلتعة مثلي قيمة الناقة التي غصبها عبيده وانتحروها، وتغليظه هو وابن عباس الدية على من قتل في الشهر الحرام في البلد الحرام. (وقد أجيب) عن هذه الادلة بأجوبة. أما عن حديث بهز فيما فيه من المقال وبما رواه ابن الجوزي في جامع المسانيد والحافظ في التلخيص عن إبراهيم الحربي أنه قال في سياق هذا المتن لفظة وهم فيها الراوي وإنما هو فإنا آخذوها من شطر ماله أي يجعل ماله شطرين، ويتخير عليه المصدق ويأخذ الصدقة من خير الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا، وبما قال بعضهم: إن لفظة وشطر ماله بضم الشين المعجمة وكسر الطاء المهملة فعل مبني للمجهول، ومعناه جعل ماله شطرين يأخذ المصدق الصدقة من أي الشطرين أراد. ويجاب عن القدح بما في الحديث من المقال بأنه مما لا يقدح بمثله. وعن كلام الحربي وما بعده بأن الاخذ من خير الشطرين صادق عليه اسم العقوبة بالمال لانه زائد على الواجب. وأما حديث هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاحراق فأجيب عنه بأن السنة أقوال وأفعال وتقريرات، والهم ليس من الثلاثة، ويرد بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يهم إلا بالجائز، وأما حديث عمر فيما فيه من المقال المتقدم. وكذلك أجيب عن حديث ابن عمرو. وأما حديث سعد بن أبي وقاص فبأنه من باب الفدية، كما يجب على من يصيد صيد مكة، وإنما عين صلى الله عليه وآله وسلم نوع الفدية هنا بأنها سلب
[ 182 ]
العاضد، فيقتصر على السبب لقصور العلة التي هي هتك الحرمة عن التعدية. وأما حديث تغريم كاتم الضالة والمخرج غير ما يأكل من الثمن. وقضية المددي فهي واردة على سبب خاص، فلا يجاوز بها إلى غيره، لانها وسائل احاديث الباب مما ورد على خلاف القياس، لورود الادلة كتابا وسنة بتحريم ما الغير. قال الله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجار) * (النساء: 29) * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام) * (البقرة: 188). وقال صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة حجة الوداع: إنما دماؤكم وأموالكم وأعراضكم الحديث قد تقدم. وقال: لا يحل مال امرئ مسلم، إلا بطيبة من نفسه. وأما تحريق على طعام المحتكر ودور القوم وهدمه دار جرير، فبعد تسليم صحة الاسناد إليه وانتهاض فعله للاحتجاج به، يجاب عنه بأن ذلك من قطع ذرائع الفساد، كهدم مسجد الضرار وتكسير المزامير. وأما المروي عن عمر من ذلك فيجاب عنه بعد ثبوته بأنه أيضا قول صحابي لا ينتهض للاحتجاج به، ولا يقوى على تخصيص عمومات الكتاب والسنة، وكذلك المروي عن ابن عباس. قوله: عزمة من عزمات ربنا قال في البدر المنير: عزمة خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك عزمة، وضبطه صاحب إرشاد الفقه بالنصب على المصدر، وكلا الوجهين جائز من حيث العربية. ومعنى العزمة في اللغة الجد في الامر. وفيه دليل على أن أخذ ذلك واجب مفرو ض من الاحكام. والعزائم الفرائض كما في كتب اللغة. باب صدقة المواشي عن أنس أن أبا بكر كتب لهم أن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين التي أمر الله بها ورسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوق ذلك فلا يعطه فيما دون خمس وعشرين من الابل والغنم في كل خمس ذود شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين، فإن لم يكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلى ستين، فإذا بلغت واحدة وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين،
[ 183 ]
فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى تسعين، فإذا بلغت واحدة وتسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فإذا تباين أسنان الابل في فرائض الصدقات فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده إلا حقة فإنها تقبل منويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده ابنة لبون وعنده ابنة مخاض فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض وليس عنده إلا ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شئ، ومن لم يكن معه إلا أربع من الابل فليس فيها شئ إأن يشاء ربها. وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت ففي كل مائة شاة ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدق، ولا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها شئ إلا أن يشاء وبها. وفي الرقة ربع العشر، فإذا لم يكن المال إلا تسعين ومائة فليس فيها شئ إلا أن يشاء ربها. رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبخاري وقطعه في عشرة مواضع. ورواه الدارقطني كذلكوله فيه في رواية في صدقة الابل: فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح ورواته كلهم ثقات. الحديث أخرجه أيضا الشافعي والبيهقي والحاكم، قال ابن حزم: هذا كتاب في نهاية الصحة عمل به الصديق بحضرة العلماء ولم يخالفه أحمد، وصححه ابن حبان أيضا وغيره. قوله: أن أبا بكر كتب لهم في لفظ للبخاري: أن أبا بكر كتب له هذا
[ 184 ]
الكتاب لما وجهه إلى البحرين: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها ورسوله. قوله: التي فرض رسول الله معنى فرض هنا أوجب أو شرع يعني بأمر الله تعالى. وقيل معناه قدر لان إيجابها ثابت بالكتاب، فيكون المعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ذلك. قال في الفتح: وقد يرد الفرض بمعنى البيان كقوله تعالى: * (قد فرض الله لكم تحلة إيمانكم) * (التحريم: 2) وبمعنى الانزال كقوله: * (إن الذي فرض عليك القرآن) * (القصص: 85) وبمعنى الحل كقوله: * (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له) * (الاحزاب: 38) وكل ذلك لا يخرج عن معنى التقدير. ووقع استعمال الفرض بمعنى اللزوم حتى يكاد يغلب عليه وهو لا يخرج عن معنى التقدير. وقد قال الراغب: كل شئ ورد في القرآن فرض على فلان فهو بمعنى الالزام، وكل شئ ورد فرض له فهو بمعنى لم يحرم عليه، وذكر أن معنى قوله تعالى: * (إن الذي فرض عليك القرآن) * (القصص: 85) أي أوجب عليك العمل به، وهذا يؤيد قول الجمهور: إن الفرض مرداف للوجوب، وتفريق الحنفية بين الفرض والواجب باعتبار ما يثبتان به لا مشاحة فيه، وإنما النزاع في حمل ما ورد من الاحاديث الصحيحة على ذلك، لان اللفظ السابق لا يحمل على الاصطلاح الحادث انتهى. قوله: ورسوله في نسخة رسوله بدون واو وهو الصواب كما في البخاري وغيره. قوله: ومن سئل فوق ذلك فلا يعطه أي من سئل زائدا على ذلك في سن أو عدد فله المنع. ونقل الرافعي الاتفاق على ترجيحه. وقيل معناه فليمنع الساعي وليتول إخراجه بنفسه أو يدفعها إلى ساع آخر، فإن الساعي الذي طلب الزكاة يكون بذلك متعديا، وشرطه أن يكون أمينا. قال الحافظ: لكن محل هذا إذا طلب الزيادة بغير تأويل انتهى، ولعله يشير بهذا إلى الجمع بين هذا الحديث وحديث: أرضوا مصدقيكم عند مسلم والنسائي من حديث جرير، وحديث: سيأتيكم ركب مبغضون فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبغون، فإن عدلوا فلانفسهم، وإن ظلموا فعليها وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم أخرجه أبو داود من حديث جابر بن عتيك. وفي لفظ للطبراني من حديث سعد بن أبي وقاص: ادفعوا إليهم ما صلوا الخمس، فتكون هذه الاحاديث محمولة على أن للعامل تأويلا في طلب الزائد على الواجب. قوله: الغنم هو مبتدأ وما قبله خبره، وهو يدل على أن إخراج الغنم فيما دون خمس وعشرين من الابل متعين، وإليه ذهب مالك وأحمد، فلا يجزئ عندهما إخراج بعير عن أربع وعشرين. قال
[ 185 ]
الشافعي: والجمهور يجزئ لانه إذا أجزأ في خمس وعشرين فإجزاؤه فيما دونها بالاولى، قال في الفتح: ولان الاصل أن يجب في جنس المال، وإنما عدل عنه رفقا بالمالك، فإذا رجع باختياره إلى الاصل أجزأه، فإن كانت قيمة البعير مثلا دون قيمة أربع شياه ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم، والاقيس أنه لا يجزي انتهى. قوله: في كل خمس ذود شاة الذود: بفتح الذال المعجمة وسكون الواو بعدها ذال مهملة قال الاكثر: وهو من الثلاثة إلى العشرة لا واحد له من لفظه، وقال أبو عبيدة: من الاثنين إلى العشرة، قال: وهو مختص بالاناث. وقال سيبويه: تقول ثلاث ذود لان الذود مؤنث وليس باسم كسر عليه مذكر، وقال القرطبي: أصله ذاد يذود إذا دفع شيئا فهو مصد، وكأن من كان عنده دفع عن نفسه معرة الفقر وشدة الفاقة والحاجة. وقال ابن قتيبة: إنه يقع على الواحد فقط، وأنكر أن يراد بالذود الجمع، قال: ولا يصح أن يقال خمس ذود، كما لا يصح أن يقال خمس ثوب، وغلطه بعض العلماء في ذلك، وقال أبو حاتم السجستاني: تركوا القياس في الجمع فقالوا: خمس ذود لخمس من الابل، كما قالوا: ثلاثمائة على غير قياس، قال القرطبي: وهذا صريح في أن الذود واحد في لفظه، قال الحافظ: والاشهر ما قاله المتقدمون أنه لا يطلق على الواحد. قوله: فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض بنت المخاض بفتح الميم بعدها خاء معجمة خفيفة وآخره ضاد معجمة، هي التي أتى عليها حول ودخلت في الثاني وحملت أمها، والماخض الحامل، والمراد أنه قد دخل وقت حملها وإن لم تحمل، وهذا يدل على أنه يجب في الخمس والعشرين إلى الخمس والثلاثين بنت مخاض، وإليه ذهب الجمهور. وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن علي عليه السلام أن في الخمس والعشرين خمس شياه، فإذا صارت ستا وعشرين كان فيها بنت مخاض. وقد روي عنه هذا مرفوعا وموقوفا، قال الحافظ: وإسناد المرفوع ضعيف. قوله: فابلبون ذكر هو الذي دخل في السنة الثالثة وصارت أمه لبونا بوضع الحمل. وقوله: ذكر تأكيد لقوله ابن لبون، وفيه دليل على جواز العدول إلى ابن اللبون عند عدم بنت المخاض. قوله: ابنة لبون زاد البخاري أنثى. قوله: حقة الحقة بكسر المهملة وتشديد القاف والجمع حقاق بالكسر، وطروقة الفحل بفتح أوله أي مطروقة كحلوبة بمعنى محلوبة، والمراد أنها بلغت أن يطرقها الفحل وهي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة. قوله: ففيها جذعة الجذعة بفتح الجيم والذال المعجمة، وهي التي أتى عليها أربع سنين ودخلت في الخامسة. قوله: ففي كل أربعين بنت لبون
[ 186 ]
المراد أنه يجب بعد مجاوزة المائة والعشرين بواحدة في كل أربعين بنت لبون، فيكون الواجب في مائة إحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، وإلى هذا ذهب الجمهور، ولا اعتبار بالمجاوزة بدون واحدة، كنصف أو ثلث أو ربع، خلافا للاصطخري فقال: يجب ثلاث بنات لبون بزيادة بعض واحدة، ويرد عليه ما عند الدارقطني في آخر هذا الحديث، وما في كتاب عمر الآتي بلفظ: فإذا كانت إحدوعشرين ومائة. ومثله في كتاب عمرو بن حزم، وإلى ما قاله الجمهور ذهب الناصر والهادي في الاحكام، حكى ذلك عنهما المهدي في البحر، وحكي في البحر أيضا عن علي وابن مسعود والنخعي وحماد والهادي وأبي طالب والمؤيد بالله وأبي العباس أن الفريضة تستأنف بعد المائة والعشرين فيجب في الخمس شاة ثم كذلك، واحتج لهم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وما زاد على ذلك استؤنفت الفريضة، وهذا إن صح كان محمولا على الاستئناف المذكور في الحديث، أعني إيجاب بنت اللبون في كل أربعين والحقة في كل خمسين جمعا بين الاحاديث. (لا يقال) إنه يرجح حديث الاستئناف بمعنى الرجوع إلى إيجاب شاة في كل خمس إلى خمس وعشرين على حسب التفصيل المتقدم بأنه متضمن للايجاب، يعني إيجاب شاة مثلا في الخمس الزائدة على مائة وعشرين، وحديث الباب وما في معناه متضمن للاسقاط. لانا نقول: هو وهم ناشئ من قوله: وإذا زادت ففي كل أربعين فظن أن معناه في كل أربعين من الزياد فقط وليس كذلك، بل معناه في كل أربعين من الزيادة والمزيد. وحكي في الفتح عن أبي حنيفة مثل قول علي وابن مسعود ومن معهما، وقيده في البحر بأنه يقول بذلك إلى مائة وخمس وأربعين، ثم له فيما زاد روايتان كالمذهب الاول وكالمذهب الثاني. قوله: ويجعل معها شاتين الخ، فيه دليل على أنه يجب على المصدق قبول ما هو أدون، ويأخذ التفاوت من جنس غير جنس الواجب وكذا العكس، وذهبت الهادوية إلى أن الواجب إنما هو زيادة فضل القيمة من المصدق أو رب المال، ويرجع في ذلك إلى التقويم، لكن أجاب الجمهور عن ذلك بأنه لو كان كذلك لم ينظر إلى ما بين السنين في القيمة، وكان العرض يزيد تارة وينقص أخرى لاختلاف ذلك في الامكنة، فلما قدر الشارع التفاوت بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص، كان ذلك هو الواجب في الاصل في مثل ذلك، ولولا تقدير الشارع بذلك لتعينت بنت المخاض مثلا، ولم يجز أن تبدل ابن لبون مع التفاوت. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يرجع إلى القيمة فقط عند التعذر،
[ 187 ]
وذهب زيد بن علي إلى أن الفضل بين كل سنين شاة أو عشرة دراهم. قوله: إلا أن يشاء ربها أي إلا أن يتطوع متبرعا. قوله: فإذا زادت ففيها شاتان قد ورد ما يدل على تعيين أقل المراد من هذه الزيادة المطلقة، ففي كتاب عمرو بن حزم: فإذا كانت إحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين ففيها شاتان، وقد تقدم خلاف الاصطخري في ذلك. قوله: ففي كل مائة شاة مقتضاه أنها لا تجب الشاة الرابعة حتى توفي أربعمائة شاة وهو مذهب الجمهور، وعن بعض الكوفيين والحسن بن صالح ورواية عن أحمد إذا زادت على الثلاثمائة واحدة وجبت الاربع. قوله: هرمة بفتح الهاء وكسر الراء هي الكبيرة التي سقطت أسنانها. قوله: ولا ذات عوار بفتح العين المهملة وضمها، وقيل: بالفتح فقط أي معيبة، وقيل: بالفتح العيب وبالضم العور. واختلف في مقدار ذلك، فالاكثر على أنه ما ثبت به الرد في البيع، وقيل: ما يمنع الاجزاء في الاضحية، ويدخل في المعيب المريض والذكر بالنسبة إلى الانثى، والصغير بالنسبة إلى سن أكبر منه. قوله: ولا تيس بتاء فوقية مفتوحة وياء تحتية ساكنة ثم سين مهملة وهو فحل الغنم. قوله: إلا أن يشاء المصدق قال في الفتح: اختلف في ضبطه يعني المصدق فالاكثر على أنه بالتشديد، والمراد المالك وهو اختيار أبي عبيد، وتقدير الحديث لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب أصلا، ولا يؤخذ التيس إلا برضا المالك لكونه محتاجا إليه، ففي أخذه بغير اختياره إضرار به، وعلى هذا فالاستثناء مختص بالثالث، ومنهم من ضبطه بتخفيف الصاد وهو الساعي، وكأنه أشير بذلك إلى التفويض إليه في اجتهاده لكونه يجري مجرى الوكيل، فلا يتصرف بغير المصلحة فيتقيد بما تقتضيه القواعد، وهذا قول الشافعي انتهى. قوله: ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة قال في الفتح: قال مالك في الموطأ: معنى هذا أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت فيها الزكاة فيجمعونها حتى لا يجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة، أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاة فيكون عليهما فيها ثلاث شياه فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد منهما إلا شاة واحدة. وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة والساعي من جهة، فأمر كل منهما أن لا يحدث شيئا من الجمع والتفريق خشية الصدقة، فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة فيجمع أو يفرق لتقل، والساعي أن تقل الصدقة فيجمع أو يفرق لتكثر، فمعنى قوله خشية الصدقة أي خشية أن تكثر أو تقل، فلما كان محتملا للامرين لم يكن الحمل على
[ 188 ]
أحدهما أولى من الآخر فحمل عليهما معا، لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر. واستدل به على أن من كان عنده دون النصاب من الفضة ودون النصاب من الذهب مثلا أنه لا يجب ضم بعضه إلى بعض حتى يصير نصابا كاملا، فيجب عليه فيه الزكاة، خلافا لمن قال بالضم كالمالكية والهادوية والحنفية. واستدل به أحمد على أن من كان له ماشية ببلد لا تبلغ النصاب، وله ببلد آخر ما يوفيه منها أنها لا تضم، قال ابن المنذر: وخالفه الجمهور فقالوا: تجمع على صاحب المال أمواله ولو كانت في بلدان شتى ويخرج منها الزكاة واستدل به أيضا على إبطال الحيلة والعمل على المقاصد المدلول عليها بالقرائن. قوله: وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية قال في الفتح: اختلف في المراد بالخليطين، فعند أبي حنيفة أنهما الشريكان قال: ولا يجب على أحد منهما فيما يملك إلا مثل الذي كان يجب عليهما لو لم يكن خلط، وتعقبه ابن جرير بأنه لو كان تفريقهما مثل جمعهما في الحكم لبطلت فائدة الحديث، وإنما نهى عن أمر لو فعله كان فيه فائدة، ولو كان كما قال لم يكن لتراجع الخليطين بينهما بالسوية معنى. ومثل تفسير أبي حنيفة روى البخاري عن سفيان وبه قال مالك، وقال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث: إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا، والخلط عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل والشركة أخص منهما. ومثل ذلك روى سفيان في جامعه عن عمر والمصير إلى هذا التفسير متعين. ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكا قوله تعالى: * (وإن كثيرا من الخلطاء) * (ص: 24) وقد بينه قبل ذلك بقوله: * (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة) * (ص: 23) واعتذر بعضهم عن الحنفية بأن الحديث لم يبلغهم، أو أرادوا أن الاصل ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وحكم الخليط يخالفه، ويرد بأن ذلك مع الانفراد وعدم الخلطة، لا إذا انضم ما دون الخمس إلى عدد الخليط يكون به الجميع نصابا، فإنه يجب تزكية الجميع لهذا الحديث وما ورد في معناه ولا بد من الجمع بهذا. ومعنى التراجع كما قال الخطابي أن يكون بينهما أربعون شاة مثلا لكل واحد منهما عشرون قد عرف كل منهما عين ماله، فيأخذ المصدق من أحدهما شاة، فيرجع المأخوذ من ماله على خليطة بقيمة نصف شاة وهي تسمى خلطة الجوار. قوله: وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة لفظ شاة الاول منصوب على أنه مميز عدد أربعين، ولفظ شاة الثاني منصوب أيضا على أنه مميز نسبة ناقصة إلى السائمة. قوله: وفي الرقة بكسر الراء وتخفيف
[ 189 ]
القاف هي الفضة الخالصة، سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة. قال الحافظ: قيل أصلها الورق فحذفت الواو وعوضت الهاء، وقيل: تطلق على الذهب والفضة بخلاف الورق، وعلى هذا قيل: إن الاصل فزكاة النقدين نصاب الفضة، فإذا بلغ الذهب ما قيمته مائتا درهم فضة خالصة وجبت فيه الزكاة وهي ربع العشر، وهذا قول الزهري وخالفه الجمهور، وسيأتي البحث عن ذلك في باب زكاة الذهب والفضة. وعن الزهري عن سالم عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كتب الصدقة ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي، قال: فأخرجها أبو بكر من بعده فعمل بها حتى توفي، ثم أخرجها عمر من بعده فعمل بها قال: فلقد هلك عمر يوم هلك وإن ذلك لمقرون بوصيته، قال: فكان فيها في الابل في خمس شاة حتى تنتهي إلى أربع وعشرين، فإذا بلغت إلى خمس وعشرين ففيها بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون، فإذا زادت على خمس وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإذا زادت ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا زادت ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كثرت الابل ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون. وفي الغنم من أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت شاة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت بعد فليس فيها شئ حتى تبلغ أربعمائة، فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة، وكذلك لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فهما يتراجعان بالسوية، لا تؤخذ هرمة ولاذات عيب من الغنم رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. وفي هذا الخبر من رواية الزهري عن سالم مرسلا: فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة، فإذا كانت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقة حتى تبلغ تسعا وثلاثين ومائة، فإذا كانت أربعين ومائة ففيها حقتان وبنت لبون حتى تبلغ تسعا وأربعين ومائة، فإذا بلغت خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق حتى تبلغ تسعا وخمسين ومائة، فإذا كانت ستين ومائة ففيها أربع بنات لبون حتى تبلغ تسعا وستين ومائة، فإذا كانت سبعين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وحقة حتى تبلغ تسعا وسبعين ومائة، فإذا بلغت ثمانين ومائة ففيها حقتان
[ 190 ]
وابنتا لبون حتى تبلغ تسعا وثمانين ومائة، فإذا كانت تسعين ومائة ففيها ثلاث حقاق وابنة لبون حتى تبلغ تسعا وتسعين ومائة، فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون أي السنين وجدت أخذت رواه أبو داود. الحديث أخرج المرفوع منه أيضا الدارقطني والحاكم والبيهقي، ويقال: تفرد بوصله سفيان بن حسين وهو ضعيف في الزهري خاصة، والحفاظ من أصحاب الزهري لا يصلونه، رواه أبو داود والدارقطني والحاكم عن أبي كريب عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري قال: هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كتب في الصدقة وهي عند آل عمر. قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله وسالم ابني عبد الله بن عمر فذكر الحديث، وقال البيهقي: تابع سفيان بن حسين على وصله سليمان بن كثير، وأخرجه أيضا ابن عدي من طريقه، ولكنه كما قال الحافظ: لين في الزهري، وقد اتفق الشيخان على إخراج حديث سليمان بن كثير والاحتجاج به. وأخرج مسلم حديث سفيان بن حسين واستشهد به البخاري، قال الترمذي في كتاب العلل: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: أرجو أن يكون محفوظا وسفيان بن حسين صدوق انتهى. وضعف ابن معين هذا الحديث وقال: تفرد به سفيان بن حسين، ولم يتابع سفيان أحد عليه، وسفيان ثقة دخل مع يزيد بن المهلب خراسان وأخذوا عنه. وفي رواية للدارقطني في هذا الحديث: إن في خمس وعشرين خمس شياه وضعفها لانها من طريق سليمان بن أرقم عن الزهري وهو ضعيف. واعلم أن المرفوع من هذا الحديث وهو بعض من حديث أنس السابق وقد تقدم شرحه. قوله: ففيها بنتا لبون وحقة الحقة عن خمسين وبنتا اللبون عن ثمانين، وكذلك إذا بلغت مائة وأربعين ففيها حقتان عن مائة، وبنت لبون عن أربعين، وإذا بلغت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق عن كل خمسين حقة، وإذا بلغت مائة وستين ففيها أربع بنات لبون عن كل أربعين واحدة، وإذا بلغت مائة وسبعين ففيها ثلاث بنات لبون عن مائة وعشرين، وحقة عن خمسين، وإذا بلغ‍ ت مائة وثمانين ففيها حقتان عن مائة وابنتا لبون عن ثمانين، وإذا بلغت مائة وتسعين ففيها ثلاث حقاق عن مائة وخمسين وبنت لبون عن أربعين، وإذا بلغت مائتين ففيها أربع حقاق عن كل خمسين حقة أو خمس بنات لبون عن كل أربعين واحدة، وهذا لا يخالف ما تقدم في حديث أنس لان قوله فيه:
[ 191 ]
ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة معناه مثل هذا لا فرق بينه وبينه إلا أنه مجمل وهذا مفصل. وزاد أبو داود في هذا الحديث بعد قوله: ولا ذات عيب فقال: وقال الزهري: إذا جاء المصدق قسمت الشياه أثلاثا: ثلثا شرارا، وثلثا خيارا، وثلثا وسطا فيأخذ من الوسط. وعن معاذ بن جبل: قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر رواه الخمسة وليس لابن ماجة فيه حكم الحاكم. وعن يحيى بن الحكم: أن معاذا قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصدق أهل اليمن فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل أربعين مسنة، فعرضوا علي أن آخذ ما بين الاربعين والخمسين، وما بين الستين والسبعين، وما بين الثمانين والتسعين، فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك وزعم أن الاوقاص لا فريضة فيها رواه أحمد. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصححه، والدارقطني والحاكم وصححه أيضا من رواية أبي وائل عن مسروق عن معاذ. ورواه أبو داود والنسائي من رواية أبي وائل عن معاذ، ورجح الترمذي والدارقطني الرواية المرسلة، ويقال: إن مسروقا لم يسمع من معاذ، وقد بالغ ابن حزم في تقرير ذلك. وقال ابن القطان: هو على الاحتمال، وينبغي أن يحكم لحديثه بالاتصال على رأي الجمهور. وقال ابن عبد البر في التمهيد: إسناده متصل صحيح ثابت، ووهم عبد الحق فنقل عنه أنه قال: مسروق لم يلق معاذا، وتعقبه ابن القطان بأن أبا عمر إنما قال ذلك في رواية مالك عن حميد بن قيس عن طاوس عن معاذ، وقد قال الشافعي: طاوس عالم بأمر معاذ، وإن لم يلقه لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذا، وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافا انتهى. قال الحافظ في التلخيص: ورواه البزار والدارقطني من طريق ابن عباس بلفظ: لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا، أو تبيعة جذعا أو جذعة الحديث، لكنه من طريق بقية عن المسعودي وهو ضعيف. والرواية الثانية المذكورة عن معاذ أخرجها أيضا البزار وفي إسنادها الحسن بن عمارة وهو ضعيف، ويدل على ضعفه ذكره فيها لقدوم معاذ على النبي
[ 192 ]
صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقدم إلا بعد موته. وقد أخرج نحو هذه الرواية مالك في الموطأ من طريق طاوس عن معاذ، وليس عنده أن معاذا قدم قبل موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل صرح فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات قبل قدومه. وحكى الحافظ عن عبد الحق أنه قال في زكاة البقر حديث متفق على صحته يعني في النصب. وحكي أيضا عن ابن جرير الطبري أنه قال: صح الاجماع المتيقن المقطوع به الذي لا اختلاف فيه أن في كل خمسين بقرة بقرة، فوجب الاخذ بهذا، وما دون ذلك مختلف فيه، ولا نص في إيجابه، وتعقبه صاحب الامام بحديث عمرو بن حزم الطويل في الديات وغيرها، فإن فيه في كل ثلاثين باقورة تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين باقورة بقرة. وحكي أيضا عن ابن عبد البر أنه قال في الاستذكار: لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ، وأنه النصاب المجمع عليه فيها انتهى. قوله: من كل ثلاثين من البقر فيه دليل على أن الزكاة لا تجب فيما دون الثلاثين، وإليه ذهبت العترة والفقهاء. وحكي في البحر عن سعيد بن المسيب والزهري أنها تجب في خمس وعشرين منها كالابل، ورده بأن النصب لا تثبت بالقياس. وإن سلم فالنص مانع. قوله: تبيعا أو تبيعة التبيع على ما في القاموس والنهاية ما كان في أول سنه. وفي حديث عمرو بن حزم جذع أو جذعة. قوله: مسنة حكي في النهاية عن الازهري أن البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن إذا كان في السنة الثانية، والاقتصار على المسنة في الحديث يدل على أنه لا يجزئ المسن، ولكنه أخرج الطبراني عن ابن عباس مرفوعا: وفي كل أربعين مسنة أو مسن. قوله: ومن كل حالم دينارا فسره أبو داود بالمحتلم، والمراد به أخذ الجزية ممن لم يسلم. قوله: معافر بالعين المهملة حي من همدان لا ينصرف لما فيه من صيغة منتهى الجموع، وإليهم تنسب الثياب المعافرية، والمراد هنا الثياب المعافرية كما فسره بذلك أبو داود. قوله: إن الاوقاص الخ هي جمع وقص بفتح الواو والقاف، ويجوز إسكانها وإبدال الصاد سينا وهو ما بين الفرضين عند الجمهور، واستعمله الشافعي فيما دون النصاب الاول. وقد وقع الاتفاق على أنه لا يجب فيها شئ في البقر إلا في رواية عن أبي حنيفة فإنه أوجب فيما بين الاربعين والستين ربع مسنة، وروي عنه وهو المصحح له أنه يجب قسطه من المسنة. وعن رجل يقال له سعر عن مصدقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنهما
[ 193 ]
قالا: نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نأخذ شافعا، والشافع التي في بطنها ولدها. وعن سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول: إن في عهدي أنا لا نأخذ من راضع لبن، ولا نفرق بين مجتمع، ولا نجمع بين مفترق، وأتاه رجل بناقة كوماء فأبى أن يأخذها رواهما أحمد وأبو داود والنسائي. الحديث الاول أخرجه أيضا الطبراني، وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده ثقات. والحديث الثاني أخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي وفي إسناده هلال بن خباب، وقد وثقه غير واحد، وتكلم فيه بعضهم. قوله: يقال له سعر بكسر السين المهملة وسكون العين المهملة وآخره راء كذا في جامع الاصول ومختصر المنذري. وفي كتاب ابن عبد البر: بفتح السين المهملة وهو ابن ديسم بفتح الدال المهملة وسكون الياء التحتية وفتح السين المهملة الكناني الديلي، روى عنه ابنه جابر هذا الحديث، وذكر الدارقطني وغيره أن له صحبة، وقيل: كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما جاء في هذا الحديث. قوله: من راضع لبن فيه دليل على أنها لا تؤخذ الزكاة من الصغار التي ترضع اللبن، وظاهره سواء كانت منفردة أو منضمة إلى الكبار، ومن أوجبها فيها عارض هذا بما أخرجه مالك في الموطأ والشافعي وابن حزم أن عمر قال لساعيه سفيان بن عبد الله الثقفي: اعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يده ولا تأخذها كما سيأتي، وهو مبني على جواز التخصيص بمذهب الصحابي والحق خلافه. قوله: كوماء بفتح الكاف وسكون الواو هي الناقة العظيمة السنام. (والحديثان) يدلان على أنه لا يجوز للمصدق أن يأخذ من خيار الماشية، وقد أخرج الشيخان من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: إياك وكرائم أموالهم. وقد تقدم الكلام على قوله: ولا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق. وعن عبد الله بن معاوية الغاضري من غاضرة قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث من فعلهن طعم طعم الايمان: من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام، ولا يعطي الهرمة
[ 194 ]
ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره رواه أبو داود. الحديث، أخرجه أيضا الطبراني وجود إسناده وسياقه أتم سندا ومتنا، وذكره أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة مسندا، وعبد الله هذا له صحبة وهو معدود في أهل حمص، قيل: إنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا حديثا واحدا، والغاضري بالغين والضاد المعجمتين. قوله: رافدة الرافدة المعينة والمعطية، والمراد هنا المعنى الاول أي معينة له على أداء الزكاة. قوله: ولا الدرنة بفتح الدال المهملة مشددة بعدها راء مكسورة ثم نون وهي الجرباء قاله الخطابي، وأصل الدرن الوسخ كما في القاموس وغيره. قوله: ولا الشرط اللئيمة الشرط بفتح الشين المعجمة والراء، قال أبو عبيد: هي صغار المال وشراره، واللئيمة البخيلة باللبن. قوله: ولكن من وسط أموالكم الخ، فيه دليل على أنه ينبغي أن يخرج الزكاة من أوساط المال لا من شراره ولا من خياره. وعن أبي بن كعب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصدقا فمررت برجل فلم أجد عليه في ماله إلا ابنة مخاض فأخبرته أنها صدقته فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وما كنت لاقرض الله ما لالبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة سمينة فخذها، فقلت: ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به، فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منك قريب، فخرج معي وخرج بالناقة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك الذي عليك وإن تطوعت بخير قبلناه منك وأجرك الله فيه، قال: فخذها فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقبضها ودعا له بالبركة رواه أحمد. الحديث أخرجه أيضا أبو داود بأتم مما هنا، وصححه الحاكم وفي إسناده محمد بن إسحاق، وخلاف الائمة في حديثه مشهور إذا عنعن، وهو هنا قد صرح بالتحديث. قوله: ولا ظهر يعني أن بنت المخاض ليست ذات لبن ولا صالحة للركوب عليها. قوله: ولكن هذه ناقة سمينة لفظ أبي داود: لكن هذه ناقة عظيمة سمينة. قوله: منك قريب زاد أبو داود: فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن رده عليك رددته، قال: فإني فاعل، فخرج معي
[ 195 ]
بالناقة التي عرضت علي الخ. قوله: فأخبره الخبر لفظ أبي داود: فقال له: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي، وأيم الله مقام في مالي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا رسوله قط قبله فجمعت مالي فزعم أن ما علي فيه إلا ابنة مخاض ثم ذكر نحو ما تقدم. (والحديث) يدل على جواز أخذ سن أفضل من السن التي تجب على المالك إذا رضي بذلك، وهو مما لا أعلم فيه خلافا. وعن سفيان بن عبد الله الثقفي: أن عمر بن الخطاب قال: تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها، ولا تأخذ الاكولة، ولا الربى، ولا الماخض، ولافحل الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وذلك عدل بين غذاء المال وخياره رواه مالك في الموطأ. الحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن حزم، وأغرب ابن أبي شيبة فروا مرفوعا قال: حدثنا أبو أسامة عن النهاس بن قهم عن الحسن بن مسلم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفيان بن عبد الله على الصدقة الحديث. وروا أيضا أبو عبيد في الاموال من طريق الاوزاعي عن سالم بن عبد الله المحاربي أن عمر بعث مصدقا فذكر نحوه. قوله: تعد عليهم بالسخلة استدل به على وجوب الزكاة في الصغار، وقد تقدم في المرفوع من حديث سويد بن غفلة ما يخالفه. قوله: الاكولة بفتح الهمزة وضم الكاف العاقر من الشياه، والشاة تعزل للاكل هكذا في القاموس، وأما الاكولة بضم الهمزة والكاف فهي قبيحة المأكول، وليست مرادة هنا لان السياق في تعداد الخيار. قوله: ولا الربى بضم الراء وتشديد الباء الموحدة هي الشاة التي تربى في البيت للبنها. قوله: ولا فحل الغنم إنما منعه من أخذه مع كونه لا يعد من الخيار، لان المالك يحتاج إليه لينزو على الغنم. قوله: وتأخذ الجذعة والثنية المراد الجذعة من الضأن والثنية من المعز، ويدل على ذلك ما في بعض روايات حديث سويد بن غفلة المتقدم أن المصدق قال: إنما حقنا في الجذعة من الضأن والثنية من المعز. قوله: بين غذاء المال الغذاء بالغين المعجمة المكسورة بعدها ذال معجمة جمع غذى كغنى السخال. (وقد استدل) بهذا الاثر على أن الماشية التي تؤخذ في الصدقة هي المتوسطة بين الخيار والشرار. وفي المرفوع النهي عن كرائم
[ 196 ]
الاموال كما تقدم من حديث معاذ، وعن المعيب كما تقدم في حديث أنس وعمر، والامر بأخذ الوسط كما تقدم في حديث الغاضري. باب لا زكاة في الرقيق والخيل والحمر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه رواه الجماعة. ولابي داود: ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر ولاحمد ومسلم: ليس للعبد صدقة إلا صدقة الفطر. وعن عمر وجاءه ناس من أهل الشام فقالوا: إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور، قال: ما فعله صاحباي قبلي فأفعله، واستشار أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم علي رضي الله عنه فقال علي: هو حسن إن لم تكن جزية راتبة يؤخذون بها من بعدك رواه أحمد. وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحمير فيها زكاة فقال: ما جاءني فيها شئ إلا هذه الآية الفاذة: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 8 7) رواه أحمد. وفي الصحيحين معناه. الاثر المروي عن عمر قال في مجمع الزوائد: رجاله ثقات. قوله: ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه قال ابن رشيد: أراد بذلك الجنس في الفرس والعبد لا الفرد الواحد، إذ لا خلاف في ذلك في العبد المتصرف والفرس المعد للركوب، ولا خلاف أيضا أنها لا تؤخذ من الرقاب، وإنما قال بعض الكوفيين، تؤخذ منها بالقيمة. وقال أبو حنيفة: إنها تجب في الخيل إذا كانت ذكرانا وإناثا نظرا إلى النسل، وله في المنفردة روايتان، ولا يرد عليه أنه يلزم مثل هذا في سائر السوائم، إذا انفردت لعدم التناسل لانه يقول: إنه إذا عدم التناسل حصل فيها النمو للاكل والخيل لا تؤكل عنده. قال الحافظ: ثم عنده أن المالك يتخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارا أو يقوم ويخرج ربع العشر، وهذا الحديث يرد عليه، وأجيب من جهته بحمل النفي فيه على الرقبة لا على القيمة وهو خلاف الظاهر. ومن جملة ما يرد به عليه حديث علي عند أبي داود بإسناد حسن مرفوعا: قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة وسيأتي. واستدل
[ 197 ]
على الوجوب بما وقع في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في الخيل: ثم لم ينس حق الله في ظهورها. وقد تقدم الجواب عن ذلك في شرح حديث أبي هريرة. (ومن جملة) ما استدل به ما أخرجه الدارقطني والبيهقي والخطيب من حديث جابر عنه صلى الله عليه وآله وسلم: في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم وهذا الحديث مما لا تقوم به حجة، لانه قد ضعفه الدارقطني والبيهقي، فلا يقوى على معارضة حديث الباب الصحيح، وتمسك أيضا بما روي عن عمر أنه أمر عامله بأخذ الصدقة من الخيل، وقد تقرر أن أفعال الصحابة وأقوالهم لا حجة فيها، لا سيما بعد إقرار عمر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر لم يأخذ الصدقة من الخيل كما في الرواية المذكورة في الباب. (وقد احتج) بظاهر حديث الباب الظاهرية فقالوا: لا تجب الزكاة في الخيل والرقيق لا لتجارة ولا لغيرها، وأجيب عنهم بأن زكاة التجارة ثابتة بالاجماع. كما نقله ابن المنذر وغيره، فيخص به عموم هذا الحديث، ولا يخفى أن الاجماع على وجوب زكاة التجارة في الجملة لا يستلزم وجوبها في كل نوع من أنواع المال، لان مخالفة الظاهرية في وجوبها في الخيل والرقيق الذي هو محل النزاع مما يبطل الاحتجاج عليهم بالاجماع على وجوبها فيهما، فالظاهر ما ذهب إليه أهله. قوله: إن لم تكن جزية الخ، ظاهر هذا أن عليا لا يقول بجواز أخذ الزكاة من هذين النوعين، وإنما حسن الاخذ من الجماعة المذكورين لكونهم قد طلبوا من عمر ذلك. وحديث أبي هريرة المذكور في الباب هو طرف من حديثه المتقدم في أول الكتاب، وقد شرحناه هنالك،
[ 198 ]
وقد استدل به على عدم وجوب الزكاة في الحمر، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن زكاتها فلم يذكر أن فيها الزكاة، والبراءة الاصلية مستصحبة، والاحكام التكليفية لا تثبت بدون دليل، ولا أعرف قائلا من أهل العلم يقول بوجوب الزكاة في الحمر لغير تجارة واستغلال. باب زكاة الذهب والفضة عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهما، وليس في تسعين ومائة شئ، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وفي لفظ: قد عفوت لكم عن الخيل وليس فيما دون المائتين زكاة رواه أحمد والنسائي. الحديث روي من طريق عاصم بن ضمرة عن علي. ومن طريق الحرث الاعور عن علي أيضا، قال الترمذي: روى هذا الحديث الاعمش وأبو عوانة وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي. وروى سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي، وسألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح انتهى. وقد حسن هذا الحديث الحافظ، وقال الدارقطني: الصواب وقفه على علي. (الحديث يدل) على وجوب الزكاة في الفضة وهو مجمع على ذلك. ويدل أيضا على أن زكاتها ربع العشر ولا أعلم في ذلك خلافا. ويدل أيضا على اعتبار النصاب في زكاة الفضة وهو إجماع أيضا، وعلى أنه مائتا درهم، قال الحافظ: ولم يخالف في أن نصاب الفضة مائتا درهم إلا ابن حبيب الاندلسي فإنه قال: إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهمهم. وذكر ابن عبد البر اختلافا في الوزن بالنسبة إلى دراهم الاندلس وغيرها من دراهم البلدان، قيل: وبعضهم اعتبر النصاب بالعدد لا بالوزن وهو خارق للاجماع، وهذا البعض الذي أشار إليه هو المريسي، وبه قال المغربي من الظاهرية كما في البحر، وقد قوي كلام هذا المغربي الظاهري المغربي الصنعاني شرح بلوغ المرام وقال: إنه الظاهر إن لم يمنع منه إجماع، وحكي في البحر عن مالك أنه يغتفر نقص الحبة والحبتين، ولا بد أن يكون النصاب خالصا عن الغش، كما ذهب إليه
[ 199 ]
الجمهور. وقال المؤيد بالله والامام يحيى: إنه يغتفر اليسير، وقدره الامام يحيى بالعشر فما دون. وحكي في البحر عن أبي حنيفة أنه يغتفر ما دون النصف، وسيأتي تحقيق مقدار الدرهم. (وفي الحديث) أيضا دليل على أنه لا زكاة في الخيل والرقيق، وقد تقدم الكلام على ذلك. [ رح 1542 ] وعن جابر قال: قارسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الابل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة رواه أحمد ومسلم، وهو لاحمد والبخاري من حديث أبي سعيد. وعن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شئ يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار رواه أبو داود. حديث أبي سعيد المشار إليه هو متفق عليه. ولفظه في البخاري: ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الابل صدقة. وحديث علي هو من حديث أبي إسحاق عن الحرث الاعور، وعاصم بن ضمرة عنه، وقد تقدم أن البخاري قال: كلاهما عنده صحيح، وقد حسنه الحافظ والحرث ضعيف، وقد كذبه ابن المديني وغيره، وروي عن ابن معين توثيقه، وعاصم وثقه ابن المديني، وقال النسائي: ليس به بأس. قوله: خمس أواق بالتنوين وبإثبات التحتية مشددا ومخففا جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد التحتانية، وحكى اللحياني وقية بحذف الالف وفتح الواو، قال في الفتح: ومقدار الاوقية في هذا الحديث أربعون درهما بالاتفاق، والمراد بالدرهم الخالص من الفضة، سواء كان مضروبا أو غير مضروب. قال عياض قال أبو عبيد: إن الدرهم لم يكن معلوم القدر حتى جاء عبد الملك بن مروان فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، قال: وهذا يلزم منه أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أحال نصاب الزكاة على أمر مجهول وهو مشكل، والصواب أن معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن شئ منها من ضرب الاسلام وكانت مختلفة في الوزن، فعشرة مثلا وزن عشرة، وعشرة وزن ثمانية، فاتفق الرأي على أن تنقش بالكتابة العربية، ويصير وزنها وزنا
[ 200 ]
واحدا، وقال غيره: لم يتغير المثقال في جاهلية ولا إسلام. وأما الدرهم فأجمعوا على أن كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم انتهى. قوله: من الورق قد تقدم الكلام عليه، وكذا تقدم الكلام على قوله: خمس ذود. قوله: خمسة أوسق جمع وسق بفتح الواو ويجوز كسرها كما حكاه صاحب المحكم، وجمعه حينئذ أوساق كحمل وأحمال وهو ستون صاعا بالاتفاق، وقد وقع في رواية ابن ماجة من طريق أبي البختري عن أبي سعيد نحو هذا لحديث وفيه: والوسق ستون صاعا وأخرجها أبو داود أيضا لكن قال: ستون مختوما وللدارقطني من طريق عائشة: الوسق ستون صاعا وفيه دليل على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق، وسيأتي البحث عن ذلك. قوله: عشرون دينارا الدينار مثقال، والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم، والدرهم ستة دوانيق، والدانق قيراطان، والقيراط طسوجان، والطسوج حبتان، والحبة سدس ثمن درهم وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءا من درهم، كذا في القاموس في فصل الميم من حرف الكاف. (وفيه دليل) على أن نصاب الذهب عشرون دينارا، وإلى ذلك ذهب الاكثر. وروي عن الحسن البصري أن نصابه أربعون. وروي عنه مثل قول الاكثر ونصابه معتبر في نفسه. وقال طاوس: إنه يعتبر في نصابه التقويم بالفضة، فما بلغ منه ما يقوم بمائتي درهم وجبت فيه الزكاة ويرده الحديث. قوله: وحال عليها الحول فيه دليل على اعتبار الحول في زكاة الذهب ومثله الفضة، وإلى ذلك ذهب الاكثر. وذهب ابن عباس وابن مسعود والصادق والباقر والناصر وداود إلى أنه يجب على المالك إذا استفاد نصابا أن يزكيه في الحال تمسكا بقوله: في الرقة ربع العشر وهو مطلق مقيد بهذا الحديث، فاعتبار الحول لا بد منه، والضعف الذي في حديث الباب منجبر بما عند ابن ماجة والدارقطني والبيهقي والعقيلي من حديث عائشة من اعتبار الحول. وفي إسناده حارثة بن أبي الرجال وهو ضعيف، وبما عند الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر مثله وفيه إسماعيل بن عياش وحديثه عن غير أهل الشام ضعيف، وبما عند الدارقطني من حديث أنس وفيه حسان بن سياه وهو ضعيف. قوله: ففيها نصفدينار فيه دليل على أن زكاة الذهب ربع العشر ولا أعلم فيه خلافا. [ رم ]
[ 201 ]
باب زكاة الزرع والثمار عن جابر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فيما سقت الانهار والغيم العشور، وفيما سقي بالسانية نصف العشور رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال: الانهار والعيون. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر رواه الجماعة إلا مسلما، لكن لفظ النسائي وأبي داود وابن ماجة بعلا بدل عثريا. قوله: والغيم بفتح الغين المعجمة وهو المطر، وجاء في رواية الغيل باللام. قال أبو عبيد: هو ما جرى من المياه في الانهار وهو سيل دون السيل الكبير. وقال ابن السكيت: هو الماء الجاري على الارض. قوله: العشور قال النووي: ضبطناه بضم العين جمع عشر. وقال القاضي عياض: ضبطناه عن عامة شيوخنا بفتح العين وقال: وهو اسم للمخرج من ذلك. وقال صاحب المطالع: أكثر الشيوخ يقولونه بالضم وصوابه الفتح. قال النووي: وهذا الذي ادعاه من الصواب ليس بصحيح، وقد اعترف بأن أكثر الرواة رووه بالضم وهو الصواب جمع عشر، وقد اتفقوا على قولهم عشور أهل الذمة بالضم ولا فرق بين اللفظين. قوله: بالسانية هي البعير الذي يستقي به الماء من البئر، ويقال له الناضح يقال: منه سنا يسنو سنوا إذا استقى به. قوله: فيما سقت السماء المراد بذلك المطر أو الثلج أو البرد أو الطل، والمراد بالعيون الانهار الجارية التي يستقى منها من دون اغترا ف بآلة بل تساح إساحة. قوله: أو كان عثريا هو بفتح العين المهملة وفتح الثاء المثلثة وكسر الراء وتشديد التحتانية. وحكي عن ابن الاعرابي تشديد المثلثة ورده ثعلب. قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي، زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى: وهو المستنقع في بركة ونحوها يصب إليه ماء المطر في سواق تسقى إليه، قال: واشتقاقه من العاثور وهي الساقية التي يجري فيها الماء، لان الماشي يتعثر فيها، قال: ومثله الذي يشرب من الانهار بغير مؤنة أو يشرب بعروقه، كأن يغرس في أرض يكون الماء قريبا من وجهها فتصل إليه عروق الشجر فيستغني عن السقي. قال الحافظ: وهذا التفسير أولى من إطلاق أبي عبيد أن العثري ما سقته السماء، لان سياق الحديث يدل على المغايرة، وكذا قول من فسر العثري بأنه الذي
[ 202 ]
لا حمل له لانه لا زكاة فيه. قال ابن قدامة: لا نعلم في هذه التفرقة التي ذكرها خلافا. قوله: بالنضح بفتح النون وسكون الضاد المعجمة بعدها حامهملة أي بالسانية. قوله: بعلا بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة ويروى بضمها قال في القاموس: البعل الارض المرتفعة تمطر في السنة مرة، وكل نخل وزرع لا يسقى أو ما سقته السماء انتهى. وقيل: هو الاشجار التي تشرب بعروقها من الار ض. (والحديثان) يدلان على أنه يجب العشر فيما سقي بماء السماء والانهار ونحوهما مما ليس فيه مؤنة كثيرة، ونصف العشر فيما سقي بالنواضح ونحوها مما فيه مؤنة كثيرة، قال النووي: وهذا متفق عليه، وإن وجد مما يسقى بالنضح تارة وبالمطر أخرى، فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب ثلاثة أرباع العشر وهو قول أهل العلم. قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافا، وإن كان أحدهما أكثر كان حكم الاقل تبعا للاكثر عند أحمد والثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. وقيل: يؤخذ بالتقسيط. قا الحافظ: ويحتمل أن يقال: إن أمكن فصل كل واحد منهما أخذ بحسابه، وعن ابن القاسم صاحب مالك: العبرة بما تم به الزرع ولو كان أقل. وعن أبي سعيد: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة رواه الجماعة. وفي لفظ لاحمد ومسلم والنسائي: ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة ولمسلم في رواية: من تمر بالثاء ذات النقط الثلاث. وعن أبي سعيد أيضا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الوسق ستون صاعا رواه أحمد وابن ماجة، ولاحمد وأبي داود: ليس فيما دون خمسة أوساق زكاة والوسق ستون مختوما. قوله: ليس فيما دون خمسة أوسق قد تقدم تفسير الوسق والاواقي والذود. قوله: الوسق ستون صاعا هذا الحديث أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان من طريق عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد، وأخرجه أيضا النسائي وأبو داود وابن ماجة من طريق أبي البختري من أبي سعيد، قال أبو داود: وهو منقطع لم يسمع أبوالبختري عن أبي سعيد، وقال أبو حاتم: لم يدركه، وأخرج البيهقي نحوه من حديث ابن عمر وابن ماجة من حديث جابر وإسناده ضعيف، قال الحافظ: وفيه عن عائشة وعن سعيد بن المسيب. وحديث: ليس
[ 203 ]
فيما دون خمسة أوسق صدقة مخصص لعموم حديث جابر المتقدم في أول الباب. ولحديث ابن عمر المذكور بعده لانهما يشملان الخمسة الاوسق وما دونها، وحديث أبي سعيد هذا خاص بقدر الخمسة الاوسق فلا تجب الزكاة فيما دونها، وإلى هذا ذهب الجمهور. وذهب ابن عباس وزيد بن علي والنخعي وأبو حنيفة إلى العمل بالعام فقالوا: تجب الزكاة في القليل والكثير ولا يعتبر النصاب، وأجابوا عن حديث الاوساق بأنه لا ينتهض لتخصيص حديث العموم لانه مشهور وله حكم المعلوم، وهذا إنما يتم على مذهب الحنفية القائلين بأن دلالة العموم قطعية، وأن العمومات القطعية لا تخصص بالظنيات، ولكن ذلك لا يجري فيما نحن بصدده، فإن العام والخاص ظنيان كلاهما، والخاص أرجح دلالة وإسنادا، فيقدم على العام تقدم أو تأخر أو قارن على ما هو الحق من أنه يبنى العام على الخاص مطلقا، وهكذا يجب البناء إذا جهل التاريخ، وقد قيل: إن ذلك إجماع، والظاهر أن مقام النزاع من هذا القبيل. وقد حكى ابن المنذر الاجماع، على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما أخرجت الارض، إلا أن أبا حنيفة قال: تجب في جميع ما يقصد بزراعته نماء الارض إلا الحطب والقضب والحشيش والشجر الذي ليس له ثمر انتهى. وحكى عياض عن داود أن كل ما يدخله الكيل يراعى فيه النصاب، وما لا يدخل فيه الكيل ففي قليله وكثيره الزكاة وهو نوع من الجمع. وقال ابن العربي: أقوى المذاهب وأحوطها للمساكين قول أبي حنيفة وهو التمسك بالعموم انتهى. وههنا مذهب ثالث حكاه صاحب البحر عن الباقر والصادق أنه يعتبر النصاب في التمر والزبيب والبر والشعير إذ هي المعتادة فانصرف إليها، وهو قصر للعام على بعض ما يتناوله بلا دليل. وعن عطاء بالسائب قال: أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات صدقة، فقال له موسى بن طلحة: ليس لك ذلك إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ليس في ذلك صدقة رواه الاثرم في سننه. وهو من أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله به. الحديث أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم من حديث إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ بلفظه. وأما القثاء والبطيخ والرمان والقضب فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الحافظ: وفيه ضعف وانقطاع. وروى
[ 204 ]
الترمذي بعضه من حديث عيسى بن طلحة عن معاذ وهو ضعيف. وقال الترمذي: ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شئ يعني في الخضراوات، وإنما يروى عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. وذكره الدارقطني في العلل وقال: الصواب مرسل. وروى البيهقي بعضه من حديث موسى بن طلحة قال: عندنا كتاب معاذ. ورواه الحاكم وقال: موسى تابعي كبير لا ينكر أنه لقي معاذا. وقال ابن عبد البر: لم يلق معاذا ولا أدركه، وكذلك قال أبو زرعة. وروى البزار والدارقطني من طريق الحرث بن نبهان عن عطاء بن السائب عن موسى بن طلحة عن أبيه مرفوعا: ليس في الخضراوات صدقة قال البزار: لا نعلم أحدا قال فيه عن أبيه إلا الحرث بن نبهان. وقد حكى ابن عدي تضعيفه عن جماعة، والمشهور عن موسى مرسل. ورواه الدارقطني من طريق مروان بن محمد السنجاري عن جرير عن عطاء بن السائب فقال عن أنس بدل قوله عن أبيه ولعله تصحيف منه، ومروان مع ذلك ضعيف جدا. وروى الدارقطني من حديث علي مثله وفيه الصقر بن حبيب وهو ضعيف جدا. (وفي الباب) عن محمد بن جحش عند الدارقطني وفي إسناده عبد الله بن شبيب. قيل عنه إنه يسرق الحديث. وعن عائشة عند الدارقطني أيضا وفيه صالح بن موسى وفيه ضعف. وعن علي موقوفا عند البيهقي. وعن عمر كذلك عنده. (والحديث يدل) على عدم وجوب الزكاة في الخضراوات، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي وقالا: إنما تجب الزكاة فيما يكال ويدخر للاقتيات. وعن أحمد أنها تخرج مما يكال ويدخر ولو كان لا يقتات، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وأوجبها في الخضراوات الهادي والقسم إلا الحشيش والحطب لحديث الناس شركاء في ثلاث، ووافقهما أبو حنيفة إلا أنه استثنى السعف والتبن، واستدلوا على وجوب الزكاة في الخضراوات بعموم قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * (التوبة: 103) وقوله: * (ومما أخرجنا لكم من الارض) * (البقرة: 267). وقوله: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * (الانعام: 141) وبعموم حديث: فيما سقت السماء العشر ونحوه، قالوا: وحديث الباب ضعيف لا يصلح لتخصيص هذه العمومات، وأجيب بأن طرقه يقوي بعضها بعضا فينتهض لتخصيص هذه العمومات، ويقوي ذلك ما أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني من حديث أبي موسى ومعاذ حين بعثهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم: فقال: لا تأخذا الصدقة إلامن هذه الاربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر. قال البيهقي: رواته ثقات وهمتصل. وما أخرجه الطبراني عن عمر قال: إنما سن رسول
[ 205 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة في هذه الاربعة فذكرها وهو من رواية موسى بن طلحة عن عمر. قال أبو زرعة: موسى عن عمر مرسل. وما أخرجه ابن ماجة والدار قطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. زاد ابن ماجة: والذرة وفي إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي وهو متروك. وما أخرج البيهقي من طريق مجاهد قال: لم تكن الصدقة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا في خمسة فذكرها. وأخرج أيضا من طريق الحسن فقال: لم يفرض الصدقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا في عشرة، فذكر الخمسة المذكورة والابل والبقر والغنم والذهب والفضة. وحكي أيضا عن الشعبي أنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل اليمن: إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. قال البيهقي: هذه المراسيل طرقها مختلفة وهي يؤكد بعضها بعضا، ومعها حديث أبي موسى، ومعها قول عمر وعلي وعائشة: ليس في الخضراوات زكاة انتهى. فلا أقل من انتهاض هذه الاحاديث لتخصيص تلك العمومات التي قد دخلها التخصيص بالاوساق والبقر العوامل وغيرهما، فيكون الحق ما ذهب إليه الحسن البصري والحسن بن صالح والثوري والشعبي: من أن الزكاة لا تجب إلا في البر والشعير والتمر والزبيب، لا فيما عدا هذه الاربعة مما أخرجت الارض، وأما زيادة الذرة في حديث عمرو بن شعيب فقد عرفت أن في إسنادها متروكا، ولكنها معتضدة بمرسل مجاهد والحسن. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه، ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي يحصي الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق رواه أحمد وأبو داود. وعن عتاب بن أسيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم رواه الترمذي وابن ماجة. وعنه أيضا قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل فتؤخذ زكاته زبيبا، كما تؤخذ صدقة النخل تمرا رواه أبو داود والترمذي. وعن سهل بن أبي حثمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع رواه الخمسة إلا ابن ماجة.
