نيل الأوطار
الشوكاني ج 3
[ 1 ]
نيل الاوطار من أحاديث سيد الاخيار شرح منتقى الاخبار للشيخ الامام المجتهد العلامة الرباني قاضي قضاة القطر اليماني محمد بن علي ابن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 ه الجزء الثالث - 1973 دار الجيل بيروت - لبنان ص. ب - 8747
[ 2 ]
بسم الله الرحمن الرحيم (أبواب السترة أمام المصلى وحكم المرور دونها) باب استحباب الصلاة إلى السترة والدنو منها والانحراف قليلا عنها والرخصة في تركها عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها رواه أبو داود وابن ماجة. الحديث في إسناده محمد بن عجلان وبقية رجاله رجال الصحيح، وقد أخرج أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة بمعناه، وأخرجه أيضا النسائي، قال أبو داود في سننه: وقد اختلف في إسناده، وقد بين ذلك الاختلاف. قوله: فليصل إلى سترة فيه أن اتخاذ السترة واجب، ويؤيده حديث أبي هريرة الآتي، وحديث سبرة بن معبد الجهني عند الحاكم وقال على شرط مسلم بلفظ: ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم. قوله: وليدن منها فيه مشروعية الدنو من السترة حتى يكون مقدار ما بينهما ثلاثة أذرع كما سيأتي. والحكمة في الامر بالدنو أن لا يقطع الشيطان عليه صلاته، كما أخرجه أبو داود في هذا الحديث متصلا. بقوله: وليدن منها والمراد بالشيطان المار بين يدي المصلي كما في حديث: فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان. قال في شرح المصابيح معناه يدنو من السترة حتى لا يوسوس الشيطان عليه صلاته، وسيأتي سبب تسمية المار شيطانا والخلاف فيه.
[ 3 ]
وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي فقال: كمؤخرة الرحل رواه مسلم. قوله: كمؤخرة الرحل قال النوو: المؤخرة بضم الميم وكسر الخاء وهمزة ساكنة، ويقال بفتح الخاء مع فتح الهمزة، وتشديد الخاء مع إسكان الهمزة، وتخفيف الخاء، ويقال آخرة الرحل بهمزة ممدودة وكسر الخاء، فهذه أربع لغات وهي العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب من كور البعير وهي قدر عظم الذراع وهو نحو ثلثي ذراع. (والحديث) يدل على مشروعية السترة، قال النووي: ويحصل بأي شئ أقامه بين يديه. قال العلماء: والحكمة في السترة كف البصر عما وراءها ومنع من يجتاز بقربه. وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج يوم العيد يأمر بالحربة فتوضأ بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر متفق عليه. قوله: يأمر بالحربة أي يأمر خادمه بحمل الحربة. وفي لفظ لابن ماجة: وذلك أن المصلى كان فضاء ليس فيه شئ يستره. قوله: والناس بالرفع عطفا على فاعل فيصلي. قوله: وكان يفعل ذلك أي نصب الحربة بين يديه حيث لا يكون جدار (والحديث) يدل على مشروعية إتخاذ السترة في الفضاء وملازمة ذلك في السفر، وعلى أن السترة تحصل بكل شئ ينصب تجاه المصلي وإن دق. وعن سهل بن سعد قال: كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الجدار ممر شاة متفق عليه. وفي حديث بلال: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الكعبة فصلى وبينه وبين الجدار نحو من ثلاثة أذرع رواه أحمد والنسائي، ومعناه للبخاري من حديث ابن عمر. حديث بلال رجاله رجال الصحيح. قوله: وبين الجدار أي جدار المسجد مما يلي القبلة، وقد صرح بذلك البخاري في الاعتصام. قوله: ممر شاة بالرفع وكان تامة أو ناقصة، والخبر محذوف أو الظرف الخبر، وأعربه الكرماني بالنصب، على أن الممر خبر كان، واسمها نحو قدر المسافة، قال: والسياق يدل عليه. وروى الاسماعيلي من طريق أبي عاصم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة: كان المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما تمر العنز وأصله في البخاري قال ابن بطال: هذا أقل
[ 4 ]
ما يكون بين المصلي وسترته يعني قدر ممر الشاة. وقيل أقل ذلك ثلاثة أذرع لحديث ابن عمر عن بلال الذي أشار إليه المصنف. ولفظه في البخاري عن نافع أن عبد الله كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل وجعل الباب قبل ظهره، فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع صلى، يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى فيه. وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة وأكثره ثلاثة أذرع. وجمع بعضهم بأن ممر الشاة في حال القيام، والثلاثة الاذرع في حال الركوع والسجود، كذا قال ابن رسلان. والظاهر أن الامر بالعكس، قال ابن الصلاح: قدروا ممر الشاة بثلاثة أذرع. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، قال ابن رسلان: وثلث ذراع أقرب إلى المعنى من ثلاثة أذرع. قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف اه. وعن طلحة بن عبيد الله قال: كنا نصلي والدواب تمر بين أيدينا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: مثل مؤخرة الرحل يكون بين يدي أحدكم، ثم لا يضره ما مر بين يديه رواه أحمد ومسلم وابن ماجة. قوله: مثل مؤخرة الرحل قد تقدم ضبطه وتفسيره. قوله: بين يدي أحدكم هذا مطلق، والاحاديث التي فيها التقدير بممر الشاة وبثلاثة أذرع مقيدة لذلك. قوله: ثم لا يضره ما مر بين يديه لانه قد فعل المشروع من الاعلام بأنه يصلي، والمراد بقوله: لا يضره الضرر الراجع إلى نقصان صلاة المصلي، وفيه إشعار بأنه لا ينقص من صلاة من اتخذ سترة لمرور من مر بين يديه شئ وحصول النقصان إن لم يتخذ ذلك، وسيأتي الكلام فيه، وقد قيد بما إذا كان منفردا أو إماما، وأما إذا كان مؤتما فسترة الامام سترة له. وقد بوب البخاري وأبو داود لذلك، وأخرج الطبراني في الاوسط عن أنس مرفوعا: سترة الامام سترة لمن خلفه وفي إسناده سويد بن عاصم، وقد تفرد به وهو ضعيف. وأخرج نحوه عبد الرزاق عن ابن عمر موقوفا عليه. وروى عبد الرزاق التفرقة بين من يصلي إلى سترة أو إلى غير سترة عن عمر، لان الذي يصلي إلى غير سترة مقصر بتركها لا سيما إن صلى إلى شارع المشاة. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا، ولا يضره ما مر بين يديه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
[ 5 ]
الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصححه، والبيهقي وصححه أحمد وابن المديني فيما نقله ابن عبد البر في الاستذكار، وأشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي وغيرهم. قال الحافظ: وأورده ابن الصلاح مثالا للمضطرب ونوزع في ذلك. قال في بلوغ المرام: ولم يصب من زعم أنه مضطرب بل حسن. قوله: فليجعل تلقاء وجهه شيئا فيه أن السترة لا تختص بنوع بل كل شئ ينصبه المصلي تلقاء وجهه يحصل به الامتثال كما تقدم. قوله: فلينصب بكسر الصاد أي يرفع أو يقيم. قوله: عصا ظاهره عدم الفرق بين الرقيقة والغليظة، ويدل على ذلك. قوله (ص): استتروا في صلاتكم ولو بسهم الحديث المتقدم. وقوله (ص): يجزي من السترة قدر مؤخرة الرحل ولو بدقة شعرة أخرجه الحاكم وقال: على شرطهما. قوله: فإن لم يكن معه عصا هكذا لفظ أبي داود وابن حبان. ولفن ابن ماجة: فإن لم يجد. قوله: فليخط هذا لفظ ابن ماجة. ولفظ أبي داود: فليخطط وصفة الخط ما ذكره أبو داود في سننه قال: سمعت أحمد بن حنبل سئل عن وصف الخط غير مرة فقال: هكذا عرضا مثل الهلال، وسمعت مسددا قال: بل الخط بالطول اه. فاختار أحمد أن يكون مقوسا كالمحراب، ويصلي إليه كما يصلي في المحراب، واختار مسدد أن يكون مستقيما من بين يديه إلى القبلة، قال النووي في كيفيته: المختار ما قاله الشيخ أبو إسحاق إنه إلى القبلة، لقوله في الحديث: تلقاء وجهه واختار في التهذيب أن يكون من المشرق إلى المغرب ولم ير مالك ولا عامة الفقهاء الخط، كذا قال القاضي عياض، واعتذروا عن الحديث بأنه ضعيف مضطرب وقالوا: الغرض الاعلام وهو لا يحصل بالخط واختلف قول الشافعي، فروي عنه استحبابه، وروي عنه عدم ذلك. وقال جمهور أصحابه باستحبابه. قوله: ولا يضره مما مر بين يديه لفظ أبي داود: ثم لا يضره ما مر أمامه ولفظ ابن حبان: من مر أمامه وقد تقدم الكلام على هذا. وعن المقداد بن الاسود أنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الايسر أو الايمن ولا يصمد له صمدا. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شئ رواهما أحمد وأبو داود. الحديث الاول في إسناده أبو عبيدة الوليد بن كامل البجلي الشامي، قال المنذري: وفيه مقال وقال في التقريب: لين الحديث. (والحديث) الثاني أخرجه أيضا النسائي، قال المنذري: وذكر بعضهم في إسناده مقالا. قوله: إلى عود هو واحد العيدان.
[ 6 ]
قوله: ولا عمود هو واحد العمد. قوله: الايسر أو الايمن قال ابن رسلان: ولعل الايمن أولى لهذا بدأ به في الحديث رواية أبي داود، وعكس ذلك المصنف ولعلها رواية أحمد، ويكفي في الاولوية حديث: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. (وفي الحديث) استحباب أن تكون السترة على جهة اليمين أو اليسار. قوله: ولا يصمد بفتح أوله وضم ثالثه، والصمد في اللغة القصد، يقال: اصمد صمد فلان أي اقصد قصده، أي لا يجعله قصده الذي يصلي إليه تلقاء وجهه. قوله: صلى في فضاء ليس بين يديه شئ فيه دليل على أن اتخاذ السترة غير واجب، فيكون قرينة لصرف الاوامر إلى الندب، ولكنه قد تقرر في الاصول أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بنا، وتلك الاوامر السابقة خاصة بالامة، فلا يصلح هذا الفعل أن يكون قرينة لصرفها. (فائدة) إعلم أن ظاهر أحاديث الباب عدم الفرق بين الصحارى والعمران، وهو الذي ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من اتخاذه السترة، سواء كان في الفضاء أو في غيره، وحديث أنه كان بين مصلاه وبين الجدار ممر شاة ظاهر أن المراد في مصلاه في مسجده، لان الاضافة للعهد وكذلك حديث صلاته في الكعبة المتقدم فلا وجه لتقييد مشروعية السترة بالفضاء. باب دفع المار وما عليه من الاثم والرخصة في ذلك للطائفين بالبيت عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين رواه أحمد ومسلم وابن ماجة. وعن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا صلى أحدكم إلى شئيستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجة. قوله: إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع هذا مطلق مقيد بما في حديث أبي سعيد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا صلى أحدكم إلى شئ يستره فلا يجوز الدفع والمقاتلة إلا لمن كان له ستر. قال النووي: واتفقوا على أن هذا كله لمن لم يفرط في صلاته، بل احتاط وصلى إلى سترة أو في مكان يأمن المرور بين يديه. قوله: فلا يدع أحدا يمر بين
[ 7 ]
يديه ظاهر النهي التحريم. قوله: فإن أبى فليقاتله وفيه أنه يدافعه أولا بما دون القتل، فيبدأ بأسهل الوجوه، ثم ينتقل إلى الاشد فالاشد، إلى حد القتل. قال القاضي عياض والقرطبي: وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك لقاعدة الاقبال على الصلاة والاشتغال بها، وأطلق جماعة من الشافعية أن له أن يقاتله حقيقة، واستبعد ذلك ابن العربي وقال: المراد بالمقاتلة المدافعة، وأغرب الباجي فقال: يحتمل أن يكون المراد بالمقاتلة اللعن أو التعنيف، وتعقبه الحافظ بأنه يستلزم التكلم في الصلاة وهو مبطل بخلاف الفعل اليسير، وقد روى الاسماعيلي بلفظ: فإن أبى فليجعل يده في صدره وليدفعه وهو صريح في الدفع باليد، وكذلك فعل أبو سعيد بالغلام الذي أراد أن يجتاز بين يديه، فإنه دفعه في صدره ثم عاد فدفعه أشد من الاولى كما في البخاري وغيره. ونقل البيهقي عن الشافعي أن المراد بالمقاتلة دفع أشد من الدفع الاول. قال القاضي عياض: فإن دفعه بما يجوز فهلك فلا قود عليه باتفاق العلماء، وهل تجب دية أم يكون هدرا؟ مذهبان للعلماء، وهما قولان في مذهب مالك، وحكى القاضي عياض وابن بطال الاجماع على أنه لا يجوز له المشي من مكانه ليدفعه، ولا العمل الكثير في مدافعته، لان ذلك أشد في الصلاة من المرور. قال الحافظ: وذهب الجمهور إلى أنه إذا مر ولم يدفعه فلا ينبغي له أن يرده لان فيه إعادة للمرور. قال وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وغيره أن له ذلك. قال النووي: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع، وتعقبه الحافظ بأنه قد صرح بوجوبه أهل الظاهر اه. وظاهر الحديث معهم. قوله: فإن معه القرين في القاموس: القرين المقارن والصاحب، والشيطان المقرون بالانسان لا يفارقه وهو المراد هنا. قوله: فإنما هو شيطان قال الحافظ: إطلاق الشيطان على المار من الانس شائع ذائع، وقد جاء في القرآن قوله تعالى: * (شياطين الانس والجن) * (الانعام: 112) وسبب إطلاقه عليه أنه فعل فعل الشيطان. وقيل معناه إنما حمله على مروره وامتناعه من الرجوع الشيطان. وقال ابن بطال في هذا الحديث: جواز إطلاق لفظ الشيطان على من يفتن في الدين. قال الحافظ: وهو مبني على أن لفظ الشيطان يطلق حقيقة على الانسي ومجازا على الجني وفيه بحث. وقيل: المراد بالشيطان القرين كما في الحديث الاول. وقد استنبط ابن أبي جمرة. من قوله: فإنما هو شيطان أن المراد بالمقاتلة المدافعة اللطيفة لا حقيقة القتال، لان مقابلة الشيطان إنما هي بالاستعاذة والتستر عنه بالتسمية ونحوها، قال: وهل المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي من المرور أو لدفع الاثم عن
[ 8 ]
المار؟ الظاهر الثاني اه. قال الحافظ: وقال غيره بل الاول أظهر، لان إقبال المصلي على صلاته أولى من اشتغاله بدفع الاثم عن غيره. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته. وروى أبو نعيم عن عمر لو يعلم ابمصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شئيستره من الناس. قال: فهذان الاثران مقتاضهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلولا يختص بالمار، وهما وإن كانا موقوفين لفظا فحكمهما حكم الرفع لان مثلهما يقال بالرأي اه. وعن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن بسر بن سعيد عن أبي جهيم عبد الله بن الحرث بن الصمة الانصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه قال أبو النضر: لا أدري قال أربعين يوما أو شهرا أو سنة رواه الجماعة. قوله: ماذا عليه في رواية للبخاري من الاثم تفرد بها الكشميهني. قال الحافظ: ولم أرها في شئ من الروايات مطلقا، قال: فيحتمل أن تكون ذكرت في أصل البخاري حاشية فظنها الكشميهني أصلا، وقد أنكر ابن الصلاح في مشكل الوسيط على من أثبتها. قوله: لكان أن يقف أربعين يعني لو علم المار مقدار الاثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الاثم، فجواب لو قوله لكان أن يقف. وقال الكرماني: جواب لو ليس هو المذكور، بل التقدير لو يعلم ما عليه لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيرا له. قال الحافظ: وليس ما قاله متعينا. قوله: أربعين ذكر الكرماني لتخصيص الاربعين بالذكر حكمتين: إحداهما كون الاربعة أصل جميع الاعداد، فلما أريد التكثير ضربت في عشرة. ثانيهما: كون كمال أطوار الانسان بأربعين كالنطفة والمضغة والعلقة، وكذا بلوغ الاشد. قال الحافظ: ويحتمل غير ذلك. وفي سنن ابن ماجة وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة: لكان أن يقف مائة عام خيرا له من الخطوة التي خطاها وهذا مشعر بأن إطلاق الاربعين للمبالغة في تعظيم الامر لا لخصوص عدد معين. وفي مسند البزار لكان أن يقف أربعين خريفا. قوله: خيرا له روي بالنصب على أنه خبر كان، وبالرفع على أنه اسم كان وهي رواية الترمذي. قال في الفتح: ويحتمل أن يكون اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها. قوله: قال أبو النضر إلى آخره فيه إبهام ما على المار من الاثم زجرا له. (والحديث) يدل على أن المرور بين يدي المصلي من
[ 9 ]
الكبائر الموجبة للنار، وظاهره عدم الفرق بين صلاة الفريضة والنافلة. وعن المطلب بن أبي وداعة أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة رواأحمد وأبو داود، ورواه ابن ماجة والنسائي ولفظهما: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحازي بالركن فصلى ركعتين في حاشية المطاف وليس بينه وبين الطواف أحد. الحديث من رواية كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن بعض أهله عن جده، ففي إسناده مجهول، والمطلب وأبوه لهما صحبة وهما من مسلمة الفتح. قوله: والناس يمرون بين يديه فيه دليل على أن مرور المار بين يدي المصلي مع عدم اتخاذ السترة لا يبطل صلاته. قوله: وليس بينهما سترة قال سفيان: يعني ليس بينه وبين الكعبة سترة. (وفيه دليل) على عدم وجوب السترة، ولكن قد عرفت أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بنا. قوله: من سبعه بضم السين المهملة وسكون الباء بعدها عين مهملة أي مر أشواطه السبعة. قوله: في حاشية المطاف أي جانبه. باب من صلى وبين يديه إنسان أو بهيمة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت رواه الجماعة إلا الترمذي. قوله: صلاته من الليل أي صلاة التطوع. قوله: وأنا معترضة بينه وبين القبلة زاد أبو داود: راقدة وفيه دلالة على جواز الصلاة إلى النائم من غير كراهة. وقد ذهب مجاهد وطاوس ومالك والهادوية إلى كراهة الصلاإلى النائم خشية ما يبدو منه مما يلهي المصلي عن صلاته، واستدلوا بحديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجة بلفظ: لا تصلوا خلف النائم والمتحدث وقال أبو داود: طرقه كلها واهية، وقال النووي: هو ضعيف باتفاق الحفاظ. (وفي الباب) عن أبي هريرة عند الطبراني وعن ابن عمر عند ابن عدي وهما واهيان. قوله: فإذا أراد أن يوتر فيه مشروعية جعل الوتر آخر صلاة الليل، وسيأتي الكلام عليه. قوله: فأوترت فيه دليل على ما قاله النووي في شرح المهذب أن من لم
[ 10 ]
يكن له تهجد ووثق باستيقاظه آخر الليل فيستحب له تأخير الوتر ليفعله آخر الليل، وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث عن ذلك. (وفي الحديث) دليل على أن المرأة لا تقطع الصلاة، وسيأتي أيضا الكلام فيه. قال المصنف بعد أن ساقه: وهو حجة في جواز الصلاة إلى النائم اه. وعن ميمونة أنها كانت تكون حائضا لا تصلي وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي على خمرته إذا سجد أصابني بعض ثوبه متفق عليه. وفي رواية للبخاري: حيال مصلى النبي (ص). وفي أخرى له: وأنا إلى جنبه نائمة ومعنى الروايات واحد. قوله: وهي مفترشة في رواية للبخاري: وأنا على فراشي. قوله: على خمرته هي السجادة، وقد تقدم ضبطها وتفسيرها. قوله: أصابني بعض ثوبه وفي رواية للبخاري: أصابني ثوبه. وفي أخرى له: وأصابني ثيابه. وفي أخرى له: فربما وقع ثوبه. وفي أخرى له أيضا: فربما وقع ثيابه. (الحديث) يدل على أنه لا كراهة إذا أصاب ثوب المصلي امرأته الحائض، وقد تقدم الكلام في ذلك، وساقه المصنف هنا للاستدلال به على صحة صلاة من صلى وبين يديه إنسان، ولا دلالة في الحديث على ذلك، لان غاية ما فيه أنها كانت بحذاء مسجده صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لا يستلزم أن تكون بين يديه، وقد استدل به على أن المرأة لا تقطع الصلاة. قال ابن بطال: هذا الحديث وشبهه من الاحاديث التي فيها اعتراض المرأة بين المصلي وقبلته تدل على جواز القعود لا علجواز المرور. وعن الفضل بن عباس قال: زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عباسا في بادية لنا ولنا كليبة وحمارة ترعى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العصر وهما بين يديه، فلم يؤخرا ولم يزجرا رواه أحمد والنسائي. ولابي داود معناه. الحديث في إسناده عند أبي داود والنسائي محمد بن عمر بن علي، والعباس بن عبيد الله بن العباس وهما صدوقان. وقال المنذري: ذكر بعضهم أن في إسناده مقالا. قوله: زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخ فيه مشروعية زيارة الفاضل للمفضول. قوله: في بادية لنا البادية البدو وهو خلاف الحضر. قوله: كلبة بلفظ التصغير ورواية أبي داود: كلبة بالتكبير. قوله: وحمارة قال في المفاتيح: التاء في حمارة، وكلبة للافراد. كما يقال: تمر وتمرة، ويجوز أن تكون للتأنيث. قال الجوهري: وربما قالوا حمارة والاكثر أن يقال للانثى أتان (الحديث) استد به على أن الكلب والحمار لا يقطعان
[ 11 ]
الصلاة. وقد اختلف في ذلك، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا، وليس في هذا الحديث ذكر نعت الكلب بكونه أسود، ولا ذكر أنهما مرا بين يديه، وكونهما بين يديه لا يستلزم المرور الذي هو محل النزاع. باب ما يقطع الصلاة بمروره عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار رواه أحمد وابن ماجة ومسلم وزاد: وبقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل. وعن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار رواه أحمد وابن ماجة. وعن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره، إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته المرأة والحمار والكلب الاسود، قلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الاسود من الكلب الاحمر من الكلب الاصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سألتني فقال: الكلب الاسود شيطان رواه الجماعة إلا البخاري. حديث عبد الله بن مغفل رواه ابن ماجة من طريق جميل بن الحسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات. وفي الباب عن الحكم الغفاري عند الطبراني في المعجم الكبير بلفظ حديث عبد الله بن مغفل. وعن أنس عند البزار بلفظ: يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة قال العراقي: ورجاله ثقات. وعن أبي سعيد أشار إليه الترمذي. وعن ابن عباس عند أبي داود وابن ماجة بلفظ: ويقطع الصلاة الكلب الاسود والمرأة الحائض ولم يقل أبو داود الاسود. وقد روي موقوفا على ابن عباس. وعن ابن عباس حديث آخر مرفوع عند أبي داود وزاد فيه الخنزير واليهودي والمجوسي. وقد صرح أبو داود أن ذكر الخنزير والمجوسي فيه نكارة، قال: ولم أسمع هذا الحديث إلا من محمد بن إسماعيل، وأحسبه وهم لانه كان يحدثنا من حفظه اه. وعن عبد الله بن عمرو عند أحمد قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببعض أعلى الوادي يريد أن يصلي، قد قام وقمنا إذ خرج علينا حمار من شعب، فأمسك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكبر وأجرى إليه يعقوب بن زمعة حتى رده. قال العراقي: وإسناده صحيح. وعن عائشة عند أحمد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقطع صلاة المسلم شئ إلا
[ 12 ]
الحمار والكافر والكلب والمرأة لقد قرنا بدواب سوء. قال العراقي: ورجاله ثقات. (وأحاديث) الباب تدل على أن الكلب والمرأة والحمار تقطع الصلاة، والمراد بقطع الصلاة إبطالها، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وأنس وابن عباس في رواية عنه، وحكى أيضا عن أبي ذر وابن عمر، وجاء عن ابن عمر أنه قال به في الكلب، وقال به الحكم بن عمرو الغفاري في الحمار. وممن قال من التابعين بقطع الثلاثة المذكورة الحسن البصري وأبو الاحوص صاحب ابن مسعود. ومن الائمة أحمد بن حنبل فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري، وحكى الترمذي عنه أنه يخصص بالكلب الاسود، ويتوقف في الحمار والمرأة، قال ابن دقيق العيد: وهو أجود مما دل عليه كلام الاثرم من جزم القول عن أحمد بأنه لا يقطع المرأة والحمار، وذهب أهل الظاهر أيضا إلى قطع الصلاة بالثلاثة المذكورة، إذا كان الكلب والحمار بين يديه، سواء كان الكلب والحمار مارا أم غير مار، وصغيرا أم كبيرا، حيا أم ميتا، وكون المرأة بين يدي الرجل مارة أم غير مارة، صغيرة أم كبيرة، إلا أن تكون مضطجعة معترضة. وذهب إلى أنه يقطع الصلاة الكلب الاسود والمرأة الحائض ابن عباس وعطاء بن أبي رباح، واستدلا بالحديث السابق عند أبي داود وابن ماجة بلفظ: يقطع الصلاة الكلب الاسود والمرأة الحائض ولا عذر لمن يقول بحمل المطلق على المقيد من ذلك وهم الجمهور. وأما من يعمل بالمطلق وهم الحنفية وأهل الظاهر فلا يلزمهم ذلك. وقال ابن العربي: أنه لا حجة لمن قيد بالحائض، لان الحديث ضعيف، قال: وليست حيضة المرأة في يدها ولا بطنها ولا رجلها، قال العراقي: إن أراد بضعفه ضعف رواته فليس كذلك فإن جميعهم ثقات، وإن أراد به كون الاكثرين وقفوه على ابن عباس فقد رفعه شعبة، ورفع الثقة مقدم على وقف من وقفه، وإن كانوا أكثر على القول الصحيح في الاصول وعلوم الحديث انتهى. وروي عن عائشة أنها ذهبت إلى أنه يقطعها الكلب والحمار والسنور دون المرأة، ولعل دليلها على ذلك ما روته من اعتراضها بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم. وقد عرفت أن الاعتراض غير المرور، وقد تقدم عنها أنها روت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المرأة تقطع الصلاة فهي محجوجة بما روت. ويمكن الاستدلال بحديث أم سلمة الآتي وسيأتي ما عليه. وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنه يقطعها الكلب الاسود فقط، وحكاه ابن المنذر عن عائشة، ودليل هذا القول إن حديث ابن عباس الآت أخرج الحمار، وحديث أم سلمة الآتي أيضا. وكذلك حديث عائشة المتقدم أخرج المرأة، والتقييد
[ 13 ]
بالاسود أخرج ما عداه من الكلاب، وحديث أن الخنزير والمجوسي واليهودي يقطع لا تقوم بمثله حجة كما تقدم. وفيه أن حديث عائشة المتقدم مشتمل على ذكر الكافر ورجال إسناده ثقات كما عرفت. وذهب مالك والشافعي وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف، ورواه المهدي في البحر عن العترة أنه لا يبطل الصلاة مرور شئ. قال النووي: وتأول هؤلاء هذا الحديث، على أن المراد بالقطع نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الاشياء، وليس المراد إبطالها، ومنهم من يدعي النسخ بالحديث الآخر: لا يقطع الصلاة شئ وادرؤوا ما استطعتم قال: وهذا غير مرضي، لان النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الاحاديث وتأويلها وعلمنا التاريخ، وليس هنا تاريخ ولا تعذر الجمع والتأويل، بل يتأول على ما ذكرنا، مع أن حديث: لا يقطع صلاة المرء شئ ضعيف انتهى. وروي القول بالنسخ عن الطحاوي وابن عبد البر، واستدلا على تأخر تاريخ حديث ابن عباس الآتي بأنه كان في حجة الوداع وهي في سنة عشر، وفي آخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى تأخر حديث عائشة وحديث ميمونة المتقدمين. وحديث أم سلمة الآتي بأن ما حكاه زوجاته عنه يعلم تأخره لكونه صلاته بالليل عندهن، ولم يزل على ذلك حتى مات خصوصا مع عائشة، مع تكرر قيامه في كل ليلة، فلو حدث شئ مما يخالف ذلك لعلمن به، وعلى تسليم صحة هذا الاستدلال على التأخر لا يتم به المطلوب من النسخ، أما أولا فقد عرفت أن حديث عائشة وميمونة خارجان عن محل النزاع، وحديث أم سلمة أخص من المتنازع فيه، لان الذي فيه مرور الصغيرة بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث ابن عباس ليس فيه إلا مرور الاتان فهو أخص من الدعوى. وأما ثانيا فالخاص بهذه الامور لا يصلح لنسخ ما اشتمل على زيادة عليها لما تقرر من وجوب بناء العام على الخاص مطلقا. وأما ثالثا فقد أمكن الجمع بما تقدم. وأما رابعا فيمكن الجمع أيضا بأن يحمل حديث عائشة وميمونة وأم سلمة على صلاة النفل، وهو يغتفر فيه ما لا يغتفر في الفرض، على أنه لم ينقل أنه اجتزأ بتلك الصلاة، أو يحمل على أن ذلك وقع في غير حالة الحيض، والحكم بقطع المرأة للصلاة إنما هو إذا كانت حائضا كما تقدم. وأيضا قد عرفت أن وقوع ثوبه صلى الله عليه وآله وسلم على ميمونة لا يستلزم أنها بين يديه فضلا عن أن يستلزم المرور، وكذلك اعتراض عائشة لا يستلزم المرور، ويحمل حديث ابن عباس على أن صلاته صلى الله عليه وآله وسلم كانت إلى سترة مع وجود السترة لا يضر مرور شئ من
[ 14 ]
الاشياء المتقدمة، كما يدل على ذلك قوله في حديث أبي هريرة: وبقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل وقوله في حديث أبي ذر: فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل ولا يلزم نفي الجدار، كما سيأتي في حديث ابن عباس نفي سترة أخرى من حربة أو غيرها كما ذكره العراقي. ويدل على هذا أن البخاري بوب على هذا الحديث باب سترة الامام سترة لمن خلفه، فاقتضى ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي إلى سترة، لا يقال: قد ثبت في بعض طرقه عند البزار بإسناد صحيح بلفظ: ليس شئ بسترة تحول بيننا وبينه لانا نقول: لم ينف السترة مطلقا، إنما نفى السترة التي تحول بينهم وبينه كالجدار المرتفع الذي يمنع الرؤية بينهما، وقد صرح بمثل هذا العراقي ولو سلم أن هذا يدل على نفي السترة مطلقا لامكن الجمع بوجه آخر، ذكره ابن دقيق العيد وهو أن قول ابن عباس كما سيأتي، ولم ينكر ذلك على أحد ولم يقل، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، يدل على أن المرور كان بين يدي بعض الصف، ولا يلزم من ذلك اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لجواز أن يكون الصف ممتدا ولا يطلع عليه. (لا يقال) إن قوله أحد يشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لانه لا معنى للاستدلال بعدم الانكار من غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع حضرته، ولو سلم اطلاعه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك كما ورد في بعض روايات الصحيح بلفظ: فلم ينكر ذلك على بالبناء للمجهول، لم يكن ذلك دليلا على الجواز، لان ترك الانكار إنما كان لاجل أن الامام سترة للمؤتمين كما تقدم، وسيأتي ولا قطع مع السترة لما عرفت، ولو سلم صحة الاستدلال بهذا الحديث على الجواز وخلوصه من شوائب هذه الاحتمالات لكان غايته أن الحمار لا يقطع الصلاة ويبقى ما عداه. (وأما الاستدلال) بحديث لا يقطع الصلاة شئ فستعرف عدم انتهاضه للاحتجاج، ولو سلم انتهاضه فهو عام مخصص بهذه الاحاديث، أما عند من يقول: إنه يبنى العام على الخاص مطلقا فظاهر، وعند من يقول: إن العام المتأخر ناسخ فلا تأخر لعدم العلم بالتاريخ، ومع عدم العلم يبنى العام على الخاص عند الجمهور. وقد ادعى أبو الحسين الاجماع على ذلك. وأما على القول بالتعارض بين العام والخاص مع جهل التاريخ كما هو مذهب جمهور الزيدية والحنفية والقاضي عبد الجبار والباقلاني فلا شك أن الاحاديث الخاصة فيما نحن بصدده أرجح من هذا الحديث العام، إذا تقرر لك ما أسلفنا عرفت أن الكلب الاسود والمرأة الحائض يقطعان الصلاة، ولم يعارض الادلة القاضية بذلك معارض إلا ذلك العموم على المذهب الثاني، وقد عرفت أنه مرجوح. وكذلك يقطع
[ 15 ]
الصلاة الخنزير والمجوسي واليهودي إن صح الحديث الوارد بذلك، وقد تقدم ما يؤيده، ويبقى النزاع في الحمار وقد أسلفنا في ذلك ما فيه كفاية. وأما المرأة غير الحائض والكلب الذي ليس بأسود فقد عرفت الكلام فيهما انتهى. وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في حجرتها فمر بين يديه عبد الله أو عمر فقال بيده هكذا فرجع، فمرت ابنة أم سلمة فقال بيده هكذا فمضت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: هن أغلب رواه أحمد وابن ماجة. الحديث في إسناده مجهول وهو قيس المدني والد محمد بن قيس القاص وبقية رجاله ثقات. قوله: عبد الله أو عمر يعني ابني أبي سلمة. قوله: ابنة أم سلمة تعني زينب بنت أبي سلمة. قوله: هن أغلب أي لا ينتهين لجهلهن. (والحديث) يدل على أن مرور الجارية لا يقطع الصلاة، والاستدلال به على ذلك لا يتم إلا بعد تسليم أنه لم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم سترة عند مرورها، وأنه اعتد بتلك الصلاة، وقد عرفت بقية الكلام على ذلك في شرح الاحاديث التي قبله. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقطع الصلاة شئ وادرؤوا ما استطعتم فإنما هو شيطان رواه أبو داود. الحديث في إسناده مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني الكوفي، وقد تكلم فيه غير واحد، وأخرج له مسلم حديثا مقرونا بجماعة من أصحاب الشعبي. (وفي الباب) عن ابن عمر عند الدارقطني بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر قالوا: لا يقطع صلاة المسلم شئ وادرأ ما استطعت وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي وهو ضعيف. قال العراقي: والصحيح عن ابن عمر ما رواه مالك في الموطأ من قوله أنه كان يقول: لا يقطع الصلاة شئ مما يمر بين يدي المصلي. وأخرج الدارقطني عنه بإسناد صحيح أنه قال: لا يقطع صلاة المسلم شئ. وفي الباب أيضا عن أنس عند الدارقطني بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالناس فمر بين أيديهم حمار فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله سبحان الله، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من المسبح آنفا؟ قال: أنا يا رسول الله إني سمعت أن الحمايقطع الصلاة، قال: لا يقطع الصلاة شئ وإسناده ضعيف كما قال الحافظ في الفتح وعن جابر عند الطبراني في الاوسط بلفظ: قال
[ 16 ]
صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقطع الصلاة شئ وادرؤوا ما استطعتم. وفي إسناده يحيى بن ميمون التمار وهو ضعيف. وعن أبي إمامة عند الطبراني في الكبير والدارقطني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقطع الصلاة شئ، وفي إسناده عفير بن معدان وهو ضعيف: وعن أبي هريرة عند الدارقطني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقطع صلاة المرء امرأة ولا كلب ولا حمار وادرأ ما استطعت وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبو هريرة، فإن صح كان صالحا للاستدلال به على النسخ إن صح تأخر تاريخه. وأما بقية أحاديث الباب فلا تصلح لذلك لانها على ما فيها من الضعف عمومات مجهولة التاريخ، وقد قدمنا كيفية العمل فيها على ما يقتضيه الاصول. وقد أخرج سعيد بن منصور عن علي عليه السلام وعثمان وغيرهما من أقوالهم نحو أحاديث الباب بأسانيد صحيحة. وعن ابن عباس قال: أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الاتان ترتع فدخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد رواه الجماعة. قوله: على أتان الاتان بهمزة مفتوحة وتاء مثناة من فوق الانثى من الحمير ولا يقال أتانة. والحمار يطلق على الذكر والانثى كالفرس. وفي بعض طرق البخاري على حمار أتان. قوله: ناهزت الاحتلام أي قاربته من قولهم: نهز أي نهض، يقال: ناهز الصبي البلوغ أي داناه. وقد أخرج البزار بإسناد صحيح أن هذه القصة كانت في حجة الوداع كما تقدم، ففيه دليل على أن ابن عباس كان في حجة الوداع دون البلوغ، قال العراقي: وقد اختلف في سنه حين توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيل: ثلاث عشرة، ويدل له قولهم: إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين. وقيل: كان عمره عشر سنين وهو ضعيف، وقيل: خمس عشرة، قال أحمد: إنه الصواب انتهى. وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: أنا يومئذ مختون، وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك. قوله: بين يدي بعض الصف زاد البخاري في الحج: حتى سرت بين يدي بعض الصف. قوله: فلم ينكر ذلك علي أحد قال ابن دقيق العيد: استدل ابن عباس بترك الانكار على الجواز، ولم يستدل بترك إعادتهم
[ 17 ]
الصلاة، لان ترك الانكار أكثر فائدة. قال الحافظ: وتوجيهه أن ترك الاعادة يدل على صحتها فقط لا على جواز المرور، وترك الانكار يدل على جواز المرور وصحة الصلاة معا. (والحديث) استدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، وإنه ناسخ لحديث أبي ذر المتقدم ونحوه، لكون هذه القصة في حجة الوداع، وقد تعقب بما قدمنا في شرح أحاديث أول الباب، وحكى الحافظ عن ابن عبد البر أنه قال: حديث ابن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد: إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه فإن ذلك مخصوص بالامام والمنفرد، فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه لحديث ابن عباس هذا، قال: وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء، وكذا نقل القاضي عياض الاتفاق على أن المأمومين يصلون إلى سترة، لكن اختلفوا هل سترتهم سترة الامام أو سترتهم الامام بنفسه انتهى. إذا تقرر الاجماع على أن الامام أو سترته سترة للمؤتمين وتقرر بالاحاديث المتقدمة أن الحمار ونحوه إنما يقطع مع عدم اتخاذ السترة، تبين بذلك عدم صلاحية حديث ابن عباس للاحتجاج به، على أن الحمار لا يقطع الصلاة لعدم تناوله لمحل النزاع وهو القطع مع عدم السترة، ولو سلم تناوله لكان المتعين الجمع بما تقدم. [ رم ] أبواب صلاة التطوع باب سنن الصلاة الراتبة المؤكدة عن عبد الله بن عمر قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة، كانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها، فحدثتني حفصة أنه كان إذا طلع الفجر وأذن المؤذن صلى ركعتين متفق عليه. وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر اثنتين رواه الترمذي وصححه. وأخرجه أحمومسلم وأبو داود بمعناه، لكن ذكروا فيه قبل الظهر أربعا.
[ 18 ]
قوله: حفظت في لفظ للبخاري: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: ركعتين في رواية للبخاري: سجدتين مكان ركعتين في جميع أطراف الحديث، والمراد بهما الركعتان، وقد ساقه البخاري في باب الركعتين قبل الظهر بنحو اللفظ الذي ذكره المصنف هنا. قوله: ركعتين قبل الظهر في الحديث الآخر أربع قبل الظهر. قال الداودي: وقع في حديث ابن عمر أن قبل صلاة الظهر ركعتين، وفي حديث عائشة أربعا، وهو محموعلى أن كل واحد منهما وصف ما رأى، قال: ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الاربع. قال الحافظ: وهذا الاحتمال بعيد، والاولى أن يحمل على حالين، فكان تار يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعا. وقيل: هو محمول على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين، وفي بيته يصلي أربعا، ويحتمل أنه كان يصلي إذا كان في بيته ركعتين، ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته، واطلعت عائشة على الامرين. ويقوي الاول ما رواه أحمد وأبو داود من حديث عائشة أنه كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج. قال أبو جعفر الطبري: الاربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها. قوله: وركعتين بعد المغرب زاد البخاري: في بيته. وفي لفظ له: فأما المغرب والعشاء ففي بيته وقد استدل بذلك على أن فعل النوافل الليلية في البيوت أفضل من المسجد، بخلاف رواتب النهار، وحكى ذلك عن مالك والثوري. قال الحافظ: وفي الاستدلال به لذلك نظر، والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد، وإنما كان صلى الله عليه وآله وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبا وبالليل يكون في بيته غالبا. وروي عن ابن أبي ليلى أنها لا تجزئ صلاة سنة المغرب في المسجد، واستدل بحديث محمود بن لبيد مرفوعا: أن الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت وحكى ذلك لاحمد فاستحسنه. قوله: وركعتين بعد العشاء زاد البخاري: في بيته وقد تقدم الكلام في ذلك. قوله: وركعتين قبل الغداة إلى آخره فيه أنه إنما أخذ عن حفصة وقت إيقاع الركعتين لا أصل المشروعية، كذا قال الحافظ. (والحديثان) يدلان على مشروعية ما اشتملا عليه من النوافل وأنها مؤقتة، واستحباب المواظبة عليها، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقد روي عن مالك ما يخالف ذلك. وذهب الجمهور أيضا إلى أنه لا وجوب لشئ من رواتب الفرائض، وروي عن الحسن البصري القول بوجوب ركعتي الفجر.
[ 19 ]
وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من صلى في يووليلة اثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة بني له بيت في الجنة رواه الجماعة إلا البخاري. ولفظ الترمذي: من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة، أربعا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر وللنسائي حديث أم حبيبة كالترمذي لكن قال: وركعتين قبل العصر ولم يذكر ركعتين بعد العشاء. الحديث، قال الترمذي بعد أن ساقه بهذا التفسير: حسن صحيح، وقد فسره أيضا ابن حبان، وقد ساقه بهذا التفسير الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عائشة. وفي الباب عن أبي هريرة عند النسائي وابن ماجة بلفظ: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة ركعتين قبل الفجر، وركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين أظنه قال قبل العصر، وركعتين بعد المغرب أظنه قال وركعتين بعد العشاء الآخرة. وفي إسناده محمد بن سليمان الاصبهاني وهو ضعيف. وعن أبي موسى عند أحمد والبزار والطبراني في الاوسط بنحو حديث أم حبيبة بدون التفسير. (وأحاديث الباب) تدل على تأكيد صلاة هذه الاثنتي عشرة ركعة، وهي من السنن التابعة للفرائض. وقد اختلف في حديث أم حبيبة كما ذكر المصنف، فالترمذي أثبت ركعتين بعد العشاء، ولم يثبت ركعتين قبل العصر، والنسائي عكس ذلك، وحديث عائشة فيه إثبات الركعتين بعد العشاء دون الركعتين قبل العصر. وحديث أبي هريرة فيه إثبات ركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء، ولكنه لم يثبت قبل الظهر إلا ركعتين، والمتعين المصير إلى مشروعية جميع ما اشتملت عليه هذه الاحاديث وهو وإن كان أربع عشرة ركعة. (والاحاديث) مصرحة بأن الثواب يحصل باثنتي عشرة ركعة، لكنه لا يعلم الاتيان بالعدد الذي نص عليه صلى الله عليه وآله وسلم في الاوقات التي جاء التفسير بها إلا بفعل أربع عشرة ركعة لما ذكرنا من الاختلاف. باب فضل الاربع قبل الظهر وبعدها وقبل العصر وبعد العشاء عن أم حبيبة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من
[ 20 ]
صلى أربع ركعات قبل الظهر وأربعا بعدها حرمه الله على النار رواه الخمسة وصححه الترمذي. الحديث من رواية مكحول عن عنبسة بن أبي سفيان عن أم حبيبة، وقد قال أبو زرعة، وهشام بن عمار، وأبو عبد الرحمن النسائي: أن مكحولا لم يسمع من عنبسة بن أبي سفيان، كذا قال المنذري. وقد أعله ابن القطان وأنكره أبو الوليد الطيالسي، وأما الترمذي فصححه كما قال المصنف، لكن من طريق أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن صاحب أبي أمامة. قال المنذري: والقاسم هذا اختلف فيه، فمنهم من يضعف روايته، ومنهم من يوثقه انتهى. وقد روي عن ابن حبان أنه صححه، ورواه الترمذي أيضا عن محمد بن عبد الله الشعيثي، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة وقال: حسن غريب. وهذه متابعة لمكحول والشعيثي المذكور وثقه دحيم والمفضل بن غسان العلائي والنسائي وابن حبان. قوله: حرمه الله على النار في رواية: لم تمسه النار. وفي رواية: حرم على النار وفي أخرى: حرم الله لحمه على النار وقد اختلف في معنى ذلك هل المراد أنه لا يدخل النار أصلا: أو أنه وإن قدر عليه دخولها لا تأكله النار، أو إنه يحرم على النار أن تستوعب أجزاءه وإن مست بعضه كما في بعض طرق الحديث عند النسائي بلفظ: فتمس وجهه النار أبدا وهو موافق لقوله في الحديث الصحيح: وحرم على النار أن تأكل مواضع السجود فيكون قد أطلق الكل وأريد البعض مجازا، والحمل على الحقيقة أولى، وأن الله تعالى يحرم جميعه على النار، وفضل الله تعالى أوسع ورحمته أعم. (والحديث) يدل على تأكد استحباب أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعده، وكفي بهذا الترغيب باعثا على ذلك. وظاهر. قوله: من صلى أن التحريم على النار يحصل بمرة واحدة، ولكنه قال اخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما بلفظ: من حافظ فلا يحرم على النار إلا المحافظ. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا رواه أحمد وأبو داود والترمذي. الحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان وابن خزيمة، وفي إسناده محمد بن مهران وفيه مقال، ولكنه قد وثقه ابن حبان وابن عدي. (وفي الباب) عن علي رضي الله عنه عند أهل السنن بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم وزاد الترمذي والنسائي وابن ماجة: على الملائكة المقربين
[ 21 ]
ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين وله حديث آخر بمعناه عند الطبراني في الاوسط. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني في الكبير والاوسط مرفوعا بلفظ: من صلى أربع ركعات قبل العصر لم تمسه النار وعن أبي هريرة عند أبي نعيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلى أربع ركعات قبل العصر غفر الله له. وهو من رواية الحسن عن أبي هريرة ولم يسمع منه. وعن أم حبيبة عند أبي يعلى بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من حافظ على أربع ركعات قبل العصر بنى الله له بيتا في الجنة وفي إسناده محمد بن سعيد المؤذن، قال العراقي: لا أدري من هو. وعن أم سلمة عند الطبراني في الكبير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من صلى أربع ركعات قبل العصر حرم الله بدنه على النار والاحاديث المذكورة تدل على استحباب أربع ركعات قبل العصر، والدعاء منه صلى الله عليه وآله وسلم بالرحمة لمن فعل ذلك، والتصريح بتحريم بدنه على النار مما يتنافس فيه المتنافسون. وعن عائشة قالت: ما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العشاء قط فدخل علي، إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات رواه أحمد وأبو داود. الحديث رجال إسناده ثقات، ومقاتل بن بشير العجلي قد وثقه ابن حبان، وقد أخرجه أيضا النسائي، وقد أخرج البخاري وأبو داود والنسائي من حديث ابن عباس قال: بت في بيت خالتي ميمونة الحديث. وفيه: فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات وروى محمد بن نصر في قيام الليل والطبراني في الكبير من حديث ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من صلى أربع ركعات خلف العشاء الآخرة قرأ في الركعتين الاولتين: * (قل يا أيها الكافرون) * (الكافرون: 1) و * (قل هو الله أحد) * (الاخلاص: 1) وفي الركعتين الآخرتين: * (تنزيل السجدة) * و * (تبارك الذي بيده الملك) * (الملك: 1) كتبن له كأربع ركعات من ليلة القدر وفي إسناده أبو فروة يزيد بن سنان الرهاوي ضعفه الجمهور. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وقال البخاري: مقارب الحديث. وروى محمد بن نصر من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى العشاء الآخرة، ثم صلى أربع ركعات حتى لم يبق في المسجد غيري وغيره وفيه المنهال بن عمر وقد اختلف فيه. وروى الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعا: من صلى العشاء الآخرة في جماعة وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر قال العراقى ولم يصح واكثر الاحاديث
[ 22 ]
ان ذلك كان في البيت ولم يرد التقييد بالمسجد إلا في حديث ابن عباس، وحديث ابن عمر المذكورين. فأما حديث ابن عمر فقد تقدم ما قال العراقي فيه. وأما حديث ابن عباس ففي إسناده من تقدم. قال العراقي: وعلى تقدير ثبوته فيكون قد وقع ذلك منه لبيان الجواز أو لضرورة له في المسجد اقتضت ذلك. (والحديث) يدل على مشروعية صلاة أربع ركعات أو ست ركعات بعد صلاة العشاء، وذلك من جملة صلاة الليل وسيأتي الكلام فيها. وعن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من صلى قبل الظهر أربعا كان كأنما تهجد من ليلته، ومن صلاهن بعد العشاء كان كمثلهن من ليلة القدر رواه سعيد بن منصور في سننه. الحديث أخرجه أيضا الطبراني في الاوسط باللفظ الذي ذكره المصنف، وهو من رواية ناهض بن سالم الباهلي قال: حدثنا عمار أبو هاشم عن الربيع بن لوط عن عمه البراء ابن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعمار والربيع ثقتان. وأما ناهض فقال العراقي: لم أر لهم فيه جرحا ولا تعديلا، ولم أجد له ذكرا انتهى. وأخرج الطبراني عن البراء حديثا آخر وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ. (وفي الباب) عن أنس عند الطبراني أيضا بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أربع قبل الظهر كعدلهن بعد العشاء، وأربع بعد العشاء كعدلهن من ليلة القدر وفي إسناده يحيى ابن عقبة وليس بثقة، قاله النسائي وغيره. وقال ابن معين: ليس بشئ. (والحديث) يدل على مشروعية أربع قبل الظهر، وقد تقدم الكلام فيها، وعلى مشروعية أربع بعد العشاء، وقد قدمنا ما في ذلك من الاحاديث. باب تأكيد ركعتي الفجر وتخفيف قراءتهما والضجعة والكلام بعدهما وقضائهما إذا فاتتا عن عائشة قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شئ من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر متفق عليه. وعنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه.
[ 23 ]
وفي الباب عن علي عليه السلام عند ابن ماجة، وعن ابن عمر عند أحمد، وأبي داود والطبراني غير حديثه الآتي، وعن ابن عباس عند ابن عدي في الكامل، وعن بلال عند أبي داود. قوله: الضجعة بكسر الضاد المعجمة الهيئة، وبفتحها المرة ذكر معنى ذلك في الفتح. قوله: أشد تعاهدا في رواية ابن خزيمة: أشد معاهدة. ولمسلم: ما رأيته، إلى شئ من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر زاد ابن خزيمة من هذا الوجه، ولا إلى غنيمة. (والحديثان) يدلان على أفضلية ركعتي الفجر، وعلى استحباب التعاهد لهما، وكراهة التفريط فيهما. وقد استدل بهما على أن ركعتي الفجر أفضل من الوتر، وهو أحد قولي الشافعي، ووجه الدلالة أنه جعل ركعتي الفجر خيرا من الدنيا وما فيها، وجعل الوتر خيرا من حمر النعم، وحمر النعم جزء ما في الدنيا. وأصح القولين عن الشافعي أن الوتر أفضل. وقد استدل لذلك بما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أفضل الصلاة بعد الفريضة الصلاة في جوف الليل وبالاختلاف في وجوبه كما سيأتي، وقد وقع الاختلاف أيضا في وجوب ركعتي الفجر، فذهب إلى الوجوب الحسن البصري، حكى ذلك عنه ابن أبي شيبة في المصنف، وحكى صاحب البيان والرافعي وجها لبعض الشافعية أو الوتر وركعتي الفجر سواء في الفضيلة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل رواه أحمد وأبو داود. الحديث في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق المدني، ويقال فيه عباد بن إسحاق أخرج له مسلم، واستشهد به البخاري ووثقه يحيى بن معين. وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به وهو حسن الحديث، وليس بثبت ولا قوي. وقال يحيى بن سعيد القطان: سألت عنه بالمدينة فلم يحمدوه، وقال بعضهم: إنما لم يحمدوه في مذهبه، فإنه كان قدريا فنفوه من المدينة، فأما رواياته فلا بأس. وقال البخاري: مقارب الحديث. وقال العراقي: إن هذا حديث صالح. (والحديث) يقتضي وجوب ركعتي الفجر، لان النهي عن تركهما حقيقة في التحريم، وما كان تركه حراما كان فعله واجبا، ولا سيما مع تعقيب ذلك. بقوله: ولو طردتكم الخيل فإن النهي عن التر ك في مثل هذه الحالة الشديدة التي يباح لاجلها كثير من الواجبات من الادلة الدالة على ما ذهب إليه الحسن من الوجوب، فلا بد للجمهور من قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي للنهي بعد تسليم صلاحية الحديث للاحتجاج. وأما الاعتذار عنه بحديث: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع فسيأتي الجواب عنه.
[ 24 ]
وعن ابن عمر قال: رمقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهرا فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) * رواه الخمسة إلا النسائي. الحديث أخرجه أيضا مسلم، وفي الباب عن ابن مسعود عند الترمذي، وعن أبي هريرة عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة. وعن أنس عند البزار ورجال إسناده ثقات. وعن عائشة عند ابن ماجة. وعن عبد الله بن جعفر عند الطبراني في الاوسط. وعن جابر عند ابن حبان في صحيحه. قوله: رمقت في رواية للنسائي: رمقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشرين مرة. وفي رواية ابن أبي شيبة في المصنف: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من عشرين مرة. وفي رواية ابن عدي في الكامل: رمقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وعشرين صباحا. وجميع هذه الروايا ت مشعرة بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر بقراءتهما. (والحديث) يدل على استحباب قراءة سورتي الاخلاص في ركعتي الفجر. قال العراقي: وممن روى عنه ذلك من الصحابة عبد الله بن مسعود، ومن التابعين سعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، وعبد الرحمن بن يزيد النخعي، وسويد بن غفلة، وغنيم بن قيس، ومن الائمة الشافعي، وقال مالك: أما أنا فلا أزيد على أم القرآن في كل ركعة، وروى عن الاصم وابن علية أنه لا يقرأ فيهما أصلا، وهو مخالف للاحاديث الصحيحة، واحتج بحديث عائشة الآتي، وسيأتي أنه مجرد شك منها، فلا يصح الاحتجاج به. (وفي الحديث) أيضا استحباب تخفيف ركعتي الفجر، وسيأتي ذكر الحكمة في ذلك. وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لاقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن؟ متفق عليه. وفي الباب عن أبو عباس عند الجماعة بلفظ: فصلى ركعتين خفيفتين وله حديث آخر عند مسلم وأبي داوود النسائي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) * (البقرة: 136) والتي في آل عمران * (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * (آل عمران: 64) وفي رواية لمسلم: وفي الآخرة آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون. وعن حفصة عند الجماعة إلا أبا داود بلفظ: ركع ركعتين خفيفتين وعن الفضل بن عباس عند أبي داود بلفظ: فصلى سجدتين خفيفتين. وعن أسامة بن عمر عند الطبراني بلفظ: فصلى ركعتين خفيفتين. (الحديث) وما ذكر في الباب معه يدل على مشروعية التخفيف، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور، وخالفت في ذلك الحنفية فذهبت إلى استحباب إطالة القراءة، وهو مخالف لصرائح
[ 25 ]
الادلة، واستدلوا بالاحاديث الواردة في الترغيب في تطويل الصلاة نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الصلاة طول القنوت. ونحو: إن طول صلاة الرجل مئنة من فقهه وهو من ترجيح العام على الخاص، وبهذا الحديث تمسك مالك وقال بالاقتصار على قراءة فاتحة الكتاب في هاتين الركعتين، وليس فيه إلا أن عائشة شكت هل كان يقرأ بالفاتحة أم لا لشدة تخفيفه لهما، وهذا لا يصلح التمسك به، لرد الاحاديث الصريحة الصحيحة الواردة من طرق متعددة كما تقدم. وقد أخرج ابن ماجة عن عائشة نفسها أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ركعتي الفجر فكان يقول: نعم السورتان هما يقرأ بهما في ركعتي الفجر: * (قل يا أيها الكافرون) * (الكافرون: 1) و * (قل هو الله أحد) * ولا ملازمة بين مطلق التخفيف والاقتصار على الفاتحة لانه من الامور النسبية. (وقد اختلف) في الحكمة في التخفيف لهما فقيل ليبادر إلى صلاة الفجر في أول الوقت وبه جزم القرطبي، وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما يصنع في صلاة الليل، ليدخل في الفرض أو ما يشابهه بنشاط واستعداد تام، ذكره الحافظ في الفتح والعراقي في شرح الترمذي. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الايمن رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الايمن وفي رواية: كان إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع متفق عليه. الحديث الاول رجاله رجال الصحيح، وقد أخرجه أيضا ابن ماجة. والحديث الثاني أخرجه الجماعة كلهم. (وفي الباب) عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد والطبراني بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الايمن وفي إسناده حي بن عبد الله المعافري وهو مختلف فيه، وفي إسناد أحمد أيضا ابن لهيعة وفيه مقال مشهور. وعن ابن عباس عند البيهقي بنحو حديث عبد الله بن عمرو، وفيه انقطاع واختلاف على ابن عباس. وعن أبي بكرة عند أبي داود بلفظ: قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الصبح فكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة أو حركبرجله. أدخله أبو داود والبيهقي في باب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. (والاحاديث) المذكورة تدل على مشروعية الاضطجاع بعد
[ 26 ]
صلاة ركعتي الفجر إلى أن يؤذن بالصلاة، كما في صحيح البخاري من حديث عائشة، وقد اختلف في حكم هذا الاضطجاع على ستة أقوال: الاول أنه مشروع على سبيل الاستحباب، قال العراقي: فمن كان يفعل ذلك أو يفتي به من الصحابة أبو موسى الاشعري ورافع بن خديج وأنس بن مالك وأبو هريرة. واختلف فيه على ابن عمر فروى عنه فعل ذلك، كما ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه، وروى عنه إنكاره كما سيأتي. وممن قال به من التابعين ابن سيرين وعروة وبقية الفقهاء السبعة، كما حكاه عبد الرحمن بن زيد في كتاب السبعة وهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار. قال ابن حزم: وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عثمان بن غياث هو ابن عثمان أنه حدثه قال: كان الرجل يجئ وعمر بن الخطاب يصلي بالناس فيصلي ركعتين في مؤخر المسجد ويضع جنبه في الارض ويدخل معه في الصلاة. وممن قال باستحباب ذلك من الائمة الشافعي وأصحابه. القول الثاني: أن الاضطجاع بعدهما واجب مفترض لا بد من الاتيان به، وهو قول أبي محمد بن حزم، واستدل بحديث أبي هريرة المذكو، وحمله الاولون على الاستحباب لقول عائشة: فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع وظاهره أنه كان لا يضطجع مع استيقاظها، فكان ذلك قرينة لصرف الامر إلى الندب، وفيه أن تركه صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر به أمرا خاصا بالامة لا يعارض ذلك الامر الخاص، ولا يصرفه عن حقيقته كما تقرر في الاصول. القول الثالث: أن ذلك مكروه وبدعة، وممن قال به من الصحابة ابن مسعود، وابن عمر على اختلاف عنه، فروى ابن أبي شيبة في المصنف من رواية إبراهيم قال: قال ابن مسعود: ما بال الرجل إذا صلى الركعتين يتمعك كما تتمعك الدابة أو الحمار إذا سلم فقد فصل. وروى ابن أبي شيبة أيضا من رواية مجاهد قال: صحبت ابن عمر في السفر والحضر فما رأيته اضطجع بعد ركعتي الفجر. وروى سعيد بن المسيب عنه أنه رأى رجلا يضطجع بعد الركعتين فقال: أحصبوه. وروى أبو مجلز عنه أنه قال: إن ذلك من تلعب الشيطان. وفي رواية زيد العمي عن أبي الصديق الناجي عنه أنه قال: إنها بدعة، ذكر ذلك جميعه ابن أبي شيبة. وممن كره ذلك من التابعين الاسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي وقال: هي ضجعة الشيطان، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير. ومن الائمة مالك، وحكاه القاضي عياض عن جمهور العلماء. القول الرابع: أنه
[ 27 ]
خلاف الاولى، روى ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. القول الخامس: التفرقة بين من يقوم بالليل فيستحب له ذلك للاستراحة، وبين غيره فلا يشرع له، واخ تاره ابن العربي وقال: لا يضطجع بعد ركعتي الفجر لانتظار الصلاة، إلا أن يكون قام الليل فيضطجع استجماما لصلاة الصبح فلا بأس. ويشهد لهذا ما رواه الطبراني وعبد الرزاق عن عائشة أنها كانت تقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يضطجع لسنة ولكنه كان يدأب ليله فيستريح وهذا لا تقوم به حجة، أما أولا فلان في إسناده راويا لم يسم كما قال الحافظ في الفتح، وأما ثانيا فلان ذلك منها ظن وتخمين وليس بحجة، وقد روت أنه كان يفعله والحجة في فعله، وقد ثبت أمره به فتأكدت بذلك مشروعيته. القول السادس: أن الاضطجاع ليس مقصودا لذاته، وإنما المقصود الفصل بين ركعتي الفجر وبين الفريضة، روى ذلك البيهقي عن الشافعي. وفيه أن الفصل يحصل بالقعود والتحول والتحدث وليس بمختص بالاضطجاع. قال النووي: والمختار الاضطجاع لظاهر حديث أبي هريرة، وقد أجاب من لم ير مشروعية الاضطجاع عن الاحاديث المذكورة بأجوبة: منها أن حديث أبي هريرة من رواية عبد الواحد بن زياد عن الاعمش، وقد تكلم فيه بسبب ذلك يحيى بن سعيد القطان، وأبو داود الطيالسي، قال يحيى بن سعيد: ما رأيته يطلب حديثا بالبصرة ولا بالكوفة قط، وكنت أجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة إذا كره بحديث الاعمش لا يعرف منه حرفا. وقال عمرو بن علي الفلاس: سمعت أبا داود يقول: عمد عبد الواحد إلى أحاديث كان يرسلها الاعمش فوصلها يقول: حدثنا الاعمش، حدثنا مجاهد في كذا وكذا انتهى. وهذا من روايته عن الاعمش، وقد رواه الاعمش بصيغة العنعنة وهو مدلس. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين عن عبد الواحد بن زياد فقال: ليس بشئ. والجواب عن هذا الجواب أن عبد الواحد بن زياد قد احتج به الائمة الستة، ووثقه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وابن حبان، وقد روى عن ابن معين ما يعارض قوله السابق فيه من طريق من روى عنه التضعيف له وهو عثمان بن سعيد الدارمي المتقدم، فروي عنه أنه قال: إنه ثقة، وروى معاوية بن صالح عن يحيى بن معين أنه صرح بأن عبد الواحد من أثبت أصحاب الاعمش. قال العراقي: وما روي عنه من أنه ليس بثقة فلعله اشتبه على ناقله بعبد الواحد بن زيد وكلاهما بصري، ومع هذا فلم ينفرد به عبد
[ 28 ]
الواحد بن زياد ولاشيخه الاعمش، فقد رواه ابن ماجة من رواية شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه إلا أنه جعله من فعله لا من قوله. (ومن جملة) الاجوبة التي أجاب بها النافون لشرعية الاضطجاع أنه اختلف في حديث أبي هريرة المذكور، هل من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من فعله كما تقدم؟ وقد قال البيهقي: إن كونه من فعله أولى أن يكون محفوظا، والجواب عن هذا الجواب أن وروده من فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينافي كونه ورد من قوله، فيكون عند أبي هريرة حديثان: حديث الامر به وحديث ثبوته من فعله، على أن الكل يفيد ثبوت أصل الشرعية فيرد نفي النافين. (ومن الاجوبة) التي ذكروها أن ابن عمر لما سمع أبا هريرة يروي حديث الامر به قال: أكثر أبو هريرة على نفسه، والجواب عن ذلك أن ابن عمر سئل هل تنكر شيئا مما يقول أبو هريرة؟ فقال: لا، وأن أبا هريرة قال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا له بالحفظ. (ومن الاجوبة) التي ذكروها أن أحاديث الباب ليس فيها الامر بذلك، إنما فيها فعله صلى الله عليه وآله وسلم، والاضطجاع من فعله المجرد إنما يدل على الاباحة عند مالك وطائفة، والجواب منع كون فعله لا يدل إلا على الاباحة والسندان قوله: * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * (الحشر: 7) وقوله: * (فاتبعوني) * (آل عمران: 31) يتناول الافعال كما يتناول الاقوال. وقد ذهب جمهور العلماء وأكابرهم إلى أن فعله يدل على الندب، وهذا على فرض أنه لم يكن في الباب إلا مجرد الفعل، وقد عرفت ثبوت القول من وجه صحيح. (ومن الاجوبة) التي ذكروها أن أحاديث عائشة في بعضها الاضطجاع قبل ركعتي الفجر، وفي بعضها بعد ركعتي الفجر. وفي حديث ابن عباس قبل ركعتي الفجر، وقد أشار القاضي عياض إلى أن رواية الاضطجاع بعدهما مرجوحة، فتقدم رواية الاضطجاع قبلهما، ولم يقل أحد في الاضطجاع قبلهما أنه سنة فكذا بعدهما، ويجاب عن ذلك بأنا لا نسلم أرجحية رواية الاضطجاع بعد صلاة الليل وقبل ركعتي الفجر على رواية الاضطجاع بعدهما، بل رواية الاضطجاع بعدهما أرجح، والحديث من رواية عروة عن عائشة، ورواه عن عروة محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة والزهري، ففي رواية محمد بن عبد الرحمن إثبات الاضطجاع بعد ركعتي الفجر وهي في صحيح البخاري، ولم تختلف الرواية عنه في ذلك، واختلف الرواة عن الزهري فقال مالك في أكثر الروايات عنه: أنه كان إذا فرغ من صلاة الليل اضطجع على شقه الايمن الحديث، ولم يذكر الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وقال معمر، ويونس، وعمرو بن الحرث، والاوزاعي، وابن أبي ذئب، وشعيب بن أبي
[ 29 ]
حمزة عن عروة عن عائشة: كان إذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الايمن وهذا لرواية اتفق عليها الشيخان، فرواها البخاري من رواية معمر ومسلم من رواية يونس بن يزيد، وعمرو بن الحرث، قال البيهقي عقب ذكرهما: والعدد أولى بالحفظ من الواحد قال: وقد يحتمل أن يكونا محفوظين، فنقل مالك أحدهما، ونقل الباقون الآخر، قال: واختلف فيه أيضا على ابن عباس قال: وقد يحتمل مثل ما احتمل في رواية مالك. وقال النووي: إن حديث عائشة وحديث ابن عباس لا يخالفان حديث أبي هريرة، فإنه لا يلزم من الاضطجاع قبلهما أن لا يضطجع بعدهما، ولعله صلى الله عليه وآله وسلم ترك الاضطجاع بعدهما في بعض الاوقات بيانا للجواز، ويحتمل أن يكون المراد بالاضطجاع قبلهما هو نومه صلى الله عليه وآله وسلم بين صلاة الليل وصلاة الفجر كما ذكره الحافظ، وفي تحديثه صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة بعد ركعتي الفجر دليل على جواز الكلام بعدهما، وإليه ذهب الجمهور، وقد روي عن ابن مسعود أنه كرهه، روى ذلك الطبراني عنه، وممن كرهه من التابعين سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وحكي عن سعيد بن المسيب، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الكلام بعد الركعتين. وعن عثمان بن أبي سليمان قال: إذا طلع الفجر فليسكتوا، وإن كانوا ركبانا وإن لم يركعوهما فليسكتوا. إذا عرفت الكلام في الاضطجاع تبين لك مشروعيته، وعلمت بما أسلفنا لك من أن تركه (ص) لا يعارض الامر للامة الخاص بهم، ولاح لك قوة القول بالوجوب والتقييد في الحديث بأن الاضطجاع كان على الشق الايمن يشعر بأن حصول المشروع لا يكون إلا بذلك لا بالاضطجاع على الجانب الايسر، ولا شك في ذلك مع القدرة. وأما مع التعذر فهل يحصل المشروع بالاضطجاع على الايسر أم لا؟ بل يشير إلى الاضطجاع على الشق الايمن، جزم بالثاني ابن حزم وهو الظاهر. (والحكمة) في ذلك أن القلب معلق في الجانب الايسر، فإذا اضطجع على الجانب الايسر غلبه النوم، وإذا اضطجع على الايمن قلق لقلق القلب وطلبه لمستقره. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس رواه الترمذي. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضاهما مع الفريضة لما نام عن الفجر في السفر. الحديث قال الترمذي بعد إخراجه له: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه،
[ 30 ]
وأخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والدارقطني والبيهقي. والحديث الذي أشا إليه المصنف قد تقدم في باب قضاء الفوائت من أبواب الاوقات. (والحديث) استدل به على أن من لم يركع ركعتي الفجر قبل الفريضة فلا يفعل بعد الصلاة حتى تطلع الشمس، ويخرج الوقت المنهي عن الصلاة فيه، وإلى ذلك ذهب الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، حكى ذلك الترمذي عنهم، وحكاه الخطابي عن الاوزاعي، قال العراقي: والصحيح من مذهب الشافعي أنهما يفعلان بعد الصبح ويكونان أداء. (والحديث) لا يدل صريحا على أن من تركهما قبل صلاة الصبح لا يفعلهما إلا بعد طلوع الشمس، وليس فيه إلا الامر لمن لم يصلهما مطلقا أن يصليهما بعد طلوع الشمس، ولا شك أنهما إذا تركا في وقت الاداء فعلا في وقت القضاء، وليس في الحديث ما يدل على المنع من فعلهما بعد صلاة الصبح، ويدل على ذلك رواية الدارقطني والحاكم والبيهقي فإنها بلفظ: من لم يصل ركعتي الفجر حتى تطلع الشمس فليصلهما ويدل على عدم الكراهة أيضا حديث قيس بن عمرو، أو ابن فهد، أو ابن سهل على اختلاف الروايات عند الترمذي، وأبي داود وابن ماجة قال: خرج رسوالله صلى الله عليه وآله وسلم فأقيمت الصلاة فصليت معه الصبح ثم انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدني أصلي فقال: مهلا يا قيس أصلاتان معا؟ قلت: يارسول الله إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر، قال: فلا إذن ولفظ أبي داود قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال: صلاة الصبح ركعتان، فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن فسكت. قال الترمذي: إنما يروى هذا الحديث مرسلا وإسناده ليس بمتصل، لان فيه محمد بن إبراهيم عن قيس بن عمرو، ومحمد لم يسمع من قيس. وقول الترمذي إنه مرسل ومنقطع ليس بجيد، فقد جاء متصلا من رواية يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس، رواه ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان من طريقه وطريق غيره، والبيهقي فسننه عن يحيى بن سعيد، عن أبيه، عن جده قيس المذكور. وقد قيل: إن سعيد بن قيس لم يسمع من أبيه، فيصح ما قاله الترمذي من الانقطاع. وأجيب عن ذلك بأنه لم يعرف القائل بذلك، وقد أخرجه أيضا الطبراني في الكبير من طريق أخرى متصلة فقال: حدثنا إبراهيم ابن متويه الاصبهاني، حدثنا أحمد بن الوليد بن برد الانصاري، حدثنا أيوب بن سويد عن ابن جريج، عن عطاء، أن قيس بن سهل حدثه: أنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ولم يكن صلى الركعتين، فصلى
[ 31 ]
مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قضى صلاته قام فركع. وأخرجه ابن حزم في المحلي من رواية الحسن بن ذكوان، عن عطاء بن أبي رباح، عن رجل من الانصار قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يصلي بعد الغداة فقال: يا رسول الله لم أكن صليت ركعتي الفجر فصليتهما الآن، فلم يقل له شيئا. قال العراقي: وإسناده حسن، ويحتمل أن الرجل هو قيس المتقدم. ويؤيد الجواز حديث ثابت بن قيس بن شماس عند الطبراني في الكبير قال: أتيت المسجد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة، فلما سلم النبي التفت إلي وأنا أصلي، فجعل ينظر إلي وأنا أصلي، فلما فرغت قال: ألم تصل معنا؟ قلت: نعم قال: فما هذه الصلاة؟ قلت: يا رسول الله ركعتا الفجر خرجت من منزلي ولم أكن صليتهما، قال: فلم يعب ذلك علي. وفي إسناده الجراح بن منهال وهو منكر الحديث، قاله البخاري ومسلم، ونسبه ابن حبان إلى الكذب. (وفي الحديث) مشروعية قضاء النوافل الراتبة وظاهره سواء، فأتت لعذر أو لغير عذر. وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال: أحدها استحباب قضائها مطلقا، سواء كان الفوت لعذر أو لغير عذر، لانه صلى الله عليه وآله وسلم أطلق الامر بالقضاء ولم يقيده بالعذر، وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة عبد الله ابن عمر، ومن التابعين عطاء وطاوس والقاسم بن محمد، ومن الائمة ابن جريج والاوزاعي والشافعي في الجديد، وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن والمزني. والقول الثاني أنها لا تقضى وهو قول أبي حنيفة ومالك وأبي يوسف في أشهر الروايتين عنه، وهو قول الشافعي في القديم، ورواية عن أحمد، والمشهور عن مالك قضاء ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس. والقول الثالث: التفرقة بين ما هو مستقل بنفسه كالعيد والضحى فيقضي، وبين ما هو تابع لغيره كرواتب الفرائض فلا يقضي، وهو أحد الاقوال عن الشافعي. والقول الرابع: إن شاء قضاها وإن شاء لم يقضها على التخيير، وهو مروي عن أصحاب الرأي ومالك. والقول الخامس: التفرقة بين الترك لعذر نوم أو نسيان فيقضي، أو لغير عذر فلا يقضي، وهو قول ابن حزم، واستدل بعموم قوله: من نام عن صلاته الحديث. وأجاب الجمهور أن قضاء التارك لها تعمد من باب الاولى، وقد قدمنا الجواب عن هذه الاولوية.
[ 32 ]
باب ما جاء في قضاء سنتي الظهر عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فاتته الاربع قبل الظهر صلاهن بعد الركعتين بعد الظهر رواه ابن ماجة. الحديث الاول رجال إسناده ثقات إلا عبد الوارث بن عبيد الله العتكي، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقد حسنه الترمذي كما قال المصنف، وقال: إنه غريب، إنما نعرفه من حديث ابن المبار ك من هذا الوجه، قال: وقد رواه قيس بن الربيع عن شعبة عن خالد الحذاء نحو هذا ولا نعلم أحدا رواه عن شعبة غير قيس بن الربيع. والحديث الثاني رواه ابن ماجة عن محمد بن يحيى، وزيد بن أخزم، ومحمد بن معمر، ثلاثتهم عن موسى بن داود الكوفي، عن قيس بن الربيع، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة، وكلهم ثقات إلا قيس بن الربيع ففيه مقال، وقد وثق، وفي الباب عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى مرسلا عند ابن أبي شيبة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فاتته أربع قبل الظهر صلاها بعدها. (والحديثان) يدلان على مشروعية المحافظة على السنن التي قبل الفرائض، وعلى امتداد وقتها إلى آخر وقت الفريضة، وذلك لانها لو كانت أوقاتها تخرج بفعل الفرائض لكان فعلها بعدها قضاء، وكانت مقدمة على فعل سنة الظهر. وقد ثبت في حديث الباب أنها تفعل بعد ركعتي الظهر، ذكر معنى ذلك العراقي قال: وهو الصحيح عند الشافعية، قال: وقد يعكس هذا فيقال: لو كان وقت الاداء باقيا لقدمت على ركعتي الظهر، وذكر أن الاول أولى. وعن أم سلمة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عنهما تعني الركعتين بعد العصر ثم رأيته يصليهما، أما حين صلاهما فإنه صلى العصر ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الانصار فصلاهما، فأرسلت إليه الجارية فقلت: قومي بجنبه فقولي له: تقول لك أم سلمة يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية فأشار بيده فاستأخرت عنه، فلما انصرف
[ 33 ]
قال: يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر فإنه أتاني ناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان متفق عليه. وفي رواية لاحمد: ما رأيته صلاهما قبلها ولا بعدها. قوله: أما حين صلاهما فإنه صلى العصر هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر. قوله: من بني حرام بفتح المهملتين. قوله: فصلاهما يعني بعد الدخول. قوله: فأشار بيده فيه جواز الاشارة باليد في الصلاة لمن كلم المصلي في حاجة، وقد تقدم البحث في ذلك. قوله: يا بنت أبي أمية هو والد أم سلمة واسمه حذيفة، وقيل سهيل بن المغيرة المخزومي. قوله: عن الركعتين يعني اللتين صليتهما الآن. قوله: فإنه أتاني ناس من بني عبد القيس زاد في المغازي بالاسلام: من قومهم فسألوني وفي رواية للطحاوي: فنسيتهما ثم ذكرتهما فكرهت أن أصليهما في المسجد والناس يرون فصليتهما عندك. وله من وجه آخر: فجاءني مال فشغلني. وله من وجه آخر: قدم علي وفد من بني تميم أو جاءتني صدقة. قوله: فهما هاتان زاد الطحاوي: فقلت: أمرت بهما؟ فقال: لا، ولكن كنت أصليهما بعد الظهر فشغلت عنهما فصليتهما الآن. قوله: ما رأيته صلاهما قبلها ولا بعدها لفظ الطحاوي: لم أره صلاهما قبل ولا بعد. وعند الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: إنما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الركعتين بعد العصر لانه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر ثم لم يعد. ولكن هذا لا ينفي الوقوع، فقد ثبت في صحيح مسلم: أن عائشة قالت: كان يصليهما قبل العصر، فشغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها أي داوم عليها. وفي البخاري عنها، أنها قالت: ما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجدتين بعد العصر عندي قط وفيه عنها: ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعهما سرا ولا علانية ركعتان قبل صلاة الصبح وركعتان بعد العصر. وفيه أيضا عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين. وقد جمع بين رواية النفي وروايات الاثبات بحمل النفي على المسجد، أي لم يفعلهما في المسجد، والاثبات على البيت. وقد تمسك بحديث الباب من قال بجواز قضاء الفوائت في الاوقات المكروهة، ومن أجاز التنفل بعد العصر مطلقا ما لم يقصد الصلاة عند غروب الشمس، وأجاب من أطلق الكراهة بأن ذلك من خصائصه، والدليل عليه ما أخرجه أبو داود عن عائشة أنها قالت: كان يصلي بعد العصر وينهى عنهما ويواصل وينهى عن
[ 34 ]
الوصال وما أخرجه أحمد عن أم سلمة أنها قالت: فقلت: يا رسول الله أنقضيهما إذا فاتا؟ فقال: لا قال البيهقي: وهي رواية ضعيفة. وقد احتج بها الطحاوي، على أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم، قال البيهقي: الذي اختص به صلى الله عليه وآله وسلم المداومة على ذلك لا أصل القضاء اه. وعلى تسليم عدم اختصاصه بالقضاء بل بمجرد المداومة كما دل عليه حديث عائشة المذكور، فليس في حديث الباب إلا جواز قضاء الفائتة لا جواز التنفل مطلقا. وللعلماء في ذلك مذاهب يأتي ذكرها، وبيان الراجح منها في باب الاوقات المنهي عن الصلاة فيها. وللحديث فوائد ليس هذا محل بسطها، وقد أشار في الفتح قبيل كتاب الجنائز إلى بعض منها. باب ما جاء في قضاء سنة العصر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصليهما بعد العصر فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها رواه مسلم والنسائي. وعن أم سلمة قالت: شغل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الركعتين قبل العصر فصلاهما بعد العصر رواه النسائي. وعن ميمونة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهز بعثا ولم يكن عنده ظهر، فجاءه ظهر من الصدقة فجعل يقسمه بينهم فحبسوه حتى أرهق العصر، وكان يصلي قبل العصر ركعتين أو ما شاء الله، فصلى العصر ثم رجع فصلى ما كان يصلي قبلها، وكان إذا صلى صلاة أو فعل شيئا يحب أن يداوم عليه رواه أحمد. الحديث الاول له طرق وألفاظ، هذا الذي ذكر المصنف أحدها. والحديث الثاني رجاله رجال الصحيح، وقد أخرجه أيضا البخاري ومسلم وغيرهما، لكن ليس فيه قوله عن الركعتين قبل العصر، بل فيه التصريح بأن الركعتين اللتين شغل عنهما هما الركعتان اللتان بعد الظهر. والحديث الثالث في إسناده حنظلة السدوسي وهو ضعيف، وقد أخرجه أيضا الطبراني وأشار إليه الترمذي. (وأحاديث الباب) تدل على مشروعية قضاء ركعتي العصر بعد فعل الفريضة، فيكون قضاؤهما في ذلك الوقت مخصصا لعموم أحاديث النهي، وسيأتي
[ 35 ]
البحث مستوفى في باب الاوقات المنهي عن الصلاة فيها. وأما المداومة على ذلك فمختصة به صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم، واعلم أنها قد اختلفت الاحاديث في النافلة المقضية بعد العصر، هل هي الركعتان بعد الظهر المتعلقتان به؟ أو هي سنة العصر المفعولة قبله؟ ففي حديث أم سلمة المتقدم في الباب الاول، وكذلك حديث ابن عباس المتقدم التصريح بأنهما ركعتا الظهر، وفي أحاديث الباب أنهما ركعتا العصر. ويمكن الجمع بين الروايات بأن يكون مراد من قال بعد الظهر ومقال قبل العصر الوقت الذي بين الظهر والعصر، فيصح أن يكون مراد الجميع سنة الظهر المفعولة بعده، أو سنة العصر المفعولة قبله. وأما الجمع بتعدد الواقعة وأنه صلى الله عليه وآله وسلم شغل تارة عن أحدهما وتارة عن الاخرى فبعيد، لان الاحاديث مصرحة بأنه داوم عليهما، وذلك يستلزم أنه كان يصلي بعد العصر أربع ركعات ولم ينقل ذلك أحد. باب أن الوتر سنة مؤكدة وأنه جائز على الراحلة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يوتر فليس منارواه أحمد. وعن علي رضي الله عنه قال: الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة ولكنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجة. ولفظه: أن الوتر ليس بحتم ولا كصلاتكم المكتوبة ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوتر فقال: يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوتر على بعيره رواه الجماعة. وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الوتر حق فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل رواه الخمسة إلا الترمذي. وفي لفظ لابي داود: الوتر حق على كل مسلم ورواه ابن المنذر وقال فيه: الوتر حق وليس بواجب. أما حديث أبي هريرة فأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وفي إسناده الخليل بن مرة، قال فيه أبو زرعة: شيخ صالح، وضعفه أبو حاتم والبخاري. وأما حديث علي فحسنه الترمذي وصححه الحاكم. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الجماعة كما ذكر المصنف. وأما حديث
[ 36 ]
أبي أيو ب فأخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم وله ألفاظ، وصحح أبو حاتم والذهلي والدارقطني في العلل والبيهقي وغير واحد وقفه. قال الحافظ: وهو الصواب. (وفي الباب) عن أبي هريرة غير حديثه المذكور في الباب عند البيهقي في الخلافيات بلفظ: إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن وعن ابن عمرو عند ابن أبي شيبة وأحمد بلفظ: وزادكم صلاة حافظوا عليها وهي الوتر وفي إسناده ضعيفان. وعن بريدة عند أبي داود بلفظ: الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا. ورواه الحاكم في المستدرك ولم يكرر لفظه. وقال: هذا حديث صحيح. وعن أبي بصرة عند أحمد بلفظ: إن الله زادكم صلاة وهي الوتر فصلوها فيما بين العشاء إلى الفجر ورواه الطبراني بلفظ: فحافظوا عليها وعن سليمان بن صرد عند الطبراني في الاوسط بلفظ: وأوتروا فالله وتر يحب الوتر. وعن ابن عباس عند البزار بلفظ: إن الله قد أمدكم بصلاة وهي الوتر وعن ابن عمر عند البيهقي بلفظ: إن الله زادكم صلاة وهي الوتر وفي إسناده مقال. وعن ابن مسعود عند البزار بلفظ: الوتر واجب على كل مسلم. وفي إسناده جابر الجعفي، وقد ضعفه الجمهور ووثقه الثوري، وله حديث آخر عند أبي داود وابن ماجة بلفظ حديث أبي هريرة الذي ذكرناه. وعن عبد الله بن أبي أوفى عند البيهقي بلفظ حديث أبي بصرة المتقدم، وفي إسناده أحمد بن مصعب وهو ضعيف. وعن علي عند أهل السنن بنحو حديث أبي هريرة الذي ذكرناه. وعن عقبة بن عامر، وعمرو بن العاص عند الطبراني في الكبير والاوسط بنحو حديث أبي بصرة. وعن معاذ عند أحمد بنحو حديث أبي بصرة أيضا. وعن ابن مسعود حديث آخر عند الطبراني في الصغير بلفظ: الوتر على أهل القرآن. وعن ابن عباس حديث آخر عند أحمد والطبراني والدارقطني والبيهقي بلفظ: ثلاث علي فرائض وهي لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر. وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك شاهدا على أن الوتر ليس بحتم وسكت عليه. وقال البيهقي في روايته: ركعتا الضحى بدل ركعتي الفجر. وعن أنس عند الدارقطني بلفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت بالوتر والاضحى ولم يعزم علي وفي إسناده عبد الله بن محرر وهو ضعيف. وعن جابر عند المروزي بلفظ: إني كرهت أو خشيت أن يكتب عليكم الوتر وعن
[ 37 ]
عائشة عند الطبراني في الاوسط بلفظ: ثلاث هن علي فريضة وهن لكم سنة: الوتر والسواك وقيام الليل واعلم أن هذه الاحاديث فيها ميدل على الوجوب كقوله: فليس منا. وقوله: الوتر حق. وقوله: أوتروا وحافظوا. وقوله: الوتر واجب. وفيها ما يدل على عدم الوجوب وهو بقية أحاديث الباب، فتكون صارفة لما يشعر بالوجوب. وأما حديث: الوتر واجب. فلو كان صحيحا لكان مشكلا لما عرفناك في باب غسل يوم الجمعة، من أن التصريح بالوجوب لا يصح أن يقال: إنه مصروف إلى غيره، بخلاف بقية الالفاظ المشعرة بالوجوب. (وقد ذهب الجمهور) إلى أن الوتر غير واجب بل سنة، وخالفهم أبو حنيفة فقال: إنه واجب، وروي عنه فرض وتمسك بما عرفت من الادلة الدالة على الوجوب، وأجاب عليه الجمهور بما تقدم. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا وافق أبا حنيفة في هذا، وأورد المصنف في الباب حديث ابن عمر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أوتر على بعيره للاستدلال به على عدم الوجوب، لان الفريضة لا تصلى على الراحلة، وكذلك إيراده حديث أبي أيوب للاستدلال بما فيه من التخيير على عدم الوجوب، وهو إنما يدل على عدم وجوب أحدها على التعيين لا على عدم الوجوب مطلقا، ويمكن أنه أورده للاستدلال به على الوجوب لقوله فيه حق. ومن الادلة الدالة على عدم وجوب الوتر ما اتفق عليه الشيخان من حديث طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل نجد الحديث وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. وروى الشيخان أيضا من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معاذا إلى اليمن الحديث. وفيه: فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة. وهذا من أحسن ما يستدل به، لان بعث معاذ كان قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم بيسير. (وأجاب الجمهور) أيضا عن أحاديث الباب المشعرة بالوجوب بأن أكثرها ضعيف، وهو حديث أبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وبريدة، وسليمان بن صرد، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وابن أبي أوفى، وعقبة بن عامر، ومعاذ بن جبل، كذا قال العراقي. وبقيتها لا يثبت بها المطلوب، لا سيما مع قيام ما أسلفناه من الادلة الدالة على عدم الوجوب.