[ 206 ]
حديث عائشة فيه واسطة بين ابن جريج والزهري ولم يعرف. وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني بدون الواسطة المذكورة، وابن جريج مدلس فلعله تركها تدليسا. وذكر الدارقطني الاختلاف فيه فقال: رواه صالح عن أبي الاخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وأرسله معمر ومالك وعقيل، ولم يذكروا أبا هريرة، وحديث عتاب بن أسيد أخرجه أيضا باللفظ الاول أبو داود وابن حبان، وباللفظ الثاني النسائي وابن حبان والدارقطني، ومداره على سعيد بن المسيب عن عتاب وقد قال أبو داود: لم يسمع منه، وقال ابن قانع: لم يدركه. وقال المنذري: انقطاعه ظاهر لان مولد سعيد في خلافة عمر، ومات عتاب يوم مات أبو بكر، وسبقه إلى ذلك ابن عبد البر. وقال ابن السكن: لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وجه غير هذا، وقد رواه الدارقطني بسند فيه الواقدي فقال عن سعيد بن المسيب عن المسور بن مخرمة عن عتاب بن أسيد. وقال أبو حاتم: الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر عتابا مرسل، وهذه رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري. وحديث سهل بن أبي حثمة أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه وفي إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي عن ابن أبي حثمة، وقد قال البزار: إنه انفرد به، وقال ابن القطان: لا يعرف حاله، قال الحاكم: وله شاهد بإسناد متفق على صحته أن عمر بن الخطاب أمر به. ومن شواهده ما رواه ابن عبد البر عن جابر مرفوعا: خففوا في الخرص الحديث وفي إسناده ابن لهيعة. (والاحاديث المذكورة) تدل على مشروعية الخرص في العنب والنخل، وقد قال الشافعي في أحد قوليه بوجوبه مستدلا بما في حديث عتاب من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بذلك، وذهبت العترة ومالك وروي عن الشافعي إلى أنه جائز فقط، وذهبت الهادوية وروي عن الشافعي أيضا إلى أنه مندوب، وقال أبو حنيفة: لا يجوز لانه رجم بالغيب والاحاديث المذكورة ترد عليه. وقد قصر جواز الخرص على مورد النص بعض أهل الظاهر فقال: لا يجوز إلا في النخل والعنب، ووافقه على ذلك شريح وأبو جعفر وابن أبي الفوارس، وقيل: يقاس عليه غيره مما يمكن ضبطه بالخرص، واختلف في خرص الزرع فأجازه للمصلحة الامام يحيى. ومنعته الهادوية والشافعية. قوله: ودعوا الثلث قال ابن حبان له معنيان: أحدهما أن يترك الثلث أو الربع من العشر. وثانيهما: أن يترك ذلك من نفس الثمرة قبل أن تعشر. وقال الشافعي: أن يدع ثلث الزكاة
[ 207 ]
أو ربعها ليفرقها هو بنفسه. وقيل: يدع له ولاهله قدر ما يأكلون ولا يخرص. وأخرج أبو نعيم في الصحابة من طريق الصلت بن زبيد بن الصلت عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمله على الخرص فقال: أثبت لنا النصف وبق لهم النصف فإنهم يسرقون ولا تصل إليهم. وعن الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجعرور ولوالحبيق أن يؤخذا في الصدقة. قال الزهري: تمرين من تمر المدينة رواه أبو داود وعن أبي أمامة بن سهل في الآية التي قال الله عزوجل: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * (البقرة: 267) قال: هو الجعرور، ولون حبيق، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤخذ في الصدقة الرذالة رواه النسائي. الحديث الاول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح، والحديث الثاني في إسناده عبد الجليل بن حبيب اليحصبي ولا بأس به، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقد أخرج نحوه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب من حديث البراء: قال في قوله تعالى: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * (البقرة: 267) نزلت فينا معشر الانصار، كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فسقط البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف والقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * (البقرة: 267) قال: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطي لم يأخذه إلا على إغماض وحياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده. قوله: الجعرور بضم الجيم وسكون العين المهملة وضم الراء وسكون الواو بعدها راء قال في القاموس: هو تمر ردئ. قوله: ولون الحبيق بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون التحتية بعدها قاف. قال في القاموس: حبيق كزبير تمرد قل. قوله: الرذالة بضم الراء بعدها ذال معجمة هي ما انتقى جيده كما في القاموس. وقوله: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخ، فيه دليل على
[ 208 ]
أنه لا يجوز للمالك أن يخرج الردئ عن الجيد الذي وجبت فيه الزكاة نصا في التمر، وقياسا في سائر الاجناس التي تجب فيها الزكاة، وكذلك لا يجوز للمصدق أن يأخذ ذلك. باب ما جاء في زكاة العسل عن أبي سيارة المتعي قال: قلت: يا رسول الله إن لي نحو، قال: فأد العشور قال قلت: يا رسول الله احم لي جبلها، قال: فحمى لي جبلها رواه أحمد وابن ماجة. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه أخذ من العسل العشر رواه ابن ماجة. وفي رواية له: جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي واديا، يقال له سلبة فحمى له ذلك الوادي، فلما ولي عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر يسأله عن ذلك فكتب عمر: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عشور نحله فاحم له سلبة، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء رواه أبو داود والنسائي. ولابي داود في رواية بنحوه وقال: من كل عشر قرب قربة. حديث أبي سيارة أخرجه أيضا أبو داود والبيهقي وهو منقطع، لانه من رواية سليمان بن موسى عن أبي سيارة، قال البخاري: لم يدرك سليمان أحدا من الصحابة، وليس في زكاة العسل شئ يصح. قال أبو عمر: ابن عبد البر لا يقوم بهذا حجة. وحديث عمرو بن شعيب قال الدارقطني: يروى عن عبد الرحمن بن الحرث وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مسندا. ورواه يحيى بن سعيد الانصاري عن عمرو بن شعيب عن عمر مرسلا. قال الحافظ: فهذه علته، وعبد الرحمن وابن لهيعة ليسا من أهل الاتقان، لكن تابعهما عمرو بن الحرث أحد الثقات، وتابعهما أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عند ابن ماجة وغيره. (وفي الباب) عن ابن عمر عند الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في العسل: في كل عشرة أزقاق زق وفي إسناده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ وقد خولف. وقال النسائي: هذا حديث منكر. ورواه البيهقي وقال: تفرد به صدقة وهو ضعيف، وقد تابعه طلحة بن زيد عن موسى بن يسار، ذكره المروزي ونقل عن أحمد تضعيفه، وذكر الترمذي أنه سأل
[ 209 ]
البخاري عنه فقال: هو عن نافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسل، وعن أبي هريرة عند البيهقي وعبد الرزاق وفي إسناده عبد الله بن محرر بمهملات وهو متروك. وعن سعد بن أبي ذئاب عند البيهقي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استعمله على قومه وأنه قال لهم: أدوا العشر في العسل وفي إسناده منير بن عبد الله، ضعفه البخاري والازدي وغيرهما. قال الشافعي وسعد بن أبي ذئاب: يحكى ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره فيه بشئ وأنه شئ رآه هو فتطوع له به قومه. قال ابن المنذر: ليس في الباب شئ ثابت. قوله: متعان بضم الميم وسكون المثناة بعدها مهملة، وكذا المتعي. قوله: سلبة بفتح المهملة واللام والباء الموحدة هو واد لبني متعان، قال البكري في معجم البلدان: وقد استدل بأحاديث الباب على وجوب العشر في العسل أبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، وحكاه في البحر عن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز والهادي والمؤيد بالله وأحد قولي الشافعي. وقد حكى البخاري وابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن عمر بن عبد العزيز أنه لا يجب في العسل شئ من الزكاة، وروى عنه عبد الرزاق أيضا مثل ما روى عنه صاحب البحر ولكنه بإسناد ضعيف كما قال الحافظ في الفتح. وذهب الشافعي ومالك والثوري، وحكاه ابن عبد البر عن الجمهور إلى عدم وجوب الزكاة في العسل، وحكاه في البحر عن علي عليه السلام، وأشار العراقي في شرح الترمذي إلى أن الذي نقله ابن المنذر عن الجمهور أولى من نقل الترمذي. (واعلم) أن حديث أبي سيارة وحديث هلال إن كان غير أبي سيارة لا يدلان على وجوب الزكاة في العسل لانهما تطوعا بها وحمى لهما بدل ما أخذ، وعقل عمر العلة فأمر بمثل ذلك، ولو كان سبيله سبيل الصدقات لم يخير في ذلك. وبقية أحاديث الباب لا تنتهض للاحتجاج بها. ويؤيد عدم الوجوب ما تقدم من الاحاديث القاضية بأن الصدقة إنما تجب في أربعة أجناس، ويؤيده أيضا ما رواه الحميدي بإسناده إلى معاذ بن جبل أنه أتى بوقص البقر والعسل فقال معاذ: كلاهما لم يأمرني فيه صلى الله عليه وآله وسلم بشئ. قوله: وإلا فإنما هو ذباب غيث أي وإن لم يؤدوا عشور النحل فالعسل مأخوذ من ذباب النحل، وأضاف الذباب إلى الغيث لان النحل يقصد مواضع القطر لما فيها من العشب والخصب. قوله: يأكله من يشاء يعني العسل، فالضمير راجع إلى المقدر المحذوف. (وفيه دليل) على أن العسل الذي يوجد في الجبال يكون من سبق إليه أحق به.
[ 210 ]
باب ما جاء في الركاز والمعدن عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس رواه الجماعة. [ رح 1557 ] وعنر بيعة بن عبد الرحمن عن غير واحد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية وهي من ناحية الفرع فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم رواه أبو داود ومالك في الموطأ. الحديث الاول له طرق وألفاظ. والحديث الثاني أخرجه أيضا الطبراني والحاكم والبيهقي بدون قوله: وهي من ناحية الفرع الخ، قال الشافعي بعد أن روى هذا الحديث: ليس هذا مما يثبته أهل الحديث، ولم يكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا إقطاعه. وأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال البيهقي: هو كما قال الشافعي، وقد روي هذا الحديث عن الدراوردي عن ربيعة المذكور موصولا. وكذلك أخرجه الحاكم في المستدرك، وكذا ذكره ابن عبد البر. ورواه أبو سبرة المديني عن مطرف عن مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن بلال موصولا لكن لم يتابع عليه. وروى أبو أويس عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده. وعن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس هكذا. قال البيهقي: وأخرجه من الوجهين الآخرين أبو داود، وسيأتي حديث ابن عباس المشار إليه في باب ما جاء في إقطاع المعادن من كتاب إحياء الموات. قوله: العجماء سميت البهيمة عجماء لانها لا تتكلم. قوله: جبار أي هدر، وسيأتي الكلام على ذلك. قوله: وفي الركاز الخمس الركاز بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي مأخوذ من الركز بفتح الراء، يقال: ركزه يركزه إذا دفعه فهو مركوز، وهذا متفق عليه. قال مالك والشافعي: الركاز دفن الجاهلية. وقال أبو حنيفة والثوري وغيرهما: إن المعدن ركاز، واحتج لهم بقول العرب: اركز الرجل إذا أصاب ركازا وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن، وخالفهم في ذلك الجمهور فقالوا: لا يقال للمعدن ركاز، واحتجوا بما وقع في حديث الباب من التفرقة بينهما بالعطف، فدل ذلك على المغايرة، وخص الشافعي الركاز
[ 211 ]
بالذهب والفضة. وقال الجمهور: لا يختص واختاره ابن المنذر. قوله: القبلية منسوبة إلى قبل بفتح القاف والباء، وهي ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام. والفرع موضع بين نخلة والمدينة. (والحديث) الاول يدل على أن زكاة الركاز الخمس على الخلاف السابق في تفسيره. قال ابن دقيق العيد: ومن قال من الفقهاء إن في الركاز الخمس إما مطلقا أو في أكثر الصور فهو أقرب إلى الحديث انتهى. وظاهره سواء كان الواجد له مسلما أو ذميا، وإلى ذلك ذهب الجمهور فيخرج الخمس، وعند الشافعي لا يؤخذ منه شئ، واتفقوا على أنه لا يشترط فيه الحول، بل يجب إخراج الخمس في الحال، وإلى ذلك ذهبت العترة. قال في الفتح: وأغرب ابن العربي في شرح الترمذي فحكى عن الشافعي الاشتراط، ولا يعرف ذلك في شئ من كتبه ولا كتب أصحابه. ومصرف هذا الخمس مصرف خمس الفئ عند مالك وأبي حنيفة والجمهور، وعند الشافعي مصرف الزكاة، وعن أحمد روايتان. وظاهر الحديث عدم اعتبار النصاب، وإلى ذلك ذهبت الحنفية والعترة، وقال مالك وأحمد وإسحاق: يعتبر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس فيما دون خمس أواق صدقة وقد تقدم، وأجيب بأن الظاهر من الصدقة الزكاة فلا تتناول الخمس وفيه نظر. قوله: فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة فيه دليل لمن قال: إن الواجب في المعادن الزكاة وهي ربع العشر كالشافعي وأحمد وإسحاق، ومن أدلتهم أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: في الرقة ربع العشر ويقاس غيرها عليها. وذهبت العترة والحنفية والزهري وهو قول للشافعي إلى أنه يجب فيه الخمس لانه يصدق عليه اسم الركاز، وقد تقدم الخلاف في ذلك. [ رم ] أبواب إخراج الزكاة باب المبادرة إلى إخراجها عن عقبة بن الحرث قال: صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العصر فأسرع ثم دخل البيت فلم يلبث أن خرج فقلت أو قيل له فقال: كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة فكرهت أن أبيته فقسمته رواه البخاري. وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته
[ 212 ]
رواه الشافعي والبخاري في تاريخه والحميدي وزاد قال: يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين. قوله: تبرا بكسر المثناة وسكون الموحدة الذهب الذي لم يصف ولم يضرب. قال الجوهري: لا يقال إلا للذهب وقد قاله بعضهم في الفضة انتهى. وأطلقه بعضهم على جميع جواهر الأرض قبل أن تصاغ وتضرب، حكاه ابن الانباري عن الكسائي، كذا أشار إليه ابن دريد. قوله: أن أبيته أي أتركه يبيت عندي. قوله: فقسمته في رواية للبخاري فأمرت بقسمته. (والحديث الاول) يدل على مشروعية المبادرة بإخراج الصدقة. قال ابن بطال: فيه أن الخير ينبغي أن يبادر به، فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمن، والتسويف غير محمود، زاد غيره: وهو أخلص للذمة، وأنفى للحاجة، وأبعد من المطل المذموم، وأرضى للرب تعالى، وأمحى للذنب. (والحديث الثاني) يدل على أن مجرد مخالطة الصدقة لغيرها من الاموال سبب لاهلاكه، وظاهره وإن كان الذي خلطها بغيرها من الاموال عازما على إخراجها بعد حين، لان التراخي عن الاخراج مما لا يبعد أن يكون سببا لهذه العقوبة، أعني هلاك المال واحتجاج من احتج به على تعلق الزكاة بالعين صحيح، لانها لو كانت متعلقة بالذمة لم يستقم هذا الحديث، لانها لا تكون في جزء من أجزاء المال، فلا يستقيم اختلاطها بغيرها، ولا كونها سببا لاهلاك ما خالطته. باب ما جاء في تعجيلها عن علي عليه السلام: أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك رواه الخمسة إلا النسائي. وعن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمر على الصدقة فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله تعالى، وأما العباس فهي علي ومثلها معها، ثم قال: يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه رواه
[ 213 ]
أحمد ومسلم. وأخرجه البخاري وليس فيه ذكر عمر ولا ما قيل له في العباس. وقال فيه فهي عليه ومثلها معها. قال أبو عبيد: أرى والله أعلم أنه أخر عنه الصدقة عامين لحاجة عرضت للعباس، وللامام أن يؤخر على وجه النظر ثم يأخذه، ومن روى فهي علي ومثلها، فيقال: كان تسلف منه صدقة عامين ذلك العام والذي قبله. حديث علي أخرجه أيضا الحاكم والدارقطني والبيهقي وفيه اختلاف، ذكره الدارقطني ورجح إرساله، وكذا رجحه أبو داود، وقال الشافعي: لا أدري أثبت أم لا يعني هذا الحديث. ويشهد له ما أخرجه البيهقي عن علي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنا كنا احتجنا فأسلفنا العباس صدقة عامين رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا، ويعضده أيضا حديث أبي هريرة المذكور بعده. قوله: ينقم بكسر القاف وفتحها والكسر أفصح، وابن جميل هذا قال ابن الاثير: لا يعرف اسمه، لكن وقع في تعليق القاضي حسين الشافعي وتبعه الروياني أن اسمه عبد الله، وذكر الشيخ سراج الدين بن الملقن أن بعضهم سماه حميدا، ووقع في رواية ابن جريج أبو جهم بن حذيفة بدل ابن جميل وهو خطأ لاطباق الجميع على ابن جميل. وقول الاكثر: إنه كان أنصاريا، وأما أبو جهم بن حذيفة فهو قرشي فافترقا. قوله: وأعتاده جمع عتاد بفتح العين المهملة بعدها فوقية وبعد الالف دال مهملة، والاعتاد آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها، ويجمع أيضا على أعتدة. ومعنى ذلك أنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظنا منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة فيها علي، فقالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن خالدا منع الزكاة، فقال: إنكم تظلمونه لانه حبسها ووقفها في سبيل الله تعالى قبل الحول عليها فلا زكاة فيها، ويحتمل أن يكون المراد لو وجبت عليه زكاة لاعطاها ولم يشح بها لانه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعا فكيف يشح بواجب عليه؟ واستنبط بعضهم من هذا وجوب زكاة التجارة، وبه قال جمهور السلف والخلف خلافا لداود. (وفيه دليل) على صحة الوقف وصحة وقف المنقول، وبه قالت الامة بأسرها إلا أبا حنيفة وبعض الكوفيين، وقال بعضهم: هذا الصدقة التي منعها ابن جميل وخالد والعباس لم تكن زكاة إنما كانت صدقة تطوع، حكاه القاضي عياض قال: ويؤيده أن عبد الرزاق روى هذا الحديث وذكر في روايته: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ندب الناس إلى الصدقة وذكر تمام الحديث، قال ابن القصار من المالكية: وهذا التأويل
[ 214 ]
أليق بالقصة، ولا يظن بالصحابة منع الواجب، وعلى هذا فعذر خالد واضح لانه أخرج ماله في سبيل الله فما بقي له مال يحتمل المواساة بصدقة التطوع، ويكون ابن جميل شح بصدقة التطوع فعتب عليه. وقال في العباس هي علي ومثلها معها، أي أنه لا يمتنع إذا طلبت منه، انتهى كلام ابن القصار. قال القاضي عياض: ولكن ظاهر الاحاديث في الصحيحين أنها في الزكاة لقوله: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمر على الصدقة وإنما كان يبعث في الفريضة، ورجح هذا النووي. قوله: فهي علي ومثلها معها مما يقوي أن المراد بهذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرهم أنه تعجل من العباس صدقة عامين ما أخرجه أبو داود والطيالسي من حديث أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر: إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الاول. وما أخرجه الطبراني والبزار من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وآله وسلم تسلف من العباس صدقة عامين وفي إسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف. ورواه البزار من حديث موسى بن طلحة عن أبيه نحوه وفي إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك. ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وفي إسناده مندل بن علي والعرزمي وهما ضعيفان، والصواب أنه مرسل، ومما يرجح أن المراد ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو أراد أن يتحمل ما عليه لاجل امتناعه لكفاه أن يتحمل مثلها من غير زيادة، وأيضا الحمل على الامتناع فيه سوء ظن بالعباس. (والحديثان) يدلان على أنه يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول ولو لعامين، وإلى ذلك ذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، وبه قال الهادي والقاسم. قال المؤيد بالله: وهو أفضل. وقال مالك وربيعة وسفيان الثوري وداود وأبو عبيد بن الحرث، ومن أهل البيت الناصر: أنه يجزئ حتى يحول الحول، واستدلوا بالاحاديث التي فيها تعليق الوجوب بالحول وقد تقدمت. وتسليم ذلك لا يضر من قال بصحة التعجيل، لان الوجوب متعلق بالحول بلا نزاع، وإنما النزاع في الاجزاء قبله.
[ 215 ]
باب تفرقة الزكاة في بلدها ومراعاة المنصوص عليه لا القيمة وما يقال عند دفعها عن أبي جحيفة قال: قدم علينا مصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وعن عمران بن حصين أنه استعمل على الصدقة فلما رجع قيل له: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضعناه حيث كنا نضعه رواه أبو داود وابن ماجة. وعن طاوس قال: كان في كتاب معاذ من خرج من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته رواه الاثرم في سننه. الحديث الاول هو من رواية حفص بن غياث عن أشعث عن عون بن أبي جحفة عن أبيه، وهؤلاء ثقات إلا أشعث بن سوار ففيه مقال. وقد أخرج له مسلم متابعة. قا الترمذي بعد ذكر الحديث وفي الباب عن ابن عباس. والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح إلا إبراهيم بن عطاء وهو صدوق. والحديث الثالث أخرجه أيضا سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى طاوس بلفظ: من انتقل من مخلاف عشيرته فصدقته وعشره في مخلاف عشيرته (وفي الباب) عن معاذ عند الشيخين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى اليمن قال له: خذها من أغنيائهم وضعها في فقرائهم. وقد استدل بهذه الاحاديث على مشروعية صرف زكاة كل بلد في فقراء أهله وكراهية صرفها في غيرهم. وقد روي عن مالك والشافعي والثوري أنه لا يجوز صرفها في غير فقراء البلد. وقال غيرهم: إنه يجوز مع كراهة، لما علم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستدعي الصدقات من الاعراب إلى المدينة ويصرفها في فقراء المهاجرين والانصار، كما أخرج النسائي من حديث عبد الله بن هلال الثقفي قال: جاء رجل إلى رسول
[ 216 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كدت أقتل بعدك في عناق أو شاة من الصدقة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لولا أنها تعطى فقراء المهاجرين ما أخذتها. ولما أخرجه البيهقي وعلقه البخاري عن معاذ: أنه قال لاهل اليمن: ائتوني بكل خميس ولبيس آخذه منكم مكان الصدقة فإنه أرفق بكم وأنفع للمهاجرين والانصار بالمدينة وفيه انقطاع. وقال الاسماعيلي: إنه مرسل فلا حجة فيه، لا سيما مع معارضته لحديثه المتفق عليه الذي تقدم، وقد قال فيه بعض الرواة من الجزية بدل قوله الصدقة. أو يحمل على أنه بعد كفاية من في اليمن وإلا فما كان معاذ ليخالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: من مخلاف الخ، فيه دليل على أن من انتقل من بلد إلى بلد كان زكاة ماله لاهل البلد الذي انتقل منه مهما أمكن إيصال ذلك إليهم. وعن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى اليمن فقال: خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الابل، والبقرة من البقر رواه أبو داود وابن ماجة. والجبرانات المقدرة في حديث أبي بكر تدل على أن القيمة لا تشرع وإلا كانت تلك الجبرانات عبثا. الحديث صححه الحاكم على شرطهما، وفي إسناده عطاء عن معاذ ولم يسمع منه لانه ولد بعد موته، أو في سنة موته، أو بعد موته بسنة. وقال البزار: لا نعلم أن عطاء سمع من معاذ. وقد استدل بهذا الحديث من قال إنها تجب الزكاة من العين، ولا يعدل عنها إلى القيمة إلا عند عدمها وعدم الجنس، وبذلك قال الهادي والقاسم والشافعي والامام يحيى. وقال أبو حنيفة والمؤيد بالله أنها تجزئ مطلقا، وبه قال الناصر والمنصور بالله وأبو العباس وزيد بن علي، واستدلوا بقول معاذ: ائتوني بكل خميس ولبيس، فإن الخميس واللبيس ليس إلا قيمة عن الاعيان التي تجب فيها الزكاة، وهو مع كونه فعل صحابي لا حجة فيه، فيه انقطاع وإرسال كما قدمنا ذلك في الشرح للحديث الذي قبل هذا، فالحق أن الزكاة واجبة من العين لا يعدل عنها إلى القيمة إلا لعذر. قوله: والجبرانات بضم الجيم جمع جبران وهو ما يجبر به الشئ، وذلك نحو قوله في حديث أبي بكر السابق: ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما فإن ذلك ونحوه يدل على أن الزكاة واجبة في العين، ولو كانت القيمة هي الواجبة لكان ذكر ذلك عبثا لانها تختلف باختلاف الازمنة والامكنة، فتقدير
[ 217 ]
الجبران. بمقدار معلوم لا يناسب تعلق الوجوب بالقيمة، وقد تقدمت الاشارة إلى طرف من هذا. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا: اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما رواه ابن ماجة. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: اللهم صل عليهم فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى متفق عليه. الحديث الاول إسناده في سنن ابن ماجة، هكذا حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا الوليد بن مسلم عن البختري بن عبيد عن أبيه أبي هريرة فذكره، والبختري بن عبيد الطابخي متروك، وسويد بن سعيد فيه مقال. (وفي الباب) عن وائل بن حجر عند النسائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة: اللهم بارك فيه وفي إبله. قوله: فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا كأنه جعل هذا القول نفس الثواب لما كان له دخل في زيادة الثواب. قوله: اللهم صل عليهم في رواية على آل فلان. وفي أخرى على فلان. قوله: على آل أبي أوفى يريد أبا أوفى نفسه لان الآل يطلق على ذات الشئ، كقوله في قصة أبي موسى: لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود. وقيل: لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر، واسم أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحرث الاسلمي، شهد هو وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة، واستدل بهذا الحديث على جواز الصلاة على غير الانبياء، وكرهه مالك والجمهور. قال ابن التين: وهذا الحديث يعكر عليه، وقد قال جماعة من العلماء: يدعو آخذ الصدقة للمتصدق بهذا الدعاء لهذا الحديث. وأجيب عنه بأن أصل الصلاة الدعاء، إلا أنه يختلف بحسب المدعو له، فصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أمته دعاء لهم بالمغفرة، وصلاة أمته دعاء له بزيادة القربة والزلفى، ولذلك كانت لا تليق بغيره، وفيه دليل على أنه يستحب الدعاء عند أخذ الزكاة لمعطيها وأوجبه بعض أهل الظاهر، وحكاه الحناطي وجها لبعض الشافعية، وأجيب بأنه لو كان واجبا لعلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
[ 218 ]
السعاة. ولان سائر ما يأخذه الامام من الكفارات والديون وغيرها لا يجب عليه فيه الدعاء فكذلك الزكاة، وأما الآية فيحتمل أن يكون الوجوب خاصا به لكون صلاته صلى الله عليه وآله وسلم سكن لهم بخلاف غيره. باب من دفع صدقته إلى من ظنه من أهلها فبان غنيا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رجل: لاتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق فقال: اللهم لك الحمد على سارق لاتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية فقال: اللهم لك الحمد على زانية فقال: لاتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني فقال: اللهم لك الحمد على زانية وعلى سارق وعلى غني، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أما الزانية فلعلها تستعف به من زناها، ولعل السارق أن يستعف به عن سرقته، ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما آتاه الله عزوجل متفق عليه. قوله: قال رجل وقع عند أحمد من طريق ابن لهيعة عن الاعرج في هذا الحديث أنه كان من بني إسرائيل. قوله: لاتصدقزاد في رواية متفق عليها الليلة، وهذا اللفظ من باب الالتزام كالنذر مثلا، والقسم فيه مقدر كأنه قال: والله لاتصدقن. قوله: في يد سارق أي وهو لا يعلم أنه سارق، وكذلك على الزانية، وكذلك على غني. قوله: تصدق بضم أوله على البنا للمجهول. قوله: لك الحمد أي لا لي، لان صدقتي وقعت في يد من لا يستحقها، فلك الحمد حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي، قال الطيبي: لما عزم أن يتصدق على مستحق فوضعها بيد سارق حمد الله على أنه لم يقدر له أن يتصدق على من هو أسوأ حالا، أو أجرى الحمد مجرى التسبيح في استعماله عند مشاهدة ما يتعجب منه تعظيما للتعالي، فلما تعجبوا من فعله تعجب هو أيضا فقال: اللهم لك الحمد على سارق أي تصدقت عليه، فهو متعلق بمحذوف. قال الحافظ: ولا يخفى بعد هذا الوجه. وأما الذي قبله فأبعد منه، والذي يظهر الاول، وأنه سلم وفوض ورضي بقضاء الله، فحمد الله سبحانه على تلك الحال، لانه المحمود على جميع الاحوال، لا يحمد على المكروه سواه. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى ما لا يعجبه قال: الحمد لله على كل حال. قوله: فأتي
[ 219 ]
فقيل له في رواية الطبراني: فساءه ذلك فأتي في منامه. وكذلك أخرجه أبو نعيم والاسماعيلي، وفيه تعيين أحد الاحتمالات التي ذكرها ابن التين وغيره. قال الكرماني. قوله أتي أي أري في المنام، أو سمع هاتفا ملكا أو غيره، أو أخبره نبي، أو أفتاه عالم. وقال غيره: أو أتاه ملك فكلمه، فقد كان الملائكة تكلم بعضهم في بعض الامور، وقد ظهر بما سلف أن الواقع هو الاول دون غيره. قوله: أما صدقتك فقد قبلت في رواية للطبراني: إن الله قد قبل صدقتك في الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، ولهذا تعجبوا. وفيه أن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته ولو لم تقع الموقع. واختلف الفقهاء في الاجزاء إذا كانت ذلك في زكاة الفرض، ولا دلالة في الحديث على الاجزاء ولا المنع، ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث بلفظ الاستفهام فقال: باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم ولم يجزم بالحكم. قال في الصحيح: فإن قيل إن الخبر إنما تضمن قصة خاصة وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية فمن أين يقع تعميم الحكم؟ فالجواب أن التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الاسباب، انتهى. باب براءة رب المال بالدفع إلى السلطان مع العدل والجور وأنه إذا ظلم بزيادة لم يحتسب به عن شئ عن أنس: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ قال: نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله فلك أجرها وإثمها على من بدلها مختصر لاحمد. وقد احتج بعمومه من يرى المعجلة إلى الامام إذا هلكت عنده من ضمان الفقراء دون الملاك. وعن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم متفق عليه. وعن وائل بن حجر
[ 220 ]
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجل يسأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم، فقال: اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم رواه مسلم والترمذي وصححه. الحديث الاول أخرجه أيضا الحرث بن وهب، وأورد الحافظ في التلخيص وسكت عنه. (وفي الباب) عن جابر بن عتيك مرفوعا عند أبي داود بلفظ: سيأتيكم ركب مبغضون فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلانفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم وعن سعد بن أبي وقاص عند الطبراني في الاوسط مرفوعا: ادفعوا إليهم ما صلوا الخمس. وعن ابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وأبي سعيد عند سعيد بن منصور وابن أبي شيبة: أن رجلا سألهم عن الدفع إلى السلطان فقالوا: ادفعها إلى السلطان. وفي رواية: أنه قال لهم: هذ السلطان يفعل ما ترون فأدفع إليه زكاتي؟ قالوا: نعم. ورواه البيهقي عنهم وعن غيرهم أيضا. وروى ابن أبي شيبة من طريق قزعة قال: قلت لابن عمران: لي مالا فإلى من أدفع زكاته؟ قال: ادفعها إلى هؤلاء القوم يعني الامراء، قلت: إذا يتخذون بها ثيابا وطيبا، قال: وإن. وفي رواية أنه قال: ادفعوا صدقة أموالكم إلى من ولاه الله أمركم، فمن بر فلنفسه، ومن أثم فعليها. (وفي الباب) أيضا عند البيهقي عن أبي بكر الصديق والمغيرة بن شعبة وعائشة، وأخرج البيهقي أيضا عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه قال: ادفعوها إليهم وإن شربوا الخمور. وأخرج أيضا من حديث أبي هريرة: إذا أتاك المصدق فأعطه صدقتك، فإن اعتدى عليك فوله ظهرك ولا تلعنه وقل: اللهم إني أحتسب عندك ما أخذ مني. قوله: أثرة بفتح الهمزة والثاء المثلثة هي اسم لاستئثار الرجل على أصحابه. (والاحاديث) المذكور في الباب استدل بها الجمهور على جواز دفع الزكاة إلى سلاطين الجور وإجزائها. وحكى المهدي في البحر عن العترة وأحد قولي الشافعي أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الظلمة ولا يجزئ، واستدلوا بقوله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 124) ويجاب بأن هذه الآية على تسليم صحة الاستدلال بها على محل النزاع عمومها مخصص بالاحاديث المذكورة في الباب. وقد زعم بعض المتأخرين أن الادلة المذكورة لا تدل على مطلوب المجوزين، لانها في المصدق والنزاع في الوالي وهو غفلة عن حديث ابن مسعود وحديث وائل بن حجر المذكورين في الباب. وقد حكي في التقرير عن أحمد بن عيسى والباقر مثل قول الجمهور، وكذلك عن
[ 221 ]
المنصور وأبي مضر. وقد استدل للمانعين أيضا بما رواه ابن أبي شيبة عن خيثمة قال: سألت ابن عمر عن الزكاة فقال: ادفعها إليهم، ثم سألته بعد ذلك فقال: لا تدفعها إليهم فإنهم قد أضاعوا الصلاة. وهذا مع كونه قول صحابي ولا حجة فيه ضعيف الاسناد لانه من رواية جابر الجعفي. ومن جملة ما احتج بصاحب البحر للقائلين بالجواز بأنها لم تزل تؤخذ كذلك ولا تعاد، وبأن عليا لم يثن على من أعطى الخوارج، وأجاب عن الاول بأنه ليس بإجماع، وعن الثاني بأن ذلك كان لعذر أو مصلحة، إذ لا تصريح بالاجزاء، ولا يخفى ضعف هذا الجواب، والحق ما ذهب إليه الجمهور من الجواز والاجزاء. وعن بشير بن الخصاصية قال: قلنا يا رسول الله إن قوما من أصحاب الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ فقال: لا رواه أبو داود. الحديث أخرجه أيضا عبد الرزاق وسكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده ديسم السدوسي ذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التقريب مقبول. (وفي الباب) عن جرير بن عبد الله وأبي هريرة عند البيهقي. (والحديث) استدل به على أنه لا يجوز كتم شئ عن المصدقين وإن ظلموا وتعدوا، وقد عورض ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من سئل فوق ذلك فلا يعطه كما تقدم في حديث أنس الطويل الذي رواه عن كتاب أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتقدم الجمع بين هذا الحديث وبين ذلك هنالك. قال ابن رسلان: لعل المراد بالمنع من الكتم أن ما أخذه الساعي ظلما يكون في ذمته لرب المال، فإن قدر المالك على استرجاعه منه استرجعه وإلا استقر في ذمته. باب أمر الساعي أن يعد الماشية حيث ترد الماء ولا يكلفهم حشدها إليه عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تؤخذ صدقات المسلمين على مياهه رواه أحمد. وفي رواية لاحمد وأبي داود: لا جلب ولا جنب ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في ديارهم.
[ 222 ]
الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص وفي إسناده محمد بن إسحاق وقد عنعن. (وفي الباب) عن عمران بن حصين عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وابن حبان وصححاه بمثل حديث الباب. وعن أنس عند أحمد والبزار وابن حبان وعبد الرزاق وأخرجه النسائي عنه من وجه آخر. قوله: لا جلب بفتح الجيم واللام، ولا جنب بفتح الجيم والنون، قال ابن إسحاق: معنى لا جلب أن تصدق الماشية في موضعها ولا تجلب إلى المصدق، ومعنى لا جنب أن يكون المصدق بأقصى مواضع أصحاب الصدقة فيجنب إليه فنهوا عن ذلك، وفسر مالك الجلب بأن تجلب الفرس في السباق فيحرك وراءه الشئ يستحث فيه فيسبق، والجنب أن يجنب مع الفرس الذي سابق به فرسا آخر حتى إذا دنا تحول الراكب عن الفرس المجنوب فسبق. قال ابن الاثير: له تفسيران فذكرهما وتبعه المنذري في حاشيته. (والحديث) يدل على أن المصدق هو الذي يأتي للصدقات ويأخذها على مياه أهلها لان ذلك أسهل لهم. باب سمة الامام المواشي إذا تنوعت عنده عن أنس قال: غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة أخرجاه. ولاحمد وابن ماجة: دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يسم غنما في آذانها. وعن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال لعمر: إن في الظهر ناقة عمياء، فقال: أمن نعم الصدقة أو من نعم الجزية؟ قال أسلم: من نعم الجزية وقال: إن عليها ميسم الجزية رواه الشافعي. قوله: الميسم بكسر الميم وسكون الياء التحتية وفتح السين المهملة، وأصله موسم لان فاءه واو، لكنها لما سكنت وكسر ما قبلها قلبت ياء، وهي الحديدة التي يوسم بها أي يعلم بها وهو نظير الخاتم. (وفيه دليل) على جواز وسم إبل الصدقة، ويلحق بها غيرها من الانعام، والحكمة في ذلك تمييزها وليردها من أخذها ومن التقطها، وليعرفها صاحبها فلا يشتريها إذا تصدق بها مثلا لئلا يعود في صدقته، قال في الفتح: ولم أقف على تصريح بما كان مكتوبا على ميسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن ابن الصباغ
[ 223 ]
من الشافعية نقل إجماع الصحابة على أنه يكتب في ميسم الزكاة زكاة أو صدقة، وقد ذكره بعض الحنفية الوسم بالميسم لدخوله في عموم النهي عن المثلة، وحديث الباب يخصص هذا العموم فهو حجة عليه. (وفي الحديث) اعتناء الامام بأموال الصدقة وتوليها بنفسه، وجواز تأخير القسمة لانها لو عجلت لاستغني عن الوسم. قوله: إن عليها ميسم الجزية الخ، فيه دليل على أن وسم إبل الجزية كان يفعل في أيام الصحابة كما كان يوسم إبل الصدقة. [ رم ] أبواب الاصناف الثمانية باب ما جاء في الفقير والمسكين والمسألة والغني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرؤوا إن شئتم: لا يسألون الناس إلحافا وفي لفظ: ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس متفق عليهما. قوله: ولا اللقمة واللقمتان في رواية للبخاري: الاكلة والاكلتان. قوله: يغنيه هذه صفة زائدة على الغنى المنهي إذ لا يلزم من حصول اليسار للمرء أن يغنى به بحيث لا يحتاج إلى شئ آخر، وكان المعنى نفي اليسار المقيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار. (وفي الحديث) دليل على أن المسكين هو الجامع بين عدم الغنى وعدم تفطن الناس له لما يظن به لاجل تعففه وتظهره بصورة الغني من عدم الحاجة، ومع هذا فهو مستعفف عن السؤال. (وقد استدل) به من يقول: إن الفقير أسوأ حالا من المسكين، وإن المسكين الذي له شئ لكنه لا يكفيه، والفقير الذي لا شئ له، ويؤيده قوله تعالى: * (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) * (الكهف: 79) فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة يعملون فيها، وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور كما قال في الفتح، وذهب أبو حنيفة والعترة إلى أن المسكين دون الفقير واستدلوا بقوله تعالى: * (أو مسكينا ذا متربة) * (البلد: 16) قالوا: لان المراد يلصق بالتراب للعري. وقال ابن القاسم وأصحاب مالك: أنهما سواء.
[ 224 ]
وروي عن أبي يوسف ورجحه الجلال قال: لان المسكنة لازمة للفقير، إذ ليس معناها الذل والهوان، فإنه ربما كابغنى النفس أعز من الملوك الاكابر، بل معناها العجز عن إدراك المطالب الدنيوية، والعاجز ساكن عن الانتهاض إلى مطالبه انتهى. وقيل: الفقير الذي يسأل والمسكين الذي لا يسأل، حكاه ابن بطال. وظاهره أيضا أن المسكين من اتصف بالتعفف وعدم الالحاف في السؤال، لكن قال ابن بطال بمعناه المسكين الكامل، وليس المراد نفي أصل المسكنة، بل هو كقوله: أتدرون من المفلس الحديث. وقوله تعالى: * (ليس البر) * (البقرة: 189) الآية، وكذا قرره القرطبي وغير واحد. (ومن جملة) حجج القول الاول قوله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم أحيني مسكينا مع تعوذه من الفقر، والذي ينبغي أن يعول عليه أن يقال: المسكين من اجتمعت له الاوصاف المذكورة في الحديث، والفقير من كان ضد الغني كما في الصحاح والقاموس وغيرهما من كتب اللغة، وسيأتي تحقيق الغني، فيقال لمن عدم الغنى فقير، ولمن عدمه مع التعفف عن السؤال وعدم تفطن الناس له مسكين. وقيل: إن الفقير من يجد القوت والمسكين من لا شئ له. وقيل: الفقير المحتاج، والمسكين من أذلة الفقر، حكى هذين صاحب القاموس. وعن أنس: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع وعن عبد رواه أحمد وأبو داود. وفيه تنبيه على أن الغارم لا يأخذ مع الغني الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي رواه الخمسة إلا ابن ماجة والنسائي، لكنه لهما من حديث أبي هريرة ولاحمد الحديثان. وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار: أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر ورأهما جلدين فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وقال أحمد: هذا أجودها إسنادا. حديث أنس أخرجه أيضا ابن ماجة والترمذي وحسنه وقال: لا نعرفه إلا من حديث الاخضر بن عجلان انتهى. والاخضر بن عجلان قال يحيى بن معين: صالح. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه. وحديث عبد الله بن عمر وحسنه الترمذي وذكر أن شعبة لم يرفعه وفي إسناده ريحان بن يزيد وثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم
[ 225 ]
الرازي: شيخ مجهول، وقال بعضهم: لم يصح إسناد هذا الحديث وإنما هو موقوف على عبد الله عمرو. وقال أبو داود: الاحاديث الاخر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضها لذي مرة سوي وبعضها لذي مرة قوي. وحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أخرجه أيضا الدارقطني، وروي عن أحمد أنه قال: ما أجوده من حديث، وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه المصنف أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم. (وفي الباب) عن طلحة عند الدارقطني. وعن ابن عمر عند ابن عدي. وعن حبشي بن جنادة عند الترمذي. وعن جابر عند الدارقطني. وعن أبي زميل عن رجل من بني هلال عند أحمد. وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عند الطبراني. قوله: مدقع بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر القاف وهو الفقر الشديد الملصق صاحبه بالدقعاء وهي الارض التي لا نبات بها. قوله: أو لذي غرم مفظع الغرم بضم الغين المعجمة وسكون الراء هو ما يلزم أداؤه تكلفا لا في مقابلة عوض، والمفظع بضم الميم وسكون الفاء وكسر الظاء المعجمة وبالعين المهملة وهو الشديد الشنيع الذي جاوز الحد. قوله: أو لذي دم موجع هو الذي يتحمل دية عن قريبة أو حميمه أو نسيبه القاتل يدفعها إلى أولياء المقتول، وإن لم يدفعها قتل قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله وإراقة دمه. (والحديث) يدل على جواز المسألة لهؤلاء الثلاثة. قوله: لا تحل الصدقة لغني قد اختلفت المذاهب في المقدار الذي يصير به الرجل غنيا، فذهبت الهادوية والحنفية إلى أن الغني من ملك النصاب فيحرم عليه أخذ الزكاة، واحتجوا بما تقدم في حديث معاذ من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم قالوا: فوصف من تؤخذ منه الزكاة بالغني وقد قال: لا تحل الصدقة لغني، وقال بعضهم: هومن وجد ما يغديه ويعشيه، حكاه الخطابي، واستدل بما أخرجه أبو داود وابن حبان وصححه عن سهل بن الحنظلية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار، قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: قدر ما يغذيه ويعشيه وسيأتي. وقال الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وجماعة من أهل العلم: هو من كان عنده خمسون درهما أو قيمتها، واستدلوا بحديث ابن مسعود عند الترمذي وغيره مرفوعا: من يسأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش، قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أو حسابها من الذهب وسيأتي. وقال الشافعي وجماعة: إذا كان عنده خمسون درهما
[ 226 ]
أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة. وروي عن الشافعي أن الرجل قد يكون غنيا بالدرهم مع الكسب، ولا يغنيه الالف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله. وقال أبو عبيد ابن سلام: هو من وجد أربعين درهما، واستدل بحديث أبي سعيد الآتي بلفظ: وله قيمة أوقية لان الاربعين الدرهم قيمة الاوقية، وقيل: هو من لا يكفيه غلة أرضه للسنة، حكاه في البحر عن أبي طالب والمرتضى. قوله: ولا لذي مرة سوي المرة بكسر الميم وتشديد الراء قال الجوهري: المرة القوة وشدة العقل، ورجل مرير أي قوي ذو مرة. وقال غيره: المرة القوة على الكسب والعمل، وإطلاق المرة هنا وهي القوة مقيد بالحديث الذي بعده أعني قوله: ولا لقوي مكتسب فيؤخذ من الحديثين أن مجرد القوة لا يقتضي عدم الاستحقاق إلا إذا قرن بها الكسب. وقوله: سوي أي مستوي الخلق قاله الجوهري، والمراد استواء الاعضاء وسلامتها. قوله: جلدين بإسكان اللام أي قويين شديدين. قال الجوهري: الجلد بفتح اللام هو الصلابة والجلادة، تقول منه جلد الرجل بالضم فهو جلد يعني بإسكان اللام، وجليد بين الجلد والجلادة. قوله: مكتسب أي يكتسب قدر كفايته، وفيه دليل على أنه يستحب للامام أو المالك الوعظ والتحذير وتعريف الناس بأن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي قوة على الكسب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويكون ذلك برفق. وعن الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: للسائل حق وإن جاء على فرس رواه أحمد وأبو داود، وهو حجة في قبول قول السائل من غير تحليف وإحسان الظن به. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف رواه أحمد وأبو داود والنسائي. [ رح 1581 ] وعن سهل بن الحنظلية: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم. قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: ما يغذيه أو يعشيه رواه أحمد واحتج به، وأبو داود وقال: يغديه ويعشيه. وعن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشا، أو كدوشا في وجهه، قالوا: يا رسول الله وما غناه؟ قال: خمسون درهما أو حسابها من الذهب رواه
[ 227 ]
الخمسة وزاد أبو داود وابن ماجة والترمذي. فقال رجل لسفيان: إن شعبة لا يحدث عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. أما حديث الحسن بن علي فالذي وقفنا عليه في النسخ الصحيحة من هذا الكتاب أن الراوي للحديث الحسن بن علي. وفي سنن أبي داود وغيرها: أن الراوي للحديث الحسين بن علي وهذا الحديث في إسناده يعلى بن أبي يحيى، سأل عنه أبو حاتم الرازي فقال: مجهول. وقال أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن: قد روي من وجوه صحاح حضور الحسين بن علي عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولعبه بين يديه وتقبيله إياه، فأما الرواية التي يرويها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكلها مراسيل. وقال أبو القاسم البغوي في معجمه نحوا من ذلك. وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى بن الحذاء: سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورآه ولم يكن بينه وبين أخيه الحسن بن علي إلا ظهر واحد. وحديث أبي سعيد سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات، وعبد الرحمن بن محمد أبي الرجال المذكور في إسناده قد وثقه أحمد والدارقطني وابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ. وحديث سهل أخرجه ابن حبان وصححه. وحديث ابن مسعود حسنه الترمذي وقال: وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث. قوله: وإن جاء على فرس فيه الامر بحسن الظن بالمسلم الذي امتهن نفسه بذل السؤال فلا يقابله بسوء الظن به واحتقاره، بل يكرمه بإظهار السرور له ويقدر أن الفرس التي تحته عارية أو أنه ممن يجوز له أخذ الزكاة مع الغني، كمن تحمل حمالة أو غرم غرما لاصلاح ذا ت البين. قوله: وله قيمة أوقية قال أبو داود: زاد هشام في روايته: وكانت الاوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعين درهما. قوله: فقد ألحف قال الواحدي: الالحاف في اللغة هو الالحاح في المسألة. قال أبو الأسود الدؤلي: ليس للسائل الملحف مثل الرد. قال الزجاج: معنى ألحف شمل بالمسألة، والالحاف في المسألة هو أن يشتمل على وجوه الطلب بالمسألة كاشتمال اللحاف في التغطية. وقال غيره: معنى الالحاف في المسألة مأخوذ من قولهم: ألحف الرجل إذا مشى في لحف الجبل وهو أصله، كأنه استعمل الخشونة في الطلب. قوله: فإنما يستكثر أي يطلب الكثرة. قوله: ما يغديه بفتح الغين المعجمة وتشديد الدال المهملة أي من الطعام بحيث يشبعه. قوله: ويعشيه بفتح العين أيضا. فعلى رواية
[ 228 ]
التخيير يكون المعنى: أن الانسان إذا حصل له أكلة في النهار غداء أو عشاء كفته واستغنى بها. وعلى رواية الجمع يكون المعنى: أنه إذا حصل له في يومه أكلتان كفتاه. قوله: خدوشا بضم الخاء المعجمة جمع خدش وهو خمش الوجه بظفر أو حديدة أو نحوهما. قوله: أو كدوشا بضم الكاف والدال المهملة وبعد الواو شين معجمة جمع كدش وهو الخدش. قوله: أو حسابها من الذهب هذه رواية أحمد، ورواية أبي داود: أو قيمتها من الذهب. وهذه الاحاديث الثلاثة قد استدل بكل واحد منها طائفة من المختلفين في حد الغنى، وقد تقدم بيان ذلك، ويجمع بينها بأن القدر الذي يحرم السؤال عنده هو أكثرها وهي الخمسون عملا بالزيادة. وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لان يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق منه ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه متفق عليه. وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر رواه أحمد ومسلم وابماجة. قوله: كد هذا لفظ الترمذي وابن حبان في صحيحه. ولفظ أبي داود: كدوح وهي آثار الخموش. قوله: إلا أن يسأل الرجل سلطانا فيه دليل على جواز سؤال السلطان من الزكاة أو الخمس أو بيت المال أو نحو ذلك، فيخص به عموم أدلة تحريم السؤال. قوله: أو في أمر لا بد منه فيه دليل على جواز المسألة عند الضرورة والحاجة التي لا بد عندها من السؤال، نسأل الله السلامة. قوله: وعن أبي هريرة الخ، فيه الحث على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط، ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل. وأما قوله: خير له فليست بمعنى أفعل التفضيل، إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والاصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام، ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل، وتسمية الذي يعطاه خيرا
[ 229 ]
وهو في الحقيقة شر. قوله: تكثرا فيه دليل على أن سؤال التكثر محرم، وهو السؤال لقصد الجمع من غير حاجة. قوله: فإنما يسأل جمرا الخ، قال القاضي عياض معناه أنه يعاقب بالنار، قال: ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأن الذي يأخذه يصير جمرا يكوى به كما ثبت في مانع الزكاة. وعن خالد بن عدي الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من بلغه معروف عن أخيه عن غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه رواه أحمد. وعنابن عمر قال: سمعت عمر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليمني، فقال: خذه إذا جاءك من هذا المال شئ وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وملا فلا تتبعه نفسك متفق عليه. حديث خالد بن عدي أخرجه أيضا أبو يعلى والطبراني في الكبير. قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح. قوله: ولا إشراف نفس الاشراف بالمعجمة التعرض للشئ والحرص عليه من قولهم: أشرف على كذا إذا تطاول، وقيل للمكان المرتفع مشرف لذلك. قال أبو داود: سألت أحمد عن إشراف النفس فقال: بالقلب. وقال يعقوب بن محمد: سألت أحمد عنه فقال: هو أن يقول مع نفسه يبعث إلى فلان بكذا. وقال الاثرم: يضيق عليه أن يرده إذا كان كذلك. قوله: يعطيني سيأتي ما يدل على أن عطية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر بسبب العمالة كما في حديث ابن السعدي، ولهذا قال الطحاوي: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات وإنما هو في الاموال، وليست هي من جهة الفقر ولكن شئ من الحقوق، فلما قال عمر: أعطه من هو أفقر إليه مني لم يرض بذلك لانه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، قال: ويؤيده قوله في رواية شعيب: خذه فتموله فدل على أنه ليس من الصدقات. (واختلف العلماء) فيمن جاءه مال هل يجب قبوله أم يندب؟ على ثلاثة مذاهب، حكاها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بعد إجماعهم على أنه مندوب. قال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه مستحب في غير عطية السلطان، وأما عطية السلطان يعني الجائر فحرمها قوم وأباحها آخرون وكرهها قوم، والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت، وكذا إن أعطى من لا يستحق، وإن لم يغلب الحرام فمباح
[ 230 ]
إن لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الاخذ. وقالت طائفة: الاخذ واجب من السلطان وغيره. وقال آخرون: هو مندوب في عطية السلطان دون غيره. وحديث خالد بن عدي يرده. قال الحافظ: ويؤيده حديث سمرة في السنن إلا أن يسأل ذا سلطان، قال: والتحقيق في المسألة أن من علم كون ماله حلالا فلا ترد عطيته، ومن علم كون ماله حراما فتحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع، ومن أباحه أخذ بالاصل انتهى. قال ابن المنذر: واحتج من رخص بأن الله تعالى قال في اليهود: * (سماعون للكذب أكالون للسحت) * (المائدة: 42) وقد رهن الشارع صلى الله عليه وآله وسلم درعه عند يهودي مع علمه بذلك. وكذا أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة. قال الحافظ: وفي حديث الباب أن للامام أن يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجها وإن كان غيره أحوج إليه منه، وأن رد عطية الامام ليس من الادب، ولا سيما من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى: * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * (الحشر: 7). قوله: من هو أفقر إليه مني ظاهره أن عمر لم يكن غنيا، لان صيغة أفعل تدل على الاشتراك في الاصل وهو الافتقار إلى المال، ولكن ظاهر أمره صلى الله عليه وآله وسلم له بالاخذ إذا لم يكن مستشرفا ولا سائلا أنه لا فرق بين كونه غنيا أو فقيرا، وهكذا في قبول المال من غير السلطان، لا فرق فيه بين الغني والفقير على ظاهر حديث خالد بن عدي، وسيكرر المصنف حديث خالد بن عدي هذا في كتاب الهبة، ونذكر بقية الكلام عليه هنالك إن شاء الله تعالى باب العاملين عليها عن بسر بن سعيد أن ابن السعدي المالكي قال: استعملني عمر على الصدقة فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة فقلت: إنما عملت لله، فقال: خذ ما أعطيت فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعملني فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدق متفق عليه. قوله: أن ابن السعدي هو أبو محمد عبد الله بن وقدان بن عبد الله بن عبد شمس
[ 231 ]
بن عبدود بن نضر بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي بن غالب. وإنما قيل له السعدي لان أباه استرضع في بني سعد بن بكربن هوزان، وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قديما وقال: وفدت في نفر من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والمالكي نسبه إلى مالك بن حنبل. قوله: بعمالة قال الجوهري: العمالة بالضم رزق العامل على عمله. قوله: فعملني بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عمل وجعل لي عمالة. قوله: من غير أن تسأل فيه دليل على أنه لا يحل أكل ما حصل من المال عن مسألة. (وفي الحديث) دليل على أن عمل الساعي سبب لاستحقاقه الاجرة، كما أن وصف الفقر والمسكنة هو السبب في ذلك، وإذا كان العمل هو السبب اقتضى قياس قواعد الشرع أن المأخوذ في مقابلته أجرة، ولهذا قال أصحاب الشافعي تبعا له: إنه يستحق أجرة المثل. (وفيه) أيضا دليل على أن من نوى التبرع يجوز له أخذ الاجرة بعذلك، ولهذا قال المصنف رحمه الله: وفيه دليل على أن نصيب العامل يطيب له وإن نوى التبرع أو لم يكن مشروطا انتهى. وعن المطلب بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب: أنه والفضل بن عباس انطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس، فقال: إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس مختصر لاحمد ومسلم. وفي لفظ لهما: لا تحل لمحمد ولا لآل محمد. قوله: أوساخ الناس هذا بيان لعلة التحريم والارشاد إلى تنزه الآل عن أكل الاوساخ، وإنما سميت أوساخا لانها تطهرة لاموال الناس ونفوسهم كما قال تعالى: * (تطهرهم وتزكيهم بها) * (التوبة: 103) فذلك من التشبيه، وفيه إشارة إلى أن المحرم على الآل إنما هو الصدقة الواجبة التي يحصل بها تطهير المال. وأما صدقة التطوع فنقل الخطابي وغيره الاجماع على أنها محرمة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وللشافعي قول إنها تحل، وتحل للآل على قول الاكثر، وللشافعي قول بالتحريم، وسيأتي الكلام في تحريم الصدقة الواجبة على بني هاشم. وظاهر هذا الحديث أنها لا تحل لهم، ولو كان أخذهم لها من باب العمالة، وإليه ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة والناصر: العمالة معاوضة بمنفعة والمنافع مال، فهي كما لو اشتراها بماله، وهذا قياس فاسد الاعتبار لمصادمته للنص. قال النووي: وهذا
[ 232 ]
ضعيف أو باطل، وهذا الحديث صريح في رده. قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق هذا الحديث ما لفظه: وهو يمنع جعل العامل من ذوي القربى انتهى. وتعقب بأن الحديث إنما يمنع دخول ذوي القربى في سهم العامل، ولا يمنع من جعلهم عمالا عليها ويعطون من غيرها فإنه جائز بالاجماع، وقد استعمل علي عليه السلام بني العباس رضي الله عنه. وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الخازن المسلم الامين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه حتى يدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين متفق عليه. قوله: طيبة به نفسه هذه الاوصاف لا بد من اعتبارها في تحصيل أجر الصدقة للخازن، فإنه إذا لم يكن مسلما لم تصح منه نية التقرب، وإن لم يكن أمينا كان عليه وزر الخيانة، فكيف يحصل له أجر الصدقة؟ وإن لم تكن نفسه بذلك طيبة لم يكن له نية فلا يؤجر. قوله: أحد المتصدقين قال القرطبي: لم نروه إلا بالتثنية، ومعناه أن الخازن بما فعل متصدق، وصاحب المال متصدق آخر، فهما متصدقان، قال: ويصح أن يقال على الجمع فتكسر القاف ويكون معناه أنه متصدق من جملة المتصدقين. (والحديث) يدل على أن المشاركة في الطاعة توجب المشاركة في الاجر، ومعنى المشاركة أن له أجرا كما أن لصاحبه أجرا، وليس معنا أنه يزاحمه في أجره، بل المراد المشاركة في الطاعة في أصل الثواب، فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب، وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء، بل قد يكون ثواب هذا أكثر، وقد يكون عكسه، فإذا أعطى المالك خازنه مائة درهم أو نحوها ليوصلها إلى مستحق للصدقة على باب داره فأجر المالك أكثر، وإن أعطاه رمانة أو رغيفا أو نحوهما حيث ليس له كثير قيمة ليذهب به إلى محتاج في مسافة بعيدة بحيث يقابل ذهاب الماشي إليه أكثر من الرمانة ونحوها. فأجر الخازن أكثر. وقد يكون الذهاب مقدار الرمانة فيكون الاجر سواء. قال ابن رسلان: ويدخل في الخازن من يتخذه الرجل على عياله من وكيل وعبد وامرأة وغلام، ومن يقوم على طعام الضيفان. وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد فهو غلول رواه أبو داود.