[ 38 ]
باب الوتر بركعة وبثلاث وخمس وسبع وتسع بسلام واحد وما يتقدمها من الشفع عن ابن عمر قال: قام رجل فقال: يا رسول الله كيف صلاة الليل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة رواه الجماعة. وزاد أحمد في رواية: صلاة الليل مثنى مثنى تسلم في كل ركعتين وذكر الحديث. ولمسلم: قيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: يسلم في كل ركعتين. الحديث زاد فيه الخمسة: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وقد اختلف في زيادة قوله والنهار فضعفها جماعة، لانها من طريق علي البارقي الازدي عن ابن عمر وهو ضعيف عند ابن معين، وقد خالفه جماعة من أصحاب ابن عمر ولم يذكروا فيه النهار. وقال الدارقطني في العلل: إنها وهم، وقد صححها ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك وقال: رواتها ثقات، وقال الخطابي: إن سبيل الزيادة من الثقة أن تقبل، وقال البيهقي: هذا حديث صحيح، وعلى البارقي احتج به مسلم، والزيادة من الثقة مقبولة، وقد صححه البخاري لما سئل عنه، ثم روى ذلك بسنده إليه، قال: وقد روي عن محمد بن سيرين عن ابن عمر مرفوعا بإسناد كلهم ثقات اه كلام البيهقي. وله طرق وشواهد، وقد ذكر بعض ذلك الحافظ في التلخيص. قوله: قام رجل وقع في معجم الطبراني الصغير أن السائل هو ابن عمر، ولكنه يشكل عليه ما وقع في بعض الروايات عن ابن عمر بلفظ: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا بينه وبين السائل فذكر الحديث. وفيه: ثم سأله رجل على رأس الحول وأنا بذلك المكان منه قال: فما أدري أهو ذلك الرجل أم غيره؟. وعند النسائي أن السائل المذكور من أهل البادية. قوله: كيف صلاة الليل الجواب عن هذا السؤال يشعر بأنه وقع عن كيفية الوصل والفصل لا عن مطلق الكيفية. قوله: مثنى مثنى أي اثنتين اثنتين، وهو غير منصرف للعدل والوصف، وتكرار لفظ مثنى للمبالغة، وقد فسر ذلك ابن عمر في رواية أحمد ومسلم عنه كما ذكره المصنف. وقد أخذ مالك بظاهر الحديث فقال: لا تجوز الزيادة على الركعتين. قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق لحصر المبتدأ في الخبر، وحمله الجمهور على أنه لبيان الافضل لما صح من فعله صلى الله عليه وآله وسلم مما يخالف ذلك كما سيأتي، ويحتمل أن يكون للارشاد إلى الاخف،
[ 39 ]
إذ السلام من الركعتين أخف على المصلي من الاربع فما فوقها لما فيه من الراحة غالبا. وقد اختلف السلف في الافضل من الفصل والوصل فقال أحمد: الذي اختاره في صلاة الليل مثنى مثنى، وإن صلى بالنهار أربعا فلا بأس وقال محمد بن نصر نحوه في صلاة الليل قال: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أوتر بخمس، لم يجلس إلا في آخرها إلى غير ذلك من الاحاديث الدالة على الوصل. قوله: فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة استدل به على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر، وأصرح منه ما رواه أبو داود والنسائي وصححه أبو عوانة وغيره عن ابن عمر أنه قال: من صلى الليل فليجعل آخر صلاته وترا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر. وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي سعيد مرفوعا: من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له. وسيأتي الكلام على هذا في باب وقت صلاة الوتر. (والحديث) يدل على مشروعية الايتار بركعة واحدة عند مخافة هجوم الصبح، وسيأتي ما يدل على مشروعية ذلك من غير تقييد، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. قال العراقي: وممن كان يوتر بركعة من الصحابة الخلفاء الاربعة، وسعد بن أبي وقاص، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وأبو موسى الاشعري، وأبو الدرداء، وحذيفة، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وتميم الداري، وأبو أيوب الانصاري، وأبو هريرة، وفضالة بن عبيد، وعبد الله بن الزبير، ومعاذ بن الحرث القاري، وهو مختلف في صحبته، وقد روي عن عمر وعلي وأبي وابن مسعود الايتار بثلاث متصلة. قال: وممن أوتر بركعة سالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رباح، وعقبة بن عبد الغافر، وسعيد بن جبير، ونافع بن جبير بن مطعم، وجابر بن زيد، والزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن وغيرهم. ومن الائمة: مالك، والشافعي، والاوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وابن حزم. وذهبت الهادوية وبعض الحنفية إلى أنه لا يجوز الايتار بركعة، وإلى أن المشروع الايتار بثلاث. واستدلوا بما روي من حديث محمد بن كعب القرظي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن البتيراء قال العراقي: وهذا مرسل ضعيف. وقال ابن حزم: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن البتيراء، قال: ولا في الحديث على سقوطه بيان ما هي البتيراء. قال: وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة، عن الاعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس الثلاث بتيراء يعني الوتر، قال: فعاد البتيراء على المحتج بالخبر الكاذب فيهااه. واحتجوا أيضا بما حكي عن ابن مسعود أنه قال: ما أجزأت
[ 40 ]
ركعة قط. قال النووي في شرح المهذب: إنه ليس بثابت عنه، قال: ولو ثبت لحمل على الفرائض، فقد قيل: إنه ذكره ردا على ابن عباس في قوله: إن الواجب من الصلاة الرباعية في حال الخوف ركعة واحدة، فقال ابن مسعود: ما أجزأت ركعة قط أي عن المكتوبات اه. وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف، ومحمد بن نصر في قيام الليل من رواية محمد بن سيرين قال: سمر حذيفة وابن مسعود عند الوليد بن عقبة وهو أمير مكة، فلما خرجا أوتر كل واحد منهما بركعة، ومحمد بن سيرين لم يدرك ابن مسعود، ولكن القائل بعدم صحة الايتار بركعة من الهادوية والحنفية يرى الاحتجاج بالمرسل، واحتج بعض الحنفية على الاقتصار على ثلاث، وعدم إجزاء غيرها، بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما عداه، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه، وتركنا ما اختلفوا فيه، وتعقب بمنع الاجماع ربما سيأتي من النهي عن الايتار بثلاث. وعن ابن عمر أنه: كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى أنه كان يأمر ببعض حاجته. رواه البخاري. وعن ابن عمر وابن عباس أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الوتر ركعة من آخر الليل رواه أحمد ومسلم. الاثر والحديث يدلان على مشروعية الايتار بركعة، وتعريف المسند من قوله الوتر ركعة مشعر بالحصر لولا ورود منطوقات قاضية بجواز الايتار بغير ركعة وسيأتي. قال الحافظ: وظاهر الاثر المروي عن ابن عمر أنه كان يصلي الوتر موصولا، فإن عرضت له حاجة فصل. وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني قال: صلى ابن عمر ركعتين ثم قال: يا غلام ارحل لنا ثم قام وأوتر بركعة. وروى الطحاوي عن ابن عمر: أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله وإسناده قوي، وقد تقدم الكلام على الايتار بركعة. وعن عائشة: قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة، فإذا سكب المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الايمن حتى يأتيه المؤذن للاقامة رواه الجماعة إلا الترمذي. الحديث قد تقدم الكلام على أطراف منه في ركعتي الفجر وفي الاضطجاع، وفي الايتار بركعة، وقد تقدم الكلام في دلالة كان على الدوام، وقد ورد عن عائشة في
[ 41 ]
الاخبار عن صلاته صلى الله عليه وآله وسلم بالليل روايات مختلفة منها هذه، ومنها الرواية الآتية في هذا الباب أنه: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ويوتر بخمس. ومنها عند الشيخين أنه: ما كان يزيد صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا. ومنها أيضا ما سيأتي في هذا الباب أنه: كان يصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة ثم ينهض ولا يسلم فيصلي التاسعة ثم يسلم، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسن أوتر بسبع ولا حل هذا الاختلاف نسب بعضهم إلى حديثها الاضطراب، وأجيب عن ذلك بأنه لا يتم الاضطراب إلا على تسليم أن إخبارها عن وقت واحد وليس كذلك، بل هو محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط ويجمع بين قولها إنه ما كان يزيد على إحدى عشرة ركعة، وبين إثباتها الثلاث عشرة ركعة بأنها أضافت إلى الاحدى عشرة ما كان يفتتح به صلاته من الركعتين الخفيفتين كما ثبت في صحيح مسلم. ويدل على ذلك أنها قالت عند تفصيل الاحدى عشرة: كان يصلي أربعا ثم أربعا، وتركت التعرض للافتتاح بالركعتين. وكذلك قالت في الرواية الاخرى أنه كان يصلي تسع ركعات ثم يصلي ركعتين، والجمع بين الروايات ما أمكن هو الواجب. قوله: وسكب المؤذن هو بفتح السين المهملة والكاف وبعدها باء موحدة أي أسرع مأخوذ من سكب الماء. قوله: قام فركع ركعتين وقد تقدم الكلام فيهما. وعن أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الوتر ب * (سبح اسم ربك الاعلى) * وفي الركعة الثانية ب * (قل يا أيها الكافرون) * وفي الثالثة ب * (قل هو الله أحد) * ولا يسلم إلا في آخرهن رواه النسائي. الحديث رجال إسناده ثقات إلا عبد العزيز بن خالد وهو مقبول، وقد أخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن ماجة بدون قوله: ولا يسلم إلا في آخرهن. وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن أبي شيبة بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الوتر ب * (سبح اسم ربك الاعلى) *، و * (قل يا أيها الكافرون) *، و * (قل هو الله أحد) * في ركعة ركعة ولم يذكر فيه ولا يسلم إلا في آخرهن أيضا. وعن عبد الرحمن بن أبزى عند النسائي بنحو حديث ابن عباس، وقد اختلف في صحبته، وفي إسناد حديثه
[ 42 ]
هذا وسيأتي. وعن أنس عند محمد بن نصر المروزي بنحو حديث ابن عباس. وعن عبد الله بن أبي أوفى عند البزار بنحوه. وعن عبد الله بن عمر وعند الطبراني والبزار أيضا بنحوه، وفي إسناده سعيد بن سنان وهو ضعيف جدا. وعن عبد الله بن مسعود عند البزار، وأبي يعلى والطبراني في الكبير والاوسط بنحوه أيضا، وفي إسناده عبد الملك بن الوليد بن معدان، وثقه يحيى بن معين وضعفه البخاري وغير واحد. وعن عبد الرحمن بن سبرة عند الطبراني في الكبير والاوسط بنحوه أيضا، وفي إسناده إسماعيل بن رزين، ذكره الازدي في الضعفاء، وابن حبان في الثقات. وعن عمران بن حصين عند النسائي والطبراني بنحوه أيضا. وعن النعمان بن بشير عند الطبراني في الاوسط بنحوه، وفي إسناده السري بن إسماعيل وهو ضعيف. وعن أبي هريرة عند الطبراني في الاوسط بزيادة والمعوذتين في الثالثة، وفي إسناده المقدام بن داود وهو ضعيف. وعن عائشة عند أبي داود والترمذي بزيادة كل سورة في ركعة، وفي الاخيرة: * (قل هو الله أحد) * والمعوذتين، وفي إسناده خصيف الجزري وفيه لين، ورواه الدارقطني، وابن حبان، والحاكم من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، وتفرد به يحيى بن أيوب عنه وفيه مقال ولكنه صدوق، وقال العقيلي: إسناده صالح، قال ابن الجوزي: وقد أنكر أحمد ويحيى زيادة المعوذتين، وروى ابن السكن في صحيحه لذلك شاهدا من حديث عبد الله بن سرجس بإسناد غريب، وروى المعوذتين محمد بن نصر من حديث ابن ضميرة عن أبيه عن جده وهو حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضميرة، وهو ضعيف عند أحمد، وابن معين، وأبي زرعة، وأبي حاتم وغيرهم. وكذبه مالك وأبوه لا يعرف، وجده ضميرة يقال إنه مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (والاحاديث) تدل على مشروعية قراءة هذه السورة في الوتر، وحديث الباب يدل أيضا على مشروعية الايتار بثلاث ركعات متصلة، وسيأتي الكلام على ذلك. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن رواه أحمد والنسائي ولفظه: كان لا يسلم في ركعتي الوتر وقد ضعف أحمد إسناده، وإن ثبت فيكون قد فعله أحيانا، كما أوتر بالخمس والسبع والتسع كما سنذكره. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا توتروا بثلاث أوتروا بخمس أو سبع ولا تشبهوا بصلاة المغرب رواه الدارقطني بإسناده وقال: كلهم ثقات. أما حديث عائشة فأخرجه أيضا البيهقي والحاكم بلفظ أحمد، وأخرجه أيضا البيهقي
[ 43 ]
والحاكم بلفظ النسائي، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأخرج الحاكم أيضا من حديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يوتر بثلاث وليس فيه لا يفصل بينهن وصححه. وقال: على شرط الشيخين، وأخرجه أيضا الترمذي، وأخرج الشيخان وغيرهما عنها، أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا وفي الباب عن علي عند الترمذي بلفظ: كان يوتر بثلاث وعن عمران بن حصين عند محمد بن نصر بلفظ حديث علي. وعن ابن عباس عند مسلم وأبي داود والنسائي بلفظ: أوتر بثلاث وعن أبي بن أيوب عند أبي داود والنسائي وابن ماجة بلفظ: ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل وعن أبي بن كعب عند أبي داود والنسائي وابن ماجة أيضا بنحو حديث علي. وعن عبد الرحمن بن أبزى عند النسائي بنحوه أيضا. وعن ابن عمر عند ابن ماجة بنحوه أيضا. وعن ابن مسعود عند الدارقطني بنحوه أيضا، وفي إسناده يحيى بن زكريا بن أبي الحواجب وهو ضعيف. وعن أنس عند محمد بن نصر بنحوه أيضا. وعن ابن أبي أوفى عند البزار بنحو أيضا. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه. قال الحافظ: ورجاله كلهم ثقات، ولا يضره وقف من وقفه. وأخرجه أيضا محمد بن نصر من رواية عراك بن مالك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمس، أو بسبع، أو بتسع، أو بإحدى عشرة، أو أكثر من ذلك. قال العراقي: وإسناده صحيح. وأخرج أيضا من رواية عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة وعبد الرحمن الاعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا توتروا بثلاث، أوتروا بخمس أو بسبع، ولا تشبهوا بصلاة المغرب قال العراقي أيضا: وإسناده صحيح، ثم روى محمد ابن نصر قول مقسم: إن الوتر لا يصلح إلا بخمس أو سبع، وأن الحكم بن عتيبة سأله عمن فقال: عن الثقة، عن الثقة، عن عائشة وميمونة، وقد روى نحوه النسائي عن ميمونة مرفوعا. وروى محمد بن نصر أيضا بإسناد، قال العراقي: صحيح عن ابن عباس قال: الوتر سبع أو خمس ولا تحب ثلاثا بتراء وروي أيضا عن عائشة بإسناد، قال العراقي أيضا: صحيح أنها قالت: الوتر سبع أو خمس، وإني لاكره أن يكون ثلاثا بتراء وروي أيضا بإسناد صححه العراقي أيضا عن سليمان بن يسار: أنه سئل عن الوتر بثلاث فكره الثلاث وقال: لا تشبه التطوع بالفريضة، أوتر بركعة أو بخمس أو
[ 44 ]
بسبع. قال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبرا ثابتا صريحا أنه أوتر بثلاث موصولة، قال: نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث، لكن لم يبين الراوي هل هي موصولة أم مفصولة اه. وتعقبه العراقي والحافظ بحديث عائشة الذي ذكره المصنف، وبحديث كعب ابن عجرة المتقدم قالا: ويجاب عن ذلك باحتمال أنهما لم يثبتا عنده، وقد قال البيهقي في حديث عائشة المذكور أنه خطأ، وجمع الحافظ بين الاحاديث بحمل أحاديث النهي على الايتار بثلاث: بتشهدين لمشابهة ذلك لصلاة المغرب، وأحاديث الايتار بثلاث على أنها متصلة بتشهد في آخرها، وروي فعل ذلك عن جماعة من السلف، ويمكن الجمع بحمل النهي عن الايتار بثلاث على الكراهة، والاحوط ترك الايتار بثلاث مطلقا، لان الاحرام بها متصلة بتشهد واحد في آخرها ربما حصلت به المشابهة لصلاة المغرب، وإن كانت المشابهة الكاملة تتوقف على فعل التشهدين، وقد جعل الله في الامر سعة، وعلمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوتر على هيئات متعددة، فلا ملجئ إلى الوقوع في مضيق التعارض. وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. وعن عائشة قالت: كان رسول اللصلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس في شئ منهن إلا في آخرهن متفق عليه. الحديث الاول رواه النسائي وابن ماجة من رواية الحكم عن مقسم عن أم سلمة، وقد روي في الايتار بسبع وبخمس أحاديث منها عن عائشة عند محمد بن نصر بلفظ: أوتر بخمس وأوتر بسبع. وعن ابن عباس عند أبي داود بلفظ: ثم صلى سبعا أو خمسا أوتر بهن لم يسلم إلا في آخرهن وعن أبي أيوب عند النسائي بلفظ: الوتر حق، فمن شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس. وعن ميمونة عند النسائي بلفظ: لا يصلح يعني الوتر إلا بتسع أو خمس. وعن أبي هريرة عند الدارقطني وقد تقدم، وفي الايتار بخمس أو بسبع أحاديث كثيرة قد تقدم بعضها وسيأتي بعضها، قال الترمذي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوتر بثلاث عشرة، وإحدى عشرة، وتسع، وسبع، وخمس، وثلاث، وواحدة اه. وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس بلفظ: ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن وأخرجه البخاري عنه بلفظ: ثم صلى خمس ركعات وأخرج الترمذي وحسنه، والنسائي عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وآله وسلم أوتر بسبع وسيأتي عن عائشة نحوه. وعن أبي أمامة عند أحمد والطبراني
[ 45 ]
نحوه بإسناد صحيح. وعن ابن عباس عند محمد بن نصر نحوه. (والاحاديث) المذكورة في الباب تدل على مشروعية الايتار بخمس ركعا ت أو بسبع، وهي ترد على من قال بتعين الثلاث، وقد تقدم ذكرهم. وعن سعيد بن هشاأنه قال لعائشة: أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه الاول فتلك تسع يا بني، وكان نبي الله إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وفي رواية لاحمد والنسائي وأبي داود نحوه وفيها: فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة وفي رواية للنسائي قالت: فلما أسن وأخذه اللحم صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن. الايتار بتسع مروي من طريق جماعة من الصحابة غير عائشة، والايتار بسبع قد تقدم ذكر طرقه. قوله: فيتسوك ويتوضأ فيه استحباب السواك عند القيام من النوم. قوله: ويصلي تسع ركعات الخ فيه مشروعية الايتار بتسع ركعات متصلة، لا يسلم إلا في آخرها، ويقعد في الثامنة ولا يسلم. قوله: ثم يسلم تسليما يسمعنا فيه استحباب الجهر بالتسليم. قوله: ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد. أخذ بظاهر الحديث الاوزاعي وأحمد، فيما حكاه القاضي عنهما وأباحا ركعتين بعد الوتر جالسا، قال أحمد: لا أفعله ولا أمنع من فعله، قال: وأنكره مالك. قال النووي: الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما (ص) بعد الوتر جالسا لبيان الجواز ولم يواظب على ذلك، بل فعله مرة أو مرات قليلة، قال: ولا يغتر بقولها، كان يصلي فإن المختار الذي عليه الاكثرون والمحققون من الاصوليين أن لفظة كان لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعل ماض تدل على وقوعه مرة، فإن دل
[ 46 ]
دليل عمل به وإلا فلا تقتضيه بوضعها، وقد قالت عائشة: كنت أطيب رسول الله صل الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف ومعلوم أنه (ص) لم يحج بعد أن صحبته عائشة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع، قال: ولا يقال لعلها طيبته في إحرامه بعمرة، لان المعتمر لا يحل له الطيب قبل الطواف بالاجماع، فثبت أنها استعملت كان في مرة واحدة، قال: وإنما تأولنا حديث الركعتين لان الروايات المشهورة في الصحيحين مصرحة بأن آخر صلاته (ص) في الليل كانت وترا، وفي الصحيحين أحاديث كثيرة مشهورة بالامر بجعل آخر صلاة الليل وترا، فكيف يظن به (ص) مع هذه الاحاديث وأشباهها أن يداوم على ركعتين بعد الوتر، ويجعلهما آخر صلاة الليل، قال: وأما ما أشار إليه القاضي عياض من ترجيح الاحاديث المشهورة ورد رواية الركعتين فليس بصواب، لان الاحاديث إذا صحت وأمكن الجمع بينها تعين، وقد جمعنا بينها ولله الحمد اه. وأقول): أما الاحاديث التي فيها الامر للامة بأن يجعلوا آخر صلاة الليل وترا فلا معارضة بينها وبين فعله (ص) للركعتين بعد الوتر، لما تقرر في الاصول أن فعله (ص) لا يعارض القول الخاص بالامة، فلا معنى للاستنكار، وأما أحاديث أنه كان آخر صلاته (ص) من الليل وترا فليس فيها ما يدل على الدوام، لما قرره من عدم دلالة لفظ كان عليه، فطريق الجمع باعتباره صلى الله عليه وآله وسلم أن يقال إنه كان يصلي الركعتين بعد الوتر تارة ويدعهما تارة، وأما باعتبار الامة فغير محتاج إلى الجمع، لما عرفت من أن الاوامر بجعل آخر صلاة الليل وترا مختصة بهم، وأن فعله (ص) لا يعارض ذلك. قال ابن القيم في الهدى: وقد أشكل هذا يعني حديث الركعتين بعد الوتر على كثير من الناس، فظنوه معارضا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا. ثم حكى عن مالك وأحمد ما تقدم، وحكى عن طائفة ما قدمنا عن النووي ثم قال: والصواب أن يقال: إن هاتين الركعتين تجريامجرى السنة وتكميل الوتر، فإن الوتر عبادة مستقلة، ولا سيما إن قيل بوجوبه فتجري الركعتين بعده مجرى سنة المغرب من المغرب فإنها وتر النهار، والركعتان بعدها تكميل لها، فكذلك الركعتان بعد وتر الليل والله أعلم اه. والظاهر ما قدمنا من اختصاص ذلك به صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد فعله صلى الله عليه وآله وسلم لهاتين الركعتين بعد الوتر من طريق أم سلمة عند أحمد في المسند ومن طريق غيرها، قال الترمذي: روى نحو هذا عن أبي أمامة وعائشة وغير واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي المسند أيضا
[ 47 ]
والبيهقي عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس يقرأ فيهما: ب * (إذا زلزلت الارض زلزالها) * و * (قل يا أيها الكافرون) * وروى الدارقطني نحوه من حديث أنس، وسيأتي ذكر القائلين باستحباب التنفل لمن استيقظ من النوم، وقد كان أوتر قبله، وحديث أبي بكر وعمر الدال على جواز ذلك في باب: لاوتران في ليلة. قوله: صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة فيه مشروعية قضاء الوتر وسيأتي. قوله: ولا صام شهرا كاملا سيأتي في باب ما جاء في صوم شعبان من كتاب الصيام عن عائشة ما يدل على أنه كان يصوم شعبان كله، ويأتي الكلام هنالك إن شاء الله تعالى. قوله: لم يجلس إلا في السادسة والسابعة وفي الرواية الثانية: صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن. الرواية الاولى تدل على إثبات القعود في السادسة، والرواية الثانية تدل على نفيه، ويمكن الجمع بحمل النفي للقعود في الرواية الثانية على القعود الذي يكون فيه التسليم. وظاهر هذا الحديث وغيره من الاحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يوتر بدون سبع ركعات. وقال ابن حزم في المحلى: إن الوتر وتهجد الليل ينقسم إلى ثلاثة عشر وجها، أيها فعل أجزأه، ثم ذكرها واستدل على كل واحد منها ثم قال: وأحبها إلينا وأفضلها أن يصلي ثنتي عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، ثم يصلي ركعة واحدة ويسلم. باب وقت صلاة الوتر والقراءة فيها والقنوت عن خارجة بن حذافة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة فقال: لقد أمدكم الله بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، قلنا: ما هي يا رسول الله؟ قال: الوتر فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر رواه الخمسة إلا النسائي. الحديث أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم وصححه وضعفه البخاري، وقال ابن حبان: إسناده منقطع ومتنه باطل. قال الخطابي: فيه عبد الله بن أبي مرة الزوفي عن خارجة. (وفي الباب) عن أبي هريرة عند أحمد وابن أبي شيبة، وعنه حديث آخر عند البيهقي وفيه أبو إسماعيل الترمذي وثقه الدارقطني، وقال الحاكم: تكلم فيه أبو حاتم. وعن
[ 48 ]
عبد الله بن عمرو عند أحمد والدارقطني وفي إسناده العرزمي وهو ضعيف. وعن بريدة عند أبي داود والحاكم في المستدرك وقال: صحيح. وعن أبي بصرة الغفاري عند أحمد والحاكم والطحاوي وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف ولكنه توبع، وعن سليمان بن صرد عند الطبراني في الاوسط وفي إسناده إسماعيل بن عمرو البجلي، وثقه ابن حبان وضعفه أبو حاتم والدارقطني وابن عدي. وعن ابن عباس عند البزار والطبراني في الكبير، والدارقطني وفي إسناده النصر أبو عمرو الخزاز وهو ضعيف متروك، وقال البخاري: منكر الحديث. وعن ابن عمر عند البيهقي في الخلافيات، وابن حبان في الضعفاء وفي إسناده حماد بن قيرا وهو ضعيف. وقال أبو حاتم: لا يجوز الاحتجاج به، وكان أبو زرعة يمرض القول فيه. وادعى ابن حبان أن الحديث موضوع، وله حديث آخر عند الطبراني، وفي إسناده أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم وغيره. وعن ابن مسعود عند البزار وفي إسناده جابر الجعفي وقد ضعفه الجمهور. وعن عبد الله بن أبي أوفى عند البيهقي في الخلافيات وفي إسناده أحمد بن محمد بن مصعب بن بشر بن فضالة وقد قيل: إنه كان يضع المنون والآثار، ويقلب الاسانيد للاخبار. قال أبو حاتم: ولعله قد قلب على الثقات أكثر من عشرة آلاف حديث. وعن علي عليه السلام عند أهل السنن. وعن عقبة بن عامر عند الطبراني وفيه ضعف. وعن عمرو بن العاص عند الطبراني أيضا وفيه ضعف. وعن معاذ بن جبل عند أحمد وفي إسناده عبيد الله بن زحر وهو ضعيف وفيه انقطاع. وعن أبي أيوب عند الطبراني في الكبير والاوسط. قوله: أمدكم الامداد يكون بمعنى الاعانة، ومنه الامداد بالملائكة وبمعنى الاعطاء ومنه: * (وأمددناهم بفاكهة) * (الطور: 22) الآية، فيحتمل أن يكون هذا من الاعانة، أي أعانكم بها على الانتهاء عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (العنكبوت: 45). ويحتمل أن يكون من الاعطاء، قال العراقي: والظاهر أن المراد الزيادة في الاعطاء، ويدل عليه قوله في بعض طرق الحديث: (إن الله زادكم صلاة) كما في حديث عبد الله بن عمرو، وأبي بصرة، وابن عمر، وابن أبي أوفى، وعقبة بن عامر. قوله: الوتر بكسر الواو وفتحها لغتان، وقرئ بهما في السبعة. قوله: (بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر) استدل به على أن أول وقت الوتر يدخل بالفراغ من صلاة العشاء ويمتد إلى طلوع الفجر، كما قالت عائشة في الحديث الصحيح. وانتهى وتره إلى السحر، وفي وجه لاصحاب الشافعي أنه يمتد بعد طلوع الفجر إلى صلاة الصبح، وفي وجه آخر
[ 49 ]
يمتد إلى صلاة الظهر. وفي وجه آخر أنه يصح الوتر قبل العشاء، وكلها مخالفة للادلة. (واستدل) بالحديث أيضا أبو حنيفة على وجوب الوتر، وقد تقدم الكلام على ذلك، واستدل به أيضا على أن الوتر أفضل من ركعتي الفجر، وقد تقدمت الاشارة إليه. واستدل به المصنف أيضا على أن الوتر لا يصح الاعتداد به قبل العشاء فقال ما لفظه: وفيه دليل على أنه لا يعتد به قبل العشاء بحال انتهى. وعن عائشة قالت: من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أول الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر رواه الجماعة. وعن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوتروا قبل أن تصبحوا رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود. وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر ثم ليرقد، ومن وثق بقيام من آخر الليل فليوتر من آخره، فإن قراءة آخر الليل محضورة وذلك أفضل رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة. في الباب أحاديث منها عن أبي هريرة عند البزار والطبراني في الاوسط قال: سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر كيف توتر؟ قال: أوتر أول الليل، قال: حذر كيس، ثم سأل عمر: كيف توتر؟ قال: من آخر الليل، قال: قوي معان. وفي إسناده سليمان بن داود اليمامي وقد ضعف. وعن أبي مسعود عند أحمد والطبراني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره قال العراقي: وإسناده صحيح. وعن أبي قتادة عند أبي داود بنحو حديث أبي هريرة المتقدم، وصححه الحاكم على شرط مسلم، وقال العراقي: صحيح. وعن ابن عمر عند ابن ماجة بنحو حديث أبي هريرة المتقدم وصححه الحاكم، وعن عقبة بن عامر عند الطبراني بنحو حديث أبي هريرة المتقدم أيضا. وعن علي عليه السلاعند ابن ماجة بلفظ: من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أوله وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر قال العراقي: وإسناده جيد. وعن أبي موسى عند الطبراني في الكبير قال: كان يوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحيانا أول الليل ووسطه ليكون سعة للمسلمين وعن ابن عمر عند أبي داود والترمذي وصححه والحاكم في المستدرك بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: بادروا الصبح بالوتر وله حديث آخر عند الترمذي بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل
[ 50 ]
طلوع الفجر. وعن أبي ذر عند النسائي بلفظ: أوصاني خليلي صلى الله عليه وآله وسلم أوصاني بصلاة الضحى والوتر قبل النوم، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر. وعن سعد بن أبي وقاص عند أحمد بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الذي لا ينام حتى يوتر حازم وعن علي عليه السلام عند البزار قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنام إلا على وتر. وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وثقه أحمد وضعفه الجمهور. وعن عمر عند ابن ماجة بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تسأل الرجل فيم يضرب امرأته ولا تنم إعلى وتر. والحديث عند أبي داود والنسائي، ولكنهما اقتصرا على النهي عن السؤال عن ضرب الرجل امرأته. وعن أبي الدرداء عند مسلم بنحو حديث أبي ذر المتقدم. (وأحاديث) الباب تدل على أن جميع الليل وقت للوتر إلا الوقت الذي قبل صلاة العشاء، إذ لم ينقل أنه صلى الله عليه وآله وسلم أوتر فيه، ولم يخالف في ذلك أحد، لا أهل الظاهر ولا غيرهم، إلا ما قدمنا أنه يجوز ذلك في وجه لاصحاب الشافعي، وهو وجه ضعيف صرح بذلك العراقي وغيره منهم. وقد حكى صاحب المفهم الاجماع على أنه لا يدخل وقت الوتر إلا بعد صلاة العشاء، وورد في حديث عائشة الصحيح: أنه كان يصلي صلى الله عليه وآله وسلم ما بين أن يصلي العشاء إلى أن يطلع الفجر إحدى عشرة ركعة. واستدل بحديث أبي سعيد وما شابهه من الاحاديث المذكورة في الباب على أن الوتر لا يجوز بعد الصبح، وهو يرد على ما تقدم في أحد الوجوه لاصحاب الشافعي أنه يمتد إلى صلاة الصبح أو إلى صلاة الظهر. واستدل بحديث جابر وما في معناه من الاحاديث المذكورة على مشروعية الايتار قبل النوم لمن خاف أن ينام عن وتره، وعلى مشروعية تأخيره إلى آخره لمن لم يخف ذلك، ويمكن تقييد الاحاديث المطلقة التي فيها الوصية بالوتر قبل النوم، والامر به بالاحاديث المقيدة بمخافة النوم عنه. وعن أبي بن كعب قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الوتر * (بسبح اسم ربك الاعلى) * و * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) *. رواه الخمسة إلا الترمذي، وللخمسة إلا أبا داود مثله من حديث ابن عباس، وزاد أحمد والنسائي في حديث أبي: فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ولهما مثله من حديث عبد الرحمن بن أبزى وفي آخره: ورفع صوته في الآخرة. حديث أبي بن كعب قد تقدم وتقدم الكلام عليه، ولعل إعادة المصنف لذكره
[ 51 ]
لهذه الزيادة التي ذكرها أعني قوله: فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات قال العراقي: وهي مصرح بها في حديث أبي بكعب وعبد الرحمن بن أبزى وكلاهما عند النسائي بإسناد صحيح انتهى. وقد أخرجهما أيضا البزار من حديث ابن أبي أوفى وقال: أخطأ فيه هاشم بن سعيد، لان الثقات يروونه عن زبيد، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وزاد هاشم: فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس وليس هذا في حديث غيره. قال العراقي: بل هذه الزيادة في حديث غيره من الثقات انتهى. وعبد الرحمن بن أبزى قد وقع الاختلاف في صحبته كما قدمنا، وقد اختلفوا هل هذا الحديث من روايته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من روايته عن أبي بن كعب عن النبي (ص)، قال الترمذي: يروى عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب، ويروى عن عبد الرحمن بن أبزى عن النبي (ص). وعن الحسن بن علي عليه السلام: قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت. وعن علي بن أبي طالب عليه السلام: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك رواهما الخمسة. أما حديث الحسن فأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي من طريق بريد، عن أبي الحوراء بالحاء المهملة والراء، عن الحسن، وأثبت بعضهم الفاء في قوله: فإنك تقضي وبعضهم أسقطها، وزاد الترمذي قبل: تباركت وتعاليت سبحانك. وزاد البيهقي قبل تباركت وتعاليت أيضا: ولا يعز من عاديت. قال النووي في الخلاصة بسند ضعيف وتبعه ابن الرفعة فقال: لم تثبت هذه الرواية، قال الحافظ: وهو معترض فإن البيهقي رواها من طريق إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوارء، عن الحسن أو الحسين بن علي، وهذا التردد من إسرائيل إنما هو في الحسن أو الحسين، قال البيهقي: كأن الشك إنما وقع في الاطلاق أو في النسبة، قال: ويؤيد الشك أن أحمد بن حنبل أخرجه في مسند الحسين من مسنده من غير تردد، ومن حديث
[ 52 ]
شريك عن أبي إسحاق بسنده قال: وهذا وإن كان الصواب خلافه، والحديث من حديث الحسن لا من حديث أخيه الحسين، فإنه يدل على أن الوهم فيه من أبي إسحاق، فلعله ساء فيه حفظه فنسي هل هو الحسن أو الحسين؟ قال: ثم إن الزيادة أعني قوله: ولا يعز من عاديت رواها الطبراني أيضا من حديث شريك وزهير بن معاوية عن أبي إسحاق، ومن حديث أبي الاحوص عن أبي إسحاق، ثم ذكره الحافظ بإسناد له متصل وفيه تلك الزيادة، وزاد النسائي بعد قوله: تباركت وتعاليت وصلى الله على النبي. قال النووي: إنها زيادة بسند صحيح أو حسن، وتعقبه الحافظ بأنه منقطع. وروى تلك الزيادة الطبراني والحاكم، وقد ضعف ابن حبان حديث الحسن هذا. وقال: توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحسن ابن ثماني سنين فكيف يعلمه صلى الله عليه وآله وسلم هذا الدعاء؟. وقد أشار صاحب البدر المنير إلى تضعيف كلام ابن حبان، وقد نبه ابن خزيمة وابن حبان على أن قوله في قنوت الوتر تفرد به أبو إسحاق عن بريد بن أبي مريم وتبعه ابناه يونس وإسرائيل، وقد رواه شعبة وهو أحفظ من مائتين مثل أبي إسحاق وابنيه، فلم يذكر فيه القنوت ولا الوتر وإنما قال: كان يعلمنا هذا الدعاء وأيد ذلك الحافظ برواية الدولابي والطبراني فإن فيها التصريح بالقنوت، وكذلك رواية البيهقي عن ابن الحنفية، وكذلك رواية محمد بن نصر. وروى البيهقي عن ابن عباس وابن الحنفية أنهما كانا يقولان: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات وفي إسناده عبد الرحمن بن هرمز، قال الحافظ: وهو محتاج إلى الكشف عن حاله. وقال ابن حبان: إن ذكر صلاة الصبح ليس بمحفوظ. وقال ابن النحوي: إن إسنادها جيد، وصرح الحافظ في بلوغ المرام أن إسنادها ضعيف، وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة بلفظ حديث الحسن مقيدا بصلاة الصبح وقال: صحيح. قال الحافظ: وليس كما قال وهو ضعيف، لان في إسناده عبد الله بن سعيد المقبري، ولولاه لكان صحيحا، وكان الاستدلال به أولى من الاستدلال بحديث الحسن بن علي في قنوت الوتر. وروى الطبراني في الاوسط من حديث بريدة نحوه، وفي إسناده كما قال الحافظ رحمه الله تعالى مقال. وأما حديث علي المذكور فأخرجه أيضا البيهقي والحاكم وصححه مقيدا بالقنوت. وأخرجه الدارمي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان في كتبهم وليس فيه ذكر الوتر. (وفي الباب) عن علي حديث آخر عند الدارقطني بلفظ: قنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الوتر وفي إسناده
[ 53 ]
عمرو بن شمر الجعفي أحد الكذابين الوضاعين. وعن أبي بكر وعمر وعثمان عند الدار قطني أنهم كانوا يقولون: قنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الوتر وكانوا يفعلون ذلك وفي إسناده أيضا عمرو بن شمر المذكور. وعن أبي بن كعب عند النسائي وابن ماجة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع. وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة في المصنف والدارقطني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقنت في الوتر قبل الركوع وفي إسناده أبان بن أبي عياش وهو ضعيف. وعن ابن عباس عند محمد بن نصر المروزي قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الصبح بهؤلاء الكلمات وقد تقدم. وعن ابن عمر عند الحاكم في كتاب القنوت: قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم أحد بنيه في القنوت: اللهم اهدني فيمن هديت الحديث. وعن عبد الرحمن بن أبزى عند محمد بن نصر وفيه ذكر القنوت في الوتر. وعن أم عبد أم عبد الله بن مسعود عند ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قنت قبل الركوع والاحاديث المذكورة تدل على مشروعية القنوت بهذا الدعاء المذكور في حديث الحسن وفي حديث علي. وإلى ذلك ذهبت العترة وأبو حنيفة وبعض الشافعية من غير فرق بين رمضان وغيره، وروى ذلك الترمذي عن ابن مسعود. ورواه أيضا عنه محمد بن نصر، قال العراقي: بأسانيد جيدة. ورواه محمد بن نصر أيضا عن علي وعمر. وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبي ثور، ورواية عن أحمد. وروى محمد بن نصر عن علي عليه السلام أنه كان يقنت في النصف الاخير من رمضان وهو من رواية الحرث عنه. وروى أبو داود أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب وكان يصلي لهم عشرين ليلة ولا يقنت إلا في النصف الباقي من رمضان. وروى محمد بن نصر بإسناد صحيح: أن ابن عمر كان لا يقنت في الصبح ولا في الوتر إلا في النصف الآخر من رمضان وروى العراقي عن معاذ بن الحرث الانصاري أنه كان إذا انتصف رمضان لعن الكفرة. قال: وعن الحسن كانوا يقنتون في النصف الاخير من رمضان. وروي أيضا عن الزهري أنه قال: لا قنوت في السنة كلها إلا في النصف الاخير من رمضان. وروي عن عثمان بن سراقة نحوه. وذهب مالك فيما حكاه النووي في شرح المهذب وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي كما قال العراقي إلى مشروعية القنوت في جميع رمضان دون بقية السنة، وذهب الحسن وقتادة ومعمر،
[ 54 ]
كما روى ذلك محمد بن نصر عنهم أنه يقنت في جميع السنة إلا في النصف الاول من رمضان. وقد روي عن الحسن القنوت في جميع السنة كما تقدم. وذهب طاوس إلى أن القنوت في الوتر بدعة. وروى ذلك محمد بن نصر عن ابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير. وروي عن مالك مثل ذلك. قال بعض أصحاب مالك: سألت مالكا عن الرجل يقوم لاهله في شهر رمضان أترى أن يقنت بهم في النصف الباقي من الشهر؟ فقال مالك: لم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قنت ولا أحدا من أولئك، وما هو من الامر القديم، وما أفعله أنا في رمضان ولا أعرف القنوت قديما. وقال معن بن عيسى عن مالك: لا يقنت في الوتر عندنا. وقال ابن العربي: اختلف قول مالك فيه في صلاة رمضان قال: والحديث لم يصح والصحيح عندي تركه، إذ لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله ولا قوله اه. قال العراقي: قلت بل هو صحيح أحسن. وروى محمد بن نصر أنه سئل سعيد بن جبير عن بدء القنوت في الوتر فقال: بعث عمر بن الخطاب جيشا فتورطوا متورطا خاف عليهم، فلما كان النصف الآخر من رمضان قنت يدعو لهم، فهذه خمسة مذاهب في القنوت، وبها يتبين عدم صحة دعوى المهدي في البحر أنه مجمع عليه في النصف الاخير من رمضان. وقد اختلف في كونقبل الركوع أو بعده، ففي بعض طرق الحديث عند البيهقي التصريح بكونه بعد الركوع وقال: تفرد بذلك أبو بكر بن شيبة الحزامي، وقد روى عنه البخاري في صحيحه، وذكره ابن حبان في الثقات، فلا يضر تفرده. وأما القنوت قبل الركوع فهو ثابت عند النسائي من حديث أبي بن كعب كما تقدم وعبد الرحمن بن أبزى، وضعف أبو داود ذكر القنوت فيه، وثابت أيضا في حديث ابن مسعود كما تقدم. قال العراقي: وهو ضعيف، قال: ويعضد كونه بعد الركوع أولى فعل الخلفاء الاربعة لذلك، والاحاديث الواردة في الصبح كما تقدم في بابه. وقد روى محمد بن نصر عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقنت بعد الركعة وأبو بكر وعمر، حتى كان عثمان فقنت قبل الركعة ليدرك الناس قال العراقي: وإسناده جيد. قوله في حديث علي: وأعوذ بك منك أي أستجير بك من عذابك.
[ 55 ]
باب لا وتران في ليلة وختم صلاة الليل بالوتر وما جاء في نقضه عن طلق بن علي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا وتران في ليلة رواه الخمسة إلا ابن ماجة. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا رواه الجماعة إلا ابن ماجة. أما حديث طلق بن علي فحسنه الترمذي، قال عبد الحق: وغير الترمذي صححه، وأخرجه أيضا ابن حبان وصححه وقد احتج به على أنه لا يجوز نقض الوتر. ومن جملة المحتجين به على ذلك طلق بن علي الذي رواه كما قال العراقي قال: وإلى ذلك ذهب أكثر العلماء وقالوا: إن من أوتر وأراد الصلاة بعد ذلك لا ينقض وتره ويصلي شفعا شفعا حتى يصبح، قال: فمن الصحابة أبو بكر الصديوعمار بن ياسر ورافع بن خديج وعائد بن عمرو وطلق بن علي وأبو هريرة وعائشة. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس. وممن قال به من التابعين سعيد بن المسيب وعلقمة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومكحول والحسن البصري، روى ذلك ابن أبي شيبة عنهم في المصنف أيضا. وقابه من التابعين: طاوس وأبو مجلز، ومن الائمة: سفيان الثوري ومالك وابن المبارك وأحمد، روى ذلك الترمذي عنهم في سننه وقال: إنه أصح. ورواه العراقي عن الاوزاعي والشافعي وأبي ثور، وحكاه القاضي عياض عن كافة أهل الفتيا، وروى الترمذي عن جماعة من أصحاب النبي (ص) ومن بعدهم جواز نقض الوتر وقالوا: يضيف إليها أخرى ويصلي ما بداله، ثم يوتر في آخر صلاته، قال: وذهب إليه إسحاق، واستدلوا بحديث ابن عمر المذكور في الباب وقالوا: إذا أوتر ثم نام ثم قام فلم يشفع وتره وصلى مثنى مثنى كما قال الاولون ولم يوتر في آخر صلاته كان قد جعل آخر صلاته من الليل شفعا لا وترا، وفيه مخالفة لقوله (ص): اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا واستدل الاولون على جواز صلاة الشفع بعد الوتر بحديث عائشة المتقدم، وبحديث أم سلمة الآتي، وقد قدمنا الكلام على ذلك في شرح حديث عائشة. وعن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن الوتر قال: أما أنا فلو أوترت قبل أن أنام ثم أردت أن أصلي بالليل شفعت بواحدة ما مضى من وتري ثم صليت مثنى مثنى، فإذا
[ 56 ]
قضيت صلاتي أوترت بواحدة، لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا أن نجعل آخر صلاة الليل الوتر رواه أحمد. وعن علي قال: الوتر ثلاثة أنواع: فمن شاء أن يوتر أول الليل أوتر، فإن استيقظ فشاء أن يشفعها بركعة ويصلي ركعتين ركعتين حتى يصبح ثم يوتر فعل، وإن شاء ركعتين حتى يصبح، وإن شاء آخر الليل أوتر رواه الشافعي في مسنده. حديث ابن عمر قال في مجمع الزوائد: فيه ابن إسحاق وهو مدلس وهو ثقة، وبقية رجاله رجال الصحيح اه. والمرفوع من حديث ابن عمر متفق عليه كما تقدم. وأثر علي أخرجه البيهقي أيضا، وقد استدل به ابن عمر ومن معه على جواز نقض الوتر، وقد قدمنا وجه دلالته على ذلك. وقد ناقضهم القائلون بعدم الجواز، فاستدلوا به على أنه لا يجوز النقض، قالوا: لان الرجل إذا أوتر أول الليل فقد قضى وتره، فإذا هو نام بعد ذلك ثم قام وتوضأ وصلى ركعة أخرى فهذه صلاة غير تلك الصلاة، وغير جائز في النظر أن تتصل هذه الركعة بالركعة الاولى التي صلاها في أول الليل، فلا يصير أن صلاة واحدة، وبينهما نوم وحدث ووضوء وكلام في الغالب، وإنما هما صلاتان متباينتان كل واحدة غير الاولى، ومن فعل ذلك فقد أوتر مرتين، ثم إذا هو أوتر أيضا في آخر صلاته صار موترا ثلاث مرات. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترا وهذا قد جعل الوتر في مواضع من صلاة الليل. وأيضا قال: صلى الله عليه وسلم لا وتران في ليلة وهذا قد أوتر ثلاث مرات. وعن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يركع ركعتين بعد الوتر رواه الترمذي. ورواه أحمد وابن ماجة وزاد: وهو جالس وقد سبق هذا المعنى من حديث عائشة وهو حجة لمن لم ير نقض الوتر. وقد روى سعيد بن المسيب: أن أبا بكر وعمر تذاكرا الوتر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو بكر: أما أنا فأصلي ثم أنام على وتر، فإذا استيقظت صليت شفعشفعا حتى الصباح. وقال عمر: ولكن أنام على شفع ثم أوتر من آخر السحر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابي بكر: حذر هذا، وقال لعمر: قوي هذا رواه أبو سليمان الخطابي بإسناده. أما حديث أم سلمة فصححه الدارقطني في سننه، ثبت ذلك في رواية محمد بن عبد الملك بن بشران عنه، وليس في رواية أبي طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم عن الدارقطني تصحيح له، كذا قال العراقي. قال الترمذي: وقد روي نحو هذا عن أبي أمامة
[ 57 ]
وعائشة وغير واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اه. وأما حديث عائشة الذي أشار إليه المصنف فقد تقدم وتقدم شرحه. وأما حديث أبي بكر وعمر فقد ورد من طرق ليس فيها قول أبي بكر، فإذا استيقظت صليت شفعا شفعا، منها عند البزار والطبراني عن أبي هريرة. ومنها عند ابن ماجة عن جابر. ومنها عند أبي داود والحاكم عن أبي قتادة. ومنها عند ابن ماجة عن ابن عمر. ومنها عند الطبراني في الكبير، ومحمد بن نصر عن عقبة بن عامر، فإن صحت هذه الزيادة التي ذكرها الخطابي كانت صالحة للاستدلال بها على من أجاز التنفل بعد الوتر، وقد تقدم ذكرهم، وإن لم تصح فالكلام ما قدمنا في شرح حديث عائشة من اختصاص الركعتين بعد الوتر به صلى الله عليه وآله وسلم لما سلف. باب قضاء ما يفوت من الوتر والسنن الراتبة والاوراد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره رواه أبو داود. الحديث أخرجه الترمذي وزاد: أو إذا استيقظ وأخرجه أيضا ابن ماجة والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وإسناد الطريق التي أخرجه منها أبو داود صحيح كما قال العراقي، وإسناد طريق الترمذي وابن ماجة ضعيف، أوردها ابن عدي وقال: إنها غير محفوظة، وكذا أوردها ابن حبان في الضعفاء، وأخرجه الترمذي من طريق زيد بن أسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من نام عن وتره فليصل إذا أصبح قال: وهذا أصح من الحديث الاول، يعني حديث أبي سعيد. (وفي الباب) عن عبد الله بن عمر عند الدارقطني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من فاته الوتر من الليل فليقضه من الغد قال العراقي: وإسناده ضعيف، وله حديث آخر عند البيهقي: أن النبي (ص) أصبح فأوتر وعن أبي هريرة عند الحاكم والبيهقي قال: قال رسول الله (ص): إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر وصححه الحاكم على شرط الشيخين. وعن أبي الدرداء عند الحاكم والبيهقي بلفظ: ربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر وقد قام الناس لصلاة الصبح وصححه الحاكم. وعن الاغر المزني عند الطبراني في الكبير بلفظ: أن رجلا قال: يا نبي الله إني أصبحت ولم أوتر، فقال: إنما الوتر بالليل، فقال: يا نبي الله إني أصبحت ولم أوتر، قال:
[ 58 ]
فأوتر وفي إسناده خالد بن أبي كريمة، ضعفه ابن معين وأبو حاتم، ووثقه أحمد وأبو داود والنسائي. وعن عائشة عند أحمد والطبراني في الاوسط بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبح فيوتر وإسناده حسن. (الحديث) يدل على مشروعية قضاء الوتر إذا فات، وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبادة بن الصامت، وعامر بن ربيعة، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وفضالة بن عبيد، وعبد الله بن عباس، كذا قال العراقي. قال: ومن التابعين عمرو بن شرحبيل، وعبيدة السلماني، وإبراهيم النخعي، ومحمد بن المنتشر، وأبو العالية، وحماد بن أبي سليمان. ومن الائمة: سفيان الثوري، وأبو حنيفة، والاوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي، وأبو خيثمة، ثم اختلف هؤلاء إلى متى يقضي على ثمانية أقوال: أحدها ما لم يصل الصبح وهو قول ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومسروق والحسن البصري وإبراهيم النخعي ومكحول وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي أيوب وأبي خيثمة، حكاه محمد بن نصر عنهم. ثانيها: أنه يقضي الوتر ما لم تطلع الشمس ولو بعد صلاة الصبح وبه قال النخعي. ثالثها: أنه يقضي بعد الصبح وبعد طلوع الشمس إلى الزوال، روي ذلك عن الشعبي وعطاء والحسن وطاوس ومجاهد وحماد بن أبي سليمان، وروي أيضا عن ابن عمر. رابعها: أنه لا يقضيه بعد الصبح حتى تطلع الشمس، فيقضيه نهارا حتى يصلي العصر، فلا يقضيه بعده، ويقضيه بعد المغرب إلى العشاء، ولا يقضيه بعد العشاء لئلا يجمع بين وترين في ليلة، حكي ذلك عن الاوزاعي. خامسها: أنه إذا صلى الصبح لا يقضيه نهارا لانه من صلاة الليل، ويقضيه ليلا قبل وتر الليلة المستقبلة، ثم يوتر للمستقبلة، روي ذلك عن سعيد بن جبير. سادسها: أنه إذا صلى الغداة أوتر حيث ذكره نهارا، فإذا جاءت الليلة الاخرى ولم يكن أوتر لم يوتر لانه إن أوتر في ليلة مرتين صار وتره شفعا، حكي ذلك عن الاوزاعي أيضا. سابعها: أنه يقضيه أبدا ليلا ونهارا، وهو الذي عليه فتوى الشافعية. ثامنها: التفرقة بين أن يتركه لنوم أو نسيان، وبين أن يتركه عمدا، فإن تركه لنوم أو نسيان قضاه إذا استيقظ، أو إذا ذكر في أي وقت كان ليلا أو نهارا وهو ظاهر الحديث، واختاره ابن حزم واستدل بعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها قال: وهذا عموم يدخل فيه كل صلاة فر ض أو نافلة، وهو في الفرض أمر فرض، وفي النفل أمر ندب، قال: ومن تعمد تركه حتى دخل الفجر فلا يقدر على قضائه أبدا،
[ 59 ]
قال: فلو نسيه أحببنا له أن يقضيه أبدا متى ذكره ولو بعد أعوام. وقد استدل بالامر بقضاء الوتر على وجوبه وحمله الجمهور على الندب، وقد تقدم الكلام في ذلك. [ رح ] وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من نام عن حزبه من الليل أو عن شئ منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل رواه الجماعة إلا البخاري. وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو رجع صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة، وقد ذكرنا عنه قضاء السنن في غير حديث. قوله: عن حزبه الحزب بكسر الحاء المهملة وسكون الزاي بعدها باء موحدة الورد، والمراد هنا الورد من القرآن، وقيل: المراد ما كان معتاده من صلاة الليل. (والحديث) يدل على مشروعية اتخاذ ورد في الليل. وعلى مشروعية قضائه إذا فات لنوم أو عذر من الاعذار، وأن من فعله ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كان كمن فعله في الليل. قوله: وثبت عنه (ص) الخ هو ثابت من حديث عائشة عند مسلم والترمذي وصححه والنسائي. وفيه استحباب قضاء التهجد إذا فاته من الليل، ولم يستحب أصحاب الشافعي قضاءه، إنما استحبوا قضاء السنن الرواتب، ولم يعدوا التهجد من الرواتب. قوله: وقد ذكرنا عند قضاء السنن في غير حديث قد تقدم بعض من ذلك في باب القضاء وبعض في أبواب التطوع. باب صلاة التراويح عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة فيقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. رواه الجماعة. وعن عبد الرحمن بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله عزوجل فرض صيام رمضان وسننت قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. حديث عبد الرحمن بن عوف في إسناده النضر بن شيبان وهو ضعيف. وقال النسائي: هذا الحديث خطأ، والصواب حديث أبي سلمة عن أبي هريرة. قوله: من غير أن يأمر فيه بعزيمة. فيه التصريح بعدم وجوب القيام، وقد فسره بقوله: من قام الخ فإنه يقتضي الندب
[ 60 ]
دون الايجاب، وأصرح منه قوله في الحديث الآخر: وسننت قيامه بعد قوله: فرض صيام رمضان. قوله: من قام رمضان المراد قيام لياليه مصليا، ويحصل بمطلق ما يصدق عليه القيام، وليس من شرطه استغراق جميع أوقات الليل، قيل: ويكون أكثر الليل. وقال النووي: إن قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح، يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام، لا أن قيام رمضان لا يكون إبها، وأغرب الكرماني فقال: اتفقوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح. قوله: إيمانا واحتسابا قال النووي: معنى إيمانا تصديقا بأنه حق معتقدا فضيلته، ومعنى احتسابا أن يريد الله تعالى وحده، لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الاخلاص. قوله: غفر له ما تقدم من ذنبه زاد أحمد والنسائي: وما تأخر. قال الحافظ: وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد اه. (قيل) ظاهر الحديث يتناول الصغائر والكبائر، وبذلك جزم ابن المنذر، وقيل: الصغائر فقط وبه جزم إمام الحرمين. قال النووي: وهو المعروف عند الفقهاء، وعزاه عياض إلى أهل السنة، وقد أورد أن غفران الذنوب المتقدمة معقول، وأما المتأخرة فلا، لان المغفرة تستدعي سبق ذنب، وأجيب عنه بأن ذلك كناية عن عدم الوقوع. وقال الماوردي: إنها تقع منهم الذنوب مغفورة. (والحديث) يدل على فضيلة قيام رمضان وتأكد استحبابه، واستدل به أيضا على استحباب صلاة التراويح، لان القيام المذكور في الحديث المراد به صلاة التراويح كما تقدم عن النووي والكرماني. قال النووي: اتفق العلماء على استحبابها. قال: واختلفوا في أن الافضل صلاتها في بيته منفردا أم في جماعة في المسجد؟ فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم: الافضل صلاتها جماعة، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم واستمر عمل المسلمين عليه، لانه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد، وبالغ الطحاوي فقال: إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية، وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الافضل فرادى في البيت لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة متفق عليه. وقالت العترة: إن التجميع فيها بدعة وسيأتي تمام الكلام على صلاة التراويح. وعن جبير بن نفير عن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنحتى ذهب ثلث الليل ثم لم يقم بنا في الثالثة، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلنا: يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه، فقال: إنه من قام مع الامام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة، ثم لم يقم بنا حتى
[ 61 ]
بقي ثلاث من الشهر فصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح قلت له: وما الفلاح؟ قال: السحور رواه الخمسة وصححه الترمذي. الحديث رجال إسناده عند أهل السنن كلهم رجال الصحيح. قوله: فلم يصل بنا لفظ أبي داود: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع. قوله: لو نفلتنا النفل محركة في الاصل الغنيمة والهبة، ونفله النفل وأنفله أعطاه إياه، والمراد هنا لو قمت بنا طول ليلتنا ونفلتنا من الاجر الذي يحصل من ثواب الصلاة. قوله: فصلى بنا في الثالثة أي في ليلة ثلاث بقيت من الشهر، وكذا قوله في السادسة في الخامسة. وفيه أنه كان يتخولهم بقيام الليل لئلا يثقل عليهم كما كان ذلك ديدنه صلى الله عليه وآله وسلم في الموعظة، فكان يقوم بهم ليلة ويدع القيام أخرى، وفيه تأكد مشروعية القيام في الافراد من ليالي العشر الآخرة من رمضان لانها مظنة الظفر بليلة القدر. قوله: ودعا أهله ونساءه وفيه استحباب ندب الاهل إلى فعل الطاعات وإن كانت غير واجبة. وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضخ في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضخت في وجهه الماء. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة أيضا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعا كتب في الذاكرين والذاكرات. قوله: الفلاح قال في القاموس: الفلاح الفوز والنجاة والبقاء في الخير. والسحور قال: والسحور ما يتسحر به أي ما يؤكل في وقت السحر وهو قبيل الصبح. (والحديث) استدل به على استحباب صلاة التراويح، لان الظاهر منه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمهم في تلك الليالي. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى الثانية فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أصبح قال: رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفترض عليكم وذلك في رمضان متفق عليه. وفي رواية: قالت: كان الناس يصلون في المسجد في رمضان بالليل أوزاعا، يكون مع الرجل الشئ من القرآن فيكون معه النفر الخمسة أو السبعة أو أقل من ذلك أو أكثر يصلون بصلاته، قالت: فأمرني
[ 62 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنصب له حصيرا على باب حجرتي ففعلت، فخرج إليه بعد أن صلى عشاء الآخرة، فاجتمع إليه من في المسجد فصلى بهم وذكرت القصة بمعنى ما تقدم غير أن فيها أنه لم يخرج إليهم في الليلة الثانية رواه أحمد. قوله: صلى في المسجد الخ، قال النووي: فيه جواز النافلة جماعة، ولكن الاختيار فيها الانفراد إلا نوافل مخصوصة وهي العيد والكسوف والاستسقاء. وكذا التراويح عند الجمهور كما سبق. وفيه جواز النافلة في المسجد وإن كان البيت أفضل، ولعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما فعلها في المسجد لبيان الجواز، أو أنه كان معتكفا. وفيه جواز الاقتداء بمن لم ينو إمامته قال: وهذا صحيح على المشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء، ولكن إن نوى الامام إمامتهم بعد اقتدائهم حصلت فضيلة الجماعة له ولهم، وإن لم ينوها حصلت لهم فضيلة الجماعة، ولا تحصل للامام على الاصح لانه لم ينوها، والاعمال بالنيات، وأما المأمومون فقد نووها. وفيه إذا تعارضت مصلحة وخوف مفسدة أو مصلحتان اعتبر أهمها، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان رأى الصلاة في المسجد مصلحة لما ذكرناه، فلما عارضه خوف الافتراض عليهم تركه لعظم المفسدة التي يخاف من عجزهم وتركهم للفرض، وفيه أن الامام وكبير القوم إذا فعل شيئا خلاف ما يتوقعه أتباعه، وكان له فيه عذر يذكره لهم تطييبا لقلوبهم وإصلاحا لذا ت البين لئلا يظنوا خلاف هذا، وربما ظنوا ظن السوء. قوله: أوزاعا أي جماعات. والحديث) استدل به المصنف على صلاة التراويح. وقد استدل به على ذلك غيره كالبخاري، فإنه ذكره من جملة الاحاديث التي ذكرها في كتاب التراويح من صحيحه. ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل الصلاة في المسجد وصلى خلفه الناس ولم ينكر عليهم، وكان ذلك في رمضان، ولم يترك إلا لخشية الافتراض، فصح الاستدلال به على مشروعية مطلق التجمع في النوافل في ليالي رمضان، وأما فعلها على الصفة التي يفعلونها الآن من ملازمة عدد مخصوص وقراءة مخصوصة في كل ليلة فسيأتي الكلام عليه. (ومن جملة) ما استدل به البخاري عليها حديث عائشة وهو أيضا في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى
[ 63 ]
بصلاته، فلما كانت الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الصلاة أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكن خشيت أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والامر على ذلك. وعن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يعني آخر الليل، وكان النا س يقومون أوله. رواه البخاري. ولمالك في الموطأ عن يزيد بن رومان قال: كان الناس في زمن عمر يقومون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. قوله: أوزاع قد تقدم تفسيره. قوله: فقال عمر: نعمت البدعة قال في الفتح: البدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق وتطلق في الشرع على مقابلة السنة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الاحكام الخمسة انتهى. قوله: بثلاث وعشرين ركعة قال ابن إسحاق: وهذا أثبت ما سمعت في ذلك. ووهم في ضوء النهار فقال: إن في سنده أبا شيبة وليس الامر كذلك، لان مالكا في الموطأ ذكره كما ذكر المصنف. والحديث الذي في إسناده أبو شيبة هو حديث ابن عباس الآتي كما في البدر المنير والتلخيص، وفي الموطأ أيضا عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنها إحدى عشرة. وروى محمد بن نصر عن محمد بن يوسف أنها إحدى وعشرون ركعة. وفي الموطأ من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد أنها عشرون ركعة. وروى محمد بن نصر من طريق عطاء قال: أدركتهم في رمضان يصلون عشرين ركعة وثلاث
[ 64 ]
ركعات الوتر. قال الحافظ: والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الاحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث تطول القراءة تقلل الركعات وبالعكس، وبه جزم الداودي وغيره قال: والاختلاف فيما زاد على العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر، فكأنه تارة يوتر بواحدة وتارة بثلاث. وقد روى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس قال: أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز يعني بالمدينة يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث. وقال مالك: الامر عندنا بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شئ من ذلك ضيق. قال الترمذي: أكثر ما قيل إنه يصلي إحدى وأربعين ركعة بركعة الوتر. ونقل ابن عبد البر عن الاسود بن يزيد أربعين يوتر بسبع وقيل ثمان وثلاثين، ذكره محمد بن نصر عن ابن يونس عن مالك. قال الحافظ: وهذا يمكن رده إلى الاول بانضمام ثلاث الوتر، لكن صرح في روايته بأنه يوتر بواحدة، فيكون أربعين إلا واحدة. قال مالك: وعلى هذا العمل منذ بضع ومائة سنة. وروي عن مالك ست وأربعون وثلاث الوتر. قال في الفتح: وهذا المشهور عنه، وقد رواه ابن وهب عن العمري عن نافع قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعا وثلاثين، ويوترون منها بثلاث. وعن زرارة بن أوفى أنه كان يصلي بهم بالبصرة أربعا وثلاثين ويوتر. وعن سعيد بن جبير أربعا وعشرين، وقيل: ست عشرة غير الوتر، هذا حاصل ما ذكره في الفتح من الاختلاف في ذلك. وأما العدد الثابت عنه (ص) في صلاته في رمضان فأخرج البخاري وغيره عن عائشة أنها قالت: ما كان النبي (ص) يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث جابر أنه صلى الله عليه وآله وسلم: صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر. وأخرج البيهقي عن ابن عباس: كان يصلي في شهر رمضان في غير جماعة عشرين ركعة والوتر. زاد سليم الرازي في كتاب الترغيب له: ويوتر بثلاث قال البيهقي: تفرد به أبو شيبة إبراهيم بن عثمان وهو ضعيف. وأما مقدار القراءة في كل ركعة فلم يرد به دليل. (والحاصل) أن الذي دلت عليه أحاديث الباب وما يشابهها هو مشروعية القيام في رمضان، والصلاة فيه جماعة وفرادى، فقصر الصلاة المسماة بالتراويح على عدد معين، وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة.
[ 65 ]
باب ما جاء في الصلاة بين العشاءين عن قتادة عن أنس في قوله تعالى: * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) * (الذاريات: 17) قال: كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء، وكذلك * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * رواه أبو داود. وعن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغرب فلما قضى الصلاة قام يصلي فلم يزل يصلي حتى صلى العشاء ثم خرج رواه أحمد والترمذي. أما قول أنس: فرواه أيضا ابن مردويه في تفسيره من رواية الحرث بن وجيه قال: سمعت مالك بن دينار قال: سألت أنس بن مالك عن قوله تعالى: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * (السجدة: 16) فقال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة فأنزل الله فيهم: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * والحرث بن وجيه ضعيف. ورواه أيضا من رواية أبان بن أبي عياش عن أنس نحوه وأبان ضعيف أيضا. ورواه أيضا من رواية الحسن بن أبي جعفر عن مالك بن دينار عنه. ورواه أيضا من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في هذه الآية قال: يصلون ما بين المغرب والعشاء. قال العراقي: وإسناده جيد. ورواه أيضا من رواية خالد بن عمران الخزاعي عن ثابت عن أنس. وأخرج نحوه أيضا من رواية يزيد بن أسلم عن أبيه قال: قال بلال: لما نزلت هذه الآية: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * كنا نجلس في المجلس، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يصلون بعد المغرب إلى العشاء، فنزلت. وأخرج محمد بن نصر عن أنس في قوله تعالى: * (إن ناشئة الليل) * (المزمل: 6) قال: مابين المغرب والعشاء. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ما بين المغرب والعشاء. وفي إسناده منصور بن شقير كتب عنه أحمد بن حنبل وقال فيه: أبو حاتم ليس بقوي وفي حديثه اضطراب. وقال العقيلي: في حديثه بعض
[ 66 ]
الوهم وفي إسناده أيضا عمارة بن زاذان، وثقه الجمهور وضعفه الدارقطني. وقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن حميد بن عبد الرحمن، عن عمارة بن زاذان، عن ثابت عن أنس أنه كان يصلي ما بين المغرب والعشاء ويقول: هي ناشئة الليل، هكذا جعله موقوفا، وهكذا رواه القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث في كتاب الصلاة من رواية حماد ابن سلمة، عن عمارة بن زاذان، عن ثابت، عن أنس أنه كان يحيي ما بين المغرب والعشاء ويقول: هي ناشئة الليل. وممن قال بذلك من التابعين أبو حازم ومحمد بن المنكدر وسعيد ابن جبير وزين العابدين، ذكره العراقي في شرح الترمذي، وروى محمد بن نصر عن أنس قال العراقي: بإسناد صحيح أن قوله تعالى: * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) * (الذاريات: 17) نزلت فيمن كان يصلي ما بين العشاء والمغرب، وأخرج محمد بن نصر عن سفيان الثوري أنه سئل عن قوله تعالى: * (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) * (آل عمران: 113) فقال: بلغني أنهم كانوا يصلون ما بين العشاء والمغرب. وقد روي عن محمد بن المنكدر: أن النبي (ص) قال: إنها صلاة الاوابين وهذا وإن كان مرسلا لا يعارضه ما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الاوابين إذا رمضت الفصال فإنه لا مانع أن يكون كل من الصلاتين صلاة الاوابين. وأما حديث حذيفة المذكور في الباب فأخرجه الترمذي في باب مناقب الحسن والحسين من آخر كتابه مطولا وقال: حسن غريب. وأخرجه أيضا النسائي مختصرا، وأخرج أيضا ابن أبي شيبة عنه نحوه. (وفي الباب) عن ابن عباس عند أبي الشيخ بن حبان في كتا ب الثواب وفضائل الاعمال قال: قال رسول الله (ص): من أحيا ما بين الظهر والعصر وما بين المغرب والعشاء غفر له وشفع له ملكان وفي إسناده حفص بن عمر الفزاز، قال العراقي: مجهول. ولابن عباس حديث آخر رواه الديلمي في مسند الفردوس بلفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلى أربع ركعات بعد المغرب قبل أن يتكلم رفعت له في عليين، وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الاقصى وهي خير من قيام نصف ليلة قال العراقي: وفي إسناده جهالة ونكارة، وهو أيضا من رواية عبد الله بن أبي سعيد، فإن كان الذي يروي عن الحسن ويروي عنه يزيد بن هارون فقد جهله أبو حاتم، وذكره ابن حبان في الثقات، وإن كان ابن أبي سعيد المقبري فهو ضعيف. وعن ابن عمر عند محمد بن نصر في كتاب قيام الليل بلفظ: سمعت النبي (ص) يقول: من صلى ست ركعات بعد المغرب
[ 67 ]
قبل ان يتكلم غفر له بها خمسين سنة وفي إسناده محمد بن غزوان الدمشقي، قال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به، وله حديث آخر عند الديلمي في مسند الفردوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلى أربع ركعات بعد المغرب كان كالمعقب غزوة بعد غزوة في سبيل الله وفي إسناده موسى ابن عبيدة الربذي وهو ضعيف جدا. قال العراقي: والمعروف أنه من قول ابن عمر غير مرفوع، هكذا رواه ابن أبي شيبة في المصنف. وعن ابن مسعود عند محمد بن نصر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بين المغرب والعشاء أربع ركعات وهو منقطع لانه من رواية معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن جده ولم يدركه. وعن عبيد مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند أحمد والطبراني: أنسئل أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بصلاة بعد المكتوبة أو سوى المكتوبة؟ قال: نعم بين المغرب والعشاء وعن عمار بن ياسر عند الطبراني في معاجيمه الثلاثة وابن منده في معرفة الصحابة أنه: رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بعد المغرب ست ركعات وقال: من صلى بعد المغرب ست ركعات غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر قال الطبراني: تفرد به صالح بن قطن. وقال ابن الجوزي: إن في هذه الطريق مجاهيل. وعن أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن عدلن له بعبادة اثنتي عشرة سنة وفي إسناده عمر بن عبد الله بن أبي خثعم وهو ضعيف جدا. وعن عائشة عند الترمذي عن النبي (ص): من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة. (والآيات والاحاديث) المذكورة في الباب تدل على مشروعية الاستكثار من الصلاة ما بين المغرب والعشاء، والاحاديث وإن كان أكثرها ضعيفا فهي منتهضة بمجموعها، لا سيما في فضائل الاعمال، قال العراقي: وممن كان يصلي ما بين المغرب والعشاء من الصحابة: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وسلمان الفارسي، وابن عمر، وأنس بن مالك في ناس من الانصار. ومن التابعين: الاسود بن يزيد، وأبو عثمان النهدي، وابن أبي مليكة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن المنكدر، وأبو حاتم، وعبد الله بن سخبرة، وعلي بن الحسين، وأبو عبد الرحمن الحبلي، وشريح القاضي، وعبد الله بن مغفل وغيرهم. ومن الائمة: سفيان الثوري.
[ 68 ]
باب ما جاء في قيام الليل عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: الصلاة في جوف الليل، قال: فأي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شهر الله المحرم رواه الجماعة إلا البخاري. ولابن ماجة منه فضل الصوم فقط. وفي الباب عن بلال عند الترمذي في كتاب الدعوات من سننه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وعن أبي أمامة عند ابن عدي في الكامل والطبراني في الكبير والاوسط والبيهقي مثل حديث بلال، وفي إسناده عبد الله بن صالح كاتب الليث وهو مختلف فيه. ولابي أمامة حديث آخر عند محمد ابن نصر والطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكر الحديث وفيه: والصلاة بالليل والناس نيام وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو مختلف فيه. وعن جابر عند ابن ماجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار قال العراقي: وهذا حديث شبه الموضوع اشتبه على ثابت بن موسى، وإنما قاله شريك القاضي لثابت عقب إسناد ذكره فظنه ثابت حديثا. ولجابر حديث آخر رواه الطبراني في الاوسط عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا بد عن صلاة الليل ولو حلب شاة قال الطبراني: تفرد به بقية. ولجابر أيضا حديث آخر عند ابن حبان في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر حديثا وفيه: وإن هو توضأ ثم قام إلى الصلاة أصبح نشيطا قد أصاب خيرا وقد انحلت عقده كلها وعن سلمان الفارسي عند ابن عدي في الكامل والطبراني بلفظ حديث بلال المتقدم. وعن ابن عباس عند محمد بن نصر والطبراني في الكبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليكم بقيام الليل ولو ركعة واحدة وفي إسناده حسين بن عبد الله وهو ضعيف. وله حديث آخر عند الترمذي في التفسير مثل حديث أبي أمامة الثاني. وعن عبد الله بن سلام عند الترمذي في الزهد وصححه، وابن ماجة بنحو حديث أبي أمامة الثاني أيضا. وعن ابن عمر عند محمد بن نصر بنحو حديث أبي أمامة الثاني أيضا. وعن عبد الله بن عمر عند محمد بن نصر بنحوه أيضا. وعن علي عند الترمذي
[ 69 ]
في البر بنحوه أيضا. وعن أبي مالك الاشعري عند محمد بن نصر والطبراني بنحوه أيضا بإسناد جيد. وعن معاذ عند الترمذي في التفسير بنحو حديث ابن عباس. وعن ثوبان عند البزار بنحو حديث أبي أمامة. وعن ابن مسعود عند ابن حبان في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته فيقول الله تعالى: انظروا إلى عبدي ثار من وطائه وفراشه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي الحديث. ورواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير، قال العراقي: وإسناده جيد. وعن سهل بن سعد عند الطبراني في الاوسط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل وعن أبي سعيد عند ابن ماجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله ليضحك إلى ثلاثة: للصف في الصلاة، وللرجل يصلي في جوف الليل، وللرجل يقاتل الكتيبة. وعن إياس بن معاوية المزني عند الطبراني في الكبير مثل حديث جابر الثاني. (وهذه الاحاديث) تدل على تأكد استحباب قيام الليل ومشروعية الاستكثار من الصلوات فيه، وبها استدل من قال: إن الوتر أفضل من صلاة الصبح، وقد قدمنا الخلاف في ذلك. وحديث الباب أيضا يدل على تفضيل الصيام في المحرم، وأن صيامه أفضل من صيام بقية الاشهر، وهو مخصص لعموم ما عند البخاري والترمذي وصححه، والنسائي وأبي داود من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الايام العشر فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشئ. وهذا إذا كان كون الشئ أحب إلى الله يستلزم أنه أفضل من غيره، وإن كان لا يستلزم ذلك فلا حاجة إلى التخصيص لعدم التنافي. وعن عمرو بن عبسة: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن رواه الترمذي وصححه. الحديث رجال إسناده رجال الصحيح، وأخرجه أيضا أبو داود والحاكم. وفي الباب عن أبي هريرة عند الجماعة كلهم قال: قال: ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الاول فيقول: أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني
[ 70 ]
فأعطيه، من ذا الذي يستغفر لي فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضئ الفجر وعن علي عند أحمد والدار قطني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر حديثا وفيه: فإنه إذا مضى ثلث الليل الاول هبط الله إلى السماء الدنيا، فلم يزل هنالك حتى يطلع الفجر فيقول القائل: ألا سائل يعطى سؤاله؟ ألا داع يجاب؟ وعن أبي سعيد عند مسلم والنسائي في اليوم والليلة بنحو حديث أبي هريرة. وعن جبير بن مطعم عند النسائي في اليوم والليلة بنحو حديث أبي هريرة أيضا. وعن ابن مسعود عند أحمد بنحوه. وعن أبي الدرداء عند الطبراني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر حديثا وفيه: ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له، ألا سائل يسألني فأعطيه، ألا داع يدعوني فأستجيب له، حتى يطلع الفجر قال الطبراني: وهو حديث منكر. وعن عثمان بن العاص عند أحمد والبزار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي مناد كل ليلة: هل من داع فيستجا ب له؟ هل من سائل فيعطى؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى يطلع الفجر وعن جابر عند الدار قطني وأبي الشيخ بنحو حديث أبي هريرة، وفي إسناده محمد بن إسماعيل الجعفري وهو منكر الحديث قاله أبو حاتم. وعن عبادة بن الصامت عند الطبراني في الكبير والاوسط بنحو حديث أبي هريرة أيضا. وعن عقبة بن عامر عند الدارقطني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مضى ثلث الليل أو قال نصف الليل ينزل الله عزوجل إلى السماء الدنيا فيقول: لا أسأل عن عبادي أحدا غيري وعن عمرو بن عبسة حديث آخر غير المذكور في الباب عند الدارقطني قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله جعلني الله فداك علمني شيئا تعلمه وأجهله، ينفعني ولا يضرك، ما ساعة أقرب من ساعة، فقال: يا عمرو لقد سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد قبلك، إن الرب عزوجل يتدلى من جوف الليل زاد في رواية: فيغفر إلا ما كان من الشرك وله حديث آخر عند أحمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلاة الليل مثنى مثنى، وجوف الليل الآخر أجوبه دعوة، قلت: أوجبه، قال: لا أجوبه يعني بذلك الاجابة، وفي إسناده أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي مريم وهو ضعيف. وعن أبي الخطاب عند أحمد بنحو حديث أبي هريرة. (وهذه الاحاديث) تدل على استحباب الصلاة والدعاء في ثلث الليل الآخر، وإنه وقت الاجابة والمغفرة والنزول المذكور في الاحاديث قد طول علماء الاسلام الكلام في تأويله، وأنكر الاحاديث الواردة به كثير من المعتزلة، والطريقة المستقيمة ما كان عليه التابعون
[ 71 ]
كالزهري ومكحول والسفيانين والليث وحماد بن سلمة وحماد بن زيد والاوزاعي وابن المبارك والائمة الاربعة: مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، فإنهم أجروها كما جاءت بلا كيفية ولا تعرض لتأويل. وعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله عزوجل صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما رواه الجماعة إلا الترمذي فإنه إنما روى فضل الصوم فقط. الحديث يدل على أن صوم يوم وإفطار يوم أحب إلى الله من غيره وإن كان أكثر منه، وما كان أحب إلى الله جل جلاله فهو أفضل والاشتغال به أولى. وفي رواية لمسلم: أن عبد الله بن عمرو قال للنبي (ص): إني أطيق أفضل من ذلك، فقال (ص): لا أفضل من ذلك. وسيأتي ذكر الحكمة في ذلك في كتاب الصيام عند ذكر المصنف لهذا الحديث إن شاء الله. ويدل على أفضلية قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه، وتعقيب قيام ذلك الثلث بنوم السدس الآخر، ليكون ذلك كالفاصل ما بين صلاة التطوع والفريضة، ويحصل بسببه النشاط لتأدية صلاة الصبح، لانه لو وصل القيام بصلاة الفجر لم يأمن أن يكون وقت القيام إليها ذاهب النشاط والخشوع لما به من التعب والفتور، ويجمع بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة المتقدم بنحو ما سلف. وعن عائشة أنها سئلت: كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالليل؟ فقالت: كل ذلك قد كان يفعل ربما أسر وربما جهر رواه الخمسة وصححه الترمذي. الحديث رجاله رجال الصحيح. وفي الباب عن أبي قتادة عند الترمذي وأبي داود: أن النبي (ص) قال لابي بكر: مررت بك وأنت تقرأ وأنت تخفض من صوتك، فقال: إني سمعت من ناجيت، قال: ارفع قليلا، وقال لعمر: مررت بك وأنت تقرأ وأنت ترفع صوتك، فقال: إنا أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، قال: اخفض قليلا. وعن ابن عباس عند أبي داود قال: كانت قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قدر
[ 72 ]
ما يسمعه من في الحجرة وهو في البيت وعن علي نحو حديث أبي قتادة. وعن عمار عند الطبراني بنحو حديث أبي قتادة أيضا. وعن أبي هريرة عند أبي داود بنحوه أيضا، وله حديث آخر عند أبي داود قال: كانت قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالليل يرفع طورا ويخفض طورا وله حديث ثالث عند أحمد والبزار أن عبد الله بن حذافة قام يصلي فجهر بصلاته فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابن حذافة لا تسمعني وسمع ربك قال العراقي: وإسناده صحيح. وعن أبي سعيد عند أبي داود والنسائي قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة وعن ابن عمر عند أحمد والبزار والطبراني بنحو حديث أبي سعيد. وعن البياضي واسمه فروة بن عمر، وعند أحمد قال العراقي بإسناد صحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: إن المصلي يناجي ربه عزوجل فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن وعن عقبة بن عامر عند أبي داود والترمذي، والنسائي قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة وعن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير بنحو حديث عقبة، وفي إسناده إسحاق بن مالك الحضرمي ضعفه الازدي، ورواه الطبراني من وجه آخر وفيه بسر بن نمير وهو ضعيف جدا. (وفي الباب) أحاديث كثيرة وفيها أن الجهر والاسرار جائزان في قراءة صلاة الليل، وأكثر الاحاديث المذكورة تدل على أن المستحب في القراءة في صلاة الليل التوسط بين الجهر والاسرار، وحديث عقبة وما في معناه يدل على أن السر أفضل لما علم من أن إخفاء الصدقة أفضل من إظهارها. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل إفتتح صلاته بركعتين خفيفتين رواه أحمد ومسلم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إذا قام أحدكم من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين رواه أحمد ومسلم وأبو داود. الحديثان يدلان على مشروعية افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين لينشط بهما لما بعدهما، وقد تقدم الجمع بين روايات عائشة المختلفة في حكايتها لصلاته صلى الله عليه
[ 73 ]
وآله وسلم أنها ثلاث عشرة تارة، وأنها إحدى عشرة أخرى، بأنها ضمت هاتين الركعتين فقالت: ثلاث عشرة ولم تضمهما فقالت: إحدى عشرة، ولا منافاة بين هذين الحديثين وبين قولها في صفة صلاته (ص): صلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن لان المراد صلى أربعا بعد هاتين الركعتين. وقد استدل المصنف بذلك على ترك نقض الوتر فقال: وعمومه حجة في ترك نقض الوتر انتهى. وقد قدمنا الكلام على هذا. باب صلاة الضحى عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي (ص) بثلاث: بصيام ثلاثة أيام في كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام متفق عليه. وفي لفظ لاحمد ومسلم وركعتي الضحى كل يوم. في الباب أحاديث منها ما سيذكره المصنف في هذا الباب. ومنها غير ما ذكره عن أنس عند الترمذي وابن ماجة قال: قال رسول الله (ص): من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا في الجنة وعن أبي الدرداء عند الترمذي وحسنه مثل حديث نعيم بن همار الذي سيذكره المصنف، وعنه حديث آخر عند مسلم بنحو حديث أبي هريرة المذكور. وعن أبي هريرة حديث آخر عند الترمذي وابن ماجة قال: قال رسول الله (ص): من حافظ على شفعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر وعن أبي سعيد عند الترمذي وحسنه قال: كان (ص) يصلي الضحى حتى يقول: لا يدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها. وعن عائشة غير الحديث الذي سيذكره المصنف عنها عند مسلم والنسائي والترمذي في الشمائل من رواية معاذة العدوية قالت: قلت لعائشة: أكان رسول الله (ص) يصلي الضحى؟ قالت: نعم أربعا ويزيد ما شاء الله. وعن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير مثل حديث نعيم بن همار الذي سيذكره المصنف وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن، وثقه الجمهور وضعفه بعضهم، وله حديث آخر عند الطبراني بنحو حديث عائشة الذي سيذكره المصنف وفي إسناده ميمون بن زيد عن ليث بن أبي سليم وكلاهما متكلم فيه. وعن عتبة بن عبد عند الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم يثبت حتى يسبح سبحة الضحى كان له كأجر حاج ومعتمر تام له حجه وعمرته وفي إسناده الاحوص بن حكيم
[ 74 ]
ضعفه الجمهور ووثقه العجلي. وعن ابن أبي أوفى عند الطبراني في الكبير أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى يوم الفتح ركعتين. وعن ابن عباس عند الطبراني في الاوسط بنحو حديث أبي ذر الذي سيذكره المصنف. وعن جابر عند الطبراني في الاوسط أيضا: أنه رأى النبي (ص) صلى الضحى ست ركعات. وعن حذيفة عند ابن أبي شيبة في المصنف أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى ثمان ركعات طول فيهن. وعن عائذ بن عمرو عند أحمد والطبراني: أن النبي (ص) صلى الضحى. وعن عبد الله بن عمر عند الطبراني في الكبير مثل حديث نعيم بن همار الذي سيذكره المصنف. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد والطبراني قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية فغنموا وأسرعوا الرجعة، فتحدث الناس بقر ب مغزاهم وكثرة غنيمتهم وسرعة رجعتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أدلكم على أقرب منهم مغزى، وأكثر غنيمة، وأوشك رجعة؟ من توضأ ثم خرج إلى المسجد لسبحة الضحى فهو أقرب منهم مغزى، وأكثر غنيمة، وأوشك رجعة وعن أبي موسى عند الطبراني في الاوسط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلى الضحى أربعا وقبل الاولى أربعا بني له بيت في الجنة. وعن عتبان بن مالك عند أحمد: أن النبي (ص) صلى الضحى في بيته وقصة عتبان في صلاة النبي (ص) في بيته في الصحيح، لكن ليس فيها ذكر سبحة الضحى. وعن عقبة بن عامر عند أحمد، وأبي يعلى بنحو حديث نعيم بن همار. وعن علي عليه السلام عند النسائي: أن النبي (ص) كان يصلي الضحى وإسناده قال العراقي: جيد. وعن معاذ بن أنس عند أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر. قال العراقي: وإسناده ضعيف. وعن النواس بن سمعان عند الطبراني في الكبير مثل حديث نعيم بن همار، قال العراقي: وإسناده صحيح. وعن أبي بكرة عند ابن عدي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى، فجاء الحسن وهو غلام فلما سجد ركب ظهره وفي إسناده عمرو بن عبيد وهو متروك. وعن أبي مرة الطائفي عند أحمد مثل حديث نعيم بن همار. وعن سعد بن أبي وقاص عند البزار: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بمكة يوم فتحها ثمان ركعات يطيل القراءة فيها والركوع. قال السيوطي: وسنده ضعيف. وعن قدامة وحنظلة الثقفيين عند ابن منده وابن شاهين قالا: كان رسول الله
[ 75 ]
صلى الله عليه وآله وسلم إذا ارتفع النهار وذهب كل أحد وانقلب الناس خرج إلى المسجد فركع ركعتين أو أربعا ثم ينصرف. وعن رجل من الصحابة عند ابن عدي أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى. وعن ابن عباس حديث آخر عند ابن أبي حاتم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: أمرت بالضحى ولم تؤمروا بها. وعن الحسن بن علي عند البيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلى الفجر ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى من الضحى ركعتين حرمه الله على النار أن تلحقه أو تطعمه. وعن عبد الله بن جراد بن أبي جراد عند الديلمي عن النبي (ص) قال: المنافق لا يصلي الضحى ولا يقرأ * (قل يا أيها الكافرون) *. وعن عمر بن الخطاب عند حميد بن زنجويه بنحو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم، وله حديث آخر عند ابن أبي شيبة. وعن أبي هريرة حديث آخر عند أبي يعلى بسند رجال ثقات بنحو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص السابق. (وهذه الاحاديث) المذكورة تدل على استحباب صلاة الضحى، وقد ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء منهم الشافعية والحنفية، ومن أهل البيت علي بن الحسين وإدريس بن عبد الله. (وقجمع ابن القيم) في الهدى الاقوال فبلغت ستة، الاول: أنها سنة واستدلوا بهذه الاحاديث التي قدمناها. الثاني: لا تشرع إلا لسبب واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا لسبب فاتفق وقوعه وقت الضحى وتعددت الاسباب، فحديث أم هانئ في صلاته يوم الفتح كان لسبب الفتح، وأن سنة الفتح أن يصلي عنده ثمان ركعات، قال: وكان الامراء يسمونها صلاة الفتح، وصلاته عند القدوم من مغيبه كما في حديث عائشة كانت لسبب القدوم، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، وصلاته في بيت عتبان بن مالك كانت لسبب وهو تعليم عتبان إلى أين يصلي في بيته النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأل ذلك. (وأما أحاديث) الترغيب فيها والوصية بها فلا تدل على أنها سنة راتبة لكل أحد، ولهذا خص بذلك أبا هريرة وأبا ذر ولم يوص بذلك أكابر الصحابة. والقول الثالث: أنها لا تستحب أصلا. والقول الرابع: يستحب فعلها تارة وتركها أخرى. والقول الخامس: تستحب صلاتها والمحافظة عليها في البيوت. والقول السادس: أنها بدعة روي ذلك عن ابن عمر، وإليه ذهب الهادي عليه السلام والقاسم وأبو طالب، ولا يخفاك أن الاحاديث الواردة بإثباتها قد بلغت مبلغا لا يقصر البعض منه عن اقتضاء الاستحباب. وقد جمع الحاكم الاحاديث في إثباتها في جزء مفرد عن نحو عشرين نفسا من
[ 76 ]
الصحابة، وكذلك السيوطي صنف جزءا في الاحاديث الواردة في إثباتها، وروي فيه عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلونها منهم أبو سعيد الخدر، وقد روى ذلك عنه سعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل وعائشة. وقد روى ذلك عنها سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو ذر. وقد روى ذلك عنه ابن أبي شيبة وعبد الله بن غالب. وقد روى ذلك عنه أبو نعيم. وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن أنه سئل: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلونها؟ فقال: نعم كان منهم من يصلي ركعتين، ومنهم من يصلي أربعا، ومنهم من يمد إلى نصف النهار. وأخر سعيد بن منصور أيضا في سننه عن ابن عباس أنه قال: طلبت صلاة الضحى في القرآ فوجدتها ههنا * (يسبحن بالعشي والاشراق) * (ص: 18). وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في الايمان من وجه آخر عن ابن عباس أنه قال: إن صلاة الضحى لفى القرآن وما يغوص عليها إلا غواص في قوله تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال) * (النور: 36). وأخرج الاصبهاني في الترغيب عن عون العقيلي في قوله تعالى: * (إنه كان للاوابين غفورا) * (الاسراء: 25). قال: الذين يصلون صلاة الضحى. (وأما احتجاج) القائلين بأنها لا تشرع إلا لسبب بما سلف، فالاحاديث التي ذكرها المصنف وذكرناها في هذا الباب ترده، وكذلك ترد اعتذار من اعتذر عن أحاديث الوصية والترغيب بما تقدم من الاختصاص، وترد أيضا قول ابن القيم أن عامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال وبعضها منقطع، وبعضها موضوع لا يحل الاحتجاج به، فإن فيها الصحيح والحسن وما يقاربه كما عرفت. قوله في حديث الباب: وركعتي الضحى قد اختلف أقواله صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله في مقدار صلاة الضحى، فأكثر ما ثبت من فعله ثمان ركعات، وأكثر ما ثبت من قوله اثنتا عشرة ركعة. وقد أخرج الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا: من صلى الضحى لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعا كتب من القانتين، ومن صلى ستا كفي ذلك اليوم، ومن صلى ثمانيا كتب من العابدين، ومن صلى اثنتي عشرة بنى الله له بيتا في الجنة قال الحافظ: وفي إسناده ضعف، وله شاهد من حديث أبي ذر رواه البزار وفي إسناده ضعف أيضا. وحديث أنس المتقدم فيه التصريح بأن الضحى اثنتا عشرة ركعة، وقد ضعفه النووي، قال الحافظ: لكن إذا ضم حديث أبي ذر وأبي الدرداء إلى حديث أنس قوي وصلح للاحتجاج، وقال أيضا: إن حديث أنس ليس
[ 77 ]
في إسناده من أطلق عليه الضعف، وبه يندفع تضعيف النووي له، ولكنه تابعه الحافظ في التلخيص. وقد ذهب قوم منهم أبو جعفر الطبري، وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية إلى أنه لا حد لاكثرها. قال العراقي في شرح الترمذي: لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين أنه حصرها في اثنتي عشرة ركعة. وكذا قال السيوطي. وقد اختلف في الافضل، فقيل: ثمان، وقيل: أربع. وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: في الانسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة، قالوا: فمن الذي يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: النخاعة في المسجد يدفنها، أو الشئ ينحيه عن الطريق، فإن لم يقدر فركعتا الضحى تجزي عنك رواه أحمد وأبو داود. الحديث الاول أخرجه أيضا النسائي، والحديث الثاني أخرجه أبو داود عن أحمد بن محمد المروزي وهو ثقة، عن علي بن الحسين بن واقد وهو من رجال مسلم، عن أبيه وهو أيضا من رجال مسلم، عن عبد الله بن بريدة فذكره. وقد أخرجه أيضا حميد بن زنجويه في فضائل الاعمال ولم يعزه السيوطي في جزء الضحى إلا إليه. قوله: سلامى قال النووي: بضم السين وتخفيف اللام وأصله عظام الاصابع وسائر الكف، ثم استعمل في عظام البدن ومفاصله، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خلق الانسان على ستين وثلاثمائة مفصل على كل مفصل صدقة وفي القاموس: إنها عظام صغار طول أصبع وأقل في اليد والرجل انتهى. وقيل: كل عظم مجوف من صغار العظام. وقيل: ما بين كل مفصلين من عظام الانامل، وقيل: العروق التي في الاصابع وهي ثلاثمائة وستون أو أكثر. قوله: ويجزي من ذلك ركعتان الخ، قال النووي: ضبطنا يجزي بفتح أوله وضمه، فالضم من الاجزاء والفتح من جزى يجزي أي كفى. (والحديثان) يدلان على عظم فضل الضحى، وأكبر موقعها، وتأكد مشروعيتها، وأن ركعتيها تجزيان عن ثلاثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة والمداومة. ويدلان أيضا على مشروعية الاستكثار من
[ 78 ]
التسبيح والتحميد والتهليل، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفن النخامة، وتنحية ما يؤذي المار عن الطريق، وسائر أنواع الطاعات، ليسقط بفعل ذلك ما على الانسان من الصدقات اللازمة في كل يوم. وعن نعيم بن همار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال ربكم عز وجل: يا ابن آدم صل لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره رواه أحمد وأبو داود، وهو للترمذي من حديث أبي ذر وأبي الدرداء. الحديث في إسناده اختلاف كثير، قال المنذري: وقد جمعت طرقه في جزء مفرد. وقد اختلف أيضا في اسم همار المذكور فقيل: هبار بالباء الموحدة. وقيل: هدار بالدال المهملة. وقيل: همام بالميمين، وقيل: خمار بالخاء المفتوحة المعجمة، وقيل: حمار بالحاء المهملة المكسورة، والراء مهملة في همار وهبار وخمار وحمار وهدار. قوله: وهو للترمذي من حديث أبي ذر وأبي الدرداء هكذا في النسخ الصحيحة بدون إثبات الالف التي للتخيير بين أبي ذر وأبي الدرداء والصواب إثباتها، لان الترمذي إنما روى حديثا واحدا، وتردد هل هو من رواية أبي ذر أو من رواية أبي الدرداء؟ ولم يرو لكل منهما حديثا، ولا روى الحديث عنهما جميعا، ولفظ الحديث في الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تبارك وتعالى: إن الله تعالى قال: ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب انتهى. وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وقد صحح جماعة من الائمة حديثه إذا كان عن الشاميين وهو هنا كذلك، لان بحير بن سعيد شامي وإسماعيل رواه عنه، وهذا الحديث قد روي عن جماعة من الصحابة قد قدمنا الاشارة إليهم في أول الباب. واستدل على مشروعية صلاة الضحى لكنه لا يتم إلا على تسليم أنه أريد بالاربع المذكورة صلاة الضحى. وقد قيل: يحتمل أن يراد بها فرض الصبح وركعتا الفجر لانها هي التي في أول النهار حقيقة، ويكون معناه كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلى الصبح فهو في ذمة الله قال العراقي: وهذا ينبني على أن النهار هل هو من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس؟ والمشهور الذي يدل عليه كلام جمهور أهل اللغة وعلماء الشريعة أنه من طلوع الفجر، وقال على تقدير أن يكون النهار من طلوع الفجر: فلا مانع من أن يراد بهذه الاربع الركعات بعد طلوع الشمس، لان ذلك الوقت ما خرج عن كونه أول النهار، وهذا هو الظاهر من الحديث وعمل الناس، فيكون المراد بهذه الاربع ركعات صلاة الضحى انتهى. وقد اختلف في
[ 79 ]
وقت دخول الضحى، فروى النووي في الروضة عن أصحاب الشافعي أن وقت الضحى يدخل بطلوع الشمس، ولكن يستحب تأخيرها إلى ارتفاع الشمس. وذهب البعض منهم إلى أن وقتها يدخل من الارتفاع، وبه جزم الرافعي وابن الرفعة، وسيأتي ما يبين وقتها في حديث زيد بن أرقم وحديث علي عليه السلام. وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله رواه أحمد ومسلم وابن ماجة. الحديث يدل على مشروعية صلاة الضحى، وقد اختلفت الاحاديث عن عائشة، فروي عنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلاها من غير تقييد كما في حديث الباب، وروي عنها أنها سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجئ من مغيبه أخرجه مسلم. وروي عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي سبحة الضحى قط وإني لاسبحها. متفق عليه. وقد جمع بين هذه الروايات بأن قولها كان يصلي الضحى أربعا لا يدل على المداومة، بل على مجرد الوقوع، على ما صرح به أهل التحقيق من أن ذلك مدلول كان كما تقدم وإن خالف في ذلك بعض أهل الاصول، ولا يستلزم هذا الاثبات أنها رأته يصلي، لجواز أن تكون روت ذلك من طريق غيرها. وقولها: إلا أن يجئ من مغيبه يفيد تقييد ذلك المطلق بوقت المجئ من السفر. وقولها: ما رأيته يصلي سبحة الضحى نفي للرؤية، ولا يستلزم أن لا يثبت لها ذلك بالرواية، أو نفي لما عدا الفعل المقيد بوقت القدوم من السفر، وغاية الامر أنها أخبرت عما بلغ إليه علمها وغيرها من أكابر الصحابة أخبر بما يدل على المداومة وتأكد المشروعية، ومن علم حجة على من لا يعلم، لا سيما وذلك الوقت الذي تفعل فيه ليس من الاوقات التي تعتاد فيها الخلوة بالنساء، وقد تقدم تحقيق ما هو الحق. وعن أم هانئ: أنه لما كان عام الفتة أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بأعلى مكة، فقام رسول الله (ص) إلى غسله فسترت عليه فاطمة ثم أخذ ثوبه فالتحف به ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى متفق عليه. ولابي داود عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى يوم الفتح سبحة الضحى ثمان ركعات يسلم بين كل ركعتين. قوله: وهو بأعلى مكة في رواية للبخاري ومسلم أنها قالت: أن النبي صلى الله عليه
[ 80 ]
وآله وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمان ركعات. ويجمع بينهما بأن ذلك تكرر منه، ويؤيده ما رواه ابن خزيمة عنها أن أبا ذر ستره لما اغتسل، ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة وكانت في بيت آخر بمكة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل، فيصح القولان، ذكر معنى ذلك الحافظ. قوله: فسترت عليه فاطمة فيه جواز الاغتسال بحضرة امرأة من محارم الرجل إذا كان مستور العورة عنها، وجواز تستيرها إياه بثوب أو نحوه. قوله: ثماني ركعات زاد ابن خزيمة من طريق كريب عن أم هانئ: يسلم من كل ركعتين وزادها أيضا أبو داود كما ذكر المصنف، وفي ذلك رد على من قال: إن صلاة الضحى موصولة، سواء كانت ثمان ركعات أو أقل أو أكثر. (والحديث) يدل على استحباب صلاة الضحى، وقد تقدم قول من قال: إن هذه صلاة الفتح لا صلاة الضحى، وتقدم الجواب عليه. وعن زيد بن أرقم قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال: صلاة الاوابين إذا رمضت الفصال من الضحى رواه أحمد ومسلم. الحديث أخرجه أيضا الترمذي، ولفظ مسلم: أن زيد بن أرقم رأى قوما يصلون من الضحى فقال: أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلاة الاوابين حين ترمض الفصال وفي رواية له: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهل قباء وهم يصلون فقال: صلاة الاوابين إذا رمضت الفصال زاد ابن أبي شيبة في المصنف وهم يصلون الضحى فقال: صلاة الاوابين إذا رمضت الفصال من الضحى وفي رواية لابن مردويه في تفسيره: وهم يصلون بعدما ارتفعت الشمس وفي رواية له: أنه وجدهم قد بكروا بصلاة الظهر فقال ذلك. وفي رواية للطبراني: أنه مر بهم وهم يصلون صلاة الضحى حين أشرقت الشمس. قوله: الاوابين جمع أواب وهو الراجع إلى الله تعالى من آب إذا رجع. قوله: إذا رمضت بفتح الراء وكسر الميم وفتح الضاد المعجمة أي احترقت من حر الرمضاء وهي شدة الحر. والمراد إذا وجد الفصيل حر الشمس ولا يكون ذلك إلا عند ارتفاعها. (والحديث) يدل على أن المستحب فعل الضحى في ذلك الوقت. وقد توهم أن قول زيد بن أرقم إن الصلاة في غير هذه
[ 81 ]
الساعة أفضل كما في رواية مسلم يدل على نفي الضحى وليس الامر كذلك، بل مراده أن تأخير الضحى إلى ذلك الوقت أفضل. وعن عاصم بن ضمرة قال: سألنا عليا عن تطوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنهار فقال: كان إذا صلى الفجر أمهل حتى إذا كانت الشمس من ههنا يعني من المشرق مقدارها من صلاة العصر من ههنا قبل المغرب قام فصلى ركعتين ثم يمهل، حتى إذا كانت الشمس من ههنا يعني من قبل المشرق مقدارها من صلاة الظهر من ههنا يعنمن قبل المغرب قام فصلى أربعا وأربعا قبل الظهر إذا زالت الشمس ركعتين بعدها، وأربعا قبل العصر يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن يتبعهم من المسلمين والمؤمنين رواه الخمسة إلا أبا داود. الحديث حسنه الترمذي وأسانيده ثقات، وعاصم بن ضمرة فيه مقال، ولكن قد وثقه ابن معين وعلي بن المديني. قوله: إذا كانت الشمس من ههنا يعني من المشرق مقدارها من صلاة العصر من ههنا قبل المغرب، المراد من هذا أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى ركعتي الضحى، ومقدار ارتفاع الشمس من جهة المشرق كمقدار ارتفاعها من جهة المغرب عند صلاة العصر وفيه تبيين وقتها. قوله: حتى إذا كانت الشمس إلى قوله: قام فصلى أربعا المراد إذا كان مقدار بعد الشمس من مشرقها كمقدار بعدها من مغربها عند صلاة الظهر قام فصلى ذلك المقدار. قوله: إذا زالت الشمس هذا تبيين لما قبله. (وفيه دليل) على استحباب أربع ركعات إذا زالت الشمس، قال العراقي: وهي غير الاربع التي هي سنة الظهر قبلها. وممن نص على استحباب صلاة الزوال الغزالي في الاحياء في كتاب الاوراد. ويدل على ذلك ما رواه أبو الوليد بن مغيث الصفار عن عبد الملك بن حبيب قال: بلغني عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من عبد مسلم يصلي أربع ركعات حين تزول الشمس قبل الظهر يحسن فيها الركوع والسجود والخشوع يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وذكر حديثا طويلا. ورواه الطبراني موقوفا على ابن مسعود. وما أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استوى النهار خرج إلى بعض حيطان المدينة وفيه: قام فصلى أربع ركعات لم يتشهد بينهن ويسلم في آخر الاربع وقد بوب الترمذي للصلاة عند الزوال، وذكر
[ 82 ]
حديث عبد الله بن السائب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي أربعا بعد أن تزول الشمس وأشار إلى حديث علي هذا، وإلى حديث أبي أيوب وهو عند ابن ماجة وأبي داود بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء. قوله: وركعتين بعدها وأربعا قبل العصر الخ، قد تقدم الكلام على ذلك. باب تحية المسجد عن أبي قتادة قال: قال رسول اللصلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين رواالجماعة والاثرم في سننه. ولفظه: أعطوا المساجد حقها، قالوا: وما حقها؟ قا: أن تصلوا ركعتين قبل أن تجلسوا. حديث أبي قتادة أورده البخاري بلفظ النهي، كما ذكره المصنف وبلفظ الامر، فروي من طريق عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس وأخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر سليكا الغطفاني لما أتى يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقعد قبل أن يصلي الركعتين أن يصليهما وأخرج مسلم عن جابر أيضا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره لما أتى المسجد لثمن جمله الذي اشتراه منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي الركعتين. والامر يفيد تحقيقية وجوب فعل التحية، والنهي يفيد بحقيقته أيضا تحريم تركها، وقد ذهب إلى القول بالوجوب الظاهرية كما حكى ذلك عنهم ابن بطال. قال الحافظ في الفتح: والذي صرح به ابن حزم عدمه. وذهب الجمهور إلى أنها سنة، وقال النووي: إنه إجماع المسلمين، قال: وحكى القاضي عياض عن داود وأصحابه وجوبها، قال الحافظ في الفتح: واتفق أئمة الفتوى على أن الامر في ذلك للندب، قال: ومن أدلة عدم الوجوب قوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي رآه يتخطى: اجلس فقد آذيت ولم يأمره بصلاة، كذا استدل به الطحاوي وغيره وفيه نظر انتهى. (ومن جملة) أدلة الجمهور على عدم الوجوب ما أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى
[ 83 ]
الله عليه وآله وسلم يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون. (ومن أدلتهم) أيضا حديث ضمام بن ثعلبة عند البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي لما سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما فرض الله عليه من الصلاة فقال: الصلوات الخمس، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع وفي رواية للبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود قال: الصلوات الخمس إلا أن تطوع ويجاب عن عدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم للذي رآه يتخطى بالتحية بأنه لا مانع له من أن يكون قد فعلها في جانب من المسجد قبل وقوع التخطي منه، أو أنه كان ذلك قبل الامر بها والنهي عن تركها، ولعل هذا وجه النظر الذي ذكره الحافظ، ويجاب عن الاستدلال بأن الصحابة كانوا يدخلون ويخرجون ولا يصلون، بأن التحية إنما تشرع لمن أراد الجلوس لما تقدم، وليس في الرواية أن الصحابة كانوا يدخلون ويجلسون ويخرجون بغير صلاة تحية، وليس فيها إلا مجرد الدخول والخروج، فلا يتم الاستدلال إلا بعد تبيين أنهم كانوا يجلسون، على أنه لا حجة في أفعالهم، أما عند من لا يقول بحجية الاجماع فظاهر. وأما عند القائل بذلك فلا يكون حجة إلا فعل جميعهم بعد عصره صلى الله عليه وآله وسلم لا في حياته كما تقرر في الاصول، وتلك الرواية محتملة، وأيضا يمكن أن يكون صدور ذلك منهم قبل شرعيتها، ويجاب عن حديث ضمام بن ثعلبة أولا بأن التعاليم الواقعة في مبادئ الشريعة لا تصلح لصرف وجوب ما تجدد من الاوامر، وإلا لزم قصر واجبات الشريعة على الصلاة والصوم والحج والزكاة والشهادتين، واللازم باطل فكذا الملزوم. أما الملازمة فلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اقتصر في تعليم ضمام بن ثعلبة في هذا الحديث السابق نفسه على الخمس المذكورة كما في الامهات، وفي بعضها على أربع، ثم لما سمعه يقول بعد أن ذكر له ذلك: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، قال: أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق. وتعليق الفلاح ودخول الجنة بصدقه في ذلك القسم الذي صرح فيه بترك الزياد على الامور المذكورة مشعر بأن لا واجب عليه سواها، إذ لو فرض بأن عليه شيئا من الواجبات غيرها لما قرره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ومدحه به، وأثبت له الفلاح ودخول الجنة، فلو صلح قوله: لا إلا أن تطوع لصرف الاوامر الواردة بغير الخمس الصلوات لصلح قوله: أفلح إن صدق ودخل الجنة إن صدق لصرف الادلة القاضية بوجوب ما عدا الامور المذكورة. (وأما بطلان اللازم) فقد ثبت بالادلة المتواترة وإجماع الامة أن واجبات
[ 84 ]
الشريعة قد بلغت أضعاف أضعاف تلك الامور، فكان اللازم باطلا بالضرورة الدينية وإجماع الامة، ويجاب ثانيا بأن قوله: إلا أن تطوع ينفي وجوب الواجبات ابتداء، لا الواجبات بأسباب يختار المكلف فعلها كدخول المسجد مثلا، لان الداخل ألزم نفسه الصلاة بالدخول فكأنه أوجبها على نفسه، فلا يصح شمول ذلك الصارف لمثلها. ويجاب ثالثا بأن جماعة من المتمسكين بحديث ضمام ابن ثعلبة في صرف الامر بتحية المسجد إلى الندب قد قالوا بوجوب صلوات خارجة عن الخمس، كالجنازة، وركعتي الطواف، والعيدين، والجمعة، فما هو جوابهم في إيجاب هذه الصلوات؟ فهو جواب الموجبين لتحية المسجد. (لا يقال) الجمعة داخلة في الخمس لانها بدل عن الظهر. لانا نقول: لو كانت كذلك لم يقع النزاع في وجوبها على الاعيان، ولا احتيج إلى الاستدلال لذلك، إذا عرفت هذا لاح لك أن الظاهر ما قاله أهل الظاهر من الوجوب. (والحديث) يدل على مشروعية التحية في جميع الاوقات، وإلى ذلك ذهب جماعة من العلماء منهم الشافعية، وكرهها أبو حنيفة والاوزاعي والليث في وقت النهي، وأجاب الاولون بأن النهي إنما هو عما لا سبب له، واستدلوا بأنه (ص) صلى بعد العصر ركعتي الظهر، وصلى ذات السبب، ولم يترك التحية في حال من الاحوال، بل أمر الذي دخل المسجد وهو يخطب فجلس قبل أن يركع أن يقوم فيركع ركعتين، مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية، ولان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع خطبته وأمره أن يصلي التحية، فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الاوقات لما اهتم هذا الاهتمام، ذكر معنى ذلك النووي في شرح مسلم. والتحقيق أنه قد تعارض في المقام عمومات النهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة من غير تفصيل، والامر للداخل بصلاة التحية من غير تفصيل، فتخصيص أحد العمومين بالآخر تحكم، وكذلك ترجيح أحدهما على الآخر، مع كون كل واحد منهما في الصحيحين بطرق متعددة، ومع اشتمال كل واحد منهما على النهي أو النفي الذي في معناه، ولكنه إذا ورد ما يقضي بتخصيص أحد العمومين عمل عليه، وصلاته صلى الله عليه وآله وسلم سنة الظهر بعد العصر مختص به، لما ثبت عند أحمد وغيره ممن قدمنا ذكرهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قالت له أم سلمة: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا ولو سلم عدم الاختصاص لما كان في ذلك إلا جواز قضاء سنة الظهر لا جواز جميع ذوات الاسباب، نعم حديث يزيد بن الاسود الذي سيأتي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للرجلين:
[ 85 ]
ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: قد صلينا في رحالنا، فقال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة. وكانت تلك الصلاة صلاة الصبح كما سيأتي يصلح لان يكون من جملة المخصصات لعموم الاحاديث القاضية بالكراهة، وكذلك ركعتا الطواف، وسيأتي تحقيق هذا في باب الاوقات المنهي عن الصلاة فيها، وباب الرخصة في إعادة الجماعة وركعتي الطواف. وبهذا التقرير يعلم أن فعل تحية المسجد في الاوقات المكروهة وتركها لا يخلو عند القائل بوجوبها من إشكال، والمقام عندي من المضايق، والاولى للمتورع ترك دخول المساجد في أوقات الكراهة. قوله في حديث الباب: فلا يجلس قال الحافظ: صرح جماعة بأنه إذا خالف وجلس لا يشرع له التدارك، قال: وفيه نظر لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما. ومثله قصة سليك المتقدم ذكرها، وسيأتي ذكرها في أبواب الجمعة. وقال الطبري: يحتمل أن يقال: وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة، وبعده وقت جواز، أو يقال: وقتهما قبله أداء وبعده قضاء. قال الحافظ: ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل، وظاهر التعليق بالجلوس أنه ينتفي النهي بانتفائه، فلا يلزم التحية من دخل المسجد ولم يجلس، ذكر معنى ذلك ابن دقيق العيد وتعقب بأن الجلوس نفسه ليس هو المقصود بالتعليق عليه، بل المقصود الحصول في بقعته، واستدل على ذلك بما عند أبي داود بلفظ: ثم ليقعد بعد إن شاء أو ليذهب لحاجته إن شاء. والظاهر ما ذكره ابن دقيق العيد. قوله: حتى يصلي ركعتين قال الحافظ في الفتح: هذا العدد لا مفهوم لاكثره باتفاق، واختلف في أقله والصحيح اعتباره، فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين انتهى. وظاهر الحديث أن التحية مشروعة وإن تكرر الدخول إلى المسجد، ولا وجه لما قاله البعض من عدم التكرر قياسا على المترددين إلى مكة في سقوط الاحرام عليهم. (فائدة) ذكر ابن القيم أن تحية المسجد الحرام الطواف لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ فيه بالطواف، وتعقب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجلس، إذ التحية إنما تشرع لمن جلس كما تقدم، والداخل إلى المسجد الحرام يبدأ بالطواف ثم يصلي صلاة المقام، فلا يجلس إلا وقد صلى، فأما لو دخل المسجد الحرام وأراد القعود قبل الطواف فإنه يشرع له أن يصلي التحية. ومن جملة ما استثني من عموم التحية دخول المسجد لصلاة العيد، لانه صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها، وتعقب بأنه صلى الله عليه
[ 86 ]
وآله وسلم لم يجلس حتى يتحقق في حقه ترك التحية. وأيضا الجبانة ليست بمسجد فلا تحية لها، فلا يلحق بذلك من دخل لصلاة العيد في مسجد وأراد الجلوس قبل الصلاة، ولكنه سيأتي في أبواب صلاة العيد حديث مرفوع يدل على منع التحية قبل صلاة العيد وبعدها. ومن جملة ما استثني من عموم التحية من دخل المسجد، وقد أقيمت الفريضة فإنها لا تشرع، لحديث أبي هريرة عند مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان مرفوعا بلفظ: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. باب الصلاة عقيب الطهور [ رح ] عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لبلال عند صلاة الصبح: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الاسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة، قال: ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي متفق عليه. قوله: لبلال هو ابن رباح المؤذن. قوله: عند صلاة الصبح فيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام، لان عادته صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يعبر ما رآه، ويعبر ما رآه أصحابه بعد صلاة الفجر، كما وردت بذلك الاحاديث، ويدل على ذلك أن الجنة لا يدخلها أحد إلا بعد الموت. قوله: بأرجى عمل بلفظ أفعل التفضيل، وإضافة الرجاء إلى العمل لانه السبب الداعي إليه. قوله: في الاسلام زاد مسلم في روايته: منفعة عندك. قوله: فإني سمعت زاد مسلم: الليلة، وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام كما تقدم. قوله: دف نعليك بفتح المهملة وتثقيل الفاء وضبطه المحب الطبري بالذال المعجمة، قال الخليل: دف الطائر إذا حرك جناحيه وهو قائم على رجليه، وقال الحميدي: الدف الحركة الخفيفة. ووقع في رواية مسلم: خشف نعليك بفتح الخاء وسكون الشين المعجمتين وتخفيف الفاء، قال أبو عبيد وغيره: الخشف الحركة الخفيفة، ووقع في رواية عند أحمد والترمذي وغيرهما خشخشة بمعجمتين مكررتين وهو بمعنى الحركة أيضا. قوله: أني لم أتطهر بفتح الهمزة ومن مقدرة قبله صلة لافعل التفضيل وهي ثابتة في رواية مسلم. قوله: ما كتب لي أي قدر، وهو أعم من الفريضة والنافلة. قال ابن التين: إنما اعتقد بلال ذلك لانه علم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
[ 87 ]
الصلاة أفضل الاعمال، وأن عمل السر أفضل من عمل الجهر، وبهذا التقدير يندفع إيراد من أورد عليه غير مذكر من الاعمال الصالحة. (وللحديث) فوائد منها جواز الاجتهاد في توقيت العبادة، والحث على الصلاة عقيب الوضوء، وسؤال الشيخ عن عمل تلميذه فيحضه عليه. واستدل به على جواز الصلات في الاوقات المكروهة لعموم قوله: في ساعة من ليل أو نهار وتعقب بأن الاخذ بعمومه ليس بأولى من الاخذ بعموم النهي. باب صلاة الاستخارة [ رح ] عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة في الامور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالامر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الامر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الامر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به، قال: ويسمي حاجته رواه الجماعة إلا مسلما. الحديث مع كونه في صحيح البخاري، ومع تصحيح الترمذي وأبي حاتم له قد ضعفه أحمد بن حنبل وقال: إن حديث عبد الرحمن بن أبي الموالي يعني الذي أخرجه هؤلاء الجماعة من طريقه منكر في الاستخارة. وقال ابن عدي في الكامل في ترجمة عبد الرحمن المذكور: أنه أنكر عليه حديث الاستخارة، قال: وقد رواه غير واحد من الصحابة انتهى. وقد وثق عبد الرحمن بن أبي الموالي جمهور أهل العلم كما قال العراقي. وقال أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم: لا بأس به. (وفي الباب) عن ابن مسعود عند الطبراني قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاستخارة قال: إذا أراد أحدكم أمرا فليقل فذكر نحو حديث الباب، وفي إسناده صالح بن موسى بن إسحاق بن طلحة
[ 88 ]
التيمي وهو متروك كما ذكر في التقريب. وعن أبي أيوب عند الطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه وفيه: ثم قل: اللهم إنك تقدر ولا أقدر وذكر الحديث. وعن أبي بكر الصديق عند الترمذي في الدعوات: أن النبي (ص)، كان إذا أراد أمرا قال: اللهم خر لي واختر لي. وفي إسناده ضعف. وعن أبي سعيد عند أبي يعلى الموصل بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أراد أحدكم أمرا فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك الحديث، وزاد في آخره: لا حول ولا قوة إلا بالله قال العراقي وإسناده جيد. وعن سعد بن أبي وقاص عند أحمد وأبي يعلى والبزار في مسانيدهم قال: قال رسول الله (ص): من سعادة ابن آدم استخارته الله عزوجل قال البزار: نعلمه بهذا اللفظ إلا عن سعد، ولا رواه عنه إلا ابنه محمد، قال العراقي: قد رواالبزار أيضا من رواية عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه نحوه، وكلاهما لا يصح إسناده، وأصل الحديث عند الترمذي في الرضا والسخط. وعن ابن عباس وابن عمر عند الطبراني في الكبير قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن: اللهم إني أستخيرك الحديث إلى قوله: علام الغيوب وفي إسناده عبد الله بن هانئ بن عبد الرحمن بن أبي عبلة وهو متهم بالكذب. وعن ابن عمر حديث آخر عند الطبراني في الاوسط بنحو حديثه الاول. قوله: في الامور كلها دليل على العموم، وأن المرء لا يحتقر أمرا لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه. فرب أمر يستخف بأمره فيكون في الاقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ليسأل أحدكم ربه حتى في شسع نعله. قوله: كما يعلمنا السورة من القرآن فيه دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنه متأكد مرغب فيه، قال العراقي: ولم أجد من قال بوجوب الاستخارة، مستدلا بتشبيه ذلك بتعليم السورة من القرآن، كما استدل بعضهم على وجوب التشهد في الصلاة بقول ابن مسعود: كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن. (فإن قال قائل): إنما دل على وجوب التشهد الامر في قوله: فليقل التحيات لله الحديث، قلنا: وهذا أيضا فيه الامر بقوله: فليركع ركعتين ثم ليقل فإن قال الامر في هذا تعلق بالشرط وهو قوله: إذا هم أحدكم بالامر قلنا: إنما يؤمر به عند إرادة ذلك لا مطلقا، كما قال في التشهد: إذا صلى أحدكم فليقل التحيات قال: ومما يدل على عدم وجوب الاستخارة الاحاديث الصحيحة الدالة على انحصار فرض الصلاة في الخمس من قوله: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع وغير ذلك انتهى. وفيه ما قدمنا لك في با ب تحية المسجد: فليركع ركعتين فيه
[ 89 ]
أن السنة في الاستخارة كونها ركعتين، فلا تجزئ الركعة الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلي أربعا أو أكثر بتسليمة، يحتمل أن يقال يجزئ ذلك لقوله في حديث أبي أيوب: ثم صل ما كتب الله لك فهو دال على انها لا تضر الزيادة على الركعتين، ومفهوم العدد في قوله: فليركع ركعتين ليس بحجة على قول الجمهور. قوله: من غير الفريضة فيه، أنه لا يحصل التسنن بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة، والسنن الراتبة، وتحية المسجد، وغير ذلك من النوافل. وقال النووي في الاذكار: إنه يحصل التسنن بذلك، وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بذلك بعد حصول الهم بالامر، فإذا صلى راتبة أو فريضة ثم هم بأمر بعد الصلاة أوفي أثناء الصلاة لم يحصل بذلك الاتيان بالصلاة المسنونة عند الاستخارة. قال العراقي: إن كان همه بالامر قبل الشروع في الراتبة ونحوها ثم صلى من غير نية الاستخارة وبدا له بعد الصلاة الاتيان بدعاء الاستخارة فالظاهر حصول ذلك. قوله: ثم ليقل فيه أنه لا يضر تأخر دعاء الاستخارة عن الصلاة ما لم يطل الفصل، وأنه لا يضر الفصل بكلام آخر يسير، خصوصا إن كان من آداب الدعاء لانه أتى بثم المقتضية للتراخي. قوله: أستخيرك أي أطلب منك الخير أو الخيرة، قال صاحب المحكم: استخار الله طلب منه الخير. وقال صاحب النهاية: خار الله لك أي أعطاك الله ما هو خير لك، قال: والخيرة بسكون الياء الاسم منه، قال: فأما بالفتح فهي الاسم من قوله: اختاره الله. قوله: بعلمك الباء للتعليل أي بأنك أعلم، وكذا قوله: بقدرتك. قوله: ومعاشي المعاش والعيشة واحد يستعملان مصدرا واسما، قال صاحب المحكم: العيش الحياة، قال: والمعيش والمعاش والمعيشة ما يؤنس به انتهى. قوله: أو قال عاجل أمري هو شك من الراوي. قوله: فاصرفه عني واصرفني عنه هو طلب الاكمل من وجوه انصراف ما ليس فيه خيرة عنه، ولم يكتف بسؤال صر ف أحد الامرين لانه قد يصرف الله المستخير عن ذلك الامر بأن ينقطع طلبه له، وذلك الامر الذي ليس فيه خيرة يطلبه فربما أدركه، وقد يصرف الله عن المستخير ذلك الامر ولا يصرف قلب العبد عنه، بل يبقى متطلعا متشوقا إلى حصوله، فلا يطيب له خاطر إلا بحصوله، فلا يطمئن خاطره، فإذا صرف كل منهما عن الآخر كان ذلك أكمل ولذلك قال: واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به، لانه إذا قدر له الخير وليرض به كان منكد العيش آثما بعدم رضاه بما قدره الله له مع كونه خيرا له. قوله: ويسمي حاجته أي في أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في قوله: إن كان هذا الامر. (والحديث) يدل على مشروعية
[ 90 ]
صلاة الاستخارة والدعاء عقيبها، ولا أعلم في ذلك خلافا، وهل يستحب تكرار الصلاة والدعاء؟ قال العراقي: الظاهر الاستحباب، وقد ورد في حديث تكرار الاستخارة سبعا، رواه ابن السني من حديث أنس مرفوعا بلفظ: إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك فإن الخير فيه. قال النووي في الاذكار: إسناده غريب فيه من لا أعرفهم. قال العراقي: كلهم معروفون، ولكن بعضهم معروف بالضعف الشديد وهو إبراهيم بن البراء بن النضر بن أنس بن مالك، وقد ذكره في الضعفاء العقيلي وابن حبان وابن عدي والازدي. قال العقيلي: يحدث عن الثقات بالبواطيل، وكذا قال ابن عدي. وقال ابن حبان: شيخ كان يدور بالشام يحدث عن الثقات بالموضوعات، لا يجوز ذكره إلا على سبيل القدح فيه، وقد رواه الحسن بن سعيد الموصلي فقال: حدثنا إبراهيم بن حبان بن النجار، حدثنا أبي عن أبيه النجار عن أنس، فكأنه دلسه وسماه النجار لكونه من بني النجار. قال العراقي: فالحديث على هذا ساقط لا حجة فيه، نعم وقد يستدل للتكرار بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دعا ثلاثا الحديث الصحيح، وهذا وإن كان المراد به تكرار الدعاء في الوقت الواحد، فالدعاء الذي تسن الصلاة له تكرر الصلاة له كالاستسقاء. قال النووي: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له، فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسا، وإلا فلا يكون مستخيرا لله، بل يكون مستخيرا لهواه، وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة وفي التبرئ من العلم والقدرة وإثباتهما لله تعالى، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه. باب ما جاء في طول القيام وكثرة الركوع والسجود [ رح ] عن أبي هريرة: أن رسول الله (ص) قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. قوله: من ربه أي من رحمة ربه وفضله. قوله: وهو ساجد الواو للحال أي أقرب حالاته من الرحمة حال كونه ساجدا، وإنما كان في السجود أقرب من سائر أحوال الصلاة وغيرها، لان العبد بقدر ما يبعد عن نفسه يقرب من ربه، والسجود
[ 91 ]
غاية التواضع، وترك التكبر وكسر النفس لانها لا تأمر الرجل بالمذلة ولا ترضى بها ولا بالتواضع، بل بخلاف ذلك، فإذا سجد فقد خالف نفسه وبعد عنها، فإذا بعد عنها قرب من ربه. قوله: فأكثروا الدعاء أي في السجود لانه حالة قرب كما تقدم، وحالة القرب مقبول دعاؤها، لان السيد يحب عبده الذي يطيعه ويتواضع له ويقبل منه ما يقوله وما يسأله. (والحديث) يدل على مشروعية الاستكثار من السجود ومن الدعاء فيه. وفيه دليل لمن قال: السجود أفضل من القيام، وسيأتي ذكر الخلاف في ذلك. [ رح ] وعن ثوبان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط بها عنك خطيئة رواه أحمد ومسلم وأبو داود. الحديث لفظه في صحيح مسلم، قال: يعني معدان بن أبي طلحة اليعمري: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال: بأحب الاعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الحديث، وهو يدل على أن كثرة السجود مرغب فيها، والمراد به السجود في الصلاة، وسبب الحث عليه ما تقدم في الحديث الذي قبل هذا، أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وهو موافق لقوله تعالى: * (واسجد واقترب) * (العلق: 19) كذا قال النووي. وفيه دليل لمن يقول: إن السجود أفضل من القيام وسائر أركان الصلاة. (وفي هذه المسألة) مذاهب أحدها: أن تطويل السجود وتكثير الركوع والسجود أفضل، حكاه الترمذي والبغوي عن جماعة، وممن قال بذلك ابن عمر. والمذهب الثاني: أن تطويل القيام أفضل لحديث جابر الآتي، وإلى ذلك ذهب الشافعي وجماعة وهو الحق كما سيأتي. والمذهب الثالث: أنهما سواء، وتوقف أحمد بن حنبل في المسألة ولم يقض فيها بشئ. وقال إسحاق بن راهويه: أما في النهار فتكثير الركوع والسجود أفضل، وأما في الليل فتطويل القيام إلا أن يكون للرجل جزء بالليل يأتي عليه، فتكثير الركوع والسجود أفضل، لانه يقرأ جزأه، ويربح كثرة الركوع والسجود. قال ابن عدي: إنما قال إسحاق هذا لانهم وصفوا صلاة النبي (ص) بالليل بطول القيام، ولم يوصف من تطويله بالنهار ما وصف من تطويله بالليل.
[ 92 ]
[ رح ] وعن ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم آتيه بوضوئه وحاجته، فقال: سلني، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك، فقلت: هو ذاك، فقال: أعني على نفسك بكثرة السجود رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. قوله: سلني فيه جواز قول الرجل لاتباعه ومن يتولى خدمته: سلوني حوائجكم. قوله: مرافقتك فيه دليل على أن من الناس من يكون مع الانبياء في الجنة. وفيه أيضا جواز سؤال الرتب الرفيعة التي تكبر عن السائل. قوله: أعني على نفسك بكثرة السجود فيه أن السجود من أعظم القرب التي يكون بسببها ارتفاع الدرجات عند الله إلى حد لا يناله إلا المقربون، وبه أيضا استدل من قال: إن السجود أفضل من القيام كما تقدم. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أفضل الصلاة طول القنوت رواه أحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي وصححه. وفي الباب عن عبد الله بن حبشي عند أبي داود والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل أي الاعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه الحديث. وفيه: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت وعن أبي ذر عند أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل. قال فيه: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. قوله: طول القنوت هو يطلق بإزاء معان قد قدمنا ذكرها، والمراد هنا طول القيام، قال النووي باتفاق العلماء: ويدل على ذلك تصريح أبي داود في حديث عبد الله بن حبشي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل أي الاعمال أفضل؟ قال: طول القيام. (والحديث) يدل على أن القيام أفضل من السجود والركوع وغيرهما، وإلى ذلك ذهب جماعة منهم الشافعي كما تقدم وهو الظاهر، ولا يعارض حديث الباب وما في معناه الاحاديث المتقدمة في فضل السجود، لان صيغة أفعل الدالة على التفضيل إنما وردت في فضل طول القيام، ولا يلزم من فضل الركوع والسجود أفضليتهما على طول القيام. وأما حديث: ما تقرب العبد إلى الله بأفضل من سجود خفي، فإنه لا يصح لارساله كما قال العراقي، ولان في إسناده أبا بكر بن أبي مريم وهو ضعيف، وكذلك أيضا لا يلزم من كون العبد أقرب إلى ربه حال سجوده بأفضليته على القيام، لان ذلك إنما هو باعتبار إجابة الدعاء. قال العراقي: الظاهر أن أحاديث أفضلية طول القيام محمولة على صلاة النفل
[ 93 ]
والتي لا تشرع فيها الجماعة وعلى صلاة المنفرد، فأما الامام في الفرائض والنوافل فهو مأمور بالتخفيف المشروع إلا إذا علم من حال المأمومين المحصورين إيثار التطويل، ولم يحدث ما يقتضي التخفيف من بكاء صبي ونحوه فلا بأس بالتطويل، وعليه يحمل صلاته في المغرب بالاعراف كما تقدم. وعن المغيرة بن شعبة قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقوم ويصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا؟ رواه الجماعة إلا أبا داود. في الباب عن أنس عند البزار وأبي يعلى والطبراني في ا لاوسط مثل حديث المغيرة، قال العراقي: ورجاله رجال الصحيح. وعن ابن مسعود عند الطبراني في الاوسط بنحوه. وعن النعمان بن بشير عند الطبراني في الاوسط أيضا بنحوه، وفي إسناده سليمان بن الحكم وهو ضعيف. وعن أبي جحيفة عند الطبراني في الكبير بنحوه، وفي إسناده أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني، ضعفه البخاري والجمهور، ووثقه ابن معين في رواية وأحمد وقال: ربما أخطأ. وعن عائشة عند البخاري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم حتى تتفطر قدماه الحديث. وعنها حديث آخر عند أبي داود: أن أول سورة المزمل نزلت فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتفخت أقدامهم. وعن سفينة عند البزار: أن النبي (ص) تعبد قبل أن يموت واعتزل النساء حتى صار كأنه شن. قوله: حتى ترم قدماه الورم الانتفاخ. قوله: أفلا أكون عبدا شكورا فيه أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان، ومنه قوله تعالى: * (اعملوا آل داود شكرا) * (سبأ: 13). (والحديث) يدل على مشروعية اجتهاد النفس في العبادة من الصلاة وغيرها ما لم يؤده ذلك إلى الملال، وكانت حاله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الاحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه، بل كان في الصلاة قرة عينه وراحته، كما قال في الحديث الذي رواه النسائي عن أنس: وجعلت قرة عيني في الصلاة. وكما قال في الحديث الذي رواه أبو داود: أرحنا بها يا بلال.
[ 94 ]
باب إخفاء التطوع وجوازه جماعة عن زيد بن ثابت أن النبي (ص) قال: أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة رواه الجماعة إلا ابن ماجة لكن له معناه من رواية عبد الله بن سعد. حديث عبد الله بن سعد الذي أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى أخرجه أيضا الترمذي في الشمائل ولفظه قال: سألت رسول الله (ص): أيما أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال: ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد؟ فلان أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة. وفي الباب عن عمر بن الخطاب عند ابن ماجة قال: سألت رسول الله (ص) فقال: أما صلاة الرجل في بيته فنور فنوروا بيوتكم وفيه انقطاع. وعن جابر عند مسلم في إفراده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله عز وجل جاعل في بيته من صلاته خيرا. وعن أبي سعيد عند ابن ماجة مثل حديث جابر، قال العراقي: وإسناده صحيح. وعن أبي هريرة عند مسلم والنسائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة وعن ابن عمر عند الشيخين وأبي داود عن النبي (ص) قال: صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا. وفي لفظ متفق عليه: صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبور. وعن عائشة عند أحمد: أن رسول الله (ص) كان يقول: صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها عليكم قبورا وعن زيد بن خالد عند أحمد والبزار والطبراني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا قال العراقي: وإسناده صحيح. وعن الحسن بن علي عند أبي يعلى بنحو حديث زيد بن خالد، وفي إسناده عبد الله بن نافع وهو ضعيف. وعن صهيب بن النعمان عند الطبراني في الكبير قال: قال رسول الله (ص): فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل المكتوب على النافلة. وفي إسناده محمد بن مصعب، وثقه أحمد بن حنبل وضعفه ابن معين وغيره. (الحديث) يدل على استحباب فعل صلاة التطوع في البيوت، وأن فعلها فيها أفضل من فعلها في المساجد، ولو كانت المساجد فاضلة، كالمسجد الحرام، ومسجده صلى الله عليه وآله وسلم، ومسجد بيت المقدس. وقد ورد التصريح
[ 95 ]
بذلك في إحدى روايتي أبي داود لحديث زيد بن ثابت فقال فيها: صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة قال العراقي: وإسناده صحيح، فعلى هذا لو صلى نافلة في مسجد المدينة كانت بألف صلاة على القول بدخول النوافل في عموم الحديث، وإذا صلاها في بيته كانت أفضل من ألف صلاة، وهكذا حكم المسجد الحرام وبيت المقدس. وقد استثني أصحاب الشافعي من عموم أحاديث الباب عدة من النوافل فقالوا: فعلها في غير البيت أفضل، وهي ما تشرع فيها الجماعة كالعيدين، والكسوف، والاستسقاء، وتحية المسجد، وركعتي الطواف، وركعتي الاحرام. قوله: إلا المكتوبة قال العراقي: هو في حق الرجال دون النساء، فصلاتهن في البيو ت أفضل، وإن أذن لهن في حضور بعض الجماعات، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن وبيوتهن خير لهن. والمراد بالمكتوبة هنا الواجبات بأصل الشرع وهي الصلوات الخمس دون المنذورة. قال النووي: إنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من محبطات الاعمال، وليتبرك البيت بذلك، وتنزل فيه الرحمة والملائكة، وينفر منه الشيطان كما جاء في الحديث. وعن عتبان بن مالك أنه قال: يا رسول الله إن السيول لتحول بيني وبين مسجد قومي، فأحب أن تأتيني فتصلي في مكان من بيتي أتخذه مسجدا، فقال: سنفعل، فلما دخل قال: أين تريد؟ فأشرت لا إلى ناحية من البيت فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصففنا خلفه فصلى بنا ركعتين متفق عليه. وقد صح التنفل جماعة من رواية ابن عباس وأنس رضي الله عنهما. حديث ابن عباس الذي أشار إليه المصنف له ألفاظ في البخاري وغيره أحدها: أنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه. وحديث أنس المشار إليه أيضا له ألفاظ كثيرة في البخاري وغيره وأحدها أنه قال: صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي (ص) وأمي أم سليم خلفنا. الاحاديث ساقها المصنف ههنا للاستدلال بها على صلاة النوافل جماعة وهي كما ذكر، وليس للمانع من ذلك متمسك يعارض به هذه الادلة. (وفي حديث) عتبان فوائد: منها جواز التخلف عن الجماعة في المطر والظلمة ونحو ذلك. ومنها جواز اتخاذ موضع معين للصلاة، وأما النهي عن إيطان موضع معين
[ 96 ]
من المسجد ففيه حديث رواه أبو داود وهو محمول على ما إذا استلزم رياء ونحوه. وفيه تسوية الصفوف، وأن عموم النهي عن إمامة الزائر من زاره مخصوص بما إذا كان الزائر هو الامام الاعظم فلا يكره، وكذا من أذن له صاحب المنزل وفيه أنه يشرع لمن دعي من الصالحين للتبرك به الاجابة، وإجابة الفاضل دعوة المفضول، وغير ذلك من الفوائد. وفي حديث ابن عباس فوائد كثيرة أيضا ذكر بعضهم منها عشرين فائدة وهي تزيد على ذلك. وكذلك حديث أنس له فوائد، وهما يدلان على أن الصبي يسد الجناح، وفي ذلك خلاف معروف. باب أن أفضل التطوع مثنى مثنى فيه عن ابن عمر وعائشة وأم هانئ وقد سبق. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. رواه الخمسة، وليس هذا بمناقض لحديثه الذي خص فيه الليل بذلك، لانه وقع جوابا عن سؤال سائل عينه في سؤاله. حديث ابن عمر الذي أشار إليه المصنف قد تقدم في باب الوتر بركعة. وحديث عائشة المشار إليه تقدم في باب الوتر بركعة أيضا. وحديث أم هانئ تقدم في باب الضحى. وحديث ابن عمر المذكور في الباب قد تقدم الكلام عليه أيضا في شرح حديثه المتقدم في باب الوتر بركعة. (وفي الباب) عن عمرو بن عبسة عند أحمد بدون ذكر النهار. وعن ابن عباس عند الطبراني وابن عدي بنحو حديث عمرو بن عبسة. وذاعن عمار عند الطبراني في الكبير بنحوه وفي إسناده الربيع بن بدر وهو ضعيف. (والحديث) يدل على أن المستحب في صلاة تطوع الليل والنهار أن يكون مثنى مثنى إلا ما خص من ذلك، أما في جانب الزيادة كحديث عائشة: صلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم صلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن. وأما في جانب النقصان كأحاديث الايتار بركعة. وقد أشار المصنف رحمه الله إلى الجمع بين حديث ابن عمر هذا وحديثه الذي تقدم الاقتصار فيه على صلاة الليل، بأن حديثه المتقدم وقع جوابا لسؤال سائل، وأيضا حديثه هذا مشتمل على زيادة وقعت غير منافية فيتحتم العمل بها كما تقدم.
[ 97 ]
وعن أبي أيوب: أن رسول الله (ص) كان إذا قام يصلي من الليل صلى أربع ركعات لا يتكلم ولا يأمر بشئ ويسلم بين كل ركعتين. وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقد، فإذا استيقظ تسوك ثم توضأ ثم صلى ثمان ركعات يجلس في كل ركعتين ويسلم، ثم يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الخامسة. وعن المطلب بن ربيعة: أن رسول الله (ص) قال: الصلاة مثنى مثنى وتشهد وتسلم في كل ركعتين وتبأس وتمسكن وتقنع يديك وتقول: اللهم فمن لم يفعل ذلك فهي خداج. رواهن ثلاثتهن أحمد. أما حديث أبي أيوب فأخرجه أيضا الطبراني في الكبير وفي إسناده واصل بن السائب وهو ضعيف، وزاد أحمد في رواية: يستاك من الليل مرتين أو ثلاثا وأما حديث عائشة فيشهد له ما أخرجه الطبراني في الاوسط عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحيي الليل بثماني ركعات ركوعهن كقراءتهن، وسجودهن كقراءتهن، ويسلم بين كل ركعتين. وفي إسناده جنادة بن مروان اتهمه أبو حاتم. وأما الايتار بخمس متصلة فهو ثابت عند مسلم والترمذي والنسائي من حديثها وقد تقدم. وأما حديث المطلب بن ربيعة فأخرجه أيضا أبو داود قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ، حدثنا شعبة، حدثني عبد ربه بن سعيد، عن أنس بن أبي أنس، عن عبد الله بن نافع، عن عبد الله بن الحرث، عن المطلب فذكره. وقال المنذري: أخرجه البخاري وابن ماجة. وفي حديث ابن ماجة: المطلب بن أبي وداعة وهو وهم. وقيل: هو عبد المطلب بن ربيعة، وقيل: الصحيح فيه ربيعة بن الحرث عن الفضل بن عباس، وأخطأ فيه شعبة في مواضع. وقال البخاري في التاريخ: إنه لا يصح اه. ويشهد لصحته الاحاديث المذكورة في أول الباب. قوله: وتبأس قال ابن رسلان: بفتح المثناة الفوقانية وسكون الباء الموحدة وفتح الهمزة، والمعنى أن تظهر الخضوع، وفي بعض النسخ تبايس بفتح الباء والتاء وبعد الالف ياء تحتانية مفتوحة ومعناهما واحد. قال في القاموس: التباؤس التفاقر. ويطلق أيضا على التخشع والتضرع. قوله: وتمسكن قال في القاموس: تمسكن صار مسكينا، والمسكين من لا شئ له، والذليل والضعيف. قوله: وتقنع يديك بقاف فنون فعين مهملة أي ترفعهما. قال ابن رسلان: هو بضم التاء وكسر النون، قال: والاقناع رفع اليدين في الدعاء والمسألة. والخداج قد تقدم تفسيره. والحديث الاول والثاني مقيدان بصلاة الليل. والحديث الثالث
[ 98 ]
مطلق، وجميعها يدل على مشروعية أن تكون صلاة التطوع مثنى مثنى إلا ما خص كما تقدم، وفي هذه الاحاديث فوائد: منها مشروعية التسوك عند القيام من النوم، وقد تقدم الكلام عليه. ومنها مشروعية التمسكن والتفاقر لان ذلك من الاسباب للاجابة. ومنها مشروعية رفع اليدين عند الدعاء، وقد ثبت في الاحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرفع يديه في دعاء قط إلا في أمور مخصوصة. قال النووي في شرح مسلم: أنه وجد منها في الصحيحين ثلاثين موضعا، هذا معنى كلامه. وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: في كل ركعتين تسليمة. رواه ابن ماجة. وعن علي عليه السلام: قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي حين تزيغ الشمس ركعتين، وقبل نصف النهار أربع ركعات يجعل التسليم في آخره رواه النسائي. الحديث الاول في إسناده أبو سفيان السعدي طريف بن شهاب، وقد ضعفه ابن معين، ولكن له شواهد قد تقدم ذكرها. والحديث الثاني أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجة بألفاظ مختلفة في بعضها كما ذكر المصنف، وفي بعضها أربعا قبل الظهر وبعدها ركعتين وفي بعضها غيرذلك. وحديث أبي سعيد يدل على ما دلت عليه أحاديث صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وقد تقدمت، وحديث علي يدل على جواز صلاة أربع ركعات متصلة في النهار فيكون من جملة المخصصات لاحاديث صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، وفيه جواز الصلاة عند الزوال، وقد تقدم الكلام في ذلك. باب جواز التنفل جالسا والجمع بين القيام والجلوس في الركعة الواحدة عن عائشة قالت: لما بدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وثقل كان أكثر صلاته جالسا متفق عليه. قوله: لما بدن قال أبو عبيدة: بدن بفتح الدال المشددة تبدينا إذا أسن، قال: ومن رواه بضم الدال المخففة فليس له معنى هنا، لان معناه كثرة اللحم، وهو خلاف صفته صلى الله عليه وآله وسلم. قال القاضي عياض: روايتنا في مسلم عن جمهورهم بدن بالضم، وعن العذري بالتشديد وأراه إصلاحا، قال: ولا ينكر اللفظان في حقه صلى الله عليه وآله وسلم
[ 99 ]
وقد قالت عائشة: فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع كما في صحيح مسلم. وفي لفظ: ولحم وفي آخر أسن وكثر لحمه. (والحديث) يدل على جواز التنفل قاعدا مع القدرة على القيام، قال النووي: وهو إجماع العلماء. وعن حفصة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى في سبحته قاعدا حتى كان قبل وفابعام فكان يصلي في سبحته قاعدا، وكان يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه. قوله: سبحته بضم السين المهملة وسكون الباء الموحدة أي نافلته. (والحديث) يدل على جواز صلاة التطوع من قعود وهو مجمع عليه كما تقدم. وفيه استحباب ترتيل القراءة، والمراد بقولها: حتى تكون أطول من أطول منها أن مدة قراءته لها أطول من قراءة سورة أخرى أطول منها إذا قرئت غير مرتلة، وإلا فلا يمكن أن تكون السورة نفسها أطول من أطول منها من غير تقيد بالترتيل والاسراع والتقييد بقبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم بعام لا ينافي قول عائشة في الحديث الاول: فلما بدن وثقل كان أكثر صلاته جالسا لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم بدن وثقل قبل موته بمقدار عام. وكذلك لا ينافي حديثها الآتي أنه صلى قاعدا حين أسن، ولو فرض أنه صلى جالسا قبل وفاته بأكثر من عام فلاتنا في أيضا، لان حفصة إنما نفت رؤيتها لا وقوع ذلك. وعن عمران بن حصين أنه: سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الرجل قاعدا قال: إن صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد ورواه الجماعة إلا مسلما. وفي الباب عن عبد الله بن السائب عند الطبراني في الكبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الجالس على النصف من صلاة القائم. وفي إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف. وعن عبد الله بن عباس عند ابن عدي في الكامل مثل حديث عبد الله بن السائب وفي إسناده حماد بن يحيى، وقد اختلف فيه. وعن ابن عمر عند البزار في مسنده، والطبراني وابن أبي شيبة بنحوه. وعن المطلب بن أبي وداعة بنحوه وفي إسناده صالح بن أبي الاخضر وهو ضعيف. وعن عائشة عند النسائي بنحوه. (والحديث) يدل على جواز التنفل من قعود واضطجاع وهو المراد بقوله:
[ 100 ]
ومن صلى نائما قال الخطابي في معالم السنن: لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائما كما رخصوا فيها قاعدا، فإن صحت هذه اللفظة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم تكن من بعض الرواة مدرجة في الحديث قياسا على صلاة القاعد، أو اعتبارا بصلاة المريض نائما إذا لم يقدر على القعود، دلت على جواز تطوع القادر على القعود مضطجعا، قال: ولا أعلم أني سمعت نائما إلا في هذا الحديث. وقال ابن بطال: وأما قوله: من صلى نائما فله نصف أجر القاعد فلا يصح معناه عند العلماء، لانهم مجمعون أن النافلة لا يصليها القادر على القيام إيماء، قال: وإنما دخل الوهم على ناقل الحديث، وتعقب ذلك العراقي فقال: أما نفي الخطابي وابن بطال للخلاف في صحة التطوع مضطجعا للقادر فمردود، فإن في مذهب الشافعية وجهين الاصح منهما الصحة. وعند المالكية ثلاثة أوجه حكاها القاضي عياض في الاكمال: أحدها الجواز مطلقا في الاضطرار والاختيار للصحيح والمريض. وقد روى الترمذي بإسناده عن الحسن البصري جوازه، فكيف يدعي مع هذا الخلاف القديم. والحديث الاتفاق؟ انتهى. وقد اختلف شراح الحديث في الحديث هل هو محمول على التطوع أو على الفرض في حق غير القادر؟ فحمله الخطابي على الثاني وهو محمل ضعيف، لان المريض المفترض الذي أتى بما يجب عليه من القعود والاضطجاع يكتب له جميع الاجر لا نصفه. قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أنه لا يقال لمن لا يقدر على الشئ لك نصف أجر القادر عليه، بل الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من منعه الله وحبسه عن عمله بمرض أو غيره يكتب له أجر عمله وهو صحيح اه. وحمله سفيان الثوري وابن الماجشون على التطوع، وحكاه النووي عن الجمهور وقال: إنه يتعين حمل الحديث عليه، وحكى الترمذي عن سفيان الثوري أنه قال: إن تنصيف الاجر إنما هو للصحيح، فأما من كان له عذر من مرض أو غيره فصلى جالسا فإنه مثل أجر القائم. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد رواه الجماعة إلا البخاري. وعن عائشة أيضا: أنها لم تر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسن، وكان يقرأ قاعدا،
[ 101 ]
حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع رواه الجماعة. وزادوا إلا ابن ماجة: ثم يفعل في الركعة الثانية كذلك. الحديث الاول يدل على أن المشروع لمن قرأ قائما أن يركع ويسجد من قيام، ومن قرأ قاعدا أن يركع ويسجد من قعود. والحديث الثاني يدل على جواز الركوع من قيام لمن قرأ قاعدا، ويجمع بين الحديثين بحمل قولها: وكان إذا قرأ وهو قائم وإذا قرأ قاعدا في الحديث الاول، على أن المراد جميع القراءة، بمعنى أنه لا يفرغ من القراءة قاعدا فيقوم للركوع والسجود، ولا يفرغ منها قائما فيقعد للركوع والسجود، فأما إذا افتتح الصلاة قائما ثم قرأ بعض القراءة جاز له أن يقعد لتمامها ويركع ويسجد من قعود، وكذا إذا افتتح الصلاة قاعدا ثم قرأ بعض القراءة جاز له أن يقوم لتمامها، ويركع ويسجد من قيام كما في الحديث الثاني. ويشكل على هذا الجمع ما ثبت في بعض طرق الحديث الاول عند مسلم من حديث عائشة بلفظ: فإذا افتتح الصلاة قائما ركع قائما، وإذا افتتح الصلاة قاعدا ركع قاعدا قال العراقي: فيحمل علأنه كان يفعل مرة كذا ومرة كذا، فكان مرة يفتتح قاعدا، ويتم قراءته قاعدا، ويركع قاعدا، وكان مرة يفتتح قاعدا، ويقرأ بعض قراءته قاعدا، وبعضها قائما، ويركع قائما، فإن لفظ كان لا يقتضي المداومة. وقد جاء في رواية علقمة عن عائشة عند مسلم ما يقتضي أنه يفتتح قاعدا، ويقرأ قاعدا، ثم يقوم فيركع، ولكن الظاهر أن هذا في الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس. وقد جاء التصريح به عند مسلم في حديث آخر من رواية أبي سلمة عنها وفيه: ثم يوتر ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع. (والحديثان) يدلان على جواز صلاة التطوع من قعود. والحديث الثاني يدل على أنه يجوز فعل بعض الصلاة من قعود، وبعضها من قيام. قال العراقي: وهو كذلك، سواء قام ثم قعد، أو قعد ثم قام، وهو قول جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وحكاه النووي عن عامة العلماء. وحكى عن بعض السلف منعه قال: وهو غلط. وحكى القاضي عياض عن أبي يوسف ومحمد في آخرين كراهة القعود بعد القيام، ومنع أشهب من المالكية الجلوس بعد أن ينوي القيام، وجوزه ابن القاسم والجمهور. وعن عائشة قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي متربعا رواه الدارقطني.
[ 102 ]
الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم، قال النسائي: ما أعلم أحدا رواه غير أبي داود الحفري، ولا أحسبه إلا خطأ. قال الحافظ: قد رواه ابن خزيمة وا لبيهقي من طريق محمد بن سعيد بن الاصبهاني بمتابعة أبي داود، فظهر أنه لا خطأ فيه. وروى البيهقي من طريق ابن عيينة عن ابن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو هكذا، ووضع يديه على ركبتيه وهو متربع جالس ورواه البيهقي عن حميد: رأيت أنسا يصلي متربعا على فراشه. وعلقه البخاري. (والحديث) يدل على أن المستحب لمن صلى قاعدا أن يتربع، وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد، وهو أحد القولين للشافعي، وذهب الشافعي في أحد قوليه إنه يجلس مفترشا كالجلوس بين السجدتين، وحكى صاحب النهاية عن بعض المصنفين أنه يجلس متوركا. وقال القاضي حسين من الشافعية: أنه يجلس على فخذه اليسرى وينصب ركبته اليمنى كجلسة القارئ بين يدي المقرئ، وهذا الخلاف إنما هو في الافضل، وقد وقع الاتفاق على أنه يجوز له أن يقعد على أي صفة شاء من القعود، لما في حديثي عائشة المتقدمين من الاطلاق، وما في حديث عمران بن حصين المتقدم من العموم. باب النهي عن التطوع بعد الاقامة عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة رواه الجماعة إلا البخاري. وفي رواية لاحمد: إلا التي أقيمت. وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني في الافراد مثل حديث أبي هريرة، قال العراقي: وإسناده حسن. وعن جابر عند ابن عدي في الكامل مثله، وفي إسناده عبد الله بن ميمون القداح قال البخاري: ذاهب الحديث. (والحديث) يدل على أنه لا يجوز الشروع في النافلة عند إقامة الصلاة، من غير فرق بين ركعتي الفجر وغيرهما، وقد اختلف الصحابة والتابعون ومن بعدهم في ذلك على تسعة أقوال. أحدها: الكراهة وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر على خلاف عنه في ذلك، وأبو هريرة، ومن التابعين: عروة بن الزبير، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعي،
[ 103 ]
وعطاء بن أبي رباح، وطاوس، ومسلم بن عقيل، وسعيد بن جبير. ومن الائمة: سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، ومحمد بن جرير، هكذا أطلق الترمذي الرواية عن الثوري، وروى عنه ابن عبد البر والنووي تفصيلا، وهو أنه إذا خشي فوت ركعة من صلاة الفجر دخل معهم وترك سنة الفجر وإلا صلاها وسيأتي. القول الثاني: أنه لا يجوز صلاة شئ من النوافل إذا كانت المكتوبة قد قامت من غير فرق بين ركعتي الفجر وغيرهما، قاله ابن عبد البر في التمهيد. القول الثالث: أنه لا بأس بصلاة سنة الصبح والامام في الفريضة، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود، ومسروق، والحسن البصري، ومجاهد، ومكحول، وحماد بن أبي سليمان، وهو قوالحسن بن حي، ففرق هؤلاء بين سنة الفجر وغيره، واستدلوا بما رواه البيهقي من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الصبح. وأجيب عن ذلك بأن البيهقي قال: هذه الزيادة لا أصل لها، وفي إسنادها حجاج بن نصر وعباد بن كثير وهما ضعيفان، على أنه قد روى البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، قيل: يا رسول الله ولا ركعتي الفجر؟ قال: ولا ركعتي الفجر وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وهو متكلم فيه، وقد وثقه ابن حبان واحتج به في صحيحه. القول الرابع: التفرقة بين أن يكون في المسجد أو خارجه، وبين أن يخاف فوت الركعة الاولى مع الامام أو لا، وهو قول مالك. فقال: إذا كان قد دخل المسجد فليدخل مع الامام ولا يركعهما يعني ركعتي الفجر، وإن لم يدخل المسجد، فإلم يخف أن يفوته الامام بركعة فليركع خارج المسجد، وإن خاف أن تفوته الركعة الاولى مع الامام فليدخل وليصل معه. القول الخامس: أنه إن خشي فوت الركعتين معا وأنه لا يدرك الامام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه وإلا فيركعهما، يعني ركعتي الفجر خارج المسجد، ثم يدخل مع الامام، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، كما حكاه ابن عبد البر، وحكى عنه أيضا نحو قول مالك، وهو الذي حكاه الخطابي، وهو موافق لما حكاه عنه أصحابه. وحكى النووي عنه مثل قول الاوزاعي الآتي ذكره. القول السادس: أنه يركعهما في المسجد إلا أنه يخاف فوت الركعة الاخيرة، فأما الركعة الاولى فليركع وإن فاتته وهو قول الاوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وحكاه النووي عن أبي حنيفة وأصحابه. القول السابع: يركعهما في المسجد وغيره إلا إذا خاف فوت الركعة الاولى، وهو قول سفيان الثوري، حكى ذلك عنه
[ 104 ]
ابن عبد البر، وهو مخالف لما رواه الترمذي عنه. القول الثامن: أنه يصليهما وإن فاتته صلاة الامام إذا كان الوقت واسعا، قاله ابن الجلاب من المالكية. القول التاسع: أنه إذا سمع الاقامة لم يحل له الدخول في ركعتي الفجر ولا في غيرهما من النوافل، سواء كان في المسجد أو خارجه، فإن فعل فقد عصى وهو قول أهل الظاهر، ونقله ابن حزم عن الشافعي، وعن جمهور السلف، وكذا قال الخطابي، وحكي الكراهة عن الشافعي وأحمد. وحكى القرطبي في المفهم عن أبي هريرة وأهل الظاهر أنها لا تنعقد صلاة تطوع في وقت إقامة الفريضة، وهذا القول هو الظاهر، إن كان المراد بإقامة الصلاة الاقامة التي يقولها المؤذن عند إرادة الصلاة وهو المعنى المتعارف. قال العراقي: وهو المتبادر إلى الاذهان من هذا الحديث. (والاحاديث) المذكورة في شرح الحديث الذي بعد هذا تدل على ذلك، لا إذا كان المراد بإقامة الصلاة فعلها كما هو المعنى الحقيقي. ومنه قوله تعالى: * (الذين يقيمون الصلاة) * (المائدة 55) فإنه لا كراهة في فعل النافلة عند إقامة المؤذن قبل الشروع في الصلاة، وإذا كان المراد المعنى الاول فهل المراد به الفراغ من الاقامة لانه حينئذ يشرع في فعل الصلاة؟ أو المراد شروع المؤذن في الاقامة؟ قال العراقي: يحتمل أن يراد كل من الامرين، والظاهر أن المراد شروعه في الاقامة ليتهيأ المأمومون لادراك التحريم مع الامام. ومما يدل على ذلك قوله في حديث أبي موسى عند الطبراني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا صلى ركعتي الفجر حين أخذ المؤذن يقيم قال العراقي: وإسناده جيد، ومثله حديث ابن عباس الآتي. قوله: فلا صلاة يحتمل أن يتوجه النفي إلى الصحة أو إلى الكمال، والظاهر توجهه إلى الصحة لانها أقرب المجازين إلى الحقيقة، وقد قدمنا الكلام في ذلك، فلا تنعقد صلاة التطوع بعد إقامة الصلاة المكتوبة، كما تقدم عن أبي هريرة وأهل الظاهر. قال العراقي: إن قوله: فلا صلاة يحتمل أن يراد فلا يشرع حينئذ في صلاة عند إقامة الصلاة، ويحتمل أن يراد فلا يشتغل بصلاة وإن كان قد شرع فيها قبل الاقامة، بل يقطعها المصلي لادراك فضيلة التحريم، أو أنها تبطل بنفسها، وإن لم يقطعها المصلي، يحتمل كلا من الامرين، وقد بالغ أهل الظاهر فقالوا: إذا دخل في ركعتي الفجر أو غيرهما من النوافل فأقيمت صلاة الفريضة بطلت الركعتان، ولا فائدة له في أن يسلم منهما، ولو لم يبق عليه منهما غير السلام، بل يدخل كما هو بابتداء التكبير في صلاة الفريضة، فإذا أتم الفريضة فإن شاء ركعهما وإن شاء لم يركعهما، قال: وهذا غلو منهم في صورة ما إذا لم يبق عليه غير السلام، فليت شعري أيهما أطول زمنا،
[ 105 ]
مدة السلام، أو مدة إقامة الصلا؟ بل يمكنه أن يتهيأ بعد السلام لتحصيل أكمل الاحوال في الاقتداء قبل تمام الاقامة، نعم قال الشيخ أبو حامد من الشافعية: إن الافضل خروجه من النافلة إذا أداه إتمامها إلى فوات فضيلة التحريم، وهذا واضح انتهى. قوله: إلا المكتوبة الالف واللام ليست لعموم المكتوبات، وإنما هي راجعة إلى الصلاة التي أقيمت، وقد ورد التصريح بذلك في رواية لاحمد بلفظ: فلا صلاة إلا المكتوبة التي أقيمت وكذلك في رواية لابي هريرة ذكرها ابن عبد البر في التمهيد، وكما ذكره المصنف في حديث الباب. وعن عبد الله بن مالك ابن بحينة: أن رسول الله (ص) رأى رجلا وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاث به الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الصبح أربعا الصبح أربعا متفق عليه. وفي الباب عن عبد الله بن سرجس عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الصبح، فصلى ركعتين قبل أن يدخل في الصلاة، فلما انصرف رسول الله (ص) قال له: يا فلان بأي صلاتيك اعتددت؟ بالتي صليت وحدك، أو بالتي صليت معنا؟. وعن ابن عباس عند أبي داود الطيالسي قال: كنت أصلي وأخذ المؤذن في الاقامة، فجذبني نبي الله (ص) وقال: أتصلي الصبح أربعا؟ ورواه أيضا البيهقي والبزار وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك وقال: إنه على شرط الشيخين والطبراني. وعن أنس عند البزار أنه قال: خرج رسول الله (ص) حين أقيمت الصلاة فرأى ناسا يصلون ركعتي الفجر فقال: صلاتان معا؟ ونهى أن تصليا إذا أقيمت الصلاة. وأخرجه مالك في الموطأ. وعن زيد بن ثابت عند الطبراني في الاوسط قال رأى رسول الله (ص) رجلا يصلي ركعتي الفجر وبلال يقيم الصلاة فقال: أصلاتان معا؟ وفي إسناده عبد المنعم بن بشير الانصاري، وقد ضعفه ابن معين وابن حبان. وعن أبي موسى عند الطبراني في الكبير: أن رسول الله (ص) رأى رجلا يصلي ركعتي الغداة حين أخذ المؤذن يقيم، فغمز النبي (ص) منكبه وقال: ألا كان هذا قبل هذا؟ قال العراقي: وإسناده جيد. وعن عائشة عند ابن عبد البر في التمهيد: أن النبي صلى الله عليه وآله
[ 106 ]
وسلم خرج حين أقيمت صلاة الصبح فرأى ناسا يصلون فقال: أصلاتان معا؟. وفي إسناده شريك بن عبد الله، وقد اختلف عليه في وصله وإرساله. قوله: لاث به الناس أي اختلطوا به والتفوا عليه. قال في القاموس: والالتياث الاختلاط والالتفاف. (والحديث) يدل على كراهة صلاة سنة الفجر عند إقامة الصلاة المكتوبة، وقد تقدم بسط الخلاف في ذلك في شرح الحديث الذي قبله. (فإن قيل) قد روى ابن ماجة من حديث علي عليه السلام أنه قال: كان النبي (ص) يصلي الركعتين عند الاقامة فكيف الجمع بينه وبين أحاديث الباب؟ فقيل: إن ذلك خاص بالامام، وقيل: بالنبي (ص)، والاولى أن يقال: إن في إسناد الحديث الحرث الاعور وهو ضعيف كما علم، بل قد رمي بالكذب فلا حاجة إلى تكلف الجمع. باب الاوقات المنهي عن الصلاة فيها عن أبي سعيد: أن النبي (ص) قال: لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس متفق عليه. وفي لفظ: لا صلاة بعد صلاتين بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب رواه أحمد والبخاري. وعن عمر بن الخطاب: أن النبي (ص) نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس ورواه أبو هريرة مثل ذلك متفق عليهما. وفي لفظ عن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لاصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس رواه البخاري. ورواه أحمد وأبو داود وقالا فيه: بعد صلاة العصر. في الباب عن جماعة من الصحابة. منهم عمرو بن عبسة وابن عمر، وسيذكر ذلك المصنف. وعن ابن مسعود عند الطحاوي بلفظ: كنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ونصف النهار. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني في الاوسط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تصلوا بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس. وعن معاذ بن عفراء أشار إليه الترمذي، وذكره ابن سيد الناس في شرحه بنحو حديث أبي سعيد. وعن زيد بن ثابت عند الطبراني: أن رسول
[ 107 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر وعن كعب بن مرة عند الطبراني أيضا بنحو حديث عمرو بن عبسة الآتي. وعن سلمة بن الاكوع أشار إليه الترمذي. وعن علي عند أبي داود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر وفي الباب عن جماعة ذكرهم الترمذي والحافظ في التلخيص. قوله: لا صلاة قال ابن دقيق العيد: صيغة النفي إذا دخلت في ألفاظ الشارع على فعل كان الاولى حملها على نفي الفعل الشرعي لا الحسي، لانا لو حملناه على نفي الحسي لاحتجنا في تصحيحه إلى إضمار والاصل عدمه، وإذا حملناه على الشرعي لم نحتج إلى إضمار، فهذا وجه الاولوية، وعلى هذا فهو نفي بمعنى النهي. والتقدير لا تصلوا كما تقدم التصريح بذلك في حديث أبي هريرة وابن عمرو بن العاص وسيأتي حديث علي. وحكى أبو الفتح اليعمري عن جماعة من السلف أنهم قالوا: إن النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر إنما هو إعلام بأنه لا يتطوع بعدهما، ولم يقصد الوقت بالنهي كما قصد به وقت الطلوع ووقت الغروب. ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن، كما قال الحافظ عن علي عليه السلام عن النبي (ص) قال: لا تصلوا بعد الصبح ولا بعد العصر إلا أن تكون الشمس نقية. وفي رواية: (مرتفعة). فدل على أن المراد بالبعدية ليس على عمومه، وإنما المراد وقت الطلوع ووقت الغروب وما قاربهما، كذا في الفتح. قوله: بعد صلاة العصر وبعد صلاة الفجر هذا تصريح بأن الكراهة متعلقة بفعل الصلاة لا بدخول وقت الفجر والعصر. وكذا قوله في الرواية الاخرى: لا صلاة بعد الصلاتين. وكذا قوله في رواية ابن عمر: لا صلاة بعد صلاة الصبح. وكذا قوله في حديث عمرو بن عبسة الآتي: صل صلاة الصبح ثم اقصر. وقوله: حتى تصلي العصر ثم اقصر فتحمل الاحاديث المطلقة على الاحاديث المقيدة بهذه الزيادة. (وقد اختلف) أهل العلم في الصلاة بعد العصر وبعد الفجر، فذهب الجمهور إلى أنها مكروهة، وادعى النووي الاتفاق على ذلك، وتعقبه الحافظ بأنه قد حكى عن طائفة من السلف الاباحة مطلقا، وأن أحاديث النهي منسوخة، قال: وبه قال داود وغيره من أهل الظاهر، وبذلك جزم ابن حزم، وهو أيضا مذهب الهادي والقاسم عليهما السلام، وقد اختلف القائلون بالكراهة، فذهب الشافعي والمؤيد بالله إلى أنه يجوز من الصلاة في هذين الوقتين ما له سبب، واستدلا بصلاته صلى الله عليه وآله وسلم سنة الظهر بعد
[ 108 ]
العصر، وقد تقدم الجوا ب عن هذا الاستدلال في باب تحية المسجد، وذهب أبو حنيفة إلى كراهة التطوعات في هذين الوقتين مطلقا، وحكى عن جماعة منهم أبو بكرة وكعب بن عجرة المنع من صلاة الفرض في هذه الاوقات. (واستدل) القائلون بالاباحة مطلقا بأدلة. منها دعوى النسخ لاحاديث الباب، صرح بذلك ابن حزم وغيره وجعلوا الناسخ حديث: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس. وقد تقدم، ولكنه خاص بصلاة الفرض، فلا يصلح لنسخ أحاديث الباب على فرض تأخره، وغاية ما فيه تخصيص صلاة الفريضة من عموم النهي. (واستدلوا) أيضا بحديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلم لركعتي الظهر بعد العصر وقد تقدم الجواب عنه. واستدلوا أيضا بحديث علي المتقدم لتقييد النهي فيه بقوله: إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية. وقد تقدم أن الحافظ قال في الفتح: إن إسناده حسن، وقال في موضع آخر منه: إن إسناده صحيح. وهذا وإن كان صالحا لتقييد الاحاديث المذكورة في الباب القاضية بمنع الصلاة بعد صلاة العصر على الاطلاق بما عدا الوقت الذي تكون الشمس فيه بيضاء نقية، لكنه أخص من دعوى مدعي الاباحة للصلاة بعد العصر وبعد الفجر مطلقا. (واستدلوا) أيضا بما رواه مسلم عن عائشة أنها قالت: وهم عمر إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها. وبما رواه البخاري عن ابن عمر أنه قال: أصلي كما رأيت أصحابي يصلون، ولا أنهى أحدا يصلي بليل أو نهار ما شاء، غير أن لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها. ويجاب عن الاستدلال بقول عائشة بأن الذي رواه عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثابت من طريق جماعة من الصحابة كما تقدم فلا اختصاص له بالوهم، وهم مثبتون وناقلون للزيادة، فروايتهم مقدمة، وعدم علم عائشة لا يستلزم العدم، فقد علم غيرها بما لا تعلم. ويجاب عن الاستدلال بقول ابن عمر بأنه قول صحابي لا حجة فيه، ولا يعارض المرفوع على أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلاف ما رآه كما سيأتي. (واستدلوا) أيضا بما أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها. قالوا: فتحمل الاحاديث المذكورة في الباب على هذا حمل المطلق على المقيد، أو تبنى عليه بناء العام على الخاص، ويجاب بأن هذا من التنصيص على أحد أفراد العام، وهو لا يصلح للتخصيص كما تقرر في الاصول.
[ 109 ]
واعلم أن الاحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة العصر والفجر عامة، فما كان أخص منها مطلقا كحديث يزيد بن الاسود وابن عباس الآتيين في الباب الذي بعد هذا، وحديث علي المتقدم، وقضاء سنة الظهر بعد العصر، وسنة الفجر بعده، للاحاديث المتقدمة في ذلك، فلا شك أنها مخصصة لهذا العموم، وما كان بينه وبين أحاديث الباب عموم وخصوص من وجه، كأحاديث تحية المسجد، وأحاديث قضاء الفوائت وقد تقدمت، والصلاة على الجنازة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت الحديث أخرجه الترمذي. وصلاة الكسوف لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة والركعتين عقب التطهر لحديث أبي هريرة المتقدم. وصلاة الاستخارة للاحاديث المتقدمة وغير ذلك، فلا شك أنها أعم من أحاديث الباب من وجه، وأخص منها من وجه، وليس أحد العمومين أولى من الآخر بجعله خاصا لما في ذلك من التحكم والوقف هو المتعين حتى يقع الترجيح بأمر خارج. وعن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا نبي الله أخبرني عن الصلاة، قال: صل صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفئ فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار رواه أحمد ومسلم. ولابي داود نحوه وأوله عنده: قلت: يا رسول الله أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح. قوله: وترتفع فيه أن النهي عن الصلاة بعد الصبح لا يزول بنفس طلوع الشمس بل لا بد من الارتفاع. وقد وقع عند البخاري من حديث عمر المتقدم بلفظ: حتى تشرق الشمس والاشراق الاضاءة. وفي حديث عقبة الآتي: حتى تطلع الشمس بازغة وذلك يبين أن المراد بالطلوع المذكور في حديث الباب وغيره الارتفاع والاضاءة لا مجرد الظهور، ذكر معنى ذلك القاضي عياض. قال النووي: وهو متعين لا عدول عنه للجمع بين الروايات، وقد ورد مفسرا في بعض الروايات بارتفاعها قدر رمح. قوله: فإنها تطلع بين قرني
[ 110 ]
شيطان قال النووي قيل: المراد بقرني الشيطان حزبه وأتباعه. وقيل: غلبة أتباعه وانتشار فساده. وقيل: القرنان ناحيتا الرأس وأنه هو على ظاهره، قال: وهذا الاقوى ومعناه أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الاوقات ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة، وحينئذ يكون لو لشيعته تسلط ظاهر وتمكن من أن يلبسوا على المصلين صلاتهم، فكرهت الصلاة حينئذ صيانة لها، كما كرهت في الاماكن التي هي مأوى الشيطان، وفي رواية لابي داود والنسائي: فإنها تطلع بين قرني شيطان فيصلي لها الكفار. قوله: مشهودة محضورة أي تشهدها الملائكة ويحضرونها، وذلك أقرب إلى القبول وحصول الرحمة. قوله: حتى يستقل الظل بالرمح قال النووي: معناه أنه يقوم مقابله في الشمال، ليس مائلا إلى المشرق ولا إلى المغرب، وهذا حالة الاستواء انتهى. والمراد أنه يكون الظل في جانب الرمح ولم يبق على الارض من ظله شئ، وهذا يكون في بعض أيام السنة ويقدر في سائر الايام عليه. قوله: تسجر جهنم بالسين المهملة والجيم والراء أي يوقد عليها إيقادا بليغا. قوله: قوله: فإذا أقبل الفئ أي ظهر إلى جهة المشرق، والفئ، مختص بما بعد الزوال، وأما الظل فيقع على ما قبل الزوال وبعده. قوله: حتى تصلي العصر فيه دليل على أن وقت النهي لا يدخل بدخول وقت العصر ولا بصلاة غير المصلي، وإنما يكره لكل إنسان بعد صلاته نفسه، حتى لو أخرها عن أول الوقت لم يكره التنفل قبلها، وقد تقدم الكلام في ذلك. وكذا قوله: حتى تصلي الصبح قال المصنف رحمه الله: وهذه النصوص الصحيحة تدل على أن النهي في الفجر لا يتعلق بطلوعه بل بالفعل كالعصر انتهى. (والحديث) يدل على كراهة التطوعات بعد صلاة العصر والفجر وقد تقدم ذلك، وعلى كراهتها أيضا عند طلوع الشمس، وعند قائمة الظهيرة، وعند غروبها، وسيأتي الكلام على هذه الاوقات. وعن يسار مولى ابن عمر قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي بعدما طلع الفجر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه الساعة فقال: ليبلغ شاهدكم غائبكم أن لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتين رواه أحمد وأبو داود. وأخرجه أيضا الدارقطني والترمذي وقال: غريب لا يعرف إلا من حديث قدامة بن موسى. قال الحافظ: وقد اختلف في اسم شيخه فقيل: أيوب بن حصين. وقيل: محمد ابن حصين وهو مجهول. وأخرجه أبو يعلى والطبراني من وجهين آخرين عن ابن عمر نحوه. ورواه ابن عدي من طريق محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر. ورواه
[ 111 ]
أيضا الدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي إسناده الافريقي. ورواه أيضا الطبراني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي سنده رواد بن الجراح. ورواه أيضا البيهقي من حديث سعيد بن المسيب مرسلا وقال: روي موصولا عن أبي هريرة ولا يصح. ورواه موصولا الطبراني وابن عدي وسنده ضعيف والمرسل أصح. (والحديث) يدل على كراهة التطوع بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، قال الترمذي: وهو مما أجمع عليه أهل العلم، كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر. قال الحافظ في التلخيص: دعوى الترمذي الاجماع على الكراهة لذلك عجيب، فإن الخلاف فيه مشهور، حكاه ابن المنذر وغيره، وقال الحسن البصري: لا بأس به، وكان مالك يرى أن يفعله من فاتته صلاة بالليل. وقد أطنب في ذلك محمد بن نصر في قيام الليل انتهى. وطرق حديث الباب يقوي بعضها بعضا، فتنتهض للاحتجاج بها على الكراهة. وقد أفرط ابن حزم فقال: الروايات في أنه لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتا الفجر ساقطة مطروحة مكذوبة. وعن عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف للغروب حتى تغرب رواه الجماعة إلا البخاري. قوله: أن نقبر هو بضم الباء الموحدة وكسرها لغتان. قال النووي: قال بعضهم: المراد بالقبر صلاة الجنازة وهذا ضعيف، لان صلاة الجنازة لا تكره في هذا الوقت بالاجماع، فلا يجوز تفسير الحديث بما يخالف الاجماع، بل الصواب أن معناه تعمد تأخير الدفن إلى هذه الاوقات، كما يكره تعمد تأخير العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذر وهي صلاة المنافقين، قال: فأما إذا وقد الدفن بلا تعمد في هذه الاوقات فلا يكره انتهى. وظاهر الحديث أن الدفن في هذه الاوقات محرم من غير فرق بين العامد وغيره، إلا أن يخص غير العامد بالادلة القاضية برفع الجناح عنه. قوله: بازغة أي ظاهرة. قوله: تضيف ضبطه النووي في شرح مسلم بفتح التاء والضاد المعجمة وتشديد الياء. والمراد به الميل. (والحديث) يدل على تحريم الصلاة في هذه الاوقات وكذا الدفن. وقد حكى النووي الاجماع على الكراهة قال: واتفقوا على جواز الفرائض المؤداة فيها، واختلفوا في النوافل التي لها سبب كصلاة التحية، وسجود التلاوة، والشكر، وصلاة العيد، والكسوف، وصلاة الجنازة، وقضاء الفوائت، ومذهب الشافعي وطائفة جواز ذلك كله بلا كراهة، ومذهب أبي حنيفة
[ 112 ]
وآخرين أنه داخل في النهي لعموم الاحاديث انتهى. وجعله لصلاة الجنازة ههنا من جملة ما وقع فيه الخلاف ينافي دعواه الاجماع على عدم كراهتها كما تقدم عنه. ومن القائلين بكراهة قضاء الفرائض في هذه الاوقات زيد بن علي، والمؤيد بالله، والداعي، والامام يحيى، قالوا: لشمول النهى للقضاء لان دليل المنع لم يفصل. (واحتج القائلون) بجواز قضاء الفرائض في هذه الاوقات وهم: الهادي والقاسم والشافعي ومالك بقوله (ص): من نام عن صلاته أوسها عنها فوقتها حين يذكرها الحديث المتقدم، فجعلوه مخصصا لاحاديث الكراهة وهو تحكم، لانه أعم منها من وجه، وأخص من وجه، وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر، وكذلك الكلام في فعل الصلاة المفروضة في هذه الاوقات أداء، إلا أن حديث من أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس، ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس أخص من أحاديث النهي مطلقا فيقدم عليها، وقد استثنى الشافعي وأصحابه وأبو يوسف الصلاة عند قائمة الظهيرة يوم الجمعة خاصة وهي رواية عن الاوزاعي وأهل الشام، واستدلوا بما رواه الشافعي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة. وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهما ضعيفان. ورواه البيهقي من طريق أبي خالد الاحمر، عن عبد الله شيخ من أهل المدينة، عن سعيد، عن أبي هريرة. ورواه الاثرم بسند فيه الواقدي وهو متروك. ورواه البيهقي أيضا بسند آخر فيه عطاء بن عجلان وهو متروك أيضا. وقد روى الشافعي عن ثعلبة بن أبي مالك عن عامة الصحابة أنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة. (وفي الباب) عن واثلة عند الطبراني قال الحافظ بسند واه. وعن أبي قتادة عند أبي داود والاثرم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة وقال: إن جهنم تسحر إلا يوم الجمعة وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وهو أيضا منقطع لانه من رواية أبي الخليل عن أبي قتادة ولم يسمع منه. وعن ذكوان مولى عائشة أنها حدثته: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها ويواصل وينهى عن الوصال رواه أبو داود. الحديث في إسناده محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء وفيه مقال إذا لم يصرح بالتحديث، وهو هنا قد عنعن فينظر في عنعنته كما قال الحافظ، وقد قدمنا في باب قضاء سنة الظهر ما يدل على اختصاص ذلك به صلى الله عليه وآله وسلم.