[ 233 ]
الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات. وفيه دليل على أنه لا يحل للعامل زيادة على ما فرض له من استعمله، وأن ما أخذه بعد ذلك فهو من الغلول، وذلك بناء على أنها إجارة ولكنها فاسدة يلزم فيها أجرة المثل، ولهذا ذهب البعض إلى أن الاجرة المفروضة من المستعمل للعامل تؤخذ على حسب العمل، فلا يأخذ زيادة على ما يستحقه، وقيل: يأخذ ويكون من باب الصرف. (وفي الحديث) أيضا دليل على أنه يجوز للعامل أن يأخذ حقه من تحت يده، ولهذا قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه تنبيه على جواز أن يأخذ العامل حقه من تحت يده فيقبض من نفسه لنفسه انتهى. باب المؤلفة قلوبهم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يسأل شيئا على الاسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، قال: فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة رواه أحمد بإسناد صحيح. وعن عمرو بن تغلب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بمال أو سبي فقسمه فأعطى رجالا وترك رجالا، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فوالله إني لاعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمر النعم رواه أحمد والبخاري. الحديثان يدلان على جواز التأليف لمن لم يرسخ إيمانه من سأل الله عزوجل، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها إعطاؤ صلى الله عليه وآله وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والاقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، كل إنسان منهم مائة من الابل. وروي أيضا أنه أعطى علقمة بن علاثة مائة، ثم قال للانصار لما عتبوا عليه: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والابل، وتذهبون
[ 234 ]
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رحالكم، ثم قال لما بلغه أنهم قالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا: إنما فعلت ذلك لا تألفهم كما في صحيح مسلم. وقد ذهب إلى جواز التأليف العترة والجبائي والبلخي وابن مبشر. وقال الشافعي: لا نتألف كافرا، فأما الفاسق فيعطى من سهم التأليف. وقال أبو حنيفة وأصحابه، قد سقط بانتشار الاسلام وغلبته، واستدلوا على ذلك بامتناع أبي بكر من إعطاء أبي سفيان وعيينة والاقرع وعباس بن مرداس، والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه، فإذا كان في زمن الامام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب فله أن يتألفهم، ولايكون لفشو الاسلام تأثير، لانه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة، وقد عد ابن الجوزي أسماء المؤلفة قلوبهم في جزء مفرد فبلغوا نحو الخمسين نفسا. باب قول الله تعالى وفي الرقاب وهو يشمل بعمومه المكاتب وغيره. وقال ابن عباس: لا بأس أن معتق من زكاة ماله ذكره عنه أحمد والبخاري. وعن البراء بن عازب قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: دلني على عمل يقربني إلى الجنة ويبعدني من النار، فقال: أعتق النسمة وفك الرقبة، قال: يا رسول الله أو ليسا واحدا؟ قال: لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها رواه أحمد والدارقطني. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثلاثة كلهم حق على الله عونه: الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الاداء، والناكح المتعفف رواه الخمسة إلا أبا داود. حديث البراء بن عازب قال في مجمع الزوائد: رجاله ثقات، وحديث أبي هريرة قال الترمذي: حسن صحيح. قوله: المكاتب وغيره قد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: * (وفي الرقاب) * (التوبة: 60) فروي عن علي بن أبي طالب وسعيد بن جبير والليث والثوري والعترة والحنفية والشافعية وأكثر أهل العلم أن المراد به المكاتبون يعانون من الزكاة على الكتابة. وروي عن ابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد وإليه مال البخاري وابن المنذر أن المراد بذلك أنها تشتري رقاب لتعتق، واحتجوا بأنها لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين لانه غارم، وبأن
[ 235 ]
شراء الرقبة لتعتق أولى من إعانة المكاتب لانه قد يعان ولا يعتق، لان المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولان الشراء يتيسر في كل وقت بخلا ف الكتابة. وقال الزهري: إنه يجمع بين الامرين، وإليه أشار المصنف وهو الظاهر لان الآية تحتمل الامرين، وحديث البراء المذكور فيه دليل على أن فك الرقاب غير عتقها، وعلى أن العتق وإعانة المكاتبين على مال الكتابة من الاعمال المقربة من الجنة والمبعدة من النار. قوله: حق على الله فيه دليل على أن الله يتولى إعانة هؤلاء الثلاثة ويتفضل عليهم بأن لا يحوجهم، لكن بشرط أن يكون الغازي غازيا في سبيل الله، والمكاتب مريدا للاداء، والناكح متعففا. وقد اختلف في المكاتب إذا كان فاسقا هل يعان على الكتابة أم لا؟ فذهبت الهادوية إلى أنه لا يعان، قالوا: لانه لا قربة في إعانته. وقال الشافعي والامام يحيى والمؤيد بالله: إنه يعان وهو الظاهر. باب الغارمين عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع روأحمد وأبو داود. [ رح 1597 ] وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسأله فيها فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. حديث أنس قد تقدم في باب ما جاء في الفقير والمسكين والمسألة وتقدم الكلام عليه هنالك. قوله: حمالة بفتح الحاء المهملة وهو ما يتحمله الانسان ويلتزمه في ذمته بالاستدانة ليدفعه في إصلاح ذات البين، وإنما تحل له المسألة بسببه، ويعطمن الزكاة بشرط أن يستدين
[ 236 ]
لغير معصية، وإلى هذا ذهب الحسن البصري والباقر والهادي وأبو العباس وأبو طالب. وروي عن الفقهاء الاربعة والمؤيد بالله أنه يعان، لان الآية لم تفصل، وشرط بعضهم أن الحمالة لا بد أن تكون لتسكين فتنة، وقد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، ولا شك أن هذا من مكارم الاخلاق، وكانوا إذا علموا أن أحدهم تحمل حمالة بادروا إلى معونته وأعطوه ما تبرأ به ذمته، وإذا سأل لذلك لم يعد نقصا في قدره بل فخرا. قوله: فنأمر لك بنصب الراء. قوله: رجل يجوز فيه الجر على البدل، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: جائحة هي ما اجتاح المال وأتلفه إتلافا ظاهرا كالسيل والحريق. قوله: قواما بكسر القاف وهو ما تقوم به حاجته ويستغني به وهو بفتح القاف الاعتدال. قوله: سدادا هو بكسر السين ما تسد به الحاجة والخلل. وأما السداد بالفتح فقال الازهري: هو الاصابة في النطق والتدبير والرأي، ومنه سداد من عوز. قوله: من ذوي الحجا بكسر الحاء المهملة مقصور العقل، وإنما جعل العقل معتبرا لان من لا عقل له لا تحصل الثقة بقوله، وإنما قال من قومه لانهم أخبر بحاله وأعلم بباطن أمره، والمال مما يخفى في العادة ولا يعلمه إلا من كان خبيرا بحاله، وظاهره اعتبار شهادة ثلاثة على الاعسار، وقد ذهب إلى ذلك ابن خزيمة وبعض أصحاب الشافعي. وقال الجمهور: تقبل شهادة عدلين كسائر الشهادات غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب. قوله: فاقة قال الجوهري: الفاقة الفقر والحاجة. قوله: فسحت بضم السين وسكون الحاء المهملتين، وروي بضم الحاء وهو الحرام، وسمي سحتا لانه يسحت أي يمحق. وهذا الحديث مخصص بما في حديث سمرة من جواز سؤال الرجل للسلطان، وفي الامر الذي لا بد منه، فيزادان على هذه الثلاثة ويكون الجميع خمسة. باب الصرف في سبيل الله وابن السبيل وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك أو يدعوك رواه أبو داود. وفي لفظ: لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها،
[ 237 ]
أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه بها فأهدى منها لغني رواه أبو داود وابن ماجة. الحديث أخرجه أيضا أحمد ومالك في الموطأ، والبزار وعببن حميد وأبو يعلى والبيهقي والحاكم وصححه، وقد أعل بالارسال لانه رواه بعضهم عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه رواه الاكثر عنه عن أبي سعيد، والرفع زيادة يتعين الاخذ بها. قوله: لغني قد قدمنا الكلام عليه في باب ما جاء في الفقير والمسكين. قوله: إلا في سبيل الله أي للغازي في سبيل الله كما في الرواية الآخرة. قوله: أو ابن السبيل قال المفسرون: هو المسافر المنقطع يأخذ من الصدقة، وإن كان غنيا في بلده. وقال مجاهد: هو الذي قطع عليه الطريق. وقال الشافعي: ابن السبيل المستحق للصدقة هو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة. قوله: لعامل عليها قال ابن عباس: ويدخل في العامل الساعي والكاتب والقاسم والحاشر الذي يجمع الاموال، وحافظ المال والعريف وهو كالنقيب للقبيلة وكلهم عمال، لكن أشهرهم الساعي والباقي أعوان له، أو ظاهر هذا أنه يجوز الصرف من الزكاة إلى العامل عليها، سواء كان هاشميا ولكن هذا مخصص بحديث المطلب بن ربيعة المتقدم، أو غير هاشمي فإنه يدل على تحريم الصدقة على العامل الهاشمي، ويؤيده حديث أبي رافع الآتي في باب تحريم الصدقة في بني هاشم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجوز له أن يصحب من بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصدقة لكونه من موالي بني هاشم. قوله: أو رجل اشتراها بماله فيه أنه يجوز لغير دافع الزكاة شراؤها، ويجوز لآخذها بيعها، ولا كراهة في ذلك. (وفيه دليل) على أن الزكاة والصدقة إذا ملكها الآخذ تغيرت صفتها وزال عنها اسم الزكاة وتغيرت الاحكام المتعلقة بها. قوله: أو غارم وهو من غرم لا لنفسه بل لغيره: كإصلاح ذات البين بأن يخاف وقوع فتنة بين شخصين أو قبيلتين، فيستدين من يطلب صلاح الحال بينهما مالا لتسكين الثائرة، فيجوز له أن يقضي ذلك من الزكاة وإن كان غنيا. قال المصنف رحمه الله تعالى: ويحمل هذا الغارم على من تحمل حمالة لاصلاح ذات البين كما في حديث قبيصة لا لمصلحة نفسه لقوله في حديث أنس: أو ذي غرم مفظع انتهى. قوله: فأهدى منها لغني فيه جواز إهداء الفقير الذي صرفت إليه الزكاة بعضا منها إلى الاغنياء، لان صفة الزكاة قد زالت عنها، وفيه أيضا دليل على جواز قبول هدية
[ 238 ]
الفقير للغني. (وفي هذا الحديث) دليل على أنها لا تحل الصدقة لغير هؤلاء الخمسة من الاغنياء، وما ورد بدليل خاص كان مخصصا لهذا العموم، كحديث عمر المتقدم في باب ما جاء في الفقير والمسكين. وعن ابن لاس الخزاعي قال: حملنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إبل من الصدقة إلى الحج رواه أحمد وذكره البخاري تعليقا. وعن أم معقل الاسدية: أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله وأنها أرادت العمر فسألت زوجها البكر فأبى، فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له فأمره أن يعطيها، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحج والعمرة في سبيل الله رواه أحمد. وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل، قالت: لما حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض وهلك أبو معقل وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما فرغ من حجته جئته فقال: يا أم معقل ما منعك أن تخرجي؟ قالت: لقد تهيأنا فهلك أبو معقل وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله، قال: فهلا خرجت عليه؟ فإن الحج من سبيل الله رواه أبو داود. حديث ابن لاس سيأتي الكلام عليه، وحديث أم معقل أخرجه بنحو الرواية الاولى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وفي إسناده رجل مجهول، وفي إسناده أيضا إبرهيم بن مهاجر بن جابر البجلي الكوفي، وقد تكلم فيه غير واحد، وقد اختلف على أبي بكر بن عبد الرحمن فيه، فروي عنه عن رسول مروان الذي أرسله إلى أم معقل عنها. وروي عنه عن أم معقل بغير واسطة، وروي عنه عن أبي معقل. والرواية الثانية التي أخرجها أبو داود في إسنادها محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف. قوله: ابن لاس هكذا في نسخ الكتاب الصحيحة بلفظ ابن، والذي في البخاري أبي لاس، وكذا في التقريب من ترجمة عبد الله بن عنمة، ولاس بسين مهملة خزاعي اختلف في اسمه، فقيل زياد، وقيل عبد الله بن عنمة بمهملة ونون مفتوحتين، وقيل غير ذلك، له صحبة وحديثان هذا أحدهما، وقد وصله مع أحمد بن خزيمة والحاكم وغيرهما من طريقه. قال الحافظ: ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق، لهذا توقف ابن المنذر في ثبوته. (وأحاديث الباب) تدل على أن الحج والعمر من سبيل الله، وأن
[ 239 ]
من جعل شيئا من ماله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج والمعتمرين، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج والمعتمر عليه، وتدل أيضا على أنه يجوز صرف شئ من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدين الحج والعمر. باب ما يذكر في استيعاب الاصناف عن زياد بن الحرث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك رواه أبو داود. ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لسلمة بن صخر: اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك. حديث زياد بن الحرث الصدائي في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي وقد تكلم فيه غير واحد. وحديث سلمة بن صخر له طرق وروايات يأتي ذكر بعضها في الصيام وهذه إحداها. وقد أخرجها بهذا اللفظ أحمد في مسنده بإسناد فيه محمد بن إسحاق ولم يصرح بالتحديث، ومع هذا فهذه الرواية تعارض ما سيأتي من الروايات الصحيحة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعانه بعرق من تمر من طريق جماعة من الصحابة، وإنما أورد المصنف هذه الرواية ههنا للاستدلال بها على أن الصرف فيمن لزمته كفارة من الزكاة جائز. قوله: فجزأها بتشديد الزاي، وهذا الحديث مع الآية يرد على المزني وأبي حفص بن الوكيل من أصحاب الشافعي حيث قالا: إنه لا يصرف خمس الزكاة إلى من يصرف إليه خمس الفئ والغنيمة، ويرد أيضا على أبي حنيفة والثوري والحسن البصري حيث قالوا: يجوز صرفها إلى بعض الاصناف الثمانية، حتى قال أبو حنيفة: يجوز صرفها إلى الواحد، وعلى مالك حيث قال: يدفعها إلى أكثرهم حاجة، أي لان كل الاصناف يدفع إليهم للحاجة، فواجب اعتبار أمسهم حاجة.
[ 240 ]
باب تحريم الصدقة على بني هاشم ومواليهم دون موالي أزواجهم [ رح 1603 ] عن أبي هريرة قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟ متفق عليه. ولمسلم إنا لا تحل لنا الصدقة. قوله: فجعلها في فيه زاد في رواية: فلم يفطن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتقام ولعابه يسيل فضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم شدقيه. قوله: كخ كخ بفتح الكاف وكسرها وسكون المعجمة مثقلا ومخففا، وبكسرها منونة وغير منونة فيخرج من ذلك ست لغات، والثانية تأكيد للاولى وهي كلمة تقال لردع الصبي عند مناولة ما يستقذر، قيل: إنها عربية، وقيل: أعجمية، وزعم الداودي أنها معربة، وقد أوردها البخاري في باب من تكلم بالفارسية. قوله: ارم بها في رواية لاحمد: ألقها يا بني وكأنه كلمه أولا بهذا، فلما تمادى قال له: كخ كخ إشارة إلى استقذار ذلك، ويحتمل العكس. قوله: لا تحل لنا الصدقة وفي رواية: لا تحل لآل محمد الصدقة وكذا عند أحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي نفسه. قال الحافظ: وإسناده قوي. وللطبراني والطحاوي من حديث أبي ليلى الانصاري نحوه. (والحديث يدل) على تحريم الصدقة عليه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله، واختلف ما المراد بالآل هنا فقال الشافعي وجماعة من العلماء: أنهم بنو هاشم وبنو المطلب، واستدل الشافعي على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشرك بني المطل‍ ب مع بني هاشم في سهم ذوي القربى، ولم يعط أحدا من قبائل قريش غيرهم، وتلك العطية عوض عوضوه بدلا عما حرموه من الصدقة، كما أخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شئ واحد. وأجيب عن ذلك بأنه إنما أعطاهم ذلك لمولاتهم لا عوضا عن الصدقة. وقال أبو حنيفة ومالك والهادوية: هم بنو هاشم فقط.
[ 241 ]
وعن أحمد في بني المطلب روايتان. وعن المالكية فيما بين هاشم وغالب بن فهر قولان: فعن أصبغ منهم هم بنو قصي، وعن غيره بنو غالب بن فهر، كذا في الفتح. والمراد ببني هاشم آل علي، وآل عقيل وآل جعفر، وآل العباس، وآل الحرث، ولم يدخل في ذلك آل أبي لهب لما قيل من أنه لم يسلم أحد منهم في حياته صلى الله عليه وآله وسلم، ويرده ما في جامع الاصول أنه أسلم عتبة ومعتب ابنا أبي لهب عام الفتح، وسر صلى الله عليه وآله وسلم بإسلامهما ودعا لهما وشهدا معه حنينا والطائف، ولهما عقب عند أهل النسب. قال ابن قدامة: لا يعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، وكذا قال أبو طالب من أهل البيت، حكي ذلك عنه في البحر، وكذا حكى الاجماع ابن رسلان، وقد نقل الطبري الجواز عن أبي حنيفة وقيل عنه: تجوز لهم إذ حرموا سهم ذوي القربى، حكاه الطحاوي ونقله بعض المالكية عن الابهري منهم، قال في الفتح: وهو وجه لبعض الشافعية. وحكي فيه أيضا عن أبي يوسف أنها تحل من بعضهم لبعض لا مع غيرهم، وحكاه في البحر عن زيد بن علي والمرتضى وأبي العباس والامامية. وحكاه في الشفاء عن ابني الهادي والقاسم العياني. قال الحافظ: وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز. المنع. جواز التطوع دون الفرض عكسه. والاحاديث الدالة على التحريم على العموم ترد على الجميع. وقد قيل: إنها متواترة توترا معنويا، ويؤيد ذلك قوله تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (الشورى: 23) وقوله: * (قل ما أسألكم عليه من أجر) * (الفرقان: 57) ولو أحلها لا آله أو شك أن يطعنوا فيه. ولقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) * (التوبة: 103) وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم: أن الصدقة أوساخ الناس كما رواه مسلم. وأما ما استدل به القائلون بحلها للهاشمي من الهاشمي من حديث العباس الذي أخرجه الحاكم في النوع السابع والثلاثين من علوم الحديث بإسناد كله من بني هاشم: أن العباس بن عبد المطلب قال قلت: يا رسول الله إنك حرمت علينا صدقات الناس هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض؟ قال: نعم فهذا الحديث قد اتهم به بعض رواته، وقد أطال صاحب الميزان الكلام على ذلك، فليس بصالح لتخصيص تلك العمومات الصحيحة. وأما قول العلامة محمد بن إبراهيم الوزير بعد أن ساق الحديث ما لفظه: وأحسب له متابعا لشهرة القول به قال: والقول به قول جماعة وافرة من أئمة العترة وأولادهم وأتباعهم، بل ادعى بعضهم أنه إجماعهم، ولعل توارث هذا بينهم يقوي الحديث انتهى. فكلام
[ 242 ]
ليس على قانون الاستدلال، لان مجرد الحسبان أن له متابعا وذهاب جماعة من أهل البيت إليه لا يدل على صحته، وأما دعوى أنهم أجمعوا عليه فباطل باطل، ومطولات مؤلفاتهم ومختصراتها شاهدة لذلك. وأما قول الامير في المنحة: أنها سكنت نفسه إلى هذا الحديث بعد وجدان سنده وما عضده من دعوى الاجماع فقد عرفت بطلان دعوى الاجماع، وكيف يصح إجماع لاهل البيت والقاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله وجماعة من أكابرهم بل جمهورهم خارجون عنه. وأما مجرد وجدان السند للحديث بدون كشف عنه فليس مما يوجب سكون النفس. (والحاصل) أن تحريم الزكاة على بني هاشم معلوم من غير فرق بين أن يكون المزكي هاشميا أو غيره، فلا ينفق من المعاذير عن هذا المحرم المعلوم إلا ما صح عن الشارع لا ما لفقه الواقعون في هذه الورطة من الاعذار الواهية التي لا تخلص ولا ما لم يصح من الاحاديث المروية في التخصيص، ولكثرة أكلة الزكاة من آل هاشم في بلاد اليمن خصوصا أرباب الرياسة، قام بعض العلماء منهم في الذب عنهم وتحليل ما حرم الله عليهم مقاما لا يرضاه الله ولا نقاد العلماء، فألف في ذلك رسالة هي في الحقيقة كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاء لم يجده شيئا وصار يتسلى بها أرباب النباهة منهم. وقد يتعلل بعضهم بما قاله البعض منهم أن أرض اليمن خراجية، وهو لا يشعر أن هذه المقالة مع كونها من أبطل الباطلات ليست مما يجوز التقليد فيه على مقتضى أصولهم، فالله المستعان ما أسرع الناس إلى متابعة الهوى، وإن خالف ما هو معلوم من الشريعة المطهرة. (واعلم) أن ظاهر قوله: لا تحل لنا الصدقة عدم حل صدقة الفرض والتطوع، وقد نقل جماعة منهم الخطابي الاجماع على تحريمها عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وتعقب بأنه قد حكى غير واحد عن الشافعي في التطوع قولا. وكذا في رواية عن أحمد. وقال ابن قدامة: ليس ما نقل عنه من ذلك بواضح الدلالة، وأما آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أكثر الحنفية وهو المصحح عن الشافعية والحنابلة وكثير من الزيدية أنها تجوز لهم صدقة التطوع دون الفرض، قالوا: لان المحرم عليهم إنما هو أوساخ الناس وذلك هو الزكاة لا صدقة التطوع، وقال في البحر: إنه خصص صدقة التطوع القياس على الهبة والهدية والوقف. وقال أبو يوسف وأبو العباس: إنها تحرم
[ 243 ]
عليهم كصدقة الفرض لان الدليل لم يفصل. [ رح 1604 ] وعن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بعث رجلا من مخزوم على الصدقة فقال لابي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، قال: لا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسأله، وانطلق فسأله فقال: إن الصدقة لا تحل لنا وإن موالي القوم من أنفسهم رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه الترمذي. الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وصححاه. (وفي الباب) عن ابن عباس عند الطبراني. قوله: من أنفسهم بضم الفاء ولفظ الترمذي مولى القوم منهم أي حكمه كحكمهم. (الحديث) يدل على تحريم الصدقة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحريمها على آله، وقد تقدم الكلام على ذلك. ويدل على تحريمها على موالي آل بني هاشم، ولو كان الاخذ على جهة العمالة وقد سلف ما فيه. قال الشافعي: حرم على مواليه من الصدقة ما حرم على نفسه، وبه قال أبو حنيفة، وهو مروي أيضا عن الناصر والشافعي وأصحابه، وإليه ذهب المؤيد بالله وأبو طالب، وهو مروي عن الناصر وابن الماجشون. وقال مالك ويحيى وهو مروي أيضا عن الناصر والشافعي في قول له إنها تحل لهم، قال في البحر: لان علة التحريم مفقودة وهي الشرف، قلنا: جزم الخبر بدفع ذلك انتهى. ونصب هذه العلة في مقابل هذا الدليل الصحيح من الغرائب التي يعتبر بها المتيقظ. وعن أم عطية قالت: بعث إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة من الصدقة فبعثت إلى عائشة منها بشئ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: هل عندكم من شئ؟ فقالت: لا إلا أن نسيبة بعثت إلينا من الشاة التي بعثتم بها إليها، فقال: إنها قد بلغت محلها متفق عليه. وعن جويرة بنت الحرث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها فقال: هل من طعام؟ فقالت: لا والله ما عندنا طعام إلا عظم من شاة أعطيتها مولاتي من الصدقة، فقال: قدميها فقد بلغت محلها رواه أحمد ومسلم. قوله: هل عندكم من شئ أي من الطعام. قوله: نسيبة قال في الفتح بالنون والمهملة والموحد مصغرا اسم أم عطية انتهى. وأما نسيبة بفتح النون وكسر السين فهي أم عمارة. قوله: بلغت محلها قوله أي أنها لما تصرفت فيها بالهدية لصحة ملكها لها،
[ 244 ]
انتقلت عن حكم الصدقة فحلت محل الهدية، وكانت تحل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف الصدقة كما تقدم، كذا قال ابن بطال. قال في الفتح: وضبط بعضهم بكسرها من الحلول أي بلغت مستقرها، والاول أولى انتهى. (والحديث) يدل على أن موالي أزواج بني هاشم ليس حكمهم كحكم موالي بني هاشم فتحل لهم الصدقة وقد نقل ابن بطال اتفاق الفقهاء على عدم دخول الزوجات في ذلك وفيه نظر، لان ابن قدامة ذكر أن الخلال أخرج من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة أنها قالت: إناآل محمد لا تحل لنا الصدقة قال: وهذا يدل على تحريمها. قال الحافظ: وإسناده إلى عائشة حسن. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا، وهذا لا يقدح فيما نقله ابن بطال، وذكر ابن المنير أنها لا تحرم الصدقة على الازواج قولا واحدا. (ولا يقال) إن قول البعض بدخولهن في الآل يستلزم تحريم الصدقة عليهن فإن ذلك غير لازم. (وفي الحديثين) أيضا دليل على أنه يجوز لمن تحرم عليه الصدقة الاكل منها بعد مصيرها إلى المصرف وانتقالها عنه بهبة أو هدية أو نحوها. وفي الباب عن عائشة عند البخاري وغيره: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بلحم فقالت له: هذا ما تصدق به على بريرة، فقال: هو لها صدقة ولنا هدية. باب نهي المتصدق أن يشتري ما تصدق به عن عمر بن الخطاب قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذ كان عنده فأردت أن أشتريه وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لا تشتره ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه متفق عليه. وعن ابن عمر: أن عمر حمل على فرس في سبيل الله وفي لفظ: تصدق بفرس في سبيل الله ثم رآها تباع فأراد أن يشتريها فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لا تعد في صدقتك يا عمر رواه الجماعة، زاد البخاري: فبذلك كان ابن عمر لا يترك أن يبتاع شيئا تصدق به إلا جعله صدقة. قوله: عن عمر هذا يقتضي أن الحديث من مسند عمر، والرواية الاخرى تقتضي أنه من مسند ابن عمر. ورجح الدارقطني الثاني. قوله: حملت على فرس المراد أنه ملكه إياه،
[ 245 ]
ولذلك ساغ له بيعه، ومنهم من قال: كان عمر قد حبسه، وإنما ساغ للرجل بيعه لانه حصل فيه هزال عجز بسببه عن اللحاق بالخيل وضعف عن ذلك وانتهى إلى حالة عدم الانتفاع به، ويرجح الاول. قوله: لا تعد في صدقتك ولو كان حبسا لعللبه. قوله: فأضاعه أي لم يحسن القيام عليه وقصر في مؤنته وخدمته. وقيل: لم يعرف مقداره فأراد بيعه بدون قيمته، وقيل معناه استعمله في غير ما جعل له والاول أظهر. قوله: وإن أعطاكه بدرهم هو مبالغة في تنقيصه وهو الحامل له على شرائه. قوله: لا تعد إنما سمى شراءه برخص عودا في الصدقة من حيث إن الغرض منها ثواب الآخرة، فإذا اشتراها برخص فكأنه اختار عرض الدنيا على الآخرة، فيصير راجعا في ذلك المقدار الذي سومح فيه. قوله: كالعائد في قيئه استدل به على تحريم ذلك لان القئ حرام. قال القرطبي: وهذا هو الظاهر من سياق الحديث، ويحتمل أن يكون التشبيه للتنفير خاصة لكون القئ مما يستقذر وهو قول الاكثر، ويلحق بالصدقة الكفارة والنذر وغيرهما من القربات. قوله: لا يترك أن يبتاع الخ، أي كان إذا اتفق له أن يشتري شيئا مما تصدق به لا يتركه في ملكه حتى يتصدق به، فكأنه فهم أن النهي عن شراء الصدقة إنما هو لمن أراد أن يتملكها لا لمن يردها صدقة. (والحديث) يدل على كراهة الرجوع عن الصدقة، وأن شراءها برخص نوع من الرجوع فيكون مكروها، وقد قيل: إنه يعارض هذا الحديث الحديث المتقدم عن أبي سعيد في حل الصدقة لرجل اشتراها بماله وجمع بينهما بحمل هذا على كراهة التنزيه، ولهذا قال المصنف رحمه الله تعالى: وحمل قوم هذا على التنزيه واحتجوا بعموم قوله: أو رجل اشتراها بماله في خبر أبي سعيد، ويدل عليه ابتياع ابن عمر وهو راوي الخبر، ولو فهم منه التحريم لما فعله وتقرب بصدقة تستند إليه انتهى. والظاهر أنه لا معارضة بين هذا وبين حديث أبي سعيد المتقدم، لان هذا في صدقة التطوع وذاك في صدقة الفريضة، فيكون الشراء جائزا في صدقة الفريضة، لانه لا يتصور الرجوع فيها حتى يكون الشراء مشبها له، بخلاف صدقة التطوع فإنه يتصور الرجوع فيها فكره ما يشبهه وهو الشراء، نعم يعارض حديث
[ 246 ]
الباب في الظاهر ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: كنت تصدقت على أمي بوليدة وإنها ماتت وتركت تلك الوليدة، قال: وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث. ويجمع بجواز تملك الشئ المتصدق به بالميراث، لان ذلك ليس مشبها بالرجوع عن الصدقة دون سائر المعاوضات. باب فضل الصدقة على الزوج والاقارب عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن، قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمرنا بالصدقة فأته فاسأله فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم، قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أنت، قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الانصار بباب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما ولا تخبر من نحن، قالت: فدخل بلال فسأله فقال له: من هما؟ فقال: امرأة من الانصار وزينب فقال: أي الزيانب؟ فقال: امرأة عبد الله، فقال لهما: أجران أجر القرابة وأجر الصدقة متفق عليه. ولفظ البخاري: أيجزئ عني أن أنفق على زوجي وعلى أيتام لي في حجري؟. قوله: إنك رجل خفيف ذات اليد هذا كناية عن الفقر. وفي لفظ للبخاري: إن زينب كانت تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها فقالت لعبد الله: سل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيجزئ عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ الحديث. قوله: فإذا امرأة من الانصار زاد النسائي والطيالسي: يقال لها زينب. وفي رواية للنسائي: انطلقت امرأة عبد الله يعني ابن مسعود وامرأة أبي مسعود يعني عقبة بن عمرو الانصاري. (استدل بهذا الحديث) على أنه يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها إلى زوجها، وبه قال الثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة وإحدى
[ 247 ]
الروايتين عن مالك. وعن أحمد وإليه ذهب الهادي والناصر والمؤيد بالله، وهذا إنما يتم دليلا بعد تسلم ان هذه الصدقة صدقة واجبة، وبذلك جزم المازري. ويؤيد ذلك قولها: أيجزئ عنوتعقبه عياض بأن قوله: ولو من حليكن وكون صدقتها كانت من صناعتها يدلان على التطوع، وبه جزم النووي وتأولوا قولها: أيجزئ عني أي في الوقاية من النار؟ كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا يحصل لها المقصود، وما أشار إليه من الصناعة احتج به الطحاوي لقول أبي حنيفة: إنها لا تجزئ زكاة المرأة في زوجها، فأخرج من طريق رائطة امرأة ابن مسعود أنها كانت امرأة صنعاء اليدين فكانت تنفق عليه وعلى ولده، فهذا يدل على أنها صدقة تطوع. (واحتجوا) أيضا على أنها صدقة تطوع بما في البخاري من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم. قالوا: لان الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة بالاجماع كما نقله ابن المنذر والمهدي في البحر وغيرهما، وتعقب هذا بأن الذي يمتنع إعطاؤه من الصدقة الواجبة من تلزم المعطي نفقته، والام لا يلزمها نفقة ابنها مع وجود أبيه. قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق الحديث: وهذا عند أكثر أهل العلم في صدقة التطوع انتهى. والظاهر أنه يجوز للزوجة صرف زكاتها إلى زوجها، أما أولا فلعدم المانع من ذلك، ومن قال: إنه لا يجوز فعليه الدليل، وأما ثانيا فلان ترك استفصاله صلى الله عليه وآله وسلم لها ينزل منزلة العموم، فلما لم يستفصلها عن الصدقة هل هي تطوع أو واجب فكأنه قال: يجزي عنك فرضا كان أو تطوعا. (وقد اختلف) في الزوج هل يجوز له أن يدفع زكاته إلى زوجته؟ فقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة شيئا لان نفقتها واجبة عليه، ويمكن أن يقال: إن التعليل بالوجوب على الزوج لا يوجب امتناع الصرف إليها لان نفقتها واجبة عليه غنية كانت أو فقيرة، فالصرف إليها لا يسقط عنه شيئا. وأما الصدقة على الاصول والفصول وبقية القرابة فسيأتي الكلام عليها. وعن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة رواه أحمد وابن ماجة والترمذي. وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح رواه أحمد. وله مثله من حديث
[ 248 ]
حكيم بن حزام. وعن ابن عباس قال: إذا كان ذوو قرابة لا تعولهم فأعطهم من زكاة مالك، وإن كنت تعولهم فلا تعطهم ولا تجعلها لمن تعول رواه الاثرم في سننه. حديث سلمان أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم وحسنه الترمذي. قال الحافظ: وفي الباب عن أبي طلحة وأبي أمامة عند الطبراني. قوله: الكاشح هو المضمر للعداوة. وقد استدل بالحديثين على جواز صرف الزكاة إلى الاقارب، سواء كانوا ممن تلزم لهم النفقة أم لا، لان الصدقة المذكورة فيهما لم تقيد بصدقة التطوع، ولكنه قد تقدم عن ابن المنذر وصاحب البحر أنهما حكيا الاجماع على عدم جواز صرف الزكاة إلى الاولاد، وكذا سائر الاصول والفصول كما في البحر فإنه قال: مسألة ولا تجزئ في أصول وفصوله مطلقا إجماعا. وقال صاحب ضوء النهار: إن دعوى الاجماع وهم، قال: وكيف ومحمد بن الحسن ورواية عن العباس أنها تجزئ في الآباء والامهات، ثم قال قلت: والمسألة في البحر لم تنسب إلى قائل فضلا عن الاجماع، وهذ وهم منه رحمه الله تعالى. فإن صاحب البحر صرح بنسبتها إلى الاجماع كما حكيناه سالفا، فقد نسبت إلى قائل وهم أهل الاجماع، إلا أنه يدل لما روي عن أبي عباس ومحمد بن الحسن ما في البخاري وأحمد عن معن بن يزيد قال: أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فقال: والله ما إياك أردت، فجئت فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن وسيأتي هذا الحديث في كتاب الوكالة إن شاء الله تعالى، ولكنه يحتمل أ تكون الصدقة صدقة تطوع بل هو الظاهر. وقد روي عن مالك أنه يجوز الصرف في بني البنين وفيما فوق الجد والجدة، وأما غير الاصول والفصول من القرابة الذين تلزم نفقتهم فذهب الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله ومالك والشافعي إلى أنه لا يجزي الصرف إليهم. وقال أبو حنيفة وأصحابه والامام يحيى: يجوز ويجزئ إذ لم يفصل الدليل لعموم الادلة المذكورة في الباب، وقال الاولون: إنها مخصصة بالقياس ولا أصل له. وأما الاثر المروي عن ابن عباس فكلام صحابي ولا حجة فيه لان للاجتهاد في ذلك مسرحا. ويؤيد الجواز والاجزاء الحديث الذي تقدم عند البخاري بلفظ: زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم. وترك
[ 249 ]
الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما سلف، ثم الاصل عدم المانع، فمن زعم أن القرابة أو وجوب النفقة مانعان فعليه الدليل ولا دليل. باب زكاة الفطر عن ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والانثى، والصغير والكبير من المسلمين رواه الجماعة. ولاحمد والبخاري وأبي داود: وكان ابن عمر يعطي التمر إلا عاما واحدا أعوز التمر فأعطى الشعير وللبخاري: وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين. وعن أبي سعيد قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب أخرجاه. وفي رواية: كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاعا من طعام، أو صاعا من تمر، أصاعا من شعير، أو صاعا من زبيب، أو صاعا من أقط، فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة فقال: إني لارى مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه رواه الجماعة لكن البخاري لم يذكر فيه: قال أبو سعيد فلا أزال الخ. وابن ماجة لم يذكر لفظة أو فشئ منه. وللنسائي عن أبي سعيد قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، وهو حجة في أن الاقط أصل. وللدارقطني عن ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد قال: ما أخرجنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا صاعا من دقيق، أو صاعا من تمر، أو صاعا من سلت، أو صاعا من زبيب، أو صاعا من شعير، أو صاعا من أقط فقال ابن المديني لسفيان يا أبا محمد إن أحدا لا يذكر في هذا الدقيق، قال: بلى هو فيه رواه الدارقطني واحتج به أحمد على إجزاء الدقيق. قوله: فرض فيه دليل على أن صدقة الفطر من الفرائض، وقد نقل ابن المنذر وغيره الاجماع على ذلك، ولكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرضية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب، قالوا: إذ لا دليل قاطع تثبت به الفرضية. قال الحافظ:
[ 250 ]
وفي نقل الاجماع نظر، لان إبراهيم بن علية وأبا بكر بن كيسان الاصم قالا: إن وجوبها نسخ، واستدل لهما بما روى النسائي وغيره عن قيس بسعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله. قال: وتعقب بأن في إسناده راويا مجهولا، وعلى تقدير الصحة فلا دليل فيه على النسخ لاحتمال الاكتفاء بالامر الاول، لان نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر. ونقل المالكية عن أشهب أنها سنة مؤكدة، وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية قالوا: ومعنى قوله في الحديث فرض أي قدر وهو أصله في اللغة كما قال ابن دقيق العيد، لكن نقل في عرف الشرع إلى الوجوب فالحمل عليه أولى. وقد ثبت أن قوله تعالى: * (قد أفلح من تزكى) * (الاعلى: 14) نزلت في زكاة الفطر كما روى ذلك ابن خزيمة. قوله: زكاة الفطر أضيفت الزكاة إلى الفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان، كذا قال في الفتح. وقال ابن قتيبة: والمراد بصدقة الفطر صدقة النفوس مأخوذ من الفطرة التي هي أصل الخلقة. قال الحافظ: والاول أظهر. ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث: زكاة الفطر في رمضان. وقد استدل بقوله: زكاة الفطر على أن وقت وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر لانه وقت الفطر من رمضان، وقيل: وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد، لان الليل ليس محلا للصوم، وإنما يتبين الفطر الحقيقي بالاكل بعد طلوع الفجر، والاول قول الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي في الجديد وإحدى الروايتين عن مالك، والثاني قول أبي حنيفة والليث والشافعي في القديم، والرواية الثانية عن مالك وبه قال الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، ويقويه قوله في حديث ابن عمر الآتي: أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، ولكنها لم تقيد القبلية بكونها في يوم الفطر. قال ابن دقيق العيد: الاستدلال بقوله: زكاة الفطر على الوقت ضعيف لان الاضافة إلى الفطر لا تدل على وقت الوجوب، بل تقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان، وأما وقت الوجوب فيطلب من أمر آخر. قوله: صاعا من تمر أو صاعا من شعير قال في الفتح: انتصب صاعا على التمييز أو أنه مفعول ثان. قوله: على العبد والحر ظاهره يدل على أن العبد يخرج عن نفسه ولم يقل به إلا داود فقال: يجب على السيد أن يمكن عبده من الاكتساب لها: ويدل على ما ذهب إليه الجمهور من كون الوجوب على
[ 251 ]
السيد حديث: ليس على المرء في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر. ولفظ مسلم: ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر. قوله: الذكر والانثى ظاهره وجوبها على المرأة، سواء كان لها زوج أم لا، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وابن المنذر، وقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق: تجب على زوجها تبعا للنفقة، قال الحافظ: وفيه نظر لانهم قالوا: إن أعسر وكانت الزوجة أمة وجبت فطرتها على السيد، بخلاف النفقة فافترقا، واتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة مع أن نفقتها تلزم، وإنما احتج الشافعي بما رواه من طريق محمد بن علي الباقر مرسلا: أدوا صدقة الفطر عمن تمونون. وأخرجه البيهقي من هذا الوجه فزاد في إسناده ذكر علي وهو منقطع. وأخرجه من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف، وأخرجه أيضا عنه الدارقطني. قوله: والصغير والكبير وجوب فطرة الصغير في ماله والمخاطب بإخراجها وليه إن كان للصغير مال، وإلا وجبت على من تلزمه نفقته، وإلى هذا ذهب الجمهور. وقال محمد بن الحسن: هي على الاب مطلقا فإن لم يكن له أب فلا شئ‌عليه. وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري: لا تجب إلا على من صام، واستدل لهمبحديث ابن عباس الآتي بلفظ: صدقة الفطر طهرة للصائم قال في الفتح: وأجيب بأن ذكر التطهير خرج مخرج الغالب، كما أنها تجب على من لا يذنب، كمتحقق الصلاح أو من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة قال فيه. ونقل ابن المنذر الاجماع على أنهما لا تجب على الجنين وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه. قوله: من المسلمين فيه دليل على اشتراط الاسلام في وجوب الفطرة فلا تجب على الكافر. قال الحافظ: وهو أمر متفق عليه، وهل يخرجها عن غيره كمستولدته المسلمة؟ نقل ابن المنذر فيه الاجماع على عدم الوجوب، لكن فيه وجه للشافعية ورواية عن أحمد. وهل يخرجها المسلم عن عبده الكافر؟ قال الجمهور: لا خلافا لعطاء والنخعي والثوري والحنفية وإسحاق، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر. وأجاب الجمهور بأنه يبنى عموم قوله في عبده على خصوص قوله من المسلمين في حديث الباب، ولا يخفى أن قوله من المسلمين أعم من قوله في عبده من وجه وأخص من وجه، فتخصيص أحدهما بالآخر تحكم، ولكنه يؤيد اعتبار الاسلام ما عند مسلم بلفظ: على كل نفس من المسلمين حر أو عبد واحتج بعضهم على وجوب إخراجها عن العبد بأن ابن عمر راوي الحديث كان يخرج عن عبده الكافر وهو أعرف بمراد الحديث، وتعقبه بأنه لو صح حمل على
[ 252 ]
أنه كان يخرج عنهم تطوعا ولامانع منه. وظاهر الاحاديث عدم الفرق بين أهل البادية وغيرهم، وإليه ذهب الجمهور. وقال الزهري وربيعة والليث: إن زكاة الفطر تختص بالحاضرة ولا تجب على أهل البادية. قوله: أعوز التمر بالمهملة والزاي أي احتاج، يقال: أعوزني الشئ إذا احتجت إليه فلم أقدر عليه، وفيه دليل على أن التمر أفضل ما يخرج في صدقة الفطر. قوله: بيوم أو يومين فيه دليل على جواز تعجيل الفطرة قبل يوم الفطر، وقد جوزه الشافعي من أول رمضان، وجوزه الهادي والقاسم وأبو حنيفة وأبو العباس وأبو طالب ولو إلى عامين عن البدن الموجود. وقال الكرخي وأحمد بن حنبل: لا تقدم على وقت وجوبها إلا ما يغتفر كيوم أو يومين. وقال مالك والناصر والحسن بن زياد: لا يجوز التعجيل مطلقا كالصلاة قبل الوقت، وأجاب عنهم في البحر بأن ردها إلى الزكاة أقرب. وحكى الامام يحيى إجماع السلف على جواز التعجيل. قوله: صاعا من طعام الخ ظاهره المغايرة بين الطعام وبين ما ذكر بعده، وقد حكى الخطابي أن المراد بالطعام هنا الحنطة وأنه اسم خاص له، قال هو وغيره: قد كانت لفظة الطعام تستعمل في الحنطة عند الاطلاق حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام، فهم منه سوق القمح، وإذا غلب العرف نزل اللفظ عليه، لانه لما غلب استعمال اللفظ فيه كان خطوره عند الاطلاق أغلب. قال في الفتح: وقد رد ذلك ابن المنذر وقال: ظن بعض أصحابنا أن قوله في حديث أبي سعيد صاعا من طعام حجة لمن قال صاع من حنطة وهذا غلط منه، وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام، ثم أورد طريق حفص بن ميسرة عند البخاري وغيره أن أبا سعيد قال: كنا نخرج في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفطر صاعا من طعام، قال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب والاقط والتمر وهي ظاهرة فيما قال. وأخرج الطحاوي نحوه من طريق أخرى. وأخرج ابن خزيمة والحاكم في صحيحهما أن أبا سعيد قال لما ذكروا عنده صدقة رمضان: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاع تمر، أو صاع حنطة، أو صاع شعير، أو صاع أقط، فقال له رجل من القوم: أو مدين من قمح؟ فقال: لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعلم بها. قال ابن خزيمة: ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد هذا غير محفوظ ولا أدري ممن الوهم، ويدل على أنه خطأ قوله فقال رجل الخ، إذ لو كان أبو سعيد أخبر أنهم
[ 253 ]
كانوا يخرجون منها صاعا لما قال الرجل أو مدين من قمح. وقد أشار أيضا أبو داود إلى أن ذكر الحنط فيه غير محفوظ. قوله: حتى قدم معاوية زاد مسلم: حاجا أو معتمرا وكلم الناس على المنبر وزاد ابن خزيمة: وهو يومئذ خليفة. قوله: من سمراء الشام بفتح السين المهملة وإسكان الميم وبالمد هي القمح الشامي. قال النووي: تمسك بقول معاوية من قال بالمدين من الحنطة وفيه نظر، لانه فعل صحابي قد خالف فيه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صرح بأنه رأي رآه لا أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال ابن المنذر: لا نعلم في القمح خبرا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشئ اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من الشعير وهم الائمة، فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم، ثم أسند عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد. قال الحافظ: صحيحة أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح انتهى، وهذا مصير منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفية، لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة. قوله: لم يذكر لفظة أو يعني لم يذكر حرف التخيير في شئ‌من طرق الحديث. قوله: أو صاعا من أقط بفتح الهمزة وكسر القاف وهو لبن يابس غير منزوع الزبد. وقال الازهري: يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى ينصل. وقد اختلف في إجزائه على قولين: أحدهما أنه لا يجزئ لانه غير مقتات، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه جاز إخراجه بدلا عن القيمة على قاعدته. والقول الثاني أنه يجزئ وبه قال مالك وأحمد وهو الراجح لهذا الحديث الصحيح من غير معارض. وروي عن أحمد أنه يجزئ مع عدم وجدان غيره، وزعم الماوردي أنه يجزئ عن أهل البادية دون أهل الحاضرة فلا يجزئ عنهم بلا خلاف، وتعقبه النووي فقال: قطع الجمهور بأن الخلاف في الجميع. قوله: إلا صاعا من دقيق ذكر الدقيق ثابت في سنن أبي داود من حديث أبي سعيد أيضا، ولكنه قال أبو داود: إن ذكر الدقيق وهم من ابن عيينة. وقد روى ذلك ابن خزيمة من حديث ابن عباس: قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تؤدى زكاة رمضان صاعا من طعام عن الصغير والكبير،
[ 254 ]
والحر والمملوك، من أدى سلتا قبل منه، وأحسبه قال: من أدى دقيقا قبل منه، ومن أدى سويقا قبل منه، ورواه الدارقطني، ولكن قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: منكر لان ابن سيرين لم يسمع من ابن عباس. وقد استدل بذلك على جواز إخراج الدقيق كما يجوز إخراج السويق، وبه قال أحمد وأبو قاسم الانماطي لانه مما يكال وينتفع به الفقير، وقد كفي فيه الفقير مؤنة الطحن. وقال الشافعي ومالك: إنه لا يجزئ إخراجه لحديث ابن عمر المتقدم، ولان منافعه قد نقصت، والنص ورد في الحب وهو يصلح لما لا يصلح له الدقيق والسويق. قوله: من سلت بضم السين المهملة وسكون اللام بعدها مثناة فوقية ونوع من الشعير وهو كالحنطة في ملاسته، وكالشعير في برودته وطبعه. والروايات المذكورة في الباب تدل على أن الواجب من هذه الاجناس المنصوصة في الفطرة صاع، ولا خلاف في ذلك إلا في البر والزبيب. وقد ذهب أبو سعيد وأبو العالية وأبو الشعثاء والحسن البصري وجابر بن زيد والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق والهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله إلى أن البر والزبيب كذلك يجب من كل واحد منهما صاع، وقال من تقدم ذكره من الصحابة في كلام ابن المنذر، وزاد في البحر: أبا بكر، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وزيد بن علي والامام يحيى أن الواجب نصف صاع منهما، والقول الاول أرجح لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض صدقة الفطر صاعا من طعام، والبر مما يطلق عليه اسم الطعام إن لم يكن غالبا فيه كما تقدم، وتفسيره بغير البر إنما هو لما تقدم من أنه لم يكن معهودا عندهم، فلا يجزئ دون الصاع منه، ويمكن أن يقال: إن البر على تسليم دخوله تحت لفظ الطعام مخصص بما أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوع بلفظ: صدقة الفطر مدان من قمح وأخرج نحوه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده مرفوعا أيضا. وأخرج نحوه الدارقطني من حديث عصمة بن مالك وفي إسناده الفضل بن المختار وهو ضعيف، وأخرج أبو داود والنسائي عن الحسن مرسلا بلفظ: فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الصدقة صاعا من تمر أو من شعير أو نصف صاع من قمح. وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدقة الفطر صاع من بر أو قمح عن كل اثنين. وأخرج سفيان الثوري في جامعه عن علي عليه السلام موقوفا
[ 255 ]
بلفظ: نصف صاع بر وهذه تنتهض بمجموعها للتخصيص. وحديث أبي سعيد الذي فيه التصريح بالحنطة قد تقدم ما فيه، على أنه لم يذكر إطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة رواه الجماعة إلا ابن ماجة. قوله: قبل خروج الناس إلى الصلاة قال ابن التين: أي قبل خروج الناس إلى صلاة العيد وبعد صلاة الفجر. قال ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته، فإن الله تعالى يقول: * (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) * (الاعلى: 14) ولابن خزيمة من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن هذه الآية فقال نزلت في زكاة الفطر وحمل الشافعي التقييد بقبل صلاة العيد على الاستحباب لصدق اليوم على جميع النهار. وقد رواه أبو معشر عن نافع عن ابن عمر بلفظ: كان يأمرنا أن نخرجها قبل أن نصلي، فإذا انصرف قسمه بينهم وقال: أغنوهم عن الطلب أخرجه سعيد بن منصور، ولكن أبو معشر ضعيف. ووهم ابن العربي في عزو هذه الزيادة لمسلم. (وقد استدل) بالحديث على كراهة تأخيرها عن الصلاة، وحمله ابن حزم على التحريم. وعن ابن عباس قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات رواه أبو داود وابن ماجة. الحديث أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم وصححه. قوله: طهرة أي تطهيرا لنفس من صام رمضان من اللغو، وهو ما لا ينعقد عليه القلب من القول والرفث. قال ابن الاثير: الرفث هنا هو الفحش من الكلام. قوله: وطعمة بضم الطاء وهو الطعام الذي يؤكل. وفيه دليل على أن الفطرة تصرف في المساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة، كما ذهب إليه الهادي والقاسم وأبو طالب. وقال المنصور بالله، هي كالزكاة فتصرف في مصارفها وقواه المهدي. قوله: من أداها قبل الصلاة أي
[ 256 ]
قبل صلاة العيد. قوله: فهي زكاة مقبولة المراد بالزكاة صدقة الفطر. قوله: فهي صدقة من الصدقات يعني التي يتصدق بها في سائر الاوقات، وأمر القبول فيها موقوف على مشيئة الله تعالى. والظاهر أن من أخرج الفطرة بعد صلاة العيد كان كمن لم يخرجها باعتبار اشتراكهما في ترك هذه الصدقة الواجبة، وقد ذهب الجمهور إلى أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مستحب فقط، وجزموا بأنها تجزئ إلى آخر يوم الفطر، والحديث يرد عليهم. وأما تأخيرها عن يوم العيد فقال ابن رسلان: إنه حرام بالاتفاق لانها زكاة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم كما في إخراج الصلاة عن وقتها، وحكي في البحر عن المنصور بالله أن وقتها إلى آخر اليوم الثالث من شهر شوال. وعن إسحاق بن سليمان الرازي قال: قلت لمالك بن أنس: أبا عبد الله كم قدر صاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حزرته، فقلت: أبا عبد الله خالفت شيخ القوم، قال: من هو؟ قلت: أبو حنيفة يقول ثمانية أرطال، فغضب غضبا شديدا ثم قال لجلسائنا: يا فلان هات صاع جدك، يا فلان هات صاع عمك، يا فلان هات صاع جدتك، قال إسحاق: فاجتمعت آصع فقال: ما تحفظون في هذا؟ فقال هذا حدثني أبي عن أبيه أنه كان يؤدي بهذ الصاع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال هذا حدثني أبي عن أخيه أنه كان يؤدي بهذالصاع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الآخر حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال مالك: أنا حزر ت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثا رواه الدارقطني. هذه القصة مشهورة، أخرجها أيضا البيهقي بإسناد جيد. وقد أخرج ابن خزيمة والحاكم من طريق عروة عن أسماء بنت أبي بكر أمه أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمد الذي يقتات به أهل المدينة. وللبخاري عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يعطي زكاة رمضان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمد الاول، ولم يختلف أهل المدينة في الصاع وقدره من لدن الصحابة إلى يومنا هذا أنه كما قال أهل الحجاز: خمسة أرطال وثلث بالعراقي. وقال العراقيون منهم أبو حنيفة أنه ثمانية أرطال، وهو قول مردود تدفعه هذه القصة المسندة إلى صيعان
[ 257 ]
الصحابة التي قررها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رجع أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة بعد هذه الواقعة إلى قول مالك وترك قول أبي حنيفة. قوله: أنا حزرته بالحاء المهملة المفتوحة بعدها زاي مفتوحة ثم راء ساكنة أي قدرته. قوله: آصع جمع صاع قال في البحر: والصاع أربعة أمداد إجماعا. (فائدة) قد اختلف في القدر الذي يعتبر ملكه لمن تلزمه الفطرة، فقال الهادي والقاسم وأحد قولي المؤيد بالله: أنه يعتبر أن يملك قوت عشرة أيام فاضل عما استثني للفقير وغير الفطرة لما أخرجه أبو داود في حديث ابن أبي صعير عن أبيه في رواية بزيادة غني أو فقير بعد حر أو عبد. ويجاب عن هذا الدليل بأنه وإن أفاد عدم اعتبار الغنى الشرعي فلا يفيد اعتبار ملك قوت عشر. وقال زيد بن علي وأبو حنيفة وأصحابه: إنه يعتبر أن يكون المخرج غنيا غنى شرعيا، واستدل لهم في البحر بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الصدقة ما كانت عن ظهر غنى. وبالقياس على زكاة المال، ويجاب بأن الحديث لا يفيد المطلوب لانه بلفظ: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى كما أخرجه أبو داود، ومعارض أيضا بما أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا: أفضل الصدقة جهد المقل. وما أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعا: أفضل الصدقة سر إلى فقير وجهد من مقل وفسره في النهاية بقدر ما يحتمل حال قليل المال. وما أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه واللفظله، والحاكم وقال على شرط مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سبق درهم مائة ألف درهم، فقال رجل: وكيف ذاك يا رسو الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم فتصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، فهذا تصدق بنصف ماله الحديث، وأما الاستدلال بالقياس فغير صحيح لانه قياس مع الفارق، إذ وجوب الفطرة متعلق بالابدان والزكاة بالاموال، وقال مالك والشافعي وعطاء وأحمد بن حنبل وإسحاق والمؤيد بالله في أحد قوليه: إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطر مالكا لقوت يوم وليلة لما تقدم من أنها طهرة للصائم، ولا فرق بين الغني والفقير في ذلك، ويؤيد ذلك ما تقدم من تفسيره صلى الله عليه وآله وسلم من لا يحل له السؤال بمن يملك ما يغديه ويعشيه، وهذا هو الحق لان النصوص أطلقت ولم تخص غنيا ولا فقيرا، ولا مجال للاجتهاد في تعيين المقدار الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكا له، ولا سيما والعلة التي شرعت لها
[ 258 ]
الفطرة موجودة في الغني والفقير، وهي التطهر من اللغو والرفث، واعتبار كونه واجدا لقوت يوم وليلة أمر لا بد منه، لان المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم، كما أخرجه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر وقال: أغنوهم في هذا اليوم. وفي رواية للبيهقي: أغنوهم عن طواف هذا اليوم وأخرجه أيضا ابن سعد في الطبقات من حديث عائشة وأبي سعيد، فلو لم يعتبر في حق المخرج ذلك لكان ممن أمرنا بإغنائه في ذلك اليوم، لا من المأمورين بإخراج الفطرة وإغناء غيره، وبهذا يندفع ما اعترض به صاحب البحر عن أهل هذه المقالة من أنه يلزمهم إيجاب الفطرة على من لم يملك إلا دون قوت اليوم ولا قائل به. [ رك ] كتاب الصيام قال النووي في شرح مسلم، والحافظ في الفتح: الصيام في اللغة الامساك. وفي الشرع إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة انتهى. وكان فرض صوم شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة. باب ما يثبت به الصوم والفطر من الشهود عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود والدارقطني وقال: تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني رأيت الهلال يعني رمضان فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا رواه الخمسة إلا أحمد. ورواه أبو داود أيضا من حديث حماد بن سلمة عن سماك عن عكرمة مرسلا بمعناه. وقال: فأمر بلالا فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا.
[ 259 ]
الحديث الاول أخرجه أيضا الدارمي وابن حبان والحاكم وصححاه، والبيهقي وصححه ابن حزم كلهم من طريق أبي بكر بن نافع عن نافع عنه. والحديث الثاني أخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم، قال الترمذي: روي مرسلا. وقال النسائي إنه أولى بالصواب، وسماك بن حرب إذا تفرد بأصل لم يكن حجة. (وفي الباب) عن ابن عباس وابن عمر أيضا عند الدارقطني والطبراني في الاوسط من طريق طاوس قال: شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس فجاء رجل إلى واليها وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه وقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان، وكان لا يجيز شهادة الافطار إلا بشهادة رجلين. قال الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر الايلي وهو ضعيف. (والحديثان) المذكوران في الباب يدلان على أنها تقبل شهادة الواحد في دخول رمضان، وإلى ذلك ذهب ابن المبارك وأحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه. قال النووي: وهو الاصح، وبه قال المؤيد بالله، وقال مالك والليث والاوزاعي والثوري والشافعي في أحد قوليه والهادوية: أنه لا يقبل الواحد بل يعتبر اثنان، واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب الآتي وفيه: فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا. وبحديث أمير مكة الآتي وفيه: فإن لم نره وشهد شاهدا عدل، وظاهرهما اعتبار شاهدين، وتأولوا الحديثين المتقدمين باحتمال أن يكون قد شهد عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيرهما، وأجاب الاولون بأن التصريح بالاثنين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد بالمفهوم، وحديثا الباب يدلان على قبوله بالمنطوق ودلالة المنطوق أرجح. وأما التأويل بالاحتمال المذكور فتعسف وتجويز، لو صح اعتبار مثله لكان مفضيا إلى طرح أكثر الشريعة. وحكي في البحر عن الصادق وأبي حنيفة وأحد قولي المؤيد بالله أنه يقبل الواحد في الغيم، لاحتمال خفاء الهلال عن غيره لا الصحو فلا يقبل إلا جماعة لبعد خفائه. واختلف أيضا في شهادة خروج رمضان، فحكي في البحر عن العترة جميعا والفقهاء أنه لا يكفي الواحد في هلال شوال. وحكي عن أبي ثور أنه يقبل. قال النووي في شرح مسلم: لا تجوز شهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوزه بعدل انتهى. (واستدل) الجمهور بحديث ابن عمر وابن عباس المتقدم، وهو مما لا تقوم به حجة لما تقدم من ضعف من
[ 260 ]
تفرد به. وأما حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وحديث أمير مكة الاتيان فهما واردان في شهادة دخول رمضان. أما حديث أمير مكة فظاهر لقوله فيه: نسكنا بشهادتهما. وأما حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ففي بعض ألفاظه: إلا أن يشهد شاهدا عدل وهو مستثنى من قوله: فأكملوا عدة شعبان فالكلام في شهادة دخول رمضان. وأما اللفظ الذي سيذكره المصنف أعني قوله: فإن شهد مسلمان فصوموا وأفطروا فمع كون مفهوم الشرط قد وقع الخلاف في العمل به، هو أيضا معارض بما تقدم من قبوله صلى الله عليه وآله وسلم لخبر الواحد في أول الشهر وبالقياس عليه في آخره لعدم الفارق، فلا ينتهض مثل هذا المفهوم لاثبات هذا لحكم به، وإذا لم يرد ما يدل على اعتبار الاثنين في شهادة الافطار من الادلة الصحيحة، فالظاهر أنه يكفي فيه واحد قياسا على الاكتفاء به في الصوم، وأيضا التعبد بقبول خبر الواحد يدل على قبوله في كل موضع، إلا ما ورد الدليل بتخصيصه بعدم التعبد فيه بخبر الواحد كالشهادة على الاموال ونحوها، فالظاهر ما قاله أبو ثور، ويمكن أن يقال: إن مفهوم حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قد عورض في أول الشهر بما تقدم، وأما في آخر الشهر فلا ينتهض ذلك القياس لمعارضته، لاسيما مع تأيده بحديث ابن عمر وابن عباس المتقدم، وهو وإن كان ضعيفا فذلك غير مانع من صلاحيته للتأييد، فيصلح ذلك المفهوم المعتضد بذلك الحديث لتخصيص مورد من التعبد بأخبار الآحاد والمقام بعد محل نظر. ومما يؤيد القول بقبول الواحد مطلقا أن قبوله في أول رمضان يستلزم الافطار عند كمال العدة استنادا إلى قوله: وأجيب عن ذلك بأنه يجوز الافطار بقول الواحد ضمنا لا صريحا وفيه نظر. وعن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالله لاهل الهلال أمس عشية فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس أن يفطروا رواه أحمد وأبو داود وزاد في رواية: وأن يغدوا إلى مصلاهم. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح، وجهالة الصحابي غير قادحة. وفي الباب عن عبيد الله أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له أن ركبا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالامس، فأمرهم
[ 261 ]
أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم. ورواه ابن حبان في صحيحه عن أنس: أن عمومة له وهو وهم كما قال أبو حاتم في العلل. (والحديث) يدل على قبول شهادة الاعراب، وأنه يكتفي بظاهر الاسلام كما تقدم في حديث الاعرابي في أول الباب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم الحديث، وقد استدل بحديث الباب على اعتبار شهادة الاثنين في الافطار وغير خاف أن مجرد قبول شهادة الاثنين في واقعة لا يدل على عدم قبول الواحد. قوله: فأمر الناس أن يفطروا فيه رد على من زعم أن أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالافطار خاص بالركب كما فعل الجلال في رسالة له، وقد نبهنا على ذلك في الاعتراضات التي كتبناها عليها وسميناها اطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال. وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب في اليوم الذي شك فيه فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وساءلتهم وأنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا رواه أحمد ورواه النسائي ولم يقل فيه مسلمان. وعن أمير مكة الحرث بن حاطب قال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما رواه أبو داود والدار قطني وقال: هذا إسناد متصل صحيح. الحديث الاول ذكره الحافظ في التلخيص ولم يذكر فيه قدحا، وإسناده لا بأس به على اختلاف فيه. والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح إلا الحسين بن الحرث الجدلي وهو صدوق. وصححه الدارقطني كما ذكر المصنف، والحرث بن حاطب المذكور له صحبة خرج مع أبيه مهاجرا إلى أرض الحبشة وهو صغير، وقيل: ولد بأرض الحبشة هو وأخوه محمد بن حاطب، واستعمل على مكة سنة ست وستين. قوله: وانسكوا لها هو أعم من قوله: صوموا لرؤيته لان النسك في اللغة العبادة وكل حق لله تعالى، كذا في القاموس. قوله: فأتموا ثلاثين يوما فيه
[ 262 ]
الامر بإتمام العدة وسيأتي الكلام على ذلك. قوله: مسلمان فيه دليل على أنها لا تقبل شهادة الكافر في الصيام والافطار. وقد استدل بالحديثين على اشتراط العدد في شهادة الصوم والافطار. وقد تقدم الجواب على ذلك الاستدلال. قوله: شاهدا عدل فيه دليل على اعتبار العدالة في شهادة الصوم وعار ض ذلك من لم يشترط العدالة بحديث الاعرابي المتقدم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يختبره، بل اكتفى بمجرد تكلمه بالشهادتين، وأجيب بأنه أسلم في ذلك الوقت، والاسلام يجب ما قبله فهو عدل بمجرد تكلمه بكلمة الاسلام، وإن لم ينضم إليها عمل في تلك الحال. باب ما جاء في يوم الغيم والشك عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له أخرجاه هما والنسائي وابن ماجة، وفي لفظ: الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين رواه البخاري. وفي لفظ: أنه ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأقدروا ثلاثين رواه مسلم، وفي رواية أنه قال: إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأقدروا له رواه مسلم وأحمد وزاد: قال نافع وكان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يوما يبعث من ينظر فإن رأى فذاك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما. قوله: إذا رأيتموه أي الهلال هو عند الاسماعيلي بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لهلال رمضان: إذا رأيتموه فصوموا وكذا أخرجه عبد الرزاق. وظاهره إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلا أو نهارا، لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وهو ظاهر في النهي عن ابتداء رمضا قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى ذلك لمن تمسك به، لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة هو
[ 263 ]
قوله: فإن غم عليكم فأقدروا له فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين الصحو والغيم، فيكون التعليق على الرؤية متعلقا بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر ويحتمل أن لا تفرقة، ويكون الثاني مؤكدا للاول، وإلى الاول ذهب أكثر الحنابلة. وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا: المراد بقوله: فاقدروا له أي قدروا أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين، ويرجح هذه الروايات المصرحة بإكمال العدة ثلاثين. قوله: فإن غم بضم المعجمة وتشديد الميم أي حال بينه وبينكم سحاب أو نحوه. قوله: فاقدروا قال أهل اللغة: يقال قدرت الشئ أقدره وأقدره بكسر الدال وضمها، وقدرته وأقدرته كلها بمعنى واحد وهي من التقدير كما قال الخطابي، ومعناه عند الشافعية والحنفية وجمهور السلف والخلف فاقدروا له تمام الثلاثين يوما، لا كما قال أحمد بن حنبل وغيره: إن معناه فذروه تحت السحاب، فإنه يكفي في رد ذلك الروايات المصرحة بالثلاثين كما تقدم، ولا كما قال جماعة منهم ابن شريح ومطرف بن عبد الله وابن قتيبة إن معناه قدروه بحساب المنازل، قال في الفتح: قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا، ولا كما نقله ابن العربي عن ابن شريح أن قوله: فأقدروا له خطاب لمن خصه الله بهذا العلم. وقوله: فأكملوا العدة خطاب للعامة لانه كما قال ابن العربي أيضا: يستلزم اختلاف وجوب رمضان، فيجب على قوم بحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب العدد وقال: هذا بعيد عن النبلاء. قوله: الشهر تسع وعشرون ظاهره حصر الشهر في تسع وعشرين مع أنه لا ينحصر فيه بل قد يكون ثلاثين. والمعنى: أن الشهر يكون تسعة وعشرين أو اللام للعهد، والمراد شهر بعينه، ويؤيد الاول ما وقع في رواية لام سلمة من حديث الباب بلفظ الشهر يكون تسعة وعشرين. ويؤيد الثاني قول ابن مسعود: صمنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين أخرجه أبو داود والترمذي، ومثله عن عائشة عند أحمد بإسناد جيد. قوله: فلا تصوموا حتى تروه ليس المراد تعليق الصوم بالرؤية في كل أحد، بل المراد بذلك رؤية البعض إما واحدا على رأي الجمهور، أو اثنان على رأي غيرهم، وقد تقدم الكلام على ذلك، وقد تمسك بتعليق الصوم بالرؤية من ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية أهل بلد غيرها وسيأتي تحقيقه. قوله: الشهر هكذا وهكذا الخ، قال النووي: حاصله أن الاعتبار بالهلال لان الشهر قد يكون تاما ثلاثين، وقد يكون ناقصا تسعة وعشرين،
[ 264 ]
وقد لا يرى الهلال، فيجب إكمال العدة ثلاثين، قال قالوا: وقد يقع النقص متواليا في شهرين وثلاثة وأربعة، ولا يقع أكثر من أربعة. (وفي هذا الحديث) جواز اعتماد الاشارة. قوله: قتر بفتح القاف والتاء الفوقية وبعدها راء هو الغبرة على ما في القاموس. قوله: أصبح صائما فيه دليل على أن ابن عمر كان يقول بصوم الشك، وسيأتي بسط الكلام في ذلك. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين رواه البخاري ومسلم وقال: فإن غبي عليكم فعدوا ثلاثين. وفي لفظ: صوموا لرؤيته، فإن غمي عليكم فعدوا ثلاثين رواه أحمد. وفي لفظ: إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما رواأحمد ومسلم وابن ماجة والنسائي. وفي لفظ: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا رواه أحمد والترمذي وصححه. قوله: صوموا لرؤيته اللام للتأقيت لا للتعليل، وسيأتي الكلام على ذلك في باب ما جاء في استقبا رمضان باليوم واليومين. قوله: فإن غبي بفتح الغين المعجمة وكسر الباء الموحدة مخففة وهو بمعنى غم مأخوذ من الغباوة وهي عدم الفطنة استعار ذلك لخفاء الهلال. قوله: فإن غمي عليكم بضم المعجمة وتشديد الميم وتخفيفها فهو مغموم وهو بمعنى غم، ونقل ابن العربي أنه روي عمي بالعين المهملة من العمى وهو بمعناه لانه ذهاب البصر عن المشاهدات أو البصيرة عن المعقولات. (والحديث) يدل على أنه يجب على من لم يشاهد الهلال ولا أخبره من شاهده أن يكمل عدة شعبان ثلاثين يوما ثم يصوم، ولا يجوز أن يصوم يوم ثلاثين من شعبان خلافا لمن قال بصوم يوم الشك، وسيأتي ذكرهم ويكمل عدة رمضان ثلاثين يوما ثم يفطر ولا خلاف في ذلك. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا رواه أحمد والنسائي والترمذي بمعناه وصححه، وعنه في لفظ للنسائي: فأكملوا العدة عدة شعبان رواه من حديث أبي يونس عن سماك عن عكرمة عنه: لا تقدموا
[ 265 ]
الشهر بصيام يوم ولا يومين إلا أن يكون شيئا يصومه أحدكم، ولا تصوموا حتى تروه ثم صوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا رواه أبو داود. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظه من غيره يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام رواه أحمد وأبو داود والدارقطني. وقال: إسناد حسن صحيح. وعن حذيفة قال: قال رسول اللصلى الله عليه وآله وسلم: لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة رواه أبو داود والنسائي. وعن عمار بن يا سقال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رواه الخمسة إلا أحمد وصححه الترمذي وهو للبخاري تعليقا. حديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة والحاكم، وهو من صحيح حديث سماك بن حرب لم يدلس فيه ولم يلقن أيضا فإنه من رواية شعبة عنه، وكان شعبة لا يأخذ عن شيوخه ما دلسوا فيه ولا ما لقنوا. وحديث عائشة صححه أيضا الحافظ. وحديث حذيفة أخرجه أيضا ابن حبان من طريق جرير عن منصور عن ربعي عن حذيفة. وحديث عمار أخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة وصححاه، والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث صلة بن زفر قال: كنا عند عمار فذكره، وعلقه البخاري في صحيحه عن صلة وليس هو عند مسلم وقد وهم من عزاه إليه. قال ابن عبد البر: هذا مسند عندهم مرفوع لا يختلفون في ذلك. وزعم أبو القاسم الجوهري أنه موقوف ورد عليه، ورواه إسحاق بن راهويه عن وكيع عن سفيان عن سماك عن عكرمة. ورواه الخطيب وزاد فيه ابن عباس. (وفي الباب) عن أبي هريرة عند ابن عدي في ترجمة على القرشي وهو ضعيف، وعنه أيضا حديث آخر عند النسائي بلفظ: لا تستقبلوا الشهر بصوم يوم أو يومين إلا أن يوافق ذلك صياما كان يصومه أحدكم. وعنه أيضا حديث آخر عند البزار بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صيام ستة أيام أحدها اليوم الذي يشك فيه. وفي إسناده عبد الله بن سعيد المقبري عن جده وهو ضعيف. وأخرجه أيضا الدارقطني وفي إسناده الواقدي، وأخرجه أيضا البيهقي وفي إسناده عباد وهو عبد الله بن سعيد المقبري المتقدم وهو منكر الحديث كما قال أحمد بن حنبل. (وقد استدل) بهذه
[ 266 ]
الاحاديث على المنع من صوم يوم الشك. قال النووي: وبه قال مالك والشافعي والجمهور. وحكى الحافظ في الفتح عن مالك وأبي حنيفة أنه لا يجوز صومه عن فرض رمضان ويجوز عما سوى ذلك. قال ابن الجوزي في التحقيق: ولاحمد في هذه المسألة وهي إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو غيره ليلة الثلاثين من شعبان ثلاثة أقوال: أحدها يجب صومه على أنه من رمضان. وثانيها: لا يجوز فرضا ولا نفلا مطلقا، بل قضاء وكفارة ونذرا ونفلا يوافق عادة. ثالثها: المرجع إلى رأي الامام في الصوم والفطر، وذهب جماعة من الصحابة إلى صومه منهم علي وعائشة وعمر وابن عمر وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر وأبو هريرة ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم، وجماعة من التابعين منهم مجاهد وطاوس وسالم بن عبد الله وميمون بن مهران ومطرف بن الشخير وبكر بن عبد الله المزني وأبو عثمان النهدي. وقال جماعة من أهل البيت باستحبابه، وقد ادعى المؤيد بالله أنه أجمع على استحباب صومه أهل البيت، وهكذا قال الامير الحسن في الشفاء، والمهدي في البحر، وقد أسند لابن القيم في الهدى الرواية عن الصحابة المتقدم ذكرهم القائلين بصومه، وحكى القول بصومه عن جميع من ذكرنا منهم. ومن التابعين وقال: وهو مذهب إمام أهل الحديث والسنة أحمد بن حنبل، واستدل المجوزون لصومه بأدلة: منها ما أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصومه، وأجيب عنه بأن مرادها أنه كان يصوم شعبان كله لما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديثها قالت: ما رأيته يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان وهو غير محل النزاع، لان ذلك جائز عند المانعين من صوم يوم الشك، لما في الحديث الصحيح المتفق عليه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه وأيضا قد تقرر في الاصول أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بالامة، ولا العام له ولهم، لانه يكون فعله مخصصا له من العموم. ومنها ما أخرجه الشافعي عن علي عليه السلام قال: لان أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان. وأجيب بأن ذلك من رواية فاطمة بنت الحسين عن علي وهي لم تدركه فالرواية منقطعة، ولو سلم الاتصال فليس ذلك بنافع، لان لفظ الرواية أن رجلا شهد عند علي على رؤية الهلال فصام وأمر الناس أن يصوموا ثم قال: لان أصوم الخ، فالصوم لقيام شهادة واحد عنده لا لكونه
[ 267 ]
يوم شك، وأيضا الاحتجاج بذلك على فرض أنه عليه السلام استحب صوم يوم الشك من غير نظر إلى شهادة الشاهد، إنما يكون حجة على من قال بأن قوله حجة، على أنه قد روي عنه القول بكراهة صومه، حكى ذلك عنه صاحب الهدى. قال ابن عبد البر: وممن روى عنه كراهة صوم يوم الشك عمربن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعمار، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك. (والحاصل) أن الصحابة مختلفون في ذلك، وليس قول بعضهم بحجة على أحد، والحجة ما جاءنا عن الشارع وقد عرفته، وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في الابحاث التي كتبتها على رسالة الجلال، وسيأتي الكلام على استقبال رمضان بيوم أو يومين في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى. باب الهلال إذا رآه أهل بلدة هل يلزم بقية البلاد الصوم عن كريب: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. قوله: واستهل علي رمضان هو بضم التاء من استهل قاله النووي. قوله: أفلا تكتفي شك أحد رواته هل هو بالخطاب لابن عباس أو بنون الجمع للمتكلم؟. وقد تمسك بحديث كريب هذا من قال: إنه لا يلزم أهل بلد رؤية أهل بلد غيرها، وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب ذكرها صاحب الفتح. أحدها: أنه يعتبر لاهل كل بلد رؤيتهم ولا يلزمهم رؤية غيرهم، حكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم بن محمد وسالم وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سوا، وحكاه الماوردي وجها للشافعية. وثانيها: أنه لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم إلا أن يثبت ذلك عند الامام الاعظم فيلزم الناس كلهم، لان البلاد في حقه
[ 268 ]
كالبلد الواحد، إذ حكمه نافذ في الجميع، قاله ابن الماجشون. وثالثها: أنها إن تقاربت البلاد كان الحكم واحدا، وإن تباعدت فوجهان لا يجب عند الاكثر قاله بعض الشافعية، واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب، وحكاه البغوي عن الشافعي، وفي ضبط البعيد أوجه. أحدها: اختلاف المطالع قطع به العراقيون والصيدلاني وصححه النووي في الروضة وشرح المهذب. ثانيها: مسافة القصر قطع به البغوي وصححه الرافعي والنووي. ثالثها: باختلاف الاقاليم حكاه في الفتح. رابعها: أنه يلزم أهل كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم، حكاه السرخسي. خامسها: مثل قول ابن الماجشون المتقدم. سادسها: أنه لا يلزم إذا اختلفت الجهتان ارتفاعا وانحدارا، كأن يكون أحدهما سهلا والآخر جبلا، أو كان كل بلد في إقليم، حكاه المهدي في البحر عن الامام يحيى والهادوية. وحجة أهل هذه الاقوال حديث كريب هذا. ووجه الاحتجاج به أن ابن عباس لم يعمل برؤية أهل الشام، وقال في آخر الحديث: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدل ذلك على أنه قد حفظ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر. (واعلم) أن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس والمشار إليه بقوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هو قوله: فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، والامر الكائن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ: لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين. وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم، لانه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم، ولسلم توجه الاشارة في كلام ابن عباس إلى عدم لزوم رؤية أهل بلد لاهل بلد آخر لكان عدم اللزوم مقيدا بدليل العقل، وهو أن يكون بين القطرين من البعد ما يجوز مع اختلاف المطالع، وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف عمل بالاجتهاد وليس بحجة، ولو سلم عدم لزوم التقييد بالعقل فلا يشك عالم أن الادلة قاضية بأن أهل الاقطار يعمل بعضهم بخبر بعض، وشهادته في جميع الاحكام الشرعية والرؤية من جملتها، وسواء كان بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أم لا، فلا يقبل التخصيص إلا بدليل، ولو سلم صلاحية
[ 269 ]
حديث كريب هذا للتخصيص، فينبغي أن يقتصر فيه على محل النص إن كان النص معلوما، أو على المفهوم منه إن لم يكن معلوما لوروده على خلاف القياس، ولم يأت ابن عباس بلفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا بمعنى لفظه حتى ننظر في عمومه وخصوصه، إنما جاءنا بصيغة مجملة أشار بها إلى قصة هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام على تسليم أن ذلك المراد، ولم نفهم منه زيادة على ذلك حتى نجعله مخصصا لذلك العموم، فينبغي الاقتصار على المفهوم من ذلك الوارد على خلاف القياس وعدم الالحاق به، فلا يجب على أهل المدينة العمل برؤية أهل الشام دون غيرهم، ويمكن أن يكون في ذلك حكمة لا نعقلها، ولو نسلم صحة الالحاق وتخصيص العموم به، فغايته أن يكون في المحلات التي بينها من البعد ما بين المدينة والشام أو أكثر، وأما في أقل من ذلك فلا، وهذا ظاهر، فينبغي أن ينظر ما دليل من ذهب إلى اعتبار البريد أو الناحية أو البلد في المنع من العمل بالرؤية، والذي ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية، واختاره المهدي منهم، أو حكاه القرطبي عن شيوخه أنه إذا رآه أهل بلد لزم أهل البلاد كلها، ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أن هذا القول خلاف الاجماع، قال: لانهم قد أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كخراسان والاندلس، وذلك لان الاجماع لا يتم والمخالف مثل هؤلاء الجماعة. باب وجوب النية من الليل في الفرض دون النفل عن ابن عمر عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له رواه الخمسة. الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وصححاه مرفوعا. وأخرجه أيضا الدارقطني، قال في التلخيص: واختلف الائمة في رفعه ووقفه، فقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا أدري أيهما أصح، يعني رواية يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن سالم، أو رواية إسحاق بن حازم عن عبد الله بن أبي بكر عن سالم بغير واسطة الزهري لكن الوقف أشبه. وقال أبو داود: لا يصح رفعه، وقال الترمذي: الموقوف أصح، ونقل في العلل عن البخاري أنه قال: هو خطأ وهو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف، وقال النسائي: الصواب عندي موقوف، ولم يصح
[ 270 ]
رفعه. وقال أحمد: ما له عندي ذلك الاسناد. وقال الحاكم في الاربعين: صحيح على شرط الشيخين. وقال في المستدرك: صحيح على شرط البخاري. وقال البيهقي: رواته ثقات إلا أنه روي موقوفا. وقال الخطابي: أسنده عبد الله بن أبي بكر والزيادة من الثقة مقبولة. وقال ابن حزم: الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة. وقال الدارقطني: كلهم ثقات، انتهى كلام التلخيص. وقد تقرر في الاصول وعلم الاصطلاح أن الرفع من الثقة زيادة مقبولة، وإنما قال ابن حزم: أن الاختلاف يزيد الخبر قوة لان من رواه مرفوعا فقد رواه موقوفا باعتبار الطرق. (وفي الباب) عن عائشة عند الدارقطني وفيه عبد الله بن عباد وهو مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الضعفاء، وعن ميمونة بنت سعد عند الدارقطني أيضا بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أجمع الصيام من الليل فليصم، ومن أصبح ولم يجمعه فلا يصم وفي إسناده الواقدي. (والحديث) فيه دليل على وجوب تبييت النية وإيقاعها في جزء من أجزاء الليل، وقد ذهب إلى ذلك ابن عمر وجابر بن يزيد من الصحابة، والناصر والمؤيد بالله ومالك والليث وابن أبي ذئب ولم يفرقوا بين الفرض والنفل. وقال أبو طلحة وأبو حنيفة والشافعية وأحمد بن حنبل والهادي والقاسم: أنه لا يجب التبييت في التطوع، ويروى عن عائشة أنها تصح النية بعد الزوال. وروي عن علي عليه السلام والناصر وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي أنها لا تصح النية بعد الزوال. وقالت الهادوية: وروي عن علي وابن مسعود والنخعي أنه لا يجب التبييت، إلا في صوم القضاء والنذر المطلق والكفارات، وأن وقت النية في غير هذه من غروب شمس اليوم الاول إلى بقية من نهار اليوم الذي صامه. وقد استدل القائلون بأنه لا يجب التبييت بحديث سلمة بن الاكوع والربيع عند الشيخين: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر رجلا من أسلم أن أذن في الناس إذ فرض صوم عاشوراء الا كل: من أكل فليمسك ومن لم يأكل فليصم. وأجيب بأن خبر حفصة متأخر فهو ناسخ لجوازها في النهار، ولو سلم عند النسخ فالنية إنما صحت في نهار عاشوراء، لكن الرجوع إلى الليل غير مقدور، والنزاع فيما كان مقدورا فيخص الجواز بمثل هذه الصورة، أعني من ظهر له وجوب الصيام عليه من النهار كالمجنون يفيق، والصبي يحتلم، والكافر يسلم، وكمن انكشف له في النهار أن ذلك اليوم من رمضان. واستدلوا
[ 271 ]
أيضا بحديث عائشة الآتي، وسيأتي الجواب عنه. (والحاصل) أن قوله: لا صيام نكرة في سياق النفي، فيعم كل صيام، ولا يخرج عنه إلا ما قام الدليل على أنه لا يشترط فيه التبييت، والظاهر أن النفي متوجه إلى الصحة لانها أقرب المجازين إلى الذات، أو متوجه إلى نفي الذات الشرعية، فيصلح الحديث للاستدلال به على عدم صحة صوم من لا يبيت النية إلا ما خص كالصورة المتقدمة. والحديث أيضا يرد على الزهري وعطاوزفر لانهم لم يوجبوا النية في صوم رمضان وهو يدل على وجوبها. ويدل أيضا على الوجوب حديث: إنما الاعمال بالنيات. والظاهر وجوب تجديدها لكل يوم، لانه عبادة مستقلة مسقطة لفرض وقتها، وقد وهم من قاس أيام رمضان على أعمال الحج باعتبار التعدد للافعال، لان الحج عمل واحد، ولا يتم إلا بفعل ما اعتبره الشارع من المناسك، والاخلال بواحد من أركانه يستلزم عدم إجزائه. قوله: يجمع أي يعزم، يقال: أجمعت على الامر أي عزمت عليه. قال المنذري: يجمع بضم الياء آخر الحروف وسكون الجيم من الاجماع وهو أحكام النية والعزيمة، يقال: أجمعت الرأي وأزمعت بمعنى واحد. وعن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم من شئ؟ فقلنا: لا، فقال: فإني إذن صائم، ثم أتانا يوما آخر فقلنا: يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل رواه الجماعة إلا البخاري. وزاد النسائي: ثم قال: إنما مثل صوم المتطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها. وفي لفظ له أيضا: قال: يا عائشة إنما منزلة من صام في غير رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة ماله فجاد منها بما شاء فأمضاه وبخل منها بما شاء فأمسكه قال البخاري: وقالت أم الدرداء: كان أبو الدرداء يقول: عندكم طعام؟ فإن قلنا لا قال: فإني صائم يومي هذا قال: وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم. الرواية الاولى أخرجها أيضا الدارقطني والبيهقي، وفي لفظ لمسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول: هل من غداء؟ فإن قالوا لا، قال: فإني صائم وله ألفاظ عنده. ورواه أبو داود وابن حبان والدارقطني بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتينا فيقول: هل عندكم من غداء؟ فإن قلنا: نعم
[ 272 ]
تغدى، وإن قلنا: لا، قال: إني صائم. وأنه أتانا ذات يوم وقد أهدي لنا حيس الحديث. قوله: حيس بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية بعدها سين مهملة هو طعام يتخذ من التمر والاقط والسمن، وقد يجعل عوض الاقط الدقيق والفتيت، قاله في النهاية. وقد استدل بحديث عائشة من قال: إنه لا يجب تبييت النية في صوم التطوع وهم الجمهور كما قال النووي، وأجيب عنه بأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد كان نوى الصوم من الليل، وإنما أراد الفطر لما ضعف عن الصوم وهو محتمل، لا سيما على رواية: فلقد أصبحت صائما. ولو سلم عد الاحتمال كان غايته تخصيص صوم التطوع من عموم قوله: فلا صيام له. قوله: إنما مثل صوم المتطوع الخ، فيه دليل على أنه يجوز للمتطوع بالصوم أن يفطر، ولا يلزمه الاستمرار على الصوم وإن كان أفضل بالاجماع، وظاهره أن من أفطر في التطوع لم يجب عليه القضاء، وإليه ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة ومالك والحسن البصري ومكحول والنخعي: أنه لا يجوز للمتطوع الافطار ويلزمه القضاء إذا فعل، واستدلوا على وجوب القضاء بما وقع في رواية للدارقطني والبيهقي من حديث عائشة بلفظ: واقض يوما مكانه، ولكنهما قالا: هذه الزيادة غير محفوظة. قوله: كان أبو الدرداء هذا الاثر وصله ابن أبي شيبة و عبد الرزاق. قوله: وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة. أما أثر أبي طلحة فوصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة. وأما أثر أبي هريرة فوصله البيهقي وعبد الرزاق، وأما أثر ابن عباس فوصله الطحاوي. وأما أثر حذيفة فوصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة أيضا. باب الصبي يصوم إذا أطاق وحكم من وجب عليه الصوم في أثناء الشهر أو اليوم عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل رسوالله صلى الله عليه وآله وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الانصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، فكنا بعد ذلك نصومه ونصومه صبياننا الصغار
[ 273 ]
منهم ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم من الطعام أعطيناها إياه حتى يكون عند الافطار أخرجاه. قال البخاري: وقال عمر لنشوان في رمضان: ويلك وصبياننا صيام وضربه. قوله: الربيع بتشديد الياء مصغرا ومعوذ بكسر الواو المشددة وهو ابن عون ويعرف بابن عفراء. قوله: اللعبة بضم اللام المشددة بعدها عين مهملة ساكنة ثم باء موحدة ثم تاء تأنيث وهي الشئ الذي يلعب به الصبيان. قوله: من العهن أي الصوف قيل: هو المصبوغ منه. قوله: أعطيناها إياه حتى يكون عند الافطار وقع في مسلم: أعطيناه إياه عند الافطار وهو مشكل، ورواية البخاري توضح أنه سقط منه شئ. وقد رواه مسلم أيضا من وجه آخر فقال فيه: فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم. قوله: لنشوان هو بفتح النون وسكون المعجمة كسكران وزنا ومعنى، وجمعه نشاوى كسكارى. قال ابن خالويه: سكر الرجل فانتشى وثمل بمعنى. وقال صاحب المحكم: نشا الرجل وانتشى وتنشى كله بمعنى سكر. وقال ابن التين: النشوان السكران سكرا خفيفا، وهذا الاثر وصله سعيد بن منصور والبغوي في الجعديات بلفظ: أن عمر بن الخطاب أتى برجل شرب الخمر في رمضان، فلما دنا منه جعل يقول للمنخرين والفم وفي رواية البغوي: فلما رفع إليه عثر فقال عمر: على وجهك ويحك وصبياننا صيام. ثم أمر به فضرب ثمانين سوطا ثم سيره إلى الشام. (الحديث) استدل به على أن عاشوراء كان فرضا قبل أن يفرض رمضان، وعلى أنه يستحب أمر الصبيان بالصوم للتمرين عليه إذا أطاقوه، وقد قال باستحباب ذلك جماعة من السلف منهم ابن سيرين والزهري والشافعي وغيرهم، واختلف أصحاب الشافعي في تحديد السن التي يؤمر الصبي عندها بالصيام فقيل، سمع سنين، وقيل: عشر وبه قال أحمد. وقيل: اثنتا عشرة سنة وبه قال إسحاق، وقال الاوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعا لا يضعف فيهن حمل على الصوم، والمشهور عن المالكية أن الصوم لا يشرع في حق الصبيان، والحديث يرد عليهم لانهم يبعد كل البعد أن لا يطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك. وأخرج ابن خزيمة من حديث رزينة بفتح الراء وكسر الزاي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر برضعائه ورضعاء فاطمة، فيتفل في أفواههم ويأمر أمهاتهم أن لا يرضعن إلى الليل. وقد توقف ابن خزيمة في صحته،
[ 274 ]
قال الحافظ: وإسناده لا بأس به، وهو يرد على القرطبي قوله: لعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم بذلك، ويبعد أن يكون أمر بذلك، لانه تعذيب صغير بعبادة شاقة غير متكررة في السنة انتهى. مع أن الصحيح عند أهل الاصول والحديث أن الصحابي إذا قال: فعلنا كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حكمه الرفع، لان الظاهر إطلاعه عليه مع توفر دواعيهم إلى سؤالهم إياه عن الاحكام، مع أن هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه لانه إيلام لغير مكلف فلا يكون إلا بدليل، ومذهب الجمهور أنه لا يجب الصوم على من دون البلوغ، وذكر الهادي في الاحكام أنه يجب على الصبي الصوم بالاطاقة لصيام ثلاثة أيام، واحتج على ذلك بما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام الشهر كله هذا الحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير وقال: أخرجه المرهبي عن ابن عباس ولفظه: تجب الصلاة على الغلام إذا عقل، والصوم إذا أطاق، والحدود والشهادة إذا احتلم وقد حمل المرتضى كلام الهادي على لزوم التأديب، وحمله السادة الهارونيون على أنه يؤمر بذلك تعويدا وتمرينا. وعن سفيان بن عبد الله بن ربيعة قال: حدثنا وفدنا الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإسلام ثقيف قالوا: وقدموا عليه في رمضان وضرب عليهم قبة في المسجد فلما أسلموا صاموا ما بقي عليهم من الشهر رواه ابن ماجة. وعن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه أن أسلم أتت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا، قال: فأتموا بقية يومكم واقضوا رواه أبو داود. الحديث الاول إسناده في سنن ابن ماجة، هكذا حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أحمد بن خالد الوهبي، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عيسى بن عبد الله بن مالك، عن عطية بن سفيان بن عبد الله فذكره، ورجال إسناده فيهم الثقة والصدوق ومن لا بأس به، وفيه عنعنة محمد بن إسحاق، وهذا الحديث هو طرف من حديث قدوم ثقيف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنزاله لهم المسجد. والحديث الثاني أخرجه الترمذي أيضا من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه فذكره. (والحديث) الاول يدل على وجوب الصيام على من أسلم في رمضان ولا أعلم فيه خلافا. (والحديث
[ 275 ]
الثاني) فيه دليل على أنه يجب الامساك على من أسلم في نهار رمضان، ويلحق به من تكلف أفاق من الجنون أو زال عذره المانع من الصوم، وأنه يجب عليه القضاء لذلك اليوم، وإن لم يكن مخاطبا بالصوم في أوله. قال في الفتح: وعلى تقدير أن لا يثبت هذا الحديث في الامر بالقضاء فلا يتعين القضاء، لان من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء، كمن بلغ أو أسلم في أثناء النهار. قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق حديث الربيع وما بعده ما لفظه: وهذا حجة في أن صوم عاشوراء كان واجبا، وإن الكافر إذا أسلم أو بلغ الصبي في أثناء يومه لزمه إمساكه وقضاؤه، ولا حجة فيه على سقوط تبييت النية، لان صومه إنما لزمهم في أثناء اليوم انتهى. وقد قدمنا الكلام على جميع هذه الاطراف. [ رم ] أبواب ما يبطل الصوم وما يكره وما يستحب باب ما جاء في الحجامة عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفطر الحاجم والمحجوم رواه أحمد والترمذي. ولاحمد وأبي داود وابن ماجة من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس مثله. ولاحمد وابن ماجة من حديث أبي هريرة مثله. ولاحمد من حديث عائشة وحديث أسامة بن زيد مثله. وعن ثوبان: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان فقال: أفطر الحاجم والمحجوم. وعن الحسن عن معقل بن سنان الاشجعي أنه قال: مر علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أحتجم في ثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فقال: أفطر الحاجم والمحجوم رواهما أحمد وهما دليل على أن من فعل ما يفطر جاهلا يفسد صومه بخلاف الناسي. قال أحمد: أصح حديث في هذا الباب حديث رافع بن خديج. وقال ابن المديني: أصح شئ في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس. حديث رافع أخرجه ابن حبان والحاكم وصححاه، قال الترمذي: ذكر عن أحمد
[ 276 ]
أنه قال: هذا أصح شئ في هذا الباب. وبالغ أبو حاتم فقال: هو عندي من طريق رافع باطل. وعن يحيى بن معين أنه قال: هو أضعف أحاديث الباب. وحديث ثوبان أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم. وروي عن أحمد أنه قال: هو أصح ما روي في الباب، وكذا قال الترمذي عن البخاري، وصححه البخاري تبعا لعلي بن المديني، نقله الترمذي في العلل. وحديث شداد بن أوس أخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة وابن حبان وصححاه، وصححه أيضا أحمد والبخاري وعلي بن المديني. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا النسائي من طريق عبد الله بن بشير عن الاعمش عن أبي صالح عنه، وله طريق أخرى عن شقيق بن ثور عن أبيه عنه. وحديث عائشة أخرجه أيضا النسائي وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. وحديث أسامة أخرجه أيضا النسائي وفيه اختلاف. وحديث ثوبان الآخر أخرجه أيضا النسائي وهو أحد ألفاظ حديثه المشار إليه أولا. وحديث معقل بن سنان في إسناده عطاء بن السائب وقد اختلط، ورواه الطبراني في الكبير، وأخرجه أيضا النسائي وذكر الاختلاف فيه. (وفي الباب) عن أبي موسى عند النسائي والحاكم وصححه علي بن المديني. وقال النسائي: رفعه خطأ، والموقوف أخرجه ابن أبي شيبة وعلقه البخاري ووصله أيضا بدون ذكر أفطر الحاجم والمحجوم له. وعن بلال عند النسائي. وعن علي عند النسائي أيضا. قال علي ابن المديني: اختلف فيه على الحسن. وعن أنس وجابر وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي يزيد الانصاري وابن مسعود عند ابن عدي في الكامل والبزار وغيرهما. (وقد استدل) بأحاديث الباب القائلون بفطر الحاجم والمحجوم له، ويجب عليهما القضاء، وهم علي وعطاء والاوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابوري وابن حبان، حكاه عن هؤلاء الجماعة صاحب الفتح، وصرح بأنهم يقولون إنه يفطر الحاجم والمحجوم له، وهو يرد ما قاله المهدي في البحر، وتبعه المغربي في شرح بلوغ المرام وصاحب ضوء النهار من أنه لم يقل أحد من العلماء بأن الحاجم يفطر. ومن القائلين بأنه يفطر الحاجم والمحجوم له أبو هريرة وعائشة، قال الزعفراني: إن الشافعي علق القول به على صحة الحديث، وبذلك قال الداودي من المالكية. وذهب الجمهور إلى أن الحجامة لا تفسد الصوم، وحكاه في البحر عن جماعة من الصحابة منهم علي وابنه الحسن، وأنس، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن
[ 277 ]
أرقم. وعن العترة وأكثر الفقهاء والحسن البصري وعطاء والصادق. قال الحازمي: ممن روينا عنه ذلك من الصحابة: سعد بن أبي وقاص، والحسن بن علي وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن أرقم، وابن عمر، وأنس، وعائشة، وأم سلمة. ومن التابعين والعلماء: الشعبي، وعروة، والقاسم بن محمد، وعطاء بن يسار، وزيد بن أسلم، وعكرمة، وأبو العالية، وإبراهيم، وسفيان، ومالك، والشافعي وأصحابه إلا ابن المنذر. وأجابوا عن الاحاديث المذكورة بأنها منسوخة بالاحاديث التي ستأتي. وأجيب عن ذلك بما سنذكره في شرحها، وأجابوا أيضا بما أخرجه الطحاوي وعثمان الدارمي والبيهقي في المعرفة عن ثوبان أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما قال: أفطر الحاجم والمحجوم لانهما كانا يغتابان، ورد بأن في إسناده يزيد بن ربيعة وهو متروك، وحكم ابن المديني بأنه حديث باطل. قال ابن خزيمة: جاء بعضهم بأعجوبة فزعم أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما قال: أفطر الحاجم والمحجوم لانهما كانا يغتابان، فإذا قيل له: فالغيبة تفطر الصائم، قال: لا، فعلى هذا لا يخرج من مخالفة الحديث بلا شبهة، وأجابوا أيضا بأن المراد بقوله: أفطر الحاجم والمحجوم أنهما سيفطران باعتبار ما يؤول الامر إليه كقوله تعالى: * (إني أراني أعصر خمرا) * (يوسف: 36) قال الحافظ: ولا يخفى تكلف هذا التأويل. وقال البغوي في شرح السنة: معنى أفطر الحاجم والمحجوم أي تعرضا للافطار، أما الحاجم فلانه لا يأمن وصول شئ من الدم إلى جوفه عند المص، وأما المحجوم فلانه لا يأمن من ضعف قوته بخروج الدم فيؤول أمره إلى أن يفطر، وهذا أيضا جواب متكلف، وسيأتي التصريح بما هو الحق. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم رواه أحمد والبخاري. وفي لفظ: احتجم وهو محرم صائم رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وصححه. وعن ثاب‍ ت البناني أنه قال لانس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول اللصلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: لا إلا من أجل الضعف رواه البخاري. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوصال في الصيام والحجامة للصائم إبقا على أصحابه ولم يحرمهما رواه أحمد وأبو داود. وعن أنس قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم
[ 278 ]
أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم رواه الدارقطني وقال: كلهم ثقات وأعلم له علة. حديث ابن عباس ورد على أربعة أوجه كما حكاه في التلخيص عن بعض الحفاظ: الاول: احتجم وهو محرم. الثاني: احتجم وهو صائم. الثالث: كالروايه الاولى التي ذكرها المصنف. الرابع: كالرواية الثانية التي ذكرها المصنف. وقد أخرج اللفظ الاول من الاربعة الشيخان من حديث عبد الله ابن بحينة وله طرق شتى عن النسائي وغيره من حديث أنس وجابر. والثاني رواه أصحاب السنن من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس، لكن أعل بأنه ليس من مسموع الحكم عن مقسم وله طرق أخرى. والثالث أخرجه من ذكر المصنف، وكذلك الرابع، وأعله أحمد وعلي بن المديني وغيرهما، فقال أحمد: ليس فيه صائم إنما هو محرم عند أصحاب ابن عباس. وقال أبو حاتم: هذا خطأ أخطأ فيه شريك. وقال الحميدي: إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن محرما صائما لانه خرج في رمضان في غزاة الفتح ولم يكن محرما انتهى. وإذا صح فينبغي أن يحمل على أن كل واحد من الصوم والاحرام وقع في حالة مستقلة وهذا لا مانع منه، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صام في رمضان وهو مسافر، وزاد الشافعي وابن عبد البر وغير واحد: أن ذلك في حجة الوداع، قال الحافظ: وفيه نظر، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مفطرا كما صح أن أم الفضل أرسلت إليه بقدح لبن فشربه وهو واقف بعرفة، وعلى تقدير وقوع ذلك فقد قال ابن خزيمة: هذا الخبر لا يدل على أن الحجامة لا تفطر الصائم، لانه إنما احتجم وهو صائم محرم في سفر لا في حضر، لانه لم يكن قط محرما مقيما ببلد، قال: وللمسافر أن يفطر ولو نوى الصوم ومضى عليه بعض النهار، خلافا لمن أبى ذلك ثم احتج له، لكن تعقب عليه الخطابي بأن قوله وهو صائم دال على بقاء الصوم. قال الحافظ قلت: ولا مانع من إطلاق ذلك باعتبار ما كان عليه حالة الاحتجام، لانه على هذا التأويل إنما أفطر بالاحتجام انتهى. وحديث أنس الاول اعترض على البخاري فيه بأنه سقط من إسناده حميد ما بين شعبة وثابت البناني. وقال الحافظ: إن الخلل وقع فيه من غير البخاري وبين وجه ذلك. وحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه أيضا عبدالرزا. قال في الفتح: وإسناده صحيح، والجهالة بالصحابي لا تضر. وقوله: إبقاء على أصحابه متعلق
[ 279 ]
بقوله نهى. وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا، ولفظه عن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: إنما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف أي لئلا يضعف. وحديث أنس الآخر قال في الفتح: رواته كلهم من رجال البخاري. (وفي الباب) عن أبي سعيد الخدري قال: رخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحجامة، أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني، قال الحافظ: إسناده صحيح ورجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه واستشهد له بحديث أنس المذكور. وله حديث آخر عند الترمذي والبيهقي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثلاث لا يفطرن: القئ والحجامة والاحتلام وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف. وقال الترمذي: هذا الحديث غير محفوظ. وقد رواه الدراوردي وغير واحد عن زيد بن أسلم مرسلا، ورواه أبو داود عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورجحه أبو حاتم وأبو زرعة وقال: إنه أصح وأشبه بالصواب، وتبعهما البيهقي. وقال الدارقطني: رواه كامل بن طلحة عن مالك عن زيد موصولا ثم رجع عنه، وليس هو من حديث مالك، قال: ورواه هشام بن سعد عن زيد موصولا ولا يصح وأخرجه في السنن. (وفي الباب) عن ابن عباس عند البزار وهو معلول، وعن ثوبان عند الطبراني وسنده ضعيف. وقد استدل الجمهور بالاحاديث المذكورة على أن الحجامة لا تفطر، ولكن حديث ابن عباس لا يصلح لنسخ الاحاديث السابقة، إما أولا فلانه لم يعلم تأخره لماعرفت من عدم انتهاض تلك الزيادة أعني قوله في حجة الوداع. وأما ثانيا فغايفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الواقع بعد عموم يشمله أن يكون مخصصا له مع العموم لا رافعا لحكم العام، نعم حديث ابن أبي ليلى وأنس وأبي سعيد يدل على أن الحجامة غير محرمة ولا موجبة لافطار الحاجم ولا المحجوم فيجمع بين الاحاديث بان الحجامة مكروهة في حق من كان يضعف بها، وتزداد الكراهة إذا كان الضعف يبلغ إلى حد يكون سببا للافطار، ولا تكره في حق من كان لا يضعف بها، وعلى كل حال تجنب الحجامة للصائم أولى، فيتعين حمل قوله: أفطر الحاجم والمحجوم على المجاز لهذه الادلة الصارفة له عن معناه الحقيقي. [ رح (480) ]
[ 280 ]
باب ما جاء في القئ والاكتحال عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ذرعه القئ فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا فليقض رواه الخمسة إلا النسائي. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم وله ألفاظ. قال النسائي: وقفه عطاء على أبي هريرة. وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث هشام عن محمد عن أبي هريرة، تفرد به عيسى بن يونس. وقال البخاري: لا أراه محفوظا. وقد روي من غير وجه ولا يصح إسناده. وقال أبو داود وبعض الحفاظ لا نراه محفوظا. قال الحافظ: وأنكره أحمد وقال في روايته: ليس من ذا شئ يعني أنه غير محفوظ كما قال الخطابي، وصححه الحاكم على شرطهما. (وفي الباب) عن ابن عمر موقوفا عند مالك في الموطأ والشافعي بلفظ: من استقاء وهو صائم فعليه القضاء، ومن ذرعه القئ فليس عليه القضاء. قوله: من ذرعه قال في التلخيص: هو بفتح الذال المعجمة أي غلبه. قوله: من استقاء عمدا أي استدعى القئ وطلب خروجه تعمدا. (والحديث) يدل على أنه لا يبطل صوم من غلبه القئ ولا يجب عليه القضاء، ويبطل صوم من تعمد إخراجه ولم يغلبه ويجب عليه القضاء. وقد ذهب إلى هذا علي وابن عمر وزيد بن أرقم وزيد بن علي والشافعي والناصر والامام يحيى، حكي ذلك عنهم في البحر. وحكى ابن المنذر الاجماع، على أن تعمد القئ يفسد الصيام. وقال ابن مسعود وعكرمة وربيعة والهادي والقاسم: أنه لا يفسد الصوم، سواء كان غالبا أو مستخرجا ما لم يرجع منه شئ باختيار، واستدلوا بحديث أبي سعيد المتقدم في الباب الذي قبل هذا بلفظ: ثلاث لا يفطرن: القئ والحجامة والاحتلام. وأجيب بأن فيه المقال المتقدم فلا ينتهض معه للاستدلال. ولو سلم صلاحيته لذلك فهو محمول كما قال البيهقي على من ذرعه القئ، وهذا لا بد منه لان ظاهر حديث أبي سعيد أن القئ لا يفطر مطلقا، وظاهر حديث أبي هريرة أنه يفطر نوع منه خاص، فيبنى العام على الخاص، ويؤيد حديث أبي هريرة ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الجارود وابن حبان والدارقطني والبيهقي والطبراني وابن منده والحاكم
[ 281 ]
من حديث أبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاء فأفطر قال معدان بن أبي طلحة الراوي له عن أبي الدرداء: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فقلت له: إن أبا الدرداء أخبرني فذكره فقال: صدق أنا صببت عليه وضوءه. قال ابن منده: إسناده صحيح متصل وتركه الشيخان لاختلاف في إسناده. قال الترمذي: جوده حسين المعلم وهو أصح شئ في هذا الباب، وكذلك قال أحمد قال البيهقي: هذا حديث مختلف في إسناده، فإن صح فهو محمول على القئ عامدا، وكأنه كان صلى الله عليه وآله وسلم صائما تطوعا، وقال في موضع آخر: إسناده مضطرب ولا تقوم به حجة. وعن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بالاثمد المروح عند النوم وقال: ليتقه الصائم رواه أبو داود والبخاري في تاريخه. وفي إسناده مقال قريب. قال ابن معين: عبد الرحمن هذا ضعيف. وقال أبو حاتم الرازي: هو صدوق. الحديث قال ابن معين أيضا: هو منكر. وقال الذهبي: إنه روى عن سعيد بن إسحاق، فقلب اسمه أولا فقال عن إسحاق بن سعيد بن كعب، ثم غلط في الحديث فقال: عن أبيه عن جده، ثم النعمان بن معبد غير معروف. وقد استدل بهذا الحديث ابن شبرمة وابن أبي ليلى فقالا: إن الكحل يفسد الصوم، وخالفهم العترة والفقهاء وغيرهم فقالوا: إن الكحل لا يفسد الصوم، وأجابوا عن الحديث بأنه ضعيف لا ينتهض للاحتجاج به. واستدل بان شبرمة وابن أبي ليلى بما أخرجه البخاري تعليقا، ووصله البيهقي والدارقطني وابن أبي شيبة من حديث ابن عباس بلفظ: الفطر مما دخل والوضوء مما خرج قال: وإذا وجد طعمه فقد دخل، ويجاب بأن في إسناده الفضل بن المختار وهو ضعيف جدا، وفيه أيضا شعبة مولى ابن عباس وهضعيف. وقال ابن عدي: الاصل في هذا الحديث أنه موقوف. وقال البيهقي: لا يثبت مرفوعا. ورواه سعيد بن منصور موقوفا من طريق الاعمش عن أبي ظبيان عنه. ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة. قال الحافظ: وإسناده أضعف من الاول. ومن حديث ابن عباس مرفوعا. (واحتج الجمهور) على أن الكحل لا يفسد الصوم بما أخرجه ابن ماجة عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم
[ 282 ]
وفي إسناده بقية عن الزبيدي عن هشام عن عروة، والزبيدي المذكور اسمه سعيد بن أبي سعيد، ذكره ابن عدي وأورد هذا الحديث في ترجمته، وكذا قال البيهقي وصرح به في روايته وزاد أنه مجهول. وقال النووي في شرح المهذب: رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف من رواية بقية عن سعد بن أبي سعيد وهو ضعيف، قال: وقد اتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين مردودة انتهى. قال الحافظ: وليس سعيد بن أبي سعيد بمجهول بل هو ضعيف، واسم أبيه عبد الجبار على الصحيح، وفرق ابن عدي بين سعيد بن أبي سعيد الزبيدي فقال: هو مجهول، وسعيد بن عبد الجبار فقال: هو ضعيف وهما واحد. ورواه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان يكتحل وهو صائم قال ابن أبي حاتم عن أبيه هذا حديث منكر وقال في محمد إنه منكر الحديث وكذا قال البخاري ورواه ابن ماجة في الضعفاء من حديث ابن عمر قال في التلخيص وسنده مقارب. ورواه ابن أبي عاصم في كتاب الصيام له من حديث ابن عمر أيضا بلفظ: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيناه مملوءتان من الاثمد وذلك في رمضان وهو صائم ورواه الترمذي من حديث أنس في الاذن فيه لمن اشتكت عينه، وقا: إسناده ليس بالقوي، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب شئ. ورواه أبو داود من فعل أنس، قال الحافظ: ولا بأس بإسناده، قال: وفي الباب عن بريرة مولاة عائشة في الطبراني. وعن ابن عباس في شعب الايمان للبيهقي، والظاهر ما ذهب إليه الجمهور، لان البراءة الاصلية لا تنتقل عنها إلا بدليل، وليس في الباب ما يصلح للنقل، لا سيما بعد أن شد هذا الحديث من عضدها، وعلى فرض صلاحية حديث الفطر مما دخل للاحتجاج به يكون اكتحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخصصا للكحل، وكذلك على فرض صلاحية حديث الباب يكون محمولا على الامر باجتناب الكحل المطيب لان المروح هو المطيب فلا يتناول ما لا طيب فيه، ويمكن أن يقال حديث الاكتحال صارف للامر عن حقيقته أعني الوجوب فيكون الاكتحال مكروها، ولكنه يبعد أن يفعل صلى الله عليه وآله وسلم ما هو مكروه. قوله: بالاثمد بكسر الهمزة وهو حجر للكحل كما في القاموس.