[ 113 ]
[ رم ] باب الرخصة في إعادة الجماعة وركعتي الطواف في كل وقت عن يزيد بن الاسود: قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في أخرى القوم ولم يصليا فقال: علي بهما، فجئ بهما ترعد فرائصهما فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة رواه الخمسة إلا ابن ماجة. وفي لفظ لابي داود: إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الامام فليصلها معه فإنها له نافلة. الحديث أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان والحاكم وصححه ابن السكن، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقد أخرجوه كلهم من طريق يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الاسود عن أبيه، قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول. قال البيهقي: لان يزيد بن الاسود ليس له راو غير ابنه، ولا لابنه جابر راو غير يعلى. قال الحافظ: يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقه النسائي وغيره، وقد وجدنا لجابر بن يزيد راويا غير يعلى، أخرجه ابن منده في المعرفة من طريق شيبة عن إبراهيم بن أبي أمامة عن عبد الملك بن عمير عن جابر. (وفي الباب) عن أبي ذر عند مسلم في حديث أوله: كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها وفيه: فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة. وعن ابن مسعود عند مسلم بنحوه، وعن شداد بن أوس عند البزار. وعن محجن الديلي عند مالك في الموطأ والنسائي وابن حبان والحاكم. وعن أبي أيوب عند أبي داود: أنه سأله رجل من بني أسد بن خزيمة فقال: يصلي أحدنا في منزله الصلاة ثم يأتي المسجد وتقام الصلاة فأصلي معهم فأجد في نفسي من ذلك شيئا، فقال أبو أيوب: سألنا عن ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فذلك له سهم جمع. وفي إسناده رجل مجهول. قوله: ترعد بضم أوله وفتح ثالثه أي تتحرك، كذا قا ابن رسلان. قوله: فرائصهما جمع فريصة بالصاد المهملة وهي اللحمة من الجنب والكتف التي لا تزال ترعد أي تتحرك من الدابة، واستعير للانسان لان له فريصة وهي ترجف عند الخوف. وقال الاصمعي: الفريصة لحمة بين الكتف والجنب. وسبب ارتعاد فرائصهما ما اجتمع في رسول الله (ص) من الهيبة
[ 114 ]
العظيمة والحرمة الجسيمة لكل من رآه مع كثرة تواضعه. قوله: ثم أتيتما مسجد جماعة لفظ أبي داود: إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الا مام ولم يصل فليصل معه ولفظ ابن حبان: إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الصلاة فصليا. قوله: فإنها لكما نافلة فيه تصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة نافلة، وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الاولى جماعة أو فرادى، لان ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. قال ابن عبد البر: قال جمهور الفقهاء: إنما يعيد الصلاة مع الامام في جماعة من صلى وحده في بيته أو في غير بيته، وأما من صلى في جماعة، وإن قلت: فلا يعيد في أخرى، قلت: أو كثرت، ولو أعاد في جماعة أخرى لاعاد في ثالثة ورابعة إلى ما لا نهاية له، وهذا لا يخفى فساده، قال: وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم. ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تصلي صلاة في يوم مرتين انتهى. وذهب الاوزاعي والهادي وبعض أصحاب الشافعي وهو قول الشافعي القديم إلى أن الفريضة هي الثانية إذا كانت الاولى فرادى، واستدلوا بما أخرجه أبو داود عن يزيد بن عامر قال: جئت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة فانصرف علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرآه جالسا فقال: ألم تسلم يا يزيد؟ قال: بلى يا رسول الله قد أسلمت، قال: فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟ قال: إني كنت قد صليت في منزلي وأنا أحسب أن قد صليتم، فقال: إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم، وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة ولكنه قد ضعفه النووي، وقال البيهقي: إن حديث يزيد بن الاسود أثبت منه وأولى. ورواه الدارقطني بلفظ: وليجعل التي صلى في بيته نافلة وقال: هي رواية ضعيفة شاذة انتهى. وعلى فرض صلاحية حديث يزيد بن عامر للاحتجاج به، فالجمع بينه وبين حديث الباب ممكن بحمل حديث الباب على من صلى الصلاة الاولى في جماعة، وحمل هذا على من صلى منفردا كما هو الظاهر من سياق الحديثين، ويكونان مخصصين لحديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين على فرض شموله لاعادة الفريضة، من غير فرق بين أن تكون الاعادة بنية الافتراض أو التطوع. وأما إذا كان النهي مختصا بإعادة الفريضة بنية الافتراض فقط، فلا يحتاج إلى الجمع بينه وبين حديث الباب. ومن جملة المخصصات لحديث ابن
[ 115 ]
عمر المذكور حديث أبي سعيد قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخل رجل فقام يصلي الظهر فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ أخرجه الترمذي وحسنه ابن حبان والحاكم والبيهقي. (وحديث) الباب يدل على مشروعية الدخول مع الجماعة بنية التطوع لمن كان قد صلى تلك الصلاة، وإن كان الوقت وقت كراهة، للتصريح بأن ذلك كان في صلاة الصبح، وإلى ذلك ذهب الشافعي، فيكون هذا مخصصا لعموم الاحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة الصبح، ومن جوز التخصيص بالقياس ألحق به ما ساواه من أوقات الكراهة. وظاهر التقييد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ثم أتيتما مسجد جماعة أن ذلك مختص بالجماعات التي تقام في المساجد لا التي تقام في غيرها، فيحمل المطلق من ألفاظ حديث الباب كلفظ أبي داود وابن حبان المتقدمين على المقيد بمسجد الجماعة، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي عن سليمان بن يسار مولى ميمونة قال: رأيت ابن عمر جالسا على البلاط وهو موضع مفروش بالبلاط بين المسجد والسوق بالمدينة وهم يصلون فقلت: ألا تصلي معهم؟ فقال: قد صليت إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين. وعن جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار رواه الجماعة إلا البخاري. وعن ابن عباس: أالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا بني عبد المطلب أو يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا يطوف بالبيت ويصلي فإنه لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا عند هذا البيت يطوفون ويصلون رواه الدارقطني. الحديث الاول أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وصححه الترمذي، ورواه الدارقطني من وجهين آخرين عن جابر. قال الحافظ وهو معلول فإن المحفوظ عن جبير لاعن جابر، وقد عزا المصنف رحمه الله حديث الباب إلى مسلم، لانه لم يستثن من الجماعة إلا البخاري وهو خطأ، قال الحافظ في التلخيص: عزا المجد بن تيمية حديث جبير لمسلم فإنه قال: رواه الجماعة إلا البخاري، وهذا وهم منه تبعه عليه المحب الطبري فقال: رواه السبعة إلا البخاري. وابن الرفعة وقال: رواه مسلم، وكأنه والله أعلم لما رأى ابن تيمية عزاه إلى الجماعة دون البخاري اقتطع مسلما من بينهم واكتفى به عنهم ثم ساقه باللفظ الذي أورده ابن تيمية فأخطأ مكررا انتهى. والحديث الثاني أخرجه أيضا الطبراني
[ 116 ]
وأبو نعيم في تاريخ أصبهان، والخطيب في تلخيصه. قال ابن حجر في التلخيص: وهو معلول. وروى ابن عدي عن أبي هريرة حديث: لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وزاد في آخره: من طاف فليصل أي حين طاف وقال: لا يتابع عليه. وكذا قال البخاري، وقد استدل بحديثي الباب على جواز الطواف والصلاة عقيبه في أوقات الكراهة، وإلى ذلك ذهب الشافعي والمنصور بالله، وذهب الجمهور إلى العمل بالاحاديث القاضية بالكراهة على العموم ترجيحا لجانب ما اشتمل على الكراهة، وأنت خبير بأن حديث جبير بن مطعم لا يصلح لتخصيص أحاديث النهي المتقدمة لانه أعم منها من وجه وأخص من وجه، وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر لما عرفت غير مرة. وأما حديث ابن عباس فهو صالح لتخصيص النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر، لكن بعد صلاحيته للاحتجاج وهو معلول كما تقدم. ويؤيده حديث أبي ذر عند الشافعي بلفظ: لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة وكرر الاستثناء ثلاثا ورواه أيضا أحمد وابن عدي وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف. وذكر ابن عدي هذا الحديث من جملة ما أنكر عليه. وقال البيهقي: تفرد به عبد الله، ولكن تابعه إبراهيم بن طهمان، وهو أيضا من رواية مجاهد عن أبي ذر، وقد قال أبو حاتم وابن عبد البر والبيهقي والمنذري وغير واحد أنه لم يسمع منه. وقد رواه أيضا ابن خزيمة في صحيحه وقال: أنا أشك في سماع مجاهد من أبي ذر، وهذا الحديث إن صح كان دالا على جواز الصلاة في مكة بعد العصر وبعد الفجر، من غير فرق بين ركعتي الطواف وغيرهما من التطوعات التي لا سبب لها والتي لها سبب. [ رم ] أبواب سجود التلاوة والشكر باب مواضع السجود في الحج وص والمفصل وعن عمرو بن العا ص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان رواه أبو داود وابن ماجة.
[ 117 ]
الحديث أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم، وحسنه المنذري والنووي، وضعفه عبد الحق وابن القطان، وفي إسناده عبد الله بن منين الكلابي وهو مجهول، والراوي عنه الحرث بن سعيد العتقي المصري وهو لا يعرف أيضا، كذا قال الحافظ، وقال ابن ماكولا: ليس له غير هذا الحديث. قوله: خمس عشرة سجدة فيه دليل على أن مواضع السجود خمسة عشر موضعا، وإلى ذلك ذهب أحمد والليث وإسحاق وابن وهب وابن حبيب من المالكية، وابن المنذر وابن سريج من الشافعية، وطائفة من أهل العلم، فأثبتوا في الحج سجدتين وفي * (ص) *. وذهب أبو حنيفة وداود والهادوية إلى أنها أربع عشرة سجدة. إلا أن أبا حنيفة لم يعد في سورة الحج إلا سجدة، وعد سجدة * (ص) * والهادوية عدوا في الحج سجدتين ولم يعدوا سجدة * (ص) *. وذهب الشافعي في القديم والمالكية إلى أنها إحدى عشرة، وأخرج سجدات المفصل وهي ثلاث كما يأتي، وذهب في قوله الجديد إلى أنها أربع عشرة سجدة وعد منها سجدات المفصل ولم يعد سجدة * (ص) *. (واعلم) أن أول مواضع السجود خاتمة الاعراف. وثانيها عند قوله في الرعد: * (بالغدو والآصال) * (الرعد: 15). وثالثها عند قوله في النحل: * (ويفعلون ما يؤمرون) * (النحل: 50). ورابعها عند قوله في بني إسرائيل: * (ويزيدهم خشوعا) * (الاسراء: 109). وخامسها عند قوله في مريم: * (خروا سجدا وبكيا) * (مريم: 58). وسادسها عند قوله في الحج: * (إن الله يفعل ما يشاء) * (الحج: 18). وسابعها عند قوله في الفرقان: * (وزادهم نفورا) * (الفرقان: 60). وثامنها عند قوله في النمل: * (رب العرش العظيم) * (النمل: 26). وتاسعها عند قوله في ألم تنزيل: * (وهم لا يستكبرون) * (السجدة: 15). وعاشرها عند قوله في ص: * (وخر راكعا وأناب) * (ص: 24). والحادي عشر عند قوله في حم السجدة: * (إن كنتم إياه تعبدون) * (فصلت: 37). وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور عند قوله: * (وهم لا يسأمون) * (فصلت: 38). والثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر: سجدات المفصل وستأتي. والخامس عشر: السجدة الثانية في الحج. قوله: ثلاث في المفصل هي سجدة النجم: * (وإذا السماء انشقت) * (الانشقاق: 1). و * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1). وفي ذلك حجة لمن قال بإثباتها، ويدل على ذلك أيضا حديث ابن مسعود وابن عبا س وأبي هريرة وأبي رافع وستأتي جميعا. (واحتج من نفي سجدات المفصل) بحديث ابن عباس عند أبي داود وابن السكن في صحيحه بلفظ: لم يسجد صلى الله عليه وآله وسلفي شئ من المفصل منذ تحول إلى المدينة. وفي إسناده أبو قدامة الحرث بن عبيد، ومطر الوراق، وهما ضعيفان وإن كانا من رجال مسلم. قال النووي: حديث ابن عباس ضعيف الاسناد لا يصح الاحتجاج به انتهى. وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج
[ 118 ]
فالاحاديث المتقدمة مثبتة وهي مقدمة على النفي ولا سيما مع إجماع العلماء على أن إسلام أبي هريرة كان سنة سبع من الهجرة، وهو يقول في حديثه الآتي: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في: * (إذا السماء انشقت) * (الانشقاق: 1). و * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1). وأما الاحتجاج على عدم مشروعية السجود في المفصل بحديث زيد بن ثابت الآتي فسيأتي الجواب عنه. قوله: وفي الحج سجدتان فيه حجة لمن أثبت في سورة الحج سجدتين ويؤيد ذلك حديث عقبة بن عامر عند أحمد وأبي داود والترمذي وقال: إسناده ليس بالقوي، والدارقطني والبيهقي والحاكم بلفظ: قلت يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟ قال: نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما وفي إسناده ابن لهيعة ومشرح بن عاهان وهما ضعيفان. وقد ذكر الحاكم أنه تفرد به، وأكده بأن الرواية صحت فيه من قول عمر وابنه وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى وعمار، ثم ساقها موقوفة عنهم، وأكده البيهقي بما رواه في المعرفة من طريق خالد بن معدان مرسلا. (وحديث الباب) يدل على مشروعية سجود التلاوة. قال النووي في شرح مسلم: قد أجمع العلماء على إثبات سجود التلاوة، وهو عند الجمهور سنة، وعند أبي حنيفة واجب ليس بفرض، وسيأتي ذكر ما احتج به الجمهور وما احتج به أبو حنيفة. وعن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ * (والنجم) * (النجم: 1) فسجد فيها، وسجد من كان معه، غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا متفق عليه. قوله: غير أن شيخا من قريش صرح البخاري في التفسير من صحيحه أنه أمية بن خلف. ووقع في سيرة ابن إسحاق أنه الوليد بن المغيرة، قال الحافظ: وفيه نظر لانه لم يقتل. وفي تفسير سنيد الوليد بن المغيرة أو عقبة بن ربيعة بالشك وفيه نظر، لما أخرجه الطبراني من حديث مخرمة بن نوفل قال: لما أظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاسلام أسلم أهل مكة، حتى أن كان ليقرأ السجدة فيسجدون فلا يقدر بعضهم أن يسجد من الزحام، حتى قدم رؤساء قريش الوليد بن المغيرة وأبو جهل وغيرهما وكانوا بالطائف فرجعوا وقالوا: تدعون دين آبائكم ولكن في هذا نظر لقول أبي سفيان في حديثه الطويل الثابت في الصحيح أنه لم يرتد أحد ممن أسلم. قال في الفتح: ويمكن الجمع بأن النفي مقيد بمن ارتد سخطا لدينه لا لسبب مراعاة خاطر رؤسائه. وروى
[ 119 ]
الطبراني عن سعيد بن جبير أن الذي رفع التراب فسجد عليه سعيد بن العاص بن أمية. وذكر أبو حيان في تفسيره أنه أبو لهب. وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي هريرة: أنهم سجدوا في النجم إلا رجلين من قريش أرادا بذلك الشهرة. وللنسائي من حديث المطلب بن أبي وداعة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النجم فسجد وسجد من معه، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ولم يكن المطلب يومئذ أسلم. وإذا ثبت ذلك فلعل ابن مسعود لم يره أو خصه وحده بذكره لاختصاصه بأخذ الكف من التراب دون غيره. (والحديث) فيه مشروعية السجود لمن حضر عند القارئ للآية التي فيها السجدة. قال القاضي عياض: وكأن سبب سجودهم فيما قال ابن مسعود أنها أول سجدة نزلت، وأما ما يرويه الاخباريون والمفسرون أن سبب ذلك ما جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم فباطل لا يصح فيه شئ، لا من جهة العقل ولامن جهة النقل، لان مدح إله غير الله كفر، ولا يصح نسبة ذلك إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أن يقوله الشيطان على لسانه، ولا يصح تسلط الشيطان على ذلك، كذا في شرح مسلم للنووي. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس رواه البخاري والترمذي وصححه. وعن أبي هريرة قال: سجدنا مع النبي (ص) في: * (إذا السماء انشقت) * (الانشقاق: 1) و: * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1) رواه الجماعة إلا البخاري. قوله: سجد بالنجم زاد الطبراني في الاوسط من هذا الوجه بمكة. قال الحافظ: فأفاد اتحاد قصة ابن عباس وابن مسعود. قوله: والجن كأن مستند ابن عباس في ذلك إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إما مشافهة له وإما بواسطة، لانه لم يحضر القصة لصغره، وأيضا فهو من الامور التي لا يطلع عليها إلا بتوقيف. وتجويز أنه كشف له عن ذلك بعيد لانه لم يحضرها قطعا، قاله الحافظ. قوله: * (إذا السماء انشقت) * و * (اقرأ باسم ربك) * فيه دليل على إثبات السجود في المفصل، وقد تقدم الخلاف في ذلك. (والحديثان) يدلان على مشروعية سجود التلاوة، وقد تقدم أنه مجمع عليه. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: ليست * (ص) * من عزائم السجود، ولقد رأيت النبي (ص) يسجد فيها رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه. وعن
[ 120 ]
ابن عباس: أن النبي (ص) سجد في * (ص) *. وقال: سجدها داود عليه السلام توبة ونسجدها شكرا. رواه النسائي. وعسعيد قال: قرأ رسول الله (ص) وهو على المنبر * (ص) * فلما بلغ السجدة نز سجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود فقال رسول الله (ص): إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود فنزل فسجد وسجدوا رواه أبو داود. الحديث الاول أخرجه أيضا النسائي، والحديث الثاني أخرجه أيضا الشافعي في الام عن ابن عيينة، عن أيوب، عن عكرمة، وأخرجه أيضا عن سفيان، عن عمر بن ذر عن أبيه، قال البيهقي: وروى من وجه آخر عن عمر بن ذر عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موصولا وليس بالقوي. قال الحافظ: وقد رواه النسائي من حديث حجاج بن محمد عن عمر بن ذر موصولا. ورواه الدارقطني من حديث عبد الله بن بزيع عن عمر بن ذر نحوه. وأعله ابن الجوزي به يعني بعبد الله بن بزيع وقد توبع وصححه ابن السكن. والحديث الثالث سكت عليه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح، وأخرجه أيضا الحاكم، وذكر البيهقي عن جماعة من الصحابة أنهم سجدوا في * (ص) *. قوله: ليست من عزائم السجود. المراد بالعزائم ما وردت العزيمة في فعله كصيغة الامر مثلا، بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من لا يقول بالوجوب، وقد روى ابن المنذر وغيره عن علي عليه السلام أن العزائم: حم، والنجم، واقرأ، وألم تنزيل. قال الحافظ في الفتح، وإسناده حسن، قال: وكذا أثبت عن ابن عباس في الثلاثة الاخر، وقيل: الاعراف، وسبحان، وحم، وألم، أخرجه ابن أبي شيبة. قوله: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها في البخاري في تفسير * (ص) * من طريق مجاهد عن ابن عباس، وكذا لابن خزيمة أنه سأل ابن عباس من أين أخذت السجود في * (ص) * فقال: من قوله تعالى: * (ومن ذريته داود وسليمان) * إلى قوله: * (فبهداهم اقتده) * (الانعام: 90 84). ففيه هذا أنه استنبط مشروعية السجود فيها من الآية، والذي في الباب يدل على أنه أخذه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا تعارض بينهما، لاحتمال أنه استفاده من الطريقين، وإنما لم تكن السجدة في * (ص) * من العزائم لانها وردت بلفظ الركوع، فلولا التوقيف ما ظهر أن فيها سجدة. قوله: سجدها داود توبة ونسجدها شكرا استدل به الشافعي، على أنه
[ 121 ]
لا يشرع السجود فيها في الصلاة، لان سجود الشكر غير مشروع فيها، وكذلك استدل من قال بأن السجود فيها غير مؤكد بحديث أبي سعيد المذكور في الباب، لان الظاهر من سياقه أنها ليست من مواطن السجود لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما هي توبة نبي ثم تصريحه بأن سبب سجوده تشزنهم للسجود. قوله: تشزن الناس بالشين المعجمة والزاي والنون. قال الخطابي في المعالم: هو من الشزن وهو القلق، يقال: باب على شزن إذا بات قلقا يتقلب من جنب إلى جنب، استشزنوا إذا تهيؤوا للسجود. [ رم ] باب قراءة السجدة في صلاة الجهر والسر عن أبي رافع الصائغ قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: * (إذا السماء انشقت) * فسجد فيها، فقلت: ما هذه؟ فقال: سجدت بها خلف أبي القاسم (ص) فما أزال أسجد فيها حتى ألقاه متفق عليه. قوله: فسجد فيها في رواية للبخاري: فسجد بها والباء ظرفية. قوله: فقلت ما هذه قيل: هو استفهام إنكار، وكذا وقع في البخاري عن أبي سلمة أنه قال لابي هريرة: ألم أرك تسجد؟ وحمل ذلك منه على استفهام الانكار، وبذلك تمسك من رأى ترك السجود للتلاوة في الصلاة، ومن رأى تركه في المفصل، ويجاب عن ذلك بأن أبا رافع وأبا سلمة لم ينكرا على أبي هريرة بعد أن أعلمهما بالسنة في هذه المسألة ولا احتجا عليه بالعمل على خلاف ذلك. قال ابن عبد البر: وأي عمل يدعي مع مخالفة النبي (ص) والخلفاء الراشدين بعده. (والحديث) يدل على مشروعية سجود التلاوة في الصلاة، لان ظاهر السياق أن سجوده صلى الله عليه وآله وسلم كان في الصلاة. وفي الفتح أن في رواية أبي الاشعث عن معمر التصريح بأن سجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها كان داخل الصلاة، وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء، ولم يفرقوا بين صلاة الفريضة والنافلة. وذهب الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله إلى أنه لا يسجد في الفرض فإن فعل فسدت، واستدلوا على ذلك بما أخرجه أبو داود عن ابن عمر أنه قال: كان رسول الله (ص) يقرأ علينا السورة. زاد ابن نمير: في غير الصلاة فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته وفي مسلم عنه أنه
[ 122 ]
قال: ربما قرأ رسول الله (ص) القرآن فيمر بالسجدة فيسجد بنا حتى ازدحمنا عنده، حتى ما يجد أحدنا مكانا يسجد فيه في غير صلاة. والحديث في البخاري بدون قوله في غير صلاة كما سيأتي. وهذا تمسك بمفهوم قوله في غير صلاة، وهو لا يصلح للاحتجاج به، لان القائل بذلك ذكر صفة الواقعة التي وقع فيها السجود المذكور، وذلك لا ينافي ما ثبت من سجوده صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة، كما في حديث الباب، وحديث ابن عمر نفسه الآتي. وبهذا الدليل يرد على من قال بكراهة قراءة ما فيه سجدة في الصلاة السرية والجهرية، كما روي عن مالك، أو السرية فقط كما روي عن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل. وعن ابن عمر: أن النبي (ص) سجد في الركعة الاولى من صلاة الظهر فرأى أصحابه أنه قرأ تنزيل السجدة. رواه أحمد وأبو داود ولفظه: سجد في صلاة الظهر ثم قام فركع فرأينا أنه قرأ: * (ألم تنزل السجدة) * (السجدة: 1). الحديث أخرجه أيضا الطحاوي والحاكم وفي إسناده أمية شيخ لسليمان التيمي، رواه له عن أبي مجلز وهو لا يعرف، قاله أبو داود في رواية الرملي عنه، وفي رواية الطحاوي عن سليمان عن أبي مجلز قال: ولم يسمعه منه ولكنه عند الحاكم بإسقاطه. قال الحافظ: ودلت رواية الطحاوي على أنه مدلس. (والحديث) يدل على مشروعية سجود التلاوة في الصلاة السرية، وقد تقدم الخلاف في ذلك. باب سجود المستمع إذا سجد التالي وأنه إذا لم يسجد لم يسجد عن ابن عمر قال: كان رسول الله (ص) يقرأ علينا السورة فيقرأ السجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته متفق عليه. ولمسلم في رواية: في غير صلاة. قوله: يقرأ علينا السورة زاد البخاري في رواية: ونحن عنده. قوله: لموضع جبهته يعني من شدة الزحام، وقد اختلف فيمن لم يجد مكانا يسجد عليه فقال ابن عمر: يسجد على ظهر أخيه، وبه قال الكوفيون وأحمد وإسحاق، وقال عطاء والزهري: يؤخر حتى يرفعوا، وبه قال مالك والجمهور، وهذا الخلاف في سجود الفريضة، قال في الفتح: وإذا كان هذا في سجود الفريضة فيجري مثله في سجود التلاوة، ولم يذكر ابن عمر في هذا الحديث ما كانوا
[ 123 ]
يصنعون حينئذ ولذلك وقع الخلاف المذكور. ووقع في الطبراني من طريق مصعب بن ثابت عن نافع في هذا الحديث: إن ذلك كان بمكة لما قرأ النبي (ص) النجم. وزاد فيه: حتى سجد الرجل على ظهر الرجل قال الحافظ: الذي يظهر أن هذا الكلام وقع من ابن عمر على سبيل المبالغة في أنه لم يبق أحد إلا سجد، قال: وسياق حديث الباب مشعر بأن ذلك وقع مرارا، ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني من رواية المسور بن مخرمة عن أبيه قال: أظهر أهل مكة الاسلام يعني في أول البعثة حتى أن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقرأ السجدة فيسجد وما يستطيع بعضهم أن يسجد من الزحام حتى قدم رؤساء مكة وكانوا في الطائف فرجعوهم عن الاسلام. قوله: في غير صلاة قد تقدم أنه تمسك بهذه الرواية من قال: إنه لا سجود للتلاوة في صلاة الفرض، وتقدم الجواب عليه. (والحديث) يدل على مشروعية السجود لمن سمع الآية التي يشرع فيها السجود إذا سجد القارئ لها. وعن عطاء بن يسار: أن رجلا قرأ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجدة فسجد فسجد النبي (ص)، ثم قرأ آخر عنده السجدة فلم يسجد فلم يسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله قرأ فلان عندك السجدة فسجدت وقرأت فلم تسجد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كنت إمامنا فلو سجدت سجدت رواه الشافعي في مسنده هكذا مرسلا. قال البخاري: وقال ابن مسعود لتميم بن حذلم وهو غلام فقرأ عليه سجدة فقال: اسجد فإنك إمامنا فيها. الحديث أخرجه أبو داود في المراسيل. وقال البيهقي: رواه قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقرة ضعيف، وأخرج ابن أبي شيبة من رواية ابن عجلان عن زيد بن أسلم قال: إن غلاما قرأ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجدة، فانتظر الغلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما لم يسجد قال: يا رسول الله ليس في هذه السجدة سجود؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: بلى ولكنك كنت إمامنا فيها ولو سجدت لسجدنا. قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات إلا أنه مرسل. قوله: قال البخاري هذا الاثر ذكره البخاري تعليقا، ووصله سعيد بن منصور من رواية مغيرة عن إبراهيم. قوله: ابن حذلم بفتح المهملة واللام بينهما معجمة ساكنة. (والحديث) يدل على أن سجود التلاوة لا يشرع للسامع إلا إذا سجد القارئ، قال ابن بطال: أجمعوا على
[ 124 ]
أن القارئ إذا سجد لزم المستمع أن يسجد. وقد اختلف العلماء في اشتراط السماع لآية السجدة، وإلى اشتراط ذلك ذهبت العترة وأبو حنيفة والشافعي وأصحابه، لكن الشافعي شرط قصد الاستماع، والباقون لم يشترطوا ذلك. وقال الشافعي في البويطي: لا أؤكد على السامع كما أؤكد على المستمع. وقد روى البخاري عن عثمان بن عفان وعمران بن حصين وسلمان الفارسي أن السجود إنما شرع لمن استمع، وكذلك روى البيهقي وابن أبي شيبة عن ابن عباس. وعن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنجم فلم يسجد فيها رواه الجماعة إلا ابن ماجة. ورواه الدارقطني وقال فلم يسجد منا أحد. الحديث احتج به من قال: إن المفصل لا يشرع فيه سجود التلاوة، وهم المالكية والشافعي في أحد قوليه كما تقدم، واحتج به أيضا من خص سور النجم بعدم السجود وهو أبو ثور، وأجيب عن ذلك بأن تركه صلى الله عليه وآله وسلم للسجود في هذه الحالة لا يدل على تركه مطلقا، لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك، إما لكونه كان بلا وضوء، أو لكون الوقت كان وقت كراهة، أو لكون القارئ لم يسجد، أو كان الترك لبيان الجواز، قال في الفتح: وهذا أرجح الاحتمالات، وبه جزم الشافعي، وقد تقدم حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس. وروى البزار والدارقطني عن أبي هريرة أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد في سورة النجم وسجدنا معه. قال في الفتح: ورجاله ثقات. وروى ابن مردويه بإسناد حسنه الحافظ عن أبي هريرة أنه سجد في خاتمة النجم، فسأل عن ذلك فقال: إنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد فيها. وقد تقدم أن أبا هريرة إنما أسلم سنة سبع من الهجرة. واستدل المصنف رحمه الله بحديث الباب على عدم وجوب السجود فقال ما لفظه: وهو حجة في أن السجود لا يجب اه. واستدل من قال بالوجوب بالاوامر الواردة به في القرآن كما في ثانية الحج، وخاتمة النجم، وسورة اقرأ، ولا يخفى أن هذا الدليل أخص من الدعوى، وأيضا القائل بالوجوب وهو أبي حنيفة لا يقول بوجوب السجود في ثانية الحج كما تقدم، ومقتضى دليله هذا أن يكون أوجبه.
[ 125 ]
باب السجود على الدابة وبيان أنه لا يجب بحال عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ عام الفتح سجدة فسجد الناس كلهم منهم الراكب والساجد في الارض حتى إن الراكب ليسجد على يده رواه أبو داود. الحديث في إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وقد ضعفه غير واحد من الائمة. قوله: والساجد في الارض أي ومنهم الساجد في الارض. قوله: ليسجد على يده فيه جواز سجود الراكب على يده في سجود التلاوة، وهو يدل على جواز السجود في التلاوة لمن كان راكبا من دون نزول، لان التطوعات على الراحلة جائزة كما تقدم وهذا منها. وعن عمر: أنه قرأ على المنبر يوم الجمعة سورة النحل حتى جاء السجدة فنزل وسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: أيها الناس إنا لم نؤمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه رواه البخاري. وفي لفظ: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. الاثر أخرجه أيضا مالك في الموطأ والبيهقي وأبو نعيم في مستخرجه وابن أبي شيبة. وقد استدل به القائلون بعدم الوجوب، وأجابت الحنفية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب، بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب، قال في الفتح: وتعقب بأنه اصطلاح لهم حادث، وما كان الصحابة يفرقون بينهما، ويغني عن هذا. قوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه. وتعقب أيضا بقوله: إلا أن نشاء، فإنه يدل على أن المرء مخير في السجود، فلا يكون واجبا، وأجاب من أوجبه بأن المعنى إلا أن نشاء قراءتها فتجب. قال الحافظ: ولا يخفى بعده. ويرده أيضا قوله: فلا إثم عليه فإن انتفاء الاثم عمن ترك الفعل مختارا يدل على عدم وجوبه، واستدل بهذا الاستثناء على وجوب إتمام السجود على من شرع فيه، لان الظاهر أنه استثناء من قوله: لم يفرض وأجيب بأنه استثناء منقطع ومعناه لكن ذلك موكول إلى مشيئة المرء بدليل قوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه. (لا يقال) الاستدلال يقول عمر على عدم الوجوب لا يكون مثبتا للمطلوب لانه قول صحابي،
[ 126 ]
ولا حجة فيه لانه يقال أولا أن القائل بالوجوب وهم الحنفية يقولون بحجية أقوال الصحابة. وثانيا أن تصريحه بعدم الفرضية وبعدم الاثم على التارك في مثل هذا الجمع من دون صدور إنكار يدل على إجماع الصحابة على ذلك، والاثر أيضا يدل على جواز قراءة القرآن في الخطبة، وجواز نزول الخطيب عن المنبر وسجوده إذا لم يتمكن من السجود فوق المنبر. وعن مالك أنه يقرأ في خطبته: ولا يسجد وهذا الاثر وارد عليه. باب التكبير للسجود وما يقول فيه عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا رواه أبو داود. الحديث في إسناده العمري عبد الله المكبر وهو ضعيف. وأخرجه الحاكم من رواية العمري أيضا، لكن وقع عنده مصغرا، والمصغر ثقة، ولهذا قال على شرط الشيخين. قال الحافظ: وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر بلفظ آخر، قال عبد الرزاق: كان الثوري يعجبه هذا الحديث، وقد أخرج مسلم لعبدالله العمري المذكور في صحيحه لكن مقرونا بأخيه عبيد الله. (والحديث) يدل على أنه يشرع التكبير لسجود التلاوة، وإلى ذلك ذهبت الهادوية وبعض أصحاب الشافعي، قال أبو طالب: ويكبر بعد تكبيرة الافتتاح تكبيرة أخرى للنقل، وحكى في البحر عن العترة أنه لا تشهد في سجود التلاوة ولا تسليم. وقال بعض أصحاب الشافعي: بل يتشهد ويسلم كالصلاة، وقال بعض أصحاب الشافعي: يسلم قياسا للتحليل على التحريم، ولا يتشهد إذ لا دليل. ولهم في السائر وجهان: يومئ للعذر ويسجد، إذ الايماء ليس بسجود. وفي الاستغناء عنه بالركوع قولان: الهادوية والشافعي لا يغني إذ لم يؤثر، وقال أبو حنيفة: نغني إذ القصد الخضوع. وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في سجود القرآن بالليل: سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه الترمذي. وعن ابن عباس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه رجل فقال: إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني أصلي إلى أصل شجرة فقرأت السجدة فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول: اللهم أحطط عني
[ 127 ]
بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، قال ابن عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قر السجدة فسجد فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة رواه ابن ماجة والترمذي وزاد فيه: وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام. الحديث الاول أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم والبيهقي، وصححه ابن السكن وقال في آخره: ثلاثا وزاد الحاكم: فتبارك الله أحسن الخالقين وزاد البيهقي: وصوره بعد قوله: خلقه ولمسلم نحو من حديث علي في سجود الصلاة وقد تقدم. وللنسائي أيضا نحوه من حديث جابر في سجود الصلاة أيضا. والحديث الثاني أخرجه أيضا الحاكم وابن حبان وفي إسناده الحسن بن محمد بن عبيدالله بن أبي يزيد. قال العقيلي: فيه جهالة. (وفي الباب) عن أبي سعيد الخدري عند البيهقي، واختلف في وصله وإرساله، وصوب الدارقطني في العلل رواية حماد عن حميد عن بكر أن أبا سعيد رأى فيما يرى النائم وذكر الحديث. (والحديثان) يدلان على مشروعية الذكر في سجود التلاوة بما اشتملا عليه. (فائدة): ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدل على اعتبار أن يكون الساجد متوضئا، وقد كان يسجد معه صلى الله عليه وآله وسلم من حضر تلاوته، ولم ينقل أنه أمر أحدا منهم بالوضوء، ويبعد أن يكونوا جميعا متوضئين، وأيضا قد كان يسجد معه المشركون كما تقدم وهم أنجاس لا يصح وضوءهم، وقد روى البخاري عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير وضوء. وكذلك روى عنه ابن أبي شيبة. وأما ما رواه البيهقي عنه بإسناد قال في الفتح: صحيح أنه قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر فيجمع بينهما بما قال الحافظ من حمله على الطهارة الكبرى أعلى حالة الاختيار، والاول على الضرورة، وهكذا ليس في الاحاديث ما يدل على اعتبار طهارة الثياب والمكان، وأما ستر العورة والاستقبال مع الامكان فقيل إنه معتبر اتفاقا، قال في الفتح: لم يوافق ابن عمر أحد على جواز السجود بلا وضوء إلا الشعبي، أخرجه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح. وأخرج أيضا عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ السجدة ثم يسجد وهو على غير وضوء إلى غير القبلة، وهو يمشي يومئ إيماء، ومن الموافقين لابن عمر من أهل البيت أبو طالب والمنصور بالله. (فائدة أخرى): روي عن بعض
[ 128 ]
الصحابة أنه يكره سجود التلاوة في الاوقات المكروهة، والظاهر عدم الكراهة، لان السجود المذكور ليس بصلاة، والاحاديث الواردة بالنهي مختصة بالصلاة. باب سجدة الشكر عن أبي بكرة: أن النبي (ص) كان إذا أتاه أمر يسره أو بشر به خر ساجدا شكرا لله تعالى رواه الخمسة إلا النسائي. ولفظ أحمد: أنه شهد النبي (ص) أتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة فقام فخر ساجدا فأطال السجود، ثم رفع رأسه فتوجه نحو صدفته فدخل فاستقبل القبلة. وعن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج النبي (ص) فتوجه نحو صدفته فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجدا فأطال السجود، ثم رفع رأسه وقال: إن جبريل أتاني فبشرني فقال: إن الله عز وجل يقول لك: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله شكرا رواه أحمد. حديث أبي بكرة قال الترمذي: هو حسن غريب، وفي إسناده بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن جده وهو ضعيف عند العقيلي وغيره. وقال ابن معين: إنه صالح الحديث، وحديث عبد الرحمن بن عوف أخرجه أيضا البزار وابن أبي عاصم في فضل الصلاة على النبي (ص)، والعقيلي في الضعفاء والحاكم. (وفي الباب) عن أنس عند ابن ماجة بنحو حديث أبي بكرة وفي سنده ضعف واضطراب. وعن جابر عن ابن حبان في الضعفاء: أن رسول الله (ص) رأى رجلا نغاشيا فخر ساجدا ثم قال: أسأل الله العافية. والنغاش بضم النون وبالغين والشين المعجمتين القصير الضعيف الحركة الناقص الخلق، قاله ابن الاثير. وذكر حديث جابر الشافعي في المختصر ولم يذكر له إسنادا، وكذا صنع الحاكم في المستدرك، واستشهد به على حديث أبي بكرة، وأسنده الدارقطني والبيهقي من حديث جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي مرسلا وزاد: أن اسم الرجل زنيم، وكذا هو في مصنف ابن أبي شيبة من هذا الوجه. (وفي الباب) عن سعد بن أبي وقاص وسيأتي، قال البيهقي في الباب عن جابر وابن عمر وأنس وجرير وأبي جحيفة اه. قال المنذري: وقد جاء حديث سجدة الشكر من حديث البراء بإسناد صحيح، ومن حديث كعب بن مالك وغير ذلك اه. قوله: صدفته
[ 129 ]
بفتح الصاد والدال المهملتين والفاء. والصدفة من أسماء البناء المرتفع، وفي النهاية ما لفظه: كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي، قال: الصدف بفتحتين وضمتين كل بناء عظيم مرتفع تشبيها بصدف الجبل وهو ما قابلك من جانبه، واسم لحيوان في البحر اه. وهذه الاحاديث تدل على مشروعية سجود الشكر، وإلى ذلك ذهبت العترة وأحمد والشافعي، وقال مالك وهو مروي عن أبي حنيفة: أنه يكره، إذ لم يؤثر عنه (ص) مع تواتر النعم عليه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي رواية عن أبي حنيفة: أنه مباح لانه لم يؤثر، وإنكار ورود سجود الشكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مثل هذين الامامين مع وروده عنه صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الطرق التي ذكرها المصنف وذكرناها من الغرائب. ومما يؤيد ثبوت سجود الشكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتقدم في سجود * (ص) *: هي لنا شكر ولداود توبة وليس في أحاديث الباب ما يدل على اشتراط الوضوء وطهارة الثياب والمكان، وإلى ذلك ذهب الامام يحيى وأبو طالب. وذهب أبو العباس والمؤيد بالله والنخعي وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يشترط في سجود الشكر شروط الصلاة. وليس في أحاديث الباب أيضا ما يدل على التكبير في سجود الشكر، وفي البحر أنه يكبر، قال الامام يحيى: ولا يسجد للشكر في الصلاة قولا واحدا إذ ليس من توابعها، قال أبو طالب: ومستقبل القبلة. وعن سعد بن أبي وقاص قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريبا من عزوراء نزل ثم رفع يديه فدعا الله ساعة، ثم خر ساجدا فمكث طويلا، ثم قام فرفع يديه ساعة ثم خر ساجدا فعله ثلاثا وقال: إني سألت ربي وشفعت لامتي فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجدا شكرا لربي، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لامتي فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدا شكرا لربي، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لامتي فأعطاني الثلث الآخر فخررت ساجدا لربي. رواه أبو داود وسجد أبو بكر حين جاء قتل مسيلمة، رواه سعيد بن منصور وسجد على حين وجد ذا الثدية في الخوارج، رواه أحمد في مسنده وسجد كعب بن مالك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما بشر بتوبة الله عليه. وقصته متفق عليها. الحديث، قال المنذري: في إسناده موسى بن يعقوب الزمعي وفيه مقال اه. وأخرج أبو داود عن أبي موسى الاشعري قال: قال رسول الله (ص): أمتي
[ 130 ]
هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل. وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، تكلم فيه غير واحد. وقال العقيلي: تغير في آخر عمره في حديثه اضطراب. وقال ابن حبان البستي: اختلط حديثه فلم يتميز فاستحق الترك. وقد استشهد بعبد الرحمن المذكور البخاري. قوله: من عزوراء بفتح العين المهملة، وسكون الزاي، وفتح الواو بالمد، ثنية الجحفة عليها الطريق من المدينة ويقال فيها عزور. قال في القاموس: وعزور ثانية الجحفة عليها الطريق. قوله: قتل مسيلمة هو الكذاب وقصته معروفة. قوله: ذا الثدية هو رجل من الخوارج الذين قتلهم علي عليه السلام يوم النهروان. ويقال له المخدج، وكان في يده مثل ثدي المرأة، على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي، عليه شعرات مثل سبالة السنور، وقصته مشهورة، ذكرها مسلم في صحيحه وأبو داود وغيرهما. قوله: وقصته متفق عليها وهي مطولة في الصحيحين وغيرهما. وحاصلها أنه تخلف عن غزوة تبوك بلا عذر، واعترف بذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعتذر بالاعذار الكاذبة كما فعل ذلك المختلفون من المنافقين، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس عن تكليمه، وأمر بمفارقة زوجته حتى ضاقت عليه وعلى صاحبيه اللذين اعترفاكما اعترف الارض بما رحبت، كما وصف الله ذلك في كتابه، ثم بعد خمسين ليلة تاب الله عليهم، فلما بشر بذلك سجد شكرا لله تعالى. (والحديث) يدل على مشروعية سجود الشكر، وكذلك الآثار المذكورة، وقد تقدم الخلاف في ذلك. [ رم ] أبواب سجود السهو باب ما جاء فيمن سلم من نقصان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي فصلى ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الايمن على ظهر كفه اليسرى وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا:
[ 131 ]
قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل يقال له ذو اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه ثم سلم، فيقول: أنبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم متفق عليه. وليس لمسلم فيه وضع اليد على اليد ولا التشبيك. وفي رواية: قال: بينما أنا أصلي مع النبي (ص) صلاة الظهر سلم من ركعتين فقام رجل من بني سليم فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ وساق الحديث. رواه أحمد ومسلم. وهذا يدل على أن القصة كانت بحضرته وبعد إسلامه. وفي رواية متفق عليها لما قال: لم أنس ولم تقصر، قال: بلى قد نسيت. وهذا يدل على أن ذا اليدين تكلم بعدما علم عدم النسخ كلاما ليس بجواب سؤال. قال الحافظ في التلخيص: لهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ، وقد جمع جميع طرقه الحافظ صلاح الدين العلائي وتكلم عليه كلاما شافيا انتهى. (وفي الباب) عن ابن عمر عند أبي داود وابن ماجة. وعن ذي اليدين عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والبيهقي. وعن ابن عباس عند البزار في مسنده والطبراني. وعن عبد الله بن مسعدة عند الطبراني في الاوسط. وعن معاوية بن خديج عند أبي داود والنسائي. وعن أبن العريان عند الطبراني في الكبير. قال ابن عبد البر في التمهيد: وقد قيل إن أبا العريان المذكور هو أبو هريرة. وقال النووي في الخلاصة: إن ذا اليدين يكنى أبا العريان، قال العراقي: كلا القولين غير صحيح، وأبو العريان صحابي آخر لا يعرف اسمه، ذكره الطبراني فيهم في الكنى، وكذلك أورده أبو موسى المديني في ذيله على ابن مندة في الصحابة. قوله: صلى بنا ظاهره أن أبا هريرة حضر القصة وحمله الطحاوي على المجاز، قال: إن المراد به صلى بالمسلمين، وسبب ذلك قول الزبيري: إن صاحب القصة استشهد ببدر، لانه يقتضي أن القصة وقعت قبل بدر، وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين، لكن اتفق أئمة الحديث كما نقله ابن عبد البر وغيره على أن الزهري وهم في ذلك، وسببه أنه جعل القصة لذي الشمالين وذو الشمالين هو الذي قتل ببدر، وهو خزاعي، واسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة. وأما ذو اليدين فتأخر بعد موت النبي (ص) بمدة، وحدث بهذا الحديث بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أخرج ذلك الطبراني واسمه الخرباق كما
[ 132 ]
سيأتي، وقد جوز بعض الائمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين، فأرسل أحدهما وهو قصة ذي الشمالين، وشاهد الآخر وهو قصة ذي اليدين. قال في الفتح: وهذا محتمل في طريق الجمع، وقيل: يحمل على أن ذاالشمالين كان يقال له أيضا ذو اليدين وبالعكس، فكان ذلك سبب الاشتباه، ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطحاوي الرواية الاخرى التي ذكرها المصنف بلفظ: بينما أنا أصلي مع النبي (ص) قال الحافظ في الفتح: وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين، ونص على ذلك الشافعي في اختلاف الحديث. قوله: إحدى صلاتي العشي قال النووي: هو بفتح العين المهملة وكسر الشين المعجمة وتشديد الياء، قال: قال الازهري: العشي عند العرب ما بين زوال الشمس وغروبها، ويبين ذلك ما وقع عند البخاري من حديث أبي هريرة قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر أو العصر. وفي رواية له قال محمد يعني ابن سيرين: وأكثر ظني أنها العصر. وفي مسلم: العصر من غير شك. وفي رواية له: الظهر كذلك كما ذكر المصنف. وفي رواية له أيضا: إحدى صلاتي العشي، إما الظهر وإما العصر. قال في الفتح: والظاهر أن الاختلاف فيه من الرواة، وأبعد من قال يحمل على أن القصة وقعت مرتين، بل روى النسائي من طريق ابن عوف عن ابن سيرين أن الشك فيه من أبي هريرة ولفظه صلى الله عليه وآله وسلم إحدى صلاتي العشي، قال أبو هريرة: ولكني نسيت فالظاهر أن أبا هريرة رواه كثيرا على الشك، وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها، وتارة غلب على ظنه أنها العصر فجزم بها، وطرأ الشك أيضا في تعيينها على ابن سيرين، وكأن سبب ذلك الاهتمام بما في القصة من الاحكام الشرعية. قوله: فقام إلى خشبة في المسجد في رواية للبخاري: في مقدم المسجد. ولمسلم: في قبلة المسجد. قوله: السرعان بفتح المهملات ومنهم من يسكن الراء، وحكى عياض أن الاصيلي ضبطه بضم ثم إسكان كأنه جمع سريع، والمراد بهم أول الناس خروجا من المسجد وهم أهل الحاجات غالبا. قوله: فهابا في رواية للبخاري: فهاباه بزيادة الضمير، والمعنى أنه غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه، وأما ذو اليدين فغلب عليه حرصه على تعلم العلم. قوله: يقال له ذو اليدين قال القرطبي: هو كناية عن طولهما، وعن بعض شراح التنبيه أنه كان قصير اليدين، وجزم ابن قتيبة أنه كان يعمل بيديه جميعا. وذهب الاكثر
[ 133 ]
إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق بكسر المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة وآخره قاف، اعتمادا على ما وقع في حديث عمران بن حصين الآتي. قال في الفتح: وهذا موضع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد، والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين، ففي حديث أبي هريرة: أن السلام وقع من اثنتين، وأنه (ص) قام إلى خشبة في المسجد. وفي حديث عمران: أنه سلم من ثلاث ركعات، وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة، فأما الاول فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفي فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة، لانه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، واستفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة عن صحة قوله. وأما الثاني فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله، لكون الخشبة كانت في جهة منزله، فإن كان كذلك وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه، كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجة وابن خزيمة، ولموافقة ذي اليدين، كما أخرجه أبو بكر الاثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وأبو بكر بن أبي خيثمة وغيرهم انتهى. قوله: لم أنس ولم تقصر هو تصريح بنفي النسيان ونفي القصر، وهو مفسر لما عند مسلم بلفظ: كل ذلك لم يكن وتأييد لما قاله علماء المعاني أن لفظ كل إذا تقدم، وعقبه نفي كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخر، ولهذا أجاب ذو اليدين بقوله: قد كان بعض ذلك كما في صحيح مسلم. وفي البخاري ومسلم أنه قال: بلى قد نسيت كما ذكر المصنف. (وفيه دليل) على جواز دخول السهو عليه صلى الله عليه وآله وسلم في الاحكام الشرعية وقد نقل عياض والنووي الاجماع على عدم جواز دخول السهو في الاقوال التبليغية، وخصا الخلاف بالافعال وقد تعقبا، قال الحافظ: نعم اتفق من جوز ذلك، على أنه لايقر عليه بل يقع له بيان ذلك، إما متصلا بالفعل أو بعده، كما وقع في هذا الحديث. وفائدة جواز السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره. وأما من منع السهو مطلقا منه (ص) فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة: منها أن قوله (ص): لم أنس على ظاهره وحقيقته، وأنه كان متعمدا لذلك ليقع منه التشريع بالفعل لكونه أبلغ من القول، ويكفي في رد هذا تقريره
[ 134 ]
(ص) لذي اليدين على قوله: بلى قد نسيت وأصرح من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون وهو متفق عليه من حديث ابن مسعود كما سيأتي. ومن أجوبتهم أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لا أنسى ولكن أنسى لاسن يدل على عدم صدور النسيان منه، وتعقب بما قاله الحافظ في الفتح أن هذا الحديث لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد. وأيضا هو أحد الاحاديث الاربعة التي تكلم عليها في الموطأ. (ومن أجوبتهم) أيضا حديث إنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على من قال: نسيت آية كذا وكذا وقال: بئسما لاحدكم أن يقول: نسيت آية كذا وكذا وتعقب بأنه لا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شئ، فإن الفرق بينهما واضح جدا. (ومن أجوبتهم) أن قوله: لم أنس راجع إلى السلام أي سلمت قصدا بانيا على ما في اعتقادي أني صليت أربعا. قال الحافظ: وهذا جيد، وكأن ذا اليدين فهم العموم فقال: بلى نسيت، والكلام في ذلك محله علم الكلام والاصول. وقد تكلم عياض في الشفاء بما يشفي، فمن أراد البسط فليرجع إليه، وهذا كله مبني على أن معنى السهو والنسيان واحد، وأما من فرق بينهما فله أن يقول هذه الادلة وإن دلت على أنه وقع النسيان منه صلى الله عليه وآله وسلم فهي لا تستلزم وقوع السهو. قوله: فصلى ما ترك فيه جواز البناء على الصلاة التي خرج منها المصلي قبل تمامها ناسيا، وإلى ذلك ذهب الجمهور، كما قال العراقي من غير فرق بين من سلم من ركعتين أو أكثر أو أقل. وقال سحنون: إنما يبني من سلم من ركعتين كما في قصة ذي اليدين، لان ذلك وقع على غير القياس، فيقتصر على مورد النص، وحديث عمران بن حصين الآتي يبطل ما زعمه من قصر الجواز على ركعتين، على أنه يلزمه أن يقصر الجواز على إحدى صلاتي العشي ولا قائل به. وذهبت الهادوية إلى أنه لا يجوز البناء على الصلاة التي خرج منها بتسليمتين من غير فرق بين العمد والسهو، وأجابوا عن حديث الباب بأن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام، اعتمادا منهم على ما سلف عن الزهري، وقد قدمنا أنه وهم، على أنه قد روى البناء عمران بن حصين كما سيأتي وإسلامه متأخر. ورواه أيضا معاوية بن خديج كما تقدمت الاشارة إلى ذلك، وإسلامه قبل موت النبي (ص) بشهرين، ومع هذا فتحريم الكلام كان بمكة، وقد حققنا ذلك في باب تحريم الكلام. (وفي حديث الباب) دليل على أن كلام الساهي لا يبطل الصلاة، وكذا
[ 135 ]
كلام من ظن التمام، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب تحريم الكلام أيضا، وفيه أيضا دليل على أن الافعال الكثيرة التي ليست من جنس الصلاة إذا وقعت سهوا أو مع ظن التمام لا تفسد الصلاة، وقد تقدم البحث في ذلك. قوله: ثم سلم ثم كبر وسجد فيه دليل لمن قال: إن سجود السهو بعد السلام، وقد اختلف أهل العلم في ذلك على ثمانية أقوال، كما ذكر ذلك العراقي في شرح الترمذي. الاول: أن سجود السهو كله محله بعد السلام، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين، وأنس بن مالك، والمغيرة بن شعبة، وأبو هريرة. وروى الترمذي عنه خلاف ذلك كما سيأتي. وروى أيضا عن ابن عباس، ومعاوية، وعبد الله بن الزبير على خلاف في ذلك عنهم. ومن التابعين: أبو سلمة بن عبد الرحمن، والحسن البصري، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والسائب القاري. وروى الترمذي عنه خلاف ذلك وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وحكى عن الشافعي قولا له. ورواه الترمذي عن أهل الكوفة، وذهب إليه من أهل البيت: الهادي، والقاسم، وزيد ابن علي، والمؤيد بالله، واستدلوا بحديث الباب وبسائر الاحاديث التي ذكر فيها السجود بعد السلام. القول الثاني: إن سجود السهو كله قبل السلام، وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة أبو سعيد الخدري، وروى أيضا عن ابن عباس، ومعاوية، وعبد الله بن الزبير على خلاف في ذلك، وبه قال الزهري، ومكحول، وابن أبي ذئب، والاوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي في الجديد وأصحابه، ورواه الترمذي عن اكثر فقهاء المدينة وعن أبي هريرة. (واستدلوا) على ذلك بالاحاديث التي ذكر فيها السجود قبل السلام وسيأتي بعضها. القول الثالث: التفرقة بين الزيادة والنقص، فيسجد للزيادة بعد السلام وللنقص قبله، وإلى ذلك ذهب مالك وأصحابه، والمزني وأبو ثور، وهو قول للشافعي، وإليه ذهب الصادق والناصر من أهل البيت. قال ابن عبد البر: وبه يصح استعمال الخبرين جميعا، قال: واستعمال الاخبار على وجهها أولى من ادعاء النسخ، ومن جهة النظر الفرق بين الزيادة والنقصان بين في ذلك، لان السجود في النقصان إصلاح وجبر، ومحال أن يكون الاصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة، وأما السجود في الزيادة فإنما هو ترغيم للشيطان، وذلك ينبغي أيكون بعد الفراغ. قال ابن العربي: ما لك أسعد قيلا وأهدى سبيلا، انتهى. ويدل على هذه التفرقة ما رواه الطبراني من حديث
[ 136 ]
عائشة في آخر حديث لها وفيه قال من سها قبل التمام فليسجد سجدتي السهو قبل أن يسلم، وإذا سها بعد التمام سجد سجدتي السهو بعد أن يسلم ولكن في إسناده عيسى بن ميمون المدني المعروف بالواسطي، وهو وإن وثقه حماد بن سلمة، وقال فيه ابن معين مرة: لا بأس به، فقد قال فيه مرة: ليس بشئ وضعفه الجمهور. القول الرابع: أنه يستعمل كل حديث كما ورد وما لم يرد فيه شئ سجد قبل السلام، وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل كما حكاه الترمذي عنه، وبه قال سليمان بن داود الهاشمي من أصحاب الشافعي، وأبو خيثمة. قال ابن دقيق العيد: هذا المذهب مع مذهب مالك متفقان في طلب الجمع، وعدم سلوك طريق الترجيح، لكنهما اختلفا في وجه الجمع. القول الخامس: أنه يستعمل كل حديث كما ورد وما لم يرد فيه شئ، فما كان نقصا سجد له قبل السلام، وما كان زيادة فبعد السلام، وإلى ذلك ذهب إسحاق بن راهويه كما حكاه عنه الترمذي. القول السادس: أن الباني على الاقل في صلاته عند شكه يسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الآتي، والمتحري في الصلاة عند شكه يسجد بعد السلام على حديث ابن مسعود الآتي أيضا، وإلى ذلك ذهب أبو حاتم بن حبان، قال: وقد يتوهم من لم يحكم صناعة الاخبار، ولا تفقه في صحيح الآثار أن التحري في الصلاة والبناء على اليقين واحد وليس كذلك، لان التحري هو أن يشك المرء في صلاته فلا يدري ما صلى، فإذا كان كذلك فعليه أن يتحرى الصواب، وليبن على الاغلب عنده، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام على خبر ابن مسعود. والبناء على اليقين هو أن يشك في الثنتين والثلاث، أو الثلاث والاربع، فإذ كان كذلك فعليه أن يبني على اليقين وهو الاقل وليتم صلاته، ثم يسجد سجدتي السهو قبل السلام على خبر عبد الرحمن بن عوف وأبي سعيد، وما اختاره من التفرقة بين التحري والبناء على اليقين قاله أحمد بن حنبل، فيما ذكره ابن عبد البر في التمهيد. وقال الشافعي وداود وابن حزم: أن التحري هو البناء على اليقين، وحكاه النووي عن الجمهور. القول السابع: أنه يتخير الساهي بين السجود قبل السلام وبعده، سواء كان لزيادة أو نقص، حكاه ابن أبي شيبة في المصنف عن علي عليه السلام، وحكاه الرافعي قولا للشافعي، ورواه المهدي في البحر عن الطبري، ودليلهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صح عنه السجود قبل السلام وبعده، فكان الكل سنة. القول الثامن: أن محله كله بعد السلام إلا في موضعين، فإن الساهي فيهما مخير. أحدهما: من قام من ركعتين ولم يجلس ولم يتشهد. والثاني: أن لا يدري أصلى ركعة أم ثلاثا أم أربعا؟ فيبني على الاقل
[ 137 ]
ويخير في السجود، وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر. وبه قال ابن حزم. وروى النووي في شرح مسلم عن داود أنه قال: تستعمل الاحاديث في مواضعها كما جاءت. قال القاضي عياض وجماعة من أصحاب الشافعي: ولا خلاف بين هؤلاء المختلفين وغيرهم من العلماء أنه لو سجد قبل السلام أو بعد للزيادة أو للنقص أنه يجزئه ولا تفسد صلاته، وإنما اختلافهم في الافضل. قال النووي: وأقوى المذاهب هنا مذهب مالك ثم الشافعي. وقال ابن حزم في مذهب مالك: أنه رأى لا برهان على صحته، قال: وهو أيضا مخالف للثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمره بسجود السهو قبل السلام من شك فلم يدر كم صلى وهو سهو زيادة، ثم قال: ليت شعري من أين لهم أن جبر الشئ لا يكون إلا فيه لا بائنا عنه، وهم مجمعون على أن الهدى والصيام يكونان جبرا لما نقص من الحج وهما بعد الخروج عنه، وأن عتق الرقبة أو الصدقة أو صيام الشهرين جبرا لنقص وطئ التعمد في نهار رمضان، وفعل ذلك لا يجوز إلا بعد تمامه اه. وأحسن ما يقال في المقام أنه يعمل على ما تقتضيه أقواله وأفعاله (ص) من السجود قبل السلام وبعده، فما كان من أسباب السجود مقيدا بقبل السلام سجد له قبله، وما كان مقيدا ببعد السلام سجد له بعده، وما لم يرد تقييده بأحدهما كان مخيرا بين السجود قبل السلام وبعده، من غير فرق بين الزيادة والنقص، لما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين. وجميع أسباب السجود لا تكون إلا زيادة أو نقصا أو مجموعهما، وهذا ينبغي أن يعد مذهبا تاسعا، لان مذهب داود وإن كان فيه أنه يعمل بمقتضى النصوص الواردة كما حكاه النووي، فقد جزم بأن الخارج عنها يكون قبل السلام، وإسحاق بن راهويه وإن قال إنها تستعمل الاحاديث كما وردت، فقد جزم أنه يسجد لما خرج عنها إن كان زيادة بعد السلام، وإن كان نقصا فقبله كما سبق. والقائلون بالتخيير لم يستعملوا النصوص كما وردت، ولا شك أنه أفضل. ومحل الخلاف في الافضل كما عرفت، وإن كانت الهادوية تقول بفساد صلاة من سجد لسهوه قبل التسليم مطلقا، لكن قولهم مع كونه مخالفا لما صرحت به الادلة مخالف للاجماع الذي حكاه عياض وغيره. قوله: فربما سألوه ثم سلم يعني سألوا محمد بن سيرين: هل سلم النبي (ص) بعد سجدتي السهو؟ فروي عن عمران بن حصين أنه أخبر أن النبي (ص) سلم بعدهما. ولفظ أبي داود: فقيل لمحمد سلم في السجود؟ فقال: لم أحفظه أبي هريرة، ولكن نبئت أن عمران بن
[ 138 ]
حصين قال: ثم سلم وفيه دليل على مشروعية التسليم في سجود السهو، وقد نقل بعض المتأخرين عن النووي أن الشافعية لا يثبتون التسليم، وهو خلاف المشهور عن الشافعية والمعروف في كتبهم، وخلاف ما صرح به النووي في شرح مسلم فإنه قال: والصحيح في مذهبنا أنه يسلم ولا يتشهد. وعن عمران بن حصين: أن رسول الله (ص) صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ثم دخل منزله وفي لفظ: فدخل الحجرة فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول فقال: يارسول الله فذكر له صنيعه فخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال: أصد هذا؟ قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم. رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. الكلام على فقه الحديث قد تقدم، وتقدم أيضا الاختلاف بين أهل العلم، هل حديث عمران هذا وحديث أبي هريرة المتقدم حكاية لقصة واحدة أو لقصتين مختلفتين؟ والظاهر ما قاله ابن خزيمة ومن تبعه من التعدد، لان دعوى الاتحاد تحتاج إلى تأويلات متعسفة كما سلف. وتقدم أيضا ضبط الخرباق وأنه اسم ذي اليدين. (وفي الباب) عن ابن عباس عند البزار والطبراني في الكبير: أن رسول الله (ص) صلى بهم العصر ثلاثا، فدخل على بعض نسائه، فدخل عليه رجل من أصحابه يقال له ذو الشمالين الحديث. وعن عطاء: أن ابن الزبير صلى المغرب فسلم في ركعتين فنهض ليستلم الحجر فسبح القوم فقال: ما شأنكم؟ قال: فصلى ما بقي وسجد سجدتين قال: فذكر ذلك لابن عباس فقال: ما أماط عن سنة نبيه (ص) رواه أحمد. الحديث أيضا أخرجه البزار والطبراني في الاوسط والكبير، قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح. قوله: ما أماط أوله همزة مفتوحة وآخره مهملة. قال في القاموس، ماط يميط ميطا جار وزجر، وعنى ميطانا وميطا تنحى وبعد، ونحى وأبعد كأماط فيهما اه. والمراد هنا أن ابن الزبير ما بعد ولا تنحة عن السنة، أو ما أبعد ولا نحى غيره عنها بما فعله، لما تقدم من ثبوت ذلك عنه (ص)، والخلاف في جواز البناء قد مر.
[ 139 ]
باب من شك في صلاته عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين فليجعلها واحدة، وإذا لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا فليجعلها اثنتين، وإذا لم يدر ثلاثا صلى أم أربعا فليجعلها ثلاثا، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. وفي رواية: سمعت رسول الله (ص) يقول: من صلى صلاة يشك في النقصان فليصل حتى يشك في الزيادة رواه أحمد. الحديث معلول لانه من رواية ابن إسحاق عن مكحول، عن كريب، عن ابن عباس، عن عبد الرحمن. وقد رواه أحمد في المسند عن ابن علية، عن ابن إسحاق، عن مكحول مرسلا. قال ابن إسحاق: فلقيت حسين بن عبد الله فقال لي: أسنده لك؟ قلت: لا، فقال: لكنه حدثني أن كريبا حدثه به وحسين ضعيف جدا. ورواه إسحاق بن راهويه والهيثم بن كليب في مسنديهما من طريق الزهري عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عباس مختصرا، وفي إسنادهما إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف، وتابعه بحر بن كثير السقاء فيما ذكره الدارقطني في العلل. وقد رواه أيضا أحمد بن حنبل عن محمد بن يزيد عن إسماعيل بن مسلم عن الزهري، وإسماعيل بن مسلم ضعيف كما مر. والزيادة التي رواها المصنف رحمه الله عن أحمد أخرج نحوها ابن ماجة ولفظه: ثم ليتم ما بقي من صلاته حتى يكون الوهم في الزيادة وفي الباب غير ما ذكره المصنف عن عثمان عند أحمد وفيه: من صلى فلم يدر أشفع أم أوتر فليسجد سجدتين فإنهما إتمام صلاته قال العراقي: رجاله ثقات، إلا أن يزيد بن أبي كبشة لم يسمع من عثمان. وقد رواه أحمد أيضا عن يزيد بن أبي كبشة عن مروان عن عثمان، وعن عائشة عند الطبراني في الاوسط وفيه: إذا صليت فرأيت أنك أتممت صلاتك وأنت في بيتك الحديث. وعن أنس عند البيهقي: قال (ص): إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثنتين أو ثلاثا فليلق الشك وليبن على اليقين ورجال إسناده ثقات. وعن عبد الله بن جعفر عند أبي داود بلفظ: من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم. وفي إسناده مصعب بن عمير قال النسائي، منكر الحديث، وفي إسناده أيضا عتبة بن محمد بن الحرث
[ 140 ]
قال العراقي، ليس بالمعروف، وقال البيهقي: لا بأس بإسناد هذا الحديث. (وحديث الباب) قد استدل به وبما ذكر معه من قال: إن من شك في ركعة بنى على الاقل مطلقا. قال النووي: وإليه ذهب الشافعي والجمهور. وحكاه المهدي في البحر عن علي عليه السلام، وأبي بكر، وعمر وابن مسعود، وربيعة والشافعي، ومالك، واستدلوا أيضا بحديث أبي سعيد الآتي. وذهب عطاء والاوزاعي والشعبي وأبو حنيفة، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص من الصحابة، إلى أن من شك في ركعة وهو مبتدأ بالشك لا مبتلى به أعاد، هكذا في البحر، وقال: إن المبتلى الذي يمكنه التحري يعمل بتحريه، وحكاه عن ابن عمرو وأبي هريرة وجابر بن زيد والنخعي وأبي طالب وأبي حنيفة، والذي حكاه النووي في شرح مسلم عن أبي حنيفة وموافقيه من أهل الكوفة وغيرهم من أهل الرأي: أن من شك في صلاته في عدد ركعاته تحرى وبنى على غالب ظنه، ولا يلزم الاقتصار والاتيان بالزيادة، قال: واختلف هؤلاء فقال أبو حنيفة ومالكفي طائفة: هذا لم اعتراه الشك مرة بعد أخرى، وأما غيره فيبني على اليقين وقال آخرون: هو على عمومه اه. وحكى العراقي في شرح الترمذي عن عبد الله بن عمر، وسعيد بن جبير، وشريح القاضي، ومحمد ابن الحنفية، وميمون بن مهران، وعبد الكريم الجزري، والشعبي، والاوزاعي، أنهم يقولون بوجوب الاعادة مرة بعد أخرى حتى يستيقن، ولم يرو عنهم الفرق بين المبتدئ والمبتلى. وروى عن عطاء ومالك أنهما قالا: يعيد مرة. وعن طاوس كذلك. وعن بعضهم يعيد ثلاث مرات. (واحتج القائلون) بالاستئناف بما أخرجه الطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن رجل سها في صلاته فلم يدر كم صلى فقال: ليعد صلاته وليسجد سجدتين قاعدا. وهو من رواية إسحاق بن يحيى بن عبادة بن الصامت. قال العراقي: لم يسمع إسحاق من جده عبادة انتهى. فلا ينتهض لمعارضة الاحاديث الصحيحة المصرحة بوجوب البناء على الاقل، ومع هذا فظاهره عدم الفرق بين المبتدأ والمبتلى والمدعي اختصاص الاعادة بالمبتدأ. (واحتجوا) أيضا بما أخرجه الطبراني عن ميمونة بنت سعد أنها قالت: أفتنا يا رسول الله في رجل سها في صلاته فلا يدري كم صلى، قال: ينصرف ثم يقوم في صلاته حتى يعلم كم صلى، فإنما ذلك الوسواس يعرض فيسهيه عن صلاته. وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي الجزري مختلف فيه، وهو كبقية في الشاميين يروي عن المجاهيل، وفي إسناده أيضا
[ 141 ]
عبد الحميد بن يزيد وهو مجهول كما قال العراقي. (واحتج القائلون) بوجوب العمل بالظن والتحري، إما مطلقا أو لمن كان مبتلي بالشك بحديث ابن مسعود الآتي لما فيه من الامر لمن شك بأن يتحرى الصواب، وأجاب عنهم القائلون بوجوب البناء على الاقل بأن التحري هو القصد. ومنه قوله تعالى: * (فأولئك تحروا رشدا) * (الجن: 14) فمعنى الحديث فليقصد الصواب فيعمل به، وقصد الصواب هو ما بينه في حديث أبي سعيد وغيره، وقد قدمنا طرفا من الخلاف في كون التحري والبناء على اليقين شيئا واحدا أم لا. وفي القاموس: أن التحري التعمد وطلب ما هو أحرى بالاستعمال، قال النووي: فإن قالت الحنفية: حديث أبي سعيد لا يخالف ما قلنا لانه ورد في الشك وهو ما استوى طرفاه، ومن شك ولم يترجح له أحد الطريقين يبني على الاقل بالاجماع، بخلاف من غلب على ظنه أنه صلى أربعا مثلا، فالجواب أن تفسير الشك بمستوى الطرفين إنما هو اصطلاح طارئ للاصوليين، وأما في اللغة فالتردد بين وجود الشئ وعدمه كله يسمى شكا، سواء المستوي والراجح والمرجوح، والحديث يحمل على اللغة، ما لم يكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية، ولا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح انتهى. والذي يلوح لي أنه لا معارضة بين أحاديث البناء على الاقل والبناء على اليقين وتحري الصواب، وذلك لان التحري في اللغة كما عرفت هو طلب ما أحرى إلى الصواب، وقد أمر به صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر بالبناء على اليقين والبناء على الاقل عند عروض الشك، فإن أمكن الخروج بالتحري عن دائرة الشك لغة، ولا يكون إلا بالاستيقان بأنه فعل من الصلاة كذا ركعات، فلا شك أنه مقدم على البناء على الاقل، لان الشارع قد شرط في جواز البناء على الاقل عدم الدراية، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف، وهذا المتحري قد حصلت له الدراية، وأمر الشاك بالبناء على ما استيقن كما في حديث أبي سعيد، ومن بلغ به تحريه إلى اليقين قد بنى على ما استيقن، وبهذا تعلم أنه لا معارضة بين الاحاديث المذكورة، وأن التحري المذكور مقدم على البناء على الاقل، وقد أوقع الناس ظن التعارض بين هذه الاحاديث في مضايق ليس عليها أثارة من علم، كالفرق بين المبتدأ والمبتلى والركن والركعة. قوله في حديث الباب: قبل أن يسلم استدل به القائلون بمشروعية سجود السهو قبل السلام،
[ 142 ]
وقد تقدم الخلاف في ذلك وبيان ما هو الحق. قوله: فليصل حتى يشك في الزيادة فيه أن جعل الشك في جانب الزيادة أولى من جعله في جانب النقصان. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لاربع كانتا ترغيما للشيطان رواه أحمد ومسلم. الحديث أخرجه أيضا أبو داود بلفظ: فليلق الشك وليبن على اليقين، فإذا استيقن التمام سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة والسجدتان نافلة، وإن كانت صلاته ناقصة كانت الركعة تماما والسجدتان ترغيما للشيطان. وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي. واختلف فيه على عطاء بن يسار فروي مرسلا، وروي بذكر أبي سعيد فيه، وروي عنه عن ابن عباس، قال الحافظ: وهو وهم. وقال ابن المنذر: حديث أبي سعيد أصح حديث في الباب. (والحديث) استدل به القائلون بوجوب إطراح الشك والبناء على اليقين وهم الجمهور، كما قال النووي والعراقي. وقد تقدم ما أجاب به القائلون بالبناء على الظن، وما أجيب به عليهم وما هو الحق. قوله: قبل أن يسلم هو من أدلة القائلين بالسجود للسهو قبل السلام، وقد تقدم البحث عن ذلك أيضا. قوله: فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته يعني أن السجدتين بمنزلة الركعة لانهما ركناها، فكأنه بفعلهما قد فعل ركعة سادسة فصارت الصلاة شفعا. قوله: كانتا ترغيما للشيطان لانه لما قصد التلبيس على المصلي وإبطال صلاته كان السجدتان لما فيهما من الثواب ترغيما له، فعاد عليه بسببهما قصده بالنقض. وفي جعل العلة ترغيم الشيطان رد على من أوجب السجود للاسباب المتعمدة، وهو أبو طالب والامام يحيى والشافعي كما في البحر، لان إرغام الشيطان إنما يكون بما حدث بسببه، والعمد ليس من الشيطان بل من المصلي. وأما استدلالهم على ذلك بالقياس للعمد على السهو، لانه إنما شرع في السهو للنقص، فالعمد مثله فمردود بأن العلة ليست النقص بل إرغام الشيطان كما في الحديث، وظاهر الحديث أن مجرد حصول الشك موجب للسجود، ولو زال وحصلت معرفة الصواب وتحقق أنه لم يزد شيئا، وإلى ذلك ذهب الشيخ أبو علي والمؤيد بالله، وذهب المنصور بالله وإمام الحرمين أنه لا يسجد لزوال التردد، ويدل للمذهب الاول ما أخرجه أبو داود عن زيد بن أسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وآله
[ 143 ]
وسلم: إذا شك أحدكم في صلاته فإن استيقن أنه صلى ثلاثا فليقم وليتم ركعة بسجودها ثم يجلس فيتشهد، فإذا فرغ فلم يبق إلا أن يسلم فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم وسيأتي في حديث ابن مسعود ما يدل على مثل ما دل عليه هذا الحديث. وعن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال إبراهيم: زاد أو نقص، فلما سلم قيل له: يا رسول الله حدث في الصلاة شئ؟ قال: لا وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: إنه لو حدث في الصلاة شئ أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين رواه الجماعة إلا الترمذي. وفي لفظ ابن ماجة ومسلم في رواية: فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب. قوله: وعن إبراهيم هو النخعي. قوله: زاد أو نقص في رواية للجماعة من طريق إبراهيم عن علقمة أنه صلى خمسا على الجزم، وستأتي في باب من صلى الرباعية خمسا. وفي قوله: زاد أو نقص دليل على مشروعية سجود السهو لمن تردد بين الزيادة والنقصان، إلا أن تجعل رواية الجزم مفسرة لرواية التردد. قوله: فثنى رجليه في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان بالافراد، وهذه الرواية هي اللائقة بالمقام ومعنى ثني الرجل صرفها عن حالتها التي كانت عليها. قوله: لو حدث في الصلاة شئ أنبأتكم به فيه أن الاصل في الاحكام بقاؤها على ما قررت عليه وإن جوز غير ذلك، وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. قوله: إنما أنا بشر مثلكم هذا حصر له في البشرية، باعتبار من أنكر ثبوت ذلك ونازع فيه عنادا وجحودا، وأما باعتبار، غير ذلك مما هو فيه فلا ينحصر في وصف البشرية، إذ له صفات أخر، ككونه جسما حيا متحركا نبيا رسولا بشيرا نذيرا سراجا منيرا وغير ذلك. وتحقيق هذا المبحث ونظائره محله علم المعاني. قوله: أنسى كما تنسون زاد النسائي: وأذكر كما تذكرون وفيه دليل على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وآله وسلم فيما طريقه البلاغ، وقد تقدم الكلام على هذا في شرح حديث ذي اليدين. قوله: فإذا نسيت فذكروني فيه أمر التابع بتذكير
[ 144 ]
المتبوع. وظاهر الحديث يدل على الوجوب على الفور. قوله: فليتحر الصواب فيه دليل لمن قال بالعمل على غالب الظن، وتقديمه على البناء على الاقل، وقد قدمنا الجواب عليه من جهة القائلين بوجوب البناء على الاقل. قوله: فليتم عليه بضم التحتانية وكسر الفوقانية. قوله: ثم ليسجد سجدتين فيه دليل لمن قال: إن السجود قبل التسليم وقد مر تحقيقه، وفيه أيضا أن مجرد النظر والتفكير من أسباب السجود، لانه قد لحق الصلاة بسبب الوسوسة نقص، وقد تقدم الكلام على ذلك. وعن أبي هريرة: أن النبي (ص) قال: إن الشيطان يدخل بين ابن آدم وبين نفسه فلا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم رواه أبو داود وابن ماجة. وهو لبقية الجماعة إلا قوله: قبل أن يسلم. وعن عبد الله بن جعفر: أن النبي (ص) قال: من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم رواه أحمد وأبو داود والنسائي. حديث عبد الله بن جعفر في إسناده مصعب بن شيبة، قال النسائي: منكر الحديث، وعنه ليس بمعروف، وقد وثقه ابن معين، واحتج به مسلم في صحيحه. وقال أحمد بن حنبل: أنه روى أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحمدونه وليس بالقوي، وقال الدارقطني: ليس بالقوي ولا بالحافظ. قوله: إن الشيطان يدخل بين ابن آدم وبين نفسه في لفظ للبخاري وأبي داود: إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه. وفي لفظ للبخاري أيضا: أقبل يعني الشيطان حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: أذكر كذا، أذكر كذا، أذكر كذا، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل أن يدري كم صلى. قوله: فليسجد سجدتين قبل أن يسلم. فيه دليل لمن قال: سجود السهو قبل التسليم، وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: بعدما يسلم احتج به القائلون بأن سجود السهو بعد السلام، وقد تقدم ذكرهم. والاحاديث الصحيحة الواردة في سجود السهو لاجل الشك، كحديث عبد الرحمن بن عوف، وأبي سعيد، وأبي هريرة وغيرها قاضية بأن سجود السهو لهذا السبب يكون قبل السلام، وحديث عبد الله بن جعفر لا ينتهض لمعارضتها، لا سيما مع ما فيه من المقال الذي تقدم ذكره، ولكنه يؤيده حديث ابن مسعود المذكور قريبا، فيكون الكل جائزا، وقد استدل بظاهر هذين الحديثين من قال: إن المصلي إذا شك فلم يدر زاد أو نقص فليس عليه إلا سجدتان عملا بظاهر الحديثين المذكورين. وإلى ذلك ذهب الحسن البصري
[ 145 ]
وطائفة من السلف. وروي ذلك عن أنس وأبي هريرة، وخالف في ذلك الجمهور والعترة والائمة الاربعة وغيرهم. فمنهم من قال: يبني على الاقل. ومنهم من قال: يعمل على غالب ظنه. ومنهم من قال: يعيد، وقد تقدم تفصيل ذلك، وليس في حديثي الباب أكثر من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بسجدتين عند السهو في الصلاة، وليس فيهما بيان ما يصنعه من وقع له ذلك، والاحاديث الآخرة قد اشتملت على زيادة، وهي بيان ما هو الواجب عليه عند ذلك من غير السجود فالمصير إليها واجب. وظاهر قوله: من شك في صلاته. وقوله: فإذا وجد أحدكم ذلك. وقوله في حديث أبي سعيد المتقدم: إذا شك أحدكم في صلاته. وقوله في حديث ابن مسعود المتقدم أيضا: وإذا شك أحدكم فليتحر الصواب. وقوله في حديث عبد الرحمن بن عوف: إذا شك أحدكم في صلاته أن سجود السهو مشروع في صلاة النافلة، كما هو مشروع في صلاة الفريضة، وإلى ذلك ذهب الجمهور من العلماء قديما وحديثا، لان الجبران وإرغا الشيطان يحتاج إليه في النفل، كما يحتاج إليه في الفرض. وذهب ابن سيرين وقتادة، وروي عن عطاء، ونقله جماعة من أصحاب الشافعي عن قوله القديم: إلى أن التطوع لا يسجد فيه، وهذا ينبني على الخلاف في اسم الصلاة الذي هو حقيقة شرعية في الافعال المخصوصة، هل هو متواطئ فيكون مشتركا معنويا فيدخل تحته كل صلاة؟ أو هو مشترك لفظي بين صلاتي الفرض والنفل؟ فذهب الرازي إلى الثاني لما بين صلاتي الفرض والنفل من التباين في بعض الشروط كالقيام، واستقبال القبلة، وعدم اعتبار العدد المنوي وغير ذلك. قال العلائي: والذي يظهر أنه مشترك معنوي لوجود القدر الجامع بين كل ما يسمى صلاة وهو التحريم والتحليل مع ما يشمل الكل من الشروط التي لا تنفك. قال في الفتح: وإلى كونه مشتركا معنويا ذهب جمهور أهل الاصول. قال ابن رسلان: وهو أولى، لان الاشتراك اللفظي على خلاف الاصل والتواطؤ خير منه اه. فمن قال: إن لفظ الصلاة مشترك معنوي، قال بمشروعية سجود السهو في صلاة التطوع، ومن قال: بأنه مشترك لفظي فلا عموم له حينئذ إلا على قول الشافعي أن المشترك يعم جميع مسمياته، وقد ترجم البخاري على باب السهو في الفرض والتطوع، وذكر عن ابن عباس أنه يسجد بعد وتره، وذكر حديث أبي هريرة المتقدم.
[ 146 ]
باب من نسي التشهد الاول حتى انتصب قائما لم يرجع عن ابن بحينة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى فقام في الركعتين فسبحوا به فمضى، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم رواه النسائي. وعن زياد بن علاقة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح به من خلفه، فأشار إليهم أن قوموا بنا، فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم ثم قال: هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. رواه أحمد والترمذي وصححه. وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله (ص): إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائما فليجلس، وإن استتم قائما فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. الحديث الاول أخرجه بقية الائمة الستة بنحو لفظ النسائي الذي ذكره المصنف. والحديث الثاني أخرجه أيضا أبو داود، وفي إسناده المسعودي وهو عبد الرحمن بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، استشهد به البخاري، وتكلم فيه غير واحد. وأخرجه الترمذي أيضا من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الشعبي عن المغيرة، قال أحمد: لا يحتج بحديث ابن أبي ليلى وقد تكلم فيه غيره. والحديث الثالث أخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي ومداره علي جابر الجعفي وهو ضعيف جدا، وقد قال أبو داود: ولم أخرج عنه في كتابي غير هذا. قوله: فقام في الركعتين يعني أنه قام إلى الركعة الثالثة ولم يتشهد عقب الركعتين. قوله: فلما فرغ من صلاته استدل به من قال إن السلام ليس من الصلاة، ومن تقدم البحث عن ذلك، وتعقب بأن السلام لما كان للتحلل من الصلاة كان المصلي إذا انتهى إليه كمن فرغ من صلاته. ويدل على ذلك قوله في رواية ابن ماجة من طريق جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد عن الاعرج: حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه، والزيادة من الحافظ مقبولة. قوله: ثم سلم استدل بذلك من قال: إن السجود قبل التسليم، وقد قدمنا الخلاف فيه وما هو الحق. وزاد الترمذي في الحديث: وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس. وفي هذه الزيادة فائدتان: (إحداهما) أن المؤتم يسجد مع إمامه لسهو الامام ولقوله في الحديث الصحيح: لا تختلفوا.
[ 147 ]
وقد أخرج البيهقي والبزار عن عمر قال: قال رسول الله (ص): إن الامام يكفي من وراءه، فإن سها الامام فعليه سجدتا السهو، وعلى من وراأن يسجدوا معه، وإن سها أحد ممن خلفه فليس عليه أن يسجد والامام يكفيه. وفي إسناده خارجة بن مصعب وهو ضعيف، وأبو الحسين المدائني وهو مجهول. والحكم بن عبيد الله وهو أيضا ضعيف. (وفي الباب) عن ابن عباس عند ابن عدي وفي إسناد عمر بن عمرو العسقلاني وهو متروك، وقد ذهب إلى أن المؤتم يسجد لسهو الامام، ولا يسجد لسهو نفسه الحنفية والشافعية، ومن أهل البيت زيد بن علي والناصر والمؤيد بالله والامام يحيى، وروي عن مكحول والهادي أنه يسجد لسهوه لعموم الادلة وهو الظاهر، لعدم انتهاض هذا الحديث لتخصيصها، وإن وقع السهو من الامام والمؤتم فالظاهر أنه يكفي سجود واحد من المؤتم، إما مع الامام أو منفردا، وإليه ذهب الفريقان والناصر والمؤيد بالله. وذهب الهادي إلى أنه يجب عليه سجودان لسهو الامام ثم لسهو نفسه، والظاهر ما ذهب إليه الاولون. (والفائدة الثانية) أن قوله: مكان ما نسي من الجلوس يدل على أن السجود إنما هو لاجل ترك الجلوس لا لترك التشهد، حتى لو أنه جلس مقدار التشهد ولم يتشهد لا يسجد، وجزم أصحاب الشافعي وغيرهم أنه يسجد لترك التشهد وإن أتى بالجلوس. قوله: فليجلس زاد في رواية، ولا سهو عليه، وبها تمسك من قال: إن السجود إنما هو لفوات التشهد لا لفعل القيام، وإلى ذلك ذهب النخعي وعلقمة والاسود والشافعي في أحد قوليه، وذهبت العترة وأحمد بن حنبل إلى أنه يجب السجود لفعل القيام لما روي عن أنس أنه صلى الله عليه وآله وسلم تحرك للقيام في الركعتين الآخرتين من العصر على جهة السهو فسبحوا له فقعد ثم سجد للسهو، أخرجه البيهقي والدارقطني موقوفا عليه. وفي بعض طرقه أنه قال هذه السنة. قال الحافظ: ورجاله ثقات. وأخرج الدارقطني والحاكم والبيهقي عن ابن عمر من حديثه بلفظ: لا سهو إلا في قيام عن جلوس أو جلوس عن قيام وهو ضعيف. (واستدل) بأحاديث الباب أن التشهد الاول ليس من فروض الصلاة، إذ لو كان فرضا لما جبر بالسجود، ولم يكن بد من الاتيان به كسائر الفروض، وبذلك قال أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور، وذهب أحمد وأهل الظاهر إلى وجوبه، وقد تقدم الكلام على هذا الاستدلال، والجواب عنه في شرح أحاديث التشهد. قوله: وإن استتم قائما فلا يجلس فيه أنه لا يجوز العود إلى القعود والتشهد بعد الانتصاب الكامل، لانه قد تلبس بالفرض، فلا
[ 148 ]
يقطعه ويرجع إلى السنة. وقيل: يجوز له العود ما لم يشرع في القراءة، فإن عاد عالما بالتحريم بطلت لظاهر النهي ولانه زاد قعودا، وهذا إذا تعمد العود، فإن عاد ناسيا لم تبطل صلاته، وأما إذا لم يستتم القيام فإنه يجب عليه العود لقوله في الحديث: إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائما فليجلس. باب من صلى الرباعية خمسا عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر خمسا فقيل له: أزيد في الصلاة فقال: وما ذلك؟ فقالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعدما سلم رواه الجماعة. قوله: صلى الظهر خمسا في هذه الرواية الجزم وقد تقدم عن إبراهيم النخعي التردد والكل من طريقه عن علقمة عن ابن مسعود. قوله: فقال وما ذلك كذا في بعض النسخ، وفي بعضها فقيل: وما ذاك، وفي بعضها فقال: لاوما ذاك بزيادة لا، وهي ثابتة في مسلم وأبي داود، وبها يتبين أن إخبارهم كان بعد استفساره صلى الله عليه وآله وسلم لهم. (والحديث) يدل على أن من صلى خمسا ساهيا ولم يجلس في الرابعة أن صلاته لا تفسد. وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري: أنها تفسد إن لم يجلس في الرابعة، قال أبو حنيفة: فإن جلس في الرابعة ثم صلى خامسة فإنه يضيف إليها ركعة أخرى وتكون الركعتان له نافلة، والحديث يرد ما قالاه، وإلى العمل بمضمونه ذهب الجمهور، وقد فرق مالك بين الزيادة القليلة والكثيرة من الساهي. قال القاضي عياض: إن مذهب مالك أنه إن زاد دون نصف الصلاة لم تبطل صلاته بل هي صحيحة ويسجد للسهو، وإن زاد النصف وأكثر فذهب ابن القاسم ومطرف إلى بطلانها. وقال عبد الرحمن بن حبيب وغيره: إن زاد ركعتين بطلت صلاته، وإن زاد ركعة فلا، وحكي عن مالك أنها لا تبطل مطلقا. وقد استدل بالحديث على أن سجدتي السهو محلهما بعد التسليم مطلقا، وليس فيه حجة على ذلك لانه لم يعلم صلى الله عليه وآله وسلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه أزيد في الصلاة، وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على فعل ذلك بعد السلام لتعذره قبله.
[ 149 ]
باب التشهد لسجود السهو بعد السلام عن عمران بن حصين: أن النبي صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم رواه أبو داود والترمذي. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن حبان وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما قالوا: والمحفوظ في حديث عمران أنه ليس فيه ذكر التشهد، وإنما تفرد به أشعث عن ابن سيرين، وقد خالف فيه غيره من الحفاظ عن ابن سيرين. وقد أخرج النسائي الحديث بدون ذكر التشهد. (وفي الباب) عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث وأربع وأكثر ظنك على أربع تشهدت ثم سجدت سجد وأنت جالس قبل أن تسلم ثم تشهدت أيضا ثم تسلم قال البيهقي: هذا حديث مختلف في رفعه ومتنه غير قوي، وهو من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال البيهقي: مرسل. وقد ضعف الحافظ في الفتح إسناد هذا الحديث. وعن المغيرة ابن شعبة عند البيهقي: أن النبي (ص) تشهد بعد أن رفع رأسه من سجدتي السهو. قال البيهقي: تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الشعبي، ولا يفرح بما تفرد به. وقال في المعرفة: لا حجة فيما تفرد به لسوء حفظه وكثرة خطئه في الروايات انتهى. وقد أخرج حديث المغيرة الترمذي من رواية هشام عن ابن أبي ليلى المذكور، ولم يذكر فيه التشهد بعد سجدتي السهو. وعن عائشة عند الطبراني. وفيه: وتشهدي وانصرفي ثم اسجدي سجدتين وأنت قاعدة ثم تشهدي الحديث. وفي إسناده موسى بن مطير عن أبيه وهو ضعيف، وقد نسب إلى وضع الحديث. وقد استدل بحديث عمران وما ذكر معه من الاحاديث على مشروعية التشهد في سجدتي السهو، فإذا كان بعد السلام كما في حديث عمران فقد حكى الترمذي عن أحمد وإسحاق أنه يتشهد وهو قول بعض المالكية والشافعية ونقله أبو حامد الاسفراييني عن القديم من قولي الشافعي، وفي مختصر المزني سمعت الشافعي يقول: إذا سجد بعد السلام تشهد أو قبل السلام أجزأه التشهد الاول، وإذا كان قبل السلام فالجمهور على أنه لا يعيد التشهد. وحكى ابن عبد البر عن الليث أنه يعيده. وعن البويطي والشافعي
[ 150 ]
مثله وخطؤه في هذا النقل فإنه لا يعرف. وعن عطاء يتخير. واختلف فيه عند المالكية. (وحديث) ابن مسعود يدل على مشروعية التشهد في سجود السهو قبل السلام، وفيه المقال الذي تقدم. قال الحافظ في الفتح: قد يقال إن الاحاديث الثلاثة يعني حديث عمران وابن مسعود والمغيرة باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن. قال العلائي: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله: أخرجه ابن أبي شيبة. (واعلم) أن المراد بالتشهد المذكور في سجود السهو هو التشهد المعهود في الصلاة، لا كما قاله الامام المهدي في البحر أنه الشهادتان في الاصح لعدم وجدان ما يدل على الاقتصار على البعض من التشهد الذي ينصرف إليه مطلق التشهد. [ رم ] أبواب صلاة الجماعة باب وجوبها والحث عليها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لاتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار متفق عليه. ولاحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار. الحديث الثاني في إسناده أبو معشر وهو ضعيف. قوله: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر فيه أن الصلاة كلها ثقيلة على المنافقين. ومنه قوله تعالى: * (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) * (التوبة: 54) وإنما كان العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهم لهما، لان العشاء وقت السكون والراحة، والصبح وقت لذة النوم. قوله:
[ 151 ]
ولو يعلمون ما فيهما أي من مزيد الفضل. قوله: لاتوهما أي لاتوا المحل الذي يصليان فيه جماعة وهو المسجد. قوله: ولو حبوا أي زحفا إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء: ولو حبوا على المرافق والركب. قوله: ولقد هممت اللام جواب القسم. وفي البخاري وغيره: والذي نفسي بيده لقد هممت والهم العزم، وقيل: دونه. قوله: فأحرق بالتشديد، يقال: حرقه إذا بالغ في تحريقه، وفيه جواز العقوبة بإتلاف المال. (والحديث) استدل به القائلون بوجوب صلاة الجماعة، لانها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه. ويمكن أن يقال: إن التهديد بالتحريق المذكور يقع في حق تاركي فرض الكفاية لمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية. قال الحافظ: وفيه نظر، لان التحريق الذي يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة، ولان المقاتلة إنما يشرع فيها إذا تمالا الجميع على الترك وقد اختلفت أقوال العلماء في صلاة الجماعة، فذهب عطاء والاوزاعي وإسحاق وأحمد وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان وأهل الظاهر وجماعة، ومن أهل البيت: أبو العباس إلى أنها فرض عين، واختلفوا فبعضهم قال: هي شرط روي ذلك عن داود ومن تبعه، وروي مثل ذلك عن أحمد وقال الباقون: إنها فرض عين غير شرط. وذهب الشافعي في أحد قوليه، قال الحافظ: هو ظاهر نصه، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه، وبه قال كثير من المالكية والحنفية إلى أنها فرض كفاية، وذهب الباقون إلى أنها سنة، وهو قول زيد بن علي والهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة: الاول أنها لو كانت شرطا أو فرضا لبين ذلك عند التوعد، كذا قال ابن بطال، ورد بأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان. والثاني: أن الحديث يدل على خلاف المدعي وهو عدم الوجوب، لكونه صلى الله عليه وآله وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين، ولو كانت الجماعة فرضا لما تركها، وفيه أن تركه لها حال التحريق لا يستلزم
[ 152 ]
الترك مطلقا، لامكان أن يفعلها في جماعة آخرين قبل التحريق أو بعده. الثالث: قال الباجي وغيره إن الخبر ورود مورد الزجر وحقيقته غير مرادة، وإنما المراد المبالغة، ويرشد إلى ذلك وعيدهم بعقوبة لا يعاقبها إلا الكفار، وقد انعقد الاجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك، وأجيب بأن ذلك وقع قبل تحريم التعذيب بالنار، وكان قبل ذلك جائزا، على أنه لو فرض أن هذا التوعد وقع بعد التحريم لكان مخصصا له، فيجوز التحريق في عقوبة تارك الصلاة. الرابع: تركه صلى الله عليه وآله وسلم لتحريقهم بعد التهديد، ولو كان واجبا لما عفا عنهم. قال عياض ومن تبعه: ليس في الحديث حجة لانه صلى الله عليه وآله وسلم هم ولم يفعل، زاد النووي: ولو كانت فرض عين لما تركهم، وتعقبه ابن دقيق العيد بأنه لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله، والترك لا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك، على أن رواية أحمد التي ذكرها المصنف فيها بيان سبب الترك. الخامس: أن التهديد لقوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة وهو ضعيف، لان قوله: لا يشهدون الصلاة بمعنى لا يحضرون. وفي رواية لاحمد عن أبي هريرة: العشاء في الجمع أي في الجماعة. وعند ابن ماجة من حديث أسامة: لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لاحرقن بيوتهم. السادس: أن الحديث ورد في الحث على مخالفة أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة، ذكر ذلك ابن المنير. السابع: أن الحديث ورد في حق المنافقين فلا يتم الدليل، وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة، مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان معرضا عنهم، وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم، وقال: لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وتعقب هذا التعقب ابن دقيق العيد بأنه لا يتم إلا إن ادعى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبا عليه، ولا دليل على ذلك، وليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم. قال في الفتح: والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في صدر الحديث: أثقل الصلاة على المنافقين. ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لو يعلمون الخ، لان هذا الوصف يليق بهم لا بالمؤمنين، لكن المراد نفاق المعصية لا نفاق الكفر، يدل على ذلك قوله في رواية: لا يشهدون العشاء في الجمع وقوله في حديث أسامة: لا يشهدون الجماعات وأصرح من ذلك ما في رواية أبي داود عن أبي هريرة: ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لان الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد
[ 153 ]
رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله تعالى من الكفر والاستهزاء. قال الطيبي: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذ سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة، بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم، بل هو من صفات المنافقين، ويدل على ذلك قول ابن مسعود الآتي: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق. وأخرج ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عمير بن أنس قال: حدثني عمومتي من الانصار قالوا: قال رسول الله (ص): ما يشهدهما منافق يعني العشاء والفجر. الثامن: أن فريضة الجماعة كانت في أول الامر ثم نسخت، حكى ذلك القاضي عياض. قال الحافظ: ويمكن أن يتقوى لثبوت النسخ بالوعيد المذكور في حقهم وهو التحريق بالنار. قال: ويدل على النسخ الاحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ كما سيأتي، لان الافضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز. التاسع: أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات، وتعقب بأن الاحاديث مصرحة بالعشاء والفجر كما في حديث الباب وغيره، ولا ينافي ذلك ما وقع عند مسلم من حديث ابن مسعود أنها الجمعة لاحتمال تعدد الواقعة، كما أشار إليه النووي والمحب الطبري. (وللحديث) فوائد ليس هذا محل بسطها، وسيأتي التصريح بما هو الحق في صلاة الجماعة. وعن أبي هريرة: أن رجلا أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب رواه مسلم والنسائي. وعن عمرو بن أم مكتوم قال قلت: يا رسول الله أنا ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلاؤمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: ما أجد لك رخصة رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. الحديث الثاني أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني، زاد ابن حبان وأحمد في رواية: فأتها ولو حبوا. قوله: أن رجلا أعمى هو ابن أم مكتوم كما في الحديث الثاني. قوله: ليس لي قائد. في الحديث الآخر: ولي قائد لا يلاؤمني ظاهره التنافي، إذا كان الاعمى المذكور في حديث أبي هريرة هو ابن أم مكتوم ويجمع بينهما إما بتعداد الواقعة أو بأن المراد بالمنفي في الرواية الاولى القائد الملائم، وبالمثبت في الثانية القائد الذي ليس بملائم. قوله: فرخص له إلى قوله: قال فأجب قيل: إن الترخيص
[ 154 ]
في أول الامر اجتهاد منه (ص)، والامر بالاجابة بوحي من الله تعالى. وقيل: الترخيص مطلق مقيد بعدم سماع النداء. وقيل: إن الترخيص باعتبار العذر والامر للندب، فكأنه قال: الافضل لك، والاعظم لاجرك أن تجيب وتحضر فأجب. قوله: ولي قائد لا يلاؤمني قال الخطابي: يروى في الحديث يلاؤمني بالواو، والصواب يلاؤمني أي يوافقني وهو بالهمزة المرسومة بالواو والهمزة فيه أصلية، وأما الملاومة بالواو فهي من اللوم وليس هذا موضعه. قوله: رخصة بوزن غرفة، وقد تضم الخاء المعجمة بالاتباع وهي التسهيل في الامر والتيسير. (والحديثان) استدل بهما القائلون بأن الجماعة فرض عين، وقد تقدم ذكرهم، وأجاب الجمهور عن ذلك بأنه سأل هل له رخصة في أن يصلي في بيته وتحصل له فضيلة الجماعة لسبب عذر؟ فقيل: لا. ويؤيد هذا أن حضور الجماعة يسقط بالعذر بإجماع المسلمين، ومن جملة العذر العمى إذا لم يجد قائدا، كما في حديث عتبان بن مالك وهو في الصحيح وسيأتي، ويدل على ذلك حديث ابن عباس عند ابن ماجة والدارقطني وابن حبان والحاكم أن النبي (ص) قال: من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر قال الحافظ: وإسناده على شرط مسلم لكن رجح بعضهم وقفه، وأجاب البعض عن حديث الاعمى بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم منه أنه يمشي بلا قائد لحذقه وذكائه، كما هو مشاهد في بعض العميان يمشي بلا قائد، لا سيما إذا كان يعرف المكان قبل العمى، أو بتكرر المشي إليه استغنى عن القائد، ولا بد من التأويل لقوله تعالى: * (ليس على الاعمى حرج) * (النور: 61) وفي أمر الاعمى بحضور الجماعة مع عدم القائد ومع شكايته من كثرة السباع والهوام في طريقه كما في مسلم غاية الحرج، ولا يقال: الآية في الجهاد. لانا نقول: هو من القصر على السبب، وقد تقرر في الاصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. (واعلم) أن الاستدلال بحديثي الاعمى وحديث أبي هريرة الذي في أول الباب على وجوب مطلق الجماعة فيه نظر، لان الدليل أخص من الدعوى، إذ غاية ما في ذلك وجوب حضور جماعة النبي (ص) في مسجده لسامع النداء، ولو كان الواجب مطلق الجماعة لقال في المتخلفين أنهم لا يحضرون جماعته ولا يجمعون في منازلهم، ولقال لعتبان بن مالك: انظر من يصلي معك، ولجاز الترخيص للاعمى بشرط أن يصلى في منزلة جماعة وعن عبد الله بن مسعود قال: لقد رأيتنا وما أن يصلي في منزله جماعة يتخلف عنها إلا منافق
[ 155 ]
معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. هذا طرف من أثر طويل، ذكره مسلم مطولا، وذكره غيره مختصرا ومطولا. قوله: ولقد رأيتنا هذا فيه الجمع بين ضميري المتكلم، فالتاء له خاصة، والنون له مع غيره. قوله: وما يتخلف عنها يعني الصلوات الخمس المذكورة في أول الاثر. ولفظ مسلم: من سره أن يلقى الله غدا سالما فليحافط على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن. ولفظ أبي داود: حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن. ثم ذكر مسلم اللفظ الذي ذكره المصنف وذكر غيره نحوه. قوله: يؤتى به يهادي بين الرجلين أي يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه يعتمد عليهما. قوله: حتى يقام في الصف قال النووي: في هذا كله تأكيد أمر الجماعة وتحمل المشقة في حضورها، وإذا أمكن المريض ونحوه التوصل إليها استحب له حضورها انتهى. والاثر استدل به على وجوب صلاة الجماعة، وفيه أنه قول صحابي ليس فيه إلا حكاية المواظبة على الجماعة وعدم التخلف عنها، ولا يستدل بمثل ذلك على الوجوب، وفيه حجة لمن خص التوعد بالتحريق بالنار المتقدم في حديث أبي هريرة بالمنافقين. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله (ص): صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة. وعن أبي هريرة: أن النبي (ص) قال: صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة متفق عليهما. وفي الباب عن ابن مسعود عند أحمد بلفظ: خمسا وعشرين درجة كلها مثل صلاته وعن أبي بن كعب عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجة بلفظ: صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله عزوجل. وعن معاذ أشار إليه الترمذي، وذكر لفظه ابن سيد الناس في شرحه فقال: فضل صلاة الجمع على صلاة الرجل وحده خمسا وعشرين وعن أبي سعيد عند البخاري بلفظ: صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة وعنه أيضا عند أبي داود وسيأتي. وعن أنس عند الدارقطني بنحو حديث أبي هريرة المذكور في الباب. وعن عائشة عند أبي العباس السراج بلفظ: صلاة الرجل في الجمع
[ 156 ]
تفضل على صلاته وحده خمسا وعشرين درجة وعن صهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت عند الطبراني بطرق كلها ضعيفة، واتفقوا على خمس وعشرين. قال الترمذي وعامة من روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما قالوا خمسة وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال: بسبع وعشرين. قال الحافظ في الفتح: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق عن عبد الله العمري عن نافع قال: خمسا وعشرين، لكن العمري ضعيف، وكذلك وقع عند أبي عوانة في مستخرجه، ولكنها شاذة مخالفة لرواية الحفاظ. وروي بلفظ: سبع وعشرين عن أبي هريرة عند أحمد وفي إسناده شريك القاضي وفي حفظه ضعف، وقد اختلف هل الراجح رواية السبع والعشرين أو الخمس والعشرين؟ فقيل: رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل: رواية السبع لان فيها زيادة من عدل حافظ، وقد جمع بينهما بوجوه: منها أن ذكر القليل لا ينفي الكثير، وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد. وقيل: إنه (ص) أخبر بالخمس، ثم أخبره الله بزيادة الفضل فأخبر بالسبع، وتعقب بأنه محتاج إلى التاريخ، وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه. وقيل: الفرق باعتبار قرب المسجد وبعده. وقيل: الفرق بحال المصلي كأن يكون أعلم وأخشع. وقيل: الفرق بإيقاعها في المسجد أو غيره. وقيل: الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره. وقيل: الفرق بإدراكها كلها أو بعضها. وقيل: الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم. وقيل: السبع مختصة بالفجر والعشاء. وقيل: بالفجر والعصر والخمس بما عدا ذلك. وقيل: السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية، ورجحه الحافظ في الفتح، والراجح عندي أولها لدخول مفهوم الخمس تحت مفهوم السبع. (واعلم) أن التخصيص بهذا العدد من أسرار النبوة التي تقصر العقول عن إدراكها، وقد تعرض جماعة للكلام على وجه الحكمة وذكروا مناسبات، وقد طول الكلام في ذلك صاحب الفتح، فمن أحب الوقوف على ذلك رجع إليه. قوله: درجة هو مميز العدد المذكور، وفي الروايات كلها التعبير بقوله درجة أو حذف المميز إلا طرق أبي هريرة، ففي بعضها ضعفا، وفي بعضها جزءا، وفي بعضها درجة، وفي بعضها صلاة، ووجد هذا الاخير في بعض طرق أنس، والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة، ويحتمل أن يكون ذلك من التفنن في العبارة، والمراد أنه يحصل له من صلاة الجماعة مثل أجر صلاة المنفرد سبعا وعشرين مرة. قوله: على صلاته في بيته وصلاته في سوقه مقتضاه أن الصلاة
[ 157 ]
في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت والسوق وجماعة وفرادى، ولكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا. قال ابن دقيق العيد: وهو الذي يظهر لي. وقال الحافظ: وهو الراجح فنظري قال: ولا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التسوية بين صلاة البيت والسوق، إذ لا يلزم من استوائهما في المفضولية أن لا تكون إحداهما أفضل من الاخرى، وكذا لا يلزم منه التسوية بين صلاة البيت أو السوق، لافضل فيها على الصلاة منفردا، بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختص بالجماعة في المسجد، والصلاة في البيت مطلقا أولى منها في السوق، لما ورد من كون الاسواق موضع الشياطين، والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد انتهى. وقد استدل بالحديثين وما ذكرنا معهما القائلون بأن صلاة الجماعة غير واجبة وقد تقدم ذكرهم، لان صيغة أفضل كما في بعض ألفاظ حديث ابن عمر تدل على الاشتراك في أصل الفضل كما تقدم، وكذلك قوله في حديث أبي بن كعب: أزكى والمشترك ههنا لا بد أن يكون هو الاجزاء والصحة، وإلا فلا صلاة فضلا عن الفضل والزكاة. (ومن أدلتهم) على عدم الوجوب حديث: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة. وقد تقدم في باب الرخصة في إعادة الجماعة. (ومن أدلتهم) ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله (ص): إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الامام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام. وفي رواية أبي كريب عند مسلم أيضا: حتى يصليها مع الامام في جماعة. ومن أدلتهم أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر جماعة من الوافدين عليه بالصلاة ولم يأمرهم بفعلها في جماعة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وهذه الادلة توجب تأويل الادلة القاضية بالوجوب بما أسلفنا ذكره، وكذلك تأويل حديث ابن عباس المتقدم بلفظ: من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلاصلاة له، إلا من عذر بأن المراد لا صلاة له كاملة، على أن في إسناده يحيى بن أبي حية الكلبي المعروف بأبي جناب بالجيم المكسورة، وهو كما قال الحافظ ضعيف ومدلس وقد عنعن، وقد أخرجه بقي بن مخلد وابن ماجة وابن حبان والدارقطني والحاكم من طريق أخرى بإسناد قال الحافظ: صحيح بلفظ: من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر ولكن قال الحاكم: وقفه أكثر أصحاب شعبة، ثم أخرج له شاهدا عن أبي موسى الاشعري بلفظ:: من سمع النداء فارغا صحيحا فلم يجب فلا صلاة له وقد
[ 158 ]
رواه البزار موقوفا، قال البيهقي: الموقوف أصح، ورواه العقيلي في الضعفاء من حديث جابر. ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة وضعفه. وقد تقرر أن الجمع بين الاحاديث ما أمكن هو الواجب، وتبقية الاحاديث المشعرة بالوجوب على ظاهرها من دون تأويل، والتمسك بما يقضي به الظاهر فيه إهدار للادلة القاضية بعدم الوجوب وهو لا يجوز، فأعدل الاقوال وأقربها إلى الصواب أن الجماعة من السنن المؤكدة التي لا يخل بملازمتها ما أمكن إلا محروم مشؤوم، وأما أنها فرض عين أو كفاية أو شرط لصحة الصلاة فلا. ولهذا قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق حديث أبي هريرة ما لفظه. وهذا الحديث يرد على من أبطل صلاة المنفرد لغير عذر وجعل الجماعة شرطا، لان المفاضلة بينهما تستدعي صحتهما، وحمل النص على المنفرد لعذر لا يصح، لان الاحاديث قد دلت على أن أجره لا ينقص عما يفعله لولا العذر، فروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله عزوجل مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. رواه أحمد وأبو داود والنسائي، انتهى. استدل المصنف رحمه الله بهذين الحديثين على ما ذكره من عدم صحة حمل النص على المنفرد لعذر، لان أجره كأجر المجمع. والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده محمد بن طحلاء قال أبو حاتم: ليس به بأس، وليس له عند أبي داود إلا هذا الحديث، وأخرج أبو داود عن سعيد بن المسيب قال: حضر رجلا من الانصار الموت فقال: إني محدثكم حديثا ما أحدثكموه إلا احتسابا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء وفيه: فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، وإن أتى المسجد وقد صلوا بعضا وبقي بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم كان كذلك. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الصلاة في جماعة تعدل خمسا وعشرين صلاة، فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة رواه أبو داود. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجة، قال أبو داود، قال عبد الواحد بن زياد: في هذا الحديث
[ 159 ]
صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة، وساق الحديث. قال المنذري: في إسناده هلال بن ميمون الجهني الرملي كنيته أبو المغيرة، قال يحيى بن معين: ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي يكتب حديثه، وقد وثقه أيضا غير ابن معين كما قال ابن رسلان. قوله: فإذا صلاها في فلاة هو أعم من أن يصليها منفردا أو في جماعة. قال ابن رسلان: لكن حمله على الجماعة أولى وهو الذي يظهر من السياق انتهى. والاولى حمله على الانفراد لان مرجع الضمير في حديث الباب من قوله: صلاها إلى مطلق الصلاة لا إلى المقيد بكونها في جماعة. ويدل على ذلك الرواية التي ذكرها أبو داود عن عبد الواحد ابن زياد، لانه جعل فيها صلاة الرجل في الفلاة مقابلة لصلاته في الجماعة، والمراد بالفلاة الارض المتسعة التي لا ماء فيها، والجمع فلى مثل حصاة وحصى. (والحديث) يدل على أفضلية الصلاة في الفلاة مع تمام الركوع والسجود، وأنها تعدل خمسين صلاة في جماعة كما في رواية عبد الواحد، وعلى هذا الصلاة في الفلاة تعدل ألف صلاة ومائتين وخمسين صلاة في غير جماعة، وهذا إن كانت صلاة الجماعة تتضاعف إلخمسة وعشرين ضعفا فقط، فإن كانت تتضاعف إلى سبعة وعشرين كما تقدم فالصلاة في الفلاة تعدل ألفا وثلاثمائة وخمسين صلاة، وهذا على فرض أن المصلي في الفلاة صلى منفردا، فإن صلى في جماعة تضاعف العدد المذكور بحسب تضاعف صلاة الجماعة على الانفراد، وفضل الله واسع. (والحكمة) في اختصاص صلاة الفلاة بهذه المزية أن المصلي فيها يكون في الغالب مسافرا، والسفر مظنة المشقة، فإذا صلاها المسافر مع حصول المشقة تضاعفت إلى ذلك المقدار. وأيضا الفلاة في الغالب من مواطن الخوف والفزع لما جبلت عليه الطباع البشرية من التوحش عند مفارقة النوع الانساني، فالاقبال مع ذلك على الصلاة أمر لا يناله إلا من بلغ في التقوى إلى حد يقصر عنه كثير من أهل الاقبال والقبول. وأيضا في مثل هذا الموطن تنقطع الوساوس التي تقود إلى الرياء، فإيقاع الصلاة فيها شأن أهل الاخلاص. ومن ههنا كانت صلاة الرجل في البيت المظلم الذي لا يراه فيه أحد إلا الله عزوجل أفضل الصلوات على الاطلاق، وليس ذلك إلا لانقطاع حبائل الرياء الشيطانية التي يقتنص بها كثيرا من المتعبدين، فكيف لا تكون صلاة الفلاة مع انقطاع تلك الحبائل وانضمام ما سلف إلى ذلك بهذه المنزلة؟ (والحديث) أيضا من حجج القائلين بأن الجماعة غير واجبة، وقد قدمنا الكلام على ذلك.
[ 160 ]
باب حضور النساء المساجد وفضل صلاتهن في بيوتهن عن ابن عمر عن النبي (ص) قال: إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن رواه الجماعة إلا ابن ماجة. وفي لفظ: لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد وبيوتهن خير لهن رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات رواه أحمد وأبو داود. حديث ابن عمر هو بنحو اللفظ الآخر في الصحيحين أيضا بدون قوله: وبيوتهن خير لهن وهذه الزيادة أخرجها ابن خزيمة في صحيحه، وللطبراني بإسناد حسن نحوها، ولها شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود، وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا ابن خزيمة من حديثه، وابن حبان من حديث زيد بن خالد. وأخرج مسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود: إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا وأول حديث أبي هريرة متفق عليه من حديث ابن عمر كما عرفت. قوله: إذا استأذنكم نساؤكم بالليل لم يذكر أكثر الرواة بالليل، كذا أخرجه مسلم وغيره. وخص الليل بالذكر لما فيه من الستر بالظلمة. قال النووي: واستدل به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه لتوجه الامر إلى الازواج بالاذن، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن ذلك إن كان أخذا بالمفهوم فهو مفهوم لقب ضعيف، لكن يتقوى بأن يقال: إن منع الرجال نساءهم أمر متقرر، وإنما علق الحكم بالمسجد لبيان محل الجواز فبقي ما عداه على المنع، وفيه إشارة إلى أن الاذن المذكور لغير الوجوب، لانه لو كان واجبا لا يبقى معنى للاستئذان، لان ذلك إنما هو متحقق إذا كان المستأذن مجيزا في الاجابة والرد، أو يقال إذا كان الاذن لهن فيما ليس بواجب حقا على الازواج فالاذن لهن فيما هو واجب من باب الاولى. قوله: لا تمنعوا النساء مقتضى هذا النهي أن منع النساء من الخروج إلى المساجد إما مطلقا في الازمان كما في هذه الرواية، وكما في حديث أبي هريرة، أو مقيدا بالليل كما تقدم، أو مقيدا بالغلس كما في بعض الاحاديث يكون محرما على الازواج. وقال النووي: إن النهي محمول على التنزيه، وسيأتي الخلاف في ذلك. قوله: وبيوتهن خير
[ 161 ]
لهن أي صلاتهن في بيوتهن خير لهن من صلاتهن في المساجد لو علمن ذلك، لكنهن لم يعلمن، فيسألن الخروج إلى الجماعة يعتقدن أن أجرهن في المساجد أكثر. ووجه كون صلاتهن في البيوت أفضل الامن من الفتنة، ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة، ومن ثقالت عائشة ما قالت. قوله: إماء الله بكسر الهمزة والمد جمع أمة. قوله وليخرجن تفلات بفتح التاء المثناة وكسر الفاء أي غير متطيبات، يقال: امرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح، كذا قال ابن عبد البر وغيره، وإنما أمرن بذلك ونهين عن التطيب كما في رواية مسلم المتقدمة عن زينب امرأة ابن مسعود، لئلا يحركن الرجال بطيبهن. ويلحق بالطيب ما في معناه من المحركات لداعي الشهوة، كحسن الملبس والتحلي الذي يظهر أثره والزينة الفاخرة. وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر، لانها إذا عرت مما ذكر وكانت متسترة حصل الامن عليها، ولا سيما إذا كان ذلك بالليل. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وعن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خير مساجد النساء قعر بيوتهن رواه أحمد. وعن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى من النساء ما رأينا لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها، قلت لعمرة: ومنعت بنو إسرائيل نساءها؟ قالت: نعم متفق عليه. حديث أم سلمة أخرجه أبو يعلى أيضا والطبراني في الكبير وفي إسناده ابن لهيعة، وقد تقدم ما يشهد له. وأخرج أحموا لطبراني من حديث أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، فقال (ص): قد علمت وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجد الجماعة. قال الحافظ: وإسناده حسن. وأخرج أبو داود من حديث ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها. قوله: أصابت بخورا. فيه دليل على أن الخروج من النساء
[ 162 ]
إلى المساجد إنما يجوز إذا لم يصحب ذلك ما فيه فتنة كما تقدم، وما هو في تحريك الشهوة فوق البخور داخل بالاولى. قوله: فلا تشهدن في بعض النسخ هكذا بزيادة نون التوكيد، وفي بعضها بحذفها، وظاهر النهي التحريم. قوله: رأى من النساء ما رأينا لمنعهن يعني من حسن الملابس والطيب والزينة والتبرج، وإنما كان النساء يخرجن في المروط والاكسية والشملات الغلاظ. وقد تمسك بعضهم في منع النساء من المساجد مطلقا بقول عائشة وفيه نظر، إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم لانها علقته على شرط لم يوجد في زمانه (ص)، بل قالت ذلك بناء على ظن ظنته فقالت: لو رأى لمنع فيقال عليه لم ير ولم يمنع وظنها ليس بحجة. قوله: كما منعت بنو إسرائيل نساءها هذا وإن كان موقوفا فحكمه الرفع لانه لا يقال بالرأي، وقد روى نحوه عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح. قوله: قالت نعم يحتمل أنها تلقته عن عائشة، ويحتمل أن يكون عن غيرها، وقد ثبت ذلك من حديث عروة عن عائشة موقوفا أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح ولفظه قالت: كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلا من خشب يتشرقن للرجال في المساجد فحرم الله تعالى عليهن المساجد وسلطت عليهن الحيضة. وقد حصل من الاحاديث المذكورة في هذا الباب أن الاذن للنساء من الرجال إلى المساجد إذا لم يكن في خروجهن ما يدعو إلى الفتنة من طيب أو حلي أو أي زينة واجب على الرجال، وأنه لا يجب مع ما يدعو إلى ذلك، ولا يجوز ويحرم عليهن الخروج لقوله: فلا تشهدن وصلاتهن على كل حال في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المساجد. باب فضل المسجد الابعد والكثير الجمع عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أعظم الناس في الصلاة أجرا أبعدهم إليها ممشى. رواه مسلم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الابعد فالابعد من المسجد أعظم أجرا. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. الحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري، وفي إسناده عبد الرحمن بن مهران مولى بني هاشم. قال في التقريب: مجهول. وقال في الخلاصة: وثقه ابن حبان انتهى. وبقية
[ 163 ]
رجاله رجال الصحيح. قوله: إن أعظم الناس في الصلاة أجرا أبعدهم إليها ممشى فيه التصريح بأن أجر من مسكنه بعيدا من المسجد أعظم ممن كان قريبا منه، وكذلك قوله: الابعد فالابعد من المسجد أعظم أجرا وذلك لما ثبت عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه خمسا وعشرين درجة، وذلك بأن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلارفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد الحديث. ولما أخرجه أبو داود عن سعيد بن المسيب عن رجل من الصحابة مرفوعا وفيه: إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له عزوجل حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد الحديث. ولما أخرجه مسلم عن جابر قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم. وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله (ص): صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى. رواه أحمد وأبو داود والنسائي. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجة وابن حبان، وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم، وأشار ابن المديني إلى صحته وفي إسناده عبد الله بن أبي نصير قيل: لا يعرف لانه ما روى عنه غير أبي إسحاق السبيعي، لكن أخرجه الحاكم من رواية العيزار بن حريث عنه فارتفعت جهالة عينه، وأورد له الحاكم حديث قياس بن أشيم وفي إسناده نظر. وأخرجه البزار والطبراني وعبد الله المذكور وثقه ابن حبان. قوله: أزكى من صلاته وحده أي أكثر أجرا وأبلغ في تطهير المصلي وتكفير ذنوبه، لما في الاجتماع من نزول الرحمة والسكينة دون الانفراد. قوله: وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى فيه أن ما كثر جمعه فهو أفضل مما قل جمعه، وأن الجماعات تتفاوت في الفضل، وأن كونها تعدل سبعا وعشرين صلاة يحصل لمطلق الجماعة، والرجل مع الرجل
[ 164 ]
جماعة، كما رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنه قال: الرجل مع الرجل جماعة لهما التضعيف خمسا وعشرين انتهى. وقد أخرج ابن ماجة عن أبي موسى والبغوي في معجم الصحابة عن الحكم بن عمير الثمالي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اثنان فما فوقهما جماعة وأحاديث التضاعف إلى هذا المقدار التي تقدم ذكرها لا ينافي الزيادة في الفضل لما كان أكثر، لا سيما مع وجود النص المصرح بذلك كما في حديث الباب. باب السعي إلى المسجد بالسكينة عن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا متفق عليه. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا سمعتم الاقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا رواه الجماعة إلا الترمذي. ولفظ النسائي وأحمد في رواية: فاقضوا. وفي رواية لمسلم: إذا ثوب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار، فصل ما أدركت واقض ما سبقك. قوله: جلبة بجيم ولام وموحدة مفتوحات أي أصواتهم حال حركتهم. قوله: فعليكم السكينة ضبطه القرطبي بنصب السكينة على الاغراء، وضبطه النووي بالرفع، على أنها جملة في موضع الحال. وفي رواية للبخاري: وعليكم بالسكينة. وقد استشكل بعضهم دخول الباء لانه متعد بنفسه كقوله تعالى: * (عليكم أنفسكم) * (المائدة: 105) قال الحافظ: وفيه نظر لثبوت زيادة الباء في الاحاديث الصحيحة كحديث: عليكم برخصة الله. فعليه بالصوم. وعليك بالمرأة. قوله: فما أدركتم قال الكرماني: الفاء جواب شرط محذوف
[ 165 ]
أي إذا ثبت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا. قال في الفتح: أو التقدير إذا فعلتم فما أدركتم فصلوا، أي فعلتم الذي آمركم به من السكينة وترك الاسراع. قوله: وما فاتكم فأتموا أي أكملوا، وقد اختلف في هذه اللفظة في حديث أبي قتادة، فرواية الجمهور فأتموا ورواية معاوية بن هشام عن شيبان: فاقضوا كذا ذكره ابن أبي شيبة عنه. ومثله روى أبو داود، وكذلك وقع الخلاف في حديث أبي هريرة كما ذكر المصنف. قال الحافظ: والحاصل أن أكثر الروايات ورد بلفظ: فأتموا وأقلها بلفظ: فاقضوا وإنما يظهر فائد ذلك إذا جعلنا بين التمام والقضاء مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدا واختلف في لفظه منه، وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى، وهذا كذلك، لان القضاء وإن كان يطلق على الفائتة غالبا لكنه يطلق على الاداء أيضا، ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا) * (الجمعة: 10) ويرد لمعان أخر، فيحمل قوله هنا فاقضوا على معنى الاداء والفراغ فلا يغاير قوله: فأتموا فلا حجة لمن تمسك برواية فاقضوا، على أن ما أدركه مع الامام هو آخر صلاته، حتى يستحب له الجهر في الركعتين الآخرتين، وقراءة السورة وترك القنوت بل هو أولها، وإن كان آخر صلاة إمامه، لان الآخر لا يكون إلا عن شئ تقدمه. وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الامام آخرا له لما احتاج إلى إعادة التشهد، وقول ابن بطال: أنه ما تشهد إلا لاجل السلام، لان السلام يحتاج إلى سبق تشهد ليس بالجواب الناهض على دفع الايراد المذكور. واستدل ابن المنذر لذلك أيضا أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الاولى، وقد عمل بمقتضى اللفظين الجمهور فإنهم قالوا: إن ما أدرك مع الامام هو أول صلاته، إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القرآن في الرباعية، لكن لم يستحبوا له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين، وكان الحجة فيه قول علي عليه السلام: ما أدركت مع الامام فهو أول صلاتك، واقض ما سبقك به من القرآن أخرجه البيهقي. وعن إسحاق والمزني أنه لا يقرأ إلا أم القرآن فقط، قال الحافظ: وهو القياس. قوله: إذا سمعتم الاقامة هو أخص من قوله في حديث أبي قتادة: إذا أتيتم الصلاة لكن الظاهر أنه في مفهوم الموافقة، وأيضا سامع الاقامة لا يحتاج إلى الاسراع لانه يتحقق إدراك الصلاة كلها، فينتهي عن الاسراع من باب الاولى. وقد لحظ بعضهم
[ 166 ]
معنى غير هذا فقال: الحكمة في التقييد بالاقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها فيقرأ في تلك الحال، فلا يحصل تمام الخشوع في الترتيل وغيره، بخلاف من جاء قبل ذلك، فإن الصلاة قد لا تقام حتى يستريح، وفيه أنه لا يكره الاسراع لمن جاء قبل الاقامة، وهو مخالف لصريح قوله: إذا أتيتم الصلاة لانه يتناول ما قبل الاقامة، وإنما قيد الحديث الثاني بالاقامة لان ذلك هو الحامل في الغالب على الاسراع. قوله: والوقار قال عياض والقرطبي: هو بمعنى السكينة، وذكر على سبيل التأكيد. وقال النووي: الظاهر أن بينهما فرقا، وإن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة بغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات. قوله: ولا تسرعوا فيه زيادة تأكيد، فيستفاد منه الرد على من أول قوله في حديث أبي قتادة: فلا تفعلوا بالاستعجال المفضي إلى عدم الوقار، وأما الاسراع الذي لا ينافي الوقار لمن خاف فوت التكبيرة فلا، كذا روي عن إسحاق بن راهويه. (والحديثان) يدلان على مشروعية المشي إلى الصلاة على سكينة ووقار، وكراهية الاسراع والسعي. والحكمة في ذلك ما نبه عليه صلى الله عليه وآله وسلم كما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: فإن أحدكم إذا كان يعمم مالى الصلاة فهو في صلاة أي أنه في حكم المصلي، فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلى اعتماده، واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه. وقد استدل بحديثي الباب أيضا، على أن من أدرك الامام راكعا لم تحسب له تلك الركعة للامر بإتمام ما فاته، لانه فاته القيام والقراءة فيه. قال في الفتح: وهو قول أبي هريرة وجماعة، بل حكى البخاري في جزء القراءة خلف الامام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الاما، واختاره ابن خزيمة والضبعي وغيرهما من الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين، وقد قدمنا البحث عن هذا في باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته إذا سمع إمامه. قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديثين ما لفظه: وفيه حجة لمن قال إن ما أدركه المسبوق آخر صلاته، واحتج من قال بخلافه بلفظة الاتمام انتهى. وقد عرفت الجمع بين الروايتين. باب ما يؤمر به الامام من التخفيف وعن أبي هريرة: أن النبي (ص) قال: إذا صلى أحدكم
[ 167 ]
للناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء رواه الجماعة إلا ابن ماجة، لكنه له من حديث عثمان بن أبي العاص. وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤخر الصلاة ويكملها. وفي رواية: ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي (ص) متفق عليه. وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إني لادخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه رواه الجماعة إلا أبا داود والنسائي لكنه لهما من حديث أبي قتادة. قوله: فليخفف قال ابن دقيق العيد التطويل والتخفيف من الامور الاضافية، فقد يكون الشئ خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم، طويلا بالنسبة إلى عادة آخرين، قال: وقول الفقهاء لا يزيد الامام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات لا يخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يزيد على ذلك، لان رغبة الصحابة في الخير لا تقتضي أن يكون ذلك تطويلا. قوله: فإن فيهم في رواية في البخاري للكشميهني: فإن منهم. وفي رواية: فإن خلفه وهو تعليل للامر بالتخفيف، ومقتضاه أنه متى لم يكن فيهم من يتصف بإحدى الصفات المذكورات لم يضر التطويل، ويرد عليه أنه يمكن أن يجئ من يتصف بأحدها بعد الدخول في الصلاة. وقال اليعمري: الاحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للائمة التخفيف مطلقا، قال: وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر، وهي مع ذلك تشرع ولو لم تشق عملا بالغالب، لانه لا يدري ما يطرأ عليه وهنا كذلك. قوله: فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير المراد بالضعيف هنا ضعيف الخلقة، وبالسقيم من به مرض. وفي رواية للبخاري: فإن منهم المريض والضعيف والمراد بالضعيف في هذه الرواية ضعيف الخلقة بلا شك. وفي رواية للبخاري أيضا عن ابن مسعود: فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة. وكذلك في رواية أخرى له من حديثه، والمراد بالضعيف في هاتين الروايتين المريض، ويصح أن يراد من فيه ضعف، وهو أعم من الحاصل بالمرض أو بنقصان الخلقة. وزاد مسلم من وجه آخر في حديث أبي هريرة والصغير، وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص والحامل والمرضع. وله من حديث عدي بن حاتم والعابر السبيل. قوله: فليطول ما شاء. ولمسلم:
[ 168 ]
فليصل كيف شاء أي مخففا أو مطولا. واستدل بذلك على جواز إطالة القراءة ولو خرج الوقت وهو المصحح عند بعض الشافعية. قال الحافظ: وفيه نظر، لانه يعارضه عموم قوله في حديث أبي قتادة: إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الاخرى أخرجه مسلم. وإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كان مراعاة تلك المفسدة أولى. واستدل بعمومه أيضا على جواز تطويل الاعتدال من الركوع وبين السجدتين. قوله: لكنه له من حديث عثمان بن أبي العاص في إسناده محمد بن عبد الله القاضي، ضعفه الجمهور ووثقه ابن معين وابن سعد، وقد أخرج حديث عثمان المذكور مسلم في صحيحه. قوله: يؤخر الصلاة ويكملها فيه أن مشروعية التخفيف لا تستلزم أن تبلغ إلى حد يكون بسببه عدم تمام أركان الصلاة وقراءتها، وأن من سلك طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الايجاز والاتمام لا يشتكي منه تطويل. وروى ابن أبي شيبة أن الصحابة كانوا يتمون ويوجزون ويبادرون الوسوسة فبين العلة في تخفيفهم. قوله: إني أدخل في الصلاة في رواية للبخاري: إني لاقوم في الصلاة. قوله: وأنا أريد إطالتها فيه أن من قصد في الصلاة الاتيان بشئ مستحب لا يجب عليه الوفاء به خلافا لاشهب. قوله: أسمع بكاء الصبي فيه جواز إدخال الصبيان المساجد، وإن كان الاولى تنزيه المساجد عمن لا يؤمن حدثه فيها لحديث: جنبوا مساجدكم وقد تقدم. قوله: فأتجوز فيه دليل على مشروعية الرفق بالمأمومين وسائر الاتباع، ومراعاة مصالحهم، ودفع ما يشق عليهم، وإن كانت المشقة يسيرة، وإيثار تخفيف الصلاة للامر يحدث. قوله: لكنه لهما من حديث أبي قتادة هو في البخاري ولفظه: إني لادخل في الصلاة فأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه. (وأحاديث) الباب تدل على مشروعية التخفيف للائمة، وترك التطويل للعلل المذكورة من الضعف والسقم والكبر والحاجة، واشتغال خاطر أم الصبي ببكائه، ويلحق بها ما كان فيه معناها. قال أبو عمر بن عبد البر: التخفيف لكل إمام أمر مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه، إلا أن ذلك إنما هو أقل الكمال. وأما الحذف والنقصان فلا، لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن نقر الغراب، ورأى رجلا يصلي فلم يتم ركوعه فقال له: ارجع فصل فإنك لم تصل، وقال: لا ينظر الله إلى من لا يقيم صله في ركوعه وسجوده، ثم قال: لا أعلم خلافا بين أهل العلم في استحباب التخفيف لكل من أم قوما على ما شرطنا
[ 169 ]
من الاتمام. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا تبغضوا الله إلى عباده يطول أحدكم في صلاته حتى يشق على من خلفه، انتهى. وقد ورد في مشروعية التخفيف أحاديث غير ما ذكره المصنف. منها عن عدي بن حاتم عند ابن أبي شيبة. وعن سمرة عند الطبراني. وعن مالك بن عبد الله الخزاعي عند الطبراني أيضا. وعن أبي واقد الليثي عند الطبراني أيضا. وعن ابن مسعود عند البخاري ومسلم. وعن جابر بن عبد الله عند البخاري ومسلم أيضا. وعن ابن عباس عند ابن أبي شيبة. وعن حزم بن أبي بن كعب الانصاري عند أبي داود. وعن رجل من بني سلمة يقال له سليم من الصحابة عند أحمد. وعن بريدة عند أحمد أيضا. وعن ابن عمر عند النسائي. باب إطالة الامام الركعة الاولى وانتظار من أحس به داخلا ليدرك الركعة فيه عن أبي قتادة وقد سبق. وعن أبي سعيد: لقد كانت الصلاة تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الركعة الاولى مما يطولها رواه أحمد ومسلم وابن ماجة والنسائي. وعن محمد بن جحادة عن رجل عن عبد الله بن أبي أوفى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم في الركعة الاولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم رواه أحمد وأبو داود. حديث أبي قتادة تقدم مع شرحه في باب السورة بعد الفاتحة في الاوليين من أبواب صفة الصلاة، وفيه بعد ذكر أنه كان يطول في الاولى قال: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الاولى. وحديث عبد الله بن أبي أوفى أخرجه أيضا البزار وسياقه أتم، وفي إسناده رجل مجهول لا يعرف، وسماه بعضهم طرفة الحضرمي وهو مجهول كما قال الازدي، وفيه وفي حديث أبي قتادة وأبي سعيد مشروعية التطويل في الركعة الاولى من صلاة الظهر وغيرها، وقد قدمنا الكلام على ذلك في أبواب صفة الصلاة. (وقد استدل) القائلون بمشروعية تطويل الركعة الاولى لانتظار الداخل ليدرك فضيلة الجماعة بتلك الرواية التي ذكرناها من حديث أبي قتادة، أعني قوله: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك النا س الركعة الاولى. واستدلوا أيضا بحديث ابن أبي أوفى
[ 170 ]
المذكور في الباب، وقد حكى استحباب ذلك ابن المنذر عن الشعبي والنخعي وأبي مجلز و ابن أبي ليلى من التابعين. وقد نقل الاستحباب أبو الطيب الطبري عن الشافعي في الجديد، وفي التجريد للمحاملي، نسبة ذلك إلى القديم وإن الجديد كراهته. وذهب أبو حنيفة ومالك والاوزاعي وأبو يوسف وداود والهادوية إلى كراهة الانتظار، واستحسنه ابن المنذر وشدد في ذلك بعضهم. وقال: أخاف أن يكون شركا وهو قول محمد بن الحسن، وبالغ بعض أصحاب الشافعي فقال: إنه مبطل للصلاة. وقال أحمد وإسحاق فيما حكاه عنهما ابن بطال: إن كان الانتظار لا يضر بالمأمومين جاز، وإن كان مما يضر ففيه الخلاف. وقيل: إن كان الداخل ممن يلازم الجماعة انتظره الامام وإلا فلا، روى ذلك النووي في شرح المهذب عن جماعة من السلف. (وقد استدل) الخطابي في المعالم على الانتظار المذكور بحديث أنس المتقدم في الباب الاول في التخفيف عند سماع بكاء الصبي فقال: فيه دليل على أن الامام وهو راكع إذا أحس بداخل يريد الصلاة معه كان له أن ينتظره راكعا ليدرك فضيلة الركعة في الجماعة، لانه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة إنسان في بعض أمور الدنيا كان له أن يزيد فيها لعباد الله تعالى، بل هو أحق بذلك وأولى، وكذلك قال ابن بطال. وتعقبهما ابن المنير والقرطبي بأن التخفيف ينافي التطويل فكيف يقاس عليه؟ قال ابن المنير: وفيه مغايرة للمطلوب، لان فيه إدخال مشقة على جماعة لاجل واحد، وهذا لا يرد على أحمد وإسحاق لتقييدهما الجواز بعدم الضر للمؤتمين كما تقدم، وما قالا هو أعدل المذاهب في المسألة، وبمثله قال أبو ثور. باب وجوب متابعة الامام والنهي عن مسابقته عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما جعل الامام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون متفق عليه. وفي لفظ: إنما الامام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد رواه أحمد وأبو داود.
[ 171 ]
في الباب غير ما ذكر المصنف عن عائشة عند الشيخين وأبي داود وابن ماجة. وعن جابر عند مسلم وأبى داود والنسائي وابن ماجة. وعن ابن عمر عند أحمد والطبراني. وعن معاوية عند الطبراني في الكبير. قال العراقي: ورجاله رجال الصحيح. وعن أسيد بن حضير عند أبي داود وعبد الرزاق. وعن قيس بن فهد عند عبد الرزاق أيضا. وعن أبي أمامة عند ابن حبان في صحيحه. قوله: إنما جعل الامام ليؤتم به لفظ إنما من صيغ الحصر عند جماعة من أئمة الاصول والبيان. ومعنى الحصر فيها إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه، واختار الآمدي أنها لا تفيد الحصر، وإنما تفيد تأكيد الاثبات فقط ونقله أبو حيان عن البصريين. وفي كلام الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ما يقتضي نقل الاتفاق على إفادتها للحصر. والمراد بالحصر هنا حصر الفائدة في الاقتداء بالامام والاتباع له، ومن شأن التابع أن لا يتقدم على المتبوع، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شئ من الاحوال التي فصلها الحديث ولا في غيرها قياسا عليها، ولكن ذلك مخصوص بالافعال الظاهرة لا الباطنة، وهي ما لا يطلع عليه المأموم كالنية فلا يضن الاختلاف فيها، فلا يصح الاستدلال به على من جوز ائتمام من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، ومن يصلي الاداء بمن يصلي القضاء، ومن يصلي الفرض بمن يصلي النفل، وعكس ذلك، وعامة الفقهاء على ارتباط صلاة المأموم بصلاة الامام، وترك مخالفته له في نية أو غيرها، لان ذلك من الاختلاف، وقد نهى عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: فلا تختلفوا. وأجيب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد بين وجوه الاختلاف فقال: فإذا كبر فكبروا الخ، ويتعقب بإلحاق غيرها بها قياسا كما تقدم. وقد استدل بالحديث أيضا القائلون بأن صحة صلاة المأموم لا تتوقف على صحة صلاة الامام إذا بان جنبا أو محدثا أو عليه نجاسة خفية، وبذلك صرح أصحاب الشافعي بناء على اختصاص النهي عن الاختلاف بالامور المذكورة في الحديث، أو بالامور التي يمكن المؤتم الاطلاع عليها. قوله: فإذا كبر فكبروا فيه أن المأموم لا يشرع في التكبير إلا بعد فراغ الامام منه، وكذلك الركوع والرفع منه والسجود. ويدل على ذلك أيضا قوله في الرواية الثانية: ولا تكبروا ولا تركعوا ولا تسجدوا، وكذلك سائر الروايات المشتملة
[ 172 ]
على النهي وسيأتي. وقد اختلف في ذلك هل هو على سبيل الوجوب أو الندب؟ والظاهر الوجوب من غير فرق بين تكبيرة الاحرام وغيرها. قوله: وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد فيه دليل لمن قال: إنه يقتصر المؤتم في ذكر الرفع من الركوع على قوله: ربنا لك الحمد، وقد قدمنا بسط ذلك في باب ما يقول في رفعه من الركوع من أبواب صفة الصلاة، وقدمنا أيضا الكلام على اختلاف الروايات في زيادة الواو وحذفها. قوله: وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا فيه دليل لمن قال: إن المأموم يتابع الامام في الصلاة قاعدا، وإن لم يكن المأموم معذورا، وإليه ذهب أحمد وإسحاق والاوزاعي وأبو بكر بن المنذر وداود وبقية أهل الظاهر، وسيأتي الكلام على ذلك في باب اقتداء القادر على القيام بالجالس. قوله: أجمعون كذا في أكثر الروايات بالرفع على التأكيد لضمير الفاعل في قوله: صلوا وفي بعضها بالنصب على الحال. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الامام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يحول الله صورته صورة حمار؟ رواه الجماعة. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف رواه أحمد ومسلم. وعنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما جعل الامام ليؤتم به، فلا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع. رواه البخاري. قوله: أما يخشى أحدكم أما مخففة حرف استفتاح مثل ألا، وأصلها النافية دخلت عليها همزة الاستفهام وهي هنا استفهام توبيخ. قوله: إذا رفع رأسه قبل الامام زاد ابن خزيمة في صلاته: والمراد الرفع من السجود، ويدل على ذلك ما وقع في رواية حفص بن عمر: الذي يرفع رأسه والامام ساجد وفيه تعقب على من قال: إن الحديث نص في المنمن تقدم المأموم في الرفع من الركوع والسجود معا وليس كذلك، بل هو نص في السجود، ويلتحق به الركوع لكونه في معناه، ويمكن الفرق بينهما بأن السجود له مزيد مزية، لان العبد أقرب ما يكون فيه من ربه، وأما التقدم على الامام في الخفض للركوع والسجود فقيل يلتحق به من باب الاولى، لان الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الوسائل، والركوع والسجود من المقاصد، وإذا دل الدليل على وجوب الموافقة فيما هو وسيلة فأولى أن يجب فيما هو مقصد. قال الحافظ: ويمكن أن يقال ليس هذا بواضح، لان الرفع من الركوع والسجود يستلزم قطعه عن غاية كماله، قال: وقد ورد الزجر عن الرفع
[ 173 ]
والخفض قبل الامام من حديث أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعا: الذي يخفض ويرفع قبل الامام إنما ناصيته بيد شيطان وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفا وهو المحفوظ. قوله: أو يحول الله صورته الخ الشك من شعبة، وقد رواه الطيالسي عن حماد بن سلمة وابن خزيمة، عن حماد بن زيد ومسلم، عن يونس بن عبيد والربيع بن مسلم، كلهم عن محمد بن زياد بغير تردد، فأما الحمادان فقالا: رأس. وأما الربيع فقال: وجه، وأما يونس فقال: صورة، والظاهر أنه من تصرف الرواة، قال عياض: هذه الروايات متفقة لان الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه. قال الحافظ: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضا، وأما الرأس فرواتها أكثر وهي أشمل فهي المعتمد، وخص وقوع الوعيد عليها لان بها وقعت الجناية. وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الامام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئه صلاته، وعن ابن عمر يبطل، وبه قال أحمد في رواية وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد والوعيد بالمسح في معناه. وقد ورد التصريح بالنهي في رواية أنس المذكورة في الباب عن السبق بالركوع والسجود والقيام والقعود، وقد اختلف في معنى الوعيد المذكور فقيل: يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي، فإن الحمار موصوف بالبلادة، فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الامام، ويرجح هذا المجاز أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين، ولكن ليس في الحديث ما يدل على أن ذلك يقع ولا بد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضا لذلك، ولا يلزم من التعرض للشئ وقوعه، وقيل: هو على ظاهره، إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك، وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على جواز وقوع المسخ في هذه الامة، وأما ما ورد من الادلة القاضية برفع المسخ عنها فهو المسخ العام، ومما يبعد المجاز المذكور ما عند ابن حبان بلفظ: أن يحول الله رأسه رأس كلب لانتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار. ومما يبعده أيضا إيراد الوعيد بالامر المستقبل، وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو كان المراد التشبيه بالحمار لاجل البلادة لقال مثلا: فرأسه رأس حمار، ولم يحسن أن يقال له: إذا فعلت ذلك صرت بليدا، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة. (واستدل) بالاحاديث المذكورة على جواز المقارنة، ورد بأنها دلت بمنطوقها على منع المسابقة، وبمفهومها على طلب المتابعة، وأما المقارنة فمسكوت عنها. قوله: ولا بالانصراف قال النووي: المراد بالانصراف السلام انتهى. ويحتمل أن يكون المراد النهي عن الانصارف من مكان الصلاة قبل الامام لفائدة أن يدرك المؤتم الدعاء، أو لاحتمال أن يكون الامام قد حصل له في صلاته سهو فيذكر وهو في المسجد، ويعود له كما في قصة ذي
[ 174 ]
اليدين. وقد أخرج أبو داود عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضهم على الصلاة ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود بإسناد رجاله ثقات أنه قال: إذا سلم الامام وللرجل حاجة فلا ينتظره إذا سلم أن يستقبله بوجهه وإن فصل الصلاة التسليم. وروي عنه أنه كان إذا سلم لم يلبث أن يقوم أو يتحول من مكانه. باب انعقاد الجماعة باثنين أحدهما صبي أو امرأة عن ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره فأخذ برأسي وأقامني عن يمينه رواه الجماعة. وفي لفظ: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا يومئذ ابن عشر وقمت إلى جنبه عن يساره فأقامني عن يمينه، قال: وأنا يومئذ ابن عشر سنين رواه أحمد. قوله: بت في رواية: نمت. قوله: يصلي من الليل قد تقدم الكلام في صلاة الليل. قوله: وأقامني عن يمينه يحتمل المساواة ويحتمل التقدم والتأخر قليلا. وفي رواية: فقمت إلى جنبه وهو ظاهر في المساواة. وعن بعض أصحاب الشافعي: يستحب أن يقف المأموم دونه قليلا، وليس عليه فيما أعلم دليل. وفي الموطأ عن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه. (والحديث) له فوائد كثيرة، منه ما بوب له المصنف من انعقاد الجماعة باثنين أحدهما صبي وليس على قول من منع من انعقاد إمامة من معه صبي فقط دليل، ولم يستدل لهم في البحر إلا بحديث رفع القلم، ورفع القلم لا يدل على عدم صحة صلاته وانعقاد الجماعة به، ولو سلم لكان مخصصا بحديث ابن عباس ونحوه، وقد ذهب إلى أن الجماعة لا تنعقد بصبي الهادي والناصر والمؤيد بالله، وأبو حنيفة وأصحابه، وذهب أصحاب الشافعي والامام يحيى، إلى الصحة من غير فرق بين الفرض والنفل. وذهب مالك وأبو حنيفة في رواية عنه إلى الصحة في النافلة. ومنها صحة صلاة النوافل جماعة، وقد تقدم بعض الكلام على ذلك وسيأتي بقيته. ومنها أن موقف المؤتم عن يمين الامام، وقال سعيد بن المسيب: أن موقف المؤتم الواحد عن يسار الامام ولم يتابع
[ 175 ]
على ذلك لمخالفته للادلة، وقد اختلف في صحة صلاة من وقف عن اليسار فقيل: لا تبطل بل هي صحيحة وهو قول الجمهور، وتمسكوا بعدم بطلان صلاة ابن عباس لوقوفه عن اليسار لتقريره صلى الله عليه وآله وسلم له على أول صلاته، وقيل: تبطل وإليه ذهب أحمد والهادوية، قالوا: وتقريره صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس لا يدل على صحة صلاة من وقف من أول الصلاة إلى آخرها عن اليسار عالما، وغاية ما فيه تقرير من جهل الموقف والجهل عذر، وسيأتي الكلام على الموقف للمؤتم الواحد والاثنين والجماعة في أبواب مواقف الامام والمأموم. ومنها جواز الائتمام بمن لم ينو الامامة، وقد بوب البخاري لذلك، وفي المسألة خلاف، والاصح عند الشافعية أنه لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الامام الامامة، واستدل بذلك ابن المنذر بحديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في رمضان قال: فجئت فقمت إلى جنبه، وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنارهطا، فلما أحس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنا تجوز في صلاته الحديث وسيأتي. وهو ظاهر في أنه لم ينو الامامة ابتداء، وائتموا هم به ابتداء وأقرهم، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم وعلقه البخاري. وذهب أحمد إلى الفرق بين النافلة والفريضة، فشرط أن ينوي في الفريضة دون النافلة، وفيه نظر لحديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ أخرجه أبو داود، وقد حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله (ص): من استيقظ من الليل وأيقظ أهله فصليا ركعتين جميعا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات رواه أبو داود. الحديث ذكر أبو داود أن بعضهم لم يرفعه ولا ذكر أبا هريرة وجعله كلام أبي سعيد، وبعضهم رواه موقوفا، وقد أخرجه النسائي وابن ماجة مسندا. وفيه مشروعية إيقاظ الرجل أهله بالليل للصلاة، وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء. وفي إسناده محمد بن عجلان، وقد وثقه أحمد ويحيى وأبو حاتم، واستشهد به البخاري، وأخرج له مسلم في المتابعة، وتكلم
[ 176 ]
فيه بعضهم. وحديث الباب استدل به على صحة الامامة وانعقادها برجل وامرأة، وإلى ذلك ذهب الفقهاء، ولكنه لا يخفى أن قوله: فصليا ركعتين جميعا محتمل لانه يصدق عليهما إذا صلى كل واحد منهما ركعتين منفردا، أنهما صليا جميعا ركعتين، أي كل واحد منهما فعل الركعتين ولم يفعلهما أحدهما فقط، ولكن الاصل صحة الجماعة وانعقادها بالمرأة مع الرجل، كما تنعقد بالرجل مع الرجل، ومن منع من ذلك فعليه الدليل، ويؤيد ذلك ما أخرجه الاسماعيلي في مستخرجه عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رجع من المسجد صلى بنا وقال: إنه حديث غريب، وقد روى الشافعي وابن أبي شيبة والبخاري تعليقا عن عائشة أنها كانت تأتم بغلامها، وحكى المهدي في البحر عن العترة أنه لا يؤم الرجل امرأة، واستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أخروهن حيث أخرهن الله. وقوله: شر صفوف النساء أولها وليس في ذلك ما يدل على المطلوب. واستدل أيضا بأن عليا عليه السلام منع من ذلك، قال: وهو توقيف. وجعله من التوقيف دعوى مجردة، لان المسألة من مسائل الاجتهاد، وليس المنع مذهبا لجميع العترة، فقد صرح الهادي أنه يجوز للرجل أن يؤم بالمحارم في النوافل، وجوز ذلك المنصور بالله مطلقا. باب انفراد المأموم لعذر ثبت أن الطائفة الاولى في صلاة الخوف تفارق الامام وتتم وهي مفارقة لعذر. وعن أنس بن مالك قال: كان معاذ بن جبل يؤم قومه فدخل حرام وهو يريد أن يسقي نخله فدخل المسجد مع القوم، فلما رأى معاذا طول تجوز في صلاته ولحق بنخله يسقيه، فلما قضى معاذ الصلاة قيل له ذلك قال: إنه لمنافق أيعجل عن الصلاة من أجل سقي نخله، قال: فجاء حرام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعاذ عنده فقال: يا نبي الله إني أردت أن أسقي نخلا لي فدخلت المسجد لاصلي مع القوم فلما طول تجوزت في صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه فزعم أني منافق، فأقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على معاذ فقال: أفتان أنت أفتان أنت؟ لا تطول بهم، اقرأ ب * (اسم ربك الاعلى) *، * (والشمس وضحاها) * ونحوهما. وعن بريدة الاسلمي: أن معاذ بن جبل صلى بأصحابه العشاء فقرأ فيها * (اقتربت الساعة) * (القمر: 1) فقام رجل من قبل أن يفرغ فصلى وذهب، فقال له معاذ قولا شديدا
[ 177 ]
فأتى النبي (ص) فاعتذر إليه وقال: إني كنت أعمل في نخل وخفت على الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني لمعاذ: صل بالشمس وضحاها ونحوها من السور. رواهما أحمد بإسناد صحيح. فإن قيل: ففي الصحيحين من حديث جابر أن ذلك الرجل الذي فارق معاذا سلم ثم صلى وحده، وهذا يدل على أنه ما بنى بل استأنف. قيل في حديث جابر: إن معاذا استفتح سورة البقرة فعلم بذلك أنهما قصتان وقعتا في وقتين مختلفين، إما لرجل أو لرجلين. هذه القصة قد رويت على أوجه مختلفة، ففي بعضها لم يذكر تعيين السورة التي قرأها معاذ، ولا تعيين الصلاة التي وقع ذلك فيها، كما في رواية أنس المذكورة. وفي بعضها أن السورة التي قرأها * (اقتربت الساعة) * (القمر: 1) والصلاة العشاء، كما في حديث بريدة المذكور. وفي بعضها أن السورة التي قرأها البقرة والصلاة العشاء، كما في حديث جابر الذي أشار إليه المصنف. وفي بعضها أن الصلاة المغرب كما في رواية أبي داود والنسائي وابن حبان. ووقع الاختلاف أيضا في اسم الرجل فقيل: حرام بن ملحان، وقيل: حزم بن أبي كعب، وقيل: حازم، وقيل: سليم، وقيل: سليمان، وقيل: غير ذلك. وقد جمع بين الروايات بتعدد القصة، وممن جمع بينها بذلك ابن حبان في صحيحه. قوله: ثبت أن الطائفة الاولى الخ، سيأتي بيان ذلك في كتاب صلاة الخوف. قوله: فدخل حرام بالحاء والراء المهملتين ضد حلال بن ملحان بكسر الميم وسكون اللام بعدها حاء مهملة. قوله: فلما طول يعني معاذا، وكذلك قوله فزعم. قوله: إني منافق في رواية للبخاري فكأن معاذا نال منه وللمستملي: تناول منه وفي رواية ابن عيينة: فقال له: أنا فقلت يا فلان؟ فقال: لا والله، ولآتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأن معاذا قال ذلك أولا، ثم قاله أصحابه للرجل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو بلغه الرجل كما في حديث الباب وغيره. وعند النسائي قال معاذ: لئن أصبحت لاذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر ذلك له فأرسل إليه فقال: ما حملك على الذي صنعت؟ فقال: يا رسول الله عملت على ناضح لي. الحديث، ويجمع بين الروايتين بأن معاذا سبقه بالشكوى، فلما أرسل له جاء فاشتكى من معاذ. قوله: أفتان أنت؟ في رواية مرتين، وفي رواية ثلاثا، وفي رواية أفاتن؟. وفي رواية أتريد أن تكون فاتنا؟. وفي رواية: يا معاذ لا تكن فاتنا ومعنى الفتنة هنا أن التطويل يكون سببا لخروجهم من الصلاة ولترك الصلاة في الجماعة.
[ 178 ]
قوله: لا تطول بهم فيه أن التطويل منهي عنه فيكون حراما، ولكنه أمر نسبي كما تقدم: فنهيه لمعاذ عن التطويل لانه كان يقرأ بهم سورة البقرة و * (اقتربت الساعة) * (القمر: 1). قوله: اقرأ ب * (سبح اسم ربك الاعلى) * (الاعلى: 1) * (والشمس وضحاها) * (الشمس: 1) الامر بقراءة هاتين السورتين متفق عليه من حديث جابر، كما تقدم في أبواب القراءة. وفي رواية للبخاري من حديثه وأمره بسورتين من أوسط المفصل. وفي رواية لمسلم بزيادة * (والليل إذا يغشى) * (الليل: 1). وفي رواية له بزيادة: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * (العلق: 1). وفي رواية لعبد الرزاق بزيادة: * (الضحى) * (الضحى: 1). وفي رواية للحميدي بزيادة: * (والسماء ذات البروج) * (البروج: 1). وفيه أن الصلاة بمثل هذه السور تخفيف، وقد يعد ذلك من لا رغبة له في الطاعة تطويلا. قوله: العشاء كذا في معظم روايات البخاري وغيره. وفي رواية المغرب كما تقدم، فيجمع بما سلف من التعدد، أو بأن المراد بالمغرب العشاء مجازا، وإلا فما في الصحيح أصح وأرجح. قوله: اقتربت الساعة في الصحيحين وغيرهما أنه قرأ بسورة البقرة كما أشار إلى ذلك المصنف. وفي رواية لمسلم: قرأ بسورة البقرة أو النساء على الشك. وفي رواية للسراج: قرأ بالبقرة والنساء بلا شك. وقد قوي الحافظ في الفتح إسناد حديث بريدة ولكنه قال: هي رواية شاذة، وطريق الجمع الحمل على تعدد الواقعة كما تقدم، أو ترجيح ما في الصحيحين مع عدم الامكان، كما قال بعضهم: إن الجمع بتعدد الواقعة مشكل، لانه لا يظن بمعاذ أيأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف ثم يعود. وأجيب عن ذلك باحتمال أن يكون معاذ قرأ أولا بالبقرة، فلما نهاه قرأ: * (اقتربت) * وهي طويلة بالنسبة إلى السور التي أمره بقراءتها، ويحتمل أن يكون النهي وقع أولا لما يخشى من تنفير بعض من يدخل في الاسلام، ثم لما اطمأنت نفوسهم ظن أن المانع قد زال فقرأ ب * (اقتربت) * لانه سمع النبي (ص) يقرأ في المغرب بالطور فصادف صاحب الشغل، كذا قال الحافظ. وجمع النووي باحتمال أن يكون قرأ في الاولى بالبقرة فانصرف رجل، ثم قرأ ب * (اقتربت) * في الثانية فانصرف آخر، وقد استدل المصنف بحديث أنس وبريدة المذكورين على جواز صلاة من قطع الائتمام بعد الدخول فيه لعذر وأتم لنفسه وجمع بينه وبين ما في الصحيحين من أنه سلم ثم استأنف بتعدد الواقعة، ويمكن الجمع بأن قول الرجل تجوزت في صلاتي كما في حديث أنس وكذلك قوله: فصلى وذهب كما في حديث بريدة لا ينافي الخروج من صلاة الجماعة
[ 179 ]
بالتسليم واستئنافها فرادى والتجوز فيها، لان جميع الصلاة توصف بالتجوز، كما توصف به بقيتها، ويؤيد ذلك ما رواه النسائي بلفظ: فانصرف الرجل فصلى في ناحية المسجد وفي رواية لمسلم فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وغاية الامر أن يكون ما في حديثي الباب محتملا، وما في الصحيحين وغيرهما مبينا لذلك. باب انتقال المنفرد إماما في النوافل عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت خلفه وقام رجل فقام إلى جنبي، ثم جاء آخر حتى كنا رهطا، فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أننا خلفه تجوز في صلاته ثم قام فدخل منزله فصلى صلاة لم يصلها عندنا، فلما أصبحنا قلنا: يا رسول الله أفطنت بنا الليلة؟ قال: نعم، فذلك الذي حملني على ما صنعت رواه أحمد ومسلم. وعن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ حجرة قال: حسبت أنه قال من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم فقال: قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة رواه البخاري. وعن عائشة: أن رسول الله (ص) كان يصلي في حجرته وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام ناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الليلة الثانية فقام ناس يصلون بصلاته رواه البخاري. قوله: فقمت خلفه فيه جواز قيام الرجل الواحد خلف الامام، وسيأتي في أبواب موقف الامام والمأموم ما يدل على خلاف ذلك. قوله: كنا رهطا قال في القاموس: الرهط قوم الرجل وقبيلته من ثلاثة أو سبعة إلى عشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة ولا واحد له من لفظه الجمع أرهط وأرهاط وأراهيط. قوله: فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أننا خلفه تجوز في صلاته لعله فعل ذلك مخافة أن يكتب عليهم كما في سائر الاحاديث، وليس في تجوزه صلى الله عليه وآله وسلم ودخوله منزله ما يدل على عدم جواز ما فعلوه، لانه لو كان غير جائز لما قررهم على ذلك بعد علمه به
[ 180 ]
وأعلامهم له. قوله: اتخذ حجرة أكثر الروايات بالراء. وللكشميهني بالزاي. قوله: جعل يقعد أي يصلي من قعود لئلا يراه الناس فيأتموا به. قوله: من صنيعكم بفتح الصاد وإثبات الياء، وللاكثر بضم الصاد وسكون النون، وليس المراد صلاتهم فقط، بل كونهم رفعوا أصواتهم وصاحوا به ليخرج إليهم، وحصب بعضهم الباب لظنهم أنه نام، كما ذكر ذلك البخاري في الاعتصام من صحيحه وزاد فيه: حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به. قوله: فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته المراد بالصلاة الجنس الشامل لكل صلاة، فيخرج عن ذلك إلا المكتوبة لاستثنائها. وما يتعلق بالمسجد كتحيته، وهل يدخل في ذلك ما وجب لعارض كالمنذورة؟ فيه خلاف. والمراد بالمرء جنس الرجال، فلا يدخل في ذلك النساء لما تقدم من أن صلاتهن في بيوتهن المكتوبة وغيرها أفضل من صلاتهن في المساجد. قال النووي: إنما حث على النافلة في البيت لكونه أبعد من الرياء وأخفى، وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة، وعلى هذا يمكن أن يخرج بقوله في بيته غيره ولو أمن فيه من الرياء. قوله: إلا المكتوبة المراد بها الصلوات الخمس، قيل: ويدخل في ذلك ما وجب بعارض كالمنذورة. قوله: في حجرته ظاهره أن المراد حجرة بيته، ويدل عليه ذكر جدار الحجرة. وأوضح منه رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عند أبي نعيم بلفظ: كان يصلي في حجرة من حجر أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم. ويحتمل أن تكون الحجرة التي احتجرها في المسجد بالحصير كما في بعض الروايات، وكما تقدم في حديث زيد بن ثابت. ولابي داود ومحمد بن نصر من وجهين آخرين عن أبي سلمة عن عائشة أنها هي التي نصبت له الحصير على باب بيتها. قال في الفتح: فأما أن يحمل على التعدد أو على المجاز في الجدار وفي نسبة الحجرة إليها. (والاحاديث) المذكورة تدل على ما بوب له المصنف رحمه الله من جواز انتقال المنفرد إماما من النوافل، وكذلك في غيرها لعدم الفارق. وقد قدمنا الخلاف في ذلك في باب انعقاد الجماعة باثنين. وقد استدل البخاري في صحيحه بحديث عائشة المذكور على جواز أن يكون بين الامام وبين القوم المؤتمين به حائط أو سترة.
[ 181 ]
باب الامام ينتقل مأموما إذا استخلف فحضر مستخلفه عن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلى بالناس فأقيم؟ قال: نعم، قال: فصلى أبو بكر فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما اكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي (ص) فصلى ثم انصرف فقال: يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله (ص)، فقال رسول الله (ص): ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق، من نابه شئ في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء متفق عليه. وفي رواية لاحمد وأبي داود والنسائي قال: كان قتال بين بني عمرو بن عوف فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم وقال: يا بلال إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس قال: فلما حضرت العصر أقام بلال الصلاة ثم أمر أبا بكر فتقدم وذكر الحديث. قوله: ذهب إلى بني عمرو بن عوف أي ابن مالك بن الاوس، والاوس أحد قبيلتي الانصار وهما: الاوس والخزرج، وبنو عمرو بن عوف بطن كبير من الاوس. وسبب ذهابه (ص) إليهم كما في الرواية التي ذكرها المصنف وقد ذكر نحوها البخاري في الصلح من طريق محمد بن جعفر عن أبي حازم أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال: اذهبوا نصلح بينهم. وله فيه من رواية غسان عن أبي حازم، فخرج في ناس من أصحابه، وله أيضا في الاحكام من صحيحه من طريق حماد بن زيد أن توجهه كان بعد أن صلى الظهر. وللطبراني أن الخبر جاء بذلك وقد أذن بلال لصلاة الظهر. قوله: فحانت الصلاة أي صلاة العصر كما صرح به البخاري
[ 182 ]
في الاحكام من صحيحه. قوله: فقال أتصلي بالناس في الرواية الاخرى التي ذكرها المصنف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أمر بلالا أن يأمر أبا بكر بذلك، وقد أخرج نحوها ابن حبان والطبراني، ولا مخالفة بين الروايتين لانه يحمل على أنه استفهمه، هل تبادر أول الوقت أو ننتظر مجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فرجح أبو بكر المبادرة لانها فضيلة محققة، فلا تترك لفضيلة متوهمة. قوله: فأقيم بالنصب لانها بعد الاستفهام، ويجوز الرفع على الاستئناف. قوله: قال نعم في رواية للبخاري: إن شئت وإنما فوض ذلك إليه لاحتمال أن يكون عنده زيادة علم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك. قوله: فصلى أبو بكر أي دخل في الصلاة، وفي لفظ للبخاري: فتقدم أبو بكر فكبر. وفي رواية: فاستفتح أبو بكر وبهذا يجاب عن سبب استمراره في الصلاة في مرض موته صلى الله عليه وآله وسلم، وامتناعه من الاستمرار في هذا المقام، لانه هناك قمضى معظم الصلاة فحسن الاستمرار، وهنا لم يمض إلا اليسير فلم يحسن. قوله: فنخلص في رواية للبخاري: فجاء يمشي حتى قام عند الصف، ولمسلم: فخرق الصفوف. قوله: فصفق الناس في رواية للبخاري: فأخذ الناس في التصفيح، قال سهل: أتدرون ما التصفيح؟ هو التصفيق. وفيه أنهما مترادفان، وقد تقدم التنبيه على ذلك. قوله: وكان أبو بكر لا يلتفت قيل: كان ذلك لعلمه بالنهي وقد تقدم الكلام عليه. قوله: فرفع أبو بكر يديه فحمد الله. الخ، ظاهره أنه تلفظ بالحمد، وادعى ابن الجوزي أنه أشار بالحمد والشكر بيده ولم يتكلم. قوله: أن يصلي بين يدي رسول الله (ص) تقرير النبي (ص) له على ذلك يدل على ما قاله البعض من أن سلوك طريقة الادب خير من الامتثال، ويؤيد ذلك عدم إنكاره (ص) على علي عليه السلام لما امتنع من محو اسمه في قصة الحديبية. وقد قدمنا الاشارة إلى هذا المعنى في أبواب صفة الصلاة. قوله: أكثرتم التصفيق ظاهره أن الانكار إنما حصل لكثرته لا لمطلقه، ولكن قوله: إنما التصفيق للنساء يدل على منع الرجال منه مطلقا. قوله: التفت إليه بضم المثناة على البناء للمجهول. وفي رواية للبخاري: فإنه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت. (والحديث) يدل على ما بوب له المصنف من جواز انتقال الامام مأموما إذا استخلف فحضر مستخلفه، وادعى ابن عبد البر أن ذلك من خصائص النبي (ص)، وادعى الاجماع على عدم جواز ذلك لغيره، ونوقض أن الخلاف ثابت، وأن الصحيح المشهور عند الشافعية الجواز، وروى عن ابن القاسم الجواز أيضا. وللحديث فوائد ذكر المصنف رحمه الله تعالى بعضها فقال
[ 183 ]
فيه: من العلم أن المشي من صف إلى صف يليه لا يبطل، وأن حمد الله لامر يحدث والتنبيه بالتسبيح جائزان، وأن الاستخلاف في الصلاة لعذر جائز من طريق الاولى، لان قصاراه وقوعها بإمامين اه. ومن فوائد الحديث جواز كون المرء في بعض صلاته إماما، وفي بعضها مأموما. وجواز رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء. وجواز الالتفات للحاجة، وجواز مخاطبة المصلي بالاشارة، وجواز الحمد والشكر على الوجاهة في الدين. وجواز إمامة المفضول للفاضل. وجواز العمل القليل في الصلاة، وغير ذلك من الفوائد. وعن عائشة قالت: مرض رسول الله (ص) فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، فخرج أبو بكر يصلي فوجد النبي (ص) في نفسه خفة فخرج يهادي بين رجلين، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي (ص) أن مكانك، ثم أتيا به حتى جلس إلى جنبه عن يسار أبي بكر وكان أبو بكر يصلي قائما وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي قاعدا يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس بصلاة أبي بكر متفق عليه. وللبخاري في رواية: فخرج يهادي بين رجلين في صلاة الظهر. ولمسلم: وكان النبي (ص) يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير. قوله: مرض رسول الله (ص) هو مرض موته (ص). قوله: مروا أبا بكر استدل بهذا على أن الامر بالامر بالشئ يكون أمرا به، كما ذهب إلى ذلك جماعة من أهل الاصول، وأجاب المانعون بأن المعنى بلغوا أبا بكر أني أمرته، والمبحث مستوفى في الاصول. قوله: فخرج أبو بكر فيه حذف دل عليه سياق الكلام والتقدير فأمروه فخرج. وقد ورد مبينا في بعض روايات البخاري بلفظ: فأتاه الرسول فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر وكان رقيقا: يا عمر صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك. قوله: فوجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه خفة. يحتمل أنه صلى الله عليه وآله وسلم وجد الخفة في تلك الصلاة بعينها، ويحتمل ما هو أعم من ذلك. قوله: يهادي بضم أوله وفتح الدال أي يعتمد على الرجلين متمايلا في مشيه من شد الضعف، والتهادي التمايل في المشي البطئ. قوله: بين رجلين في البخاري أنهما العباس بن المطلب وعلي بن أبي طالب سلام الله عليهما. وفي رواية له: أنه خرج بين بريرة وثوبية. قال النووي: ويجمع بين الروايتين بأنه خرج من البيت إلى المسجد بين هاتين، ومن ثم إلى مقام المصلى بين العباس وعلي. أو يحمل على
[ 184 ]
التعدد، ويدل على ذلك ما في رواية الدارقطني أنه (ص) خرج بين أسامة بن زيد والفضل بن العباس. قال الحافظ: وأما ما في صحيح مسلم أنه (ص) خرج بين الفضل ابن العباس وعلي، فذلك في حال مجيئه (ص) إلى بيت عائشة. قوله: ثم أتيا به في رواية للبخاري: ثم أتي به. وفي رواية له: أن ذلك كان بأمره ولفظها. فقال: أجلساني إلى جنبه فأجلساه. قوله: عن يسار أبي بكر فيه رد على القرطبي حيث قال: لم يقع في الصحيح بيان جلوسه (ص) هل كان عن يمين أبي بكر أو عن يساره؟ قوله: يقتدي أبو بكر بصلاة النبي (ص) فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إماما وأبو بكر مؤتما به، وقد اختلف في ذلك اختلافا شديدا، كما قال الحافظ، ففي رواية لابي داود: أن رسول الله (ص) كان المقدم بين يدي أبي بكر. وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه عن عائشة أنها قالت: من الناس من يقول: كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله (ص)، ومنهم من يقول: كان النبي (ص) المقدم. وأخرج ابن المنذر من رواية مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ: أن النبي (ص) صلى خلف أبي بكر. وأخرج ابن حبان بلفظ: كان أبو بكر يصلي بصلاة النبي (ص) والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وأخرج الترمذي والنسائي وابن خزيمة عنها بلفظ: أن النبي (ص) صلى خلف أبي بكر. قال في الفتح: تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدل على أن النبي (ص) كان هو الامام في تلك الصلاة، ثم قال بعد أن ذكر الاختلاف: فمن العلماء من سلك الترجيح، فقدم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأموما للجزم بها في رواية أبي معاوية وهو أحفظ في حديث الاعمش من غيره. ومنهم من عكس ذلك فقدم الرواية التي فيها أنه كان إماما. ومنهم من سلك الجمع فحمل القصة على التعدد، والظاهر من رواية حديث الباب المتفق عليها أن النبي (ص) كان إماما، وأبو بكر مؤتما، لان الاقتداء المذكور المراد به الائتمام، ويؤيد ذلك رواية مسلم التي ذكرها المصنف بلفظ: وكان النبي (ص) يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير. وقد استدل بحديث الباب القائلون بجواز ائتمام القائم بالقاعد، وسيأتي بسط الكلام في ذلك في باب اقتداء القادر على القيام بالجالس. قوله: وأبو بكر يسمعهم
[ 185 ]
التكبير فيه دلالة على جواز رفع الصوت بالتكبير لاسماع المؤتمين، وقد قيل: إن جواز ذلك مجمع عليه، ونقل القاضي عياض عن بعض المالكية أنه يقول ببطلان صلاة المسمع. [ رم ] باب من صلى في المسجد جماعة بعد إمام الحي عن أبي سعيد: أن رجلا دخل المسجد وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من يتصدق على ذا فيصلي معه؟ فقام رجل من القوم فصلى معه. رواه أحمد وأبو داود والترمذي بمعناه. وفي رواية لاحمد: صلى رسول الله (ص) بأصحابه الظهر فدخل رجل وذكره. الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وابن حبان وحسنه الترمذي قال: وفي الباب عن أبي أمامة، وأبي موسى، والحكم بن عمير، انتهى. وأحاديثهم بلفظ: الاثنان فما فوقهما جماعة. قوله: أن رجلا دخل المسجد لفظ أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يصلي وحده. قوله: من يتصدق لفظ أبي داود: ألا رجل يتصدق؟. ولفظ الترمذي: أيكم يتجر على هذا؟. قوله: فقام رجل من القوم فصلى معه هو أبو بكر الصديق كما بين ذلك ابن أبي شيبة. (والحديث) يدل على مشروعية الدخول مع من دخل في الصلاة منفردا، وإن كان الداخل معه قد صلى في جماعة، قال ابن الرفعة: وقد اتفق الكل على أن من رأى شخصا يصلي منفردا لم يلحق الجماعة فيستحب له أن يصلي معه، وإن كان قد صلى في جماعة، وقد استدل الترمذ بهذا الحديث على جواز أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه، قال: وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال آخرون من أهل العلم: يصلون فرادى، وبه يقول سفيان ومالك وابن المبارك والشافعي انتهى. قال البيهقي: وقد حكى ابن المنذر كراهية ذلك عن سالم بن عبد الله وأبي قلابة وابن عون وأيوب والبتي والليث بن سعد والاوزاعي وأصحاب الرأي، وقد استدل بهذا الحديث أيضا على أن من صلى جماعة ثم رأى جماعة يصلون يستحب له أن يصليها معهم، وقد تقدم البحث عن ذلك. واستدل به أيضا على أن أقل الجماعة اثنان، وعلى أنها غير واجبة لعدم إنكاره على الرجل المتأخر عنها لما دخل وحده، وقد قدمنا الكلام على ذلك، والحديث من مخصصات حديث: لا تعاد صلاة في يوم مرتين كما تقدم.