[ 283 ]
باب من أكل أو شرب ناسيا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما الله أطعمه وسقاه رواه الجماعة إلا النسائي. وفي لفظ: إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه رواه الدارقطني. وقال: إسناده صحيح. وفي لفظ: من أفطر يوما من رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة قال الدارقطني: تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الانصاري. لفظ الدارقطني الاول أخرجه من رواية محمد بن عيسى بن الطباع عند ابن علية عن هشام عن ابن سيرين عنه وقال بعد قوله إسناده صحيح: أن رواته كلهم ثقات. واللفظ الثاني أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، قال الحافظ في بلوغ المرام: وهو صحيح. وقد تعقب قول الدارقطني إنه تفرد به محمد بن مرزوق عن الانصاري بأن ابن خزيمة أيضا أخرجه عن إبراهيم بن محمد الباهلي عن الانصاري، وبأن الحاكم أخرجه من طريق أبي حاتم الرازي عن الانصاري أيضا، فالانصاري هو المتفرد به كما قال البيهقي وهو ثقة. قال في الفتح: والمراد أنه انفرد بذكر إسقاط القضاء فقط لا بتعيين رمضان. وقد أخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد مرفوعا: من أكل في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه. قال الحافظ: وإسناده وإن كان ضعيفا لكنه صالح للمتابعة، فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنا فيصلح للاحتجاج به، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوة، ويعتضد أيضا بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير مخالف لهم، كما قال ابن المنذر وابن حزم وغيرهما منهم علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة وابن عمر، ثم هو موافق لقوله تعالى: * (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * (البقرة: 225) فالنسيان ليس من كسب القلوب، وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الاكل لا بنسيانه انتهى. (وقد ذهب إلى هذا الجمهور) فقالوا: من أكل ناسيا فلا يفسد صومه ولا قضاء عليه ولا كفارة. وقال مالك وابن أبي ليلى والقاسمية: إن من أكل ناسيا فقد بطل صومه ولزمه القضاء، واعتذر بعض
[ 284 ]
المالكية عن الحديث بأنه خبر واحد مخالف للقاعدة وهو اعتذار باطل. (والحديث) قاعدة مستقلة في الصيام، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل ولرد من شاء ما شاء. وأجاب بعضهم أيضا بحمل الحديث على التطوع، حكاه ابن التين عن ابن شعبان، وكذا قاله ابن القصار واعتذر بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان، وهو حمل غير صحيح واعتذار فاسد، يرده ما وقع في حديث الباب من التصريح بالقضاء، ومن الغرائب تمسك بعض المتأخرين في فساد الصوم ووجوب القضاء بما وقع في حديث المجامع بلفظ: واقض يوما مكانه قال: ولم يسأله هل جامع عامدا أو ناسيا، وهذا يرده ما وقع في أول الحديث، فإنه عند سعيد ابن منصور بلفظ: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تب إلى الله واستغفره وتصدق واقض يوما مكانه والتوبة والاستغفار إنما يكونان عن العمد لا عن الخطأ، وأيضا بعد تسليم تنزيل ترك الاستفصال منزلة العموم يكون حديث الباب مخصصا له، فلم يبق ما يوجب تر ك العمل بالحديث. وأما اعتذار ابن دقيق العيد عن الحديث بأن الصوم قد فات ركنوهو من باب المأمورات والقاعدة أن النسيان لا يؤثر في المأمورات، فيجاب عنه بأن غاية هذه القاعدة المدعاة أن تكون بمنزلة الدليل، فيكون حديث الباب مخصصلها. قوله: فإنما الله أطعمه وسقاه هو كناية عن عدم الاثم، لان الفعل إذا كامن الله كان الاثم منتفيا. قوله: من أفطر يوما من رمضان ظاهره يشمل المجامع وقد اختلف فيه، فبعضهم لم ينظر إلى هذا العموم وقال: إنه ملحق بمن أكل أو شرب، وبعضهم منع من الالحاق لقصور حالة المجامع عن حالة الآكل والشارب. وفرق بعضهم بين الاكل والشرب القليل والكثير، وظاهر الحديث عدم الفرق. ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد عن أم إسحاق أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه ثم تذكرت أنها صائمة فقال لها ذو اليدين الآن بعد ما شبعت، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك.
[ 285 ]
باب التحفظ من الغيبة واللغو وما يقول إذا شتم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ويصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي. قوله: فلا يرفث بضم الفاء وكسرها ويجوز في ماضيه التثليث، والمراد به هنا الكلام الفاحش وهو بهذا المعنى بفتح الراء والفاء، وقد يطلق على الجماع وعلى مقدماته، وعلى ذكر ذلك مع النساء أو مطلقا. قال في الفتح: ويحتمل أن يكون النهي لما هو أعم منها. وفي رواية: ولا يجهل أي لا يفعل شيئا من أفعال الجهل كالصياح والسفه ونحو ذلك. قوله: ولا يصخب الصخب هو الرجة واضطراب الاصوات للخصام. قال القرطبي: لا يفهم من هذا أن غير يوم الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم. قوله: أو قاتله يمكن حمله على ظاهره، ويمكن أن يراد بالقتل اللعن فيرجع إلى معنى الشتم، ولا يمكن حمل قاتله وشاتمه على المفاعلة، لان الصائم مأمور بأن يكف نفسه عن ذلك فكيف يقع ذلك؟ وإنما المعنى إذا جاء متعرضا لمقاتلته أو مشاتمته كأن يبدأه بقتل أو شتم اقتضت العادة أن يكافئه عليها، فالمراد بالمفاعلة إرادة غير الصائم ذلك من الصائم، وقد تطلق المفاعلة على وقوع الفعل من واحد، كما يقال: عالج الامر وعاناه. قال في الفتح: وأبعد من حمله على ظاهره فقال: المراد إذا بدرت من الصائم مقابلة الشتم بشتم على مقتضى الطبع فلينزجر عن ذلك، ومما يبعد ذلك ما وقع في رواية فإن شتمة أحد. قوله: إني امرؤ صائم في رواية لابن خزيمة بزيادة: وإن كنت قائما فاجلس ومن الرواة من ذكر قوله: إني امرؤ صائم مرتين. واختلف في المراد بقوله: إني صائم هل يخاطب بها الذي
[ 286 ]
يشتمه ويقاتله أو يقولها في نفسه؟ وبالثاني جزم المتولي ونقله الرافعي عن الائمة، ورجح النووي في الاذكار الاول، وقال في شرح المهذب: كل منهما حسن، والقول باللسان أقوى، ولو جمعهما لكان حسنا. وقال الروياني: إن كان رمضان فليقل بلسانه، وإن كان غيره فليقله في نفسه. وادعى ابن العربي أن موضع الخلاف في التطوع، وأما في الفرض فليقله بلسانه قطعا. قوله: والذي نفسمحمد بيده هذا القسم لقصد التأكيد. قوله: لخلوف بضم المعجمة واللام وسكون الواو بعدها فاء قال عياض: هذه الرواية الصحيحة، وبعض الشيوخ يقول بفتح الخاء. قال الخطابي: وهو خطأ، وحكي عن القابسي الوجهين، وبالغ النووي في شرح المهذب فقال: لا يجوز فتح الخاء، واحتج غيره لذلك بأن المصادر التي جاءت على فعول بفتح أوله قليلة، ذكرها سيبويه وغيره، وليس هذا منها، والخلوف تغير رائحة الفم. قوله: أطيب عند الله من ريح المسك اختلف في معناه فقال المازري: هو مجاز لانها جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك لتقريب الصائم من الله، فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم، أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وإلى ذلك أشار ابن عبد البر، وإنما جعل من باب المجاز لان الله تعالى منزه عن استطابة الروائح لان ذلك من صفات الحيوان، والله يعلم الاشياء على ما هي عليه. وقيل: المعنى أن حكم الخلوف والمسك عند الله على خلاف ما عندكم. وقيل: المراد أن الله يجازيه في الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما يأتي المكلوم وريح جرحه يفوح مسكا، قاله القاضي عياض، والمراد أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك، حكاه القاضي عياض أيضا. وقال الداودي من المغاربة: المعنى أن الخلوف أكثر ثوابا من المسك حيث ندب إليه في الجمع والاعياد ومجالس الذكر، ورجحه النووي، وقد اختلف هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة؟ فقال بالاول ابن الصلاح، وبالثاني ابن عبد السلام. واحتج بان الصلاح بما أخرجه ابن حبان بلفظ: فم الصائم حين يخلف من الطعام وكذا أخرجه أحمد، وبما أخرجه أيضا الحسن بن سفيان في مسنده، والبيهقي في الشعب من حديث جابر بلفظ: فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك. قال المنذري: إسناده مقارب، واحتج ابن الصلاح أيضا بأن ما قاله هو ما ذهب إليه الجمهور. واحتج ابن عبد السلام على ما قاله بما في مسلم وأحمد والنسائي: أطيب عند الله يوم القيامة. وأخرج أحمد هذه الزيادة من وجه آخر، ويترتب على هذا الخلاف القول بكراهة السواك للصائم، وقد تقدم البحث عنه
[ 287 ]
في موضعه. قوله: للصائم فرحتان إذا أفطر الخ، قال القرطبي: معناه فرح بزوال جوعه وعطشه حيث أبيح له الفطر، وهذا الفرح طبيعي وهو السابق إلى الفهم. وقيل: إن فرحه لفطره إنما هو من حيث إنه تمام صومه وخاتمة عبادته. قال في الفتح: ولا مانع من الحمل على ما هو أعم مما ذكر، ففرح كل واحد بحسبه لاختلاف مقامات الناس في ذلك، فمنهم من يكون فرحه مباحا وهو الطبيعي، ومنهم من يكون مستحيا وهو أن يكون لتمام العبادة، والمراد بالفرح إذا لقي ربه أنه يفرح بما يحصل له من الجزاء والثواب. قوله: قول الزور والعمل به زاد البخاري في رواية: والجهل. وأخرج الطبراني من حديث أنس: من لم يدع الخنى والكذب. قال الحافظ: ورجاله ثقات، والمراد بالزور والكذب. قوله: فليس لله حاجة الخ، قال ابن بطال: ليس معناه أنه يؤمر بأن يدع صيامه، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه، قال في الفتح: ولا مفهوم لذلك فإن الله لا يحتاج إلى شئ، وإنما معناه فليس لله إرادة في صيامه، فوضع الحاجة موضع الارادة. وقال ابن المنير في حاشيته على البخاري: بل هو كناية عن عدم القبول، كما يقول المغضب لمن رد عليشيئا طلبه منه فلم يقم به: لا حاجة لي في كذا. وقال ابن العربي: مقتضى هذا الحديث أن لا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه، واستدل بهذا الحديث، على أن هذه الافعال تنقص ثواب الصوم وتعقب بأنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر. باب الصائم يتمضمض أو يغتسل من الحر عن عمر قال: هششت يوما فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس بذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ففيم رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي بكر بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم رواه أحمد وأبو داود. الحديث الاول أخرجه أيضا النسائي وقال: إنه منكر. وقال أبو بكر البزار:
[ 288 ]
لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا الوجه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي ورجال إسناده رجال الصحيح. قوله: هششت بشينين معجمتين أن نشطت وارتحت، والهشاش في الاصل الارتياح والخفة والنشاط، كذا في القاموس. قوله: أرأيت لو تمضمضت الخ، فيه إشارة إلى فقه بديع وهو أن المضمضة لا تنقض الصوم وهي أول الشرب ومفتاحه، فكذلك القبلة لا تنقضه وهي من دواعي الجماع وأوائله التي تكون مفتاحا له، والشرب يفسد الصوم كما يفسده الجماع، فكما ثبت عند عمر أن أوائل الشرب لا تفسد الصيام، كذلك أوائل الجماع لا تفسده، وسيأتي الخلاف في التقبيل. قوله: يصب الماء على رأسه الخ، فيه دليل على أنه يجوز للصائم أن يكسر الحر بصب الماء على بعض بدنه أو كله وقد ذهب إلى ذلك الجمهور، ولم يفرقوا بين الاغسال الواجبة والمسنونة والمباحة. وقالت الحنفية: إنه يكره الاغتسال للصائم، واستدلوا بما أخرجه عبد الرزاق عن علي من النهي عن دخول الصائم الحمام، وهو مع كونه أخص من محل النزاع في إسناده ضعف كما قال الحافظ. واعلم أنه يكره للصائم المبالغة في المضمضة والاستنشاق لحديث الامر بالمبالغة في ذلك إلا أن يكون صائما وقد تقدم. واختلف إذا دخل من ماء المضمضة والاستنشاق إلى جوفه خطأ فقالت الحنفية والقاسمية ومالك والشافعي في أحد قوليه والمزني أنه يفسد الصوم. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق والاوزاعي والناصر والامام يحيى وأصحاب الشافعي أنه لا يفسد الصوم كالناسي. وقال زيد بن علي: يفسد الصوم بعد الثلاث المرات. وقال الصادق: يفسد إذا كان التمضمض لغير قربة. وقال الحسن البصري والنخعي: إنه يفسد إن لم يكن الفريضة. باب الرخصة في القبلة للصائم إلا لمن يخاف على نفسه عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبلها وهو صائم متفق عليه. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لاربه رواه الجماعة إلا النسائي. وفي لفظ: كان يقبل في رمضان وهو صائم رواه أحمد ومسلم. وعن عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول
[ 289 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم أيقبل الصائم؟ فقال له: سل هذه لام سلمة فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك، فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له: أما والله، إني لاتقاكم لله وأخشاكم له. رواه مسلم. وفيه أن أفعاله حجة. وعن أبي هريرة: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فنهاه عنها، فإذا الذي رخص له شيخ، وإذا الذي نهاه شاب رواه أبو داود. حديث أبي هريرة سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص، وفي إسناده أبو العنبس الحرث بن عبيدسكتوا عنه، قال في التقريب: مقبول، وقد أخرجه ابن ماجة من حديث ابن عباس ولم يصرح برفعه، والبيهقي من حديث عائشة مرفوعا، وأخرج نحوه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو. قوله: كان يقبلها فيه دليل على أنه يجوز التقبيل للصائم ولا يفسد به الصوم. قال النووي: ولا خلاف أنها لا تبطل الصوم إلا إن أنزل بها، ولكنه متعقب بأن ابن شبرمة أفتى بإفطار من قبل. ونقله الطحاوي عن قوم ولم يسمهم، وقد قال بكراهة التقبيل والمباشرة على الاطلاق قوم وهو المشهور عند المالكية. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يكره القبلة والمباشرة. ونقل ابن المنذر وغيره عن قوم تحريمهما، وأباح القبلة مطلقا قوم. قال في الفتح: وهو المنقول صحيحا عن أبي هريرة قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة وبالغ بعض الظاهرية فقال: إنها مستحبة، وفرق آخرون بين الشاب والشيخ فأباحوها للشيخ دون الشاب، تمسكا بحديث أبي هريرة المذكور في الباب، وما ورد في معناه، وبه قال ابن عباس، أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما. وفرق آخرون بين من يملك نفسه ومن لا يملك. واستدلوا بحديث عائشة المذكور في الباب، وبه قال سفيان والشافعي، ولكنه ليس إلا قولا لعائشة، نعم نهيه صلى الله عليه وآله وسلم للشاب وإذنه للشيخ يدل على أنه لا يجوز التقبيل لمن خشي أن تغلبه الشهوة وظن أنه لا يملك نفسه عند التقبيل، ولذلك ذهب قوم إلى تحريم التقبيل على من كان تتحرك به شهوته، والشاب مظنة لذلك، ويعارض حديث أبي هريرة ما أخرجه النسائي عن عائشة قالت: أهوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقبلني فقلت: إني صائمة، فقال: وأنا صائم فقبلني وعائشة كانت شابة حينئذ إلا أن يكون حديث أبي هريرة مختصا بالرجال،
[ 290 ]
ولكنه بعيد، لان الرجال والنساء سواء في هذا الحكم. ويمكن أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم من حال عائشة أنها لا تتحرك شهوته بالتقبيل. وقد أخرج ابن حبان في صحيحه أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يمسك شيئا من وجهها وهي صائمة، فدل على أنه كان يجنبها ذلك إذا صامت تنزيها منه لها عن تحرك الشهوة لكونها ليست مثله. وقد دل حديث عمرو بن أبي سلمة المذكور على جواز التقبيل للصائم من غير فرق بين الشاب وغيره. وحديث أبي هريرة أخص منه فيبنى العام على الخاص. (واحتج) من قال بتحريم التقبيل والمباشرة مطلقا بقوله تعالى: * (فالآن باشروهن) * (البقرة: 187) قالوا: فمنع من المباشرة في هذه الآية نهارا. وأجيب عن ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهارا، فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبلة ونحوها، وغاية ما في الآية أن تكون عامة في كل مباشرة مخصصة بما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم وما أذن به، والمراد بالمباشرة المذكورة في الحديث ما هو أعم من التقبيل ما لم يبلغ إلى حد الجماع، فيكون قوله: كان يقبل ويباشر من ذكر العام بعد الخاص، لان المباشرة في الاصل التقاء البشرتين، ووقع الخلاف فيما إذا باشر الصائم أو قبل أو نظر فأنزل أو أمذى، فقال الكوفيون والشافعي: يقضي إذا أنزل في غير النظر، ولا قضاء في الامذاء. وقال مالك وإسحاق: يقضي في كل ذلك ويكفر إلا في الامذاء فيقضي فقط، واحتج له بأن الانزال أقصى ما يطلب في الجماع من الالتذاذ في كل ذلك. وتعقب بأن الاحكام علقت بالجماع فقط، وروى ابن القاسم عن مالك أنه يجب القضاء على من باشر أو قبل فأنعظ أنزل أو لم ينزل، أمذى أم لم يمذ، وأنكر غيره عن مالك. وروى عبد الرزاق عن حذيفة أن من تأمل خلق امرأة وهو صائم بطل صومه، قال في الفتح: وإسناده ضعيف. قال وقال ابن قدامة: إن قبل فأنزل أفطر بلا خلاف، كذا قاوفيه نظر، فقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل وقوي ذلك وذهب إليه قوله: لاربه بفتح الهمزة والراء وبالموحدة أي حاجته، ويروى بكسر الهمزة وسكون الراء أي عضوه. قال في الفتح: والاول أشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير انتهى. (وفي الباب) عن عائشة عند أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبلها ويمص لسانها قال الحافظ: وإسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على أنه لم يبتلع ريقه الذي خالطه ريقها. وعن رجل من الانصار
[ 291 ]
عند عبد الرزاق بإسناد صحيح: أنه قبل امرأته وهو صائم، فأمر امرأته فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: إني أفعل ذلك، فقال زوجها: ترخص الله لنبيه في أشياء، فرجعت فقال: أنا أعلمكم بحدود الله وأتقاكم وأخرجه مالك لكنه أرسله. باب من أصبح جنبا وهو صائم عن عائشة أن رجلا قال: يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال: لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: والله إني لارجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن عائشة وأم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم في رمضان متفق عليه. وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبح جنبا من جماع لا حلم ثم لا يفطر ولا يقضي أخرجاه. هذه الاحاديث استدل بها من قال: إن من أصبح جنبا فصومه صحيح ولا قضاء عليه، من غير فرق بين أن تكون الجنابة عن جماع أغيره وإليه ذهب الجمهور، وجزم النووي بأنه استقر الاجماع على ذلك. وقال ابن دقيق العيد: إنه صار ذلك إجماعا أو كالاجماع، وقد ثبت من حديث أبي هريرة ما يخالف أحاديث الباب، فأخرج الشيخان عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أصبح جنبا فلا صوم له وقد بقي على العمل بحديث أبي هريرة هذا بعض التابعين كما نقله الترمذي. ورواه عبد الرزاق عن عروة بن الزبير، وحكاه ابن المنذر عن طاوس. قال ابن بطال: وهو أحد قولي أبي هريرة. قال الحافظ: ولم يصح عنه لان ابن المنذر رواه عنه من طريق أبي المهزم وهو ضعيف. وحكى ابن المنذر أيضا عن الحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر أنه يتم صومه ثم يقضيه. وروى عبد الرزاق عن عطاء مثل قولهما. قال في الفتح: ونقل بعض المتأخرين عن الحسن بن صالح بن حيي إيجاب القضاء، والذي نقله عنه الطحاوي استحبابه. ونقل ابن
[ 292 ]
عبد البر عنه. وعن النخعي إيجاب القضاء في الفرض دون التطوع. ونقل الماوردي أن هذا الاختلا ف كله إنما هو في حق الجنب، وأما المحتلم فأجمعوا على أنه يجزئه. وتعقبه الحافظ بما أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه أفتى من أصبح جنبا من احتلام أن يفطر. وفي رواية أخرى عنه عند النسائي أيضا: من احتلم من الليل أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم. وأجاب القائلون بأن من أصبح جنبا يفطر عن أحاديث الباب بأجوبة: منها أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم، ورده الجمهور بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، وبأن حديث عائشة المذكور في أول الباب يقتضي عدم اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك. وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الامر في حديث أبي هريرة أمر إرشاد إلى الافضل، فإن الافضل أن يغتسل قبل الفجر فلو خالف جاز، فيحمل حديث عائشة على بيان الجواز. وقد نقل النووي هذا الجمع عن أصحاب الشافعي، وتعقبه الحافظ بأن الذي نقله البيهقي وغيره عن أصحاب الشافعي هو سلوك طريقة الترجيح. وعن ابن المنذر وغيره سلوك النسخ، وبالنسخ قال الخطابي. وقواه ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * (البقرة: 187) يقتضي إباحة الوطئ في ليلة الصيام، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر، فيلزم إباحة الجماع فيه، ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ولا يفسد صومه. ويقوي ذلك أن قول الرجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر يدل على أن ذلك كان بعد نزول الآية، وهي إنما نزلت عام الحديبية سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، ويؤيد دعوى النسخ رجوع أبي هريرة عن الفتوى بذلك كما في رواية للبخاري أنه لما أخبر بما قالت أم سلمة وعائشة فقال: هما أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي رواية ابن جريج: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك، وكذا وقع عند النسائي أنه رجع، وكذا عند ابن أبي شيبة. وفي رواية للنسائي: أن أبا هريرة أحال بذلك على الفضل بن عباس، ووقع نحو ذلك في البخاري وقال: إنه حدثه بذلك الفضل. وفي رواية أنه قال: حدثني بذلك أسامة. وأما ما أخرجه ابن عبد البر عن أبي هريرة أنه قال: كنت حدثتكم من أصبح جنبا فقد أفطر وأن ذلك من كيس أبي هريرة فقال الحافظ: لا يصح ذلك عن أبي هريرة لانه من رواية
[ 293 ]
عمر بن قيس وهو متروك. ومن حجج من سلك طريق الترجيح ماقاله ابن عبد البر أنه صح وتواتر حديث عائشة وأم سلمة، وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتي بذلك، وأيضا رواية اثنين مقدمة على رواية واحد، ولا سيما وهما زوجتان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والزوجات أعلم بأحوال الازواج، وأيضا روايتهما موافقة للمنقول وهو ما تقدم من مدلول الآية، وللمعقول وهو أن الغسل شئ وجب بالانزال، وليس في فعله شئ يحرم على الصائم، فإن الصائم قد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل ولا يفسد صومه بل يتمه إجماعا. قوله: ولا يقضي عزاه المصنف إلى البخاري ومسلم ولم نجده في البخاري بل هو مما انفرد به مسلم فينظر في ذلك. باب كفارة من أفسد صوم رمضان بالجماع عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ قال: لا، قال: ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرق فيه تمر قال: تصدق بهذا، قال: فهل على أفقر منا فما بين لابتيها أهل البيت أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه وقال: اذهب فأطعمه أهلك رواه الجماعة. وفي لفظ ابن ماجة قال: أعتق رقبة قال: لا أجدها، قال: صم شهرين متتابعين، قال: لا أطيق، قال: أطعم ستين مسكينا وذكره وفيه دلالة قوية على الترتيب. ولابن ماجة وأبي داود في رواية: وصم يوما مكانه وفي لفظ للدارقطني فيه: فقال: هلكت وأهلكت، فقال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على أهلي وذكره. وظاهره هذا أنها كانت مكرهة. في الباب عن عائشة عند الشيخين ولفظ الدارقطني الذي ذكره المصنف، قال الخطابي: إنتفرد به معلى بن منصور عن ابن عيينة، وذكر البيهقي أن الحاكم نظر في كتاب معلبن منصور فلم يجد هذه اللفظة يعني هلكت وأهلكت، وأخرجها من رواية الاوزاعي، وذكر أنها أدخلت على بعض الرواة في حديثه، وأن أصحابه
[ 294 ]
لم يذكروها. قال الحافظ: وقد رواها الدارقطني من رواية سلامة بن روح عن عقيل عن ابن شهاب. قوله: جاء رجل قال عبد الغني في المبهمات: إن اسمه سلمان أو سلمة بن صخر البياضي. ويؤيده ما وقع عند ابن أبي شيبة عن سلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته، وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن سعيد بن المسيب أنه سلمان بن صخر. قوله: هلكت استدل به على أنه كان عامدا لان الهلاك مجاز عن العصيان المؤدي إلى ذلك، فكأنه جعل المتوقع كالواقع مجازا، فلا يكون في الحديث حجة على وجوب الكفارة على الناسي وبه قال الجمهور. وقال أحمد وبعض المالكية: إنها تجب على الناسي، واستدلوا بتركه صلى الله عليه وآله وسلم للاستفصال وهو ينزل منزلة العموم. قال في الفتح، والجواب أنه قد تبين حاله بقوله: هلكت واحترقت وأيضا وقوع النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد. قوله: وقعت على امرأتي في رواية: أن رجلا أفطر في رمضان وبهذا استدلت المالكية على وجوب الكفارة على من أفطر في رمضان بجماع أو غيره، والجمهور حملوا المطلق على المقيد وقالوا: لا كفارة إلا في الجماع. قوله: رقبة استدلت الحنفية بإطلاق الرقبة على جواز إخراج الرقبة الكافرة، وأجيب عن ذلك بأنه يحمل المطلق على المقيد في كفارة القتل وبه قال الجمهور، والخلاف في المسألة مبسوط في الاصول. قوله: ستين مسكينا قال ابن دقيق العيد: أضاف الاطعام الذي هو مصدر أطعم إلى ستين، فلا يكون ذلك موجودا في حق من أطعم ستة مساكين عشرة أيام مثلا، وبه قال الجمهور. وقالت الحنفية: أنه لو أطعم الجميع مسكينا واحدا في ستين يوما كفي، ويدل على قولهم قوله: فأطعمه أهلك وفي ذلك دليل على أن الكفارة تجب بالجماع، خلافا لمن شذ فقال: لا تجب مستندا إلا أنها لو كانت واجبة لما سقطت بالاعسار وتعقب بمنع السقوط كما سيأتي، وفيه أيضا دليل على أنه يجزئ التكفير بكل واحدة من الثلاث الخصال، وروي عن مالك أنه لا يجزئ إلا الاطعام والحديث يرد عليه، وظاهر الحديث أنه لا يجزئ التكفير بغير هذه الثلاث. وروي عن سعيد بن المسيب أنه يجزئ إهداء البدنة كما في الموطأ عنه مرسلا. وقد روى سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب أنه كذب من نقل عنه ذلك. وظاهر الحديث أيضا أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب، قال ابن العربي: لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نقله من أمر بعد
[ 295 ]
عدمه إلى أمر آخر، وليس هذا شأن التخيير، ونازع عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال عن ذلك فقال: إن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على التخيير وقرره ابن المنير. قال البيضاوي: إن ترتيب الثاني على الاول والثالث على الثاني بالفاء يدل على عدم التخيير مع كونها في معرض البيان، وجواب السؤال فتنزل منزلة الشرط، وإلى القول بالترتيب ذهب الجمهور. وقد وقع في الروايات ما يدل على الترتيب والتخيير، والذين رووا الترتيب أكثر ومعهم الزيادة، وجمع المهلب والقرطبي بين الروايات بتعدد الواقعة. قال الحافظ: وهو بعيد لان القصة واحدة والمخرج متحد، والاصل عد التعدد، وجمع بعضهم بحمل الترتيب على الاولوية والتخيير على الجواز وعكسه بعضهم. قوله: فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بضم الهمزة للاكثر على البناء للمجهول، والرجل الآتي لم يسم. ووقع في رواية للبخاري: فجاء رجل من الانصار وفي أخرى للدارقطني: رجل من ثقيف. قوله: بعرق فيه تمر بفتح المهملة والراء بعدها قاف، وفي رواية القابسي بإسكان الراء وقد أنكر ذلك عليه، والصواب الفتح كما قال عياض. وقال الحافظ: الاسكان ليس بمنكر وهو الزنبيل والزنبيل هو المكتل، قال في الصحاح: المكتل يشبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعا، ووقع عند الطبراني في الاوسط أنه أتى بمكتل فيه عشرون صاعا فقال: تصدق بهذا، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، ووقع مثل ذلك عند ابن خزيمة من حديث عائشة، وفي مسلم عنها فجاءه عرقان فيهما طعام. قال في الفتح: ووجهه أن التمر كان في عرق لكنه كان في عرقين في حال التحميل على الدابة ليكون أسهل، فيحتمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر، فمن قال عرقان أراد ابتداء الحال، ومن قال عرق أراد ما آل إليه، وقد ورد في تقدير الاطعام حديث علي عند الدارقطني بلفظ: يطعم ستين مسكينا لكل مسكين مد وفيه: فأتى بخمسة عشر صاعا فقال: أطعمه ستين مسكينا. وكذا عند الدارقطني من حديث أبي هريرة. قال الحافظ: من قال عشرون أراد أصل ماكان عليه، ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما يقع به الكفارة. قوله: تصدق بهذا استدل به وبما قبله من قال: إن الكفارة تجب على الرجل فقط، وبه قال الاوزاعي وهو الاصح من قولي الشافعي. وقال الجمهور: تجب على المرأة على اختلاف بينهم في الحرة والامة، والمطاوعة والمكرهة، وهل هي عليها أو على الرجل؟ واستدل الشافعي بسكوته عن
[ 296 ]
إعلام المرأة في وقت الحاجة وتأخير البيان عنها لا يجوز، ورد بأنها لم تعترف ولم تسأل فلا حاجة، ولا سيما مع احتمال أن تكون مكرهة، كما يرشد إلى ذلك قوله في رواية الدارقطني: هلكت وأهلكت. قوله: فهل على أفقر منا هذا يدل على أنه فهم من الامر له بالتصدق أن يكون المتصدق عليه فقيرا. قوله: فما بين لابتيها بالتخفيف تثنية لابة وهي الحرة، والحرة الارض التي فيها حجارة سود، يقال: لابة ولوبة ونوبة بالنون، حكاهن الجوهري وجماعة من أهل اللغة، والضمير عائد إلى المدينة أي ما بين حرتي المدينة. قوله: فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل: سبب ضحكه ما شاهده من حال الرجل حيث جاء خائفا على نفسه راغبا في فدائها مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه في الكفارة. وقيل: ضحك من بيان الرجل في مقاطع كلامه وحسن بيانه وتوسله إلى مقصوده. وظاهر هذا أنه وقع منه ضحك يزيد على التبسم، فيحمل ما ورد في صفته صلى الله عليه وآله وسلم أن ضحكه كان التبسم على غالب أحواله. قوله: فأطعمه أهلك استدل به على سقوط الكفارة بالاعسار لما تقرر من أنها لا تصرف في النفس والعيال، ولم يبين له صلى الله عليه وآله وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره وهو أحد قولي الشافعي، وجزم به عيسى بن دينار من المالكية، وقال الجمهور: لا تسقط بالاعسار، قالوا: وليس في الخبر ما يدل على سقوطها عن المعسر، بل فيه ما يدل على استقرارها عليه، قالوا أيضا: والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة، وقيل: المراد بالاهل المذكورين من لا تلزمه نفقتهم، وبه قال بعض الشافعية ورد بما وقع من التصريح في رواية بالعيال، وفي أخرى من الاذن له بالاكل، وقيل: لما كان عاجزا عن نفقة أهله جاز له أن يفرق الكفارة فيهم. وقيل غير ذلك، وقد طول الكلام عليه في الفتح. قوله: وصم يوما مكانه يعني مكان اليوم الذي جامع فيه، قال الحافظ: وقد ورد الامر بالقضاء في رواية أبي أويس وعبد الجبار وهشام بن سعد كلهم عن الزهري، وأخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري وحديث إبراهيم بن سعد في الصحيح عن الزهري نفسه بغير هذه الزيادة. وحديث الليث عن الزهري في الصحيحين بدونها، ووقعت الزيادة أيضا في مرسل سعيد بن المسيب، ونافع بن جبير، والحسن، ومحمد بن كعب. وبمجموع هذه الطرق الاربع يعرف أن
[ 297 ]
لهذه الزيادة أصلا، وقد حكي عن الشافعي أنه لا يجب عليه القضاء، واستدل له بأنه لم يقع التصريح في الصحيحين بالقضاء، ويجاب بأن عدم الذكر له في الصحيحين لا يستلزم العدم، وقد ثبت عند غيرهما كما تقدم. وظاهر إطلاق اليوم عدم اشتراط الفورية. باب كراهة الوصال عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الوصال فقالوا: إنك تفعله، فقال: إني لست كأحدكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إياكم والوصال، فقيل: إنك تواصل، قال: إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فأكلفوا من العمل ما تطيقون. وعن عائشة قالت: نهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوصال رحمة لهم فقالوا: إنك تواصل، قال: إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني متفق عليهن. وعن أبي سعيد: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تواصل فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر، قالوا: إنك تواصل يا رسول الله، قال: لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني رواه البخاري وأبو داود. وفي الباب عن أنس عند الشيخين. وعن بشير بن الخصاصية عند أحمد بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الوصال وقال: إنما يفعل ذلك النصارى وأخرجه أيضا الطبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حميد، قال في الفتح: إسناده صحيح. وعن أبي ذر عند الطبراني في الاوسط. وعن رجل من الصحابة عند أبي داود وغيره، قال في الفتح: وإسناده صحيح بلفظ: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما وقد تقدم. قوله: يطعمني ربي ويسقيني قال في الفتح: اختلف في معناه فقيل: هو على حقيقته وأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقبه ابن بطال ومن تبعه بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا، وبأن قوله أظل يدل على وقوع ذلك في النهار، وأجيب بأن الراجح من الروايات لفظ أبيت دون أظل، وعلى تقدير الثبوت فليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى من حمل
[ 298 ]
لفظ أظل على المجاز وعلى التنزل، فلا يضر شئ من ذلك، لان ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا يجري عليه أحكام المكلفين. وقال الزين بن المنير: هو محمول على أن أكله وشربه في تلك الحال كحالة النائم الذي يحصل له الشبع والري بالاكل والشرب، ويستمر له ذلك حتى يستيقظ، فلا يبطل بذلك صومه، ولا ينقطع وصاله، ولا ينقص من أجره. وقال الجمهور: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل الشارب، وهذا هو الظاهر. قوله: إياكم والوصال وقع في رواية لاحمد مرتين. وفي رواية لمالك ثلاث مرات وإسنادها صحيح. قوله: فأكلفوا بسكون الكاف وبضم اللام أي احملوا من المشقة في ذلك ما تطيقون. وحكى عياض عن بعضهم أنه قال: هو بهمزة قطع ولا يصح لغة. قوله: رحمة لهم استدل به من قال: إن الوصال مكروه غير محرم، وذهب الاكثر إلى تحريم الوصال. وعن الشافعية وجهان: التحريم والكراهة. (وأحاديث) الباب تدل على ما ذهب إليه الجمهور وأجابوا بأن قوله رحمة لا يمنع التحريم، فإن من رحمته لهم أن حرمه عليهم. ومن أدلة القائلين بعدم التحريم ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه واصل بأصحابه لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، فواصل بهم يوما ثم يوما، ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا، هكذا في البخاري وغيره، وأجاب الجمهور عن ذلك بأن مواصلته صلى الله عليه وآله وسلم بهم بعد نهيه لهم فلم يكن تقريرا بل تقريعا وتنكيلا، واحتمل ذلك منهم لاجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم، لانهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي، وكان ذلك أدعى إلى قبولهم، لما يترتب عليه من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك. ومن الادلة على أن الوصال غير محرم حديث الرجل من الصحابة الذي قدمنا ذكره، فإنه صرح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحرم الوصال. ومنها ما رواه البزار والطبراني من حديث سمرة قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوصال وليس بالعزيمة ومنها إقدام الصحابة على الوصال بعد النهي، فإن ذلك يدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم كما قال الحافظ، وقد ذهب إلى جوازه مع عدم المشقة عبد الله بن الزبير، وروى ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذهب
[ 299 ]
إليه من الصحابة أخت أبي سعيد، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم بن يزيد التيمي، وأبو الجوزاء كما في الفتح وهو الظاهر، فلا أقل من أن تكون هذه الادلة التي ذكروها صارفة للنهي عن الوصال عن حقيقته، وذهبت الهادوية إلى كراهة الوصال مع عدالنية وحرمته مع النية. وذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد المذكور في الباب. ومثله ما أخرجه الطبراني من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يواصل من سحر إلى سحر وأخرجه أحمد وعبد الرزاق من حديث علي، فإن كان اسم الوصال إنما يصدق على إمساك جميع الليل فلا معارضة بين الاحاديث، وإن كان يصدق على أعم مذلك فيبنى العام على الخاص، ويكون المحرم ما زاد على الامساك إلى ذلك الوقت. باب آداب الافطار والسحور عن ابن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم. وعن سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر متفق عليهما. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله عزوجل: إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا رواه أحمد والترمذي. حديث أبي هريرة قال الترمذي: حديث حسن غريب. وفي الباب عن عائشة عند الترمذي وصححه: أنها سئلت عن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما يعجل الافطار ويعجل الصلاة؟ والآخر يؤخر الافطار ويؤثر الصلاة فقالت: أيهما يعجل الافطار ويعجل الصلاة؟ فقيل لها: عبد الله بن مسعود، قالت: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والآخر أبو موسى. وعن أبي هريرة حديث آخر عند أبي داود والنسائي وابن ماجة بلفظ قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر، لان اليهود والنصارى يؤخرون. وعن سهل بن سعد حديث آخر عند ابن حبان والحاكم بلفظ: لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها
[ 300 ]
النجوم. وعن أبي ذر عند أحمد وسيأتي. وعن ابن عباس وأنس أشار إليهما الترمذي. قال ابن عبد البر: أحاديث تعجيل الافطار وتأخير السحور صحاح متواترة. وأخرج عبد الرزاق وغيره بإسناد قال الحافظ: صحيح عن عمرو بن ميمون الاودي، قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسرع الناس إفطارا وأبطأهم سحورا. قوله: إذا أقبل الليل زاد البخاري في رواية: من ههنا وأشار بإصبعيه قبل الشرق والمراد وجود الظلمة. قوله: وأدبر النهار زاد البخاري في رواية: من ههنا يعني من جهة المغرب. قوله: وغابت الشمس في رواية للبخاري: وغربت الشمس، ذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور، وهي وإن كانت متلازمة في الاصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة بل لوجود أمر يغطي ضوء الشمس، وكذلك إدبار النهار فمن ثم قيد بغروب الشمس. قوله: فقد أفطر الصائم أي دخل في وقت الفطر، كما يقال: أنجد إذا أقام بنجد، وأتهم إذا أقام بتهامة، ويحتمل أن يكون معناه فقد صار مفطرا في الحكم لكون الليل ليس ظرفا للصيام الشرعي، وقال ابن خزيمة: هو لفظ خبر ومعناه الامر أي فليفطر، ويرجح الاول ما وقع في رواية عند البخاري فقد حل الافطار. قوله: ما عجلوا الفطر زاد أبو ذر في حديثه: وأخروا السحور أخرجه أحمد وسيأتي. وما ظرفية أي مدة فعلهم ذلك امتثالا للسنة ووقوفا عند حدها. قال المهلب: والحكمة في ذلك أن لا يزاد في النهار من الليل، ولانه أوفق بالصائم وأقوى له على العبادة انتهى. وأيضا في تأخيره تشبه باليهود فإنهم يفطرون عند ظهور النجوم، وقد كان الشارع يأمر بمخالفتهم في أفعالهم وأقوالهم، واتفق العلماء على أن محل ذلك إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية أو بإخبار عدلين أو عدل. وقد صرح الحديث القدسي بأن معجل الافطار أحب عباد الله إليه، فلا يرغب عن الاتصاف بهذه الصفة إلا من كان حظه من الدين قليلا كما تفعله الرافضة، ولا يجب تعجيل الافطار لما تقدم في الباب الاول من أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمواصلة إلى السحر كما في حديث أبي سعيد. وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وعن سلمان بن عامر الضبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن
[ 301 ]
لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور رواه الخمسة إلا النسائي. وعن معاذ بن زهرة: أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أفطر قال: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت رواه أبو داود. حديث أنس حسنه الترمذي، وقال أبو بكر البزار: لا يعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا جعفر بن سليمان. وقال أيضا: رواه النشيطي فأنكروا عليه وضعف حديثه، وقال ابن عدي: تفرد به جعفر عن ثابت. والحديث مشهور بعبد الرزاق، تابعه عمار بن هارون وسعيد بن سليمان النشيطي. قال الحافظ: وأخرج أبو يعلى عن إبراهيم بن الحجاج عن عبد الواحد بن ثابت عن ثابت عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن يفطر على ثلاث تمرات أو شئ لم تصبه النار و عبد الواحد قال البخاري: منكر الحديث. وروى الطبراني في الاوسط من طريق يحيى بن أيوب عن حميد عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان صائما لم يصل حتى يأتيه برطب وماء فيأكل ويشرب، وإذا لم يكن رطب لم يصل حتى يأتيه بتمر وماء وقال: تفرد به مسكين بن عبد الرحمن عن يحيى بن أيوب وعنه زكريا بن عمر. وأخرج أيضا الترمذي والحاكم وصححه عن أنس مرفوعا: من وجد التمر فليفطر عليه، ومن لم يجد التمر فليفطر على الماء فإنه طهور. وحديث سليمان بن عامر أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه، وصححه أبو حاتم الرازي، وروى ابن عدي عن عمران بن حصين بمعناه وإسناده ضعيف، وحديث معاذ مرسل لانه لم يدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد رواه الطبراني في الكبير، والدار قطني من حديث ابن عباس بسند ضعيف، ورواه أبو داود والنسائي والدارقطني والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر وزاد: ذهب الظمأ وابتلت العروق وأثبت الاجر إن شاء الله قال الدارقطني: إسناده حسن. وعند الطبراني عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أفطر قال: بسم الله اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت وإسناده ضعيف لان فيه داود بن الزبرقان وهو متروك. ولابن ماجة عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: إن للصائم دعوة لا ترد وكان ابن عمر إذا أفطر يقول: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شئ أن تغفر لي ذنوبي. وحديثا أنس وسليمان يدلان على مشروعية الافطار بالتمر، فإن عدم فبالماء، ولكن حديث
[ 302 ]
أنس فيه دليل عن أن الرطب من التمر أولى من اليابس فيقدم عليه إن وجد، وإنما شرع الافطار بالتمر لانه حلو، وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف بالصوم، وهذا أحسن ما قيل في المناسبة وبيان وجه الحكمة. وقيل: لان الحلو يوافق الايمان ويرق القلب، وإذا كانت العلة كونه حلوا والحلو له ذلك التأثير فيلحق به الحلويات كلها، أما ما كان أشد منه في الحلاوة فبفحوى الخطاب، وما كان مساويا له فبلحنه. وحديث معاذ بن زهرة فيه دليل على أنه يشرع للصائم أن يدعو عند إفطاره بما اشتمل عليه من الدعاء، وكذلك سائر ما ذكرناه في الباب. قوله: حسا حسوات أي شرب شربات، والحسوة المرة الواحدة. وعن أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر رواه أحمد. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تسحروا فإن في السحور بركة رواه الجماعة إلا أبا داود. وعن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن فصلا ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. حديث أبي ذر في إسناده سليمان بن أبي عثمان، قال أبو حاتم: مجهول. وفي الباب عن أبي ليلى الانصاري عند النسائي وأبي عوانة في صحيحه بنحو حديث أنس. وعن ابن مسعود عند النسائي والبزار بنحوه أيضا. وعن أبي هريرة عند النسائي بنحوه أيضا. وعن قرة بن إياس المزني عند البزار نحوه أيضا. وعن ابن عباس عند ابن ماجة والحاكم بلفظ: استعينوا بطعام السحر على صيام النهار، وبقيلولة النهار على قيام الليل وله شاهد في علل ابن أبي حاتم عنه، وتشهد له رواية لابن داسة في سنن أبي داود وأخرجه ابن حبان بلفظ: نعم سحور المؤمن التمر. وعن ابن عمر عند ابن حبان بلفظ: إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين. وفي رواية له عنه: تسحروا ولو بجرعة من ماء. وعن زيد ثابت عند الشيخين أنه: كان بين تسحره صلى الله عليه وآله وسلم ودخوله في الصلاة قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية. وعن أنس عند البخاري بنحوه. وعن أبي سعيد عند أحمد بلفظ: السحور بركة فلا تدعوه، ولو أن يجزع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين. ولسعيد بن
[ 303 ]
منصور من طريق أخرى: تسحروا ولو بلقمة. قوله: ما أخروا السحور أي مدة تأخيرهم. (وفيه دليل) على مشروعية تأخير السحور، وقد تقدم قول ابن عبد البر: إن أحاديث تأخير السحور صحاح متواترة. قوله: فإن في السحور بركة بفتح السين وضمها قال في الفتح: لان المراد بالبركة الاجر والثواب، فيناسب الضم لانه مصدر أو البركة كونه يقوي على الصوم وينشط له ويخفف المشقة فيه، فيناسب الفتح لانه اسم لما يتسحر به. (وفيه دليل) على مشروعية التسحر، وقد نقل ابن المنذر الاجماع على ندبية السحور انتهى. وليس بواجب لما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعن أصحابه أنهم واصلوا، ومن مقويات مشروعية السحور ما فيه من المخالفة لاهل الكتاب فإنهم لا يتسحرون كما صرح بذلك حديث عمرو بن العاص، وأقل ما يحصل به التسحر ما يتناوله المؤمن من مأكول أو مشروب ولو جرعة من ماء كما تقدم في الاحاديث. [ رم ] أبواب ما يبيح الفطر وأحكام القضاء باب الفطر والصوم في السفر عن عائشة: أن حمزة بن عمرو الاسلمي قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام فقال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر رواه الجماعة. وعن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعبد الله بن رواحة وعن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصوم في السفر. وعن أنس قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المدينة ومعه عشرة آلاف وذلك على رأس ثمان
[ 304 ]
سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون، حتى إذا بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد أفطر وأفطروا، وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالآخر فالآخر متفق على هذه الاحاديث، إلا أن مسلما له معنى حديث ابن عباس من غير ذكر عشرة آلاف ولا تاريخ الخروج. وعن حمزة بن عمرو الاسلمي أنه قال: يا رسول الله أجد مني قوة على الصوم في السفر فهل علي جناح؟ فقال: هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه رواه مسلم والنسائي وهو قوي الدلالة على فضيلة الفطر. وعن أبي سعيد وجابر قالا: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطفلا يعيب بعضهم على بعض رواه مسلم. وعن أبي سعيد قال: سافرنا مع رسول اللصلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ونحن صيام قال: فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا فكانت عزمة فأفطرنا، ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر رواه أحمد ومسلم وأبو داود. قوله: أأصوم قال ابن دقيق العيد: ليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان، فلا يكون فيه حجة على من منع صوم رمضان في السفر. قال الحافظ: هو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية لمسلم أنه أجابه بقوله: هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام الفريضة، لان الرخصة إنما تطلق في مقابل ما هو واجب. وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم عنه أنه قال: يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه ربما صادفني هذ الشهر يعني رمضان وأنا أجد القوة وأجد لي أن أصوم أهون علي من أن أؤخره فيكون دينا، فقال: أي ذلك شئت. وفي هذا الحديث دلالة على استواء الصوم والافطار في السفر. قوله: في شهر رمضان هذا لفظ مسلم. وفي البخاري: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره وبرواية مسلم يتم المراد من الاستدلال ويتوجه بها الرد على ابن حزم حيث زعم أن
[ 305 ]
حديث أبي الدرداء هذا لاحجة فيه لاحتمال أن يكون ذلك الصوم تطوعا، وقد قيل: إن هذا السفر هو غزوة الفتح وهو وهم لان أبا الدرداء ذكر ابن عبد الله بن رواحة كان صائما في هذا السفر، وهو استشهد بموته قبل غزوة الفتح بلا خلاف، وإن كانتا جميعا في سنة واحدة. وأيضا الذين صاموا في غزوة الفتح جماعة من الصحابة، ولم يستثن أبو الدرداء في هذه الرواية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا عبد الله بن رواحة. (وفي هذا الحديث) دليل على أنه لا يكره الصوم لمن قوي عليه. قوله: في السفر في رواية للبخاري وابن خزيمة أنها غزوة الفتح. قوله: ورجلا قد ظلل عليه زعم مغلطاي أنه أبو إسرائيل وعزا ذلك إلى مبهمات الخطيب، ولم يقل ذلك في هذه القصة، وإنما قاله في قصة الذي نذر أن يصوم ويقوم في الشمس، وكان ذلك يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب. قال الحافظ: لم نقف على اسم هذا الرجل. قوله: ليس من البر الخ، قد أشار البخاري إلى أن السبب في قوله صلى الله عليه وآله وسلم هذه المقالة هو ما ذكر من المشقة التي حصلت للرجل الذي ظلل عليه. وفي ذلك دليل على أن الصيام في السفر لمن كان يشق عليه ليس بفضيلة. (وقد اختلف السلف) في هذه المسألة أعني صوم رمضان في السفر فقالت طائفة: لا يجزئ الصوم عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر، وهو قول بعض الظاهرية، وحكاه في البحر عن أبي هريرة وداود والامامية. قال في الفتح: وحكي عن عمر وابن عمرو وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم انتهى. واحتجوا بقوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 184) قالوا: لان ظاهر قوله فعدة أي فالواجب عليه عدة، وتأوله الجمهور بأن التقدير فافطر فعدة. واحتجوا أيضا بما في حديث ابن عباس المذكور في الباب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفطر في السفر وكان ذلك آخر الامرين، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر، فالآخر من فعله، فزعموا أن صومه صلى الله عليه وآله وسلم في السفر منسوخ، وأجاب الجمهور عن ذلك بأن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري كما جزم بذلك البخاري في الجهاد، وكذلك وقعت عند مسلم مدرجة، وبأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صام بعد هذه القصة كما في حديث أبي سعيد المذكور في آخر الباب بلفظ: ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول
[ 306 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك في السفر واحتجوا أيضا بما أخرجه مسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال: أولئك العصاة. وفي رواية له: أن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر الحديث، وسيأتي. وأجاب عنه الجمهور بأنه إنما نسبهم إلى العصيان لانه عزم عليهم فخالفوا. واحتجوا أيضا بما في حديث جابر المذكور في الباب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس من البر الصوم في السفر وأجاب عنه الجمهور بأنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما قال ذلك في حق من شق عليه الصوم كما سبق بيانه، ولا شك أن الافطار مع المشقة الزائدة أفضل وفيه نظر، لان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن قيل: إن السياق والقرائن تدل على التخصيص. قال ابن دقيق العيد: وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم، وبين مجرد ورود العام على سبب، فإن بين المقامين فرقا واضحا، ومن أجراهما مجرى واحد لم يصب، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة رداء صفوان. وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة إلى بيان المجملات كما في حديث الباب، وأيضا نفي البر لا يستلزم عدم صحة الصوم، وقد قال الشافعي: يحتمل أن يكون المراد ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى المراتب، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برا، لان الافطار قد يكون أبر من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو، وقال الشافعي: نفي البر المذكور في الحديث محمول على من أبى قبول الرخصة. وقد روى الحديث النسائي بلفظ: ليس من البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوا. قال ابن القطان: إسنادها حسن متصل يعني الزيادة، ورواها الشافعي، ورجح ابن خزيمة الاول، واحتجوا أيضا بما أخرجه ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعا: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ويجاب عنه بأن في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف، ورواه الاثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعا، قال الحافظ: والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا، كذا أخرجه النسائي وابن المنذر، ورجح وقفه ابن أبي حاتم والبيهقي