[ 186 ]
باب المسبوق يدخل مع الامام على أي حال كان ولا يعتد بركعة لا يدرك ركوعها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة رواه أبو داود. وعن أبي هريرة: أن النبي (ص) قال: من أدرك ركعة من الصلاة مع الامام فقد أدرك الصلاة أخرجاه. وعن علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل قالا: قال رسول الله (ص): إذا أتى أحدكم الصلاة والامام على حال فليصنع كما يصنع الامام رواه الترمذي. الحديث الاول أخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح. والحديث الثاني عزاه المصنف إلى الشيخين، وقد طول الحافظ الكلام عليه في التلخيص فليراجع. والحديث الثالث قال في التلخيص: فيه ضعف وانقطاع. قوله: فاسجدوا فيه مشروعية السجود مع الامام لمن أدركه ساجدا. قوله: ولا تعدوها شيئا بضم العين وتشديد الدال أي وافقوه في السجود، ولا تجعلوا ذلك ركعة. قوله: ومن أدرك الركعة قيل: المراد بها هنا الركوع، وكذلك قوله في حديث أبي هريرة: من أدرك ركعة من الصلاة فيكون مدرك الامام راكعا مدركا لتلك الركعة، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقد بسطنا الكلام في ذلك في باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته، وبينا ما نظنه الصواب. قوله: فقد أدرك الصلاة قال ابن رسلان: المراد بالصلاة هنا الركعة، أي صحت له تلك الركعة وحصل له فضيلتها انتهى. قوله: فليصنع كما يصنع الامام فيه مشروعية دخول اللاحق مع الامام في أي جزء من أجزاء الصلاة أدركه، من غير فرق بين الركوع والسجود والقعود لظاهر قوله: والامام على حال والحديث وإن كان فيه ضعف كما قال الحافظ لكنه يشهد له ما عند أحمد وأبي داود من حديث ابن أبي ليلى عن معاذ قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال فذكر الحديث وفيه: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني، قال: فجاء وقد سبقه النبي صلى الله غليه وسلم صلاته قام يقضى، فقال رسول الله (ص): قد سن لكم معاذ
[ 187 ]
فهكذا فاصنعوا. وابن أبي ليلى وإن لم يسمع من معاذ فقد رواه أبو داود من وجه آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث وفيه فقال معاذ: لا أراه على حال إلا كنت عليها الحديث، ويشهد له أيضا ما رواه ابن أبي شيبة عن رجل من الانصار مرفوعا: من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها. وما أخرجه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة مثل لفظ ابن أبي شيبة، والظاهر أنه يدخل معه في الحال التي أدركه عليها مكبرا معتدا بذلك التكبير، وإن لم يعتد بما أدركه من الركعة كمن يدرك الامام في حال سجوده أو قعوده. وقالت الهادوية: أنه يقعد ويسجد مع الامام ولا يحرم بالصلاة، ومتى قام الامام أحرم، واستدلوا بقوله في حديث أبي هريرة: ولا تعدوها شيئا وأجيب عن ذلك بأن عدم الاعتداد المذكور لا ينافي الدخول بالتكبير والاكتفاء به. باب المسبوق يقضي ما فاته إذا سلم إمامه من غير زيادة عن المغيرة بن شعبة قال: تخلفت مع رسول الله (ص) في غزوة تبوك فتبرز وذكر وضوءه، ثم عمد الناس وعبد الرحمن يصلي بهم فصلى مع الناس الركعة الاخيرة، فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله (ص) يتم صلاته، فلما قضاها أقبل عليهم فقال: قد أحسنتم وأصبتم يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها متفق عليه. ورواه أبو داود قال فيه: فلما سلم قام النبي (ص) فصلى الركعة التي سبق بها لم يزد عليها شيئا. قال أبو داود: أبو سعيد الخدري وابن الزبير وابن عمر يقولون: من أدرك الفرد من الصلاة، عليه سجدتا السهو. قوله: في غزوة تبوك. هي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه وذلك في سنة تسع من الهجرة. قوله: وذكر وضوءه قد تقدم في باب المعاونة في الوضوء وفي باب اشتراط الطهارة قبل اللبس. قوله: ثم عمد الناس بفتح العين المهملة والميم بعدها دال مهملة أي قصد، والناس مفعول به. قوله: وعبد الرحمن يصلي بهم جملة حالية، وفيه دليل على أنه إذا خيف فوت وقت الصلاة أو فوت الوقت المختار منها لم ينتظر الامام وإن كان فاضلا. وفيه أيضا: أن فضيلة أول الوقت لا يعادلها فضيلة الصلاة مع الامام الفاضل في غيره. قوله: يصلي بهم يعني صلاة الفجر كما وقع مبينا في سنن
[ 188 ]
أبي داود. قوله: صلى مع الناس الركعة الاخيرة فيه فضيلة لعبد الرحمن بن عوف، إذ قدمه الصحابة لانفسهم في صلاتهم بدلا من نبيهم، وفيه فضيلة أخرى له وهي اقتداؤه صلى الله عليه وآله وسلم به. وفيه جواز ائتمام الامام أو الوالي برجل من رعيته، وفيه أيضا تخصيص لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يؤمن أحد في سلطانه إلا بإذنه يعني أو إلا أن يخاف خروج أول الوقت. قوله: يتم صلاته فيه متمسك لمن قال: إن ما أدركه المؤتم مع الامام أول صلاته وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: قد أصبتم وأحسنتم فيه جواز الثناء على من بادرإلى أداء فرضه وسارع إلى عمل ما يجب عليه عمله. قوله: يغبطهم فيه أن الغبط جائزة، وأنها مغايرة للحسد المذموم. قوله: لم يزد عليها شيئا أي لم يسجد سجدتي السهو، فيه دليل لمن قال: ليس على المسبوق ببعض الصلاة سجود، قال ابن رسلان: وبه قال أكثر أهل العلم، ويؤيد ذلك قوله (ص): وما فاتكم فأتموا. وفي رواية: فاقضوا ولم يأمر بسجود سهو. وذهب جماعة من أهل العلم منهم من ذكر المصنف راويا عن أبي داود، ومنهم عطاء وطاوس ومجاهد وإسحاق، إلى أن كل من أدرك وترا من صلاة إمامه فعليه أن يسجد للسهو، لانه يجلس للتشهد مع الامام في غير موضع الجلوس، ويجاب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس خلف عبد الرحمن ولم يسجد ولا أمر به المغيرة، وأيضا ليس السجود إلا للسهو، ولا سهو هنا، وأيضا متابعة الامام واجبة، فلا يسجد لفعلها كسائر الواجبات. باب من صلى ثم أدرك جماعة فليصلها معهم نافلة فيه عن أبي ذر وعبادة ويزيد بن الاسود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد سبق. وعن محجن بن الادرع قال: أتيت النبي (ص) وهو في المسجد فحضرت الصلاة فصلى يعني ولم أصل، فقال لي: ألا صليت؟ قلت: يا رسول الله إني قد صليت في الرحل ثم أتيتك، قال: فإذا جئت فصل معهم واجعلها نافلة رواه أحمد. وعن سليمان مولى ميمونة قال: أتيت على ابن عمر وهو بالبلاط والقوم يصلون في المسجد فقلت: ما يمنعك أن تصلي مع الناس؟ قال: إني سمعت رسول الله (ص) يقول: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
[ 189 ]
حديث أبي ذر وحديث عبادة اللذين أشار إليهما المصنف تقدما في باب بيان أن من أدرك بعض الصلاة في الوقت فإنه يتمها من أبواب الاوقات. وحديث يزيد بن الاسود تقدم في باب الرخصة في إعادة الجماعة. وحديث محجن أخرجه أيضا مالك في الموطأ والنسائي وابن حبان والحاكم. وحديث ابن عمر أخرجه أيضا مالك في الموطأ، وابن خزيمة وابن حبان. (وفي الباب) أحاديث قدمنا ذكرها في باب الرخصة في إعادة الجماعة. (وحديث) محجن وما قبله من الاحاديث التي أشار إليها المصنف تدل على مشروعية الدخول في صلاة الجماعة لمن كان قد صلى تلك الصلاة، ولكن ذلك مقيد بالجماعات التي تقام في المساجد لما في حديث يزيد بن الاسود المتقدم بلفظ: ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا. وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل الصلاة المفعول مع الجماعة هي الفريضة أم الاولى؟ وقد قدمنا بسط الكلام في ذلك في باب الرخصة في إعادة الجماعة، وقدمنا أيضا أن أحاديث مشروعية الدخول في الجماعة مخصصة لعموم أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر، لما تقدم في حديث يزيد بن الاسود أن ذلك كان في صلاة الصبح، وقدمنا أيضا أن أحاديث الدخول مع الجماعة مخصصة لحديث ابن عمر المذكور في الباب. قوله: وهو بالبلاط هو موضع مفروش بالبلاط بين المسجد والسوق بالمدينة كما تقدم. قوله: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين لفظ النسائي: لا تعاد الصلاة في يوم مرتين وقد تمسك بهذا الحديث القائلون إن من صلى في جماعة ثم أدرك جماعة لا يصلي معهم كيف كانت، لان الاعادة لتحصيل فضيلة الجماعة وقد حصلت له، وهو مروي عن الصيدلاني والغزالي وصاحب المرشد، قال في الاستذكار: اتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه على أن معنى قوله (ص): لا تصلوا صلاة في يوم مرتين أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه، ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضا، وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة اقتداء بالنبي (ص) في أمره بذلك فليس ذلك من إعادة الصلاة في يوم مرتين، لان الاولى فريضة، والثانية نافلة، فلا إعادة حينئذ. باب الاعذار في ترك الجماعة عن ابن عمر عن النبي (ص) أنه كان يأمر المنادي فينادي
[ 190 ]
بالصلاة ينادي صلوا في رحالكم في الليلة الباردة وفي الليلة المطيرة في السفر متفق عليه. وعن جابر قال: خرجنا مع رسول الله (ص) في سفر فمطرنا فقال: ليصل من شاء منكم في رحله رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وعن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قل صلوا في بيوتكم، قال: فكأن الناس استنكروا ذلك، فقال: أتعجبون من ذا، فقد فعل ذا من هو خير مني يعني النبي (ص)، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض متفق عليه ولمسلم: أن ابن عباس أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطير بنحوه. وفي الباب عن سمرة عند أحمد. وعن أسامة عند أبي داود والنسائي. وعن عبد الرحمن بن سمرة أشار إليه الترمذي. وعن عتبان بن مالك عند الشيخين والنسائي وابن ماجة. وعن نعيم النحام عند أحمد. وعن أبي هريرة عند ابن عدي في الكامل. وعن صحابي لم يسم عند النسائي. قوله: يأمر المنادي في رواية للبخاري ومسلم: يأمر المؤذن وفي رواية للبخاري: يأمر مؤذنا. قوله: ينادي صلوا في رحالكم في رواية للبخاري: ثم يقول على أثره يعني أثر الاذان: ألا صلوا في الرحال، وهو صريح في أن القول المذكور كان بعد فراغ الاذان. وفي رواية لمسلم بلفظ: في آخر ندائه قال القرطبي: يحتمل أن يكون المراد في آخره قبل الفراغ منه جمعا بينه وبين حديث ابن عباس المذكور في الباب، وحمل ابن خزيمة حديث ابن عباس على ظاهره وقال: إنه يقال ذلك بدلا من الحيعلة نظرا إلى المعنى، لان معنى حي على الصلاة هلموا إليها، ومعنى الصلاة في الرحال تأخروا عن المجئ، فلا يناسب إيراد اللفظين معا، لان أحدهما نقيض الآخر. قال الحافظ: ويمكن الجمع بينهما، ولا يلزم منه ما ذكر بأن يكون معنى الصلاة في الرحال رخصة لمن أراد أن يترخص، ومعنى هلموا إلى الصلاة ندب لمن أراد أن يستكمل الفضيلة ولو بحمل المشقة. ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمطرنا فقال: ليصل من شاء منكم في رحله. قوله: في رحالكم قال أهل اللغة: الرحل المنزل وجمعه رحال، سواء كان من حجر أو مدر أو خشب أو وبر أو صوف أو شعر أو غير ذلك. قوله: في الليلة الباردة وفي الليلة المطيرة في رواية للبخاري: في الليلة الباردة أو المطيرة
[ 191 ]
وفي أخرى له: إذا كانت ليلة ذات برد ومطر. وفي صحيح أبي عوانة: ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح وفيه أن كلا من الثلاثة عذر في التأخر عن الجماعة، ونقل ابن بطال فيه الاجماع، لكن المعروف عند الشافعية أن الريح عذر في الليل فقط. وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل، وفي السنن من طريق أبي إسحاق عن نافع في هذا الحديث في الليلة المطيرة والغداة القرة، وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه أنهم مطروا يوما فرخص لهم. وكذلك في حديث ابن عباس المذكور في الباب في يوم مطير. قال الحافظ: ولم أر في شئ من الاحاديث الترخيص لعذر الريح في النهار صريحا. قوله: ليصل من شاء منكم في رحله فيه التصريح بأن الصلاة في الرحال لعذر المطر ونحوه رخصة وليست بعزيمة. قوله: في يوم مطير في رواية للبخاري: في يوم رزغ بفتح الراء وسكون الزاي بعدها غين معجمة. قال في المحكم: الرزغ الماء القليل، وقيل: إنه طين ووحل، وفي رواية له ولابن السكن في يوم ردغ بالدال بدل الزاي. قوله: إذا قلت: أشهد أن محمدا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم في رواية للبخاري: فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة، فأمره أن ينادي: الصلاة في الرحال. وفيه دليل على أن المؤذن في يوم المطر ونحوه من الاعذار لا يقول حي على الصلاة، بل يجعل مكانها صلوا في بيوتكم، وبوب على حديث ابن عباس هذا ابن خزيمة، وتبعه ابن حبان، ثم المحب الطبري باب حذف حي على الصلاة. قوله: إن الجمعة عزمة بسكون الزاي ضد الرخصة. قوله: أن أحرجكم بالحاء المهملة ثم راء ثم جيم. وفي رواية: أن أخرجكم بالخاء المعجمة. وفي رواية في البخاري: أن أؤثمكم وهي ترجح رواية من روى بالحاء المهملة. قوله: فتمشوا في رواية: فتجيئون فتدوسون الطين إلى ركبكم. (والاحاديث) المذكورة تدل على الترخيص في الخروج إلى الجماعة والجمعة عند حصول المطر وشدة البرد والريح. وعن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة رواه البخاري. وعن عائشة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الاخبثين رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن أبي
[ 192 ]
الدرداء قال: من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ ذكره البخاري في صحيحه. وفي الباب عن أنس عند الشيخين والترمذي والنسائي. وعن سلمة بن الاكوع عند أحمد والطبراني في معجميه، وفي إسناده أيوب بن عتبة قاضي اليمامة ضعفه الجمهور. وعن أم سلمة عند أحمد وأبي يعلى والطبراني في الكبير وإسناده جيد. وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير أيضا وإسناده حسن. وعن أبي هريرة عند الطبراني في الصغير والاوسط، وقد تقدم الكلام على الصلاة بحضرة الطعام، وذكر من ذهب إلى وجوب تقديم الاكل على الصلاة، ومن قال إنه مندوب فقط، ومن قيد ذلك بالحاجة ومن لم يقيد، وما هوالحق في باب تقديم العشاء إذا حضر على تعجيل صلاة المغرب من أبواب الاوقات فليرجع إلى هنالك. [ رم ] أبواب الامامة وصفة الائمة باب من أحق بالامامة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالامامة أقرؤهم رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه وفي لفظ: لا يؤمن الرجل الرجل في أهله ولا سلطانه. وفي لفظ: سلما بدل سنا روى الجميع أحمد ومسلم. ورواه سعيد بن منصور لكن قال فيه: لا يؤم الرجل اض لرجل في سلطانه إلا بإذنه، ولا يقعد على تكرمته في بيته إلا بإذنه. قوله: إذا كانوا ثلاثة مفهوم العدد هنا غير معتبر لما سيأتي في حديث مالك بن الحويرث. قوله: وأحقهم بالامامة أقرؤهم. وقوله في الحديث الآخر: يؤم القوم أقرؤهم فيه
[ 193 ]
حجة لمن قال: يقدم في الامامة الاقرأ على الافقه، وإليه ذهب الاحنف بن قيس وابن سيرين والثوري وأبو حنيفة وأحمد وبعض أصحابهما. وقال الشافعي ومالك وأصحابهما والهادوية: الافقه مقدم على الاقرأ. قال النووي: لان الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصواب فيه إلا كامل الفقه، وأجابوا عن الحديث بأن الاقرأ من الصحابة كان هو الافقه. قال الشافعي: المخاطب بذلك الذين كانوا في عصره كان أقرؤهم أفقههم، فإنهم كانوا يسلمون كبارا ويتفقهون قبل أن يقرؤوا، فلا يوجد قارئ منهم إلا وهو فقيه، وقد يوجد الفقيه وهو ليس بقارئ لكن قال النووي وابن سيد الناس: أن قوله في الحديث: فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة دليل على تقديم الاقرأ مطلقا، وبه يندفع هذا الجواب عن ظاهر الحديث، لان التفقه في أمور الصلاة لا يكون إلا من السنة، وقد جعل القارئ مقدما على العالم بالسنة، وأما ما قيل من أن الاكثر حفظا للقرآن من الصحابة أكثر فقها فهو وإن صح باعتبار مطلق الفقه لا يصح باعتبار الفقه في أحكام الصلاة، لانها بأسرها مأخوذة من السنة قولا وفعلا وتقريرا، وليس في القرآن إلا الامر بها على جهة الاجمال، وهو مما يستوي في معرفته القارئ للقرآن وغيره. وقد اختلف في المراد من قوله: يؤم القوم أقرؤهم فقيل: المراد أحسنهم قراءة وإن كان أقلهم حفظا. وقيل: أكثرهم حفظا للقرآن، ويدل على ذلك ما رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح عن عمرو بن سلمة قال: انطلقت مع أبي إلى النبي (ص) بإسلام قومه، فكان فيما أوصانا: ليؤمكم أكثركم قرآنا فكنت أكثرهم قرآنا فقدموني. وأخرجه أيضا البخاري وأبو داود والنسائي، وسيأتي في باب ما جاء في إمامة الصبي. قوله: فإن كانوا في القراءة سواء أي استووا في القدر المعتبر منها، إما في حسنها أو في كثرتها وقلتها على القولين، ولفظ مسلم: فإن كانت القراءة واحدة. قوله: فأعلمهم بالسنة فيه أن مزية العلم مقدمة على غيرها من المزايا الدينية. قوله: فأقدمهم هجرة الهجرة المقدم بها في الامامة لا تختص بالهجرة في عصره (ص)، بل هي التي لا تنقطع إلى يوم القيامة، كما وردت بذلك الاحاديث وقال به الجمهور. وأما حديث: لا هجرة بعد الفتح فالمراد به الهجرة من مكة إلى المدينة، أو لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضل
[ 194 ]
الهجرة قبل الفتح، وهذا لا بد منه للجمع بين الاحاديث. قال النووي: وأولاد من تقدمت هجرته من المهاجرين أولى من أولاد من تأخرت هجرته، وليس في الحديث ما يدل على ذلك. قوله: فأقدمهم سنا أي يقدم في الامامة من كبر سنه في الاسلام لان ذلك فضيلة يرجح بها. والمراد بقوله: سلما في الرواية التي ذكرها المصنف الاسلام، فيكون من تقدم إسلامه أولى ممن تأخر إسلامه. وجعل البغوي أولاد من تقدم إسلامه أولى من أولاد من تأخر إسلامه، والحديث لا يدل عليه. قوله: ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه قال النووي: معناه أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره. قال ابن رسلان: لانه موضع سلطنته انتهى. والظاهر أن المراد به السلطان الذي إليه ولاية أمور الناس لا صاحب البيت ونحوه، ويدل على ذلك ما في رواية أبي داود بلفظ: ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه وظاهره أن السلطان مقدم على غيره، وإن كان أكثر منه قرآنا وفقها وورعا وفضلا، فيكون كالمخصص لما قبله. قال أصحاب الشافعي: ويقدم السلطان أو نائبه على صاحب البيت وإمام المسجد وغيرهما، لان ولايته وسلطنته عامة. قالوا: ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل منه. قوله: على تكرمته قال النووي وابن رسلان: بفتح التاء وكسر الراء الفراش ونحوه مما يبسط لصاحب المنزل ويختص به دون أهله. وقيل: هي الوسادة في معناها السرير ونحوه. وعن مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي (ص) أنا وصاحب لي، فلما أردنا الاقفال من عنده قال لنا: إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما. رواه الجماعة. ولاحمد ومسلم: وكانا متقاربين في القراءة. ولابي داود: وكنا يومئذ متقاربين في العلم. قوله: فلما أردنا الاقفال هو مصدر أقفل أي رجع. وفي رواية للبخاري أن مالك بن الحويرث قال: قدمنا على النبي (ص) ونحن شببة فلبثنا عنده نحوا من عشرين ليلة، وكان النبي (ص) رحيما فقال: لو رجعتم إلى بلادكم فعلمتوهم. قوله: وليؤمكما أكبركما. فيه متمسك لمن قال بوجوب الجماعة، وقد ذكرنا فيما تقدم ما يدل على صرفه إلى الندب، وظاهره أن المراد كبر السن. ومنهم من جوز أن يكون مراده بالكبر ما هو أعم من السن والقدر، وهو مقيد بالاستواء في القراءة
[ 195 ]
والفقه كما في الروايتين الاخريين. وقد زعم بعضهم أنه معارض لقوله: يؤم القوم أقرؤهم ثم جمع بأن قصة مالك بن الحويرث واقعة عين غير قابلة للعموم، بخلاف قوله (ص): يؤم القوم أقرؤهم والتنصيص على تقاربهم في القراءة والعلم يرد عليه. قوله: وكنا يومئذ متقاربين في العلم قال في الفتح: أظن في هذه الرواية إدراجا، فإن ابن خزيمة رواه من طريق إسماعيل بن علية عن خالد قال: قلت لابي قلابة: فأين القراءة؟ قال: فإنهما كانا متقاربين، ثم ذكر ما يدل على عدم الادراج. وعن مالك بن الحويرث قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم رواه الخمسة، إلا ابن ماجة، وأكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان لقوله (ص) في حديث أبي مسعود: إلا بإذنه. ويعضده عموم ما روى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة: عبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أم قوما وهم به راضون، ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كل ليلة رواه الترمذي. وعن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوما إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم رواه أبو داود. أما حديث مالك بن الحويرث فحسنه الترمذي وفي إسناده أبو عطية، قال أبو حاتم: لا يعرف ولا يسمى، ويشهد له حديث ابن مسعود عند الطبراني بإسناد صحيح. والاثرم بلفظ: من السنة أن يتقدم صاحب البيت وأخرجه أحمد في مسنده، وحديث عبد الله بن حنطب عند البزار والطبراني قال: قال رسول الله (ص): الرجل أحق بصدر فراشه، وأحق بصدر دابته، وأحق أن يؤم في بيته. وما تقدم من حديث أبي مسعود عند أبي داود بلفظ: ولا يؤم الرجل في بيته. وأما حديث أبي مسعود الذي أشار إليه المصنف فقد تقدم في أول الباب. وأما حديث ابن عمر فقد حسنه الترمذي وفي إسناده أبو اليقظان عثمان بن عمير البجلي وهو ضعيف، ضعفه أحمد وغيره، وتركه ابن مهدي، وقد أخرجه أيضا أحمد. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود من رواية ثور عن يزيد بن شريح الحضرمي عن أبي حي المؤذن وكلهم ثقات، عن أبي هريرة عن النبي (ص). وأخرجه أيضا الترمذي بهذا الاسناد عن ثوبان، ولكن
[ 196 ]
لفظه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يحل لامرئ أن ينظر في جوف بيت امرئ حتى يستأذن، فإن نظر فقد دخل، ولا يؤم قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا يقوم إلى الصلاة وهو حقن. وقال: حديث حسن، ثم قال: وقد روى هذا الحديث عن يزيد بن شريح، عن أبي هريرة، عن النبي (ص)، وكان حديث يزيد بن شريح عن أبي حي المؤذن عن ثوبان في هذا أجود إسنادا وأشهر انتهى. وأخرجه أيضا أحمد عن أبي أمامة وفيه: ولا يؤمن قوما فيخص نفسه بالدغاء دونهم فإن فعل فقد خانهم. ورواه الطبراني أيضا بلفظ: ومن صلى بقوم فخص نفسه بدعوة دونهم فقد خانهم. وفي حديث أبي أمامة اختلاف ذكره الدارقطني. قوله: من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم فيه أن المزور أحق بالامامة من الزائر، وإن كان أعلم أو أقرأ من المزور. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي (ص) وغيرهم، قالوا: صاحب المنزل أحق بالامامة من الزائر. وقال بعض أهل العلم: إذا أذن له فلا بأس أن يصلي به. وقال إسحاق: لا يصلي أحد بصاحب المنزل وإن أذن له، قال: وكذلك في المسجد إذ زارهم يقول: ليصل بهم رجل منهم انتهى. وقد حكى المصنف عن أكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان، واستدل بما ذكره، وقد عرفت مما سلف أن أبا داود زاد في حديث أبي مسعود: ولا يؤم الرجل في بيته فيصلح حينئذ قوله في آخر حديثه: إلا بإذنه لتقييد جميع الجمل المذكورة فيه التي من جملتها قوله: ولا يؤم الرجل في بيته على ما ذهب إليه جماعة من أئمة الاصول، وقال به الشافعي وأحمد قالا: ما لم يقم دليل على اختصاص القيد ببعض الجمل. ويعضد التقييد بالاذن عموم قوله في حديث ابن عمر وهم به راضون. وقوله في حديث أبي هريرة: إلا بإذنهم كما قال المصنف، فإنه يقتضي جواز إمامة الزائر عند رضا المزور. قال العراقي: ويشترط أن يكون المزور أهلا للامامة، فإن لم يكن أهلا كالمرأة في صورة كون الزائر رجلا، والامي في صورة كون الزائر قارئا ونحوهما فلا حق له في الامامة.
[ 197 ]
باب إمامة الاعمى والعبد والمولى عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم وهو أعمى رواه أحمد وأبو داود. وعن محمود بن الربيع: أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى وأنه قال: يا رسول الله إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذ مصلى؟ فجاءه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أين تحب أن أصلي؟ فأشار إلى مكان في البيت فصلى فيه رسول الله (ص) رواه بهذا اللفظ البخاري والنسائي. حديث أنس أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وأبو يعلى، والطبراني عن عائشة، وأخرجه أيضا الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس، وأخرجه أيضا من حديث ابن بحينة وفي إسناده الواقدي. (وفي الباب) عن عبد الله بن عمر الخطمي أنه كان يؤم قومه بني خطمة وهو أعمى على عهد رسول الله (ص)، أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده وابن أبي خيثمة. قوله: يصلي بهم وهو أعمى فيه جواز إمامة الاعمى، وقد صرح أبو إسحاق المروزي والغزالي بأن إمامة الاعمى أفضل من إمامة البصير لانه أكثر خشوعا من البصير، لما في البصير من شغل القلب بالمبصرات، ورجح البعض أن إمامة الاعمى البصير أولى لانه أشد توقيا للنجاسة والذي فهمه الماوردي من نص الشافعي أن إمامة الاعمى والبصير سواء في عدم الكراهية، لان في كل منهما فضيلة، غير أن إمامة البصير أفضل، لان أكثر من جعله النبي (ص) إماما البصراء، وأما استنابته صلى الله عليه وآله وسلم لابن أم مكتوم في غزواته فلانه كان لا يتخلف عن الغزو من المؤمنين إلا معذور، فلعله لم يكن في البصراء المتخلفين من يقوم مقامه، أو لم يتفرغ لذلك، أو استخلفه لبيان الجواز. وأما إمامة عتبان ابن مالك لقومه فلعله أيضا لم يكن في قومه من هو في مثل حاله من البصراء. قوله: كان يؤم قومه وهو أعمى في رواية للبخاري: أنه قال للنبي (ص): يا رسول الله قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي. وهو أصرح من اللفظ الذي ذكره المصنف في الدلالة على المطلوب لما فيه من ظهور التقرير بدون احتمال. قوله: وأنا رجل ضرير البصر في رواية للبخاري: جعل
[ 198 ]
بصري يكل. وفي أخرى: قد أنكرت بصري. ولمسلم: أصابني في بصري بعض الشئ واللفظ الذي ذكره المصنف أخرجه البخاري في باب الرخصة في المطر، وهو يدل على أنه قد كان أعمى. وبقية الروايات تدل على أنه لم يكن قد بلغ إلى حد العمى. وفي رواية لمسلم بلفظ: أنه عمي فأرسل وقد جمع بين الروايات بأنه أطلق عليه العمى لقربه منه ومشاركته له في فوات بعض البصر المعهود في حال الصحة، وأما قول محمود بن الربيع أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى، فالمراد أنه لقيه حين سمع منه الحديث وهو أعمى. قوله: مكانا هو منصوب على الظرفية. (وفي حديث عتبان) فوائد منها إمامة الاعمى، وإخبا المرء عن نفسه بما فيه من عاهة، والتخلف عن الجماعة في المطر والظلمة، واتخاذ موضع معين للصلاة، وإمامة الزائر إذا كان هو الامام الاعظم، والتبرك بالمواضع التي صلى فيها (ص)، وإجابة الفاضل دعوة المفضول وغير ذلك. وعن ابن عمر: لما قدم المهاجرون الاولون نزلوا العصبة موضعا بقباء قبل مقدم النبي (ص) كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا، وكان فيهم عمر بن الخطاب، وأبو سلمة بن عبد الاسد رواه البخاري وأبو دواد. وعن ابن أبي مليكة: أنهم كانوا يأتون عائشة بأعلى الوادي هو وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير، فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة، وأبو عمرو غلامها حينئذ لم يعتق رواه الشافعي في مسنده. ذكر الحافظ في التلخيص رواية ابن أبي مليكة ونسبها إلى الشافعي كما نسبها المصنف، وذكر في الفتح أنها رواها أيضا عبد الرزاق، قال: وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع عن هشام عن أبي بكر بن أبي مليكة أن عائشة أعتقت غلاما لها عن دبر، فكان يؤمها في رمضان في المصحف. وعلقه البخاري. قوله: قدم المهاجرون الاولون أي من مكة إلى المدينة، وبه صرح في رواية الطبراني. قوله: العصبة بالعين المهملة المفتوحة، وقيل مضمومة وإسكان الصاد المهملة وبعدها موحدة اسم مكان بقباء. وفي النهاية عن بعضهم: بفتح العين والصاد المهملتين، قيل: والمعروف المعصب بالتشديد. قوله: وكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة هو مولى امرأة من الانصار فأعتقته، وكانت إمامته بهم قبل أن يعتق، وإنما قيل له مولى أبي حذيفة لانه لازم أبا حذيفة بعد أن أعتق فتبناه، فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه. واستشهد سالم باليمامة في خلافة أبي بكر. قوله: وكان
[ 199 ]
أكثرهم قرآنا إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه. وفي رواية للطبراني: لانه كان أكثرهم قرآنا. قوله: وكان فيهم عمر بن الخطاب الخ، زاد البخاري في الاحكام: أبا بكر الصديق، وزيد بن حارثة، وعامر بن ربيعة. واستشكل ذكر أبي بكر فيهم إذفي الحديث أن ذلك كان قبل مقدم النبي (ص) وأبو بكر كان رفيقه. ووجهه البيهقي باحتمال أن يكون سالم المذكور استقر على الصلاة بهم فيصح ذكر أبي بكر. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه. وقد استدل المصنف رحمه الله بإمامة سالم بهؤلاء الجماعة على جواز إمامة العبد. ووجه الدلالة عليه إجماع أكابر الصحابة القرشيين على تقديمه، وكذلك استدل بإمامة مولى عائشة لاولئك لمثل ذلك. باب ما جاء في إمامة الفاسق عن جابر عن النبي (ص) قال: لا تؤمن امرأة رجلا، ولا أعرابي مهاجرا، ولا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه رواه ابن ماجة. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم رواه الدارقطني. وعن مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر رواه أبو داود والدارقطني بمعناه. وقال مكحول: لم يلق أبا هريرة. وعن عبد الكريم البكاء قال: أدركت عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يصلي خلف أئمة الجور رواه البخاري في تاريخه. حديث جابر في إسناده عبد الله بن محمد التميمي وهو تالف. قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقال وكيع: يضع الحديث، وقد تابعه عبد الملك بن حبيب في الواضحة، ولكنه متهم بسرقة الحديث وتخليط الاسانيد، وقد صرح ابن عبد البر بأن عبد الملك المذكور أفسد إسناد هذا الحديث، وقد ثبت في كتب جماعة من أئمة أهل البيت كأحمد بن عيسى، والمؤيد بالله، وأبي طالب، وأحمد بن سليمان، والامير الحسين، وغيرهم عن علي عليه السلام مرفوعا: لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه. وفي إسناد حديث جابر أيضا علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وحديث
[ 200 ]
ابن عباس في إسناده سلام بن سليمان المدائني وهو ضعيف. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا البيهقي وهو منقطع، وأخرجه ابن حبان في الضعفاء وفي إسناده عبد الله بن محمد بن يحيى ابن عروة وهو متروك. وأخرجه الدارقطني أيضا من حديث الحرث عن علي عليه السلام، ومن حديث علقمة والاسود عن عبد الله، ومن حديث مكحول أيضا عن واثلة، ومن حديث أبي الدرداء من طرق كلها كما قال الحافظ واهية جدا، قال العقيلي: ليس في هذا المتن إسناد يثبت. ونقل ابن الجوزي عن أحمد أنه سئل عنه فقال: ما سمعناه بهذا. وقال الدارقطني: ليس فيها شئ يثبت. قال الحافظ: وللبيهقي في هذا الباب أحاديث كلها ضعيفة غاية الضعف، وأصح ما فيه حديث مكحول عن أبي هريرة على إرساله. وقال أبو أحمد الحاكم: هذا حديث منكر، وأما قول عبد الكريم البكاء أنه أدرك عشرة من أصحاب النبي الخ فهو ممن لا يحتج بروايته، وقد استوفى الكلام عليه في الميزان، ولكنه قد ثبت إجماع أهل العصر الاول من بقية الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعا فعليا، ولا يبعد أن يكون قوليا على الصلاة خلف الجائرين، لان الامراء في تلك الاعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم في كل بلدة فيها أمير، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية، وحالهم وحال أمرائهم لا يخفى. وقد أخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف. وأخرج مسلم وأهل السنن أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، وإخراج منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنكار بعض الحاضرين. وأيضا قد ثبت تواترا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأنه يكون على الامة أمراء يميتون الصلاة ميتة الابدان ويصلونها لغير وقتها فقالوا: يا رسول الله بما تأمرنا؟ فقال: صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة. ولا شك أن من أمات الصلاة وفعلها في غير وقتها غير عدل، وقد أذن النبي (ص) بالصلاة خلفه نافلة، ولا فرق بينها وبين الفريضة في ذلك. ومما يؤيد عدم اشتراط عدالة إمام الصلاة حديث: صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وصلوا على من قال: لا إله إلا الله. أخرجه الدارقطني وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن، كذبه يحيى بن معين، ورواه أيضا من وجه آخر عنه وفي إسناده خالد بن إسماعيل وهو متروك، ورواه أيضا من وجه آخر عنه وفي إسناده أبو الوليد المخزومي وقد خفي حاله أيضا على الضياء المقدسي، وتابعه أبوالبختري وهب
[ 201 ]
بن وهب وهو كذاب. ورواه أيضا والطبراني من طريق مجاهد عن ابن عمر وفيه محمد بن الفضل وهو متروك، وله طريق أخرى عند ابن عمرو فيها عثمان بن عبد الله العثماني وقد رماه ابن عدي بالوضع. ومما يؤيد ذلك أيضا عموم أحاديث الامر بالجماعة من غير فرق بين أن يكون الامام برا أو فاجرا. (والحاصل) أن الاصل عدم اشتراط العدالة، وأن كل من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، وقد اعتضد هذا الاصل بما ذكر المصنف وذكرنا من الادلة، وبإجماع الصدر الاول عليه، وتمسك الجمهور من بعدهم به، فالقائل بأن العدالة شرط كما روي عن العترة ومالك وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب محتاج إلى دليل ينقل عن ذلك الاصل، وقد أفردت هذا البحث برسالة مستقلة، واستوفيت فيها الكلام على ما ظنه القائلون بالاشتراط دليلا من العمومات القرآنية وغيرها، ولهم متمسك على اشتراط العدالة لم أقف على أحد استدل به ولا تعرض له، وهو ما أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري عن السائب بن خلاد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا أم قوما فبصق في القبلة ورسول الله (ص) ينظر إليه، فقال رسول الله (ص) حين فرغ: لا يصلي لكم، فأراد بعد ذلك أن يصلي بهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله (ص) فقال: نعم. قال الراوي حسبت أنه قال له: إنك آذيت الله ورسوله. (واعلم) أن محل النزاع إنما هو في صحة الجماعة خلف من لا عدالة له، وأما أنها مكروهة فلا خلاف في ذلك كما في البحر. وقد أخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه (ص): إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم. ويؤيد ذلك حديث ابن عباس المذكور في الباب. وله: لا تؤمن امرأة رجلا فيه أن المرأة لا تؤم الرجل، وقد ذهب إلى ذلك العترة والحنفية والشافعية وغيرهم، وأجاز المزني وأبو ثور والطبري إمامتها في التراويح إذا لم يحضر من يحفظ القرآن. ويستدل للجواز بحديث أم ورقة: أن النبي (ص) أمرها أن تؤم أهل دارها. رواه أبو داود وصححه ابخزيمة، وأخرجه أيضا الدارقطني والحاكم. وأصل الحديث: أن رسول الله (ص) لما غزا بدرا قالت: يا رسول الله أتأذن لي في الغزو معك؟ فأمرها أن تؤم أهل دارها، وجعل لها مؤذن يؤذن لها، وكان لها غلام وجارية دبرتهما. فالظاهر أنها كانت تصلي ويأتم بها مؤذنها وغلامها
[ 202 ]
وبقية أهل دارها. وقال الدارقطني: إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها. قوله: ولا أعرابي مهاجرا فيه أنه لا يؤم الاعرابي الذي لم يهاجر بمن كان مهاجرا، وقد تقدم أن المهاجر أولى من المتأخر عنه في الهجرة، وممن لم يهاجر أولى بالاولى. باب ما جاء في إمامة الصبي عن عمرو بن مسلمة قال: لما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبادر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم من عند النبي (ص) حقا، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا إست قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا، فما فرحت بشئ فرحي بذلك القميص رواه البخاري والنسائي بنحوه. قال فيه: كنت أؤمهم وأنا ابن ثمان سنين وأبو داود وقال فيه: وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين وأحمد ولم يذكر سنه. ولاحمد وأبي داود: فما شهدت مجمعا من جرم إلا كنت إمامهم إلى يومي هذا. وعن ابن مسعود قال: لا يؤم الغلام حتى تجب عليه الحدود. وعن ابن عباس قال: لا يؤم الغلام حتى يحتلم رواهما الاثرم في سننه. عمرو بن سلمة قد اختلف في صحبته، قال في التهذيب: لم يثبت له سماع من النبي (ص). وروى الدارقطني ما يدل على أنه وفد مع أبيه. وأثر ابن عباس رواه عبد الرزاق مرفوعا بإسناد ضعيف. قوله: وليؤمكم أكثركم فيه أن المراد بالاقرأ في الاحاديث المتقدمة الاكثر قرآنا لا الاحسن قراءة وقد تقدم. قوله: فقدموني فيه جواز إمامة الصبي. ووجه الدلالة ما في قوله (ص): ليؤمكم أكثركم
[ 203 ]
قرآنا من العموم. قال أحمد بن حنبل: ليس فيه اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأجيب بأن إمامته بهم كانت حال نزول الوحي، ولا يقع حالة التقرير لاحد من الصحابة على الخطأ، ولذا استدل بحديث أبي سعيد وجابر: كنا نعزل والقرآن ينزل وأيضا الذين قدموا عمرو بن سلمة كانوا كلهم صحابة، قال ابن حزم: ولا نعلم لهم مخالفا، كذا في الفتح. وقد ذهب إلى جواز إمامة الصبي الحسن وإسحاق والشافعي والامام يحيى، ومنع من صحتها الهادي والناصر والمؤيد بالله من أهل البيت، وكرهها الشعبي والاوزاعي والثوري ومالك. واختلفت الرواية عن أحمد وأبي حنيفة، قال في الفتح: والمشهور عنهما الاجزاء في النوافل دون الفرائض، وقد قيل: إن حديث عمرو المذكور كان في نافلة لا فريضة، ورد بأن قوله: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا يدل على أن ذلك كان في فريضة. وأيضا قوله: فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم لا يحتمل غير الفريضة، لان النافلة لا يشرع لها الاذان. ومن جملة ما أجيب به عن حديث عمرو المذكور ما روي عن أحمد بن حنبل أنه كان يضعف أمر عمرو ابن سلمة، وروى ذلك عنه الخطابي في المعالم، ورد بأن عمرو بن سلمة صحابي مشهور. قال في التقريب: صحابي صغير نزل بالبصرة، وقد روي ميدل على أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وأما القدح في الحديث بأن فيه كشف العورة في الصلاة وهو لا يجوز كما في ضوء النهار فهو من الغرائب. وقد ثبت أن الرجال كانوا يصلون عاقدي أزرهم، ويقال للنساء: لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا. زاد أبو داود: من ضيق الازر. قوله: وكانت علي بردة في رواية أبي داود: وعلي بردة لي صغيرة. وفي أخرى: كنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق. والبردة كساء صغير مربع، ويقال كساء أسود صغير وبه كني أبو بردة. قوله: تقلصت عني في رواية لابي داود: خرجت إستي. وفي أخرى له: تكشفت. قوله: إست قارئكم المراد هنا بالاست العجز ويراد به حلق الدبر. قوله: فاشتروا فقطعوا لي قميصا. لفظ أبي داود: فاشتروا لي قميصا. قوله: من جرم بجيم مفتوحة وراء ساكنة وهم قومه. ومن جملة حجج
[ 204 ]
القائلين بأن إمامة الصبي لا تصح حديث: رفع القلم عن ثلاثة ورد بأن رفع القلم لا يستلزم عدم الصحة، ومن جملتها أن صلاته غصحيحة، لان الصحة معناها موافقة الامر والصبي غير مأمور، ورد بمنع أن ذلك معناها، بل معناها استجماع الاركان وشروط الصحة، ولا دليل على أن التكليف منها، ومن جملتها أيضا أن العدالة شرط لما مر، والصبي غير عدل، ورد بأن العدالة نقيض الفسق وهو غير فاسق، لان الفسق فرع تعلق الطلب ولا تعلق، وانتفاء كون صلاته واجبة عليه لا يستلزم عدم صحة إمامته لما سيأتي من صحة صلاة المفترض خلف المتنفل. باب اقتداء المقيم بالمسافر عن عمران بن حصين قال: ما سافر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفرا إلا صلى ركعتين حتى يرجع، وإنه أقام بمكة زمن الفتح ثمان عشرة ليلة يصلي بالناس ركعتين ركعتين إلا المغرب ثم يقول: يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين أخريين فإنا قوم سفر رواه أحمد. وعن عمر: أنه كان إذ قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر رواه مالك في الموطأ. حديث عمران أخرجه أيضا الترمذي وحسنه، والبيهقي وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده كما قال الحافظ. وأثر عمر رجال إسناده أئمة ثقات. قوله: ما سافر رسول الله (ص) الخ، سيأتي الكلام عليه في أبواب صلاة المسافر. قوله: ثمان عشرة ليلة وقد روي أقل من ذلك، وقد روي أكثر، وسيأتي بيان الاختلاف وكيفية الجمع بين الروايات في باب من أقام لقضاء حاجته. (والحديث) يدل على جواز ائتمام المقيم بالمسافر، وهو مجمع عليه كما في البحر، واختلف في العكس، فذهب الهادي والقاسم وأبو طالب وأبو العباس وطاوس وداود والشعبي والامامية إلى عدم الصحة لقوله (ص): لا تختلفوا على إمامكم. وقد خالف في العدد والنية. وذهب زيد بن علي والمؤيد بالله والباقر وأحمد بن عيسى والشافعية والحنفية إلى الصحة، إذ لم تفصل أدلة الجماعة، وقد خصصت الهادوية عدم صحة صلاة المسافر خلف المقيم بالركعتين الاوليين من الرباعية، وقالوا بصحتها في الآخرتين، ويدل للجواز مطلقا ما أخرجه أحمد
[ 205 ]
بن حنبل في مسنده عن ابن عباس: أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة وفي لفظ أنه قال له موسى بن سلمة: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا، وإذا رجعنا صلينا ركعتين، فقال: تلك سنة أبي القاسم (ص) وقد أورد الحافظ هذا الحديث في التلخيص ولم يتكلم عليه وقال: إن أصله في مسلم والنسائي بلفظ: قلت لابن عباس: كيف أصلى إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الامام؟ قال: ركعتين سنة أبي القاسم. باب هل يقتدي المفترض بالمتنفل أم لا؟ عن جابر: أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة متفق عليه. ورواه الشافعي والدارقطني وزاد: هي له تطوع ولهم مكتوبة العشاء. وعن معاذ بن رفاعة عن سليم رجل من بني سلمة: أنه أتى النبي (ص) فقال: يا رسول الله إن معاذ بن جبل يأتينا بعدما ننام ونكون في أعمالنا في النهار فينادي بالصلاة فنخرج إليه فيطول علينا، فقال رسول الله (ص): يا معاذ لا تكن فتانا، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك رواه أحمد. حديث معاذ بن رفاعة إسناده كلهم ثقات. وحديث معاذ قد روي بألفاظ مختلفة، وقد قدمنا في باب انفراد المأموم لعذر بعضا من ذلك، والزيادة التي رواها الشافعي والدارقطني رواها أيضا عبد الرزاق والطحاوي والبيهقي وغيرهم، قال الشافعي: هذا حديث ثابت لا أعلم حديثا يروى عن النبي (ص) من طريق واحد أثبت منه. قال في الفتح بعد أن ذكر هذه الزيادة: وهو حديث صحيح ورجاله رجال الصحيح. وقد رد في الفتح على ابن الجوزي لما قال: إنها لا تصح، وعلى الطحاوي لما أعلها وزعم أنها مدرجة، والرواية الثانية التي رواها أحمد رواها أيضا الطحاوي وأعلها ابن حزم بالانقطاع، لان معاذ بن رفاعة لم يدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أدرك هذا الذي شكا إليه، لان هذا الشاكي مات قبل يوم أحد. (واعلم) أنه قد استدل بالرواية المتفق عليها وتلك الزيادة المصرحة بأن صلاته بقومه كانت له تطوعا على جواز اقتداء المفترض
[ 206 ]
بالمتنفل، وأجيب عن ذلك بأجوبة منها: قوله (ص): إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك فإنه ادعى الطحاوي أن معناه إما أن تصلي معي ولا تصلي مع قومك، وإما أن تخفف بقومك ولا تصلي معي، ويرد بأن غاية ما في هذا أنه أذن له بالصلاة معه والصلاة بقومه مع التخفيف، والصلاة معه فقط مع عدمه، وهولا يدل على مطلوب المانع من ذلك، نعم قال المصنف رحمه الله ما لفظه: وقد احتج به بعض من منع اقتداء المفترض بالمتنفل، قال: لانه يدل على أنه متى صلى معه امتنعت إمامته، وبالاجماع لا تمتنع بصلاة النفل معه، فعلم أنه أراد بهذا القول صلاة الفرض، وأن الذي كان يصلي معه كان ينويه نفلا اه. وعلى تسليم أن هذا هو المراد من ذلك القول فتلك الزيادة أعني قوله: هي له تطوع ولهم مكتوبة أرجح سندا وأصرح معنى. وقول الطحاوي أنها ظن من جابر مردود، لان جابرا كان ممن يصلي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يظن بجابر أنه أخبر عن شخص بأمر غير معلوم له إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه، فإنه أتقى لله وأخشى. ومنها: أن فعل معاذ لم يكن بأمر النبي (ص) ولا تقريره، كذا قال الطحاوي، ورد بأن النبي (ص) علم بذلك وأمر معاذا به فقال: صل بهم صلاة أخفهم. وقال له لما شكوا إليه تطويله: أفتان أنت يا معاذ؟. وأيضا رأى الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع ههنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة، وفيهم كما قال الحافظ ثلاثون عقبيا وأربعون بدريا، وكذا قال ابن حزم قال: ولا نحفظ من غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال: معهم بالجواز عمر وابنه، وأبو الدرداء، وأنس وغيرهم. ومنها: أن ذلك كان في الوقت الذي يصلي فيه الفريضة مرتين فيكون منسوخا بقوله (ص): لا تصلوا الصلاة في اليوم مرتين كذا قال الطحاوي، ورد بأن النهي عن فعل الصلاة مرتين، محمول على أنها فريضة في كل مرة، كما جزم بذلك البيهقي جمعا بين الحديثين، قال في الفتح: بل لو قال قائل: إن هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيدا، ولا يقال: القصة قديمة، وصاحبها استشهد بأحد، لانا نقول: كانت أحد في أواخر الثالثة، فلا مانع أن يكون النهي في الاولى والاذن في الثانية مثلا، وقد قال (ص) للرجلين اللذين لم يصليا معه: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة أخرجه أصحاب السنن من حديث يزيد بن الاسود، وصححه ابن خزيمة وغيره، وقد تقدم، وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر
[ 207 ]
حياة النبي (ص)، ويدل على الجواز أمره (ص) لمن أدرك الائمة الذين يأتون بعده ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها أن يصلوها في بيوتهم في الوقت ثم يجعلوها معهم نافلة. ومنها: أن صلاة المفترض خلف المتنفل من الاختلاف وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا تختلفوا على إمامكم ورد بأن الاختلاف المنهي عنه مبين في الحديث بقوله: فإذا كبر فكبروا الخ، ولو سلم أنه يعم كل اختلاف لكان حديث معاذ ونحوه مخصصا له، ومن المؤيدات لصحة صلاة المفترض خلف المتنفل ماقاله أصحاب الشافعي أنه لا يظن بمعاذ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الائمة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد المسجد الحرام. ومنها ما قاله الخطابي أن العشاء في قوله: كان يصلي مع النبي (ص) العشاء حقيقة في المفروضة، فلا يقال: كان ينوي بها التطوع. ومنها ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الخوف أنه كان يصلي بكل طائفة ركعتين. وفي رواية أبي داود أنه صلى الله عليه وآله وسلم: صلى بطائفة ركعتين وسلم، ثم صلى بطائفة ركعتين وإحداهما نفل قطعا، ودعوى اختصاص ذلك بصلاة الخوف غير ظاهر. ومنها ما رواه الاسماعيلي عن عائشة أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعود من المسجد فيؤم بأهله وقد تقدم. باب اقتداء الجالس بالقائم عن أنس قال: صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه خلف أبي بكر قاعدا في ثوب متوشحا به. وعن عائشة قالت: صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعدا رواهما الترمذي وصححهما. حديث أنس أخرجه النسائي أيضا والبيهقي، وحديث عائشة أخرجه أيضا النسائي. (والحديثان) يدلان على أن الامام في تلك الصلاة هو أبو بكر، وقد اختلفت الروايات في ذلك عن عائشة وغيرها. وقد قدمنا طرفا من الاختلاف وأشرنا إلى الجمع بينها في باب الامام ينتقل مأموما. وفيهما دليل على جواز صلاة القاعد لعذر خلف القائم، ولا أعلم فيه خلافا.
[ 208 ]
باب اقتداء القادر على القيام بالجالس وأنه يجلس معه عن عائشة: أنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته وهو شاك، فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جعل الامام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا. وعن أنس قال: سقط النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن فرس فجحش شقه الايمن، فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة، فصلى بناقاعدا فصلينا وراءه قعودا، فلما قضى الصلاة قال: إنما جعل الامام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون متفق عليهما. وللبخاري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صرع عن فرسه فجحش شقه أو كتفه فأتاه أصحابه يعودونه، فصلى بهم جالسا، وهم قيام، فلما سلم قال: إنما جعل الامام ليؤتم به، فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا. ولاحمد في مسنده: حدثنا يزيد بن هارون عن حميد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انفكت قدمه فقعد في مشربة له درجتها من جذوع، فأتى أصحابه يعودونه فصلى بهم قاعدا وهم قيام، فلما حضرت الصلاة الاخرى قال لهم: ائتموا بإمامكم، فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا. وعن جابر قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذم نخلة فانفكت قدمه، فأتيناه نعوده فوجدناه في مشربة لعائشة يسبح جالسا، قال: فقمنا خلفه فسكت عنا، ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالسا فقمنا خلفه فأشار إلينا فقعدنا، فلما قضى الصلاة قال: إذا صلى الامام جالسا فصلوا جلوسا، وإذا صلى الامام قائما فصلوا قياما، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها رواه أبو داود. حديث عائشة أخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة. وحديث أنس أخرجه أيضا بقية الائمة الستة. وحديث جابر أخرجه أيضا مسلم وابن ماجة والنسائي من رواية الليث عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلينا
[ 209 ]
وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: إن كنتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا. ورواه أيضا مسلم من رواية عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي عن أبي الزبير عن جابر. ورواه أبو داود من رواية الاعمش عن أبي سفيان عن جابر. (وفي الباب) أحاديث قد قدمنا الاشارة إليها في باب وجوب متابعة الامام، وقد قدمنا الكلام على أكثر ألفاظ أحاديث الباب هنالك. قوله: مشربة بفتح الميم وبالشين المعجمة وبضم الراء وفتحها وهي الغرفة. وقيل: كالخزانة فيها الطعام والشراب ولهذا سميت مشربة، فإن المشربة بفتح الراء فقط هي الموضع الذي يشرب منه الناس. قوله: على جذم بجيم مكسورة وذال معجمة ساكنة وهو أصل الشئ، والمراد هنا أصل النخلة. وفي رواية ابن حبان: على جذع نخلة ذهب أعلاها وبقي أصلها في الارض وحكى الجوهري فتح الجيم وهي ضعيفة، فإن الجذم بالفتح القطع. قوله: فانفكت الفك نوع من الوهن والخلع، وانفك العظم انتقل من مفصله، يقال: فككت الشئ أبنت بعضه من بعض. وقد استدل بالاحاديث المذكورة في الباب القائلون إن المأموم يتابع الامام في الصلاة قاعدا، وإن لم يكن المأموم معذورا، وممن قال بذلك أحمد وإسحاق والاوزاعي وابن المنذر وداود وبقية أهل الظاهر، قال ابن حزم: وبهذا نأخذ إلا فيمن يصلي إلى جنب الامام يذكر الناس ويعلمهم تكبير الامام، فإنه يتخير بين أن يصلي قاعدا وبين أن يصلي قائما، قال ابن حزم: وبمثل قولنا يقول جمهور السلف، ثم رواه عن جابر وأبي هريرة وأسيد بن حضير قال: ولا مخالف لهم يعرف في الصحابة، ورواه عن عطاء، وروي عن عبد الرزاق أنه قال: ما رأيت الناس إلا على أن الامام إذا صلى قاعدا صلى من خلفه قعودا، قال: وهي السنة عن غير واحد. وقد حكاه ابن حبان أيضا عن الصحابة الثلاثة المذكورين، وعن قيس بن قهد أيضا من الصحابة، وعن أبي الشعثاء وجابر بن زيد من التابعين، وحكاه أيضا عن مالك بن أنس وأبي أيوب سليمان بن داود الهاشمي، وأبي خيثمة وابن أبي شيبة، ومحمد بن إسماعيل، ومتبعهم من أصحاب الحديث مثل محمد بن نصر، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ثم قال بعد ذلك: وهو عندي ضرب من الاجماع الذي أجمعوا على إجازته، لان من أصحاب رسول الله (ص) أربعة أفتوا به، والاجماع
[ 210 ]
عندنا إجماع الصحابة، ولم يرو عن أحد من الصحابة خلاف لهؤلاء الاربعة لا بإسناد متصل ولا منقطع، فكأن الصحابة أجمعوا على أن الامام إذا صلى قاعدا كان على المأمومين أن يصلوا قعودا، وقد أفتى به من التابعين جابر بن زيد وأبو الشعثاء، ولم يرو عن أحد من التابعين أصلا خلافه، لا بإسناد صحيح ولا واه، فكأن التابعين أجمعوا على إجازته، قال: وأول من أبطل في هذه الامة صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب النخعي، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان، ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة، وتبعه عليه من بعده من أصحابه، انتهى كلام ابن حبان. وحكى الخطابي في المعالم والقاضي عياض عن أكثر الفقهاء خلاف ذلك. وحكى النووي عن جمهور السلف خلاف ما حكى ابن حزم عنهم، وحكاه ابن دقيق العيد عن أكثر الفقهاء المشهورين. وقال الحازمي في الاعتبار ما لفظه: وقال أكثر أهل العلم: يصلون قياما ولا يتابعون الامام في الجلوس. وقد أجاب المخالفون لاحاديث الباب بأجوبة: أحدها دعوى النسخ قاله الشافعي والحميدي وغير واحد، وجعلوا الناسخ ما تقدم من صلاته (ص) في مرض موته بالناس قاعدا وهم قائمون خلفه ولم يأمرهم بالقعود، وأنكر أحمد نسخ الامر بذلك وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين: إحداهما إذا ابتدأ الامام الراتب الصلاة قاعدا لمرض يرجى برؤه، فحينئذ يصلون خلفه قعودا. ثانيتهما: إذا ابتدأ الامام الراتب قائما لزم المأمومين أن يصلوا خلفيه قياما، سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا، كما في الاحاديث التي في مرض موته (ص)، فإن تقريره لهم على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة، لان أبا بكر ابتدأ الصلاة قائما وصلوا معه قياما، بخلاف الحالة الاولى فإنه (ص) ابتدأ الصلاة جالسا، فلما صلوا خلفه قياما أنكر عليهم. ويقوي هذا الجمع أن الاصل عدم النسخ، لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم النسخ مرتين، لان الاصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدا، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعدا، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع
[ 211 ]
النسخ مرتين وهو بعيد. والجواب الثاني من الاجوبة التي أجاب بها المخالفون لاحاديث الباب دعوى التخصيص بالنبي (ص) فكونه يؤم جالسا، حكى ذلك القاضي عياض قال: ولا يصح لاحد أن يؤم جالسا بعده (ص) قال: وهو مشهور قول مالك وجماعة أصحابه، قال: وهذا أولى الاقاويل لانه (ص) لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا في غيرها ولا لعذر ولا لغيره، ورد بصلاته (ص) خلف عبد الرحمن بن عوف، وخلف أبي بكر، وقد تقدم ذلك. وقد استدل على دعوى التخصيص بحديث الشعبي عن جابر مرفوعا: لا يؤمن أحد بعدي جالسا. وأجيب عن ذلك بأن الحديث لا يصح من وجه من الوجوه كما قال العراقي، وهو أيضا عند الدار قطني من رواية جابر الجعفي عن الشعبي مرسلا وجابر متروك. وروي أيضا من رواية مجالد عن الشعبي ومجالد ضعفه الجمهور. ولما ذكر ابن العربي أن هذا الحديث لا يصح عقبه بقوله: بيد أني سمعت بعض الاشياخ أن الحال أحد وجوه التخصيص وحال النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به وعدم العوض منه يقتضي الصلاة خلفه قاعدا، وليس ذلك كله لغيره انتهى. قال ابن دقيق العيد: وقد عرف أن الاصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل انتهى. على أنه يقدح في التخصيص ما أخرجه أبو داود أن أسيد بن حضير: كان يؤم قومه، فجاء رسول الله (ص) يعوده فقيل: يا رسول الله إن إمامنا مريض، فقال: إذا صلى قاعدا فصلوا قعودا. قال أبو داود: وهذا الحديث ليس بمتصل. وما أخرجه عبد الرزاق عن قيس بن فهد الانصاري: إن إماما لهم اشتكى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكان يؤمنا جالسا ونحن جلوس قال العراقي: وإسناده صحيح. والجواب الثالث من الاجوبة التي أجاب بها المخالفو لاحاديث الباب أنه يجمع بين الاحاديث بما تقدم عن أحمد بن حنبل، وأجيب عنه بأن الاحاديث ترده لما في بعض الطرق أنه أشار إليهم بعد الدخول في الصلاة. والجواب الرابع تأويل قوله: وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا، أي تشهد قاعدا فتشهدوا قعودا أجمعين حكاه ابن حبان في صحيحه عن بعض العراقيين، وهو كما قال ابن حبان تحريف للخبر عن عمومه بغير دليل، ويرده ما ثبت في حديث عائشة أنه أشار إليهم أن اجلسوا، وفيه تعليل ذلك بموافقة الاعاجم في القيام على ملوكهم. إذا عرفت الاجوبة التي أجاب بها المخالفون لاحاديث الباب، فاعلم أنه قد أجاب المتمسكون بها على
[ 212 ]
الاحاديث المخالفة لها بأجوبة: منها قول ابن خزيمة أن الاحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلي قاعدا لم يختلف في صحتها ولا فسياقها، وأما صلاته (ص) في مرض موته فاختلف فيها هل كان إماما أو مأموما؟. ومنها: أن بعضهم جمع بين القصتين بأن الامر بالجلوس كان للندب، وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز. ومنها: أنه استمر عمل الصحابة على القعود خلف الامام القاعد في حياته صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته، كما تقدم عن أسيد بن حضير وقيس بن قهد. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر أنه اشتكى فحضرت الصلاة فصلى بهم جالسا وصلوا معه جلوسا. وعن أبي هريرة أيضا أنه أفتى بذلك، وإسناده كما قال الحافظ صحيح. ومنها: ما روي عن ابن شعبان أنه نازع في ثبوت كون الصحابة صلوا خلفه (ص) قياما غير أبي بكر، لان ذلك لم يرد صريحا. قال الحافظ: والذي ادعى نفيه قد أثبته الشافعي وقال: إنه في رواية إبراهيم عن الاسود عن عائشة. قال الحافظ: ثم وجدته مصرحا به في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عطاء فذكر الحديث ولفظه: فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعدا وجعل أبا بكر وراءه بينه وبين الناس وصلى الناس وراءه قياما. قال: وهذا مرسل يعتضد بالرواية التي علقها الشافعي عن النخعي، قال: وهذا الذي يقتضيه النظر لانهم ابتدأوا الصلاة مع أبي بكر قياما، فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان. باب اقتداء المتوضئ بالمتيمم فيه حديث عمرو بن العاص عن غزوة ذات السلاسل وقد سبق. وعن سعيد بن جبير قال: كان ابن عباس في سفر معه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم عمار بن ياسر فكانوا يقدمونه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصلى بهم ذات يوم فضحك وأخبرهم أنه أصاب من جارية له رومية فصلى بهم وهو جنب متيمم رواه الاثرم. واحتج به أحمد في روايته. حديث عمرو بن العاص تقدم في باب الجنب يتيمم لخوف البرد من كتاب التيمم وفيه أنه: احتلم في ليلة باردة فتيمم ثم صلى بأصحابه صلاة الصبح، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكروا ذلك له فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت
[ 213 ]
جنب؟ فقال: ذكرت قول الله: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * (النساء: 29) فضحك رسول الله (ص) ولم يقل شيئا. التقرير احتج من قال بصحة صلاة المتوضئ خلف المتيمم، ويؤيد ذلك ما أخرجه الدارقطني عن البراء: أن رسول الله (ص) قال: إذا صلى الامام بقوم وهو على غير وضوء أجزأتهم ويعيد وفي إسناده جويبر بن سعيد وهو متروك، وفي إسناده أيضا انقطاع. وما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والبيهقي من حديث أبي بكرة: أن رسول الله (ص) دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده أن مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر فصلبهم. وفي رواية له قال في أوله: وكبر وقال في آخره: فلما قضى الصلاة قال: إنما أنا بشر مثلكم وإنى كنت جنبا وسيأتي الحديث قريبا وهو في الصحيحين بلفظ: أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف وقال مكانكم الحديث. وعلى هذا فلا يكون الحديث مؤيدا ولكنه زعم ابن حبان أنهم قضيتان: إحداهما ذكر النبي (ص) أنه جنب قبل الاحرام بالصلاة، والثانية بعد أن أحرم. ومن المؤيدات لجواز صلاة المتيمم بالمتوضئ ما ذكره المصنف من الاثر المروي عن ابن عباس. وذهبت العترة إلى أنه لا يصح ائتمام المتوضئ بالمتيمم، واحتج لهم في البحر بقوله (ص): لا يؤمن المتيمم المتوضئين وهذا الحديث لو صح لكان حجة قوية. باب من اقتدى بمن أخطأ بترك شرط أو فرض ولم يعلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم رواه أحمد والبخاري. وعن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: الامام ضامن فإذا أحسن فله ولهم، وإن أساء فعليه يعني ولا عليهم رواه ابن ماجة. وقد صح عن عمر أنه صلى بالناس وهو جنب ولم يعلم فأعاد ولم يعيدوا، وكذلك عثمان. وروي عن علي من قوله رضي الله عنهم.
[ 214 ]
حديث سهل بن سعد في إسناده عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف. قوله: يصلون بكم لفظ البخاري: يصلون لكم باللام التي للتعليل، والمراد الائمة. قوله: فإن أصابوا فلكم أي ثواب صلاتكم. قوله: ولهم هذه اللفظة ليست في البخاري وهي في مسند أحمد، والمراد أن لهم ثواب صلاتهم. وزعم ابن بطال أن المراد بالاصابة هنا إصابة الوقت، واستدل بحديث ابن مسعود مرفوعا: لعلكم تدركون أقواما يصلون الصلاة لغير وقتها، فإذا أدركتموهم فصلوا في بيوتكم في الوقت ثم صلوا معهم واجعلوها سبحة وهو حديث حسن أخرجه النسائي وغيره، قال: فالتقدير على هذا، فإن أصابوا الوقت وإن أخطؤوا الوقت فلكم يعني الصلاة التي في الوقت. وأجاب عنه الحافظ بأن زيادة لهم كما في رواية أحمد تدل على أن المراد صلاتهم معهم لا عند الانفراد. وكذلك أخرجه الاسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما، وكذلك أخرج هذه الزيادة ابن حبان من حديث أبي هريرة وأبو داود من حديث عقبة بن عامر مرفوعا بلفظ: من أم الناس فأصاب الوقت فله ولهم. وفي رواية لاحمد في هذا الحديث: فإن صلوا الصلاة لوقتها وأتموا الركوع والسجود فهي لكم ولهم قال في الفتح: فهذا يبين أن المراد ما هو أعم من إصابة الوقت. قال ابن المنذر: هذا الحديث يرد على من زعم أن صلاة الامام إذا فسدت فسدت صلاة من خلفه. قوله: وإن أخطؤوا أي ارتكبوا الخطيئة ولم يرد الخطأ المقابل للعمد لانه لا إثم فيه. قال المهلب: فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر، واستدل به البغوي، على أنه يصح صلاة المأمومين إذا كان إمامهم محدثا وعليه الاعادة. قال في الفتح: واستدل به غيره على أعم من ذلك، وهو صحة الائتمام بمن يخل بشئ من الصلاة ركنا كان أو غيره إذا أتم المأموم وهو وجه للشافعية، بشرط أن يكون الامام هو الخليفة أو نائبه، والاصح عندهم صحة الاقتداء إلا لمن علم أنه ترك واجبا. ومنهم من استدل به على الجواز مطلقا، وهو الظاهر من الحديث، ويؤيده ما رواه المصنف عن الثلاثة الخلفاء رضي الله عنهم. قوله: الامام ضامن قد قدمنا الكلام على حديث أبي هريرة وعلى معنى الضمان في باب الاذان. قوله: وإن أساء فعليه فيه أن الامام إذا كان مسيئا كأن يدخل في الصلاة مخلا بركن أو شرط عمدا فهو آثم، ولا شئ على المؤتمين من إساءته.
[ 215 ]
باب حكم الامام إذ ذكر أنه محدث أو خرج لحدث سبقه أو غير ذلك عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استفتح الصلاة فكبر ثم أومأ إليهم أن مكانكم، ثم دخل ثم خرج ورأسه يقطر فصلى بهم، فلما قضى الصلاة قال: إنما أنا بشر وإنى كنت جنبا ر 0 واأحمد وأبو داود. وقال: رواه أيوب وابن عون وهشام عن محمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فكبر ثم أومأ إلى القوم أن اجلسوا وذهب فاغتسل. وعن عمرو بن ميمون قال: إني لقائم ما بيني وبين عمر غداة أصيب إلا عبد الله بن عباس فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، وتناول عمر عبد الرحمن بن عوف فقدمه فصلى بهم صلاة خفيفة مختصر من البخاري. وعن أبي رزين قال: صلى علي رضي الله عنه ذات يوم فرعف فأخذ بيد رجل فقدمه ثم انصرف رواه سعيد في سننه. وقال أحمد بن حنبل: إن استخلف الامام فقد استخلف عمر وعلي، وإن صلوا وحدانا فقد طعن معاوية وصلى الناس وحدانا من حيث طعن أتموا صلاتهم. حديث أبي بكرة قال الحافظ: اختلف في وصله وإرساله. (وفي الباب) عن أنس عند الدارقطني واختلف في وصله وإرساله، كما اختلف في وصل حديث أبي بكرة وإرساله. وعن علي عند أحمد والبزار والطبراني في الاوسط وفيه ابن لهيعة. وعن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا عند أبي داود ومالك. وعن أبي هريرة عند ابن ماجة قال الحافظ: وفي إسناده نظر. وعن محمد بن سيرين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا عند أبي داود كما ذكر المصنف، والحديث في الصحيحين عن أبي هريرة بألفاظ ليس فيها ذكر أن ذلك كان بعد الدخول في الصلاة، وفي بعضها التصريح بأن ذلك كان قبل التكبير كما تقدم. قال في الفتح: يمكن الجمع بين رواية الصحيحين وغيرهما، بأن يحمل قوله فكبر في رواية أبي داود وغيره على أراد أن يكبر، أو بأنهما واقعتان كما تقدم عن ابن حبان، وذكره أيضا القاضي عياض والقرطبي، وقال النووي: إنه الاظهر، فإن ثبت ذلك وإلا فما في الصحيحين أصح. قوله: ثم أومأ أي أشار ورواية البخاري: فقال لنا فتحمل رواية البخاري على إطلاق القول على
[ 216 ]
الفعل. ويمكن أن يكون جمع بين الكلام والاشارة. قوله: أن مكانكم منصوب بفعل محذوف هو وفاعله والتقدير: الزموا مكانكم. قوله: ورأسيقطر أي من ماء الغسل. قوله: فصلى بهم في رواية للبخاري: فصلينا معه وفيه جواز التخلل الكثير بين الاقامة والدخول في الصلاة. قوله: إنما أنا بشر قد تقدم الكلام على مثل هذا الحصر. قوله: وإني كنت جنبا فيه دليل على جواز اتصافه (ص) بالجنابة وعلى صدور النسيان منه. قوله: عن محمد هو ابن سيرين. قوله: أن اجلسوا هذا يدل على أنهم قد كانوا اصطفوا للصلاة قياما، وقد صرح بذلك البخاري عن أبي هريرة ولفظه: أن رسول الله (ص) خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف. قوله: وذهب في رواية لابي داود: فذهب. وللنسائي: ثم رجع إلى بيته. قوله: فقدمه فصلى بهم سيأتي حديث عمر مطولا في كتاب الوصايا، ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، وفيه جواز الاستخلاف للامام عند عروض عذر يقتضي ذلك لتقرير الصحابة لعمر على ذلك، وعدم الانكار من أحد منهم فكان إجماعا، وكذلك فعل علي وتقريرهم له على ذلك، وإلى ذلك ذهبت العترة وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي ومالك، وفي قول للشافعي: أنه لا يجوز، واستدل له في البحر بتركه (ص) الاستخلاف لما ذكر أنه جنب. وأجاب عن ذلك بأنه فعل ذلك ليدل على جواز الترك أو ذكر قبل دخولهم في الصلاة، قال: ولا قائل بهذا إلا الشافعي انتهى. وذهب أحمد بن حنبل إلى التخيير، كما روى عنه المصنف رحمه الله تعالى. باب من أم قوما يكرهونه عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله (ص) كان يقول: ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة، من تقدم قوما وهم له كارهون ورجل أتى الصلاة دبارا والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته. ورجل اعتبد محرره رواه أبو داود وابن ماجة وقال فيه: يعني بعدما يفوته الوقت. وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قووهم له كارهون رواه الترمذي. حديث عبد الله بن عمرو في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي ضعفه
[ 217 ]
الجمهور، وحديث أبي أمامة انفرد بإخراجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، وقد ضعفه البيهقي. قال النووي في الخلاصة: والارجح هنا قول الترمذي انتهى. وفي إسناده أبو غالب الراسبي البصري صحح الترمذي حديثه. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال النسائي: ضعيف ووثقه الدارقطني. (وفي الباب) عن أنس عند الترمذي بلفظ: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة: رجلا أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، ورجلا سمع حي على الفلاح ثم لم يجب قال الترمذي: حديث أنس لا يصح لانه قد روي عن الحسن عن النبي (ص) مرسلا، وفي إسناده أيضا محمد بن القاسم الاسدي، قال الترمذي: تكلفيه أحمد بن حنبل وضعفه وليس بالحافظ، وضعف حديث أنس هنا أيضا البيهقي، وقال بعد ذكر رواية الحسن له عن أنس: ليس بشئ، تفرد به محمد بن القاسم الاسدي عن الفضل بن دلهم عنه، ثم قال: وروى عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن أنس بن مالك يرفعه. (وفي الباب) أيضا عن ابن عباس عند ابن ماجة عن رسول الله (ص) قال: ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا: رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان قال العراقي: وإسناده حسن. وعن طلحة عند الطبراني في الكبير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أيما رجل أم قوما وهم له كارهون لم تجز صلاته أذنيه. وفي إسناده سليمان بن أيوب الطلحي، قال فيه أبو زرعة: عامة أحاديثه لا يتابع عليها. وقال الذهبي في الميزان: صاحب مناكير وقد وثق. وعن أبي سعيد عند البيهقي بلفظ: ثلاثة لا تجاوز صلاتهم رؤوسهم: رجل أم قوما وهم كارهون. الحديث، قال البيهقي بعد ذكره: وهذا إسناد ضعيف. وعن سلمان عند ابن أبي شيبة في المصنف بنحو حديث أبي أمامة، وهو من رواية القاسم بن مخيمرة عن سلمان ولم يسمع منه. (وأحاديث الباب) يقوي بعضها بعضا فينتهض للاستدلال بها على تحريم أن يكون الرجل إماما لقوم يكرهونه، ويدل على التحريم نفي قبول الصلاة وأنها لا تجاوز آذان المصلين ولعن الفاعل لذلك. وقد ذهب إلى التحريم قوم، وإلى الكراهة آخرون وقد روى العراقي ذلك عن علي بن أبي طالب، والاسود بن هلال، وعبد الله بن الحرث البصري، وقد قيد ذلك جماعة من أهل العلم بالكراهة الدينية لسبب شرعي، فأما الكراهة لغير الدين فلا عبرة بها، وقيدوه أيضا بأن يكون الكارهون
[ 218 ]
أكثر المأمومين، ولا اعتبار بكراهة الواحد والاثنين والثلاثة إذا كان المؤتمون جمعا كثيرا، لا إذا كانوا اثنين أو ثلاثة، فإن كراهتهم أو كراهة أكثرهم معتبرة. وحمل الشافعي الحديث على إمام غير الوالي، لان الغالب كراهة ولاة الامر. وظاهر الحديث عدم الفرق والاعتبار بكراهة أهل الدين دون غيرهم، حتى قال الغزالي في الاحياء: لو كان الاقل من أهل الدين يكرهونه فالنظر إليهم. قوله: ورجل اعتبد محرره أي اتخذ معتقه عبدا بعد إعتاقه، وذلك بأن يعتقه ثم يكتمه ذلك ويستعمله، يقال: اعتبدته اتخذته عبدا. قوله: لا تجاوز صلاتهم آذانهم أي لا ترتفع إلى السماء، وهو كناية عن عدم القبول، كما هو مصرح به في حديث ابن عمرو وغيره. قوله: العبد الآبق فيه أن العبد الآبق لا تقبل له صلاة حتى يرجع من إباقه إلى سيده. وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من حديث جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة. وروي القول بذلك عن أبي هريرة، وقد أول المازري وتبعه القاضي عياض حديث جرير على العبد المستحل للاباق فيكفر ولا تقبل له صلاة ولا غيرها، ونبه بالصلاة على غيرها، وقد أنكر ابن الصلاح ذلك على المازري والقاضي وقال: إن ذلك جار في غير المستحل، ولا يلزم من عدم القبول عدم الصحة، وقد قدمنا البحث عن هذا في مواضع. قوله: وامرأة إلخ فيه أن إغضاب المرأة لزوجها حتى يبيت ساخطا عليها من الكبائر، وهذا إذا كان غضبه عليها بحق. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبانا عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح. ولعل التأويل المذكور في عدم قبول صلاة العبد يجري في صلاة المرأة المذكورة. [ رم ] أبواب موقف الامام والمأموم وأحكام الصفوف باب وقوف الواحد عن يمين الامام والاثنين فصاعدا خلفه عن جابر بن عبد الله قال: قام النبي (ص) يصلي المغرب فجئت فقمت عن يساره فنهاني فجعلني عن يمينه، ثم جاء صاحب لي فصفنا خلفه فصلى بنا في ثوب واحد مخالفا بين طرفيه رواه أحمد. وفي رواية: قام رسول الله صلى الله
[ 219 ]
عليه وآله وسلم ليصلي فجئت فقمت عن يساره فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فقام عن يسار رسول الله (ص) فأخذ بأيدينا جميعا فدفعنا حتى أقامنا خلفه رواه مسلم وأبو داود. وعن سمرة بن جندب قال: أمرنا رسول الله (ص) إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا رواه الترمذي. حديث جابر هو في صحيح مسلم وسنن أبي داود مطولا، وهذا الذي ذكر المصنف بعض منه. وحديث سمرة بن جندب غربه الترمذي. وقال ابن عساكر في الاطراف أنه قال فيه: حسن غريب، وذكر ابن العربي إنه ضعفه، وليس فيما وقفنا عليه من نسخ الترمذي إلا أنه قال: إنه حديث غريب، ولعل المراد بقول ابن العربي: أنه ضعفه أي أشار إلى تضعيفه بقوله: وقد تكلم الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه بعد أن ساق الحديث من طريقه، وإسماعيل بن مسلم هذا هو المكي وأصله بصري سكن مكة فنسب إليها لكثرة مجاورته بها وكان فقيها مفتيا. قال البخاري: تركه ابن المبارك وربما روى عنه. وقال يحيى بن سعيد: لم يزل مختلطا. وقال أحمد بن حنبل: ضعيف الحديث. وقال السعدي: هو واه جدا. وقال عمرو بن علي: كان ضعيفا في الحديث بهم فيه، وكان صدوقا كثير الغلط، يحدث عنه من لا ينظر في الرجال. وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة إلا أنه ممن يكتب حديثه. قوله: فجعلني عن يمينه فيه أن موقف الواحد عن يمين الامام، وقد ذهب الاكثر إلى أن ذلك واجب، وروي عن ابن المسيب أن ذلك مندوب فقط. وروي عن النخعي أن الواحد يقف خلف الامام بيانا للتبعية، فإذا ركع الامام قبل مجئ ثالث اتصل بيمينه وفيه جواز العمل في الصلاة، وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: فصفنا خلفه. وكذلك قوله: فدفعنا حتى أقامنا خلفه. وقوله: أمرنا صلى الله عليه وسلم إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا في هذه الروايات دليل على أن موقف الرجلين مع الامام في الصلاة خلفه، وبه قال علي بن أبي طالب عليه السلام وعمر وابنه وجابر بن زيد والحسن وعطاء، وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة، وجماعة من فقهاء الكوفة. قال ابن سيد الناس: وليس ذلك شرطا عند أحد منهم، ولكن الخلاف في الاولى والاحسن وإلى كون موقف الاثنين خلف الامام ذهبت العترة. وروي عن ابن مسعود أن الاثنين يقفان عن يمين الامام وعن شماله والزائد خلفه، واستدل بما سيأتي، وسيأتي الكلام على دليله. قوله: فصلى بنا في ثوب واحد فيه جواز الصلاة
[ 220 ]
في الثوب الواحد وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: ثم جاء جبار بن صخر هو الانصاري السلمي شهد العقبة وبدرا وما بعدهما. وعن ابن عباس قال: صليت إلى جنب النبي (ص) وعائشة معنا تصلي خلفنا، وأنا إلى جنب النبي (ص) أصلي معه رواه أحمد والنسائي. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى به وبأمه أو خالته قال: فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا رواه أحمد ومسلم وأبو داود. حديث ابن عباس إسناده في سنن النسائي هكذا: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم يعني ابن مقسم وقد وثقه النسائي قال: حدثنا حجاج يعني ابن محمد مولى سليمان خرج حديثه الجماعة قال: قال ابن جريج: أخبرني زياد أن قزعة مولى لعبد القيس أخبره أنه سمع عكرمة. قال: قال ابن عباس فذكره، وزيادة هو ابن سعد الخراساني أخرج له الجماعة، وقزعة وثقه أبو زرعة، فرجال هذا الاسناد ثقات. قوله: صلى به وبأمه أو خالته وفي بعض الروايات: أن جدته مليكة دعت النبي (ص) ثم ذكر الصلاة وسيأتي. (والحديثان) يدلان على أنه إذا حضر مع إمام الجماعة رجل وامرأة كان موقف الرجل عن يمينه وموقف المرأة خلفهما، وإنها لا تصف مع الرجال، والعلة في ذلك ما يخشى من الافتتان، فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعند الحنفية تفسد صلاة الرجل دون المرأة. قال في الفتح: وهو عجيب، وفي توجيهه تعسف حيث قال قائلهم: قال ابن مسعود: أخروهن من حيث أخرهن الله والامر للوجوب، فإذا حاذت الرجل فسدت صلاة الرجل لانه ترك ما أمر به من تأخيرها، قال: وحكاية هذا تغني عن جوابه. وذهبت الهادوية إلى فساد صلاتها إذا صفت مع الرجال، وفساد صلاة من خلفها، وفساد صلاة من في صفها إن علموا بكونها في صفهم. ومن الادلة الدالة على أن المرأة تقف وحدها حديث أنس متفق عليه بلفظ: صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي (ص) وأمي أم سليم خلفنا. وفي لفظ فصففت أنا واليتيم خلفه والعجوز من ورائنا وأخرج ابن عبد البر عن عائشة مرفوعا بلفظ: المرأة وحدها صف. قال ابن عبد البر: هو موضوع وضعه إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله التيمي، عن المسعودي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قال: وهذا لا يعرف إلا بإسماعيل. وعن الاسود بن يزيد قال: دخلت أنا وعمي علقمة على ابن مسعود
[ 221 ]
بالهاجرة قال: فأقام الظهر ليصلي فقمنا خلفه، فأخذ بيدي ويد عمي ثم جعل أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره فصفنا صفا واحدا، قال ثم قال: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع إذا كانوا ثلاثة رواه أحمد. ولابي داود والنسائي معناه. الحديث في إسناده هارون بن عنترة، وقد تكلم فيه بعضهم. قال أبو عمر: هذا لحديث لا يصح رفعه، والصحيح فيه عندهم أنه موقوف على ابن مسعود انتهى. وقد أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي موقوفا على ابن مسعود، وقد ذكر جماعة من أهل العلم منهم الشافعي أن حديث ابن مسعود هذا منسوخ، لانه إنما تعلم هذه الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وفيها التطبيق، وأحكام أخر هي الآن متروكة، وهذا الحكم من جملتها، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة تركه، وعلى فرض عدم علم التاريخ لا ينتهض هذا الحديث لمعارضة الاحاديث المتقدمة في أول الباب، وقد وافق ابن مسعود على وقوف الاثنين عن يمين الامام ويساره أبو حنيفة وبعض الكوفيين. ومن أدلتهم ما رواه أبو داود عن أبي هريرة عنه (ص) أنه قال: وسطوا الامام وسدوا الخلل وسيأتي، وهو محتمل أن يكون المراد اجعلوه مقابلا لوسط الصف الذي تصفون خلفه، ومحتمل أن يكون من قولهم: فلان واسطة قومه أي خيارهم، ومحتمل أن يكون المراد اجعلوه وسط الصف فيما بينكم غير متقدم ولا متأخر، ومع الاحتمال لا ينتهض للاستدلال. وأيضا هو مهجور الظاهر بالاجماع، لان ابن مسعود ومن معه إنما قالوا بتوسط الامام في الثلاثة لا فيما زاد عليهم فيقفون خلفه. وظاهر الحديث عدم الفرق بين الثلاثة وأكثر منهم. باب وقوف الامام تلقاء وسط الصف وقرب أولي الاحلام والنهى منه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): وسطوا الامام وسدوا الخلل رواه أبو داود. وعن أبي مسعود الانصاري قال: كان رسول الله (ص) يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الاحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم رواه أحمد ومسلم
[ 222 ]
والنسائي وابن ماجة. وعن ابن مسعود عن النبي (ص): قال: ليليني منكم أولو الاحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وإياكم وهيشات الاسواق رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي. وعن أنس: قال: كان رسول الله (ص) يحب أن يليه المهاجرون والانصار ليأخذوا عنه رواه أحمد وابن ماجة. حديث أبي هريرة سكت عنه أبو داود والمنذري، وهو من طريق جعفر بن مسافر شيخ أبي داود، قال النسائي: صالح وفي إسناده يحيى بن بشير بن خلاد عن أمه واسمها أمة الواحد، ويحيى مستور وأمه مجهولة، وحديث أبي مسعود أخرجه أيضا أبو داود. وحديث ابن مسعود قال الترمذي: حسن غريب، وقال الدارقطني: تفرد به خالد بن مهران الحذاء عن أبي معشر زياد بن كليب. وقال ابن سيد الناس: إنه صحيح لثقة رواته وكثرة الشواهد له، قال: ولذلك حكم مسلم بصحته. وأما غرابته فليست تنافي الصحة في بعض الاحيان. وأما حديث أنس فأخرجه أيضا الترمذي ولم يذكر له إسنادا، والنسائي ورجال إسناده عند ابن ماجة رجال الصحيح. (وفي الباب) عن أبي بن كعب عند أحمد من حديث قيس بن عباد قال: قدمت المدينة للقاء أصحاب محمد (ص) وما كان بينهم رجل ألقاه أحب إلي من أبي بن كعب، فأقيمت الصلاة فخرج عمر مع أصحاب رسول الله (ص) فقمت في الصف الاول، فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري فنحاني وقام في مكاني فما عقلت صلاتي، فلما صلى قال: يا بني لا يسوؤك الله إني لم آت الذي أتيت بجهالة، ولكن رسول الله (ص) قال لنا، كونوا في الصف الذي يليني، وإني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك ثم حدث، فما رأيت الرجال متحت أعناقها إلى شئ متوجها إليه، قال: فسمعته يقول: هلك أهل العقدة ورب الكعبة، ألا لا عليهم آسي، ولكن آسي على من يهلكون من المسلمين، وإذا هو أبي يعني ابن كعب. هذا لفظ أحمد. وقد أخرج الحديث أيضا النسائي وابن خزيمة في صحيحه. ومتحت بفتح الميم وتاءين مثناتين بينهما حاء مهملة أي مدت. وأهل العقدة بضم العين المهملة وسكون القاف يريد البيعة المعقودة للولاية. وعن سمرة عند الطبراني في الكبير: أن النبي (ص) قال: ليقم الاعراب خلف المهاجرين والانصار ليقتدوا بهم في الصلاة. وهو من رواية الحسن عن سمرة. وعن البراء أشار إليه الترمذي. وعن ابن عباس عند الدارقطني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يتقدم في الصف
[ 223 ]
الاول أعرابي ولا عجمي ولا غلام لم يحتلم. وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. قوله: وسطوا الامام فيه مشروعية جعل الامام مقابلا لوسط الصف، وهو أحد الاحتمالات التي يحتملها الحديث وقد تقدمت. قوله: وسدوا الخلل قال المنذري هو بفتح الخاء المعجمة واللام وهو ما بين الاثنين من الاتساع، وسيأتي ذكر ما هي الحكمة في ذلك في باب الحث على تسوية الصفوف. قوله: فتختلف قلوبكم لان مخالفة الصفوف مخالفة الظواهر، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. قوله: ليليني قال النووي: هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون، ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد، واللام في أوله لام الامر المكسورة أي ليقرب مني. قوله: أولو الاحلام والنهى قال ابن سيد الناس: الاحلام والنهى بمعنى واحد، والنهى بضم النون جمع نهية بالضم أيضا وهي العقول لانها تنهي عن القبح. قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدرا كالهدى، وأن يكون جمعا كالظلم. وقيل: المراد بأولي الاحلام البالغون، وبأولي النهى العقلاء، فعلى الاول يكون العطف فيه من باب: فألفى قولها كذبا وميتا. وهو أن ينزل تغاير اللفظ منزلة تغاير المعنى، وهو كثير في الكلام، وعلى الثاني يكون لكل لفظ معنى مستقل. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا رأى صبيا في الصف أخرجه. وعن زر بن حبيش وأبي وائل مثل ذلك، وإنما خص النبي (ص) هذا النوع بالتقديم لانه الذي يتأتى منه التبليغ، ويستخلف إذا احتيج إلى استخلافه، ويقوم بتنبيه الامام إذا احتيج إليه. قوله: وإياكم وهيشات الاسواق بفتح الهاء وإسكان الياء المثناة من تحت وبالشين المعجمة، أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الاصوات واللغط والفتن التي فيها. والهوشة الفتنة والاختلاط. والمراد النهي عن أن يكون اجتماع الناس في الصلاة مثل اجتماعهم في الاسواق متدافعين متغايرين مختلفي القلوب والافعال. قوله: يحب أن يليه المهاجرون والانصار فيه. وفي حديث أبي بن كعب وسمرة مشروعية تقدم أهل العلم والفضل ليأخذوا عن الامام ويأخذ عنهم غيرهم، لانهم أمس بضبط صفة الصلاة وحفظها ونقلها وتبليغها.
[ 224 ]
باب موقف الصبيان والنساء من الرجال عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الاشعري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان يسوي بين الاربع ركعات في القراءة والقيام، ويجعل الركعة الاولى هي أطولهن لكي يثوب الناس، ويجعل الرجال قدام الغلمان، والغلمان خلفهم، والنساء خلف الغلمان رواه أحمد. ولابي داود عنه قال: ألا أحدثكم بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: فأقام الصلاة وصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان ثم صلى بهم فذكر صلاته. وعن أنس: أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لطعام صنعته فأكل ثم قال: قوموا فلاصلي لكم، فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنصحته بماء فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقمت أنا واليتيم وراءه وقامت العجوز من ورائنا فصلى لنا ركعتين ثم انصرف رواه الجماعة إلا ابن ماجة. وعن أنس: قال: صليت أنا واليتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمي خلفنا أم سليم رواه البخاري. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها رواه الجماعة إلا البخاري. حديث أبي مالك سكت عنه أبو داود والمنذري، وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال. قوله: يسوي بين الاربع ركعات في القراءة والقيام. قد قدمنا في أبواب القراءة الكلام في ذلك مبسوطا. قوله: لكي يثوب أي يرجع الناس إلى الصلاة ويقبلوا إليها. قوله: ويجعل الرجال قدام الغلمان الخ فيه تقديم صفوف الرجال على الغلمان، والغلمان على النساء، هذا إذا كان الغلمان اثنين فصاعدا، فإن كان صبي واحد دخل مع الرجال، ولا ينفرد خلف الصف، قاله السبكي، ويدل على ذلك حديث أنس المذكور في الباب، فإن اليتيم لم يقف منفردا بل صف مع أنس. وقال أحمد بن حنبل: يكره أن يقوم الصبي مع الناس في المسجد خلف الامام إلا من قد احتلم وأنبت وبلغ خمس عشرة سنة، وقد تقدم عن عمر أنه كان إذا رأى صبيا في الصف أخرجه. وكذلك عن أبي وائل وزر بن حبيش. وقيل: عند اجتماع الرجال والصبيان يقف بين كل رجلين صبي ليتعلموا منها الصلاة وأفعالها. قوله: أن جدته مليكة قال ابن عبد البر: إن
[ 225 ]
الضمير عائد إلى إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الراوي للحديث عن أنس، فهي جدة إسحاق لا جدة أنس، وهي أم سليم بنت ملحان زوج أبي طلحة الانصاري، وهي أم أنس بن مالك. وقال غيره: الضمير يعود على أنس بن مالك وهي جدته أم أمه واسمها مليكة بنت مالك، ويؤيد ما قاله ابن عبد البر ما أخرجه النسائي عن إسحاق المذكور أن أم سليم: سألت رسول الله (ص) أن يأتيها ويؤيده أيضا قوله في الرواية المذكورة في الباب: وأمي خلفنا أم سليم وقيل: إنها جدة إسحاق أم أبيه، وجدة أنس أم أمه. قال ابن رسلان: وعلى هذا فلا اختلاف. قوله: فلاصلي لكم روي بكسر اللام وفتح الياء من أصلي، على أنها لام كي والفاء زائدة كما في زيد فمنطلق، وروي بكسر اللام وحذف الياء للجزم، لكن أكثر ما يجزم بلام الامر الفعل المبني للفاعل إذا كان للغائب ظاهر نحو: * (لينفق ذو سعة من سعته) * (الطلاق: 7) أو ضمير نحو مره فليراجعها، وأقل منه أن يكون مسندا إلى ضمير المتكلم نحو: * (ولنحمل خطاياكم) * (العنكبوت: 12) ومثله ما في الحديث وأقل من ذلك ضمير المخاط ب كقراءة * (فبذلك فليفرحوا) * (يونس: 58) بتاء الخطاب، واللام في قوله: لكم للتعليل، وليس المراد إلا أصلي لتعليمكم وتبليغكم ما أمرني به ربي، وليس فيه تشريك في العبادة، فيؤخذ منه جواز أن يكون مع نية صلاته مريدا للتعليم فإنه عبادة أخرى. ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن أبي قلابة قال: جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: إني لاصلي لكم وما أريد الصلاة. وبوب له البخاري باب من صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم. قوله: في نضحته بالضاد المفتوحة والحاء المهملة وهو الرش كما قال الجوهري. وقيل: هو الغسل. قوله: وقمت أنا واليتيم وراءه هو ضميرة بن أبي ضميرة مولى رسول الله (ص)، وهو جد حسين بن عبد الله بن ضميرة. وفيه أن الصبي يسد الجناح، وإليه ذهب الجمهور من أهل البيت وغيرهم. وذهب أبو طالب والمؤيد بالله في أحد قوليه إلى أنه لا يسد، إذ ليس بمصل حقيقة. وأجاب المهدي عن الحديث في البحر بأنه يحتمل بلوغ اليتيم فاستصحب الاسم. وفيه أن الظاهر من اليتم الصغر، فلا يصار إلى خلافه إلا بدليل. ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور جذبه (ص) لابن عباس من جهة اليسار إلى جهة اليمين، وصلاته معه وهو صبي. وأما ما تقدم من جعله صلى الله عليه وآله وسلم للغلمان صفا بعد الرجال ففعل لا يدل على فساد خلافه. قوله: خير صفوف الرجال أولها فيه التصريح بأفضلية
[ 226 ]
الصف الاول للرجال وأنه خيرها لما فيه من إحراز الفضيلة، وقد ورد في الترغيب فيه أحاديث كثيرة سيأتي ذكر بعضها. قوله: وشرها آخرها إن كان شرها لما فيه من ترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الاول. قوله: وخير صفوف النساء آخرها إنما كان خيرها لما في الوقوف فيه من البعد عن مخالطة الرجال، بخلاف الوقوف في الصف الاول من صفوفهن فإنه مظنة المخالطة لهم، وتعلق القلب بهم المتسبب عن رؤيتهم وسماع كلامهم ولهذا كان شرها. وفيه أن صلاة النساء صفوفا جائزة من غير فرق بين كونهن مع الرجال أو منفردات وحدهن. باب ما جاء في صلاة الرجل فذا ومن ركع أو أحرم دون الصف ثم دخله عن علي بن شيبان: أن رسوالله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف فوقف حتى انصرف الرجل فقال له: استقبل صلاتك فلا صلاة لمنفرد خلف الصف رواه أحمد وابن ماجة. وعن وابصة بن معبد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد صلاته رواه الخمسة إلا النسائي. وفي رواية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رجل صلى خلف الصفوف وحده فقال: يعيد الصلارواه أحمد. وعن أبي بكرة: أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: زادك الله حرصا ولا تعد رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي. وعن ابن عباس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم من آخر الليل فصليت خلفه فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه رواه أحمد. حديث علي بن شيبان روى الاثرم عن أحمد أنه قال: حديث حسن. قال ابن سيد الناس: رواته ثقات معروفون، وهو من رواية عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه، وعبد الرحمن قال فيه ابن حزم: وما نعلم أحدا عابه بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا عبد الرحمن بن بدر، وهذا ليس جرحة انتهى. وقد روى عنه أيضا ابنه محمد، ووعلة بن عبد الرحمن بن رئاب، ووثقه ابن حبان. وروي له أبو داود وابن ماجة. ويشهد لحديث علي
[ 227 ]
بن شيبان ما أخرجه ابن حبان عن طلق مرفوعا: لا صلاة لمنفرد خلف الصف وحديث وابصة بن معبد أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وحسنه الترمذي، وقال ابن عبد البر: إنه مضطرب الاسناد، ولا يثبته جماعة من أهل الحديث. وقال ابن سيد الناس: ليس الاضطراب الذي وقع فيه مما يضره، وبين ذلك في شرح الترمذي له وأطال وأطاب. وحديث أبي بكرة أخرجه أيضا ابن حبان. وحديث ابن عباس هو إحدى الروايات التي وردت في صفة دخوله مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الليل في الليلة التي بات فيها عند خالته ميمونة. والذي في الصحيحين وغيرهما: أنه قام عن يساره فجعله عن يمينه. (وقد اختلف السلف) في صلاة المأموم خلف الصف وحده، فقالت طائفة: لا يجوز ولا يصح. وممن قال بذلك النخعي والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وحماد وابن أبي ليلى ووكيع، وأجاز ذلك الحسن البصري والاوزاعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وفرق آخرون في ذلك فرأوا على الرجل الاعادة دون المرأة، وتمسك القائلون بعدم الصحة بحديث علي بن شيبان ووابصة بن معبد المذكورين وتمسك القائلون بالصحة بحديث أبي بكرة قالوا: لانه أتى ببعض الصلاة خلف الصف، ولم يأمره النبي (ص) بالاعادة، فيحمل الامر بالاعادة على جهة الندب مبالغة في المحافظة على الاولى. (ومن جملة) ما تمسكوا به حديث ابن عباس وجابر، إذ جاء كل واحد منهما فوقف عن يسار رسول الله (ص) مؤتما به وحده، فأدار كل واحد منهما حتى جعله عن يمينه، قالوا: فقد صار واحد منهما خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الادارة، وهو تمسك غير مفيد للمطلو ب، لان المدار من اليسار إلى اليمين لا يسمى مصليا خلف الصف وإنما هو مصل عن اليمين. (ومن متمسكاتهم) ما روي عن الشافعي أنه كان يضعف حديث وابصة ويقول: لو ثبت لقلت به، ويجاب عنه بأن البيهقي وهو من أصحابه قد أجاب عنه فقال: الخبر المذكور ثابت. قيل: الاولى الجمع بين أحاديث الباب بحمل عدم الامر بالاعادة على من فعل ذلك لعذر مع خشية الفوت لو انضم إلى الصف، وأحاديث الاعادة على من فعل ذلك لغير عذر. وقيل: من لم يعلم ما في ابتداء الركوع على تلك الحال من النهي فلا إعادة عليه كما في حديث أبي بكرة، لان النهي عن ذلك لم يكن تقدم، ومن علم بالنهي وفعل بعض الصلاة أوكلها خلف الصف لزمته الاعادة. قال ابن سيد الناس: ولا يعد حكم الشروع في الركوع خلف الصف حكم
[ 228 ]
الصلاة كلها خلفه، فهذا أحمد بن حنبل يرى أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة، ويرى أن الركوع دون الصف جائز. قال: وقد اختلف السلف في الركوع دون الصف، فرخص فيه زيد بن ثابت، وفعل ذلك ابن مسعود وزيد بن وهب، وروي عن سعيد بن جبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة وابن جريج ومعمر أنهم فعلوا ذلك. وقال الزهري: إن كان قريبا من الصف فعل، وإن كان بعيدا لم يفعل، وبه قال الاوزاعي انتهى. قال الحافظ في التلخيص: اختلف في معنى قوله: ولا تعد فقيل: نهاه عن العود إلى الاحرام خارج الصف، وأنكر هذا ابن حبان وقال: أراد لا تعد في إبطاء المجئ إلى الصلاة. وقال ابن القطان الفاسي تبعا للمهلب بن أبي صفرة معناه لا تعد إلى دخولك في الصف وأنت راكع فإنها كمشية البهائم، ويؤيده رواية حماد بن سلمة في مصنفه عن الاعلم عن الحسن عن أبي بكرة أنه: دخل المسجد ورسول الله (ص) يصلي وقد ركع فركع ثم دخل الصف وهو راكع فلما انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: أيكم دخل في الصف وهو راكع؟ فقال له أبو بكرة: أنا، فقال: زادك الله حرصا ولا تعد. وقال غيره: بل معناه لا تعد إلى إتيان الصلاة مسرعا، واحتج بما رواه ابن السكن في صحيحه بلفظ: أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف، فلما قضى الصلاة قال: من الساعي آنفا؟ قال أبو بكرة: فقلت أنا، فقال: زادك الله حرصا ولا تعد. قال في التلخيص أيضا: أنه روى الطبراني في الاوسط من حديث ابن الزبير ما يعارض هذا الحديث، فأخرج من حديث ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء سمع ابن الزبير على المنبر يقول: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل، ثم يدب راكعا حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة. قال عطاء: وقد رأيته يصنع ذلك وقال: تفرد به ابن وهب ولم يروه عنه غير حرملة، ولا يروى عن ابن الزبير إلا بهذا الاسناد انتهى. وقد اختلف فيمن لم يجد فرجة ولا سعة في الصف ما الذي يفعل؟ فحكى عن نصه في البويطي أنه يقف منفردا ولا يجذب إلى نفسه أحدا، لانه لو جذب إلى نفسه واحدا لفوت عليه فضيلة الصف الاول، ولاوقع الخلل في الصف، وبهذا قال أبو الطيب الطبري وحكاه عن مالك. وقال أكثر أصحاب الشافعي وبه قالت الهادوية: أنه يجذب إلى نفسه واحدا، ويستحب للمجذوب أن يساعده، ولا فرق بين الداخل في أثناء الصلاة والحاضر في ابتدائها في ذلك، وقد روي عن عطاء وإبراهيم النخعي أن الداخل إلى الصلاة والصفوف قد استوت واتصلت يجوز له أن يجذب إلى
[ 229 ]
نفسه واحدا ليقوم معه، واستقبح ذلك أحمد وإسحاق، وكرهه الاوزاعي ومالك. وقال بعضهم: جذب الرجل في الصف ظلم، واستدل القائلون بالجواز بما رواه الطبراني في الاوسط والبيهقي من حديث وابصة: أنه (ص) قال لرجل صلى خلف الصف: أيها المصلي هلا دخلت في الصف أو جررت رجلا من الصف؟ أعد صلاتك. وفيه السري بن إسماعيل وهو متروك، وله طريق أخرى في تاريك اصبهان لابي نعيم وفيها قيس بن الربيع وفيه ضعف. ولابي داود في المراسيل من رواية مقاتل بن حيان مرفوعا: إن جاء رجل فلم يجد أحدا فليختلج إليه رجلا من الصف فليقم معه، فما أعظم أجر المختلج. وأخرج الطبراني عن ابن عباس بإسناد قال الحافظ، واه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الآتي وقد تمت الصفوف أن يجتذب إليه رجلا يقيمه إلى جنبه. باب الحث على تسوية الصفوف ورصها وسد خللها عن انس أن النبي (ص) قال: سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة. وعن أنس قال: كان رسول الله (ص) يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول: تراصوا واعتدلوا متفق عليهما. وعن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله (ص) يسوي صفوفنا كأنما يسوي به القداح حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوما فقام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلا باديا صدره من الصف فقال: عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم رواه الجماعة إلا البخاري فإن له منه: لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ولاحمد وأبي داود في رواية قال: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركبته، ومنكبه بمنكبه. وفي الباب غير ما ذكره المصنف عند أحمد وأبي داود والنسائي قال: كان رسول الله (ص) يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم الحديث. وعن أبي هريرة عند مسلم. وعن جابر بن عبد الله عند عبد الرزاق. وعن ابن عمر عند أحمد وأبي داود. قوله: سووا صفوفكم فيه أن تسوية الصفوف واجبة. قوله: فإن تسوية الصف من تمام الصلاة في لفظ البخاري:
[ 230 ]
من إقامة الصلاة والمراد بالصف الجنس. وفي رواية: فإن تسوية الصفوف وقد استدل ابن حزم بذلك على وجوب التسوية قال: لان إقامة الصلاة واجبة، وكل شئ من الواجب واجب، ونازع من ادعى الاجماع على عدم الوجوب، وروي عن عمر وبلال ما يدل على الوجوب عندهما لانهما كانا يضربان الاقدام على ذلك. قال في الفتح: ولا يخفى ما فيه لا سيما وقد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، يعني أنه رواها بعضهم بلفظ: من تمام الصلاة كما تقدم. واستدل ابن بطال بما في البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: فإن إقامة الصف من حسن الصلاة على أن التسوية سنة، قال: لان حسن الشئ زيادة على تمامه، وأورد عليه رواية: من تمام الصلاة وأجاب ابن دقيق العيد فقال: قد يؤخذ من قوله تمام الصلاة الاستحباب، لان تمام الشئ في العرف أمر خارج عن حقيقته التي لا يتحقق إلا بها، وإن كان يطلق حسب الوضع على ما لا تتم الحقيقة إلا به، ورد بأن لفظ الشارع لا يحمل إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع لا العرف الحادث. قوله: تراصوا بتشديد الصاد المهملة أي تلاصقوا بغير خلل. وفيه جواز الكلام بين الاقامة والدخول في الصلاة. قوله: لتسون بضم التاء المثناة من فوق وفتح السين وضم الواو وتشديد النون، قال البيضاوي: هذه اللام التي يتلقى بها القسم، والقسم هنا مقدر، ولهذا أكده بالنون المشددة. قوله: أو ليخالفن الله بين وجوهكم أي إن لم تسووا، والمراد بتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد، ويراد بها أيضا سد الخلل الذي في الصف، واختلف في الوعيد المذكور فقيل: هو على حقيقته، والمراد تشويه الوجه بتحويل خلقه عن موضعه بجعله موضع القفا أو نحو ذلك، فهو نظير ما تقدم فيمن رفع رأسه قبل الامام أن يجعل الله رأسه رأس حمار. وفيه من اللطائف وقوع الوعيد من جنس الجناية وهي المخالفة. قال في الفتح: وعلى هذا فهو واجب، والتفريط فيه حرام، ويؤيد الوجوب حديث أبي أمامة بلفظ: لتسون الصفوف أو لتطمسن الوجوه أخرجه أحمد وفي إسناده ضعف. ومنهم من حمل الوعيد المذكور على المجاز، قال النووي: معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول تغير وجه فلان أي ظهر لي من وجهه كراهة، لان مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن، ويؤيده رواية أبي داود بلفظ: أو ليخالفن الله بين قلوبكم وقال القرطبي: معناه تفترقون فيأخذ كل واحد وجها غير الذي يأخذه صاحبه، لان تقدم الشخص
[ 231 ]
على غيره مظنة للتكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطيعة. (والحاصل) أن المراد بالوجه إن حمل على العضو المخصوص فالمخالفة إما بحسب الصورة الانسانية أو الصفة، أو جعل القدام وراء، وإن حمل على ذات الشخص فالمخالفة بحسب المقاصد أشار إلى ذلك الكرماني، ويحتمل أن يراد المخالفة في الجزاء، فيجازى المسوي بخير، ومن لا يسوي بشر. قوله: كأنما يسوي بها القداح هي جمع قدح بكسر القاف وإسكان الدال المهملة وهو السهم قبل أن يراش ويركب فيه النصل. قوله: يلزق بضم أوله يتعدى بالهمزة والتضعيف يقال: ألزقته ولزقته. قوله: منكبه المنكب مجتمع العضد والكتف. [ رح 1130 ] وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف، يعني أولاد الضأن الصغار رواه أحمد. الحديث، قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أحمد بإسناد لا بأس به والطبراني، وأخرج نحوه أبو داود والنسائي من حديث ابن عمر، وأخرجا نحوه أيضا من حديث أنس. قوله: وحاذوا بين مناكبكم بالحاء المهملة والذال المعجمة أي اجعلوا بعضها حذاء بعض بحيث يكون منكب كل واحد من المصلي موازيا لمنكب الآخر ومسامتا له، فتكون المناكب والاعناق والاقدام على سمت واحد. قوله: ولينوا في أيدي إخوانكم لفظ أبي داود عن ابن عمر: ولينوا بأيدي إخوانكم أي إذا جاء المصلي ووضع يده على منكب المصلي فليلن له بمنكبه، وكذا إذا أمره من يسوي الصفوف بالاشارة بيده أن يستوي في الصف أو وضع يده على منكبه فليستو. وكذا إذا أراد أن يدخل في الصف فليوسع له. قال في المفاتيح شرح المصابيح: وهذا أولى وأليق من قول الخطابي: إن معنى لين المنكب السكون والخشوع. قوله: وسدوا الخلل هو بفتحتين الفرجة بين الصفين كمتقدم. قوله: الحذف قال النووي: بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين ثم فاء واحدتها حذفة مثل قصب وقصبة وهي غنم سود صغار تكون باليمن والحجاز. وعن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الاول ويتراصون في الصف رواه الجماعة إلا البخاري
[ 232 ]
والترمذي. وعن أنس: أن رسول الله (ص) قال: أتموا الصف الاول ثم الذي يليه، فإن كان نقص فليكن في الصف المؤخر رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون على ميامن الصفوف رواه أبو داود وابن ماجة. وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى في أصحابه تأخرا فقال لهم: تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من ورائكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عزوجل رواه مسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجة. حديث أنس هو عند أبي داود من طريق محمد بن سليمان الانباري وهو صدوق، وبقية رجاله رجال الصحيح. وحديث عائشة رجاله رجال الصحيح على ما في معاوية بن هشام من المقال. قوله: ألا تصفون بفتح التاء المثناة من فوق وضم الصاد وبضم أوله مبني للمفعول، والمراد الصف في الصلاة. قوله: كما تصف الملائكة فيه الاقتداء بأفعال الملائكة في صلاتهم وتعبداتهم. قوله: عند ربها كذا لفظ ابن حبان، ولفظ أبي داود والنسائي: عند ربهم. قوله: فقلنا لفظ أبي داود وابن حبان: قلنا. ولفظ النسائي: قالوا. قوله: يتمون الصف الاول لفظ أبي داود: يتمون الصفوف المتقدمة وفيه فضيلة إتمام الصف الاول. قوله: ويتراصون تقدم تفسيره. قوله: أتموا الصف الاول فيه مشروعية إتمام الصف الاول، وقد اختلف في الصف الاول في المسجد الذي فيه منبر هل هو الخارج بين يدي المنبر أو الذي هو أقرب إلى القبلة؟ فقال الغزالي في الاحياء: أن الصف الاول هو المتصل الذي في فناء المنبر وما عن طرفيه مقطوع، قال: وكان سفيان يقول: الصف الاول هو الخارج بين يدي المنبر، قال: ولا يبعد أن يقال: الاقرب إلى القبلة هو الاول. وقال النووي في شرح مسلم: الصف الاول الممدوح الذي وردت الاحاديث بفضله هو الصف الذي يلي الامام، سواء جاء صاحبه مقدما أو مؤخرا، سواء تخلله مقصورة أو نحوها، هذا هو الصحيح الذي جزم به المحققون. وقال طائفة من العلماء: الصف الاول هو المتصل من طرف المسجد إلى طرفه، لا تقطعه مقصورة ونحوها، فإن تخلل الذي يلي الامام فليس بأول، بل الاول ما لم يتخلله شئ، قال: وهذا هو الذي ذكره الغزالي. وقيل: الصف الاول عبارة عن مجئ الانسان إلى المسجد أولا، وإن صلى في صف آخر. قيل لبشر بن الحرث: نراك تبكر
[ 233 ]
وتصلي في آخر الصفوف، فقال: إنما يراد قرب القلوب لاقرب الاجساد، والاحاديث ترد هذا. قوله: إن الله وملائكته يصلون الخ، لفظ أبي داود: إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف وفيه استحباب الكون في يمين الصف الاول وما بعده من الصفوف. قوله: وليأتم بكم من وراءكم أي ليقتد بكم من خلفكم من الصفوف. وقد تمسك به الشعبي على قوله: إن كل صف منهم إمام لمن وراءه وعامة أهل العلم يخالفونه. قوله: لا يزال قوم يتأخرون زاد أبو داود: عن الصف الاول. قوله: حتى يؤخرهم الله أي يؤخرهم الله عن رحمته وعظيم فضله، أو عن رتبة العلماء المأخوذ عنهم، أو عن رتبة السابقين، وقيل: إن هذا في المنافقين، والظاهر أنه عام لهم ولغيرهم. وفيه الحث على الكون في الصف الاول والتنفير عن التأخر عنه. وقد ورد في فضيلة الصلاة في الصف الاول أحاديث غير ما ذكره المصنف. منها عن أبي هريرة عند مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجة بلفظ: خير صفوف الرجال أولها الحديث وقد تقدم، وله حديث آخر متفق عليه: لو أن الناس يعلمون ما في النداء والصف الاول وقد تقدم أيضا. وعن جابر عند ابن أبي شيبة بنحو حديث أبي هريرة الاول. وعن العرباض بن سارية عند النسائي وابن ماجة وأحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يستغفر للصف المقدم ثلاثا وللثاني مرة وعن عبد الرحمن بن عوف عند ابن ماجة بنحو حديث عائشة. وعن النعمان بن بشير بنحوه عند أحمد. وعن البراء بن عازب عند أحمد وأبي داود والنسائي من حديث فيه نحو حديث عائشة أيضا. باب هل يأخذ القوم مصافهم قبل الامام أم لا؟ عن أبي هريرة: إن الصلاة كانت تقام لرسول الله (ص) فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يأخذ النبي (ص) مقامه رواه مسلم وأبو داود. وعن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياما قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إلينا فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب وقال لنا: مكانكم، فمكثنا على هيئتنا يعني قياما، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر فكبر فصلينا معه متفق عليه. ولاحمد والنسائي: حتى إذا قام في مصلاه وانتظرنا أن
[ 234 ]
يكبر انصرف وذكر نحوه. وعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت رواه الجماعة إلا ابن ماجة، ولم يذكر البخاري فيه قد خرجت. قوله: إن الصلاة كانت تقام المراد بالاقامة ذكر الالفاظ المشهور المشعرة بالشروع في الصلاة. قوله: فيأخذ الناس مصافهم يعني مكانهم من الصف. قوله: قبل أن يأخذ النبي (ص) فيه اعتدال الصفوف قبل وصول الامام إلى مكانه. قوله: قبل أن يخرج فيه جواز قيام المؤتمين وتعديل الصفوف قبل خروج الامام، وهو معارض لحديث أبي قتادة، ويجمع بينهما بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، أو بأن صنيعهم في حديث أبي هريرة كان سببا للنهي عن ذلك في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة، ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره. قوله: ذكر أنه جنب قد تقدم الكلام فباب حكم الامام إذا ذكر أنه محدث. قوله: مكانكم قد تقدم أنه منصوب بفعل مقدر. قوله: على هيئتنا بفتح الهاء بعدها ياء تحتانية ساكنة ثم همزة مفتوحة ثم مثناة فوقانية. والمراد بذلك أنهم امتثلوا أمره في قوله: مكانكم فاستمروا على الهيئة أي الكيفية التي تركهم عليها وهي قيامهم في صفوفهم المعتدلة. وفي رواية للكشميهني: على هينتنا بكسر الهاء وبعد الياء نون مفتوحة والهينة الرفق. قوله: يقطر في رواية للبخاري: ينطف وهي بمعنى الاولى. قوله: وانتظرنا أن يكبر فيه أنه ذكر قبل أن يدخل في الصلاة، وقد تقدم الاختلاف في ذلك. قوله: إذا أقيمت الصلاة أي ذكرت ألفاظ الاقامة كما تقدم. قوله: حتى تروني قد خرجت فيه أن قيام المؤتمين في المسجد إلى الصلاة يكون عند رؤية الامام، وقد اختلف في ذلك، فذهب الاكثرون إلى أنهم يقومون إذا كان الامام معهم في المسجد عند فراغ الاقامة. وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة رواه ابن المنذر وغيره. وعن سعيد بن المسيب: إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، فإذا قال: قامت الصلاة كبر الامام. وقال مالك في الموطأ: لم اسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة بحد محدود، إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس فإن فيهم الثقيل والخفيف. وأما إذا لم يكن الامام في المسجد، فذهب الجمهور إلى أنهم
[ 235 ]
يقومون حين يرونه، وخالف البعض في ذلك، وحديث الباب حجة عليه. (وفي حديث الباب) جواز الاقامة والامام في منزله إذا كان يسمعها، وتقدم إذنه في ذلك، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة أن بلالا كان لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ويجمع بينهما بأن بلالا كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلاول ما يراه يشرع في الاقامة قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأوه قاموا، فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم. ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب: أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن: الله أكبر يقومون إلى الصلاة، فلا يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقامه حتى تعتدل الصفوف وقد تقدم مثل هذا في باب الاذان في أول الوقت. باب كراهة الصف بين السواري للمأموم عن عبد الحميد بن محمود قال: صلينا خلف أمير من الامراء فاضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين، فلما صلينا قال أنس بن مالك: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله (ص) رواه الخمسة إلا ابن ماجة. وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال: كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونطرد عنها طردا رواه ابن ماجة. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما دخل الكعبة صلى بين الساريتين. حديث أنس حسنه الترمذي وعبد الحميد المذكور. قال أبو حاتم: هو شيخ، وقال الدارقطني: كوفي ثقة يحتج به. وقد ضعف أبو محمد عبد الحق هذا الحديث بعبد الحميد ابن محمود المذكور وقال: ليس ممن يحتج بحديثه. قال أبو الحسن بن القطان رادا عليه: ولا أدري من أنبأه بهذا، ولم أر أحدا ممن صنف الضعفاء ذكره فيهم، ونهاية ما يوجد فيه مما يوهم ضعفا قول أبي حاتم الرازي وقد سئل عنه: هو شيخ، وهذا ليس بتضعيف، وإنما هو إخبار بأنه ليس من أعلام أهل العلم، وإنما هو شيخ وقعت له روايات أخذت عنه. وقد ذكره أبو عبد الرحمن النسائي فقال: هو ثقة على شحه بهذه اللفظة انتهى. وأما حديث معاوية بن قرة عن أبيه ففي إسناده هارون بن مسلم البصري وهو مجهول
[ 236 ]
كما قال أبو حاتم، ويشهد له ما أخرجه الحاكم وصححه من حديث أنس بلفظ: كنا ننهى عن الصلاة بين السواري ونطرد عنها. وقال: لا تصلوا بين الاساطين وأتموا الصفوف. وأما صلاته صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل الكعبة بين الساريتين فهو في الصحيحين من حديث ابن عمر وقد تقدم. (والحديثان) المذكوران في الباب يدلان على كراهة الصلاة بين السواري، وظاهر حديث معاوية بن قرة عن أبيه. وحديث أنس الذي ذكره الحاكم، أن ذلك محرم، والعلة في الكراهة ما قاله أبو بكر بن العربي من أن ذلك إما لانقطاع الصف أو لانه موضع جمع النعال. قال ابن سيد الناس: والاول أشبه، لان الثاني محدث، قال القرطبي: روي أن سبب كراهة ذلك أنه مصلى الجن المؤمنين. وقد ذهب إلى كراهة الصلاة بين السواري بعض أهل العلم، قال الترمذي: وقد كره قوم من أهل العلم أن يصف بين السواري، وبه قاله أحمد وإسحاق، وقد رخص قوم من أهل العلم في ذلك انتهى. وبالكراهة قال النخعي: وروى سعيد بن منصور في سننه النهي عن ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة. قال ابن سيد الناس: ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة، ورخص فيه أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن المنذر قياسا على الامام والمنفرد، قالوا: وقد ثبت أن النبي (ص) صلى في الكعبة بين ساريتين. قال ابن رسلان: وأجازه الحسن وابن سيرين، وكان سعيد بن جبير، وإبراهيم التيمي، وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين الاساطين، وهو قول الكوفيين. قال ابن العربي: ولا خلاف في جوازه عند الضيق، وأما عند السعة فهو مكروه للجماعة، فأما الواحد فلا بأس به، وقد صلى (ص) في الكعبة بين سواريها انتهى. وفيه أن حديث أنس المذكور في الباب إنما ورد في حال الضيق لقوله: فاضطرنا الناس، ويمكن أن يقال: إن الضرورة المشار إليها في الحديث لم تبلغ قدر الضرورة التي يرتفع الحرج معها. وحديث قرة ليس فيه إلا ذكر النهي عن الصف بين السواري، ولم يقل كنا ننهى عن الصلاة بين السواري، ففيه دليل على التفرقة بين الجماعة والمنفرد، ولكن حديث أنس الذي ذكره الحاكم فيه النهي عن مطلق الصلاة، فيحمل المطلق على المقيد، ويدل على ذلك صلاته صلى الله عيه وسلم بين الساريتين، فيكون النهي على هذا مختصا بصلاة المؤتمين بين السواري دون صلاة الامام والمنفرد، وهذا أحسن ما يقال. ومتقدم من قياس المؤتمين على الامام والمنفرد فاسد الاعتبار لمصادمته لاحاديث الباب.
[ 237 ]
باب وقوف الامام أعلى من المأموم وبالعكس عن همام: أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني رواه أبداود. وعن ابن مسعود: قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوم الامام فوق شئ والناس خلفه يعني أسفل منه رواه الدارقطني. وعن سهل بن سعد: أن النبي (ص) جلس على المنبر في أول يوم وضع فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف قال: أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي متفق عليه. ومن ذهب إلى الكراهة حمل هذا على العلو اليسير ورخص فيه. وعن أبي هريرة: أنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الامام. وعن أنس: أنه كان يجمع في دار أبي نافع عن يمين المسجد في غرفة قدر قامة منها لها باب مشرف على المسجد بالبصرة، فكان أنس يجمع فيه ويأتم بالامام رواهما سعيد في سننه. الحديث الاول صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وفرواية للحاكم التصريح برفعه. ورواه أبو داود من وجه آخر وفيه: أن الامام كان عمار بن ياسر، والذي جبذه حذيفة وهو مرفوع ولكن فيه مجهول والاول أقوى كما قال الحافظ. وحديث ابن مسعود ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وأثر أبي هريرة أخرجه أيضا الشافعي والبيهقي، وذكره البخاري تعليقا. قوله: بالمدائن هي مدينة قديمة على دجلة تحت بغداد. قوله: على دكان بضم الدال المهملة وتشديد الكاف الدكان الحانوت، قيل: النون زائدة، وقيل: أصلية، وهي الدكة بفتح الدال وهو المكان المرتفع يجلس عليه. قوله: كانوا ينهون بفتح الياء والهاء، ورواية ابن حبان أليس قد نهى عن هذا. قوله: حين مددتني أي مددت قميصي وجبذته إليك، ورواية ابن حبان: ألم ترني قد تابعتك وفي رواية لابي داود: قال عمار لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي. وقد استدل بهذا الحديث على أنه يكره ارتفاع الامام في المجلس، قال ابن رسلان: وإذا كره أن يرتفع الامام على المأموم الذي يقتدي به فلان يكره ارتفاع المأموم على إمامه أولى. ويؤيد الكراهة حديث ابن مسعود، وظاهر النهي فيه
[ 238 ]
أن ذلك محرم لولا ما ثبت عنه (ص) من الارتفاع على المنبر. وقد حكى المهدي في البحر الاجماع على أنه لا يضر الارتفاع قدر القامة من المؤتم في غير المسجد إلا بحذاء رأس الامام أو متقدما، واستدل لذلك أيضا بفعل أبي هريرة المذكور في الباب وقال: المذهب أن ما زاد فسد، واستدل على ذلك بأن أصل البعد التحريم للاجماع في المفرط، ولا دليل على جواز ما تعدى القامة، ورد بأن الاصل عدم المانع، فالدليل على مدعيه، وذهب الشافعي، إلى أنه يعفى قدر ثلاثمائة ذراع، واختلف أصحابه في وجهه. وقال عطاء: لا يضر البعد في الارتفاع مهما علم المؤتم بحال الامام، وأما ارتفاع المؤتم في المسجد فذهبت الهادوية إلى أنه لا يضر ولو زاد على القامة، وكذلك قالوا: لا يضر ارتفاع الامام قدر القامة في المسجد وغيره، وإذا زاد على القامة كان مضرا من غير فرق بين المسجد وغيره. (والحاصل) من الادلة منع ارتفاع الامام على المؤتمين من غير فرق بين المسجد وغيره، وبين القامة ودونها وفوقها لقول أبي سعيد: إنهم كانوا ينهون عن ذلك، وقول ابن مسعود: نهى رسول الله (ص) الحديث. وأما صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر فقيل: إنه إنما فعل ذلك لغرض التعليم كما يدل عليه قوله: ولتعلموا صلاتي. وغاية ما فيه جواز وقوف الامام على محل أرفع من المؤتمين إذا أراد تعليمهم. قال ابن دقيق العيد: من أراد أن يستدل به على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم لم يستقم لان اللفظ لا يتناوله، ولانفراد الاصل بوصف معتبر تقتضي المناسبة اعتباره فلا بد منه انتهى. على أنه قد تقرر في الاصول أن النبي (ص) إذا نهى عن شئ نهيا يشمله بطريق الظهور ثم فعل ما يخالفه كان الفعل مخصصا له من العموم دون غيره، حيث لم يقم دليل على التأسي به في ذلك الفعل، فلا تكون صلاته على المنبر معارضة للنهي عن الارتفاع باعتبار الامة، وهذا على فرض تأخر صلاته ص) على المنبر عن النهي عن الارتفاع، وعلى فرض تقدمها أو التباس المتقدم من المتأخر فيه الخلاف المعروف في الاصول في التخصيص بالمتقدم والملتبس. وأما ارتفاع المؤتم فإن كان مفرطا بحيث يكون فوق ثلاثمائة ذراع على وجه لا يمكن المؤتم العلم بأفعال الامام فهو ممنوع للاجماع من غير فرق بين المسجد وغيره، وإن كان دون ذلك المقدار فالاصل الجواز حتى يقوم دليل على المنع، ويعضد هذا الاصل فعل أبي هريرة المذكور ولم ينكر عليه. قوله: فكبر وهو عليه ثم ركع لم يذكر القيام بعد الركوع في هذه الرواية، وكذا لم يذكر القراءة بعد التكبير،
[ 239 ]
وقد بين ذلك البخاري في رواية له عن سفيان عن أبي حازم ولفظه: كبر فقرأ وركع ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى والقهقرى بالقصر المشي إلى خلف، والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة. (وفي الحديث) دليل على جواز العمل في الصلاة وقد تقدم تحقيقه. قوله: ولتعلموا صلاتي بكسر اللام وفتح المثناة الفوقية وتشديد اللام وفيه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر أن يراه من قد يخفى عليه ذلك إذا صلى على الارض. قوله: أنه كان يجمع الخ. فيه جواز كون المؤتم في مكان في خارج المسجد، قال في البحر: ويصح كون المؤتم في داره والامام في المسجد إن كان يرى الامام أو المعلم ولم يتعد القامة انتهى. باب ما جاء في الحائل بين الامام والمأموم عن عائشة قالت: كان لنا حصيرة نبسطها بالنهار ونحتجر بها بالليل، فصلى فيها رسوالله (ص) ذات ليلة فسمع المسلمون قراءته فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الثانية كثروا فاطلع عليهم فقال: أكلفوا من الاعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا رواه أحمد. الحديث قد تقدم نحوه عن عائشة عند البخاري في باب انتقال المنفرد إماما في النوافل. وفيه تصريح بأنه كان بينه وبينهم جدار الحجرة، وقد تقدم نحو الحديث أيضا عنها في باب صلاة التراويح وفيه أنها قالت: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنصب له حصيرا على باب حجرتي. وقوله: أكلفوا من الاعمال إلى آخر الحديث هو عند الائمة الستة من حديثها بلفظ: خذوا من الاعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا والملال الاستثقال من الشئ ونفور النفس عنه بعد محبته وهو محال على الله تعالى، فإطلاقه عليه من باب المشاكلة نحو: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (سورة الشورى: 40) وهذا أحسن محامله. وفي بعض طرقه عن عائشة: فإن الله لا يمل من التواب حتى تملوا من العمل أخرجه ابن جرير في تفسيره. وقيل معناه: إن الله لا يمل أبدا مللتم أم لم تملوا، مثل قولهم: حتى يشيب الغراب. وقيل: إن معناه أن الله لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله. (والحديث) يدل على أن الحائل بين الامام والمؤتمين غير مانع من صحة
[ 240 ]
الصلاة. قال في البحر: ولا يضر بعد المؤتم في المسجد ولا الحائل ولو فوق القامة مهما علم الامام إجماعا اه. وكذلك لا يضر الحائل في غير المسجد ولو فوق القامة إلا أن يمنع من ذلك مانع. باب ما جاء فيمن يلازم بقعة بعينها من المسجد عن عبد الرحمن بن شبل: أن النبي (ص) نهى في الصلاة عن ثلاث: عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المقام الواحد كإيطان البعير رواه الخمسة إلا الترمذي. وعن سلمة بن الاكوع: أنه كان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة التي عند المصحف وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحرى الصلاة عندها متفق عليه. ولمسلم: أن سلمة كان يتحرى موضع المصحف يسبح فيه، وذكر أن النبي (ص) كان يتحرى ذلك المكان. حديث عبد الرحمن بن شبل سكت عنه أبو داود والمنذري، والراوي له عن عبد الرحمن بن شبل هو تميم بن محمود، قال البخاري: في حديثه نظر. قوله: عن نقرة الغراب المراد بها كما قال ابن الاثير: ترك الطمأنينة وتخفيف السجود، وأن لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد الاكل والشرب منه كالجيفة. قوله: وافتراش السبع هو أن يقع ساعديه على الارض كالذئب وغيره، كما يقعد الكلب في بعض حالاته. قوله: وأن يوطن الرجل قال ابن رسلان: بكسر الطاء المشددة وفيه أن قوله في الحديث: كإيطان يدل على عدم التشديد، لان المصدر على إفعال لا يكون إلا من أفعل المخفف، ومعناه كما قال ابن الاثير أن يألف الرجل مكانا معلوما في المسجد يصلي فيه ويختص به. قوله: كإيطان البعير المراد كما يوطن البعير المبرك الدمث الذي قد أوطنه واتخذه مناخا له فلا يأوي إلا إليه. وقيل معناه أن يبرك على ركبتيه قبل يديه إذا أراد السجود مثل بروك البعير على المكان الذي أوطنه، يقال: أوطنت الارض ووطنتها واستوطنتها أي اتخذتها وطنا ومحلا. قوله: عند الاسطوانة هي بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم الطاء وهي السارية. قوله: التي عند المصحف هذا دال على أنه كان للمصحف موضع خاص به، ووقع عند مسلم بلفظ: يصلي وراء الصندوق وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه. قال الحافظ:
[ 241 ]
والاسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة المكرمة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين، قال: وروي عن عائشة أنها كانت تقول: لو عرفها الناس لاضطربوا عليها بالسهام، وأنها أسرتها إلى ابن الزبير فكان يكثر الصلاة عندها، قال: ثم وجدت ذلك في تاريخ المدينة لابن النجار وزاد: أن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها، وذكره قبله محمد بن الحسن في أخبار المدينة. (والحديث الاول) يدل على كراهة اعتياد الرجل بقعة من بقاع المسجد، ولا يعارضه الحديث الثاني لما تقرر في الاصول أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم يكون مخصصا له من القول الشامل له بطريق الظهور كما تقدم غير مرة إذا لم يكن فيه دليل التأسي، وعلة النهي عن المواظبة على مكان في المسجد ما سيأتي في الباب الذي بعد هذا من مشروعية تكثير مواضع العبادة. قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق حديث سلمة ما لفظه: قلت وهذا محمول على النفل، ويحمل النهي على من لازم مطلقا للفرض والنفل اه. باب استحباب التطوع في غير موضع المكتوبة عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يصلي الامام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه رواه ابن ماجة وأبو داود. وعن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر، أو عن يمينه أو عن شماله؟ رواه أحمد وأبو داود. ورواه ابن ماجة وقالا يعني في السبحة. الحديث الاول في إسناده عطاء الخراساني ولم يدرك المغيرة بن شعبة، كذا قال أبو داود. قال المنذري: وما قاله ظاهر، فإن عطاء الخراساني ولد في السنة التي مات فيها المغيرة بن شعبة وهي سنة خمسين من الهجرة على المشهور. قال الخطيب: أجمع العلماء على ذلك، وقيل: ولد قبل وفاته بسنة. والحديث الثاني في إسناده إبراهيم بن إسماعيل، قال أبو حاتم الرازي: هو مجهول. قوله: حتى يتنحى لفظ أبي داود: حتى يتحول. قوله: أيعجز بكسر الجيم. قوله: يعني السبحة أي التطوع. (والحديثان) يدلان على مشروعية انتقال المصلي عن مصلاه الذي صلى فيه لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل، أما
[ 242 ]
الامام فبنص الحديث الاول وبعموم الثاني. وأما المؤتم والمنفرد فبعموم الحديث الثاني وبالقياس على الامام والعلة في ذلك تكثير مواضع العبادة كما قال البخاري والبغوي، لان مواضع السجود تشهد له كما في قوله تعالى: * (يومئذ تحدث أخبارها) * (الزلزلة: 4) أي تخبر بما عمل عليها. وورد في تفسير قوله تعالى: * (فما بكت عليهم السماء والارض) * (الدخان: 29) إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الارض، ومصعد عمله من السماء. وهذه العلة تقتضي أيضا أن ينتفل إلى الفرض من موضع نفله، وأن ينتقل لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل، فإن لم ينتقل فينبغي أن يفصل بالكلام لحديث النهي: عن أن توصل صلاة بصلاة حتى يتكلم المصلي أو يخرج أخرجه مسلم وأبو داود. [ رم ] كتاب صلاة المريض عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة فقال: صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك رواه الجماعة إلا مسلما. وزاد النسائي: فإن لم تستطع فمستلقيا، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يصلي المريض قائما إن استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ برأسه وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الايمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الايمن صلى مستلقيا رجلاه مما يلي القبلة رواه الدارقطني. حديث علي في إسناده حسين بن زيد، ضعفه ابن المديني والحسن بن الحسين العرني. قال الحافظ: وهو متروك. وقال النووي: هذا حديث ضعيف. (وفي الباب) عن جابر عند البزار والبيهقي في المعرفة: أن النبي (ص) عاد مريضا فرآه يصلي على وسادة فأخذها فرمى بها وأخذ عودا ليصلي عليه فأخذه فرمى به، وقال (ص): صل على الارض إن استطعت، وإلا فأوم إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك. قال البزار: لا نعلم
[ 243 ]
أحدا رواه عن الثوري غير أبي بكر الحنفي. قال الحافظ: ثم غفل عنه فأخرجه من حديث عبد الوهاب بن عطاء عن سفيان نحوه. وقد سئل أبو حاتم فقال: الصواب عن جابر موقوف ورفعه خطأ، قيل له: فإن أبا أسامة قد روى عن الثوري هذا الحديث مرفوعا، فقال: ليس بشئ وقد قوي إسناده في بلوغ المرام. وروى الطبراني نحوه من حديث طارق ابن شهاب عن ابن عمر قال: عاد النبي (ص) رجلا من أصحابه مريضا فذكره وروى الطبراني أيضا من حديث ابن عباس مرفوعا: يصلي المريض قائما، فإن نالته مشقة صلى نائما يومئ برأسه، فإن نالته مشقة سبح قال في التلخيص: وفي إسنادهما ضعف، وحديث عمران يدل على أنه يجوز لمن حصل له عذر لا يستطيع معه القيام أن يصلي قاعدا، ولمن حصل له عذر لا يستطيع معه القعود أن يصلي على جنبه، والمعتبر في عدم الاستطاعة عند الشافعية هو المشقة أو خوف زيادة المرض أو الهلاك لا مجرد التألم، فإنه لا يبيح ذلك عند الجمهور، وخالف في ذلك المنصور بالله. وظاهر قوله: فقاعدا أنه يجوز أن يكون القعود على أي صفة شاء المصلي، وهو مقتضى كلام الشافعي في البويطي. وقال الهادي والقاسم والمؤيد بالله: أنه يتربع واضعا ليديه على ركبتيه. وقال زيد بن علي والناصر والمنصور: أنه كقعود التشهد وهو خلاف في الافضل والكل جائز. والمراد بقوله: فعلى جنبك هو الجنب الايمن كما في حديث علي، وإلى ذلك ذهب الجمهور، قالوا: ويكون كتوجه الميت في القبر. وقال الهادي وهو مروي عن أبي حنيفة وبعض الشافعية: أنه يستلقي على ظهره ويجعل رجليه إلى القبلة، وحديثا الباب يردان عليهم، لان الشارع قد اقتصر في الاول منهما على الصلاة على الجنب عند تعذر القعود، وفي الثاني قدم الصلاة على الجنب على الاستلقاء. وحديث علي رضي الله عنه يدل على أن من لم يستطع أن يركع ويسجد قاعدا يومئ للركوع والسجود، ويجعل الايماء لسجوده أخفض من الايماء لركوعه، وأن من لم يستطع الصلاة على جنبه يصلي مستلقيا جاعلا رجليه مما يلي القبلة. وظاهر الاحاديث المذكورة في الباب أنه إذا تعذر الايماء من المستلقي لم يجب عليه شئ بعد ذلك. وقيل: يجب الايماء بالعينين. وقيل: بالقلب. وقيل: يجب إمرار القرآن على القلب والذكر على اللسان ثم على القلب، ويدل على ذلك قول الله تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (التغابن: 16) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أمرتم بأمر
[ 244 ]
فأتوا منه ما استطعتم والبواسير المذكورة في حديث عمران قيل هي بالباء الموحدة، وقيل بالنون. والاول ورم في باطن المقعدة، والثاني قرحة فاسدة. باب الصلاة في السفينة عن ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف أصلي في السفينة؟ قال: صل فيها قائما إلا أن تخاف الغرق رواه الدارقطني وأبو عبد الله الحاكم على شرط الصحيحين. وعن عبد الله بن أبي عتبة قال: صحبت جابر بن عبد الله، وأبا سعيد الخدري، وأبا هريرة في سفينة فصلوا قياما في جماعة أمهم بعضهم وهم يقدرون على الجد رواه سعيد في سننه. قوله: صل فيها قائما إلا أن تخاف الغرق فيه أن الواجب على من يصلي في السفينة القيام، ولا يجوز له القعود إلا عند خشية الغرق. ويؤيد ذلك الاحاديث المتقدمة الدالة على وجوب القيام في مطلق صلاة الفريضة، فلا يصار إلى جواز القعود في السفينة ولا غيرها إلا بدليل خاص، وقد قدمنا ما يدل على الترخيص في صلاة الفريضة على الراحلة عند العذر، والرخص لا يقاس عليها، وليس راكب السفينة كراكب الدابة لتمكنه من الاستقبال. ويقاس على مخافة الغرق المذكورة في الحديث ما ساواها من الاعذار. قوله: وهم يقدرون على الجد بضم الجيم وتشديد الدال هو شاطئ البحر. والمراد أنهم يقدرون على الصلاة في البر، وقد صحت صلاتهم في السفينة مع اضطرابها. وفيه جواز الصلاة في السفينة وإن كان الخروج إلى البر ممكنا. [ رم ] أبواب صلاة المسافر باب اختيار القصر وجواز الاتمام عن ابن عمر قال: صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك متفق عليه. وعن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن
[ 245 ]
خفتم أيفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس، قال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته رواه الجماعة إلا البخاري. قوله: وكان لا يزيد في السفر على ركعتين فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لازم القصر في السفر ولم يصل فيه تماما. ولفد الحديث في صحيح مسلم: صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عزوجل، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عزوجل، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عزوجل. وظاهر هذه الرواية وكذا الرواية التي ذكرها المصنف أن عثمان لم يصل في السفر تماما. وفي رواية لمسلم عن ابن عمر أنه قال: ومع عثمان صدرا من خلافته ثم أتم. وفي رواية: ثمان سنين أو ست سنين. قال النووي: وهذا هو المشهور أن عثمان أتم بعد ست سنين من خلافته، وتأول العلماء هذه الرواية أن عثمان لم يزد على ركعتين حتى قبضه الله في غير منى، والرواية المشهورة بإتمام عثمان بعد صدر من خلافته محمولة على الاتمام بمنى خاصة. وقد صرح في رواية بأن إتمام عثمان كان بمنى. وفي البخاري ومسلم: أن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبدالله بن مسعود فاسترجع ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعتان متقبلتان. قوله: عجبت مما عجبت منه. وفي رواية لمسلم: عجيب ما عجبت منه والرواية الاولى هي المشهورة المعروفة كما قال النووي. قوله: صدقة تصدق الله بها عليكم فيه جواز قول القائل: تصدق الله علينا. واللهم تصدق علينا، وقد كرهه بعض السلف، قال النووي: وهو غلط ظاهر. (واعلم) أنه قد اختلف أهل العلم هل القصر واجب أم رخصة والتمام أفضل، فذهب إلى الاول الحنفية والهادوية. وروي عن علي وعمر ونسبه النووي إلى كثير من أهل العلم. قال الخطابي في المعالم: كان مذاهب أكثر علماء السلف وفقهاء الامصار على أن القصر هو الواجب في السفر وهو قول علي، وعمر، وابن عمر، وابن عباس، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والحسن، وقال حماد بن سليمان: يعيد من يصلي في السفر أربعا،
[ 246 ]
وقال مالك: يعيد ما دام في الوقت اه. وإلى الثاني الشافعي ومالك وأحمد. قال النووي وأكثر العلماء: وروي عن عائشة وعثمان وابن عباس، قال ابن المنذر: وقد أجمعوا على أنه لا يقصر في الصبح ولا في المغرب. قال النووي: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح، وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة. وعن بعضهم كونه سفر طاعة. (احتج القائلون) بوجوب القصر بحجج. الاولى: ملازمته (ص) للقصر في جميع أسفاره كما في حديث ابن عمر المذكور في الباب، ولم يثبت عنه (ص) أنه أتم الرباعية في السفر البتة. كما قال ابن القيم، وأما حديث عائشة الآتي المشتمل على أنه (ص) أتم الصلاة في السفر فسيأتي أنه لم يصح، ويجاب عن هذه الحجة بأن مجرد الملازمة لا يدل على الوجوب. كما ذهب إلى ذلك جمهور أئمة الاصول وغيرهم. الحجة الثانية: حديث عائشة المتفق عليه بألفاظ، منها: فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر، وهو دليل ناهض على الوجوب، لان صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها، كما أنها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر، وقد أجيب عن هذه الحجة بأجوبة. منها: أن الحديث من قول عائشة غير مرفوع، وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة، وأنه لو كان ثابتا لنقل تواترا، وقد قدمنا الجواب عن هذه الاجوبة في أول كتاب الصلاة في الموضع الذي ذكر فيه المصنف حديث عائشة. ومنها: أن المراد يقولها فرضت أي قدرت وهو خلاف الظاهر. ومنها: ما قال النووي أن المراد بقولها فرضت يعني لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم، وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار، وهو تأويل متعسف لا يعول على مثله. ومنها: المعارضة لحديث عائشة بأدلتهم التي تمسكوا بها في عدم وجوب القصر وسيأتي ويأتي الجواب عنها. الحجة الثالثة: ما في صحيح مسلم عن ابن عباس أنه قال: إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعا، والخوف ركعة فهذا الصحابي الجليل قد حكى عن الله عزوجل أنه فرض صلاة السفر ركعتين، وهو أتقى لله وأخشى من أن يحكى أن الله فرض ذلك بلا برهان. والحجة الرابعة: حديث عمر عند النسائي وغيره: صلاة الاضحى ركعتان، وصلاة الفجر ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد (ص) وسيأتي، وهو يدل على
[ 247 ]
أن صلاة السفر مفروضة كذلك من أول الامر، وأنها لم تكن أربعا ثم قصرت. وقوله: على لسان محمد تصريح بثبوت ذلك من قوله (ص) الحجة الخامسة: حديث ابن عمر الآتي بلفظ: أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر. (واحتج القائلون) بأن القصر رخصة والتمام أفضل بحجج. الاولى: منها قول الله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * (النساء: 101) ونفي الجناح لا يدل على العزيمة بل على الرخصة، وعلى أن الاصل التمام، والقصر إنما يكون من شئ أطول منه. وأجيب بأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف لا في قصر العدد، لما علم من تقدم شرعية قصر العدد. قال في الهدى وما أحسن ما قال: وقد يقال إن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الاركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين وقيد ذلك بأمرين: الضرب في الارض، والخوف، فإذا وجد الامر أن أبيح القصران، فيصلون صلاة خوف مقصورا عددها وأركانها، وإن انتفى الامران وكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإن وجد الخوف والاقامة قصرت الاركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، وإن وجد السفر والامن قصر العدد واستوفيت الاركان وصليت صلاة أمن، وهذا أيضا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار تمام أركانها وإن لم تدخل في الآية اه. الحجة الثانية: قوله (ص) في حديث الباب: صدقة تصدق الله بها عليكم فإن الظاهر من قوله: صدقة أن القصر رخصة فقط. وأجيب بأن الامر بقبولها يدل على أنه لا محيص عنها وهو المطلوب. الحجة الثالثة: ما في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض، كذا قال النووي في شرح مسلم، ولم نجد في صحيح مسلم قوله: فمنهم القاصر، ومنهم المتم وليس فيه إلا أحاديث الصوم والافطار، وإذا ثبت ذلك فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وقررهم عليه، وقد نادت أقواله وأفعاله بخلاف ذلك، وقد تقرر أن إجماع الصحابة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم ليس بحجة، والخلاف بينهم في ذلك مشهور بعد موته، وقد أنكر جماعة منهم علي وعثمان لما أتم بمنى وتأولوا له تأويلات. قال ابن القيم: أحسنها أنه كان قد تأهل بمنى، والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه،
[ 248 ]
أو كان له به زوجة أتم، وقد روى أحمد عن عثمان أنه قال: أيها الناس لما قدمت تأهلت بها، وإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إذا تأهل رجل ببلد فليصل به صلاة مقيم. ورواه أيضا عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده أيضا. وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم، وسيأتي الكلام عليه. الحجة الرابعة: حديث عائشة الآتي وسيأتي الجواب عنه، وهذا النزاع في وجوب القصر وعدمه، وقد لاح من مجموع ما ذكرنا رجحان القول بالوجوب. وأما دعوى أن التمام أفضل فمدفوعة بملازمته (ص) للقصر في جميع أسفاره، وعدم صدور التمام عنه كما تقدم، ويبعد أن يلازم (ص) طول عمره المفضول ويدع الافضل. وعن عائشة قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت، فقال: أحسنت يا عائشة رواه الدارقطني وقال: هذا إسناد حسن. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم رواه الدارقطني وقال إسناد صحيح. الحديث الاول أخرجه أيضا النسائي والبيهقي بزيادة: أن عائشة اعتمرت مع رسول الله (ص) من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أتممت وقصرت. الحديث وفي إسناده العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الاسود بن يزيد النخعي عنها، والعلاء بن زهير قال ابن حبان: كان يروى عن الثقات ما لا يشبه حديث الاثبات، فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الاثبات. وقال ابن معين: ثقة، وقد اختلف في سماع عبد الرحمن منها، فقال الدارقطني: أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق. قال الحافظ: وهو كما قال: ففي تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك. وقال أبو حاتم: أدخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها. وادعى ابن أبي شيبة والطحاوي ثبوت سماعه منها، وفي رواية الدارقطني عن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة، قال أبو بكر النيسابوري: من قال فيه عن عائشة فقد أخطأ. واختلف قول الدارقطني فيه فقال في السنن: إسناده حسن، وقال في العلل: المرسل أشبه. قال في البدر المنير: إن في متن هذا الحديث نكارة، وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة رمضان، والمشهور أنه (ص) لم يعتمر إلا أربع عمر، ليس منهن شئ في رمضان بل كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته فكان إحرامها
[ 249 ]
في ذي القعدة وفعلها في ذي الحجة. قال: هذا هو المعروف في الصحيحين وغيرهما، قال: وتمحل بعض شيوخنا الحافظ في الجواب عن هذا الاشكال فقال: لعل عائشة ممن خرج مع النبي (ص) في سفره عام الفتح، وكان سفره ذلك في رمضان، ولم يرجع من سفره ذلك حتى اعتمر عمرة الجعرانة، فأشارت بالقصر والاتمام والفطر والصيام والعمرة إلى ما كان في تلك السفرة. قال: قال شيخنا وقد روي من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في رمضان، ثم رأيت بعد ذلك القاضي عياضا أجاب بهذا الجواب فقال: لعل هذه عملها في شوال وكان ابتداء خروجها في رمضان. وظاهر كلام أبي حاتم ابن حبان أنه (ص) اعتمر في رمضان، فإنه قال في صحيحه: اعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمر، الاولى: عمرة القضاء سنة القابل من عام الحديبية، وكان ذلك في رمضان. ثم الثانية حيث فتح مكة وكان فتحها في رمضان. ثم خرج منها قبل هوازن وكان من أمره ما كان، فلما رجع وبلغ الجعرانة قسم الغنائم بها واعتمر منها إلى مكة وذلك في شوال، واعتمر الرابعة في حجته وذلك في ذي الحجة سنة عشر من الهجرة. واعترض عليه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في كلام له على هذا الحديث وقال: وهم في هذا في غير موضع، وذكر أحاديث في الرد عليه. وقال ابن حزم: هذا حديث لا خير فيه وطعن فيه ورد عليه ابن النحوي. قال في الهدى بعد ذكره لهذا الحديث: وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية يقول: هذا حديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الصحابة وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين، فزيدت في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن بها أنها تزيد على فرض الله وتخالف رسول الله وأصحابه. وقال الزهري لهشام لما حدثه عن أبيه عنها بذلك: فما شأنها كانت تتم الصلاة؟ قال: تأولت كما تأول عثمان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حسن فعلها فأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير وقد أخبر ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين، ولا أبو بكر، ولا عمر أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون وأما بعد موته فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلا، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له اه. والحديث الثاني صحح إسناد الدارقطني
[ 250 ]
كما ذكره المصنف، قال في التلخيص: وقد استنكره أحمد وصحته بعيدة، فإن عائشة كانت تتم. وذكر عروة أنها تأولت ما تأول عثمان كما في الصحيح، فلو كان عندها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواية لم يقل عروة عنها أنها تأولت. قال في الهدى بعد ذكر هذا الحديث: وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقد روي كان يقصر، وتتم الاول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك يفطر وتصوم، قال: قال شيخنا: وهذا باطل، ثم ذكر نحو الكلام السابق من استبعاد مخالفة عائشة لرسول الله (ص) والصحابة، وكذا ضبط الحافظ في التلخيص لفظ تتم وتصوم في هذا الحديث بالمثناة من فوق. (وقد استدل) بحديثي الباب القائلون بأن القصر رخصة، وقد تقدم ذكرهم، ويجاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة فيه لهم، لما تقدم من أن لفظ تتم وتصوم بالفوقانية، لان فعلها على فرض عدم معارضته لقوله وفعله (ص) لاحجة فيه، فكيف إذا كان معارضا للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة؟ وأما الحديث الاول فلو كان صحيحا لكان حجة لقوله (ص) في الجواب عنها: أحسنت ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة، وهذا بعد تسليم أنه حسن كما قال الدارقطني، فكيف وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة؟ فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض. وعن عمر أنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الاضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعه ركعتان، تمام من غير قصر على لسان محمد (ص) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. وعن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتانا ونحن ضلال فعلمنا فكان فيما علمنا أن الله عزوجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر رواه النسائي. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله (ص): إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته رواه أحمد. الحديث المروي عن عمر رجاله رجال الصحيح إلا يزيد بن زياد بن أبي الجعد وقد وثقه أحمد وابن معين. وقد روي من طريق أخرى بأسانيد رجالها رجال الصحيح. وقد قال ابن القيم في الهدى: هو ثابت عنه، قال: وهو الذي سأل النبي (ص): ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ فقال له رسول الله (ص): صدقة تصدق الله بها عليكم
[ 251 ]
فاقبلوا صدقته قال: ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي (ص) لما أجابه بأن هذا صدقة الله عليكم ودينه اليسر السمح علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس، قال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله، وإن شاء أئمه، وقد كان رسول الله (ص) يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، فلم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف. وحديث ابن عمد الثاني أخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما. وفي رواية: كما يحب أن تؤتى عزائمه. (وفي الباب) عن أبي هريرة عند ابن عدي. وعن عائشة عنده أيضا والمراد بالرخصة التسهيل والتوسعة في ترك بعض الواجبات أو إباحة بعض المحرمات، وهي في لسان أهل الاصول الحكم الثابت، على خلاف دليل الوجوب أو الحرمة لعذر، وفيه أن الله يحب إتيان ما شرعه من الرخص، وفي تشبيه تلك المحبة بكراهته لاتيان المعصية دليل على أن في ترك إتيان الرخصة ترك طاعة كالترك للطاعة الحاصل بإتيان المعصية. وحديث ابن عمر الاول من أدلة القائلين بأن القصر واجب لقوله: فكان فيما علمنا أن الله عزوجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر وقد تقدم الكلام على ذلك. باب الرد على من قال إذا خرج نهارا لم يقصر إلى الليل عن أنس قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر بالمدينة أربعا، وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين متفق عليه. وعن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين شعبة الشاك. رواه أحمد ومسلم وأبو داود. قوله: وصليت معه العصر بذي الحليفة هكذا في رواية للبخاري ذكرها الكشميهني، وهي ثابتة عند مسلم، وعند البخاري أيضا في كتاب الحج. وقد استدل بذلك على إباحة القصر في السفر القصير، لان بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال، وتعقب بأن ذا الحليفة لم تكن منتهى السفر، وإنما خرج إليها حيث كان قاصدا إلى مكة واتفق نزوله بها، وكانت أول صلاة
[ 252 ]
حضرت صلاة العصر فقصرها واستمر يقصر إلى أن رجع. قوله: إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال اختلف في تقدير الميل، فقال في الفتح: الميل هو من الارض منتهى مد البصر، لان البصر يميل عنه على وجه الارض حتى يفنى إدراكه وبذلك جزم الجوهري، وقيل: إن ينظر إلى الشخص في أرض مستوية فلا يدري أرجل هو أم امرأة، أو ذاهب أو آت؟ قال النووي: الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة، والاصبع ست شعيرات معترضة معتدلة. قال الحافظ: وهذا الذي قال هو الاشهر. ومنهم من عبر عن ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الانسان. وقيل: هو أربعة آلاف ذراع. وقيل: ثلاثة آلاف ذراع، نقله صاحب البيان. وقيل: خمسمائة وصححه ابن عبد البر. وقيل: ألفا ذراع. ومنهم من عبر عن ذلك بألف خطوة للجمل، قال: ثم إن الذراع الذي ذكر النووي تحريره قد حرره غيره بذراع الحديد المشهور في مصر والحجاز في هذه الاعصار، فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن. فعلى هذا فالميل بذراع الحديد في القول المشهور خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا. قوله: أو ثلاثة فراسخ الفرسخ في الاصل السكون ذكره ابن سيده. وقيل: السعة. وقيل: الشئ الطويل، وذكر الفراء أن الفرسخ فارسي معرب وهو ثلاثة أميال. (واعلم) أنه قد وقع الخلاف الطويل بين علماء الاسلام في مقدار المسافة التي يقصر فيها الصلاة، قال في الفتح: فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحوا من عشرين قولا أقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، وأكثره ما دام غائبا عن بلده. وقيل: أقل ما قيل في ذلك الميل كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر، وإلى ذلك ذهب ابن حزم الظاهري، واحتج له بإطلاق السفر في كتاب الله تعالى كقوله: * (وإذا ضربتم في الارض) * (النساء: 101) الآية، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلم يخص الله ولا رسوله ولا المسلمون بأجمعهم سفرا من سفر، ثم احتج على ترك القصر فيمدون الميل بأن النبي (ص) قد خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصر ولا أفطر. وذكر في المحلى من أقوال الصحابة والتابعين والائمة والفقهاء في تقدير مسافة القصر أقوالا كثيرة لم يحط بها غيره، واستدل لها ورد تلك الاستدلالات. وقد أخذ بظاهر حديث أنس المذكور في الباب الظاهرية كما قال النووي، فذهبوا إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال، قال في الفتح: وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه، وقد حمله من خالفه على أن المراد المسافة التي
[ 253 ]
يبتدأ منها القصر لا غاية السفر، قال: ولا يخفى بعد هذا الحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع، فقال أنس: فذكر الحديث قال: فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدئ القصر منه. وذهب الشافعي ومالك وأصحابهما، والليث والاوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم إلى أنه لا يجوز إلا في مسيرة مرحلتين وهما ثمانية وأربعون ميلا هاشمية كما قال النووي. وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل. وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة. وفي البحر عن أبي حنيفة أن مسافة القصر أربعة وعشرون فرسخا. وحكي في البحر أيضا عن زيد بن علي والنفس الزكية والداعي والمؤيد بالله وأبي طالب والثوري والكرخي وإحدى الروايات عن أبي حنيفة أن مسافة القصر ثلاثة أيام بسير الابل والاقدام. وذهب الباقر والصادق وأحمد بن عيسى والقاسم والهادي إلى أن مسافته بريد فصاعدا، وقال أنس وهو مروي عن الاوزاعي: أن مسافته يوم وليلة. قال في الفتح: وقد أورد البخاري ما يدل على أن اختياره أن أقل مسافة القصر يوم وليلة يعني قوله في صحيحه، وسمى النبي (ص) السفر يوما وليلة بعد قوله باب في كم يقصر الصلاة. وحجج هذه الاقوال مأخوذ بعضها من قصره (ص) في أسفاره، وبعضها من قوله (ص): لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم عند الجماعة إلا النسائي. وفي رواية للبخاري من حديث ابن عمر عنه (ص): لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم. وفي رواية لابي داود: لا تسافر المرأة بريدا. ولا حجة في جميع ذلك. أما قصره (ص) في أسفاره فلعدم استلزام فعله لعدم الجواز فيما دون المسافة التي قصر فيها، وأما نهي المرأة عن أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم فغاية ما فيه إطلاق اسم السفر على مسيرة ثلاثة أيام، وهو غير مناف للقصر فيما دونها، وكذلك نهيها عن سفر اليوم بدون محرم، والبريد لا ينافي جواز القصر في ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ كما في حديث أنس، لان الحكم على الاقل حكم على الاكثر. وأما حديث ابن عباس عند الطبراني أنه (ص) قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان فليس مما تقوم به حجة لان
[ 254 ]
في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك، وقد نسبه النووي إلى الكذب. وقال الازدي: لا تحل الرواية عنه، والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في الحجازيين، وعبد الوهاب المذكور حجازي، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس، كما أخرجه عنه الشافعي بإسناد صحيح، ومالك في الموطأ، إذا تقرر لك هذا فالمتيقن هو ثلاثة فراسخ لان حديث أنس المذكور في الباب متردد ما بينها وبين ثلاثة أميال، والثلاثة الاميال مندرجة في الثلاثة الفراسخ، فيؤخذ بالاكثر احتياطا، ولكنه روى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة. وقد أورد الحافظ هذا في التلخيص ولم يتكلم عليه، فإن صح كان الفرسخ هو المتيقن، ولا يقصر فيما دونه إلا إذا كان يسمى سفرا لغة أو شرعا. وقد اختلف أيضا فيمن قصد سفرا يقصر في مثله الصلاة على اختلاف الاقوال من أين يقصر. فقال ابن المنذر: أجمعوا على أن لمريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي يخرج منها، واختلفوا فيما قبل الخروج من البيوت، فذهب الجمهور إلى أنه لا بد من مفارقة جميع البيوت، وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو كان في منزله، ومنهم من قال: إذا ركب قصر إن شاء. ورجح ابن المنذر الاول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت، واختلفوا فيما قبل ذلك، فعليه الاتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أن له القصر، قال: ولا أعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصر في سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة. باب أن من دخل بلدا فنوى الاقامة فيه أربعا يقصر عن أبي هريرة: أنه صلى مع النبي (ص) إلى مكة في المسير والمقام بمكه الى أن رجعوا ركعتين ركعتين رواه أبو داود والطيالسي في مسنده. وعن يحيى بن أبو إسحاق عن أنس قال: خرجنا مع النبي (ص) من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بها شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا متفق عليه. ولمسلم: خرجنا من المدينة إلى الحج ثم ذكر مثله. وقال أحمد: إنما وجه حديث أنس. إنه حسب مقام النبي (ص) بمكة ومنى وإلا
[ 255 ]
فلا وجه له غير هذا. واحتج بحديث جابر: أن النبي (ص) قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن ثم خرج إلى منى وخرج من مكة متوجها إلى المدينة بعد أيام التشريق ومعنى ذلك كله في الصحيحين وغيرهما. قوله: ركعتين ركعتين زاد البيهقي: إلا المغرب. قوله: أقمنا بها عشرا هذا لا يعارض حديث ابن عباس وعمران بن حصين الآتيين، لانهما في فتح مكة وهذا في حجة الوداع. قوله: وقال أحمد الخ هذا لا بد منه لما في حديث جابر المذكور في الباب. ومثله أيضا حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ: قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة الحديث. قال في الفتح: ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر، فتكون مدة الاقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس، ويكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام لا سوى، لانه خرج منها في اليوم الثامن فصلى بمنى. وقال الطبري: أطلق على ذلك الاقامة بمكة، لان هذه المواضع مواضع النسك، وهي في حكم التابع بمكة، لانها المقصود بالاصالة لا يتجه سوى ذلك كما قال أحمد. وقال النووي في شرح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في اليوم الرابع فأقام بها الخامس والسادس والسابع، وخرج منها في الثامن إلى منى، وذهب إلى عرفات في التاسع، وعاد إلى منى في العاشر فأقام بها الحادي عشر والثاني عشر ونفر في الثالث عشر إلى مكة وخرج منها إلى المدينة في الرابع عشر، فمدة إقامته صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وحواليها عشرة أيام اه. وقد أشار المصنف بترجمة الباب إلى الرد على الشافعي حيث قال: إن المسافر يصير بنية إقامة أربعة أيام مقيما. وقد زعم الطحاوي بأن الشافعي لم يسبق إلى ذلك، ورد ذلك في الفتح بأن أحمد قد قال بنحو ذلك وهي رواية عن مالك، ونسبه في البحر إلى عثمان وسعيد بن المسيب وأبي ثور ومالك، واستدل لهم بنهيه (ص) للمهاجر عن إقامة فوق ثلاث في مكة، فتكون الزيادة عليها إقامة لا قدر الثلاث، ورده بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة. وذهبت القاسمية والناصر والامامية والحسن ابن صالح، وهو مروي عن ابن عباس أنه لا يتم الصلاة إلا من نوى إقامة عشر، واحتجوا بما روي عن علي عليه السلام أنه قال: يتم الذي يقيم عشرا، والذي يقول اليوم أخرج غدا أخرج يقصر شهراقالوا: وهو توقيف ورد
[ 256 ]
بأنه من مسائل الاجتهاد. وقال أبو حنيفة: إنه يتم إذا عزم على إقامة خمسة عشر يوما، واحتج بما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: إذا أقمت ببلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة، ورد بأنه لا حجة في أقوال الصحابة في المسائل التي للاجتهاد فيها مسرح وهذه منها. وروي عن الاوزاعي التحديد باثني عشر يوما، وعن ربيعة يوم وليلة. وعن الحسن البصري: أن المسافر يصير مقيما بدخول البلد. وعن عائشة بوضع الرحل، قال الامام يحيى: ولا يعرف لهم مستند شرعي، وإنما ذلك اجتهاد من أنفسهم، والامر كما قال هذا الامام، والحق أن من حط رحله ببلد ونوى الاقامة بها أياما من دون تردد لا يقال له مسافر فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل، ولا دليل ههنا إلا ما في حديث الباب من إقامته (ص) بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة، والاستدلال به متوقف على ثبوت أنه (ص) عزم على إقامة أربعة أيام، إلا أن يقال: إن تمام أعمال الحج في مكة لا يكون في دون الاربع، فكان كل من يحج عازما على ذلك فيقتصر على هذا المقدار، ويكون الظاهر والاصل في حق من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام هو التمام، وإلا لزم أن يقصر الصلاة من نوى إقامة سنين متعددة ولا قائل به، ولا يرد على هذا قوله (ص) في إقامته بمكة في الفتح: إنا قوم سفر كما سيأتي، لانه كان إذ ذاك مترددا ولم يعزم على إقامة مدة معينة. باب من أقام لقضاء حاجة ولم يجمع إقامة عن جابر قال: أقام النبي (ص) بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة رواه أحمد وأبو داود. وعن عمران بن حصين قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول: يا أهل البلدة صلوا أربعا فإنا سفر. رواه أبو داود. وفيه دليل على أنه لم يجمع إقامة. وعن ابن عباس قال: لما فتح النبي (ص) مكة أقام فيها تسع عشرة يصلي ركعتين، قال: فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا وإن زدنا أتممنا رواه أحمد والبخاري وابن ماجة. ورواه أبو داود ولكنه قال: سبع عشرة وقال: قال عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس: أقام تسع عشرة. عن ثمامة بن شراحيل قال: خرجت
[ 257 ]
إلى ابن عمر فقلت: ما صلاة المسافر فقال: ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثا، قلت: أرأيت إن كنا بذي المجاز؟ قال: وما ذي المجاز؟ قلت: مكان نجتمع فيه ونبيع فيه ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة، فقال: يا أيها الرجل كنت بأذربيجان لا أدري قال أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين رواه أحمد في مسنده. أما حديث جابر فأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي، وصححه ابن حزم والنووي، وأعله الدارقطني في العلل بالارسال والانقطاع، وأن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا، وأن الاوزاعي رواه عن يحيى عن أنس فقال: بضع عشرة وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي وهو ضعيف. وقد اختلف فيه على الاوزاعي، ذكره الدارقطني في العلل وقال: الصحيح عن الاوزاعي عن يحيى أن أنسا كان يفعله. قال الحافظ: ويحيى لم يسمع من أنس. وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه أيضا الترمذي وحسنه، والبيهقي وفي إسناده علي بن يزيد بن جدعان وهو ضعيف، قال الحافظ: وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده، ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما عرف من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الاسانيد دون السياق. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضا بلفظ: سبع عشرة بتقديم السين ابن حبان. وأما الاثر المروي عن ابن عمر فذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه. وأخرجه البيهقي بسند قال الحافظ: صحيح بلفظ أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وقد اختلفت الاحاديث في إقامته صلى الله عليه وآله وسلم في مكة عام الفتح فروي ما ذكر المصنف، وروي عشرون، أخرجه عبد بن حميد في مسنده عن ابن عباس. وروي خمسة عشر أخرجه النسائي وأبو داود وابن ماجة والبيهقي عن ابن عباس أيضا. قال البيهقي: أصح الروايات في ذلك رواية البخاري وهي رواية تسع عشرة بتقديم التاء، وجمع إمام الحرمين والبيهقي بين الروايات، باحتمال أن يكون في بعضها لم يعد يومي الدخول والخروج وهي رواية سبعة عشر بتقديم السين، وعدها في بعضها وهي رواية تسع عشرة بتقديم التاء، وعد يوم الدخول ولم يعد يوم الخروج وهي رواية ثمانية عشر. قال الحافظ: وهو جمع متين، وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين وهي صحيحة الاسناد إلا أنها شاذة أيضا اه. وقد ضعف
[ 258 ]
النووي في الخلاصة رواية خمسة عشر. قال في الفتح: وليس بجيد لان رواتها ثقات، ولم يفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبد الله كذلك. وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الاصل سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا. وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين. (وقد اختلف العلماء) في تقدير المدة التي يقصر فيها المسافر إذا أقام ببلدة وكان مترددا غير عازم على إقامة أيام معلومة، فذهب الهادي والقاسم والامامية إلى أن من لم يعزم إقامة مدة معلومة كمنتظر الفتح يقصر إلى شهر ويتم بعده، واستدلوا بقول علي عليه السلام المتقدم في شرح الباب الاول، وقد تقدم الجواب عليه. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والامام يحيى وهو مروي عن الشافعي إلى أنه يقصر أبدا لان الاصل السفر، ولما ذكره المصنف عن ابن عمر قالوا: وما روي من قصره (ص) في مكة وتبوك دليل لهم لا عليهم، لانه (ص) قصر مدة إقامته، ولا دليل على التمام فيما بعد تلك المدة. ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس: أن النبي (ص) أقام بحنين أربعين يوما يقصر الصلاة ولكنه قال: تفرد به الحسن بن عمارة وهو غير محتج به. وروي عن ابن عمر وأنس أنه يتم بعد أربعة أيام: (والحق) أن الاصل في المقيم الاتمام، لان القصر لم يشرعه الشارع إلا للمسافر، والمقيم غير مسافر، فلولا ما ثبت عنه (ص) من قصره بمكة وتبوك مع الاقامة لكان المتعين هو الاتمام، فلا ينتقل عن ذلك الاصل إلا بدليل، وقد دل الدليل على القصر مع التردد إلى عشرين يوما كما في حديث جابر، ولم يصح أنه صلى الله عليه وسلم قصر في الاقامة أكثر من ذلك فيقتصر على هذا المقدار، ولا شك أن قصره صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المدة لا ينفي القصر فيما زاد عليها، ولكن ملاحظة الاصل المذكور هي القاضية بذلك. (فإن قيل) المعتبر صدق اسم المسافر على المقيم المتردد وقد قال (ص): إنا قوم سفر فصدق عليه هذا الاسم، ومن صدق عليه هذا الاسم قصر، لان المعتبر هو السفر لانضباطه لا المشقة لعدم انضباطها، فيجاب عنه أولا بأن في الحديث المقال المتقدم،
[ 259 ]
وثانيا بأنه يعلم بالضرورة أن المقيم المتردد غير مسافر حال الاقامة، فإطلاق اسم المسافر عليه مجاز باعتبار ما كان عليه أو ما سيكون عليه. باب من اجتاز في بلد فتزوج فيه أو له فيه زوجة فليتم عن عثمان بن عفان: أنه صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم رواه أحمد. الحديث أيضا أخرجه البيهقي وأعله بالانقطاع، وفي إسناده عكرمة بن إبراهيم وهو ضعيف كما قال البيهقي. وأخرجه أيضا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال في الهدى: قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف. فإن البخاري ذكر عكرمة المذكور في تاريخه ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين. قال في الفتح: هذا حديث لا يصح لانه منقطع وفي رواته من لا يحتج به، ويرده قول عروة أن عائشة تأولت ما تأول عثمان، ولا جائز أن تؤول عائشة أصلا، فدل على وهي ذلك الخبر، قال: ثم ظهر أنه يمكن أن يكون مراد عروة بقوله: تأولت كما تأول عثمان التشبيه بعثمان في الاتمام بتأويل. لا اتحاد تأويلهما، ويقويه أن الاسباب اختلفت في تأويل عثمان فتكاثرت بخلاف تأويل عائشة. وقد أخرج ابن جرير في تفسير سورة النساء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعا، فإذ احتجوا عليها تقول: إن النبي (ص) كان في حروب وكان يخاف فهل تخافون أنتم؟ وقيل في تأويل عائشة أنها إنما أتمت في سفرها إلى البصرة لقتال علي عليه السلام، والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة. قال في الفتح: وهذان القولان باطلان لا سيما الثاني، قال: والمنقول في سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا. وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فلحكم المقيم فيتم، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة ثم انصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا له: لقد عبت أمر ابن عمك لانه كان قد أتم الصلاة، قال: وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعا ربعا، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ الحج وأقام بمنى أتم الصلاة.