[ 307 ]
والدارقطني، ومع وقفه فهو منقطع لان أبا سلمة لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحته فهو محمول على الحالة التي يكون الفطر فيها أو لمن الصوم كحالة المشقة جمعا بين الادلة، واحتجوا أيضا بما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي، وحسنه عن أنس بن مالك الكعبي بلفظ: إن الله قد وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة. ويجاب عنه بأنه مختلف فيه كما قال ابن أبي حاتم، وعلى تسليم صحته فالوضع لا يستلزم عدم صحة الصوم في السفر وهو محل النزاع، وذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق به، وبه قالت العترة وروي عن أنس وعثمان بن أبي العاص. وقال الاوزاعي وأحمد وإسحاق: أن الفطر أفضل عملا بالرخصة. وروي عن ابن عباس وابن عمر، وقال عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر أفضلهما أيسرهما، فمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل، وقال آخرون: هو مخير مطلقا، والاولى أن يقال: من كان يشق عليه الصوم ويضره، وكذلك من كان معرضا عن قبول الرخصة فالفطر أفضل. أما الطرف الاول فلما قدمنا من الادلة في حجج القائلين بالمنع من الصوم. وأما الطرف الثاني فلحديث: إن الله يحب أن تؤتى رخصه وقد تقدم. ولحديث: من رغب عن سنتي فليس مني. وكذلك يكون الصيام أفضل في حق من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر. وقد روى الطبراني عن ابن عمر أنه قال: إذا سافرت فلا تصم فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصيام ادفعوا للصائم وقاموا بأمرك وقالوا: فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك. وأخرج نحوه أيضا من طريق أبي ذر، ومثل ذلك ما أخرجه البخاري في الجهاد عن أنس مرفوعا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للمفطرين لما خدموا الصائمين: ذهب المفطرون اليوم بالاجر. وما كان من الصيام خاليا عن هذه الامور فهو أفضل من الافطار. ومن أحب الوقوف على حقيقة المسألة فليراجع قبول البشرى في تيسير اليسرى للعلامة محمد بن إبراهيم. قوله: الكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة. قوله: وقديد بضم القاف مصغرا وبين الكديد ومكة مرحلتان. قال عياض: اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والكل في قضية واحدة وكلها متقاربة، والجميع من عمل عسفان. قوله: أجد مني قوة ظاهره أن الصوم لا يشق عليه ويفوت به حق. وفي رواية لمسلم: إني رجل
[ 308 ]
أسرد الصوم وقد جعل المصنف رحمه الله تعالى هذا الحديث قوي الدلالة على فضيلة الفطر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح فأثبت للاخذ بالرخصة الحسن وهو أرفع من رفع الجناح. وأجاب الجمهور بأن هذا فيمن يخا ف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح في الاحاديث، وقد أسلفنا تحقيق ذلك. قوله: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فيه دليل على أن الفطر لمن وصل في سفره إلى موضع قريب من العدو أولى، لانه ربما وصل إليهم العدو إلى ذلك الموضع الذي هو مظنة ملاقاة العدو، ولهذا كان الافطار أولى ولم يتحتم، وأما إذا كان لقاء العدو متحققا فالافطار عزيمة، لان الصائم يضعف عن منازلة الاقران، لا سيما عند غليان مراجل الضراب والطعان، ولا يخفى ما في ذلك من الاهانة لجنود المحقين وإدخال الوهن على عامة المجاهدين من المسلمين. (فائدة) المسافة التي يباح الافطار فيها هي المسافة التي يباح القصر فيها، والخلاف هنا كالخلاف هناك، وقد قدمنا تحقيق ذلك في باب القصر فليرجع إليه. باب من شرع في الصوم ثم أفطر فيومه ذلك عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناسا صاموا فقال: أولئك العصاة رواه مسلم والنسائي والترمذي وصححه. وعن أبي سعيد، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نهر من ماء السماء والناس صيام في يوم صائف مشاة ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم على بغلة له فقال: اشربوا أيها الناس، قال: فأبوا، قال: إني لست مثلكم إني أيسركم إني راكب فأبوا، فثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخذه فنزل فشرب وشرب الناس وما كان يرى أن يشرب. وعن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى مر بغدير في الطريق وذلك في نحر الظهيرة قال: فعطش الناس فجعلوا يمدون أعناقهم وتتوق
[ 309 ]
أنفسهم إليه، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدح فيه ماء فأمسكه على يده حتى رآه الناس ثم شر ب فشرب الناس رواهما أحمد. حديث ابن عباس أخرج نحوه البخاري في المغازي من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان والناس صائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحلته ثم نظر الناس وسيأتي. وزاد في رواية أخرى من طريق طاوس عن ابن عباس: ثم دعا بماء فشرب نهارا. وأخرجه من طريق أبي الاسود عن عكرمة أوضح من سياق خالد ولفظه: فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس شق عليهم الصيام فدعا بقدح من لبن فأمسكه بيده حتى رآه الناس وهو على راحلته ثم شرب فأفطر فناوله رجلا إلى جنبه فشرب والاحاديث في هذا المعنى يشهد بعضها لبعض. قوله: كراالغميم هو بضم الكاف، والغميم بفتح الغين المعجمة وهو اسم واد أمام عسفان، وهو من أموال أعالي المدينة. (وفيه دليل) على أنه يجوز للمسافر أن يفطر بعد أن نوى الصيام من الليل وهو قول الجمهور. قال في الفتح: وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر، فأما لو نوى الصوم وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار؟ منعه الجمهور، وقال أحمد وإسحاق بالجواز، واختاره المزني وهذا هو الحق، ولحديث جابر المذكور في الباب لما تقدم من أن كراع الغميم من أموال أعالي المدينة لحديث ابن عباس الذي سيأتي في الباب الذي بعد هذا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أفطر حين استوى على راحلته. وهذا الحديث أيضا يرد ما روي عن بعض السلف أن من استهل رمضان في الحضر ثم سافر بعد ذلك فليسله أن يفطر. وقد روي عن علي عليه السلام نحو ذلك بإسناد ضعيف، والجمهور على الجواز وهو الحق. واستدل المانع من الافطار بقوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (البقرة: 185). قوله: فشرب الخ، فيه دليل على أن فضيلة الفطر لا تختص بمن أجهده الصوم أو خشي العجب والرياء، أو ظن به الرغبة عن الرخصة، بل يلتحق بذلك من يقتدي به ليتابعه من وقع له شئ من هذه الامور الثلاثة، ويكون الفطر في تلك الحال في حقه أفضل لفضيلة البيان، ويدل على هذا قوله في حديث أبي سعيد: وما كان يريد أن يشرب. قوله: أولئك العصاة استدل به من قال: بأن الفطر في السفر متحتم، ومن قال: بأنه أفضل، وقد تقدم الجواب عن ذلك. قوله:
[ 310 ]
في يوم صائف فيه أن الافطار عند اشتداد الحر كما يكون في أيام الصيف أفضل لانه مظنة المشقة، وأنه يشرع لمن مع المسافرين من إمام أو عالم أن يفطليقتدي به الناس، وإن لم يكن محتاجا إلى الافطار لما تقدم. قوله: إني أيسرك إني راكب يعني إني أيسركم مشقة، ثم بين ذلك بقوله: إني راكب. قوله: فنحر الظهيرة أي في أول الظهيرة، قال في القاموس: نحر النهار والشهر أوله الجمع نحور انتهى. قوله: تتوق أنفسهم أي تشتاق، قال في القاموس: تاق إليه توقا وتؤقا وتياقة وتوقانا اشتاق انتهى. قوله: فأمسكه على يده في رواية للبخاري: فرفعه إلى يده قال الحافظ: وهذه الرواية مشكلة، لان الرفع إنما يكون باليد، وأجاب الكرماني بأن المعنى يحتمل أن يكون رفعه إلى أقصى طول يده، أي انتهى الرفع إلى أقصى غايتها، وفي رواية لابي داود: فرفعه إلى فيه. قوله: حتى رآه الناس في رواية للبخاري: ليراه. وفي رواية للمستملي: ليريه بضم أوله وكسر الراء وفتح التحتانية والناس بالنصب على المفعولية. باب من سافر في أثناء يوم هل يفطر فيه ومتى يفطر وعن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان إلى حنين والناس مختلفون فصائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحلته أو راحته ثم نظر الناس المفطرون للصوام أفطروا رواه البخاري. هذا أحد ألفاظ حديث ابن عباس، وقد ورد بألفاظ مختلفة في البخاري وغيره وقد تقدم ذكر بعضها، وذكره المصنف ههنا للاستدلال به على أنه يجوز للمسافر الافطار عند ابتداء السفر لقوله فيه: فلما استوى على راحلته الخ، وقال الشافعي: من أصبح في حضر مسافرا فليس له أن يفطر إلا أن يثبت حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أفطر يوم الكديد انتهى. (والحديث المذكور) قد ثبت كما تقدم، ولكنها لا تقوم به الحجة على إفطار من أصبح في حضر مسافرا، لان بين الكديد والمدينة ثمانية أيام، بل هو حجة على أنه يجوز لمن صام أياما في سفره أن يفطر، وقد ترجم عليه باب إذا صام
[ 311 ]
أياما من رمضان ثم سافر، والذي تقوم به الحجة على جواز إفطار من أصبح في حضر مسافرا هو حديث الباب، وكذلك حديث جابر المتقدم في الباب الاول كما تقدم تحقيق ذلك قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث: قال شيخنا عبد الرزاق بن عبد القادر: صوابه خيبر أو مكة، لانه قصدهما في هذا الشهر، فأما حنين فكانت بعد الفتح بأربعين ليلة انتهى. والفتح كان لعشر بقين من رمضان، وقيل: لتسع عشرة ليلة خلت منه. قال في الفتح وهو الذي اتفق عليه أهل السير: وكانت خروجه صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في عاشر شهر رمضان، فإذا كانت حنين بعده بأربعين ليلة لم يستقم أن يكون السفر إليها في رمضان. وعن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ فقال: سنة، ثم ركب رواه الترمذي. وعن عبيد بن جبر قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في رمضان فدفع ثم قرب غداءه ثم قال: اقترب فقلت: ألست بين البيوت؟ فقال أبو بصرة: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد وأبو داود. الحديث الاول ذكره الحافظ وسكت عنه وفي إسناده عبد بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف. والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده ثقات. وأخرج البيهقي عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنه كان يسافر وهو صائم فيفطر من يومه. قوله: من الفسطاط هو اسم علم لمصر العتيقة التي بناها عمرو بن العاص. (والحديثان) يدلان على أنه يجوز للمسافر أن يفطر قبل خروجه من الموضع الذي أراد السفر منه. قال ابن العربي في العارصة: هذا صحيح ولم يقل به إلا أحمد أما علماؤنا فمنعوا منه، لكن اختلفوا إذا أكل هل عليه كفارة؟ فقال مالك: لا، وقال أشهب: هو متأول، وقال غيرهما: يكفر، ونحب أن يكفر لصحة الحديث ولقول أحمد: عذر يبيح الافطار فطريانه على الصوم يبيح الفطر كالمرض، وفرق بأن المرض لا يمكن دفعه بخلاف السفر. قال ابن العربي: وأما حديث أنس فصحيح يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر، ثم ذكر أن قوله من السنة بد من أن يرجع إلى التوقيف، والخلاف في ذلك معروف في
[ 312 ]
الاصول. والحق أن قول الصحابي من السنة ينصرف إلى سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صرح هذان الصحابيان بأن الافطار للمسافر قبل مجاوزة البيوت من السنة. باب جواز الفطر للمسافر إذا دخل بلدا ولم يجمع إقامة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزا غزوة الفتح في رمضان وصام حتى إذا بلغ الكديد الماء الذي بين قديد وعسفان فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر رواه البخاري. ووجه الحجة منه أن الفتح كان لعشر بقين من رمضان، هكذا جاء في حديث متفق عليه. الكديد وقديد قد تقدم ضبطهما وتفسيرهما. والحديث يدل على أن المسافر إذا أقام ببلد مترددا جاز له أن يفطر مدة تلك الاقامة، كما يجوز له أن يقصر، وقد عرفناك في باب قصر الصلاة أمن حط رحله في بلد وأقام به يتم صلاته لان مشقة السفر قد زالت عنه، ولا يقصر إلا إلى مقدار المدة التي قصر فيها صلى الله عليه وآله وسلم مع إقامته، ولا شك أن قصره صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المدة لا ينفي القصر فيما زاد عليها، ولكن ملاحظة الاصل منعت من مجاوزتها، لان القصر للمقيم لم يشرعه الشارع فلا يثبت له إلا بدليل، وقد دل الدليل على أنه يقصر في مثل المدة التي أقام فيها صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدم الخلاف في مقدارها فيقتصر على ذلك. وهكذا يقال في الافطار: الاصل في المقيم أن لا يفطر لزوال مشقة السفر عنه إلا لدليل يدل على جوازه له، وقددل الدليل على أن من كان مقيما ببلد وفي عزمه السفر يفطر مثل المدة التي أفطره صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وهي عشرة أيام أو أحد عشر على اختلاف الروايات فيقتصر على ذلك، ولا يجوز الزيادة عليه إلا بدليل. (فإن قيل) الاعتبار بإطلاق اسم المسافر على المقيم المتردد وقد أطلقه عليه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنا قوم سفر، كما تقدم في القصر لا بالمشقة ولعدم انضباطها، قلنا: قد تقدم الجواب عن ذلك في القصر فليرجع إليه.
[ 313 ]
باب ما جاء في المريض والشيخ والشيخة والحامل والمرضع عن أنس بن مالك الكعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله عزوجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم رواه الخمسة. وفي لفظ بعضهم: وعن الحامل والمرضع. الحديث حسنه الترمذي وقال: ولا يعرف لابن مالك هذا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير هذا الحديث الواحد انتهى. وقال ابن أبي حاتم في علله: سألت أبي عنه يعني الحديث فقال: اختلف فيه، والصحيح عن أنس بن مالك القشيري انتهى. قال المنذري: ومن يسمى بأنس بن مالك من رواة الحديث خمسة: صحابيان هذا وأبو حمزة أنس بن مالك الانصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنس بن مالك والد الامام مالك بن أنس روي عنه حديث في إسناده نظر. والرابع شيخ حمصي حدث. والخامس كوفي حدث عن حماد بن أبي سليمان والاعمش وغيرهما انتهى. وينبغي أن يكون أنس بن مالك القشيري الذي ذكره ابن أبي حاتم سادسا إن لم يكن هو الكعبي. (والحديث) يدل على أن المسافر لا صوم عليه، وقد تقدم البحث عن ذلك، وأنه يصلي قصرا، وقد تقدم تحقيقه، وأنه يجوز للحبلى والمرضع الافطار، وقد ذهب إلى ذلك العترة والفقهاء إذا خافت المرضعة على الرضيع والحامل على الجنين، وقالوا: إنها تفطر حتما، قال أبو طالب: ولا خلاف في الجواز. وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم. وقال بعض أهل العلم: الحامل والمرضع يفطران ويقضيان ويطعمان، وبه يقول سفيان ومالك والشافعي وأحمد، وقال بعضهم: ويفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما، وإن شاء ناقضتا ولا طعام عليهما، وبه يقول إسحاق انتهى. وقد قال بعدم وجوب الكفارة مع القضاء الاوزاعي والزهري والشافعي في أحد أقواله. وقال مالك والشافعي في أحد أقواله: أنها تلزم المرضع لا الحامل إذ هي كالمريض. وعن سلمة بن الاكوع قال: لما نزلت هذه الآية * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) * (البقرة: 184) كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى أنزلت الآية التي بعدها فنسختها رواه الجماعة إلا أحمد. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى
[ 314 ]
عن معاذ بن جبل بنحو حديث سلمة وفيه: ثم أنزل الله: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (البقرة: 185) فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت الاطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام مختصر لاحمد وأبي داود. وعن عطاء: سمع ابن عباس يقرأ: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) * (البقرة: 184) قال ابن عباس: ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا رواه البخاري. وعن عكرمة: أن ابن عباس قال: أثبتت للحبلى والمرضع رواه أبو داود. حديث معاذ قد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا. قوله: الآية التي بعدها هي الآية المذكورة في حديث معا الذي بعده. قوله: فنسختها قد روي عن ابن عمر كما روي عن سلمة من النسخ، ذكر ذلك البخاري عنه معلقا وموصولا. وقد أخرج أبو نعيم في المستخرج والبيهقي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة ولا عهد لهم بالصيام فكانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر حتى نزل رمضان فاستكثروا ذلك وشق عليهم فكان من يطعم مسكينا كل يوم ترك الصيام ممن يطيقه رخص لهم في ذلك ثم نسخه قوله تعالى: * (وأن تصوموا خير لكم) * (البقرة: 184) فأمروا بالصيام. وهذا الحديث أخرجه أيضا أبو داود من طريق شعبة والمسعودي عن الاعمش مطولا، وقد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا، وإذا تقرر أن الافطار والاطعام كان رخصة ثم نسخ لزم أن يصير الصيام حتما واجبا، فكيف يصح الاستدلال على ذلك بقوله: * (وأن تصوموا خير لكم) * (البقرة: 184) والخيرية لا تدل على الوجوب لدلالة قوله: خير لكم على المشاركة في أصل الخير. وأجاب عن ذلك الكرماني جوابا متكلفا حاصله: أن المراد أن الصوم خير من التطوع بالفدية، والتطوع بها كان سنة والخير من السنة لا يكون واجبا، أي لا يكون شئ خيرا من السنة إلا الواجب، كذا قال، ولا يخفى بعده وتكلفه، فالاولى ما روي عن سلمة بن الاكوع وابن عمر أن الناسخ قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (البقرة: 185) وإلى النسخ في حق غير الكبير ممن يطيق الصيام ذهب الجمهور قالوا: وحكم الاطعام باق في حق من لم يطق الصيام، وقال جماعة من السلف منهم مالك وأبو ثور وداود: أن جميع الاطعام منسوخ، وليس على الكبير إذا لم يطق الطعام، وقال قتادة: كانت الرخصة لكبير يقدر على الصوم ثم نسخ فيه وبقي فيمن لا يطيق، وقال ابن عباس: إنها محكمة لكنها مخصوصة بالشيخ الكبير كما وقع في الباب عنه. وقال زيد بن
[ 315 ]
أسلم والزهري ومالك: هي محكمة نزلت في المريض يفطر ثم يبرأ فلا يقضي حتى يدخل رمضان آخر فيلزمه صومه ثم يقضي بعده، ويطعم عن كل يوم مدا من حنطة، فإن اتصل مرضه برمضان الثاني فليس عليه إطعام بل عليه القضاء فقط. وقال الحسن البصري وغيره: الضمير في يطيقونه عائد على الاطعام لا على الصوم، ثم نسخ بعد ذلك. قوله: سمع ابن عباس يقرأ: * (وعلى الذين يطيقونه) * هكذا في هذا الكتاب وهو لا يناسب قوله آخر الكلام هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، إلا أن يكون مراد ابن عباس أن ذلك من مجاز الحذف كما روي عن بعض العلماء، والاصل: وعلى الذين لا يطيقونه، وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: وعلى الذين يطوقونه أي يكلفونه ولا يطيقونه وهو المناسب لآخر الكلام. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه، رواه الدارقطني والحاكم وصححاه، وفيه مع ما في الباب عنه، وعن معاذ دليل على أنه يجوز للشيخ الكبير العاجز عن الصوم أن يفطر ويكفر، وقد اختلف في قدر إطعام المسكين فقيل: نصف صاع عن كل يوم من أي قوت، وبه قال أبو طالب وأبو العباس وغيرهما من الهادوية، وقيل: صاع من غير البر ونصف صاع منه، وبه قال أبو حنيفة والمؤيد بالله. وقيل: مد من بر أو نصف صاع من غيره، وبه قال الشافعي وغيره، وليس في المرفوع ما يدل على التقدير. قوله: أثبتت للحبلى والمرضع لفظ أبي داود: أن ابن عباس قال في قوله: * (وعلى الذين يطيقونه) * (البقرة: 184) قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا يعني على أولادهما أفطرتا وأطعمتا، وأخرجه البزار كذلك وزاد في آخره: وكان ابن عباس يقول لام ولد له حبلى: أنت بمنزلة الذي لا يطيقه، فعليك الفداء ولا قضاء عليك، وصحح الدارقطني إسناده. باب قضاء رمضان متتابعا ومتفرقا وتأخيره إلى شعبان عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قضاء رمضان إن شاء فرق وإن شاء تابع رواه الدارقطني. قال البخاري: قال ابن
[ 316 ]
عباس: لا بأس أن يفرق لقول الله تعالى: * (فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 185 184). وعن عائشة قالت: نزلت * (فعدة من أيام أخمتتا بعات) * فسقطت متتابعات رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح. حديث ابن عمر في إسناده سفيان بن بشر وقد تفرد بوصله، قال الدارقطني: ورواه عطاء عن عبيد بن عمير مرسلا، قال الحافظ: وفي إسناده ضعف أيضا. وقد صحح الحديث ابن الجوزي وقال: ما علمنا أحدا طعن في سفيان بن بشر، ورواه الدارقطني أيضا من حديث عبد الله بن عمرو في إسناده الواقدي وابن لهيعة، ورواه من حديث محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن تقطيع قضاء شهر رمضان فقال: ذاك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاء؟ والله أحق أن يعفو وقال: هذا إسناد حسن لكنه مرسل، وقد روي موصولا ولا يثبت. (وفي الباب) عن أبي عبيدة ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة ورافع بن خديج أخرجها البيهقي، وهذه الطرق وإن كانت كل واحدة منها لا تخلو عن مقال فبعضها يقوي بعضا، فتصلح للاحتجاج بها على جواز التفريق وهو قول الجمهور، وحكاه في البحر عن علي عليه السلام وأبي هريرة وأنس ومعاذ، ونقل ابن المنذر عن عائشة وجوب التتابع، قال في الفتح: وهو قول بعض أهل الظاهر، وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن عمر أنه قال: يقضيه تباعا، وحكاه في البحر عن النخعي والناصر وأحد قولي الشافعي، وتمسكوا بالقراءة المذكورة أعني قوله * (متتابعات) * قال في الموطأ: هي قراءة أبي بن كعب، وأجيب عن ذلك بما تقدم عن عائشة أنها سقطت، على أنه قد اختلف في الاحتجاج بقراءة الآحاد كما تقرر في الاصول، وإذا سلم أنها لم تسقط فهي منزلة عند من قال بالاحتجاج بها منزلة أخبار الآحاد، وقد عارضها ما في الباب من الاحاديث. وقال القاسم بن إبراهيم: إن فرق أساء وأجزأ. وحكي في البحر عن داود أن القاضي يطابق وقت الفوات من أول الشهر وآخره ووسطه، ومما احتج به للتتابع ما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه لكنه قال البيهقي: لا يصح. وفي إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم القاضي وهو مختلف فيه. قال الدارقطني: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، روى حديثا منكرا. قال
[ 317 ]
عبد الحق يعني هذا، وتعقبه ابن القطان بأنه لم ينص عليه فلعله غيره، قال: ولم يأت من ضعفه بحجة والحديث حسن. قال الحافظ: قد صرح ابن أبي حاتم عن أبيه بأنه أنكر هذا الحديث بعينه على عبد الرحمن. قوله: قال ابن عباس وصله عبد الرزاق وأخرجه الدارقطني عنه من وجه آخر. [ رح 1692 ] وعن عائشة قالت: كان يكون علي صوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه الجماعة، ويروى بإسناد ضعيف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رجل مرض في رمضان فأفطر ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر فقال: يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم كل يوم مسكينا رواه الدار قطني عن أبي هريرة من قوله وقال: إسناد صحيح موقوف. وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا وإسناده ضعيف، قال الترمذي: والصحيح أنه عن ابن عمر موقوف. وعنابن عباس قال: إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن نذر قضى عنه وليه رواه أبو داود. حديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني وفي إسناده عمر بن موسى بن وجيه وهو ضعيف جدا، والراوي عنه إبراهيم بن نافع وهو أيضا ضعيف وروي عنه موقوفا وصححه الدارقطني كما ذكر المصنف وغيره، وحديث ابن عمر أخرجه الترمذي عن قتيبة عن عبثر بن القاسم عن أشعث عن محمد عن نافع عن ابن عمر مرفوعا وقال: غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، والصحيح أنه موقوف على ابن عمر، قال: وأشعث هو ابن سوار، ومحمد هو ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى. قال الحافظ: ورواه ابن ماجة من هذا الوجه، ووقع عنده عن محمد بن سيرين بدل محمد بن عبد الرحمن. وهو وهم منه أو من شيخه. وقال الدارقطني: المحفوظ وقفه على ابن عمر، وتابعه البيهقي على ذلك. وأثر ابن عباس صححه الحافظ، وأخرجه الدارقطني وسعيد بن منصور والبيهقي وعبد الرزاق موصولا وعلقه البخاري. قال عبد الحق في أحكامه: لا يصح في الاطعام شئ يعني مرفوعا، وكذا قال في الفتح. قوله: فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان استدل بهذا على أن عائشة كانت لا تتطوع
[ 318 ]
بشئ من الصيام، ولا في عشر ذي الحجة، ولا عاشوراء، ولا غير ذلك، وهذا الاستدلال إنما يتم بعد تسليم أنها كان ترى أنه لا يجوز صيام التطوع لمن عليه دين من رمضان ومن أين لقائله ذلك. قوله: وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا لفظ مسلم. وفي لفظ للبخاري: الشغل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي رواية للترمذي وابن خزيمة: أنها قالت: ما قضيت شيئا مما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (وفي الحديث) دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقا، سواء كان لعذر أو لغير عذر، لان الزيادة أعني قوله، وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جزم بأنها مدرجة جماعة من الحفاظ كما في الفتح، ولكن الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، لا سيما مع توفر دواعي أزواجه إلى سؤاله عن الاحكام الشرعية، فيكون ذلك أعني جواز التأخير مقيدا بالعذر المسوغ لذلك. قوله: ويطعم كل يوم مسكينا استدل به وبما ورد في معناه من قال بأنها تلزم الفدية من لم يصم ما فات عليه في رمضان حتى حال عليه رمضان آخر وهم الجمهور. وروي عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة. وقال الطحاوي عن يحيى بن أكتم قال: وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم مخالفا. وقال النخعي وأبو حنيفة وأصحابه: إنها لا تجب الفدية لقوله تعالى: * (فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 184 و 185) ولم يذكرها، وأجيب بأنها قد ذكرت في الحديث كما تقدم، ويدل على ثبوتها قوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين) * (البقرة: 185) قال في البحر: ونسخ التخيير لا ينسخ وجوبها على من أفطر مطلقا إلا ما خصه الاجماع، وقال أبو العباس: إن ترك الاداء لغير عذر وجبت وإلا فلا. وحكي في البحر عن الشافعي أنه إن ترك القضاء حتى حال لغير عذر لزمه وإلا فلا، وأجيب عن هذين القولين بأن الحديث لم يفرق، وقد بينا أنه لم يثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شئ، وأقوال الصحابة لا حجة فيها، وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق، والبراءة الاصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالاحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها، ولا دليل ههنا، فالظاهر عدم الوجوب. (وقد اختلف القائلون) بوجوب الفدية هل يسقط القضاء بها أم لا؟ فذهب الاكثر منهم إلى أنه لا يسقط. وقال ابن عباس وابن عمر وقتادة وسعيد بن
[ 319 ]
المسيب: أنه يسقط، والخلاف في مقدار الفدية ههنا كالخلاف في مقدارها في حق الشيخ العاجز عن الصوم، وقد تقدم بيانه. قوله: إذا مرض الرجل في رمضان الخ، استدل به على وجوب الاطعام من تركة من مات في رمضان بعد أن فات عليه بعضه وفيه خلاف، والظاهر عدم الوجوب لان قول الصحابة لا حجة فيه، ووقع التردد فيمن مات آخر شعبان، وقد رجفي البحر عدم الوجوب لان الاصل البراءة. قوله: وإن نذر قضى عنه وليه سيأتي البحث عن هذا قريبا. [ رم ] باب صوم النذر عن الميت عن ابن عباس: أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر فأصوم عنها؟ فقال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم، قال: فصومي عن أمك أخرجاه. وفي رواية: أن امرأة ركبت البحر فنذرت أن الله نجاها أن تصوم شهرا فأنجاها الله فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك فقال: صومي عنها أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود. وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه متفق عليه. وعن بريدة قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وأنها ماتت فقال: وجب أجرك وردها عليك الميراث، قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. ولمسلم في رواية صوم شهرين. قوله: إن امرأة هي من جهينة كما في البخاري. قوله: وعليها صوم نذر في رواية للبخاري: وعليها صوم شهر. وفي أخرى له: أنه أتى رجل فسأل. وفي رواية له أيضا: وعليها خمسة عشر يوما. وفي رواية له أيضا: وعليه صوم شهرين متتابعين قال في الفتح: وقد ادعى بعضهم أن هذا اضطراب من الرواة، والذي يظهر تعدد الواقعة، وأما الاختلاف في كون السائل رجلا أو امرأة، والمسؤول عنه أختا أو أما، فلا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث. قوله: أرأيت الخ، فيه مشروعية القياس
[ 320 ]
وضرب الامثال ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع، وأقرب إلى سرعة فهمه، وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه، وفيه أنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتب على ذلك مصلحة، وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعلاذعانه، وسيأتي مثل هذا في الحج إن شاء الله تعالى. قوله: فجاءت قرابة لهذه الرواية مطلقة، فينبغي أن تحمل على الرواية المقيدة بذكر البنت. قوله: من مات وعليه صيام هذه الصيغة عامة لكل مكلف. وقوله: صام عنه وليه خبر بمعنى الامر تقديره فليصم. (وفيه دليل) على أنه يصوم الولي عن الميت إذا مات وعليه صوم أي صوم كان، وبه قال أصحاب الحديث، وجماعة من محدثي الشافعية، وأبو ثور، ونقل البيهقي عن الشافعي أنه علق القول به على صحة الحديث وقد صح، وبه قال الصادق والناصر والمؤيد بالله والاوزاعي وأحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه، قال البيهقي في الخلافيات: هذه السنة ثابتة لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها، والجمهور على أن صوم الولي عن الميت ليس بواجب، وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه فادعوا الاجماع على ذلك، وتعقب بأن بعض أهل الظاهر يقول بوجوبه، وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد إلى أنه لا يصام عن الميت مطلقا، وبه قال زيد بن علي والهادي والقاسم. وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: أنه لا يصام عنه إلا النذر، وتمسك المانعون مطلقا بما روي عن ابن عباس أنه قال: لا يصل أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد، أخرجه النسائي بإسناد صحيح من قوله. وروى مثله عبد الرزاق عن ابن عمر من قوله. وبما أخرجه عبد الرزاق عن عائشة أنها قالت: لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم قالوا: فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف مروياه دل ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه. قال في الفتح: وهذه قاعدة لهم معروفة، إلا أن الآثار عن عائشة وابن عباس فيها مقال، وليس فيها ما يمنع من الصيام إلا الاثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جدا انتهى، وهذا بناء من صاحب الفتح على أن لفظ حديث ابن عباس باللفظ الذي ذكراه هنالك وهو أنه قال: كان لا يصوم أحد عن أحد، ولكنه ذكره في التلخيص باللفظ الذي ذكرناه سابقا، والحق أن الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما رآه، والكلام في هذا مبسوط في الاصول، والذي روي مرفوعا صريح في الرد على المانعين، وقد اعتذروا بأن المراد بقوله: صام عنه وليه أي فعل عنه ما يقوم مقام الصوم وهو
[ 321 ]
الاطعام وهذا عذر بارد لا يتمسك به منصف في مقابلة الاحاديث الصحيحة، ومن جملة أعذارهم أن عمل أهل المدينة على خلاف ذلك وهو عذر أبرد من الاول، ومن أعذارهم أن الحديث مضطرب، وهذا إن تم لهم في حديث ابن عباس لم يتم في حديث عائشة فإنه لا اضطراب فيه بلا ريب. (وتمسك القائلون) بأنه يجوز في النذر دون غيره بأن حديث عائشة مطلق وحديث ابن عباس مقيد فيحمل عليه، ويكون المراد بالصيام صيام النذر، قال في الفتح: وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة مستقلة يسأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة، وقد وقعت الاشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم حيث قال في آخره: فدين الله أحق أن يقضى انتهى، وإنما قال إن حديث ابن عباس صورة مستقلة يعني أنه من التنصيص على بعض أفراد العام، فلا يصلح لتخصيصه ولا لتقييده كما تقرر في الاصول. قوله: صام عنه ولى لفظ البزار: فليصم عنه وليه إن شاء قال في مجمع الزوائد: وإسناده حسن. قال في الفتح: اختلف المجيزون في المراد بقوله وليه فقيل كل قريب. وقيل: الوار ث خاصة. وقيل: عصبته، والاول أرجح، والثاني قريب. ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها قال: واختلفوا هل يختص ذلك بالولي لان الاصل عدم النيابة في العبادة البدنية، ولانها عبادة لا يدخلها النيابة في الحياة فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل، فيقتصر على ما ورد ويبقى الباقي على الاصل، وهذا هو الراجح. وقيل: لا يختص بالولي فلو أمر أجنبيا بأن يصوم عنه أجزأ، وقيل يصح استقلال الاجنبي بذلك، وذكر الولي لكونه الغالب. وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الاخير، وبه جزم أبو الطيب الطبري وقواه بتشبيهه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بالدين، والدين لا يختص بالقريب انتهى. وظاهر الاحاديث أنه يصوم عنه وليه وإن لم يوص بذلك، وأن من صدق عليه اسم الولي لغة أو شرعا أو عرفا صام عنه، ولا يصوم عنه من ليس بولي، ومجرد التمثيل بالدين لا يدل على أن حكم الصوم كحكمه في جميع الامور. قوله: وردها عليك الميراث فيه دليل على أنه يجوز لمن ملك قريبا له عينا من الاعيان ثم مات القريب بعد ذلك وورثه أن يتملك تلك العين، وقد سبق الكلام على هذا في كتاب الزكاة. قوله: قال حجي عنها فيه دليل على أنه يجوز
[ 322 ]
للابن أن يحج عن أمه أو أبيه وإن لم يوص، وسيأتي الكلام على ذلك في الحج إن شاء الله تعالى. [ رم ] أبواب صوم التطوع باب صوم ست من شوال عن أبي أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذاك صيام الدهر رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي، ورواه أحمد من حديث جابر. وعن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (الانعام: 16) رواه ابن ماجة. حديث ثوبان أخرجه أيضا النسائي وأحمد والدارمي والبزار. وفي الباب عن جابر عند أحمد وعبد بن حميد والبزار، وهو الذي أشار إليه المصنف، وفي إسناده عمرو بن جابر وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد. وعن أبي هريرة عند البزار وأبي نعيم والطبراني. وعن ابن عباس عند الطبراني في الاوسط. وعن البراء بن عازب عند الدارقطني. (وقد استدل) بأحاديث الباب على استحباب صوم ستة أيام من شوال، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وداود وغيرهم، وبه قالت العترة، وقال أبو حنيفة ومالك: يكره صومها، واستدلا على ذلك بأنه ربما ظن وجوبها وهو باطل لا يليق بعاقل، فضلا عن عالم نصب مثله في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة، وأيضا يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها ولا قائل به. واستدل مالك على الكراهة بما قال في الموطأ من أنه ما رأى أحدا من أهل العلم يصومها، ولا يخفى أن الناس إذا تركوا العمل بسنة لم يكن تركهم دليلا ترد به السنة. قال النووي في شرح مسلم قال أصحابنا: والافضل أن تصام الست متوالية عقب يوم الفطر، قال: فإن فرقها أو أخرها عن أوائل شوال إلى آخره حصلت فضيلة المتابعة، لانه يصدق أنه اتبعه ستا من شوال. قال قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر، لان
[ 323 ]
الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين، وقد جاء هذا في حديث مرفوع في كتاب النسائي. قوله: ستا من شوال على صيغة المؤنث، ولو قال: ستة بالهاء لكان صحيحا، لان المعدود المميز إذا كان غير مذكور لفظا جاز تذكير مميزه وتأنيثه، يقال: صمنا ستا وستة، وخمسا وخمسة، وإنما يلزم إثبات الهاء مع المذكر إذا كان مذكور لفظا، وحذفها مع المؤنث إذا كان كذلك، وهذه قاعدة مسلوكة صرح بها أهل اللغة وأئمة الاعراب. قوله: بعد الفطر أي بعد اليوم الذي يفطر فيه وهو يوم عيد الافطار، فيحمل المطلق على المقيد، ويكون المراد بالست ثاني الفطر إلى آخر سابعه، ولكنه يبقى النظر في البعدية المذكورة هل يلزم أن تكون متصلة بيوم الفطر بلا فصل؟ أو يجو إطلاقها على كل يوم من أيام شوال لكونها بعد يوم الفطر؟ وهكذا يقال في قوله: ثم أتبعه ستا لان الاتباع يحتمل أن يكون بلا فاصل بين التابع والمتبوع إلا بما لا يصلح للصوم وهو يوم الفطر، ويحتمل أن يجوز إطلاقه مع الفاصل وإن كثر مهما كان التابع في شوال. باب صوم عشر ذي الحجة وتأكيد يوم عرفة لغير الحاج [ رح 1700 ] عن حفصة قالت: أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة رواه أحمد والنسائي. وعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات رواه أحمد وابن ماجة. وعن أم الفضل: أنهم شكوا في صوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم عرفة فأرسلت إليه بلبن فشرب وهو يخطب الناس بعرفة متفق عليه. وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الاسلام وهي أيام أكل وشرب رواه الخمسة الا ابن ماجه وصححه الترمذي حديث حفصة أخرجه أيام أكل وشرب رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه الترمذي أبو داود ولكنه لم يسمها بل قال: عن بعض أزواج
[ 324 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه: قالت كان يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، وأول اثنين من الشهر والخميس. وقد اختلف فيه على هنيدة بن خالد فرواه عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروي عنه عن حفصة. وروي عنه عن أم سلمة. وقد تقدم في كتاب العيدين أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة على العموم والصوم مندرج تحتها. وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة أنها قالت: ما رأيت ت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صائما في العشر قط. وفي رواية: لم يصم العشر قط فقال العلماء: المراد أنه لم يصمها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أن عدم رؤيتها له صائما لا يستلزم العدم، على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها كما في حديث الباب، فلا يقدح في ذلك عدم الفعل. وحديث أبي قتادة روي من طريق جماعة من الصحابة منهم زيد بن أرقم وسهل بن سعد وقتادة بن النعمان وابن عمر عند الطبراني، ومن حديث عائشة عند أحمد. (وفي الباب) عن أنس وغيره، وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا أبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي، وصححه ابن خزيمة والحاكم وفي إسناده مهدي الهجري وهو مجهول. ورواه العقيلي في الضعفاء من طريقه وقال: لا يتابع عليه. قال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسانيد جياد أنه لم يصم يوم عرفة بها، ولا يصح عنه النهي عن صيامه. وحديث أم الفضل أخرج نحوه الشيخان من حديث ميمونة، وأخرجه النسائي والترمذي وابن حبان من حديث ابن عمر بلفظ: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يصم، ومع أبي بكر كذلك، ومع عثمان فلم يصم، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه. وأخرجه النسائي من حديث ابن عباس وحديث عقبة في معناه أحاديث يأتي ذكره بعضها في باب النهي عن صوم العيدين وأيام التشريق. قوله: صيام عاشوراء سيأتي البحث عنه، وكذلك يأتي الكلام على قوله: وثلاثة أيام من كل شهر. قوله: والعشر فيه دليل على استحباب صوم عشر ذي الحجة، وعلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم يوم عرفة، ورواية أبي داود التي قدمنا بلفظ تسع ذي الحجة. قوله: صوم يوم عرفة يكفر سنتين الخ، في بعض ألفاظ الحديث: احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده. وقد استشكل تكفيره السنة الآتية لان التكفير التغطية ولا تكون إلا لشئ قد وقع، وأجيب بأن المراد يكفره بعد وقوعه، أو المراد أنه يلطف به، فلا يأتي بذنب فيها
[ 325 ]
بسبب صيامه ذلك اليوم. وقد قيد ذلك جماعة من المعتزلة وغيرهم بالصغائر. قال النووي فإن لم تكن صغائر كفر من الكبائر، وإن لم تكن كبائر كان زيادة في رفع الدرجات. (والحديث) يدل على استحباب صوم يوم عرفة، وكذلك الاحاديث الواردة في معناه التي قدمنا الاشارة إليها، وإلى ذلك ذهب عمر وعائشة وابن الزبير وأسامة بن زيد وعثمان بن أبي العاص والعترة، وكان ذلك يعجب الحسن ويحكيه عن عثمان، وقال قتادة: إنه لا بأس به إذ لم يضعف عن الدعاء، ونقله البيهقي في المعرفة عن الشافعي في القديم، واختاره الخطابي والمتولي من الشافعية. وحكي في الفتح عن الجمهور أنه يستحب إفطاره حتى قال عطاء: من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم. وقال يحيى بن سعيد الانصاري: أنه يجب فطر يوم عرفة للحاج. (واعلم) أن ظاهر حديث أبي قتادة المذكور في الباب أنه يستحب صوم يوم عرفة مطلقا. وظاهر حديث عقبة بن عامر المذكور في الباب أيضا أنه يكره صومه مطلقا لجعله قريبا في الذكر ليوم النحر وأيام التشريق، وتعليل ذلك بأنها عيد وأنها أيام أكل وشرب. وظاهر حديث أبي هريرة أنه لا يجوز صومه بعرفات، فيجمع بين الاحاديث بأن صوم هذا اليوم مستحب لكل أحد مكروه لمن كان بعرفات حاجا. (والحكمة) في ذلك أنه ربما كان مؤديا إلى الضعف عن الدعاء والذكر يوم عرفة هنالك والقيام بأعمال الحج. وقيل: الحكمة أنه يوم عيد لاهل الموقف لاجتماعهم فيه ويؤيده حديث أبي قتادة. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أفطر فيه لموافقته يوم الجمعة، وقد نهى عن إفراده بالصوم كما سيأتي، ويرد هذا حديث أبي هريرة المصرح بالنهي عن صومه مطلقا. قوله: فشرب وهو يخطب فيه دليل على جواز الاكل والشرب في المحافل من غير كراهة. وفي رواية للبخاري من حديث ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شربه والناس ينظرون إليه. قوله: عيدنا أهل الاسلام فيه دليل على أن يوم عرفة وبقية أيام التشريق التي بعد يوم النحر أيام عيد. باب صوم المحرم وتأكيد عاشوراء قد سبق أنه صلى الله عليه وآله وسلم: سئل أي الصيام بعد رمضان أفضل؟
[ 326 ]
قال: شهر الله المحرم. وعن ابن عباس: وسئل عن صوم عاشوراء فقال: ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صام يوما يطلب فضله على الايام إلا هذا اليوم، ولا شهرا إلا هذا الشهر يعني رمضان. وعن عائشة: قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه. وعن سلمة بن الاكوع قال: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من أسلم أن أذن في الناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء. وعن علقمة أن الاشعث بن قيس دخل على عبد الله وهو يطعم يوم عاشوراء فقال: يا أبا عبد الرحمن إن اليوم يوم عاشوراء فقال: قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان ترك، فإن كنت مفطرا فأطعم. وعن ابن عمر أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن يوم عاشوراء من أيام الله فمن شاء صامه، وكان ابن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صيامه. وعن أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود وتتخذ عيدا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صوموه أنتم. وعنابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى فقال: أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه. وعن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء صام ومن شاء فليفطر متفق على هذه الاحاديث كلها، وأكثرها يدل على أن صومه وجب ثم نسخ، ويقال لم يجب بحال بدليل خبر معاوية، وإنما نسخ تأكيد استحبابه. قوله: قد سبق أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل الخ، هذا الحديث ذكره المصنف رحمه الله تعالى في باب ما جاء في قيام الليل من أبواب صلاة التطوع وهو للجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة. (وفيه دليل) على أن أفضل صيام التطوع صوم شهر المحرم، ولا يعارضه حديث أنس عند الترمذي قال: سئل رسول الله صلى
[ 327 ]
الله عليه وآله وسإلم أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان لتعظيم رمضان لان في إسناده صدقة بن موسى وليس بالقوي. ومما يدل على فضيلة الصيام في المحرم ما أخرجه الترمذي عن علي عليه السلام وحسنه: أنه سمع رجلا يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو قاعد فقال: يا رسول الله أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان فقال: إن كنت صائما بعد شهر رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله فيه يوم تاب فيه على قوم ويتوب فيه على قوم. وقد استشكل قوم إكثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صوم شعبان دون المحرم مع كون الصيام فيه أفضل من غيره، وأجيب عن ذلك بجوابين: الاول أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما علم فضل المحرم في آخر حياته. والثاني لعله كان يعرض له فيه سفر أو مرض أو غيرهما. قوله: عن صوم عاشوراء قال في الفتح: هو بالمد على المشهور وحكى فيه القصر، وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي وأنه لا يعرف في الجاهلية، ورد ذلك ابن دحية بأن ابن الاعرابي حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء كذا في الفتح. وبحديث عائشة المذكور في الباب: أن الجاهلية كانوا يصومونه ولكن صومهم له لا يستلزم أن يكون مسمى عندهم بذلك الاسم. قال في الفتح أيضا. واختلف أهل الشرع في تعيينه فقال الاكثر: هو اليوم العاشر، قال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الاصل صفة الليلة العاشرة لانه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها، فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فامتنعوا عن الموصوف فحذفوا الليلة فصار هذا اللفظ علما على اليوم العاشر، وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا، وضاروراء وسار وراء وذالولاء من الضار والسار والذال. قال الزين بن المنير: الاكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية. وقيل: هو اليوم التاسع فعلى الاول اليوم مضاف الليلة الماضية، وعلى الثاني هو ضاف لليلة الآتية، وقيل: إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذا من أوراد الابل كانوا إذا رعوا الابل ثمانية أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا وردنا عشرا بكسر العين. وروى مسلم من حديث الحكم بن الاعرج: انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه فقلت: أخبرني عن يوم عاشوراء، قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، فقلت: أهكذا
[ 328 ]
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم؟ قال: نعم. وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو التاسع، انتهى كلام الفتح. وقد تأول قوابن عباس هذا الزين بن المنير بأن معناه أنه ينوي الصيام في الليلة المتعقبة للتاسع، وقواه الحافظ بحديث ابن عباس الآتي: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كان المقبل إن شاء الله صمنا التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفي. قال: فإنه ظاهر في أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم العاشر وهم بصوم التاسع فمات قبل ذلك. وأقول: الاولى أن يقال: إن ابن عباس أرشد السائل له إلى اليوم الذي يصام فيه وهو التاسع، ولم يجب عليه بتعيين يوم عاشوراء أنه اليوم العاشر لان ذلك مما لا يسأل عنه، ولا يتعلق بالسؤال عنه فائدة، فابن عبا س لما فهم من السائل أن مقصوده تعيين اليوم الذي يصام فيه أجاب عليه بأنه التاسع. وقوله: نعم بعد قول السائل: أهكذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم؟ بمعنى نعم هكذا كان يصوم لو بقي لانه قد أخبرنا بذلك، ولا بد من هذا لانه صلى الله عليه وآله وسلم مات قبل صوم التاسع، وتأويل ابن المنير في غاية البعد لان قوله: وأصبح يوم التاسع صائما لا يحتمله، وسيأتي لكلام ابن عباس تأويل آخر. قوله: ما علمت الخ، هذا يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الايام للصيام بعد رمضان، ولكن ابن عباس أسند ذلك إلى علمه، فليس فيه ما يرد علم غيره، وقد تقدم أن أفضل الصوم بعد رمضان على الاطلاق صوم المحرم، وتقدم في الباب الذي قبل هذا أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة، وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء. قوله: فلما قدم المدينة صامه فيه تعيين الوقت الذي وقع فيه الامر بصيام عاشوراء وهو أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه كان في ربيع الاول، فحينئذ كان الامر بذلك في أول السنة الثانية، وفي السنة الثانية فرض شهر رمضان، فعلى هذا لم يقع الامر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة، ثم فوض الامر في صومه إلى المتطوع. قوله: من شاء صامه ومن شاء تركه هذا يرد على من قال ببقاء فرضية صوم عاشوراء كما نقله القاضي عياض عن بعض السلف، ونقل ابن عبد البر الاجماع على أنه ليس الآن بفرض، والاجماع على أنه مستحب، وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم، ثم انعقد الاجماع بعده على الاستحباب. قوله: وعن سلمة بن الاكوع قد تقدم شرح هذا الحديث في باب الصبي يصوم إذا أطاق. قوله: إن أهل الجاهلية
[ 329 ]
كانوا يصومون الخ، في حديث عائشة أنها كانت تصومه قريش. قال في الفتح: وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة وغير ذلك. قال الحافظ: ثم رأيت في المجلس الثالث من مجالس الباغندي الكبير عن عكرمة أنه سأل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية فعظم في صدورهم فقيل لهم صوموا عاشوراء يكفر ذلك انتهى. قوله: فرأى اليهود تصوم عاشوراء في رواية لمسلم: فوجد اليهود صياما وقد استشكل ظاهر هذا الخبر لاقتضائه أنه صلى الله عليه وآله وسلم حين قدومه المدينة وجد اليهود صياما يوم عاشوراء، وإنما قدم المدينة في ربيع الاول. وأجيب بأن المراد أن أول علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة أو يكون في الكلام حذف، وتقديره قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فأقام إلى يوم عاشوراء فوجد اليهود فيه صياما، ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة. قوله: فصامه وأمر بصيامه قد استشكل رجوعه صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليهود في ذلك. وأجاب المازري باحتمال أن يكون أوحى إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك، أو أخبره من أسلم منهم كابن سلام، ثم قال: ليس في الخبر أنه ابتدأ الامر بصيامه، بل في حديث عائشة التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك، فغاية ما في القصة أنه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم، ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة أن أهل الجاهلية كانوا يصومون كما تقدم، إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السبب في ذلك. قال القرطبي: وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهم فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك في الوقت الذي يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه. قوله: ولم يكتب عليكم صيامه الخ، هذا كله من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما بينه النسائي. واستدل به على أنه لم يكن فرضا قط كما قال المصنف، قال الحافظ: ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد، ولم يكتب عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته أنه عام خص بالادلة الدالة على تقدم وجوبه، ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سنة الفتح، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الاولى أول العام الثاني، ويؤخذ من مجموع
[ 330 ]
الاحاديث أنه كان واجبا لثبوت الامر بصومه، ثم تأكيد الامر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالامساك، ثم زيادته بأمر الامهات أن لا يرضعن فيه الاطفال. ومقول ابن مسعود الثابت في مسلم لما فرض رمضان ترك عاشوراء، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باق، فدل على أن المتروك وجوبه. وأما قول بعضهم المتروك تأكيد استحبابه والباقي مطلق الاستحباب فلا يخفى ضعفه بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: لئن بقيت لاصومن التاسع كما سيأتي، ولترغيبه فيه وإخباره بأنه يكفر سنة فأي تأكيد أبلغ من هذا؟ وعن ابن عباس قال: لما صام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال: فإذا كان عام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه مسلم وأبو داود. وفي لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لئن بقيت إلى قابل لاصومن التاسع يعني يوم عاشوراء رواه أحمد ومسلم. وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا قبله يوما وبعده يوما رواه أحمد. رواية أحمد هذه ضعيفة منكرة من طريق داود بن علي عن أبيه عن جده، رواها عنه ابن أبي ليلى. قوله: تعظمه اليهود والنصارى استشكل هذا بأن التعليل بنجاة موسى وغرق فرعون مما يدل على اختصاص ذلك بموسى واليهود. وأجيب باحتمال أن يكون سبب تعظيم النصارى أن عيسى كان يصومه، وهو مما لم ينسخ من شريعة موسى، لان كثيرا منها ما نسخ بشريعة عيسى لقوله تعالى: * (ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * (آل عمران: 50) وأكثر الاحكام إنما يتلقاها النصارى من التوراة. وقد أخرج أحمد عن ابن عباس أن السفينة استوت على الجودي فيه فصامه نوح، وموسى شكر الله تعالى، وكان ذكر موسى دون غيره لمشاركته له في الفرح باعتبار نجاتهما وغرق أعدائهما. قوله: صمنا اليوم التاسع يحتمل أن المراد أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر، إما احتياطا له، وإما مخالفة لليهود والنصارى، ويحتمل أن المراد أنه يقتصر على صومه، ولكنه ليس في اللفظ ما يدل
[ 331 ]
على ذلك، ويؤيد الاحتمال الاول قوله في آخر الحديث: صوموا قبله يوما وبعده يوما فإنه صريح في مشروعية ضم اليومين إلى يوم عاشوراء. وقد أخرج الحديث المذكور بمثل اللفظ الذي رواه أحمد البيهقي وذكره في التلخيص وسكت عنه، وقال بعض أهل العلم: إن قوله صمنا التاسع يحتمل أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع، وأنه أراد أن يضيفه إليه في الصوم، فلما توفي قبل ذلك كان الاحتياط صوم اليومين انتهى. والظاهر أن الاحوط صوم ثلاثة أيام التاسع والعاشر والحادي عشر، فيكون صوم عاشوراء على ثلاث مراتب: الاولى صوم العاشر وحده. والثانية صوم التاسع معه. والثالثة صوم الحادي عشر معهما، وقد ذكر معنى هذا الكلام صاحب الفتح. قوله: يعني يوم عاشوراء قد تقدم تأويل كلام ابن عباس بأن يوم عاشوراء هو اليوم التاسع، وتأوله النووي بأنه مأخوذ من إظماء الابل، فإن العرب تسمي اليوم الخامس من أيامه رابعا، وكذا باقي الايام، وعلى هذه النسبة فيكون التاسع عاشرا، قال: وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم ممن قال بذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق، قال: وهذا ظاهر الاحاديث ومقتضى اللفظ، وأما تقدير أخذه من الاظماء فبعيد، انتهى. باب ما جاء في صوم شعبان والاشهر الحرم عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصل رمضان رواه الخمسة. ولفظ ابن ماجة: كان يصوم شهري شعبان ورمضان. وعن عائشة قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله. وفي لفظ: ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان، كان يصومه إقليلا بل كان يصومه كله. وفي لفظ: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان متفق على ذلك كله. حديث أم سلمة حسنه الترمذي. قوله: شهرا تاما إلا شعباوكذا قول عائشة: فإنه كان يصومه كله. وقولها: بل كان يصومه كله، ظاهره يخالف قول عائشة: كان
[ 332 ]
يصومه إلا قليلا. وقد جمع بين هذه الروايات بأن المراد بالكل والتمام الاكثر. وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره. قال الترمذي: كان ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله أن رواية الكل والتمام مفسرة برواية الاكثر ومخصصة بها، وأن المراد بالكل الاكثر، وهو مجاز قليل الاستعمال، واستبعده الطيبي قال: لان لفظ كل تأكيد لارادة الشمول ورفع التجوز، فتفسيره بالبعض مناف له، قال: فيحتمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان، وقيل: المراد بقولها كله أنه كان يصوم من أوله تارة ومن آخره أخر، ومن أثنائه طورا، فلا يخلي شيئا منه من صيام، ولا يخص بعضا منه بصيام دون بعض. وقال الزين بن المنير: إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة والمراد الاكثر، وإما أن يجمع بأن قولها إنه كان يصومه كله متأخر عن قولها إنه كان يصوم أكثره، وأنها أخبرت عن أول الامر ثم أخبرت عن آخره، ويؤيد الاول قولها: ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان أخرجه مسلم والنسائي. (واختلف) في الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وآله وسلم من صوم شعبان فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة الايام من كل شهر لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان، أشار إلى ذلك ابن بطال، ويؤيده ما أخرجه الطبراني في الاوسط عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان ولكن في إسناده ابن أبي ليلى وهو ضعيف. وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان، ويؤيده ما أخرجه الترمذي عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ فقال: شعبان لتعظيم رمضان. ولكن إسناده ضعيف لان فيه صدقة ابن موسى وليس بالقوي. (وقيل الحكمة) في ذلك أن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان فكان يصوم معهن. وقيل: الحكمة أنه يتعقبه رمضان وصومه مفترض فكان يكثر من الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره، لما يفوته من التطوع الذي يعتاده بسبب صوم رمضان، والاولى أن الحكمة في ذلك غفلة الناس عنه لما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن
[ 333 ]
خزيمة من حديث أسامة قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الاعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم ونحوه من حديث عائشة عند أبي يعلى، ولا تعارض بين ما روى عنه صلى الله عليه وآله وسلم من صوم كل شعبان أو أكثره ووصله برمضان، وبين أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني، فإن الجمع بينها ظاهر بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الايام في صيام يعتاده، وقد تقدم تقييد أحاديث النهي عن التقدم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا أن يكون شيئا يصومه أحدكم. (فائدة) ظاهر قوله في حديث أسامة: إن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب، لان الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم كما يعظمون رمضان ورجبا به. ويحتمل أن المراد غفلتهم عن تعظيم شعبان بصومه، كما يعظمون رجبا بنحر النحائر فيه، فإنه كان يعظم بذلك عند الجاهلية وينحرون فيه العتيرة كما ثبت في الحديث، والظاهر الاول لان المراد بالناس الصحابة، فإن الشارع قد كان إذ ذاك محى آثار الجاهلية، ولكن غايته التقرير لهم على صومه وهو لا يفيد زيادة على الجواز. وقد ورد ما يدل على مشروعية صومه على العموم والخصوص، أما العموم فالاحاديث الواردة في الترغيب في صوم الاشهر الحرم وهو منها بالاجماع. وكذلك الاحاديث الوارد في مشروعية مطلق الصوم. وأما على الخصوص فما أخرجه الطبراني عن سعيد بن أبي راشد مرفوعا بلفظ: من صام يوما من رجب فكأنما صام سنة، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب جهنم، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة، ومن صام منه عشرة لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه ومن صام منه خمسة عشر يوما نادى مناد من السماء قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل، ومن زاد زاده الله. ثم ساق حديثا طويلا في فضله. وأخرج الخطيب عن أبي ذر: من صام يوما من رجب عدل صيام شهر. وذكر نحو حديث سعيد بن أبي راشد. وأخرج نحوه أبو نعيم وابن عساكر من حديث ابن عمر مرفوعا. وأخرج أيضا نحوه البيهقي في شعب الايمان عن أنس مرفوعا. وأخرج
[ 334 ]
الخلال عن أبي سعيد مرفوعا: رجب من شهور الحرام وأيامه مكتوبة على أبواب السماء السادسة، فإذا صام الرجل منه يوما وجدد صومه بتقوى الله نطق الباب ونطق اليوم وقالا: يا رب اغفر له، وإذا لم يتم صومه بتقوى الله لم يستغفر له وقيل: خدعتك نفسك وأخرج أبو الفتح بن أبي الفوارس في أماليه عن الحسن مرسلا أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي. وحكى ابن السبكي عن محمد بن منصور السمعاني أنه قال: لم يرد في استحباب صوم رجب على الخصوص سنة ثابتة، والاحاديث التي تروى فيه واهية لا يفرح بها عالم، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه أن عمر كان يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان ويقول: كلوافإنما هو شهر كان تعظمه الجاهلية. وأخرج أيضا من حديث زيد بن أسلم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم رجب فقال: أين أنتم عن شعبان وأخرج عن ابن عمر ما يدل على أنه كان يكره صوم رجب، ولا يخفاك أن الخصوصات إذا لم تنتهض للدلالة على استحباب صومه انتهضت العمومات، ولم يرد ما يدل على الكراهة حتى يكون مخصصا لها. وأما حديث ابن عباس عند ابن ماجة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن صيام رجب ففيه ضعيفان: زيد بن عبد الحميد، وداود بن عطاء. وعن رجل من باهلة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله أنا الرجل الذي أتيتك عام الاول، فقال: فما لي أرى جسمك ناحلا؟ قال: يا رسول الله ما أكلت طعاما بالنهار ما أكلته إلا بالليل، قال: من أمرك أن تعذب نفسك؟ قلت: يا رسول الله، إني أقوى، قال: صم شهر الصبر ويوما بعده، قلت: إني أقوى، قال: صم شهر الصبر ويومين بعده، قلت: إنا أقوى، قال: صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده وصم أشهر الحرم رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وهذا لفظه. الحديث أخرجه أيضا النسائي، وقد اختلف في اسم الرجل الذي من باهلة فقال البغوي أبو القاسم في معجم الصحابة: أن اسمه عبد الله بن الحرث وقال: سكن البصرة وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثا ولم يسمه، وذكر في موضع آخر هذا الحديث، وكذلك قال ابن قانع في معجم الصحابة: أن اسمه عبد الله بن الحرث، والراوي عنه مجيبة الباهلية بضم الميم وكسر الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبعدها باء موحدة مفتوحة وتاء تأنيث، ففي رواية أبي داود عن أبيها أو عمها يعني هذا الرجل،
[ 335 ]
وهكذا قال أبو القاسم البغوي أنها قالت: حدثني أبي أو عمي. وفي رواية النسائي: مجيبة الباهلية عن عمه، وقد ضعف هذ الحديث بعضهم لهذا الاختلاف. قال المنذري وهو متوجه: وفيه نظر لان مثل هذا الاختلاف لا ينبغي أن يعد قادحا في الحديث. قوله: صم شهر الصبر يعني شهر رمضان. قوله: ويوما بعده إلى قوله: وثلاثة أيام بعده فيه دليل على استحباب صوم يوم أو يومين أو ثلاثة بعد شهر رمضان، وقد تقدم أنه يستحب صيام ستة أيام فلا منافاة لان الزيادة مقبولة. قوله: وصم أشهر الحرم هي شهر القعدة والحجة ومحرم ورجب. (وفيه دليل) على مشروعية صومها، أما شهر محرم ورجب فقد قدمنا ما ورد فيهما على الخصوص، وكذلك العشر الاول من شهر ذي الحجة، وأما شهر القعدة وبقية شهر الحجة فلهذا العموم، ولكنه ينبغي أن لا يستكمل صوم شهر منها ولا يصوم جميعها، ويدل على ذلك ما عند أبي داود من هذا الحديث بلفظ: صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك. باب الحث على صوم الاثنين والخميس عن عائشة قالت: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس رواه الخمسة إلا أبا داود، لكنه له من رواية أسامة بن زيد. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تعرض الاعمال كل اثنين وخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم رواه أحمد والترمذي. ولابن ماجة معناه. ولاحمد والنسائي هذا المعنى من حديث أسامة بن زيد. وعن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه رواه أحمد ومسلم وأبو داود. حديث عائشة أخرجه أيضا ابن حبان وصححه وأعله ابن القطان بالراوي عنها وهو ربيعة الجرشي وأنه مجهول، قال الحافظ: وأخطأ في ذلك فهو صحابي، قال الترمذي حديث عائشة هذا حسن صحيح، وحديث أسامة أخرجه أيضا النسائي وفي إسناده
[ 336 ]
رجل مجهول، ولكنه صحح الحديث ابن خزيمة، وحديث أبي هريرة قال الترمذي: حديث غريب، وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وحديث أبي قتادة أخرجه من ذكر المصنف. (وفي الباب) عن حفصة عند أبي داود. (وأحاديث) الباب تدل على استحباب صوم يوم الاثنين والخميس لانهما يومان تعرض فيهما الاعمال. قوله: فقال ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه الولادة والانزال إنما كانا في يوم الاثنين كما جاء في الاحاديث. باب كراهة إفراد يوم الجمعة ويوم السبت بالصوم عن محمد بن عباد بن جعفر قال: سألت جابرا أنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم متفق عليه. وللبخاري في رواية: أن يفرد بصوم. وعن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم رواه الجماعة إلا النسائي، ولمسلم ولا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الايام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ولاحمد: يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده. وعن جويرية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها في يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: تصومين غدا، قالت: لا، قال: فأفطري رواه أحمد والبخاري وأبو داود، وهو دليل على أن التطوع لا يلزم بالشروع. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تصوموا يوم الجمعة وحده. وعن جنادة الازدي قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم جمعة في سبعة من الازد، إناثا منهم وهو يتغذى فقال: هلموا إلى الغداء، فقلنا: يا رسول الله إنا صيام، فقال: أصمتم أمس؟ قلنا: لا، قال: أفتصومون غدا؟ قلنا: لا، قال: فأفطروا، فأكلنا معه، فلما خرج وجلس على المنبر دعا بإناء من ماء فشرب وهو على المنبر والناس ينظرون يريهم أنه لا يصوم يوم الجمعة رواهما أحمد. حديث ابن عباس هو مثل حديث أبي هريرة المتقدم وفي إسناده الحسين بن عبد الله بن عبيد الله، وثقه ابن معين وضعفه الائمة. وحديث جنادة الازدي هو
[ 337 ]
مثل حديث جويرية، وأخرجه أيضا الحاكم، وأخرجه أيضا النسائي بإسناد رجاله رجال الصحيح إلا حذيفة البارقي وهو مقبول. قوله: قال نعم زاد مسلم وأحمد وغيرهما قال: نعم ورب هذا البيت. وفي رواية النسائي: ورب الكعبة ووهم صاحب العمدة فعزاها إلى مسلم. قوله: أن يفرد بصوم فيه دليل على أن النهي المطلق في الرواية الاولى مقيد بالافراد لا إذا لم يفرد الجمعة بالصوم كما يأتي في بقية الروايات. قوله: إلا وقبله يوم أو بعده يوم أي إلا أن تصوموا قبله يوما أو تصوموا بعده يوما، وكذا وقع في رواية الاسماعيلي فقال: إلا أن تصوموا قبله أو بعده. وفي رواية لمسلم: إلا أن تصوموا قبله يوما أو بعده يوما وهذه الروايات تقيد مطلق النهي أيضا. قوله: ولا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي فيه دليل على عدم جواز تخصيص ليلة الجمعة بقيام أو صلاة من بين الليالي. قال النووي في شرح مسلم: وهذا متفق على كراهته، قال: واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب قاتل الله واضعها ومخترعها، فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة وفيها منكرات ظاهرة. وقد صنف جماعة من الائمة مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها ودلائل قبحها وبطلانها وتضليل فاعلها أكثر من أن تحصر والله أعلم انتهى. واستدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام، وقد حكاه ابن المنذر وابن حزم عن علي عليه السلام وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر. قال ابن حزم: ولا نعلم لهم مخالفا في الصحابة. ونقله أبو الطيب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية. وقال ابن المنذر: ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة، كما ثبت عن صوم يوم العيد، وهذا يشعر بأنه يرى تحريمه. وقال أبو جعفر الطبري: يفرق بين العيد والجمعة بأن الاجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده، وذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يكره واستدلا بحديث ابن مسعود الآتي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قل ما كان يفطر يوم الجمعة قال في الفتح: وليس فيه حجة لانه يحتمل أنه كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الايام التي كان يصومها، ولا يضاد ذلك كراهة إفراده بالصوم جمعا بين الخبرين، قال: ومنهم من عده من الخصائص وليس بجيد لانها لا تثبت بالاحتمال انتهى. ويمكن أن يقال: بل دعوى اختصاص صومه به صلى الله عليه وآله وسلم جيدة لما تقرر في الاصول من أن
[ 338 ]
فعله صلى الله عليه وآله وسلم لما نهى عنه نهيا يشمله يكون مخصصا له وحده من العموم، ونهيا يختص بالامة لا يكون فعله معارضا له إذا لم يقم دليل يدل على التأسي به في ذلك الفعل لخصوصه لا مجرد أدلة التأسي العامة، فإنها مخصصة بالنهي للامة لانه أخص منها مطلقا. ومن غرائب المقام ما احتج له بعض المالكية على عدم كراهة صوم يوم الجمعة فقال: يوم لا يكره صومه مع غيره فلا يكره وحده، وهذا قياس فاسد الاعتبار، لانه منصور في مقابلة النصوص الصحيحة، وأغرب من ذلك قول مالك في الموطأ: لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدي به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن، وقد رأيت بعضهم يصومه وأراه كان يتحراه، قال النووي والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم الجمعة فيتعين القول به، ومالك معذور فإنه لم يبلغه. قال الداودي من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه. (وقد اختلف) في سبب كراهة إفراد يوم الجمعة بالصيام على أقوال ذكرها صاحب الفتح منها لكونه عيدا، ويدل على ذلك رواية أحمد المذكورة في الباب، واستشكل التعليل بذلك بوقوع الاذن من الشارع بصومه مع غيره، وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم الاستواء من كل وجه، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم. ومنها لئلا يضعف عن العبادة ورجحه النووي. قال في الفتح: وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه. وأجاب النووي بأنه يحصل بفضيلة اليوم الذي قبله أو بعده جبر ما يحصل به يوم صومه من فتور أو تقصير. قال الحافظ: وفيه نظر، فإن الجبر لا ينحصر في الصوم بل يحصل بجميع أفعال الجبر، فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيرا كثيرا يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده، كمن أعتق فيه رقبة مثلا ولا قائل بذلك، وأيضا فكأن النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف لا من يتحقق منه القوة، ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت مقام المئنة كما في جواز الفطر في السفر لمن لم يشق عليه. ومنها خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت، قال في الفتح: وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام وخوف اعتقاد وجوبه. قال في الفتح أيضا: وهو منتقض بصوم الاثنين والخميس. ومنها خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وآله وسلم من قيام الليل ذلك قاله المهلب. قال في الفتح: وهو منتقض بإجازة صومه مع غيره، وبأنه لو كان السبب ذلك لجاز صومه بعده صلى الله عليه وآله وسلم لارتفاع الخشية. ومنها مخالفة النصارى لانه يجب عليهم صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم،
[ 339 ]
قال في الفتح: وهو ضعيف. وأقوى الاقوال وأولاها بالصواب الاول لما تقدم من حديث أبي هريرة وقد أخرجه الحاكم أيضا، ولما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي عليه السلام قال: من كان منكم متطوعا من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر. [ رح 1726 ] وعن عبد الله بن بسر عن أخته واسمها الصماء: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تصوموا يوم السبت إفيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لحاء شجرة فليمضغه رواه الخمسة إلا النسائي. وعن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلما كان يفطر يوم الجمعة رواه الخمسة إلا أبا داود، ويحمل هذا على أنه كان يصومه مع غيره. الحديث الاول أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والطبراني والبيهقي وصححه ابن السكن. قال أبو داود في السنن قال مالك: هذا الحديث كذب، وقد أعل بالاضطراب كما قال النسائي لانه روي كما ذكر المصنف. وروي عن عبد الله بن بسر وليس فيه عن أخته كما وقع لابن حبان، قال الحافظ: وهذه ليست بعلة قادحة فإنه أيضا صحابي، وقيل عنه عن أبيه بسر. وقيل عنه عن أخته الصماء عن عائشة. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون عند عبد الله عن أبيه وعن أخته، وعند أخته بواسطة، قال: ولكن هذا لتلون في الحديث الواحد بالاسناد الواحد مع اتحاد المخرج يوهن الرواية وينبئ عقلة ضبطه، إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث، فلا يكون ذلك دالا على قلة ضبطه، وليس الامر هنا كذا، بل اختلف فيه أيضا على الراوي عبد الله بن بسر. وقد ادعى أبو داود أن هذا الحديث منسوخ، قال في التلخيص: ولا يتبين وجه النسخ فيه، ثم قال: يمكن أن يكون أخذه من كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الامر ثم في آخر الامر، قال: خالفوهم والنهي عن يوم السبت يوافق الحالة الاولى، وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية، وهذه صورة النسخ والله أعلم انتهى. وقد أخرج النسائي والبيهقي وابن حبان والحاكم عن كريب: أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثوه إلى أم سلمة يسألها عن الايام التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر لها صياما فقالت: يوم السبت والاحد فرجعت إليهم، فكأنهم أنكروا ذلك فقاموا بأجمعهم إليها فسألوها فقالت: صدق، وكان يقول: إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أريد أن أخالفهم وصحح الحاكم إسناده،
[ 340 ]
وصححه أيضا ابن خزيمة. وروى الترمذي محديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم من الشهر السبت والاحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والاربعاء والخميس وسيأتي. وقد جمع صاحب البدر المنير بين هذه الاحاديث فقال: النهي متوجه إلى الافراد والصو باعتبار انضمام ما قبله أو بعده إليه، ويؤيد هذا ما تقدم من إذنه صلى الله عليه وآله وسلم لمن صام الجمعة أن يصوم السبت بعدها، والجمع مهما أمكن أولى من النسخ. والحديث الثاني حسنه الترمذي. وقال ابن عبد البر: هو صحيح ولا مخالفة بينه وبين الاحاديث السابقة، وأنه محمول على أنه كان يصله بيوم الخميس. وروى بسنده إلى أبي هريرة أنه قال: من صام الجمعة كتب له عشرة أيام من أيام الآخرة لا يشاكلهن أيام الدنيا وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مفطرا يوم الجمعة قط وقد تقدم الكلام على صوم يوم الجمعة. قوله: أو لحاء شجرة اللحاء: بكسر اللام بعدها حاء مهملة قشر الشجر. باب صوم أيام البيض وصوم ثلاثة أيام من كل شهر وإن كانت سواها عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة رواه أحمد والنسائي والترمذي. وعن أبي قتادة قال: قارسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صياالدهر كله رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم من الشهر السبت والاحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والاربعاء والخميس رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر، فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (الانعام: 160) اليوم بعشرة رواه ابن ماجة والترمذي. حديث أبي ذر الاول أخرجه أيضا ابن حبان وصححه. ولفظه عند النسائي
[ 341 ]
والترمذي قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة. وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة. ورواه النسائي من حديث جرير مرفوعا، قال الحافظ: وإسناده صحيح. ورواه ابن أبي حاتم في العلل عن جرير موقوفا، وصحح عن أبي زرعة وقفه. وأخرجه أبو داود والنسائي من طريق ابن ملحان القيسي عن أبيه. وأخرجه البزار من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر. وحديث عائشة روي موقوفا قال في الفتح: وهو أشبه. وحديث أبي ذر الآخر حسنه الترمذي. (وفي الباب) عن ابن مسعود عند أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر وعن حفصة عند أبي داود والنسائي: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الاخرى. وعن عائشة غير حديث الباب عند مسلم قالت: كان صلى الله عليه وآله وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام لا يبالي من أي الشهر صام. وعن أبي هريرة غير حديثه الاول عند الشيخين بلفظ: أوصاني خليلي بصيام ثلاثة أيام. وعن ابن عباس عند النسائي بلفظ: كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر وسيأتي. وعن قرة بن إياس المزني وأبي عقرب وعثمان بن أبي العاص أشار إلى ذلك الترمذي. قوله: فصم ثلاث عشرة الخ، فيه دليل على استحباب صوم أيام البيض وهي الثلاثة المعينة في الحديث، وقد وقع الاتفاق بين العلماء على أنه يستحب أن تكون الثلاث المذكورة في وسط الشهر كما حكاه النووي، واختلفوا في تعيينها، فذهب الجمهور إلى أنها ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر. وقيل: هي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر. وحديث أبي ذر المذكور في الباب وما ذكرنا من الاحاديث الواردة في معناه يرد ذلك. قوله: ثلاث من كل شهر الخ، اختلفوا في تعيين هذه الثلاثة الايام المستحبة من كل شهر، ففسرها عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو ذر وغيرهم من الصحابة. وجماعة من التابعين وأصحاب الشافعي بأيام البيض. ويشكل على هذا قول عائشة المتقدم: لا يبالي من أي الشهر صام. وأجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعله كان يعرض له ما يشغله من مراعاة ذلك، أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز، وكل ذلك في حقه أفضل،
[ 342 ]
والذي أمر به قد أخبر به أمته ووصاهم به وعينه لهم، فيحمل مطلق الثلاث على الثلاث المقيدة بالايام المعينة، واختار النخعي وآخرون أنها آخر الشهر، واختار الحسن البصري وجماعة أنها من أوله، واختارت عائشة وآخرون صيام السبت والاحد والاثنين من عدة شهر، ثم الثلاثاء والاربعاء والخميس من الشهر الذي بعده، للحديث المذكور في الباب عنها. وقال البيهقي: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام لا يبالي من أي الشهر صام كما في حديث عائشة، قال: فكل من رآه فعل نوعا ذكره وعائشة رأت جميع ذلك فأطلقت. وقال الروياني: صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، فإن اتفقت أيام البيض كان أحب. وفي حديث رفعه ابن عمر: أول اثنين في الشهر وخميسان بعده. وروي عن مالك أنه يكره تعيين الثلاث. قال في الفتح وفي كلام غير واحد من العلماء: أن استحباب صيام أيام البيض غير استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر انتهى. وهذا هو الحق لان حمل المطلق على المقيد ههنا متعذر، وكذلك استحباب السبت والاحد والاثنين من شهر، والثلاثاء والاربعاء والخميس من شهر غير استحباب ثلاثة أيام من كل شهر، وقد حكى الحافظ في الفتح في تعيين الثلاثة الايام المطلقة عشرة أقوال وقد ذكرنا أكثرها، والحق أنها تبقى على إطلاقها فيكون الصائم مخيرا وفي أي وقت صامها فقد فعل المشروع لكن لا يفعلها في أيام البيض. (فالحاصل) من أحاديث الباب استحباب صيام تسعة أيام من كل شهر: ثلاثة مطلقة، وأيام البيض والسبت والاحد والاثنين في شهر والثلاثاء والاربعاء والخميس في شهر. قوله: فذلك صيام الدهر وذلك لان الحسنة بعشرة أمثالها، فيعدل صيام الثلاثة الايام من كل شهر صيام الشهر كله فيكون كمن صام الدهر. باب صيام يوم وفطر يوم وكراهة صوم الدهر عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: صم في كل شهر ثلاثة أيام، قلت: إني أقوى من ذلك، فلم يزل يرفعني حتى قال: صم يوما وأفطر يوما فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي داود عليه السلام. وعن عبد الله بن عمرو
[ 343 ]
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا صام من صام الابد متفق عليهما. وعن أبي قتادة قال: قيل يا رسول الله كيف بمن صام الدهر؟ قال: لا صام ولا أفطر، أو لم يصم ولم يفطر رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا وقبض كفه رواه أحمد. ويحمل هذا على من صام الايام المنهي عنها. حديث أبي موسى أخرجه أيضا ابن حبان وابخزيمة والبيهقي وابن أبي شيبة. ولفظ ابن حبان: ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين. وأخرجه أيضا البزار والطبراني، قال في مجمع الزوائد: ورجاله رجال الصحيح. (وفي الباب) عن عبد الله بن الشخير عند أحمد وابن حبان بلفظ: من صام الابد فلا صام ولا أفطر وعن عمران بن حصين أشار إليه الترمذي. قوله: فإنه أفضل الصيام مقتضاه أن الزيادة على ذلك من الصوم مفضولة، وسيأتي البحث عن ذلك قوله: لا صام من صام الابد استدل بذلك على كراهية صوم الدهر. قال ابن التين: استدل على الكراهة من وجوه نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الزيادة وأمره بأن يصوم ويفطر. وقوله: لا أفضل من ذلك ودعاؤه على من صام الابد. وقيل معنى قوله: لا صام النفي أي ما صام كقوله تعالى: * (فلا صدق ولا صلى) * (القيامة: 31) ويدل على ذلك ما عند مسلم من حديث أبي قتادة بلفظ: ما صام وما أفطر. وما عند الترمذي بلفظ: لم يصم ولم يفطر قال في الفتح: أي لم يحصل أجر الصوم لمخالفته ولم يفطر لانه أمسك. وإلى كراهة صوم الدهر مطلقا ذهب إسحاق وأهل الظاهر وهي رواية عن أحمد. وقال ابن حزم: يحرم ويدل للتحريم حديث أبي موسى المذكور في الباب لما فيه من الوعيد الشديد. (وذهب الجمهور) كما في الفتح إلى استحبا ب صومه، وأجابوا عن حديث ابن عمرو وحديث أبي قتادة بأنه محمول على من كان يدخل على نفسه مشقة أو يفوت حقا، قالوا: ولذلك لم ينه صلى الله عليه وآله وسلم حمزة بن عمرو الاسلمي وقد قال له: يا رسول الله إني أسرد الصوم، ويجاب عن هذا بأن سرد الصوم لا يستلزم صوم الدهر، بل المراد أنه كان كثير الصوم، كما وقع ذلك في رواية الجماعة المتقدمة في باب الفطر والصوم في السفر. ويؤيد عدم الاستلزام ما أخرجه أحمد من حديث أسامة: أن النبي صلى الله
[ 344 ]
عليه وآله وسلم كان يسرد الصوم مع ما ثبت أنه لم يصم شهرا كاملا إلا رمضان. وأجابوا عن حديث أبي موسى بحمله على من صامه جميعا ولم يفطر في الايام المنهي عنها كالعيدين وأيام التشريق، وهذا هو اختيار ابن المنذر وطائفة. وأجيب عنه بأن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا صام ولا أفطر لمن سأله عن صوم الدهر أن معناه أنه لا أجر له ولا إثم عليه، ومن صام الايام المحرمة لا يقال فيه ذلك لانه أثم بصومها بالاجماع. وحكى الاثرم عن مسدد أنه قال معنى حديث أبي موسى ضيقت عليه جهنم فلا يدخلها، وحكى مثله ابن خزيمة عن المزني ورجحه الغزالي. والملجئ إلى هذا التأويل أن من ازداد الله عملا صالحا ازداد عنده رفعة وكرامة. قال في الفتح: وتعقب بأن ليس كل عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله تقربا، بل رب عمل صالح إذا ازداد منه ازداد بعدا، كالصلاة في الاوقات المكروهة انتهى. وأيضا لو كان المراد ما ذكروه لقال: ضيقت عليه، واستدلوا على الاستحباب بما وقع في بعض طرق حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: فإن الحسنة بعشرة أمثالها وذلك مثل صيام الدهر. وبما تقدم في حديث: من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر. وبما تقدم في صيام أيام البيض أنه مثل صوم الدهر. قالوا: والمشبه به أفضل من المشبه، فكان صيام الدهر أفضل من هذه المشبهات، فيكون مستحبا وهو المطلوب. قال الحافظ: وتعقب بأن التشبيه في الامر المقدر لا يقتضي جواز المشبه به فضلا عن استحبابه، وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما. ومن المعلوم أن المكلف لا يجوز له صيام جميع السنة، فلا يدل التشبيه على أفضلية المشبه به من كل وجه، واختلف المجوزون لصيام الدهر هل هو الافضل أو صيام يوم وإفطار يوم؟ فذهب جماعة منهم إلى أن صوم الدهر أفضل، واستدلوا على ذلك بأنه أكثر عملا فيكون أكثر أجرا، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن زيادة الاجر بزيادة العمل ههنا معارضة باقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى، فالاولى التفويض إلى حكم الشارع، وقد حكم بأن صوم يوم وإفطار يوم أفضل الصيام، هذا معنى كلامه، ومما يرشد إلى أن صوم الدهر من جملة الصيام المفضل عليه صوم يوم وإفطار يوم، أن ابن عمرو طلب أن يصوم زيادة على ذلك المقدار، فأخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أفضل الصيام.
[ 345 ]
باب تطوع المسافر والغازي بالصوم وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يفطر أيام البيض في حضر ولاسفر رواه النسائي. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا رواه الجماعة إلا أبا داود. الحديث الاول في إسناده يعقوب بن عبد الله القمي وجعفر بن أبي المغيرة القمي وفيهما مقال. وفيه دليل على استحباب صيام أيام البيض في السفر، ويلحق بها صوم سائر التطوعات المرغب فيها. والحديث الثاني يدل على استحباب صوم المجاهد، لان المراد بقوله في سبيل الله الجهاد. قال النووي: وهو محمول على من لا يتضرر به ولا يفوت به حقا، ولا يختل قتاله ولا غيره من مهمات غزوه. ومعناه المباعدة عن النار والمعافاة منها مسيرة سبعين سنة. باب في أن صوم التطوع لا يلزم بالشروع عن أبي جحيفة قال: آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال: كل فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولاهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدق سلمان رواه البخاري والترمذي وصححه. قوله: متبذلة بفتح المثناة الفوقية والموحدة بعدها وتشديد الذال المعجمة المكسورة، أي لابسة ثياب البذلة بكسر الموحدة وسكون الذال وهي المهنة وزنا ومعنى، والمراد أنها تاركة للبس ثياب الزينة. وفي رواية للكشميهني: متبذلة بتقديم
[ 346 ]
الموحدة وتخفيف الذال المعجمة والمعنى واحد. قوله: ليست له حاجة في الدنيا زاد ابن خزيمة: يصوم النهار ويقوم الليل. قوله: فقال كل القائل أبو الدرداء على ظاهر هذه الرواية وهي لفظ الترمذي، ولفظ البخاري: فقال: كل، قال: فإني صائم فيكون القائل سلمان. قوله: فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل في رواية للبزار: فقال: أقسمت عليك لتفطرن. وكذا رواه ابن خزيمة والدارقطني والطبراني وابن حبان. قوله: فلما كان من آخر الليل في رواية ابن خزيمة: فلما كان عند السحر. وعند الترمذي: فلما كان عند الصبح وللدارقطني: فلما كان في وجه الصبح. قوله: ولاهلك عليك حقازاد الترمذي وابن خزيمة: ولضيفك عليك حقا. وزاد الدارقطني: فصم وأفطر وصل ونم وائت أهلك. قوله: صدق سلمان فيه دليل على مشروعية النصح للمسلم وتنبيه من غفل، وفضل قيام آخر الليل، وثبوت حق المرأة على الزوج في حسن العشرة وجواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل، وتفويت الحقوق المطلوبة، وكراهة الحمل على النفس في العبادة، وجواز الفطر من صوم التطوع، وسيأتي الكلام عليه. [ رح 1739 ] وعن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها فدعا بشراب فشرب ثم ناولها فشربت فقالت: يا رسول الله أما أني كنت صائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر رواه أحمد والترمذي. وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرب شرابا فناولها لتشرب فقالت: إني صائمة ولكني كرهت أن أرد سؤرك، فقال: يعني إن كان قضاء من رمضان فاقضي يوما مكانه، وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي رواه أحمد وأبو داود بمعناه. وعن عائشة قالت: أهدي لحفصة طعام وكنا صائمتين فأفطرنا، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: يا رسول الله إنا أهديت لنا هدية واشتهيناها فأفطرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا عليكما صوما مكانه يوما آخر رواه أبو داود وهذا أمر ندب بدليل قوله لا عليكما. حديث أم هانئ‌أخرجه أيضا الدارقطني والطبراني والبيهقي وفي إسناده سماك، وقد اختلف عليه فيه، وقال النسائي: سماك ليس يعتمد عليه إذا انفرد، وقال البيهقي: في إسناده
[ 347 ]
مقال، وكذلك قال الترمذي وفي إسناده أيضا هارون ابن أم هانئ، قال ابن القطان: لا يعرف، وفي إسناده أيضا يزيد بن أبي زياد الهاشمي قال ابن عدي: يكتب حديثه، وقال الذهبي: صدوق ردئ الحفظ، وقد غلط سماك في هذا الحديث فقال في بعض الروايات: إن ذلك كان يوم الفتح وهي عند النسائي والطبراني، ويوم الفتح كان في رمضان، فكيف يتصور أن تكون صائمة قضاء أو تطوعا. وحديث عائشة أخرجه أيضا النسائي وفي إسناده زميل. قال النسائي: ليس بالمشهور، وقال البخاري: لا يعرف لزميل سماع من عروة ولا ليزيد، يعني يزيد بن الهاد سماع من زميل، ولا تقوم به الحجة. وقال الخطابي: إسناده ضعيف وزميل مجهول. وأخرج الحديث الترمذي بلفظ: اقضيا يوما آخر مكانه وقال: رواه ابن أبي حفصة وصالح بن أبي الاخضر عن الزهري عن عروة عن عائشة مثل هذا يعني مرفوعا. ورواه مالك بن أنس ومعمر وعبيد الله بن عمر وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري عن عائشة مرسلا، ولم يذكروا فيه عروة وهذا أصح، لانه روي عن ابن جريج قال: سألت الزهري قلت له: أحدثك عروة عن عائشة؟ قال: لم أسمع من عروة في هذا شيئا، ولكني سمعت في خلافة سليمان بن عبد الملك من ناس عن بعض من سأل عائشة عن هذا الحديث فذكره ثم أسنده كذلك. وقال النسائي: هذا خطأ. وقال ابن عيينة في روايته: سئل الزهري عنه أهو عن عروة؟ فقال: لا. وقال الخلال: اتفق الثقات على إرساله، وتوارد الحفاظ على الحكم بضعفه، وضعفه أحمد والبخاري والنسائي بجهالة زميل. (وفي الباب) عن عائشة غير الحديث المذكور في الباب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها ذات يوم فقال: هل عندكم من شئ؟ فقدمت له حيسا فقال: لقد أصبحت صائما فأكل منه. وقد تقدم في باب وجوب النية، وزاد النسائي: فأكل وقال: أصوم يوما مكانه. قال النسائي: هي خطأ يعني الزيادة، ونسب الدارقطني الوهم فيها إلى محمد بن عمر الباهلي، ولكن رواها النسائي من غير طريقه. وكذا الشافعي. (وفي الباب) أيضا عن أبي سعيد عند البيهقي بإسناد قال الحافظ: حسن، قال: صنعت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طعاما فلما وضع قال رجل: أنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعاك أخوك وتكلف لك أفطر فصم مكانه إن شئت. (والاحاديث) المذكورة في الباب تدل على أنه يجوز لمن صام
[ 348 ]
تطوعا أن يفطر لا سيما إذا كان في دعوة إلى طعام أحد من المسلمين. ويدل على أنه يستحب للمتطوع القضاء لذلك اليوم. وقد ذهب إلى ذلك الجمهور من أهل العلم. وحكى الترمذي عن قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم رأوا عليه القضاء إذا أفطر، قال: وهو قول مالك بن أنس. واستدلوا بحديث عائشة المذكور. وبحديث أبي سعيد في الباب وأجيب عن ذلك بما في حديث أم هانئ من التخيير، فيجمع بينه وبين حديث عائشة وأبي سعيد بحمل القضاء على الندب، ويدل على جواز الافطار وعدم وجوب القضاء حديث أبي جحيفة المتقدم، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرر ذلك، ولم يبين لابي الدرداء وجوب القضاء عليه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. قال ابن المنير: ليس في تحريم الاكل في صوم النفل من غير عذر إلا الادلة العامة كقوله تعالى: * (ولا تبطلوا أعمالكم) * (محمد: 33) إلا أن الخاص يقدم على العام كحديث سلمان، وقال ابن عبد البر: من احتج في هذا بقوله تعالى: * (ولا تبطلوا أعمالكم) * (محمد: 33) فهو جاهل بأقوال أهل العلم، فإن الاكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء كأنه قال: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء بل أخلصوها لله. وقال آخرون: لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر، ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يفرض الله عليه ولا أوجب على نفسه بنذر أو غيره لامتنع عليه الافطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب وهم لا يقولون بذلك انتهى. ولا يخفى أن الآية عامة، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الاصول، والصواب ما قال ابن المنير. قوله: لا عليكما فيه دليل على أنه يجوز لمن كان صائما عن قضاء أن يفطر ولا إثم عليه لانه صلى الله عليه وآله وسلم لم يستفصل هل الصوم قضاء أو تطوع؟ ويؤيد ذلك قوله في حديث أم هانئ: إن كان قضاء من رمضان فأقضي يوما مكانه. قوله: يعني هذه اللفظة ليست في متن الحديث. باب ما جاء في استقبال رمضان باليوم واليومين وغير ذلك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكو رجل كان يصوم صوما فليصمه
[ 349 ]
رواه الجماعة. [ رح 1742 ] وعن معاوية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر قبل شهر رمضان: الصيام يوم كذوكذا ونحن متقدمون فمن شاء فليتقدم تأخر رواه ابن ماجة. ويحمل هذا على التقدم بأكثر من يومين. وعن عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا؟ قال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإذا أفطرت رمضان فصم يومين مكانه متفق عليه. وفي رواية لهم: من سرر شعبان ويحمل هذا على أن الرجل كانت له عادة بصيام سرر الشهر أو قد نذره. حديث معاوية في إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن مولى بني أمية وفيه مقال، والهيثم بن حميد وفيه أيضا مقال. قوله: لا يتقدمن أحدكم الخ، قال العلماء: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان قال الترمذي: لما أخرج هذا الحديث العمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان بمعنى رمضان انتهى. وإنما اقتصر على يوم أو يومين لانه الغالب فيمن يقصد ذلك. وقد قطع كثير من الشافعية بأن ابتداء المنع من أول السادس عشر من شعبان، واستدلوا بحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره. وقال الروياني من الشافعية: يحرم التقدم بيوم أو يومين لحديث الباب، ويكره التقدم من نصف شعبان للحديث الآخر. وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوعا بعد النصف من شعبان، وضعفوا الحديث الوارد في النهي عنه. وقد قال أحمد وابن معين: إنه منكر. وقد استدل البيهقي على ضعفه بحديث الباب، وكذا صنع قبله الطحاوي واستظهر بحديث أنس مرفوعا: أفضل الصيام بعد رمضان شعبان لكن إسناده ضعيف كما تقدم، واستظهر أيضا بحديث عمران بن حصين المذكور في الباب لقوله فيه: من سرر شعبان والسرر بفتح السين المهملة ويجوز كسرها وضمها، ويقال أيضا سرار بفتح أوله وكسره، ورجح الفراء الفتح وهو من الاستسرار، قال أبو عبيدة والجمهور: المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سميت بذلك لاستسراء القمر فيها وهي ليلة ثمان وعشرين، وتسع وعشرين، وثلاثين، ونقل
[ 350 ]
أبو داود عن الاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أن سرره أوله. ونقل الخطابي عن الاوزاعي كالجمهور، وقيل: السرر وسط الشهر، حكاه أبو داود أيضا ورجحه بعضهم. ووجهه بأن السرر جمع سرة وسرة الشئ وسطه. ويؤيده الندب إلى صيام البيض وهي وسط، وإن لم يرد في صيام آخر الشهر ندب، بل ورد فيه نهي خاص بآخر شعبان لمن صامه لاجل رمضان. ورجحه النووي بأن مسلما أفرد الرواية التي فيها سرة هذا الشهر عن بقية الروايات، وأردف بها الروايات التي فيها الحث على صيام البيض وهي وسط الشهر كما تقدم. وقد قال الخطابي: إن بعض أهل العلم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن سؤاله عن ذلك سؤال زجر وإنكار، لانه قد نهى أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين، وتعقب بأنه لو أنكر ذلك لم يأمره بقضائه، وأجاب الخطابي باحتمال أن يكون الرجل أوجبها على نفسه فلذلك أمره بالوفاء، وأن يقضي ذلك في شوال، وقال آخرون: فيه دليل على أن النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين إنما هو لمن يقصد به التحري لاجل رمضان، وأمامن لم يقصد ذلك فلا يتناوله النهي، وهو خلاف ظاهر حديث النهي، لانه لم يستثمنه إلا من كانت له عادة. وقال القرطبي: الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك، وحمل الامر على من له عادة وهذا هو الظاهر، وقد استثنى من له عادة في حديث النهي بقوله: إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما فليصمفلا يجوز صوم النفل المطلق الذي لم تجربها عادة، وكذلك يحمل حديث معاوية المذكور في الباب بعد ثبوته على من كان معتادا للصوم في ذلك الوقت. وأما قول المصنف: أنه يحمل على التقدم بأكثر من يومين فغير ظاهر، لان حديث العلاء بن عبد الرحمن المتقدم يدل على المنع من صوم النصف الآخر من شعبان، وقد جمع الطحاوي بين حديث النهي. وحديث العلاء بأن حديث العلاء محمول على من يضعفه الصوم، وحديث الباب مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان. قال في الفتح: وهو جمع حسن. (وقد اختلف) في الحكمة في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، فقيل: هي التقوى بالفطر لرمضان ليدخل فيه بقوة ونشاط وفيه نظر، لان مقتضى الحديث أنه لو تقدمه بصوم ثلاثة أيام أو أربعة أيام جاز. وقيل: الحكمة خشية اختلاط النفل بالفرض وفيه نظر، لانه يجوز لمن له عادة كما تقدم. وقيل: لان الحكم معلق بالرؤية فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم. قال في الفتح: وهذا هو المعتمد ولا يرد عليه صوم من اعتاد ذلك لانه قد أذن له فيه وليس
[ 351 ]
من الاستقبال في شئ، ويلحق به القضاء والنذر لوجوبهما، قال بعض العلماء: يستثنى القضاء والنذر بالادلة القطعية على وجوب الوفاء بهما، فلا يبطل القطعي بالظني. وفي حديث أبي هريرة بيان لمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الماضي: صوموا لرؤيته فإن اللام فيه للتأقيت لا للتعليل. قال ابن دقيق العيد: ومع كونها محمولة على التأقيت فلا بد من ارتكاب مجاز، لان وقت الرؤية وهي الليل لا يكون محل الصوم، وتعقبه الفاكهي بأن المراد بقوله: صوموا انووا الصيام والليل كله طرف للنية. قال الحافظ: فوقع في المجاز الذي فر منه، لان الناوي ليس صائما حقيقة، بدليل أنه يجوز له الاكل والشرب بعد النية إلى أن يطلع الفجر. باب النهي عن صوم العيدين وأيام التشريق عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم النحر متفق عليه. وفي لفظ لاحمد والبخاري: لا صوم في يومين. ولمسلم: لا يصح الصيام في يومين وفي الباب عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وابن عمر بنحو حديث الباب، وهي في صحيح البخاري ومسلم، وتفرد به مسلم من حديث عائشة. قال النووي في شرح صحيح مسلم: وقد أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال، سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك، ولو نذر صومهما متعمدا لعينهما. قال الشافعي والجمهور: لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما. وقال أبو حنيفة: ينعقد ويلزمه قضاؤهما، قال: فإن صامهما أجزأه، وخالف الناس كلهم في ذلك انتهى. وبمثل قول أبي حنيفة قال المؤيد بالله والامام يحيى. وقال زيد بن علي والهادوية: يصح النذر بصيامهما، ويصوم في غيرهما، ولا يصح صومه فيهما، وهذا إذا نذر صومهما بعينهما كما تقدم. وأما إذا نذر صوم يوم الاثنين مثلا فوافق يوم العيد فقال النووي: لا يجوز له صوم العيد بالاجماع، قال: وهل يلزمه القضاء؟ فيه خلا ف للعلماء، وفيه للشافعي قولان: أصحهما لا يجب قضاؤه لان لفظه لم يتناول القضاء، وإنما يجب قضاء الفرائض بأمر جديد على المختار عند الاصوليين، انتهى. والحكمة) في النهي عن صوم العيدين أن فيه
[ 352 ]
إعراضا عن ضيافة الله تعالى لعباده كما صرح بذلك أهل الاصول. وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه وأوس ابن الحدثان أيام التشريق فناديا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب رواه أحمد ومسلم. وعن سعد بن أبي وقاص قال: أمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أنادي أيام منى أنها أيام أكل وشراب ولا صوم فيها يعني أيام التشريق رواه أحمد. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن صوم خمسة أيام في السنة: يوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق رواه الدارقطني. وعن عائشة وابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي رواه البخاري. وله عنهما أنهما قالا: الصيام لمن تمتبالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هديا ولم يصم صام أيام منى. حديث سعد بن أبي وقاص أخرجه أيضا البزار، قال في مجمع الزوائد: ورجالهما يعني أحمد والبزار رجال الصحيح. وحديث أنس في إسناده محمد بن خالد الطحان وهو ضعيف. (وفي الباب) عن عبد الله بن حذافة السهمي عند الدارقطني بلفظ: لا تصوموا في هذه الايام فإنها أيام أكل وشرب وبعال يعني أيام منى، وفي إسناده الواقدي. وعن أبي هريرة عند الدارقطني وفي إسناده سعد بن سلام وهو قريب من الواقدي وفيه أن المنادي بديل بن ورقاء. وأخرجه أيضا ابن ماجة من وجه آخر وابن حبان. وعن ابن عباس عند الطبراني بنحو حديث عبد الله بن حذافة وفيه: والبعال وقاع النساء، وفي إسناده إسماعيل بن أبي حبيب وهو ضعيف. وعن عمر بن خلدة عن أبيه عند أبي يعلى، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه بنحوه وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف. وعن ابن مسعود بن الحكم عن أمه عند النسائي: أنها رأت وهي بمنى في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راكبا يصيح يقول: يا أيها الناس إنها أيام أكل وشرب ونساء وبعال وذكر الله، قالت فقلت: من هذا؟ فقالوا: علي بن أبي طالب. وأخرجه البيهقي من هذا الوجه لكن قال: إن جدته حدثته. وأخرجه ابن يونس في تاريخ مصر من طريق يزيد بن الهاد عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قال يزيد: فسألت عنها فقيل: إنها جدته. وعن نبيشة الهذلي عند مسلم في صحيحه بلفظ: أيام التشريق
[ 353 ]
أيام أكل وشراب. وأخرجه ابن حبان عن أبي هريرة بنحوه. وأخرجه النسائي عن بشر بن سحيم بنحوه. وعن عقبة بن عامر عند أصحاب السنن، وابن حبان والحاكم والبزار بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيام التشريق أيام أكل وشرب وصلاة فلا يصومها أحد. وعن عمرو بن العاص عند أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بإفطارها وينهى عن صيامها. (وقد استدل) بهذه الاحاديث على تحريم صوم أيام التشريق، وفي ذلك خلاف بين الصحابة فمن بعدهم. قال في الفتح: وقد روى ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي طلحة من الصحابة الجواز مطلقا. وعن علي عليه السلا وعبد الله بن عمرو بن العاص المنع مطلقا وهو المشهور عن الشافعي. وعن ابن عمر وعائشة وعبيد بن عمير في آخرين منعه إلا للمتمتع الذي لا يجد الهدى، وهو قول مالك والشافعي في القديم. وعن الاوزاعي وغيره أيضا يصومها المحصر والقارن انتهى. واستدل القائلون بالمنع مطلقا بأحاديث الباب التي لم تقيد بالجواز للمتمتع، واستدل القائلون بالجواز للمتمتع بحديث عائشة وابن عمر المذكور في الباب، وهذه الصيغة لها حكم الرفع، وقد أخرجه الدارقطني والطحاوي بلفظ: رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق وفي إسناده يحيى بن سلام وليس بالقوي، ولكنه يؤيد ذلك عموم الآية، قالوا: وحمل المطلق على المقيد واجب، وكذلك بناء العام على الخاص، وهذا أقوى المذاهب. وأما القائل بالجواز مطلقا فأحاديث الباب جميعها ترد عليه. قال في الفتح: وقد اختلف في كونها يعني أيام التشريق يومين أو ثلاثة، قال: وسميت أيام التشريق لان لحوم الاضاحي تشرق فيها أي تنشر في الشمس. وقيل: لان الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس. وقيل: لان صلاة العيد تقع عند شروق الشمس، وقيل: التشريق التكبير دبر كل صلاة انتهى. وحديث أنس المذكور في الباب يدل على أنها ثلاثة أيام بعد يوم النحر.
[ 354 ]
[ رك ] كتاب الاعتكاف عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتكف العشر الاواخر من رمضان حتى توفاه الله عزوجل. [ رح 1749 ] وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتكف العشر الاواخر من رمضان متفق عليهما. ولمسلم قال نافع: وقد أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتكف العشر الاواخر من رمضان فلم يعتكف عاما، فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين رواه أحمد والترمذي وصححه. ولاحمد وأبي داود وابن ماجة هذا المعنى من رواية أبي بن كعب. هذه الاحادث فيها دليل على مشروعية الاعتكاف وهو متفق عليه كما قال النووي وغيره. قال مالك: فكرت في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدة اتباعهم للاثر، فوقع في نفسي أنه كالوصال، وأراهم تركوه لشدته، ولم يبلغني عن أحد من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن، انتهى. ومن كلام مالك هذا أخذ بعض أصحابه أن الاعتكاف جائز، وأنكر ذلك عليهم ابن العربي. وقال: إنه سنة مؤكدة، وكذا قال ابن بطال في مواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على تأكيده. وقال أبو داود عن احمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافا أنه مسنون، وتعقب الحافظ في الفتح قول مالك: إنه لم يعتكف من السلف إلا أبو بكر بن عبد الرحمن وقال: لعله أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكي عن غير واحد من الصحابة أنه اعتكف. (واعلم) أنه لا خلا ف في عدم وجوب الاعتكاف إلا إذا نذر به. قوله: يعتكف الاعتكاف في اللغة هو الحبس واللزوم والمكث والاستقامة والاستدارة. قال العجاج: [ شع ] فهن يعكفن به إذا حجاعكف النبيط يلعبون الفنزجا [ / شع ] والنبيط: قوم من العجم. والفنزج بالفاء والنون والزاي والجيم لعبة للعجم يأخذ كل واحد منهم بيد صاحبه ويستديرون راقصين. وقوله: حجا أي أقام بالمكان،
[ 355 ]
وفي الشرع: المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة. قوله: العشر الاواخر من رمضان فيه دليل على استحباب مداومة الاعتكاف في العشر الاواخر من رمضان لتخصيصه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الوقت بالمداومة على اعتكافه. قوله: اعتكف عشرين فيه دليل على أن من اعتاد اعتكاف أيام ثم لم يمكنه أن يعتكفها أنه يستحب له قضاؤها، وسيأتي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتكف لما لم يعتكف العشر الاواخر من رمضان العشر الاواخر من شوال. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه، وأنه أمر بخباء فضرب لما أراد الاعتكاف في العشر الاواخر من رمضان، فأمرت زينب بخبائها فضرب، وأمرت غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخبائها فضرب، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفجر نظر فإذا الاخبية فقال: البر يردن؟ فأمر بخبائه فقوض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الاواخر من شوال رواه الجماعة إلا الترمذي لكن له منه: كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه. قوله: صلى الفجر ثم دخل معتكفه استدل به على أن أول وقت الاعتكاف من أول النهار، وبه قال الاوزاعي والليث، والثوري. وقال الائمة الاربعة وطائفة: يدخل قبيل غروب الشمس، وأولوا الحديث على أنه دخل من أول الليل، ولكن إنما يخلو بنفسه في المكان الذي أعده للاعتكاف بعد صلاة الصبح. قوله: بخباء بخاء معجمة ثم باء موحدة. قوله: وأمرت غيرها الخ، هذا يقتضي تعميم الازواج وليس كذلك، وقد فسر قوله من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعائشة وحفصة وزينب فقط، ويؤيد ذلك ما وقع في رواية للبخاري بلفظ: أربع قباب. وفي رواية للنسائي: فلما صلى الصبح إذا هو بأربعة أبنية قال: لمن هذه؟ قالوا: لعائشة وحفصة وزينب الحديث. والرابع خباؤه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: البر بهمزة استفهام ممدودة وبغير مد وبنصب الراء. قوله: يردن بضم أوله وكسر الراء وسكون الدال ثم نون النسوة. وفي رواية للبخاري، انزعوها فلا أراها. قوله: فقوض بضم القاف
[ 356 ]
وتشديد الواو المكسورة بعدها ضاد معجمة أي نقض. قوله: وترك الاعتكاف كان الحامل له صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك خشية أن يكون الحامل للزوجات المباهاة والتنافس الناشئ عن الغيرة حرصا على القرب منه خاصة فيخرج الاعتكاف عن موضوعه، أو الحامل له على ذلك أن يكون باعتبار اجتماع النسوة عنده يصير كالجالس في بيته، وربما يشغله ذلك عن التخلي لما قصد من العبادة فيفوت مقصوده بالاعتكاف. قوله: في العشر الاواخر من شوال في رواية في البخاري: حتى اعتكف في العشر الاول من شوال ويجمع بينه وبين الرواية الاولى بأن المراد بقوله في العشر الاواخر من شوال انتهاء اعتكافه. قال الاسماعيلي: فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم، لان أول شوال هو يوم الفطر وصومه حرام، وسيأتي الكلام عليه. وقال غيره في اعتكافه في شوال دليل على أن النوافل المعتادة إذا فاتت تقضي، قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه أن النذر لا يلزم بمجرد النية، وأن السنن تقضي، وأن للمعتكف أن يلزم من المسجد مكانا بعينه، وأن من التزم اعتكاف أيام معينة لم يلزمه أول ليلة لها انتهى. (واستدل) به أيضا على جواز الخروج من العبادة بعد الدخول فيها، وأجيب عن ذلك بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل المعتكف ولا شرع في الاعتكاف وإنما هم به، ثم عرض له المانع المذكور فتركه، فيكون دليلا على جواز ترك العبادة إذا لم يحصل إلا مجرد النية كما قال المصنف. وعن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اعتكف طرح له فراشه أو يوضع له سريره وراء أسطوانة التوبة رواه ابن ماجة. الحديث رجال إسناده في سنن ابن ماجة ثقات. وقد ذكره الحافظ في الفتح عن نافع أن ابن عمر كان إذا اعتكف الخ، ولم يذكر أنه مرفوع. وفي صحيح مسلم عن نافع أنه قال: وقد أراني عبد الله بن عمر المكان الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتكف فيه من المسجد. (وفيه دليل) على جواز طرح الفراش ووضع السرير للمعتكف في المسجد، وعلى جواز الوقوف في مكان معين من المسجد في الاعتكاف فيكون مخصصا للنهي عن إيطان المكان في المسجد يعني ملازمته، وقد تقدم الحديث في الصلاة. وعن عائشة أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه، وكان لا يدخل البيت إلا
[ 357 ]
لحاجة الانسان إذا كان معتكفا. وعنها أيضا قالت: إن كنت لادخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة. وعن صفية بنت حيي قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لانقلب فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد متفق عليهن. قوله: ترجل الترجيل بالجيم المشط والدهن، فيه دليل على أنه يجوز للمعتكف التنظيف والطيب والغسل والحلق والتزيين إلحاقا بالترجيل. والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد، وعن مالك يكره الصنائع والحرف حتى طلب العلم، وفيه دليل على أن من أخرج بعض بدنه من المسجد لم يكن ذلك قادحا في صحة الاعتكاف. قوله: إلا لحاجة الانسان فسرها الزهري بالبول والغائط: وقد وقع الاجماع على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالاكل والشرب، ويلحق بالبول والغائط القئ والفصد والحجامة لمن احتاج إلى ذلك، وسيأتي الكلام على الخروج للحاجات ولغيرها. قوله: فما أسأل عنه سيأتي الكلام على الخروج لزيارة المريض. قوله: ثم قمت لانقلب أي ترجع إلى بيتها. قوله: ليقلبني بفتح أوله وسكون القاف أي يردها إلى منزلها. (وفيه دليل) على جواز خروج المعتكف من مسجد اعتكافه لتشييع الزائر قوله: في دار أسامة بن زيد أي التي صارت له بعد ذلك، لان أسامة إذ ذاك ليس له دار مستقلة بحيث يسكن فيها صفية، وكانت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حوالي أبواب المسجد. وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه رواه أبو داود. وعن عائشة قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع رواه أبو داود. الحديث الاول في إسناده ليث بن أبي سليم وفيه مقال. قال الحافظ: والصحيح عن عائشة من فعلها، أخرجه مسلم وغيره وقال: صح ذلك عن علي عليه السلام. والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي وليس فيه قالت السنة. وأخرجه أيضا من حديث مالك وليس فيه ذلك. قال أبو داود: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول
[ 358 ]
فيه قالت السنة. وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها لا يخرج وما عداه ممن دونها انتهى. وكذلك رجح ذلك البيهقي، ذكره ابن كثير في الارشاد. وعبد الرحمن بن إسحاق هذا هو القرشي المدني يقال له عباد. قد أخرج له مسلم في صحيحه ووثقه يحيى بن معين، وأثنى عليه غيره، وتكلم فيه بعضهم. (والحديثان) استدل بهما على أنه لا يجوز للمعتكف أن يخرج من معتكفه لعيادة المريض ولا لما يماثلها من القرب، كتشييع الجنازة وصلاة الجمعة. قال في الفتح: وروينا عن علي عليه السلام والنخعي والحسن البصري إن شهد المعتكف جنازة أو عاد مريضا أو خرج للجمعة بطل اعتكافه، وبه قال الكوفيون وابن المنذر في الجمعة. وقال الثوري والشافعي وإسحاق: إن شرط شيئا من ذلك في ابتداء اعتكافه لم يبطل اعتكافه بفعله وهو رواية عن أحمد انتهى. وعند الهادوية أنه يجوز الخروج لتلك الامور ونحوها ولكن في وسط النهار، قياسا على الحاجة المذكورة في حديث عائشة المتقدم، وهو فاسد الاعتبار لانه في مقابلة النص. قوله: ولا يمس امرأة ولا يباشرها المراد بالمباشرة هنا الجماع بقرينة ذكر المس قبلها. وقد نقل ابن المنذر الاجماع على ذلك، ويؤيده ما روى الطبراني وغيره من طريق قتادة في سبب نزول الآية يعني قوله تعالى: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * (البقرة: 187) أنهم كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء فنزلت. قوله: ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه فيه دليل على المنع من الخروج لكل حاجة، من غير فرق بين ما كان مباحا أو قربة أو غيرهما، إلا الذي لا بد منه كالخروج لقضاء الحاجة وما حكمها. قوله: ولا اعتكاف إلا بصوم فيه دليل على أنه لا يصح الاعتكاف إلا بصوم وأنه شرط، حكاه في البحر عن العترة جميعا وابن عباس وابن عمر ومالك والاوزاعي والثوري وأبي حنيفة، وحكي في البحر أيضا عن ابن مسعود والحسن البصري والشافعي وأحمد وإسحاق أنه ليس بشرط، قالوا: يصح اعتكاف ساعة واحدة ولحظة واحدة، واستدلوا بما تقدم من أنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتكف العشر الاول من شوال ومن جملتها يوم الفطر. وبحديث عمر الآتي. وأجابوا عن حديث عائشة المذكور في الباب بما تقدم من الكلام عليه، وهذا هو الحق لا كما قال ابن القيم: أن الراجح الذي عليه جمهور السلف أن الصوم شرط في الاعتكاف. وقد روي عن علي وابن مسعود أنه ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجبه على نفسه، ويدل على ذلك
[ 359 ]
حديث ابن عباس الآتي، ويؤيد قول من قال بجواز الاعتكاف ساعة أو لحظة حديث: من اعتكف فواق ناقة فكأنما أعتق نسمة رواه العقيلي في الضعفاء من حديث عائشة وأنس. قال في البدر المنير: هذا حديث غريب لا أعرفه بعد البحث الشديد عنه. وقال الحافظ: هو منكر ولكنه أخرجه الطبراني في الاوسط، قال الحافظ: لم أر في إسناده ضعفا إلا أن فيه وجادة وفي المتن نكارة شديدة، وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أن أقل مدة الاعتكاف يوم. قوله: ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع فيه دليل على أن المسجد شرط للاعتكاف. قال في الفتح: واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان، وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة. وفيه قول للشافعي قديم، وفي وجه لاصحابه، وللمالكية يجوز للرجال والنساء لان التطوع في البيوت أفضل، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات، وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كل مسجد، وقال الجمهور بعمومه في كل مسجد، انتهى كلام الفتح. وسيأتي قول من قال: إنه يختص بالمساجد الثلاثة. وعن ابن عمر أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: فأوف بنذرك متفق عليه. وزاد البخاري: فاعتكف ليلة. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه رواه الدار قطني وقال: رفعه أبو بكر السوسي وغيره لا يرفعه. الحديث الثانرجح الدارقطني، والبيهقي وقفه، وأخرجه الحاكم مرفوعا وقال: صحيح الاسناد. قوله: أن عمر سأل لم يذكر مكان السؤال. وفي رواية للبخاري: أن ذلك كان بالجعرانة لما رجعوا من حنين، ويستفاد منه الرد على من زعم أن اعتكاف عمر كان قبل المنع من الصيام في الليل، لان غزوة حنين متأخرة عن ذلك. قوله: نذرت فالجاهلية زاد مسلم: فلما أسلمت سألت، وفي ذلك رد على من زعم أن المراد بالجاهلية ما قبل فتح مكة، وأنه إنما نذر في الاسلام، وأصرح من ذلك ما أخرج الدارقطني بلفظ: نذر أن يعتكف في الشرك. قوله: أن أعتكف ليلة استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم، لان الليل ليس بوقت صوم، وقد أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يفي بنذره على الصفة التي أوجبها، وتعقب بأن في رواية لمسلم: يوما بدل ليلة، وقد جمع ابن حبان
[ 360 ]
وغيره بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يوما أراد بليلته. وقد ورد الامر بالصوم في رواية أبي داود والنسائي بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: اعتكف وصم أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن بديل ولكنه ضعيف، وقد ذكر ابن عدى والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار. قال في الفتح: ورواية من رويوما شاذة، وقد وقع في رواية سليمان بن بلال عند البخاري فاعتكف ليلة فدل على أنه لم يزد على نذره شيئا، وأن الاعتكاف لا صوم فيه، وأنه لا يشترط له حد معين. قوله: ليس على المعتكف صيام استدل به القائلون بأنه لا يشترط الصوم في الاعتكاف، وقد تقدم ذكرهم. وقد استدل بعض القائلين بأن الصوم شرط في الاعتكا ف بقوله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * (البقرة: 187) قال: فذكر الاعتكاف عقب الصوم، وتعقب بأنه ليس فيها ما يدل على تلازمهما، وإلا لزم أن لا صوم إلا باعتكاف ولا قائل به، وفي حديث عمر المذكور في الباب رد على من قال: إن أقل الاعتكاف عشرة أيام، وفيه أيضا دليل على أن النذر من الكافر لا يسقط عنه بالاسلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك. وعن حذيفة: أنه قال لابن مسعود: لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، أو قال: في مسجد جماعة رواه سعيد في سننه. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطشت تحتها من الدم رواه البخاري. وفي رواية: اعتكف معه امرأة من أزواجه وكانت ترى الدم والصفرة والطشت تحتها وهي تصلي رواه أحمد والبخاري وأبو داود. الحديث الاول أخرجه ابن أبي شيبة ولكن لم يذكر المرفوع منه، واقتصر على المراجعة التي فيه بين حذيفة وابن مسعود ولفظه: أن حذيفة جاء إلى عبد الله فقال: ألا أعجبك من قوم عكوف بين دارك ودار الاشعري يعني المسجد، قال عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت فهذا يد على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى أن عبد الله يخالفه، ويجوز الاعتكاف في كل مسجد، ولو كان ثم حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما خالفه، وأيضا الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج أحد شقيه، وقد استشهد بعضهم لحديث حذيفة بحديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما مرفوعا بلفظ:
[ 361 ]
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الاقصى وهو متفق عليه، ولكن ليس فيه ما يشهد لحديث حذيفة، لان أفضلية المساجد الثلاثة واختصاصها بشد الرحال إليها لا تستلزم اختصاصها بالاعتكاف. وقد حكي في الفتح عن حذيفة أن الاعتكاف يختص بالمساجد الثلاثة ولم يذكر هذا الحديث، وحكي عن عطاء أنه يختص بمسجد مكة، وعن ابن المسيب بمسجد المدينة. وقوله: أو قال في مسجد جماعة قيل: فيه دليل لمذهب أبي حنيفة وأحمد المتقدم. قوله: بعض نسائه قال ابن الجوزي: ما عرفنا من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كانت مستحاضة قال: والظاهر أن عائشة أشارت بقولها من نسائه أي من النساء المتعلقات به وهي أم حبيبة بنت جحش أخت زينب، ولكنه يرد عليه ما وقع في البخاري في كتاب الاعتكاف بلفظ امرأة مستحاضة من أزواجه، ووقع في رواية سعيد بن منصور عن عكرمة أن أم سلمة كانت عاكفة وهي مستحاضة، وهذه الرواية تفيد تعيينها. وقد حكى ابن عبد البر أن بنات جحش الثلاث كن مستحاضات: زينب، وحمنة، وأم حبيبة، ويدل على ذلك ما وقع عند أبي داود عن عائشة أنها قالت: استحيضت زينب بنت جحش. وقد عد مغلطاي في المستحاضات سودة بنت زمعة، وقد روى ذلك أبو داود تعليقا، وذكر البيهقي أن ابن خزيمة أخرجه موصولا، فهذه ثلاث مستحاضات من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: من الدم أي لاجل الدم. (والحديث) يدل على جواز مكث المستحاضة في المسجد وصحة اعتكافها وصلاتها، وجواز حدثها في المسجد عند أمن التلويث، ويلحق بها دائم الحدث، ومن به جرح يسيل، وقد تقدم البحث عن ذلك. باب الاجتهاد في العشر الاواخر، وفضل قيام ليلة القدر وما يدعى به فيها وأي ليلة هي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دخل العشر الاواخر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر متفق عليه. ولاحمد ومسلم: كان يجتهد في العشر الاواخر ما لا يجتهد في غيرها.
[ 362 ]
قوله: أحيا الليل فيه استعارة الاحياء للاستيقاظ أي سهره فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه لان النوم أخو الموت. (والحديث) فيه دليل على مشروعية الحرص على مداومة القيام في العشر الاواخر من رمضان وإحيائها بالعبادة، واعتزال النساء، وأمر الاهل بالاستكثار من الطاعة فيها. قوله: وأيقظ أهله أي للصلاة، وفي الترمذي عن أم سلمة: لم يكن صلى الله عليه وآله وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه. قوله: وشد المئزر أي اعتزل النساء كما رواه عبد الرزاق عن الثوري، وابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش، وحكي في الفتح عن الخطابي أنه يحتمل أن يراد به الجد في العبادة، كما يقال: شددت لهذا الامر مئزري أي شمرت له، ويحتمل أن يراد التشمير والاعتزال معا، ويحتمل أن يراد حقيقته، والمجاز كمن يقول: طويل النجاد لطويل القامة وهو طويل النجاد حقيقة، يعني شد مئزره حقيقة، واعتزل النساء وشمر للعبادة يعني فيكون كناية وهو يجوز فيها إرادة اللازم والملزوم. وقد وقع في رواية: شد مئزره واعتزل النساء فالعطف بالواو يقوي الاحتمال الاول كما قال الحافظ. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه رواه الجماعة إلا ابن ماجة. وعن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني رواه الترمذي وصححه، وأحمد وابن ماجة وقالا فيه: أرأيت إن وافقت ليلة القدر. الحديث الاول قد تقدم مع شرحه في باب صلاة التراويح، وأورده المصنف ههنا للاستدلال به على مشروعية قيام ليلة القدر. والحديث الثاني صححه الترمذي كما ذكر المصنف، وفيه دليل على إمكان معرفة ليلة القدر وبقائها، وسيأتي الكلام على ذلك. قوله: ليلة القدر اختلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه الليلة فقيل: هو التعظيم لقوله تعالى: * (وما قدروا الله حق قدره) * (الانعام: 91) والمعنى أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من نزول الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر، وقيل: القدر هنا التضييق لقوله تعالى: * (ومن قدر عليه رزقه) * (الطلاق: 7) ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العلم بتعيينها. وقيل: القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال الذي هو مؤاخي القضاء. والمعنى
[ 363 ]
أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله تعالى: * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * (الدخان: 4) وبه صدر النووي كلامه فقال قال العلماء: سمعت ليلة القدر لما يكتب فيها الملائكة من الاقدار لقوله تعالى: * (فيها يفرق) * (الدخان: 4) الآية. ورواه عبد الرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم. قال التوربشتي: إنما جاء القدر بسكون الدال، وإن كان الشائع في القدر الذي يؤاخي القضاء فتح الدال ليعلم أنه لم يرد به ذلك، وإنما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء وإظهاره وتحديده في تلك السنة، لتحصيل ما يلقي إليهم فيها مقدارا بمقدار. قوله: إنك عفو بفتح العين وضم الفاء وتشديد الواو صيغة مبالغة. وفيه دليل على استحباب الدعاء في هذه الليلة بهذه الكلمات. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين، أو قال: تحروها ليلة سبع وعشرين يعني ليلة القدر رواه أحمد بإسناد صحيح. وعن ابن عباس: أن رجلا أتى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله إني شيخ كبير عليل يشق علي القيام، فأمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها لليلة القدر فقال: عليك بالسابعة رواه أحمد. وعن معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة القدر قال: ليلة سبع وعشرين رواه أبو داود. [ رح 1768 ] وعنزر بن حبيش قال: سمعت أبي بن كعب يقول: وقيل له إن عبد الله بن مسعود يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر، فقال أبي: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ما يستثني، ووالله إني لاعلم أليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. حديث ابن عباس أخرجه أيضا الطبراني في الكبير، قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح. وقد أخرج نحوه عبد الرزاق عن ابن عمر مرفوعا، والمراد بالسابعة إما السبع بقين أو لسبع مضين بعد العشرين. وحديث معاوية سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح. (وفي الباب) عن جابر بن سمرة عند الطبراني في الاوسط بنحو حديث ابن عمر. وعن ابن مسعود عند الطبراني قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ليلة القدر فقال: أيكم يذكر ليلة الصهبا؟
[ 364 ]
قلت أنا وذلك ليلة سبع وعشرين. ورواه ابن أبي شيبة عن عمرو وحذيفة وناس من الصحابة. وروى عبد الرزاق عن ابن عباس قال: دعا عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا على أنها في العشر الاواخر، قال ابن عباس فقلت لعمر: إني لاعلم أو أظن أي ليلة هي، قال عمر: أي ليلة هي؟ فقلت: سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الاواخر، فقال: من أين علمت ذلك؟ فقلت: خلق الله سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام، والدهر يدور في سبع، والانسان خلق من سبع، ويأكل من سبع ويسجد على سبع، والطواف والجمار وأشياء ذكرها، فقال عمر: لقد فطنت لامر مفطنا له. وقد أخرج نحو هذه القصة الحاكم، وإلى أن ليلة القدر ليلة السابع والعشرين، ذهب جماعة من أهل العلم، وقد حكاه صاحب الحلية من الشافعية عن أكثر العلماء، وقد اختلف العلماء فيها على أقوال كثيرة ذكر منها في فتح الباري ما لم يذكره غيره، وسنذكر ذلك على طريق الاختصار فنقول القول (الاول) أنهرفعت حكاه المتولي عن الروافض والفاكهاني عن الحنفية. (الثاني) أنها خاصة بسنة واحدة وقعت في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم حكاه الفاكهاني (الثالث أنها خاصة بهذه الامة جزم به جماعة من المالكية، ونقله صاحب العمدة عن الجمهور من الشافعية، واعترض بحديث أبي ذر عند النسائي قال قلت: يا رسول الله أتكون مع الانبياء فإذا ماتوا رفعت؟ فقال: هي باقية واحتجوا بما ذكره مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقال أعمار أمته عن أعمار الامم الماضية فأعطاه الله ليلة القدر. قال الحافظ: وهذا محتمل للتأويل فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر. (والرابع) أنها ممكنة في جميع السنة وهو المشهور عن الحنفية، وحكي عن جماعة من السلف، وهو مردود بكثير من أحاديث الباب المصرحة باختصاصها برمضان. (الخامس) أنها مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه. وروي عن ابن عمر وأبي حنيفة، وبه قال ابن المنذر وبعض الشافعية ورجحه السبكي. (السادس) أنها في ليلة معينة مبهمة قاله النسفي في منظومته. (السابع) أنها أول ليلة من رمضان، حكي عن أبي رزين العقيلي الصحابي. وروى ابن أبي عاصم من حديث أنس قال: ليلة القدر أول ليلة من رمضان، قال ابن أبي عاصم: لا نعلم أحدا قال ذلك غيره. (الثامن) أنها ليلة النصف من رمضان، حكاه ابن الملقن في شرح العمدة. (التاسع) أنها ليلة النصف من شعبان، حكاه القرطبي في المفهم، وكذا نقله السروجي
[ 365 ]
عن صاحب الطراز. (العاشر) أنها ليلة سبع عشرة من رمضان، ودليله ما رواه ابن أبي شيبة والطبراني من حديث زيد بن أرقم قال: بلا شك ولا امتراء أنها ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة أنزل القرآن. وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود. (الحادي عشر) أنها مبهمة في العشر الوسط، حكاه النووي وعزاه الطبري إلى عثمان بن أبي العاص والحسن البصري وقال به بعض الشافعية. (الثاني عشر) أنها ليلة ثمان عشرة، ذكره ابن الجوزي في مشكله. (الثالث عشر) ليلة تسع عشرة، رواه عبد الرزاق عن علي عليه السلام، وعزاه الطبري إلى زيد بن ثابت، ووصله الطحاوي عن ابن مسعود. (الرابع عشر) أول ليلة من العشرة الآخرة، وإليه مال الشافعي وجزم به جماعة من أصحابه. (الخامس عشر) مثل الذي قبله إن كالشهر تاما، وإن كان ناقصا فليلة إحدى وعشرين، وهكذا في جميع العشر، وبه جزم ابن حزم ودليله حديث أبي سعيد وعبد الله بن أنيس وأبي بكرة وسيأتي. (الساد س عشر) ليلة اثنين وعشرين، ودليله ما أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن أنيس أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ليلة القدر وذلك صبيحة إحدى وعشرين فقال: كم الليلة؟ قلت: ليلة اثنين وعشرين، فقال: هي الليلة أو القابلة. (السابع عشر) ليلة ثلاث وعشرين، ودليله حديث عبد الله بن أنيس الآتي، وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة والتابعين. (الثامن عشر) أنها ليلة الرابع والعشرين، ودليله ما رواه الطيالسي عن أبي سعيد مرفوعا: ليلة القدر ليلة أربع وعشرين وما رواه أحمد من حديث بلال بنحوه وفيه ابن لهيعة، وروي ذلك عن ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة. (التاسع عشر) ليلة خمس وعشرين، حكاه ابن الجوزي في المشكل عن أبي بكرة. (العشرون) ليلة ست وعشرين، قال الحافظ: وهو قول لم أره صريحا إلا أن عياضا قال: ما من ليلة من ليالي العشر الاخيرة إلا وقد قيل فيها أنها ليلة القدر. (الحادي والعشرون) ليلة سابع وعشرين، وقد تقدم دليله ومن قال به. (الثاني والعشرون) ليلة الثامن والعشرين، وهذا لم يذكر صاحب الفتح، ولكن ظاهر قول عياض المتقدم أنه قد قيل إنها ليلة القدر، وقد أسقط في الفتح القول الثاني والعشرين وذكر الثالث والعشرين بعد الحادي والعشرين، فلعله سقط عليه حكاية هذا القول، وقد ثبت في بعض النسخ. (الثالث والعشرون) أنها ليلة تسع وعشرين، حكاه ابن العربي. (الرابع والعشرون) أنها ليلة الثلاثين، حكاه عياض ورواه محمد بن نصر عن
[ 366 ]
معاوية وأحمد عن أبي هريرة. (الخامس والعشرون) أنها في أوتار العشر الاخيرة، ودليله حديث عائشة الآتي في آخر الباب، وكذلك حديث ابن عمر، قال في الفتح: وهو أرجح الاقوال، وصار إليه أبو ثور المزني وابن خزيمة وجماعة من علماء المذاهب انتهى. (القول السادس والعشرون) مثله بزيادة الليلة الاخيرة، ويدل عليه حديث أبي بكرة الآتي، وقد أخرج أحمد من حديث عبادة بن الصامت ما يدل على ذلك. (السابع والعشرون) تنتقل في العشر الاواخر كلها، قاله أبو قلابة ونص عليه مالك والثوري وأحمد وإسحاق، وزعم الماوردي أنه متفق عليه، ويدل عليه حديث أبي سعيد الآتي. (الثامن والعشرون) مثله إلا أن بعض ليالي العشر أرجى من بعض، قال الشافعي: أرجاها ليلة إحدى وعشرين. (التاسع والعشرون) مثل السابع والعشرين إلا أن أرجاها ليلة ثلاث وعشرين ولم يذكر في الفتح قائله. (الثلاثون) كذلك إلا أن أرجاها ليلة سبع وعشرين ولم يحك صاحب الفتح من قاله. (الحادي والثلاثون) أنها تنتقل في جميع السبع الاواخر، ويدل عليه حديث ابن عمر الآتي، وقد اختلف أهل هذا القول هل المراد السبع من آخر الشهر أو آخر سبعة تعد من الشهر؟ قال في الفتح: ويخرج من ذلك القول. (الثاني والثلاثون) القول (الثالث والثلاثون) أنها تنتقل في النصف الاخير، ذكره صاحب المحيط عن أبي يوسف ومحمد، وحكاه إمام الحرمين عن صاحب التقريب. (الرابع والثلاثون) ليلة ست عشرة أو سبع عشرة، رواه الحرث بن أبي أسامة من حديث عبد الله بن الزبير. (الخامس والثلاثون) ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين، رواه سعيد بن منصور من حديث أنس بإسناد ضعيف. (السادس والثلاثون) أول ليلة من رمضان أو آخر ليلة منه، رواه ابن أبي عاصم من حديث أنس بإسناد ضعيف. (السابع والثلاثون) ليلة تاسع عشرة أو إحدى عشرة أو ثلاث وعشرين، رواه أبو داود من حديث ابن مسعود بإسناد فيه مقال، وعبد الرزاق من حديث علي بسند منقطع، وسعيد بن منصور من حديث عائشة بسند منقطع أيضا. (الثامن والثلاثون) أول ليلة أو تاسع ليلة أو سابع عشرة أو إحدى وعشرين أو آخر ليلة، رواه ابن مردويه في تفسيره عن أنس بإسناد ضعيف. (التاسع والثلاثون) ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين، ودليله حديث ابن عباس الآتي، ولاحمد نحوه من حديث النعمان بن بشير. (القول الاربعون) ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس
[ 367 ]
وعشرين، ويدل عليه حديث ابن عباس الآتي، وأخرج البخاري نحوه من حديث عبادة بن الصامت. (الحادي والاربعون أنها منحصرة في السبع الاواخر، ويدل عليه حديث ابن عمر الآتي، وفي الفرق بينه وبين القول الحادي والثلاثين خفاء. (الثاني والاربعون) ليلة اثنين وعشرين أو ثلاث وعشرين، ويدل عليه حديث عبد الله بن أنيس عند أحمد. (الثالث والاربعون) أنها في إشفاع العشر الوسط والعشر الاواخر. قال الحافظ: قرأته بخط مغلطاي. (الرابع والاربعون) أنها ليلة الثالثة من العشر الاواخر أو الخامسة منه، رواه أحمد من حديث معاذ، قال في الفتح: والفرق بينه وبين ما تقدم أن الثالثة تحتمل ليلة ثلاث وعشرين، وتحتمل ليلة سبع وعشرين. (الخامس والاربعون) أنها في سبع أو ثمان من أول النصف الثاني، رواه الطحاوي من حديث عبد الله بن أنيس. هذا جملة ما ذكره الحافظ في الفتح أوردناه مختصرا مع زوائد مفيدة. ومما ينبغي أن يعد قولا خارجا عن هذه الاقوال قول الهادوية أنها في تسع عشرة، وفي الافراد بعد العشرين من رمضان، واستدلوا على أنها في الافراد بعد العشرين بما استدل به أهل القول الخامس والعشرين على أنها قد تكون في ليلة تسع عشرة بما أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: التمسوا ليلة القدر في سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين. قال الهيثمي بعد أن ساقه في مجمع الزوائد: فيه أبو الهزم وهو ضعيف، فيكون هذا القول هو السادس والاربعين. وينبغي أن يجعل ما اشتمل عليه هذا الحديث القوي السابع والاربعين، وأما كونها مبهمة في جمع السنة فلا ينبغي أن يجعل قولا خارجا عن هذه الاقوال لانه عين القول الرابع منها، وأرجح هذه الاقوال هو القول الخامس والعشرون، أعني أنها في أوتار العشر الاواخر، قال الحافظ: وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين. قوله: وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها. قد ورد لليلة القدر علامات أكثرها لا تظهر إلا بعد أتمضي منها طلوع الشمس على هذه الصفة. وروى ابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعا: ليلة القدر طلقة لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة ولاحمد من حديث عبادة: لا حر فيها ولا برد، وإنها ساكنة صاحية وقمرها ساطع. وفي علامتها أحاديث: منها عن جابر
[ 368 ]
بن سمرة عند ابن أبي شيبة، وعن جابر بن عبد الله عند ابن خزيمة، وعن أبي هريرة عنده، وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وعن غيرهم. وعن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتكف العشر الاول من رمضان، ثم اعتكف العشر الاوسط في قبة تركية على سدتها حصير، فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة ثم اطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه فقال: إني اعتكفت العشر الاول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الاوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الاواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناس معه قال: وإني أريتها ليلة وتر، وإني أسجد في صبيحتها في طين وماء، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين، وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيها الطين والماء، وإذا هي ليلة إحدى عشر من العشر الاواخر متفق عليه، لكن لم يذكر في البخاري اعتكاف العشر الاول. قوله: العشر الاوسط هكذا في أكثر الروايات، والمراد به العشر الليالي، وكان القياس أن يوصف بلفظ التأنيث لان مرجعها مؤنث، لكن وصف بالمذكر على إرادة الوقت أو الزمان والتقدير الثلث كأنه قال: الليالي العشر التي هي الثلث الاوسط من الشهر، ووقع في الموطأ العشر الوسط بضم الواو والسين جمع وسط، ويروى بفتح السين مثل كبر وكبر، ورواه الباجي في الموطأ بإسكانها على أنه جمع واسط كبازل وبزل، وهذا يوافق رواية الاوسط. قوله: في قبة تركية أي قبة صغيرة من لبود. قوله: فأصبح من ليلة إحدى وعشرين في رواية للبخاري: فخرج في صبيحة عشرين وظاهرها يخالف رواية الباب وقد قيل: إن المراد بقوله فأصبح من ليلة إحدى وعشرين أي من الصبح الذي قبلها وهو تعسف، وقد وقع في البخاري ما هو أوضح من ذلك بلفظ: فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه. قوله: وروثة أنفه بالثاء المثلثة وهي طرفه، ويقال لها أيضا أرنبة الانف كما جاء في رواية أخرى. (والحديث) فيه دليل على أن ليلة القدر في العشر الاواخر من شهر رمضان، وقد تقدم بسط الكلام في ذلك.
[ 369 ]
وعن عبد الله بن أنيس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني أسجد صبيحتها في ماء وطين، قال: فمطرنا في ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه رواه أحمد ومسلم وزاد: وكان عبد الله بن أنيس يقول ثلاث وعشرين. وفي لباب عن رجل من بني بياضة له صحبة مرفوعا عند إسحاق في مسنده قال: قلت: يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها فمرني بليلة القدر، فقال: انزل ليلة ثلاث وعشرين. وعن ابن عمر مرفوعا: من كان متحريها فليتحرها ليلة سابعة. قال: فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس الطيب. وعن ابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أنه كان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين. وروي عبد الرزاق من طريق يونس بن سيف سمع سعيد بن المسيب يقول: استقام كلام القوم على أنها ليلة ثلاث وعشرين. وروى نحو ذلك من طريق إبراهيم عن الاسود عن عائشة. ومن طريق مكحول أنه كان يراها ليلة ثلاث وعشرين كذا في الفتح، وقد استدل بحديث الباب من قال إنها ليلة ثلاث وعشرين كما تقدم. قوله: يقول ثلاث وعشرين هكذا في معظم النسخ من صحيح مسلم، وفي بعضها ثلاث وعشرون، قال النووي: وهذا ظاهر، والاول جائز على لغة شاذة أنه يجوز حذف المضاف ويبقى المضاف إليه مجرورا أي ليلة ثلاث وعشرين. وعن أبي بكرة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: التمسوها في تسع بقين، أو سبع بقين، أو خمس بقين، أو ثلاث بقين، أو آخر ليلة، قال: وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان صلاته في سائر السنة، فإذا دخل العشر اجتهد رواه أحمد والترمذي وصححه. وفي الباب عن عبادة بن الصامت عند أحمد، والحديث يدل على أن ليلة القدر ترجى مصادفتها لتسع ليال بقين من الشهر أو سبع أو خمس أو ثلاث أو آخر ليلة وهو أحد الاقوال المتقدمة. قال الترمذي في جامعه: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة القدر أنها ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وخمس
[ 370 ]
وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وآخر ليلة من رمضان، قال: قال الشافعي: كان هذا عندي والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل عنه، يقال له: نلتمسها في ليلة كذا؟ فيقول: التمسوها في ليلة كذا، قال الشافعي: وأقوى الروايات عندي فيها ليلة إحدى وعشرين انتهى. وعن أبي نضرة عنأبي سعيد في حديث له: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على الناس فقال: يا أيها الناس إنها كانت أبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لاخبركم بها، فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها فالتمسوها في العشر الاواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والخامسة والسابعة، قال قلت: يا أبا سعيد إنكم أعلم بالعدد منا، فقال: أجل نحن أحق بذاك منكم، قال قلت: ما التاسعة والخامسة والسابعة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنان وعشرون فهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة رواه أحمد ومسلم. قوله: يحتقان بالحاء المهملة بعدها مثناة فوقية ثم قاف مشددة، ومعناه يطلب كل واحد منهما حقه ويدعي أنه المحق، وفيه أن المخاصمة والمنازعة مذمومة، وأنها سبب للعقوبة المعنوية. قوله: فإذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنان وعشرون هكذا في بعض نسخ مسلم، وفي أكثرها ثنتين وعشرين بالياء. قال النووي: وهي أصوب، والنصب بفعل محذوف تقديره أعني ثنتين وعشرين انتهى، وجعل النصب على الاختصاص أصوب من الرفع بتقدير مبتدأ لاجل قوله بعد ذلك فهي التاسعة لانه يصير تقدير الكلام، فالتي تليها هي اثنان وعشرون فهي التاسعة، ولا يخفى أنها عبارة نابية، بخلاف النصب على الاختصاص فإنه يصير التقدير، فالتي تليها أعني ثنتين وعشرين فهي التاسعة فإنها عبارة خالية عن ذلك. (والحديث) يدل على أن ليلة القدر يرجى وجودها في تلك الثلاث الليالي. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: التمسوها في العشر الاواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هي في العشر في سبع يمضين، أو في تسع يبقين يعني ليلة القدر رواه البخاري.
[ 371 ]
قوله: في تاسعة تبقى يعني ليلة اثنين وعشرين. قوله: في خامسة تبقى يعني ليلة ست وعشرين. قوله: في سبع يمضين أو تسع يبقين هكذا رواية المصنف رحمه الله بتقديم السين في الاولى والتاء في الثانية. قال في الفتح الاكثر بتقديم السين في الثاني، وتأخيرها في الاول، وبلفظ المضي في الاول والبقاء في الثاني، وللكشميهني بلفظ المضي فيهما. وفي رواية الاسماعيلي: بتقديم السين في الموضعين انتهى. والمراد في سبع ليال تمضي من العشر الاواخر أو في تسع ليال تبقى منها، فتكون في ليلة سبع وعشرين أو ليلة اثنين وعشرين، وقد تقدم الخلاف في ذلك. [ رح 1774 ] وعن ابن عمر: أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الاواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أرى رؤياكم، قد تواطأت في السبع الاواخر، فمن كان متحريا فليتحرها في السبع الاواخر أخرجاه. ولمسلم قال: أري رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أرى رؤياكم في العشر الاواخر فاطلبوها في الوتر منها. وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تحروا ليلة القدر في العشر الاواخر من رمضان رواه مسلم والبخاري. وقال: في الوتر من العشر الاواخر. قوله: أروا ليلة القدر أروا بضم أوله على البناء للمجهول، أي قيل لهم في المنام: إنها في السبع الاواخر. قال في الفتح: والظاهر أن المراد به أواخر الشهر، وقيل: المراد به السبع التي أولها ليلة الثاني والعشرين، وآخرها ليلة الثامن والعشرين، فعلى الاول لا تدخل ليلة إحدى وعشرين ولا ثلاث وعشرين، وعلى الثاني تدخل الثانية فقط، ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين. ويدل على الاول ما في البخاري في كتاب التعبير من صحيحه: أن ناسا أروا ليلة القدر في السبع الاواخر، وأن ناسا رأوا أنها في العشر الاواخر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: التمسوها في السبع الاواخر وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى المتفق عليه من الروايتين فأمر به. وقد رواه أحمد عن ابن عيينة عن الزهري بلفظ: رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم التمسوها في العشر البواقي في الوتر منها ورواه أحمد من حديث علي مرفوعا: إن غلبتم فلا تغلبوا في التسع
[ 372 ]
البواقي. قوله: أرى بفتحتين أي أعلم. قوله: رؤياكم قال عياض: كذا جاء بإفراد الرؤيا، والمراد مرائيكم لانها لم تكن رؤيا واحدة وإنما أراد الجنس. قال ابن التين: كذا روي بتوحيد الرؤيا وهو جائز لانها مصدر. قوله: تواطأت بالهمزة أي توافقت وزنا ومعنى. وقال ابن التين بغير همزة والصواب بالهمز، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطئ صاحبه. (وفي الحديث) دلالة على عظم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الامور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية، هكذا في الفتح. قوله: تحروا ليلة القدر في رواية للبخاري: التمسوا وفي حديث عائشة دليل على أن ليلة القدر في أوتار العشر الاواخر، وقد تقدم أنه القول الراجح. (فائدة) قال الطبري في إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة، إذ لو كان حقا لم يخف على كل من قال يالي السنة فضلا عن ليالي رمضان، وتعقبه ابن المنير بأنه لا ينبغي إطلاق القول بالتكذيب لذلك، بل يجوز أن يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله من عباده، فيختص بها قوم دون قوم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحصر العلامة ولم ينف الكرامة، قال: ومع ذلك فلا يعتقد أن ليلة القدر لا ينالها إلا من رأى الخوارق بل فضل الله تعالي واسع ورب قائم تلك الليلة لم يحصل منها الاعلى العبادة من غير رؤية خارق وآخر راى الخوارق من غير عبادة والذي حصل على العبادة افضل والعبرة انما هي بالاستقامة بخلاف الخارق فقد يقع كرامة وقد يقع فتنة وقيل ان المطلع على ليلة القدر يرى كل شى ساجدا وقيل يرى الا نوار ساطبة في كل بالهمزة أي توافقت وزنا ومعنى. وقال ابن التين بغير همزة والصواب بالهمز، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطئ صاحبه. (وفي الحديث) دلالة على عظم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الامور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية، هكذا في الفتح. قوله: تحروا ليلة القدر في رواية للبخاري: التمسوا وفي حديث عائشة دليل على أن ليلة القدر في أوتار العشر الاواخر، وقد تقدم أنه القول الراجح. (فائدة) قال الطبري في إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة، إذ لو كان حقا لم يخف على كل من قال يالي السنة فضلا عن ليالي رمضان، وتعقبه ابن المنير بأنه لا ينبغي إطلاق القول بالتكذيب لذلك، بل يجوز أن يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله من عباده، فيختص بها قوم دون قوم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحصر العلامة ولم ينف الكرامة، قال: ومع ذلك فلا يعتقد أن ليلة القدر لا ينالها إلا من رأى الخوارق بل فضل الله تعالي واسع ورب قائم تلك الليلة لم يحصل منها الاعلى العبادة من غير رؤية خارق وآخر راى الخوارق من غير عبادة والذي حصل على العبادة افضل والعبرة انما هي بالاستقامة بخلاف الخارق فقد يقع كرامة وقد يقع فتنة وقيل ان المطلع على ليلة القدر يرى كل شى ساجدا وقيل يرى الا نوار ساطبة في كل مكان حتى في المواضع المظلمة وقيل يسمع سلاما أو خطابا من الملائكة وقيل من علاماتها استجابة دعاء من وفق لها. تم والله الحمد الجزء الرابع من نيل الاوطال شرح منتقي الاخبار من احاديث سيد الاخيار للعلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني ويليه الجزء الخامس ان شاء الله تعالى مفتنحا: (كتاب المناسك) ونسأل الله الذي اعانتا على ما مضى ان يوفقنا على اتمام ما بقى فانه خير مسؤل.