[ 260 ]
وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما قصر لانه أخذ بالايسر من ذلك على أمته وآخذا أنفسهما بالشدة، وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عثمان إنما أتم الصلاة لانه نوى الاقامة بعد الحج، وأجيب بأنه مرسل، وفيه أيضا نظر، لان الاقامة بمكة على المهاجرين حرام. وقد صح عن عثمان أنه كان لا يودع البيت إلا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته، وثبت أنه قال له المغيرة لما حاصروه: اركب رواحلك إلى مكة، فقال: لن أفارق دار هجرتي. وأيضا قد روى أيوب عن الزهري ما يخالفه، فروى الطحاوي وغيره من هذا الوجه عن الزهري أنه قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعا، لان الاعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع. وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى ثم خطب فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طغام يعني بفتح الطاء والمعجمة فخفت أن يستنوا. وعن ابن جريج أن أعرابيا ناداه في منى يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين. وقد روي في تأول عثمان غير ذلك، والذي ذكرنا هنا أحسن ما قيل. وأما تأول عائشة فأحسن ما قيل فيه ما أخرجه البيهقي بإسناد صحيح من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا ابن أختي أنه لا يشق علي. وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الاتمام لمن لا يشق عليه أفضل، وقد تقدم بسط الكلام في ذلك. [ رم ] أبواب الجمع بين الصلاتين باب جوازه في السفر في وقت إحداهما عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل يجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب متفق عليه. وفي رواية لمسلم: كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين
[ 261 ]
في السفر يؤخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما. قوله: تزيغ بزاي وغين معجمة أي تميل. قوله: يجمع بينهما أي في وقت العصر، وفي الحديث دليل على جواز جمع التأخير في السفر، سواء كان السير مجدا أم لا، وقد وقع الخلاف في الجمع في السفر، فذهب إلى جوازه مطلقا تقديما وتأخيرا كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب، واستدلوا بالاحاديث الآتية في هذا الباب ويأتي الكلام عليها. وقال قوم: لا يجوز الجمع مطلقا، إلا بعرفة ومزدلفة، وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه، وأجابوا عما روي من الاخبار في ذلك بأن الذي وقع جمع صوري، وهو أنه أخر المغرب مثلا إلى آخر وقتها، وعجل العشاء في أول وقتها، كذا في الفتح قال: وتعقبه الخطابي وغيره بأن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقا من الاتيان بكل صلاة في وقتها، لان أوائل الاوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة، وسيأتي الجواب عن هذا التعقب في الباب الذي بعد هذا الباب. قال في الفتح مؤيدا لما قاله الخطابي: وأيضا فإن الاخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين، وذلك هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع، قال: ومما يرد على الجمع الصوري جمع التقديم وسيأتي. وقال الليث: وهو المشهور عن مالك أن الجمع يختص بمن جد به السير. وقال ابن حبيب: يختص بالسائر، ويستدل لهما بما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عمر قال: كان النبي (ص) يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير ولما قاله ابن حبيب بما في البخاري أيضا عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء فيقيد حديث أنس المذكور في الباب بما إذا كان المسافر سائرا سيرا مجدا كما في هذين الحديثين. وقال الاوزاعي: إن الجمع في السفر يختص بمن له عذر. وقال أحمد واختاره ابن حزم وهو مروي عن مالك: أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم، واستدلوا بحديث أنس المذكور في الباب، وأجابوا عن الاحاديث القاضية بجواز جمع التقديم بما سيأتي. وعن معاذ رضي الله عنه: أن النبي (ص) كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن
[ 262 ]
النبي (ص): كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، فإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما رواه أحمد ورواه الشافعي في مسنده بنحوه وقال فيه: وإذا سار قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر. وعن ابن عمر: أنه استغيث على بعض أهله فجد به السير فأخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما، ثم أخبرهم أن رسول الله (ص) كان يفعل ذلك إذا جد به السير رواه الترمذي بهذا اللفظ وصححه، ومعناه لسائر الجماعة إلا ابن ماجة. أما حديث معاذ فأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي، قال الترمذي: حسن غريب تفرد به قتيبة. والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ، وليس فيه جمع التقديم يعني الذي أخرجه مسلم وقال أبو داود: هذا حديث منكر وليس في جمع التقديم حديث قائم. وقال أبو سعيد بن يونس: لم يحدث بهذا الحديث إلا قتيبة ويقال إنه غلط فيه، وأعله الحاكم وطول، وابن حزم وقال: إنه معنعن بيزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل، ولا يعرف له عنه رواية. وقال أيضا: إن أبا الطفيل مقدوح لانه كان حامل راية المختار وهو يؤمن بالرجعة، وأجيب عن ذلك بأنه إنما خرج مع المختار على قاتلي الحسين، وبأنه لم يعلم من المختار الايمان بالرجعة. قال في البدر المنير: إن للحفاظ في هذا الحديث خمسة أقوال: أحدها أنه حسن غريب قاله الترمذي. ثانيها: أنه محفوظ صحيح قاله ابن حبان. ثالثها: أنه منكر قاله أبو داود. رابعها: أنه منقطع قاله ابن حزم. خامسها: أنه موضوع قاله الحاكم. وأصل حديث أبي الطفيل في صحيح مسلم، وأبو الطفيل عدل ثقة مأمون اه. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضا البيهقي والدارقطني، وروي أن الترمذي حسنه، قال الحافظ: وكأنه باعتبار المتابعة، وغفل ابن العربي فصحح إسناده وليس بصحيح لانه من طريق حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب قال فيه أبو حاتم: ضعيف ولا يحتج بحديثه. وقال ابن معين: ضعيف، وقال أحمد: له أشياء منكرة. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال السعدي: لا يحتج بحديثه. وقال ابن المديني: تركت حديثه.
[ 263 ]
وقال ابن حبان: يقلب الاسانيد، ويرفع المراسيل، ولكن له طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي خالد الاحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. وله أيضا طريق أخرى رواها إسماعيل القاضي في الاحكام عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن هشام، عن عروة، عن كريب، عن ابن عباس بنحوه. (وفي الباب) عن علي عليه السلام عند الدارقطني وفي إسناده كما قال الحافظ من لا يعرف. وفيه أيضا المنذر القابوسي وهو ضعيف. وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند بإسناد آخر عن علي عليه السلام أنه كان يفعل ذلك. وفي الباب أيضا عن أنس عند الاسماعيلي والبيهقي وقال: إسناده صحيح بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا وله طريق أخرى عند الحاكم في الاربعين، وهو في الصحيحين من هذا الوجه وليس فيه والعصر. قال في التلخيص: وهي زيادة غريبة صحيحة الاسناد وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي، وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في المستدرك. وله طريق أخرى رواها الطبراني في الاوسط، وفي الباب أيضا عن جابر عند مسلم من حديث طويل وفيه: ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا، وكان ذلك بعد الزوال. وقد استدل القائلون بجواز جمع التقديم والتأخير في السفر بهذه الاحاديث، وقد تقدم ذكرهم، وأجاب المانعون من جمع التقديم عنها بما تقدم من الكلام عليها، وقد عرفت أن بعضها صحيح وبعضها حسن، وذلك يرد قول أبي داود: ليس في جمع التقديم حديث قائم. وأما حديث ابن عمر فقد استدل به من قال باختصاص رخصة الجمع في السفر بمن كان سائرا لا نازلا كما تقدم، وأجيب عن ذلك بما وقع من التصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطأ بلفظ: أن النبي (ص) أخر الصلاة في غزوة تبوك خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا قال الشافعي في الام قوله: ثم دخل ثم خرج لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلا ومسافرا. وقال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل في الرد على من قال: لا يجمع إلا من جدبه السير، وهو قاطع للالتباس وحكى القاضي عياض أن بعضهم أول قوله: ثم دخل أي في الطريق مسافرا، ثم خرج أي عن الطريق للصلاة ثم استبعده. قال الحافظ: ولا شك في بعده، وكأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس يعني المذكور في
[ 264 ]
أول الباب، ومن ثمة قالت الشافعية: ترك الجمع أفضل. وعن مالك رواية أنه مكروه، وهذه الاحاديث تخصص أحاديث الاوقات التي بينها جبريل وبينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للاعرابي حيث قال في آخرها: الوقت ما بين هذين الوقتين. باب جمع المقيم لمطر أو غيره عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي (ص) صلى بالمدينة سبعا وثمانيا: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. متفق عليه. وفي لفظه للجماعة إلا البخاري وابن ماجة: جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. الحديث ورد بلفظ: من غير خوف ولا سفر. وبلفظ: من غير خوف ولا مطر قال الحافظ: واعلم أنه لم يقع مجموعا بالثلاثة في شئ من كتب الحديث، بل المشهور من غير خوف ولا سفر. قوله: سبعا وثمانيا أي سبعا جميعا، وثمانيا جميعا، كما صرح به البخاري في رواية له ذكرها في باب وقت المغرب. قوله: أراد أن لا يحرج أمته قال ابن سيد الناس: قد اختلف في تقييده، فروي يحرج بالياء المضمومة آخر الحروف، وأمته منصوب على أنه مفعوله. وروي تحرج بالتاء ثالثة الحروف مفتوحة وضم أمته على أنها فاعله. ومعناه إنما فعل تلك لئلا يشق عليهم ويثقل فقصد إلى التخفيف عنهم. وقد أخرج ذلك الطبراني في الاوسط والكبير، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن مسعود بلفظ: جمع رسول الله صلى (ص) بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: صنعت ذلك لئلا تحرج أمتي. وقد ضعف بأن فيه ابن عبد القدوس وهو مندفع، لانه لم يتكلم فيه إلا بسبب روايته عن الضعفاء وتشيعه، والاول غير قادح باعتبار ما نحن فيه، إذ لم يروه عن ضعيف بل رواه عن الاعمش كما قال الهيثمي، والثاني ليس بقدح معتد به ما لم يجاوز الحد المعتبر، ولم ينقل عنه ذلك، على أنه قد قال البخاري أنه صدوق. وقال أبو حاتم: لا بأس به. (وقد استدل) بحديث الباب القائلون بجواز الجمع مطلقا بشرط أن لا يتخذ ذلك خلقا وعادة، قال في الفتح: وممن قال به ابن سيرين وربيعة وابن المنذر والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث، وقد رواه في البحر عن
[ 265 ]
الامامية، والمتوكل على الله أحمد بن سليمان، والمهدي أحمد بن الحسين. ورواه ابن مظفر في البيان عن علي عليه السلام، وزيد بن علي، والهادي، وأحد قولي الناصر، وأحد قولي المنصور بالله، ولا أدري ما صحة ذلك، فإن الذي وجدناه في كتب بعض هؤلاء الائمة وكتب غيرهم يقضي بخلاف ذلك. وذهب الجمهور إلى أن الجمع لغير عذر لا يجوز. وحكي في البحر عن البعض أنه إجماع، ومنع ذلك مسندا بأنه قد خالف في ذلك من تقدم، واعترض عليه صاحب المنار بأنه اعتداد بخلاف حادث بعد إجماع الصدر الاول. وأجاب الجمهور عن حديث الباب بأجوبة، منها: أن الجمع المذكور كان للمرض وقواه النووي. قال الحافظ: وفيه نظر لانه لو كان جمعه (ص) بين الصلاتين لعارض المرض لما صلى معه إلا من له نحو ذلك العذر. والظاهر أنه (ص) جمع بأصحابه، وقد صرح بذلك ابن عباس في روايته. ومنها: أنه كان في غيم فصلى الظهر، ثم انكشف الغيم مثلا فبان أن وقت العصر قد دخل فصلاها. قال النووي: وهو باطل لانه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء. قال الحافظ: وكأن نفيه الاحتمال مبني على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد، والمختار عنه خلافه وهو أن وقتها يمتد إلى العشاء، وعلى هذا فالاحتمال قائم. ومنها: أن الجمع المذكور صوري بأن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها، وعجل العصر في أول وقتها. قال النووي: وهذا احتمال ضعيف أو باطل، لانه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل. قال الحافظ: وهذا الذي ضعفه قد استحسنه القرطبي ورجحه إمام الحرمين، وجزم به من القدماء ابن الماجشون والطحاوي، وقواه ابن سيد الناس بأن أبا الشعثاء وهو راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به. قال الحافظ أيضا: ويقوي ما ذكر من الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرض لوقت الجمع، فإما أن يحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإما أن يحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الاخراج ويجمع بها بين مفترق الاحاديث، فالجمع الصوري أولى والله أعلم اه. ومما يدل على تعيين حمل حديث الباب على الجمع الصوري ما أخرجه النسائي عن ابن عباس بلفظ: صليت مع النبي (ص) الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا، أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب، وعجل العشاء فهذا ابن عباس راوي حديث الباب قد صرح بأن ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري. ومما
[ 266 ]
يؤيد ذلك ما رواه الشيخان عن عمرو بن دينار أنه قال: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب، وعجل العشاء، قال: وأنا أظنه، وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ابن عباس كما تقدم. ومن المؤيدات للحمل على الجمع الصوري ما أخرجه مالك في الموطأ والبخاري وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين، جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها. فنفى ابن مسعود مطلق الجمع وحصره في جمع المزدلفة، مع أنه ممن روى حديث الجمع بالمدينة كما تقدم، وهو يدل على أن الجمع الواقع بالمدينة صوري، ولو كان جمعا حقيقيا لتعارض روايتاه، والجمع ما أمكن المصير إليه هو الواجب. ومن المؤيدات للحمل على الجمع الصوري أيضا ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء فيجمع بينهما وهذا هو الجمع الصوري، وابن عمر هو ممن روى جمعه (ص) بالمدينة، كما أخرج ذلك عبد الرزاق عنه. وهذه الروايات معينة لما هو المراد بلفظ جمع لما تقرر في الاصول من أن لفظ جمع بين الظهر والعصر لا يعم وقتها كما في مختصر المنتهى وشروحه، والغاية وشرحها، وسائر كتب الاصول بل مدلوله لغة الهيئة الاجتماعية، وهي موجودة في جمع التقديم والتأخير والجمع الصوري، إلا أنه لا يتناول جميعها ولا اثنين منها، إذ الفعل المثبت لا يكون عاما في أقسامه، كما صرح بذلك أئمة الاصول، فلا يتعين واحد من صور الجمع المذكور إلا بدليل، وقد قام الدليل على أن الجمع المذكور في الباب هو الجمع الصوري، فوجب المصير إلى ذلك. وقد زعم بعض المتأخرين أنه لم يرد الجمع الصوري في لسان الشارع وأهل عصره وهو مردود بما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله للمستحاضة: وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين. ومثله في المغرب والعشاء، وبما سلف عن ابن عباس وابن عمر. وقد روي عن الخطابي أنه لا يصح حمل الجمع المذكور في الباب على الجمع الصوري، لانه يكون أعظم ضيقا من الاتيان بكل صلاة في وقتها، لان أوائل الاوقات وأواخرها مما لا يدركه الخاصة فضلا عن العامة، ويجاب عنه بأن الشارع قد عرف أمته أوائل الاوقات وأواخرها، وبالغ في التعريف والبيان، حتى أنه عينها بعلامات حسية لا تكاتلتبس على العامة فضلا عن الخاصة،
[ 267 ]
والتخفيف في تأخير إحدى الصلاتين إلى آخر وقتها، وفعل الاولى في أول وقتها متحقق بالنسبة إلى فعل كل واحدة منهما في أول وقتها، كما كان ذلك ديدنه صلى الله عليه وآله وسلم حتى قالت عائشة: ما صلى صلاة لآخر وقتها مرتين حتى قبضه الله تعالى. ولا يشك منصف أن فعل الصلاتين دفعوالخروج إليهما مرة أخف من خلافه وأيسر. وبهذا يندفع ما قاله الحافظ في الفتح إن قوله (ص) لئلا تحرج أمتي يقدح في حمله على الجمع الصوري لان القصد إليه يخلو عن حرج، فإن قلت: الجمع الصوري هو فعل لكل واحدة من الصلاتين المجموعتين في وقتها فلا يكون رخصة بل عزيمة، فأي فائدة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لئلا تحرج أمتي مع شمول الاحاديث المعينة للوقت للجمع الصوري، وهل حمل الجمع على ما شملته أحاديث التوقيت إلا من باب الاطراح لفائدته وإلغاء مضمونه؟ قلت: لا شك أن الاقوال الصادرة منه صلى الله عليه وآله وسلم شاملة للجمع الصوري كما ذكرت، فلا يصح أن يكون رفع الحرج منسوبا إليها، بل هو منسوب إلى الافعال، ليس إلا لما عرفناك من أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما صلى صلاة لآخر وقتها مرتين، فربما ظن ظان أن فعل الصلاة في أول وقتها متحتم لملازمته (ص) لذلك طول عمره، فكان في جمعه جمعا صوريا تخفيف وتسهيل على من اقتدى بمجرد الفعل، وقد كان اقتداء الصحابة بالافعال أكثر منه بالاقوال، ولهذا امتنع الصحابة رضي الله عنهم من نحر بدنهم يوم الحديبية بعد أن أمرهم صلى الله عليه وآله وسلم بالنحر حتى دخل (ص) على أم سلمة مغموما فأشارت عليه بأن ينحر ويدعو الحلاق يحلق له ففعل، فنحروا أجمع وكادوا يهلكون غما من شدة تراكم بعضهم على بعض حال الحلق. ومما يدل على أن الجمع المتنازع فيه لا يجوز إلا لعذر ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس عن النبي (ص) قال: من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر وفي إسناده حنش بن قيس وهو ضعيف. ومما يدل على ذلك ما قاله الترمذي في آخر سننه في كتاب العلل منه ولفظه: جميع ما في كتابي هذا من الحديث هو معمول به، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين: حديث ابن عباس: أن النبي (ص) جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولاسفر وحديث أنه قال (ص): إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه انتهى. ولا يخفاك أن الحديث صحيح، وترك الجمهور للعمل به لا يقدح في صحته، ولا يوجب سقوط الاستدلال به، وقد أخذ به بعض أهل العلم كما سلف، وإن كان
[ 268 ]
ظاهر كلام الترمذي أنه لم يأخذ به أحد ولكن قد أثبت ذلك غيره، والمثبت مقدم، فالاولى التعويل على ما قدمنا من أن ذلك الجمع صوري، بل القول بذلك متحتم لما سلف. وقد جمعنا في هذه المسألة رسالة مستقلة سميناها تشنيف السمع بإبطال أدلة الجمع، فمن أحب الوقوف عليها فليطلبها. قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق حديث الباب ما لفظه: قلت وهذا يدل بفحواه على الجمع للمطر والخوف وللمرض، وإنما خولف ظاهر منطوقه في الجمع لغير عذر للاجماع ولاخبار المواقيت فتبقى فحواه على مقتضاه. وقد صح الحديث في الجمع للمستحاضة والاستحاضة نوع مرض. ولمالك في الموطأ عن نافع: أن ابن عمر كان إذا جمع الامراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم. وللاثرم في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء اه. باب الجمع بأذان وإقامتين من غير تطوع بينهما عن ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي (ص) صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا، كل واحدة منهما بإقامة ولم يسبح بينهما، وعلى أثر واحدة منهما رواه البخاري والنسائي. وعن جابر رضي الله عنه: أن النبي (ص) صلى الصلاتين بعرفة بأذان واحد وإقامتين، وأتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما، ثم اضطجع حتى طلع الفجر مختصر لاحمد ومسلم والنسائي. وعن أسامة رضي الله عنه: أن النبي (ص) لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا متفق عليه. وفي لفظ: ركب حتى جئنا المزدلفة فأقام المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا رواه أحمد ومسلم. وفي لفظ: أتى المزدلفة فصلوا المغرب ثم حلوا رحالهم وأعنته ثم صلى العشاء رواه أحمد، وهو حجة في جواز التفريق بين المجموعتين في وقت الثانية. قوله: صلى المغرب والعشاء في رواية للبخاري: جمع النبي صلى الله عليه وآله
[ 269 ]
وسلم المغرب والعشاء وفي رواية له: جمع بين المغرب والعشاء. قوله: بإقامة لم يذكر الاذان وهوثابت في حديث جابر المذكور بعده. وفي حديث عبد الله بن مسعود عند البخاري بلفظ: فأتينا المزدلفة حين الاذان بالعتمة أو قريبا من ذلك فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى المغرب الحديث. قوله: ولم يسبح بينهما أي لم يتنفل بين صلاة المغرب والعشاء، ولا عقب كل واحدة منها. قال في الفتح: ويستفاد منه أنه ترك النفل عقب المغرب وعقب العشاء، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرح بأنه لم يتنفل بينهما، بخلاف العشاء فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها، لكنه تنفل بعد ذلك في أثناء الليل. ومن ثم قال الفقهاء: تؤخر سنة العشاءين عنهما. ونقل ابن المنذر الاجماع على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة، لانهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع بينهما، ويعكر على نقل الاتفاق ما في البخاري عن ابن مسعود: أنه صلى المغرب بالمزدلفة وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أمر بالاذان والاقامة ثم صلى العشاء وقد اختلف أهل العلم في صلاة النافلة في مطلق السفر، قال النووي: قد اتفق الفقهاء على استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة، فتركها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور. ودليلهم الاحاديث العامة الواردة في ندب مطلق الرواتب، وحديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلم الضحى في يوم الفتح وركعتي الصبح حين ناموا حتى طلعت الشمس، وأحاديث أخر صحيحة ذكرها أصحاب السنن، والقياس على النوافل المطلقة. وأما ما في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم أره يسبح في السفر. وفي رواية: صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك. فقال النووي: لعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر، فإن النافلة في البيت أفضل، ولعله تركها في بعض الاوقات تنبيها على جواز تركها. وأما ما يحتج به القائلون بتركها من أنها لو شرعت لكان إتمام الفريضة أولى، فجوابه أن الفريضة متحتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها، وأما النافلة فهي إلى خيرة المكلف، فالرفق به أن تكون مشروعة، ويتخير إن شاء فعلها وحصل ثوابها، وإن شاء تركها ولا شئ عليه. وقال ابن دقيق العيد: إن قول ابن عمر: فكان لا يزيد في السفر
[ 270 ]
على ركعتين، يحتمل أنه كان لا يزيد في عدد ركعات الفرض، ويحتمل أنه كان لا يزيد نفلا، ويحتمل أعم من ذلك. قال في الفتح: ويدل على الثاني رواية مسلم بلفظ: صحبت ابن عمر في طريق مكة فصلى لنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة فرأى ناسا قياما فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبحا لاتممت. ثم ذكر الحديث. قال ابن القيم في الهدي: وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم في سفره الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها إلا ما كان من سنة الوتر والفجر فإنه لم يكن يدعها حضرا ولا سفرا انتهى. وتعقبه الحافظ بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب قال: سافرت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية عشر سفرا، فلم أره ترك ركعتين إذ زاغت الشمس قبل الظهر قال: وكأنه لم يثبت عنده، وقد استغربه الترمذي ونقل عن البخاري أنه رآه حسنا. وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لاعلى الراتبة قبل الظهر انتهى. وقد ذكر ابن القيم هذا الحديث الذي تعقبه به الحافظ في الهدي في هذا البحث وأجاب عنه وذكر حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وأجاب عنه، واعلم أنه لا بد من حمل قول ابن عمر: فلم أره يسبح على صلاة السنة وإلا فقد صح عنه أنه: كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به. وفي الصحيحين عن عامر بن ربيعة أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته. قال في الهدي: وقد سئل الامام أحمد عن التطوع في السفر فقال: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس. قال: وروي عن الحسن أنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها. قال: وروي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأنس وابن عباس وأبي ذر. قوله: بأذان واحد وإقامتين فيه أن السنة في الجمع بين الصلاتين الاقتصار على أذان واحد، والاقامة لكل واحدة من الصلاتين. وقد أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه أمر بالاذان والاقامة لكل صلاة من الصلاتين المجموعتين بمزدلفة. قال ابن حزم: لم نجده مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو ثبت لقلت به، ثم أخرج من طريق
[ 271 ]
عبد الرزاق عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث. قال أبو إسحاق: فذكرته لابي جعفر محمد بن علي فقال: أما نحن أهل البيت فهكذا نصنع. قال ابن حزم: وقد روي عن عمر من فعله، وأخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه، ثم تأوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه فأذن لهم ليجتمعوا ليجمع بهم. قال الحافظ: ولا يخفى تكلفه ولو تأتى له ذلك في حق عمر، لكونه كان الامام الذي يقيم للناس حجتهم لم يتأت له في حق ابن مسعود. وقد ذهب إلى أن المشروع أذان واحد في الجمع وإقامة لكل صلاة الشافعي في القديم، وهو مروي عن أحمد وابن حزم وابن الماجشون وقواه الطحاوي، وإليه ذهبت الهادوية. وقال الشافعي في الجديد والثوري وهو مروي عن أحمد: أنه يجمع بين الصلاتين بإقامتين فقط، وتمسك الاولون بحديث جابر المذكور في الباب، وتمسك الآخرون بحديث أسامة المذكور في الباب أيضا، لانه اقتصر فيه على ذكر الاقامة لكل واحدة من الصلاتين. (والحق) ما قاله الاولون، لان حديث جابر مشتمل على زيادة الاذان وهي زيادة غير منافية فيتعين قبولها. قوله: ثم أناخ كل إنسان بعيره فيه جواز الفصل بين الصلاتين المجموعتين بمثل هذا، وظاهر قوله: ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا المنافاة لقوله في الرواية الاخرى: ثم حلوا رحالهم وأعنته ثم صلى العشاء فإن أمكن الجمع إما بأنه حل بعضهم قبل صلاة العشاء وبعضهم بعدها، أو بغير ذلك فذاك وإن لم يمكن، فالرواية الاولى أرجح لكونها في صحيح مسلم، ويرجحها أيضا الاقتصار في الرواية المتفق عليها على مجرد الاناخة فقط. [ رم ] أبواب الجمعة باب التغليظ في تركها عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم رواه أحمد ومسلم. وعن أبي هريرة وابن عمر: أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول على أعواد منبره: لينتهين أقوام عن ودعهم
[ 272 ]
الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين رواه مسلم، ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر وابن عباس. وعن أبي الجعد الضمري وله صحبة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه رواه الخمسة. ولاحمد وابن ماجة من حديث جابر نحوه. حديث أبي الجعد أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبزار وصححه ابن السكن. وأبو الجعد قال الترمذي عن البخاري: لا أعرف اسمه، وكذا قال أبو حاتم، وذكره الطبراني في الكنى من معجمه. وقيل: اسمه أدرع، وقيل: جنادة، وقيل: عمرو. وقد اختلف في هذا الحديث على أبي سلمة فقيل عن أبي الجعد. قال الحافظ: وهو الصحيح. وقيل: عن أبي هريرة وهو وهم، قاله الدارقطني في العلل. ورواه الحاكم من حديث أبي قتادة وهو حسن وقد اختلف فيه. وحديث جابر الذي أشار إليه المصنف رحمه الله أخرجه أيضا النسائي وابن خزيمة والحاكم بلفظ: من ترك الجمعة ثلاثا من غيضرورة طبع على قلبه قال الدارقطني: إنه أصح من حديث أبي الجعد. ولجابر حديث آخر بلفظ: إن الله افترض عليكم الجمعة في شهركم هذا فمن تركها استخفافا بها وتهاونا إلا، فلا جمع الله له شمله إلا، ولا بارك الله له إلا، ولا صلاة له أخرجه ابن ماجة وفي إسناده عبد الله البلوي وهو واهي الحديث. وأخرجه البزار من وجه آخر وفيه علي بن زيد بن جدعان، قال الدارقطني: إن الطريقين كليهما غير ثابت. وقال ابن عبد البر: هذا الحديث واهي الاسناد انتهى. (وفي الباب) عن ابن عمر حديث آخر غير ما ذكر المصنف عند الطبراني في الاوسط بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألا عسى أحد منكم أن يتخذ الضبنة من الغنم على رأس ميلين أو ثلاثة تأتي الجمعة فلا يشهدها ثلاثا، فيطبع الله على قلبه وسيأتي نحوه في الباب الذي بعد هذا من حديث أبي هريرة. والضبنة بكسر الضاد المعجمة ثم باء موحدة ساكنة ثم نون هي ما تحت يدك من مال أو عيال. وعن ابن عباس حديث آخر غير الذي ذكره المصنف عن أبي يعلى الموصلي: من ترك ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الاسلام وراء ظهره هكذا ذكره موقوفا وله حكم الرفع، لان مثله لا يقال من قبل الرأي كما قال العراقي. وعن سمرة عند أبي داود والنسائي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من ترك الجمعة من غير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار. وعن أسامة بن زيد عند الطبراني في الكبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ترك
[ 273 ]
ثلاث جمع من غير عذر كتب من المنافقين. وفي إسناده جابر الجعفي وقد ضعفه الجمهور. وعن أنس عند الديلمي في مسند الفردوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ترك ثلاث جمع متواليات من غير عذر طبع الله على قلبه. وعن عبد الله بن أبي أوفى عند الطبراني في الكبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سمع النداء يوم الجمعة ولم يأتها ثم سمع النداء ولم يأتها ثلاثا طبع على قلبه فجعل قلب منافق قال العراقي: وإسناده جيد. وعن عقبة بن عامر عند أحمد في حديث طويل فيه: أناس يحبون اللبن ويخرجون من الجماعات ويدعون الجمعات. وفي إسناده ابن لهيعة. وعن أبي قتادة عند أحمد أيضا بنحو حديث جابر الاول. وعن كعب بن مالك عند الطبراني في الكبير بنحو حديث أبي هريرة وابن عمر المذكور في الباب. قوله: يتخلفون عن الجمعة قال في الفتح: قد اختلف في تسمية اليوم بالجمعة مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية العروبة بفتح العين وضم الراء وبالموحدة، فقيل: سمي بذلك لان كمال الخلق جمع فيه، ذكره أبو حذيفة عن ابن عباس وإسناده ضعيف، وقيل: لان خلق آدم جمع فيه، ورد ذلك من حديث سلمان عند أحمد وابن خزيمة وغيرهما، وله شاهد عن أبي هريرة ذكره ابن أبي حاتم موقوفا بإسناد قوي، وأحمد مرفوعا بإسناد ضعيف، وهذا أصح الاقوال. ويليه ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين بسند صحيح إليه في قصة تجميع الانصار مع أسعد بن زرارة وكانوا يسمونه يوم العروبة فصلى بهم وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه. وقيل: لان كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه ويذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم بأنه سيبعث منه نبي، روى ذلك الزبير في كتاب النسب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مقطوعا، وبه جزم الفراء وغيره وقيل: إن قصيا هو الذي كان يجمعهم، ذكره ثعلب في أماليه. وقيل: سمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه، وبهذا جزم ابن حزم فقال: إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية، وأنه كان يسمى يوم العروبة. قال الحافظ: وفيه نظر، فقد قال أهل اللغة: إن العروبة اسم قديم كان للجاهلية، وقالوا: في الجمعة هو يوم العروبة، فالظاهر أنهم غيروا أسماء الايام السبعة بعد أن كانت تسمى أول، أهون، جبار، دبار، مؤنس، عروبة، شيار. قال الجوهري: وكانت العرب تسمي يوم الاثنين أهون في اسمائهم القديمة، وهذا يشعر بأنهم أحدثوا لها اسما وهي هذه المتعارفة كالسبت والاحد الخ. وقيل: إن أول من سمى
[ 274 ]
الجمعة العروبة كعب بن لؤي، وبه جزم بعض أهل اللغة. والجمعة بضم الجيم على المشهور وقد تسكن وقرأ بها الاعمش، وحكى الفراء فتحها، وحكى الزجاج كسرها. قال النووي: ووجهوا الفتح بأنها تجمع الناس ويكثرون فيها كما يقال همزة ولمزة لكثير الهمز واللمز ونحو ذلك. قوله: لقد هممت الخ، قد استدل بذلك على أن الجمعة من فروض الاعيان، وأجيب عن ذلك بأجوبة قدمنا ذكرها في أبواب الجماعة، وسيأتي بيان ما هو الحق. قوله: ودعهم أي تركهم. قوله: أو ليختمن الله تعالى الختم الطبع والتغطية، قال القاضي عياض: اختلف المتكلمون في هذا اختلافا كثيرا فقيل: هو إعدام اللطف وأسباب الخير. وقيل: هو خلق الكفر في صدورهم وهو قول أكثر متكلمي أهل السنة يعني الاشعرية. وقال غيرهم: هو الشهادة عليهم. وقيل: هو علامة جعلها الله تعالى في قلوبهم ليعرف بها الملائكة من يمدح ومن يذم. قال العراقي: والمراد بالطبع على قلبه أنه يصير قلبه قلب منافق، كما تقدم في حديث ابن أبي أوفى، وقد قال تعالى في حق المنافقين: * (فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) * (المنافقون: 30). قوله: ثلاث جمع يحتمل أن يراد حصول الترك مطلقا، سواء توالت الجماعات أو تفرقت، حتى لو ترك في كل سنة جمعة لطبع الله تعالى على قلبه بعد الثالثة وهو ظاهر الحديث. ويحتمل أن يراد ثلاث جمع متوالية كما تقدم في حديث أنس، لان موالاة الذنب ومتابعته مشعرة بقلة المبالاة به. قوله: تهاونا فيه أن الطبع المذكور إنما يكون على قلب من ترك ذلك تهاونا، فينبغي حمل الاحاديث المطلقة على هذا الحديث المقيد بالتهاون، وكذلك تحمل الاحاديث المطلقة على المقيدة بعدم العذر كما تقدم. (وقد استدل) بأحاديث الباب على أن الجمعة من فروض الاعيان، وقد حكى ابن المنذر الاجماع على أنها فرض عين. وقال ابن العربي: الجمعة فرض بإجماع الامة. وقال ابن قدامة في المغني: أجمع المسلمون على وجوب الجمعة، وقد حكى الخطابي الخلاف في أنها من فروض الاعيان أو من فروض الكفايات وقال: قال أكثر الفقهاء: هي من فروض الكفايات، وذكر ما يدل على أن ذلك قو للشافعي، وقد حكاه المرعشي عن قوله القديم، قال الدارمي: وغلطوا حاكيه، وقال أبو إسحاق المروزي: لا يجوز حكاية هذا عن الشافعي، وكذلك حكاه الروياني عن حكاية بعضهم وغلطه. قال العراقي: نعم هو وجه لبعض الاصحاب، قال: وأما ما ادعاه الخطابي من أن أكثر الفقهاء قالوا إن الجمعة فرض على الكفاية ففيه نظر، فإن مذاهب الائمة الاربعة متفقة على أنها فرض
[ 275 ]
عين، لكن بشروط يشترطها أهل كل مذهب. قال ابن العربي: وحكى ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة، ثم قال: قلنا له تأويلان: أحدهما أن مالكا يطلق السنة على الفرض. الثاني: أنه أراد سنة على صفتها لا يشاركها فيه سائر الصلوات حسب ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله المسلمون. وقد روى ابن وهب عن مالك عزيمة الجمعة على كل من سمع النداء انتهى. (ومن جملة الادلة) الدالة على أن الجمعة من فرائض الاعيان قول الله تعالى: * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا) * (الجمعة: 9) ومنها حديث طارق بن شهاب الآتي في الباب الذي بعد هذا. ومنها حديث حفصة الآتي أيضا. ومنها ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة: أنه سمع رسول الله (ص) يقول: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله تعالى عليهم واختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فالناس لنا تبع فيه الحديث. وقد استنبط منه البخاري فرضية صلاة الجمعة، وبوب عليه باب فرض الجمعة، وصرح النووي والحافظ بأنه يدل على الفرضية قالا: لقوله فرض الله تعالى عليهم فهدانا له، فإن التقدير فرض عليهم وعلينا، فضلوا وهدينا، وقد وقع مسلم في رواية سفيان عن أبي الزناد بلفظ: كتب علينا وقد أجاب عن هذه الادلة من لم يقل بأنها فرض عين بأجوبة. أما عن حديث أبي هريرة الذي ذكره المصنف فيما تقدم في الجماعة. وأما عن سائر الاحاديث المشتملة على الوعيد فبصرفها إلى من ترك الجمعة تهاونا حملا للمطلق على المقيد، ولا نزاع في أن التارك لها تهاونا مستحق للوعيد المذكور، وإنما النزاع فيمن تركها غير متهاون. وأما عن الآية فبما يقضي به آخرها أعني قوله: * (ذلكم خير لكم) * (الجمعة: 9) من عدم فرضية العين. وأما عن حديث طارق فبما قيل فيه من الارسال وسيأتي. وأما عن حديث أبي هريرة الآخر فبمنع استلزام افتراض يوم الجمعة على من قبلنا افتراضه علينا، وأيضا ليس فيه افتراض صلاة الجمعة عليهم ولا علينا. وقد ردت هذه الاجوبة بردود. (والحق) أن الجمعة من فرائض الاعيان على سامع النداء، ولو لم يكن في الباب إلا حديث طارق وأم سلمة الآتيين لكانا مما تقوم به الحجة على الخصم. والاعتذار عن حديث طارق بالارسال ستعرف اندفاعه، وكذلك الاعتذار بأن مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان صغيرا لا يتسع هو ورحبته لكل المسلمين، وما كانت تقام الجمعة في عهده صلى الله عليه وآله وسلم بأمره إلا فمسجده، وقبائل العرب كانوا مقيمين في نواحي المدينة مسلمين، ولم يؤمروا بالحضور مدفوع بأن تخلف
[ 276 ]
المتخلفين عن الحضور بعد أمر الله تعالى به وأمر رسوله، والتوعد الشديد لمن لم يحضر لا يكون حجة إلا على فرض تقريره صلى الله عليه وآله وسلم للمتخلفين على تخلفهم، واختصاص الاوامر بمن حضر جمعته صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين وكلاهما باطل. أما الاول فلا يصح نسبة التقرير إليه صلى الله عليه وآله وسلم بعد همه بإحراق المتخلفين عن الجمعة، وإخباره بالطبع على قلوبهم، وجعلها كقلوب المنافقين. وأما الثاني فمع كونه قصرا للخطابات العامة بدون برهان ترده أيضا تلك التوعدات للقطع بأنه لا معنى لتوعد الحاضرين، ولتصريحه صلى الله عليه وآله وسلم بأن ذلك الوعيد للمتخلفين، وضيق مسجده صلى الله عليه وآله وسلم لا يدل على عدم الفرضية إلا على فرض أن الطلب مقصور على مقدار ما يتسع له من الناس، أو عدم إمكان إقامتها في البقاع التي خارجه، وفي سائر البقاع وكلاهما باطل. أما الاول فظاهر، وأما الثاني فكذلك أيضا لامكان إقامتها في تلك البقاع عقلا وشرعا. (لا يقال) عدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم بإقامتها في غير مسجده يدل على عدم الوجوب. لانا نقول: الطلب العام يقتضي وجوب صلاة الجمعة على كل فرد من أفراد المسلمين، ومن لا يمكنه إقامتها في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكنه الوفاء بما طلبه الشارع إلا بإقامتها في غيره، وما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه كما تقرر في الاصول. باب من تجب عليه ومن لا تجب عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الجمعة على من سمع النداء رواه أبو داود والدار قطني. وقال فيه انما الجمعة على من سمع النداء. الحديث، قال أبو داود في السنن: رواه جماعة عن سفيان مقصورا على عبد الله بن عمرو، ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة انتهى. وفي إسناده محمد بن سعيد الطائفي قال المنذري: وفيه مقال، وقال في التقريب: صدوق. وقال أبو بكر بن أبي داود: هو ثقة، قال: وهذه سنة تفرد بها أهل الطائف انتهى. وقد تفرد به محمد بن سعيد عن شيخه أبي سلمة، وتفرد به أبو سلمة عن شيخه عبد الله بن هارون، وقد ورد من حديث عبد الله
[ 277 ]
بن عمرو من وجه آخر، أخرجه الدارقطني من رواية الوليد عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعا، والوليد وزهير كلاهما من رجال الصحيح، قال العراقي: لكن زهير روى عن أهل الشام مناكير منهم الوليد، والوليد مدلس، وقد رواه بالعنعنة فلا يصح. ورواه الدارقطني أيضا من رواية محمد ابن الفضل بن عطية عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومحمد بن الفضل ضعيف جدا، والحجاج هو ابن أرطأة وهو مدلس مختلف في الاحتجاج به. ورواه أيضا البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا (والحديث) يدل على أن الجمعة لا تجب إلا على من سمع النداء، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق، حكى ذلك الترمذي عنهم، وحكاه ابن العربي عن مالك، وروي ذلك عن عبد الله بن عمرو راوي الحديث. وحديث الباب وإن كان فيه المقال المتقدم فيشهد لصحته قوله تعالى: * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) * (الجمعة: 9) الآية. قال النووي في الخلاصة: إن البيهقي قال له شاهد فذكره بإسناد جيد. قال العراقي: وفيه نظر، قال: ويغني عنه حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب. وروى نحوه أبو داود بإسناد حسن عن ابن أم مكتوم قال: فإذا كان هذا في مطلق الجماعة فالقول به في خصوصية الجمعة أولى، والمراد بالنداء المذكور في الحديث هو النداء الواقع بين يدي الامام في المسجد، لانه الذي كان في زمن النبوة لا الواقع على المنارات فإنه محدث كما سيأتي. وظاهره عدم وجوب الجمعة على من لم يسمع النداء، سواء كان في البلد الذي تقام فيه الجمعة أو في خارجه، وقد ادعى في البحر الاجماع على عدم اعتبار سماع النداء في موضعها، واستدل لذلك بقوله: إذا لم تعتبره الآية وأنك تعلم أن الآية قد قيد الامر بالسعي فيها بالنداء لما تقرر عند أئمة البيان من أن الشرط قيد لحكم الجزاء، والنداء المذكور فيها يستوي فيه من في المصر الذي تقام فيه الجمعة ومن خارجه، نعم إن صح الاجماع كان هو الدليل على عدم اعتبار سماع النداء لمن في موضع إقامة الجمعة عند من قال بحجية الاجماع، وقد حكى العراقي في شرح الترمذي عن الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل أنهم يوجبون الجمعة على أهل المصر وإن لم يسمعوا النداء، وقد اختلف أهل العلم فيمن كان خارجا
[ 278 ]
عن البلد الذي تقام فيه الجمعة، فقال عبد الله بن عمر وأبو هريرة وأنس والحسن وعطاء ونافع وعكرمة والحكم والاوزاعي والامام يحيى أنها تجب على من يؤويه الليل إلى أهله، والمراد أنه إذا جمع مع الامام أمكنه العود إلى أهله آخر النهار وأول الليل، واستدلوا بما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الجمعة على من أواه الليل إلى أهله. قال الترمذي: وهذا إسناد ضعيف، إنما يروى من حديث معارك بن عباد عن عبد الله بن سعيد المقبري، وضعف يحيى بن سعيد القطان عبد الله بن سعيد المقبري في الحديث انتهى. وقال العراقي: إنه غير صحيح فلا حجة فيه. وذهب الهادي والناصر ومالك إلى أنها تلزم من سمع النداء بصوت الصيت من سور البلد. وقال عطاء: تلزم من على عشرة أميال. وقال الزهري: من على ستة أميال. وقال ربيعة: من على أربعة، وروي عن مالك ثلاثة. وروي عن الشافعي فرسخ، وكذلك روي عن أحمد. قال ابن قدامة: وهذا قول أصحاب الرأي. وروي في البحر عن زيد بن علي والباقر والمؤيد بالله وأبي حنيفة وأصحابه أنها لا تجب على من كان خارج البلد. وقد استدل بحديث الباب على أن الجمعة من فروض الكفايات، حتى قال في ضوء النهار: إنه يدل على ذلك بلا شك ولا شبهة، ورد بأنه ليس في الحديث إلا إنها من فرائض الاعيان على سامع النداء فقط، وليس فيه أنها فرض كفاية على من لم يسمع، بل مفهومه يدل على أنها لا تجب عليه لا عينا ولا كفاية. وعن حفصة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رواح الجمعة واجب على كل محتلم رواه النسائي. وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض رواه أبو داود. وقال طارق بن شهاب: قد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسمع منه شيئا. الحديث الا ورجال إسناده رجال الصحيح إلا عياش بن عياش وقد وثقه العجلي. والحديث الآخر أخرجه أيضا الحاكم من حديث طارق هذا عن أبي موسى، قال الحافظ: وصححه غير واحد. وقال الخطابي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك، وطارق بن شهاب لا يصح له سماع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال العراقي: فإذا قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح، وغايته أن
[ 279 ]
يكون مرسل صحابي وهو حجة عند الجمهور، إنما خالف فيه أبو إسحاق الاسفراييني، بل ادعى بعض الحنفية الاجماع على أن مرسل الصحابي حجة اه. على أنه قد اندفع الاعلال بالارسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى، وقد شد من عضد هذا الحديث حديث حفصة المذكور في الباب، ويؤيده أيضا ما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر بلفظ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة، إلا امرأة، أو مسافرا، أو عبدا، أو مريضا. وفي إسناده ابن لهيعة ومعاذ بن محمد الانصاري وهما ضعيفان. (وفي الباب) عن تميم الداري عند العقيلي والحاكم أبي أحمد وفيه أربعة ضعفاء على الولاء، قاله ابن القطان. وعن ابن عمر عند الطبراني في الاوسط. وعن مولى لآل الزبير عند البيهقي. وعن أبي هريرة ذكره الحافظ في التلخيص، وذكره صاحب مجمع الزوائد، وقال فيه إبراهيم بن حماد ضعفه الدارقطني. وعن أم عطية بلفظ: نهينا عن اتباع الجنائز ولا جمعة علينا أخرجه ابن خزيمة. وقد استدل بحديثي الباب على أن الجمعة من فرائض الاعيان، وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: عبد مملوك فيه أن الجمعة غير واجبة على العبد، وقال داود: إنها واجبة عليه لدخوله تحت عموم الخطاب. قوله: أو امرأة فيه عدم وجوب الجمعة على النساء، أما غير العجائز فلا خلاف في ذلك، وأما العجائز فقال الشافعي: يستحب لهن حضورها. قوله: أو صبي فيه أن الجمعة غير واجبة على الصبيان وهو مجمع عليه. قوله: أو مريض فيه أن المريض لا تجب عليه الجمعة إذا كان الحضور يجلب عليه مشقة، وقد ألحق به الامام يحيى وأبو حنيفة الاعمى وإن وجد قائدا لما في ذلك من المشقة. وقال الشافعي: إنه غير معذور عن الحضور إن وجد قائدا. وظاهر حديث أبي هريرة وابن أم مكتوم المتقدمين في شرح الحديث الذي في أول هذا الباب أنه غير معذور مع سماعه للنداء، وإن لم يجد قائدا، لعدم الفرق بين الجمعة وغيرها من الصلوات، وقد تقدم الكلام على الحديثين في أول أبواب الجماعة. (اختلف) في المسافر هل تجب عليه الجمعة إذا كان نازلا أم لا؟ فقال الفقهاء وزيد بن علي والناصر والباقر والامام يحيى: أنها لا تجب عليه ولو كان نازلا وقت إقامتها، واستدلوا بما تقدم في حديث جابر من استثناء المسافر، وكذا استثناء المسافر في حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه. وقال الهادي والقاسم وأبو العباس والزهري والنخعي: أنها تجب على المسافر إذا كان نازلا وقت إقامتها لا إذا كان سائرا، ومحل
[ 280 ]
الخلاف هل يطلت اسم المسافر على من كان نازلا أو يختص بالسائر؟ وقد تقدم الكلام على ذلك في أبواب صلاة السفر. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلا فيرتفع، ثم تجئ الجمعة فلا يجئ ولا يشهدها، وتجئ الجمعة فلا يشهدها، وتجئ الجمعة فلا يشهدها، حتى يطبع الله تعالى على قلبه. رواه ابن ماجة. الحديث هو عند ابن ماجة كما ذكر المصنف من رواية محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة، وأخرجه الحاكم أيضا وفي إسناده معدي بن سليمان وفيه مقال. وروى نحوه الطبراني وأحمد من حديث حارثة بن النعمان. وروى أيضا نحوه الطبراني من حديث ابن عمر وقد تقدم. قوله: أن يتخذ الصبة بصاد مهملة مضمومة وبعدها باء موحدة مشددة قال في النهاية: هي من العشرين إلى الاربعين ضأنا ومعزا. وقيل: معزا خاصة، وقيل: ما بين الستين إلى السبعين، ولفظ حديث ابن عمر أن يتخذ الضبنة، قال العراقي: بكسر الضاد المعجمة ثم باء موحدة ساكنة ثم نون هي ما تحت يدك من مال أو عيال اه. وفي القاموس في فصل الصاد المهملة من باب الباء الموحدة ما لفظه: والصبة بالضم ما صب من طعام وغيره، ثم قال: والسربة من الخيل والابل والغنم، أو ما بين العشرة إلى الاربعين، أو هي من الابل ما دون المائة. وقال في فصل الضاد المعجمة من حرف النون: الضبنة مثلثة وكفرحة العيال ومن لا غناء فيه ولا كفاية من الرفقاء. (والحديث) فيه الحث على حضور الجمعة والتوعد على التشاغل عنها بالمال، وفيه أنها لا تسقط عمن كان خارجا عن بلد إقامتها، وأن طلب الكلا ونحوه لا يكون عذرا في تركها. وعن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم جمعة قال: فتقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي (ص) الجمعة، ثم ألحقهم؟ قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ فقال: أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو أنفقت ما في الارض جميعا ما أدركت غدوتهم رواه أحمد والترمذي. وقال شعبة: لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أحاديث وعدها، وليس هذا الحديث فيما عده. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه أبصر رجلا عليه هيئة السفر فسمعه يقول: لولا أن اليوم يوم جمعة لخرجت، فقال عمر: أخرج
[ 281 ]
فإن الجمعة لا تحبس عن سفر رواه الشافعي في مسنده. أما حديث ابن عباس فقال الترمذي: إنه غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ثم قال: قال يحيى بن سعيد، قال شعبة، وذكر الكلام الذي ذكره المصنف وفي إسناده الحجاج بن أرطأة، قال البيهقي: انفرد به الحجاج وهو ضعيف، وقال العراقي في شرح الترمذي: ضعفه الجمهور، ومال ابن العربي إلى تصحيح الحديث وقال: ما قاله شعبة لا يؤثر في الحديث، وقال: هو صحيح السند، صحيح المعنى، لان الغزو أفضل من الجماعة في الجمعة وغيرها، وطاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغزو أفضل من طاعته في صلاة الجماعة، وتعقبه العراقي فقال: هذا الكلام ليس جاريا على قواعد أهل الحديث، ولا يلزم من كون المعنى صحيحا أن يكون السند صحيحا، فإن شرط صحة الاسناد اتصاله فالمنقطع ليس من أقسام الصحيح عند عامة العلماء، وهم الذين لا يحتجون بالمرسل، فكل من لا يحتج بالمرسل لا يحتج بعنعنة المدلس، بل حكى النووي في شرح المهذب وغيره اتفاق العلماء على أنه لا يحتج بعنعنة المدلس مع احتمال الاتصال، فكيف مع تصريح شعبة وهو أمير المؤمنين في الحديث بأن الحكم لم يسمعه من مقسم، فلو ثبت الحديث لكان حجة واضحة، وإذا لم يثبت فالحجة قائمة بغيره من حيث تعارض الواجبات، وأنه يقدم أهمها، ولا شك أن الغزو أهم من صلاة الجمعة، إذ الجمعة لها خلف عند فوتها، بخلاف الغزو خصوصا إذا تعين فإنه يجب تقديمه، وأيضا فالجمعة لم تجب قبل الزوال، وإن وجب السعي إليها قبله في حق من سمع النداء، ولا يمكنه إدراكها إلا بالسعي إليها قبله، ومن هذه حاله يمكن أن يكون حكمه عند ذلك حكم ما بعد الزوال اه. وأما الاثر المروي عن عمر فذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه. وروى سعيد بن منصور أن أبا عبيدة سافر يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة. وأخرج أبو داود في المراسيل وابن أبي شيبة عن الزهري أنه أراد أن يسافر يوم الجمعة ضحوة فقيل له في ذلك فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سافر يوم الجمعة. وفي مقابل ذلك ما أخرجه الدارقطني في الافراد عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره وفي إسناده ابن لهيعة وهو مختلف فيه، وما أخرجه الخطيب في كتاب أسماء الرواة عن مالك من رواية الحسين بن علوان عنه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من سافر يوم الجمعة دعا عليه ملكاه أن لا يصاحب في سفره ولا تقضى له حاجة ثم قال الخطيب: الحسين بن علوان غيره
[ 282 ]
أثبت منه. قال العراقي: قد ألان الخطيب الكلام في الحسين هذا، وقد كذبه يحيى بن معين، ونسبه ابن حبان إلى الوضع، وذكر له الذهبي في الميزان هذا لحديث، وأنه مما كذب فيه على مالك. وقد اختلف العلماء في جواز السفر يوم الجمعة من طلوع الفجر إلى الزوال على خمسة أقوال. الاول: الجواز قال العراقي وهو قول أكثر العلماء: فمن الصحابة: عمر بن الخطاب والزبير بن العوام وأبو عبيدة بن الجراح وابن عمر. ومن التابعين: الحسن وابن سيرين والزهري. ومن الائمة: أبو حنيفة ومالك في الرواية المشهورة عنه، والاوزاعي وأحمد بن حنبل في الرواية المشهورة عنه وهو القول القديم للشافعي، وحكاه ابن قدامة عن أكثر أهل العلم. والقول الثاني: المنع منه وهو قول الشافعي في الجديد وهو إحدى الروايتين عن أحمد وعن مالك. والثالث: جوازه لسفر الجهاد دون غيره وهو إحدى الروايات عن أحمد. والرابع: جوازه للسفر الواجب دون غيره وهو اختيار أبي إسحاق المروي من الشافعية ومال إليه إمام الحرمين. والخامس: جوازه لسفر الطاعة واجبا كان أو مندوبا وهو قول كثير من الشافعية وصححه الرافعي. وأما بعد الزوال من يوم الجمعة فقال العراقي: قد ادعى بعضهم الاتفاق على عدم جوازه وليس كذلك، فقد ذهب أبو حنيفة والاوزاعي إلى جوازه كسائر الصلوات، وخالفهم في ذلك عامة العلماء، وفرقوا بين الجمعة وبين غيرها من الصلوات بوجوب الجماعة في الجمعة دون غيرها، والظاهر جواز السفر قبل دخول وقت الجمعة وبعد دخوله لعدم المانع من ذلك، وحديث أبي هريرة وكذلك حديث ابن عمر لا يصلحان للاحتجاج بهما على المنع لما عرفت من ضعفهما ومعارضة ما هو أنهض منهما، ومخالفتهما لما هو الأصل، فلا ينتقل عنه إلا بناقل صحيح ولم يوجد، وأما وقت صلاة الجمعة فالظاهر عدم الجواز لمن قد وجب عليه الحضور إلا أن يخشى حصول مضرة من تخلفه للجمعة، كالانقطاع عن الرفقة التي لا يتمكن من السفر إلا معها، وما شابه ذلك من الاعذار، وقد أجاز الشارع التخلف عن الجمعة لعذر المطر، فجوازه لما كان أدخل في المشقة منه أولى. باب انعقاد الجمعة بأربعين وإقامتها في القرى عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصره عن أبيه
[ 283 ]
كعب رضي الله عنهما: أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لاسعد بن زرارة، قال فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لاسعد بن زرارة؟ قال: لانه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات، قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا رواه أبو داود وابن ماجة وقال فيه: كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي وصححه، قال الحافظ: وإسناده حسن اه. وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال مشهور. قوله: هزم النبيت هو بفتح الهاء وسكون الزاي المطمئن من الارض، والنبيت بفتح النون وكسر الباء الموحدة وسكون الياء التحتية وبعدها تاء فوقية، قال في القاموس: هو أبوحي باليمن اسمه عمرو بن مالك اه. والمراد به هنا موضع من حرة بني بياضة وهي قرية على ميل من المدينة، وبنو بياضة بطن من الانصار. قوله: في نقيع هو بالنون ثم القاف ثم الياء التحتية بعدها عين مهملة. قوله: الخضمات بالخاء المعجمة وكسر الضاد المعجمة موضع معروف. قوله: أربعون رجلا استدل به من قال: إن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين رجلا، وإلى ذلك ذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعمر بن عبد العزيز. وجه الاستدلال بحديث الباب أن الامة أجمعت على اشتراط العدد والاصل الظهر، فلا تصح الجمعة إلا بعدد ثابت بدليل وقد ثبت جوازها بأربعين، فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صحيح. وثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلوا كما رأيتموني أصلي قالوا: ولم تثبت صلاته لها بأقل من أربعين، وأجيب عن ذلك بأنه لا دلالة في الحديث على اشتراط الاربعين لان هذه واقعة عين، وذلك أن الجمعة فرضت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة قبل الهجرة، كما أخرجه الطبراني عن ابن عباس، فلم يتمكن من إقامتها هنالك من أجل الكفار، فلما هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة كتب إليهم يأمرهم أن يجمعوا فجمعوا، واتفق أعدتهم إذا كانت أربعين وليس فيه ما يدل على أن من دون الاربعين لا تنعقد بهم الجمعة. وقد تقرر في الاصول أن وقائع الاعيان لا يحتج بها على العموم. وروى عبد بن حميد وعبد الرزاق عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، قالت الانصار لليهود: يوم يجمعون فيه كل أسبوع، وللنصارى مثل ذلك،
[ 284 ]
فهلم فلنجعل يوما نجمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموا الجمعة حين اجتمعوا إليه، فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها، فأنزل الله تعالى في ذلك بعد: * (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) * (البقرة: 180) الآية. قال الحافظ: ورجاله ثقات إلا أنه مرسل. وقولهم: لم يثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الجمعة بأقل من أربعين يرده حديث جابر الآتي في باب انفضاض العدد لتصريحه بأنه لم يبق معه صلى الله عليه وآله وسلم إلا اثنا عشر رجلا. وما أخرجه الطبراني عن أبي مسعود الانصاري قال: أول من قدم المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير وهو أول من جمع بها يوم الجمعة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم اثنا عشر رجلا وفي إسناده صالح بن أبي الاخضر وهو ضعيف. قال الحافظ: ويجمع بينه وبين حديث الباب بأن أسعد كان أميرا ومصعبا كان إماما. وما أخرجه الطبراني أيضا وابن عدي عن أم عبد الله الدوسية مرفوعا: الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة. وفي رواية: وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم الامام وقد ضعفه الطبراني وابن عدي وفيه متروك. قال في التلخيص: وهو منقطع، وأما احتجاجهم بحديث جابر عند الدارقطني والبيهقي بلفظ: في كل أربعين فما فوقها جمعة وأضحى وفطر ففي إسناده بعد تسليم أنه مرفوع عبد العزيز بن عبد الرحمن، قال أحمد: اضرب على أحاديثه فإنها كذب أو موضوعة. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني: منكر الحديث، وكان ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به. وقال البيهقي: هذا الحديث لا يحتج بمثله. ومن الغرائب ما استدل به البيهقي على اعتبار الاربعين وهو حديث ابن مسعود قال: جمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنت آخر من أتاه ونحن أربعون رجلا فقال: إنكم مصيبون ومنصورون ومفتوح لكم، فإن هذه الواقعة قصد فيها النبي (ص) أن يجمع أصحابه ليبشرهم، فاتفق أن اجتمع له منهم هذا العدد. قال السيوطي: وإيراد البيهقي لهذا الحديث أقوى دليل على أنه لم يجد من الاحاديث ما يدل للمسألة صريحا اه. واعلم أن الخلاف في هذه المسألة منتشر جدا، وقد ذكر الحافظ في فتح الباري خمسة عشر مذهبا فقال: وجملة ما للعلماء في ذلك خمسة عشر قولا. أحدها: تصح من الواحد نقله ابن حزم، قلت: وحكاه الدارمي عن القاشاني، وصاحب البحر عن الحسن بن
[ 285 ]
صالح. الثاني: اثنان كالجماعة وهو قول النخعي، وأهل الظاهر، والحسن بن يحيى. الثالث: اثنان مع الامام عند أبى يوسف ومحمد، قلت: وحكاه في شرح المهذب عن الاوزاعي وأبي ثور، وحكاه في البحر عن أبي العباس وتحصيله للهادي والاوزاعي والثوري. الرابع: ثلاثة معه عند أبي حنيفة، قلت: وإليه ذهب المؤيد بالله وأبو طالب، وحكاه ابن المنذر عن الاوزاعي وأبي ثور، واختاره المزني والسيوطي، وحكاه عن الثوري والليث. الخامس: سبعة حكي عن عكرمة. السادس: تسعة عند ربيعة. السابع: اثنا عشر عنه في رواية قلت: وحكاه عنه المتولي والماوردي في الحاوي، وحكاه الماوردي أيضا عن الزهري والاوزاعي ومحمد بن الحسن. الثامن: مثله غير الامام عند إسحاق. التاسع: عشرون في رواية ابن حبيب عن مالك. العاشر: ثلاثون في روايته أيضا عن مالك. الحادي عشر: أربعون بالامام عند الشافعي، قلت: ومعه من قدمنا ذكرهم كما حكى ذلك السيوطي: الثاني عشر: أربعون غير الامام روي عن الشافعي، وبه قال عمر بن عبد العزيز وطائفة. الثالث عشر: خمسون عند أحمد، وفي رواية كليب عن عمر بن عبد العزيز. الرابع عشر: ثمانون حكاه المازري. الخامس عشر: جمع كثير بغير قيد، قلت: حكاه السيوطي عن مالك. قال الحافظ: ولعل هذا الاخير أرجحها من حيث الدليل. (واعلم) أنه لا مستند لاشتراط ثمانين أو ثلاثين أو عشرين أو تسعة أو سبعة، كما أنه لا مستند لصحتها من الواحد المنفرد، وأما من قال إنها تصح باثنين فاستدل بأن العدد واجب بالحديث والاجماع، ورأى أنه لم يثبت دليل على اشتراط عدد مخصوص، وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين، ولا فرق بينها وبين الجماعة، ولم يأت نص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا، وهذا القول هو الراجح عندي، وأما الذي قال بثلاثة فرأى العدد واجبا في الجمعة كالصلاة، فشرط العدد في المأمومين المستمعين للخطبة. وأما الذي قال بأربعة فمستنده حديث أم عبد الله الدوسية المتقدم، وقد تقدم أنه لا ينتهض للاحتجاج به، وله طريق أخرى عند الدارقطني وفيها متروكون، وله طريق ثالثة عنده أيضا وفيها متروك، قال السيوطي: قد حصل من اجتماع هذه الطرق نوقوة للحديث، وفيه أن الطرق التي لا تخلو كل واحدة منها من متروك لا تصلح للاحتجاج وإن كثرت. وأما الذي قال باثني عشر فمستنده حديث جابر في الانفضاض وسيأتي، وفيه أنه يدل على صحتها بهذا المقدار، وأما أنها لا تصح إلا بها فصاعدا لا بما دونهم فليس في الحديث ما يدل على ذلك. وأما من
[ 286 ]
قال باشتراط الخمسين فمستنده ما أخرجه الطبراني في الكبير والدارقطني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الجمعة على الخمسين رجلا وليس على ما دون الخمسين جمعة قال السيوطي: لكنه ضعيف، ومع ضعفه فهو محتمل للتأويل، لان ظاهره أن هذا العدد شرط للوجوب لا شرط للصحة، فلا يلزم من عدم وجوبها على ما دون الخمسين عدم صحتها منهم. وأما اشتراط جمع كثير من دون تقييد بعدد مخصوص فمستنده أن الجمعة شعار، وهو لا يحصل إلا بكثرة تغيظ أعداء المؤمنين، وفيه أن كونها شعارا لا يستلزم أن ينتفي وجوبها بانتفاء العدد الذي يحصل به ذلك، على أن الطلب لها من العباد كتابا وسنة مطلق عن اعتبار الشعار فما الدليل على اعتباره؟ وكتبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى مصعب بن عمير أن ينظر اليوم الذي يجهر فيه اليهود بالزبور فيجمع النساء والابناء، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة تقربوا إلى الله تعالى بركعتين، كما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس غاية ما فيه أن ذلك سبب أصل المشروعية، وليس فيه أنه معتبر في الوجوب، فلا يصلح للتمسك به على اعتبار عدد يحصل به الشعار، وإلا لزم قصر مشروعية الجمعة على بلد تشارك المسلمين في سكونه اليهود وإنه باطل، على أنه يعارض حديث ابن عباس المذكور ما تقدم عن ابن سيرين في بيان السبب في اعتراض الجمعة، وليس فيه إلا أنه كان اجتماعهم لذكر الله تعالى وشكره، وهو حاصل من القليل والكثير بل من الواحد، لولا ما قدمنا من أن الجمعة يعتبر فيها الاجتماع وهو لا يحصل بواحد، وأما الاثنان فبانضمام أحدهما إلى الآخر يحصل الاجتماع، وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما فقال: الاثنان فما فوقهما جماعة، كما تقدم في أبواب الجماعة، وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالاجماع، والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. وقد قال عبد الحق: إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث، وكذلك قال السيوطي: لم يثبت في شئ من الاحاديث تعيين عدد مخصوص. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أول جمعة جمعت بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين رواه البخاري وأبو داود. وقال: بجواثي قرية من قرى البحرين. قوله: أول جمعة جمعت زاد أبو داود: في الاسلام. قوله: في مسجد رسول
[ 287 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم وقع في رواية بمكة قال في الفتح: وهو خطأ بلا مرية. قوله: بجواثى بضم الجيم وتخفيف الواو وقد تهمز ثم مثلثة خفيفة. قوله: من قرى البحرين فيه جواز إقامة الجمعة في القرى، لان الظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالامور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولانه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدل بذلك جابر وأبو سعيد في جواز العزل بأنهم فعلوا والقرآن ينزل فلم ينهوا عنه، وحكى الجوهري والزمخشري وابن الاثير أن جواثى اسم حصن البحرين. قال الحافظ: وهذا لا ينافي كونها قرية. وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي أنها مدينة، وما ثبت في نفس الحديث من كونها قرية أصمع احتمال أن تكون في أول الامر قرية ثم صارت مدينة. وذهب أبو حنيفة وأصحابه، وبه قال زيد بن علي، والباقر، والمؤيد بالله، وأسنده ابن أبي شيبة عن علي عليه السلام وحذيفة وغيرهما أن الجمعة لا تقام إلا في المدن دون القرى، واحتجوا بما روي عن علي عليه السلام مرفوعا: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع وقد ضعف أحمد رفعه، وصحح ابن حزم وقفه، وللاجتهاد فيه مسرح فلا ينتهض للاحتجاج به. وقد روى ابن أبي شيبة عن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين أن اجمعوا حيث ما كنتم، وهذا يشمل المدن والقرى، وصححه ابن خزيمة، وروى البيهقي عن الليث بن سعد أن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون على عهد عمر وعثمان بأمرهما وفيها رجال من الصحابة. وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعتب عليهم، فلما اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى المرفوع. ويؤيد عدم اشتراط المصر حديث أم عبد الله الدوسية المتقدم. وذهب الهادي إلى اشتراط المسجد قال: لانها لم تقم إلا فيه. وقال أبو حنيفة والشافعي والمؤيد بالله وسائر العلماء: إنه غير شرط، قالوا: إذ لم يفصل دليلها، قال في البحر: قلت وهو قوي إن صحت صلاته صلى الله عليه وآله وسلم في بطن الوادي اه. وقد روى صلاته صلى الله عليه وآله وسلم في بطن الوادي ابن سعد وأهل السير، ولو سلم عدم صحة ذلك لم يدل فعلها في المسجد على اشتراطه.
[ 288 ]
باب التنظيف والتجمل للجمعة وقصدها بسكينة والتبكير والدنو من الامام عن ابن سلام رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر في يوم الجمعة، ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته رواه ابن ماجة وأبو داود. وعن أبي سعيد رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ويلبس من صالح ثيابه وإن كان له طيب مس منه رواه أحمد. الحديث الاول له طرق عند أبي داود. منها: عن موسى بن سعد، عن ابن حبان، عن ابن سلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها: عن موسى بن سعد، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال البخاري: وليوسف صحبة، وذكر غيره أن له رواية. ومنها: عن محمد بن يحيى بن حبان، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. وأخرجه ابن ماجة من حديث عبد الله بن سلام. وأخرجه في الموطأ بلاغا، ووصله ابن عبد البر في التمهيد من طريق يحيى بن سعيد الاموي عن يحيى بن سعيد الانصاري عن عمرة عن عائشة، قال في الفتح: وفي إسناده نظر. (والحديث الثاني) أخرجه أيضا أبو داود وهو عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي بلفظ: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن وأن يمس طيبا إن وجد قال البخاري: قال عمرو بن سليم الانصاري راوي الحديث عن أبي سعيد: أما الغسل فأشهد أنه واجب، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث. (والحديث) الاول يدل على استحباب لبس الثياب الحسنة يوم الجمعة، وتخصيصه بملبوس غير ملبوس سائر الايام. وحديث أبي سعيد فيه مشروعية الغسل في يوم الجمعة، واللبس من صالح الثياب والتطيب، وقد تقدم الكلام على الغسل في أبوابه. وأما لبس صالح الثياب والتطيب فلا خلاف في استحباب ذلك، وقد ادعى بعضهم الاجماع على عدم وجوب الطيب، وجعل ذلك دليلا على عدم وجوب الغسل، وأجيب عن ذلك بأنه قد روي عن أبي هريرة بإسناد صحيح، كما قال الحافظ في الفتح
[ 289 ]
أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة، وبه قال بعض أهل الظاهر، وبأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب كما قال ابن الجوزي، وقد تقدم بسط الكلام على ذلك في أبواب الغسل. وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يروح إلى المسجد، ويفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت للامام إذا تكلم، إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الاخرى رواه أحمد والبخاري. قوله: ويتطهر بما استطاع من طهر في رواية الكشميهني: من طهره والمراد المبالغة في التنظيف، ويؤخذ من عطف على يغتسل أن إفاضة الماء تكفي في حصول الغسل. قال في الفتح: المراد بالغسل غسل الجسد وبالتطهر غسل الرأس. قوله: ويدهن المراد به إزالة شعث الشعر به، وفيه إشارة إلى التزين يوم الجمعة. قوله: أو يمس من طيب بيته أي إن لم يجد دهنا. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون أو بمعنى الواو وإضافته إلى البيت تؤذن بأن السنة أن يتخذ المرء لنفسه طيبا، ويجعل استعماله له عادة فيدخره في البيت، وهذا مبني على أن المراد بالبيت حقيقته، لكن في حديث عبد الله بن عمر عند أبي داود: أو يمس من طيب امرأته. والمعنى على هذا أن من لم يتخذ لنفسه طيبا فليستعمل من طيب امرأته. وعند مسلم من حديث أبي سعيد بلفظ: ولو من طيب المرأة وفيه أن المراد بالبيت في الحديث امرأة الرجل. قوله: ثم يروح إلى المسجد في رواية للبخاري: ثم يخرج. وفي رواية لاحمد: ثم يمشي وعليه السكينة زاد ابن خزيمة: إلى المسجد. قوله: ولا يفرق بين اثنين وفي حديث ابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد: ثم لم يتخط رقاب الناس وفي حديث أبي الدرداء: ولم يتخط أحدا ولم يؤذه وفيه كراهة التفريق، وتخطي الرقاب وأذية المصلين، قال الشافعي: أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك انتهى. قال في الفتح: وهذا يدخل فيه الامام ومن يريد وصل الصف المنقطع إن أبى السابق من ذلك، ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام منه لضرورة، واستثنى المتولي من الشافعية من يكون معظما لدينه وعلمه إذا ألف مكانا يجلس فيه وهو تخصيص بدون مخصص، ويمكن أن
[ 290 ]
يستدل لذلك بحديث: ليليني منكم أولو الاحلام والنهى إذا كان المقصود من التخطي هو الوصول إلى الصف الذي يلي الامام في حق من كان كذلك، وكان مالك يقول: لا يكره التخطي إلا إذا كان الامام على المنبر ولا دليل على ذلك، وسيأتي بقية الكلام على التخطي في باب الرجل أحق بمجلسه. قوله: ثم يصلي ما كتب له في حديث أبي الدرداء: ثم يركع ما قضي له وفيه استحباب الصلاة قبل استماع الخطبة وسيأتي. قوله: ثم ينصت للامام إذا تكلم فيه أن من تكلم حال تكلم الامام لم يحصل له من الاجر ما في الحديث، وسيأتي الكلام على ذلك. قوله: غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الاخرى. في رواية: ما بينه وبين الجمعة الاخرى. وفي رواية: ذنوب ما بينه وبين الجمعة الاخرى والمراد بالاخرى التي مضت بينه الليث عن ابن عجلان في روايته عند ابن خزيمة ولفظه: غفر له ما بينه وبين الجمعة التي قبلها. ولابن حبان: غفر له ما بينه وبين الجمعة الاخرى وزيادة ثلاثة أيام من التي بعدها. وزاد ابن ماجة عن أبي هريرة: ما لم يغش الكبائر ونحو ذلك لمسلم. وظاهر الحديث أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما ذكر في الحديث من الغسل والتنظيف والتطيب أو الدهن، وترك التفرقة والتخطي والاذية والتنفل والانصات، وكذلك لبس أحسن الثياب كما وقع في بعض الروايات، والمشي بالسكينة كما وقع في أخرى، وترك الكبائر كما في رواية أيضا. قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق حديث الباب: وفيه دليل على جواز الكلام قبل تكلم الامام انتهى. وعن أبي أيوب رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الاخرى رواه أحمد. الحديث أخرجه أيضا الطبراني من رواية عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أيوب وأشار إليه الترمذي، وقال في مجمع الزوائد: رجاله ثقات. (وفي الباب) أحاديث قد تقدم بعضها في أبواب الغسل. منها عن أبي بكر عند الطبراني بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من اغتسل يوم الجمعة كفرت عنه ذنوبه وخطاياه، فإذا أخذ في المسير كتب له بكل خطوة عشرون حسنة، فإذا انصرف من الصلاة أجيز بعمل مائتي
[ 291 ]
سنة. وفي إسناده الضحاك بن حمزة، وقد ضعفه ابن معين والنسائي والجمهور، وذكره ابن حبان في الثقات. وللحديث طريق أخرى عند الطبراني أيضا. وعن أبي ذر عند ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله، وتطهر فأحسن طهوره، ولبس من أحسن ثيابه، ومس ما كتب الله تعالى له من طيب أهله، ثم أتى الجمعة ولم يلغ ولم يفرق بين اثنين غفر له ما بينه وبين الجمعة الاخرى. وعن ابن عمر عند الطبراني في الاوسط: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من اغتسل يوم الجمعة، ثم مس من أطيب طيبه، ولبس من أحسن ثيابه، ثم راح ولم يفرق بين اثنين حتى يقوم من مقامه، ثم أنصت حتى يفرغ الامام من خطبته، غفر له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام. وعن ابن عباس عند البزار والطبراني في الاوسط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من غسل واغتسل يوم الجمعة ثم دنا حيث يسمع خطبة الامام فإذا خرج استمع وأنصت حتى يصليها معه، كتب له بكل خطوة يخطوها عبادة سنة قيامها وصيامها وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها، ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة له لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا وللحديث طريق أخرى عند أحمد في مسنده. وعن نبيشة عند أحمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحدا، فإن لم يجد الامام خرج صلى ما بدا له وإن وجد الامام قد خرج جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الامام جمعته وكلامه إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن يكون له كفارة للجمعة التي تليها وعن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اغتسلوا يوم الجمعة فإنه من اغتسل يوم الجمعة فله كفارة ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام قال العراقي: وإسناده حسن. ولابي أمامة حديث آخر رواه الطبراني أيضا. وعن أبي طلحة عند الطبراني أيضا في الكبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من غسل واغتسل وغدا وابتكر ودنا من الامام وأنصت ولم يلغ في يوم جمعته كتب الله تعالى له بكل خطوة خطاها إلى المسجد صيام سنة وقيامها وعن أبي قتادة عند الطبراني في الاوسط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من اغتسل يوم الجمعة كان
[ 292 ]
في طهارة إلى الجمعة الاخرى. وعن أبي هريرة عند أبي يعلى الموصلي قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث لا أدعهن أبدا: الوتر قبل النوم، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر، والغسل يوم الجمعة قال العراقي: ورجاله ثقات إلا أنه من رواية الحسن عن أبي هريرة ولم يسمع منه. وفي الباب أحاديث أخر، وشرح حديث الباب قد تقدم في الذي قبله. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الامام حضرت الملائكة يستمعون الذكر رواه الجماعة إلا ابن ماجة. قوله: من اغتسل يعم كل من يصح منه الغسل من ذكر وأنثى وحر وعبد. قوله: غسل الجنابة بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي غسلا كغسل الجنابة. وفي رواية لعبد الرزاق: فاغتسل أحدكما كما يغتسل من الجنابة قال في الفتح: وظاهره أن التشبيه للكيفية للحكم وهو قول الاكثر، وقيل فيه إشارة إلى الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه من الجنابة. والحكمة فيه أن يسكن النفس في الرواح إلى الصلاة، ولا تمتد عينه إلى شئ يراه. وفيه حمل المرأة أيضا على الاغتسال كما تقدم في حديث أوس ابن أوس في أبواب الغسل. قال النووي: ذهب بعض أصحابنا إلى هذا وهو ضعيف أو باطل. قال الحافظ: قد حكاه ابن قدامة عن الامام أحمد. وقد ثبت أيضا عن جماعة من التابعين. وقال القرطبي: إنه أنسب الاقوال، فلا وجه لادعاء بطلانه وإن كان الاول أرجح، ولعله عنى أنه باطل في المذهب. قوله: ثم راح زاد أصحاب الموطأ عن مالك: في الساعة الاولى. قوله: فكأنما قرب بدنة أي تصدق بها متقربا إلى الله تعالى. وقيل: ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة، وأن نسبة الثاني من الاول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلا، ويدل عليه أن في مرسل طاوس عند عبد الرزاق كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة وهذا هو الظاهر، وقد قيل غير ذلك. قوله: ومن راح في الساعة الثانية قد اختلف في الساعة المذكورة في الحديث ما المراد
[ 293 ]
بها، فقيل: إنها ما يتبادر إلى الذهن من العرف فيها، قال في الفتح: وفيه نظر، إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الامر في اليوم الشاتي والصائف، لان النهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات، وفي الطول إلى أربع عشرة ساعة، وهذا الاشكال للقفال، وأجاب عنه القاضي حسين من أصحاب الشافعي بأن المراد بالساعات ما لا يختلف عدده بالطول والقصر، فالنهار ثنتا عشرة ساعة لكن يزيد كل منها وينقص، والليل كذلك، وهذه تسمى الساعات الآفاقية عند أهل الميقات، وتلك التعديلية. وقد روى أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعا: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة قال الحافظ: وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات. وقيل: المراد بالساعات بيان مراتب التبكير من أول النهار إلى الزوال، وأنها تنقسم إلى خمس، وتجاسر الغزالي فقسمها برأيه فقال: الاولى من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والثانية إلى ارتفاعها، والثالثة إلى انبساطها، والرابعة إلى أن ترمض الاقدام، والخامسة إلى الزوال. واعترضه ابن دقيق العيد بأن الرد إلى الساعات المعروفة أولى، وإلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى، لان المراتب متفاوتة جدا. وقيل: المراد بالساعات خمس لحظات لطيفة، أو لها زوال الشمس، وآخرها قعود الخطيب على المنبر، روي ذلك عن المالكية. واستدلوا على ذلك بأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود، وقالوا: الرواح لا يكون إلا من بعد الزوال، وقد أنكر الازهري على من زعم أن الرواح لا يكون إلا من بعد الزوال، ونقل أن العرب تقول: راح في جميع الاوقات بمعنى ذهب، قال: وهي لغة أهل الحجاز، ونقل أبو عبيد في الغريبين نحوه. وفيه رد على الزين بن المنير حيث أطلق أن الرواح لا يستعمل في المضي في أول النهار بوجه، وحيث قال: إن استعمال الرواح بمعنى الغدو لم يسمع ولا ثبت ما يدل عليه، وقد روي الحديث بلفظ غدا مكان راح. وبلفظ المتعجل إلى الجمعة قال الحافظ: ومجموع الروايات يدل على أن المراد بالرواد الذهاب، وما ذكرته المالكية أقرب إلى الصواب، لان الساعة في لسان الشارع وأهل اللغة الجزء من أجزاء الزمان كما في كتب اللغة، ويؤيد ذلك أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه ذهب إلى الجمعة قبل طلوع الشمس أو عند انبساطها، ولو كانت الساعة هي المعروفة عند أهل الفلك لما ترك الصحابة الذين هم خير القرون، وأسرع الناس إلى موجبات الاجور الذهاب إلى الجمعة في الساعة الاولى من أول النهار أو الثانية أو الثالثة، فالواجب حمل كلام الشارع على لسان قومه إلا أن يثبت
[ 294 ]
له اصطلاح يخالفهم، ولا يجوز حمله على المتعارف في لسان المتشرعة الحادث بعد عصره إلا أنه يعكر على هذا حديث جابر المصرح بأن يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة، فإنه تصريح منه باعتبار الساعات الفلكية، ويمكن التفصي عنه بأن مجرد جريان ذلك على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم لا يستلزم أن يكون اصطلاحا له تجري عليه خطاباته. ومما يشكل على اعتبار الساعات الفلكية وحمل كلام الشارع عليها استلزامه صحة صلاة الجمعة قبل الزوال، ووجه ذلك أن تقسيم الساعات إلى خمس ثم تعقيبها بخروج الامام وخروجه عند أول وقت الجمعة يقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة وهي قبل الزوال، وقد أجاب صاحب الفتح عن هذا الاشكال فقال: إنه ليس في شئ من طرق الحديث ذكر الاتيان من أول النهار، فلعل الساعة الاولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره ويكون مبدأ المجئ من أول الثانية، فهي أولى بالنسبة إلى المجئ ثانية بالنسبة إلى النهار، قال: وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال فيرتفع الاشكال، وإلى هذا أشار الصيدلاني فقال: إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار وهو أول الضحى وهو أول الهاجرة، قال: ويؤيده الحث على التهجير إلى الجمعة، ولغيره من الشافعية في ذلك وجهان: أحدهما أن أول التبكير طلوع الشمس، والثاني طلوع الفجر، قال: ويحتمل أن يكون ذكر الساعة السادسة ثابتا، كما وقع في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي من طريق الليث عنه بزيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة وهي العصفور، وتابعه صفوان بن عيسى عن ابن عجلان، أخرجه محمد ابن عبد السلام، وله شاهد من حديث أبي سعيد أخرجه حميد بن زنجويه في الترغيب له بلفظ: فكمهدي البدنة إلى البقرة إلى الشاة إلى الطير إلى العصفور الحديث ونحوه في مرسل طاوس عند سعيد بن منصور، وقع أيضا في حديث الزهري من رواية عبد الاعلى عن معمر عند النسائي زيادة البطة بين الكبش والدجاجة، لكن خالفه عبد الرزاق وهو أثبت منه في معمر، وعلى هذا فخروج الامام يكون عند انتهاء السادسة. قوله: دجاجة بالفتح ويجوز الكسر وحكى بعضهم جواز الضم. (والحديث) يدل على مشروعية الاغتسال يوم الجمعة، وقد تقدم الكلام عليه وعلى فضيلة التبكير إليها. قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه دليل على أن أفضل الهدي الابل ثم البقر ثم الغنم، وقد تمسك به من أجاز الجمعة في الساعة السادسة، ومن قال: إنه إذا نذر هديا مطلقا أجزأه إهداء أي مال كان انتهى.
[ 295 ]
وعن سمرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: احضروا الذكر وادنوا من الامام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها رواه أحمد وأبو داود. الحديث قال المنذري: في إسناده انقطاع، وهو يدل على مشروعية حضور الخطبة والدنو من الامام لما تقدم في الاحاديث من الحض على ذلك والترغيب إليه، وفيه أن التأخر عن الامام يوم الجمعة من أسباب التأخر عن دخول الجنة، جعلنا الله تعالى من المتقدمين في دخولها. [ رم ] باب فضل يوم الجمعة وذكر ساعة الاجابة وفضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة رواه مسلم والترمذي وصححه. وعن أبي لبابة البدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: سيد الايام يوم الجمعة، وأعظمها عند الله تعالى، وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الاضحى، وفيه خمس خلال: خلق الله عزوجل فيه آدم عليه السلام، وأهبط الله تعالى فيه آدم إلى الارض، وفيه توفى الله تعالى آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا إلا آتاه الله تعالى إياه ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولاجبال ولا بحر إلا هن يشفقن من يوم الجمعة رواه أحمد وابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله عزوجل خيرا إلا أعطاه الله تعالى إياه وقال بيده قلنا يقللها يزهدها رواه الجماعة إلا أن الترمذي وأبا داود لم يذكرا القيام ولا يقللها. الحديث الاول أخرجه أيضا النسائي وأبو داود. والحديث الثاني قال العراقي: إسناده
[ 296 ]
حسن. والحديث الثالث زاد فيه الترمذي وأبو داود: أن أبا هريرة قال: لقيت عبد الله بن سلام فحدثته هذا الحديث فقال: أنا أعلم تلك الساعة، فقلت: أخبرني بها، فقال عبد الله: هي آخر ساعة من يوم الجمعة كذا عند أبي داود، وعند الترمذي: هي بعد العصر إلى أن تغرب الشمس. قوله: خير يوم طلعت فيه الشمس فيه أن أفضل الايام يوم الجمعة، وبه جزم ابن العربي، ويشكل على ذلك ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن قرط: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أفضل الايام عند الله تعالى يوم النحر. وسيأتي في آخر أبواب الضحايا، ويأتي الجمع بينه وبين ما أخرج أيضا ابن حبان في صحيحه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من يوم أفضل عند الله تعالى من يوم عرفة هنالك إن شاء الله تعالى. وقد جمع العراقي فقال: المراد بتفضيل الجمعة بالنسبة إلى أيام الجمعة، وتفضيل يوم عرفة أو يوم النحر بالنسبة إلى أيام السنة، وصرح بأن حديث أفضلية يوم الجمعة أصح. قال صاحب المفهم: صيغة خير وشر يستعملان للمفاضلة ولغيرها، فإذا كانت للمفاضلة فأصلها أخير وأشرر على وزن أفعل، وأما إذا لم يكونا للمفاضلة فهما من جملة الاسماء كما قال تعالى: * (إن ترك خيرا) * (النساء: 19) وقال: * (ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) * (الجمعة: 9) قال: وهي في حديث الباب للمفاضلة، ومعناها في هذا الحديث أن يوم الجمعة أفضل من كل يوم طلعت شمسه. وظاهر قوله: طلعت عليه الشمس أن يوم الجمعة لا يكون أفضل أيام الجنة، ويمكن أن لا يعتبر هذا القيد، ويكون يوم الجمعة أفضل أيام الجنة، كما أنه أفضل أيام الدنيا، لما ورد من أن أهل الجنة يزورون ربهم فيه، ويجاب بأنا لا نعلم أنه يسمى في الجنة يوم الجمعة، والذي ورد أنهم يزورون ربهم بعد مضي جمعة كما في حديث أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجة قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الحديث. قوله: فيه خلق آدم فيه دليل على أم آدم لم يخلق في الجنة بل خلق خارجها ثم أدخل إليها. قوله: وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها الخ، قد اختلفت الاحاديث في تعيين هذه الساعة بحسب ذلك أقوال الصحابة والتابعين والائمة بعدهم، قال الحافظ في الفتح: قد اختلف أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في هذه الساعة هل هي باقية أو قد رفعت؟ وعلى البقاء هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ وعلى الاول هل هي وقت من اليوم معين أو مبهم؟ وعلى التعيين هل تستوعب
[ 297 ]
الوقت أو تبهم فيه؟ وعلى الابهام ما ابتداؤه وما انتهاؤه؟ وعلى كل ذلك هل تستمر أو تنتقل؟ وعلى الانتقال هل تستغرق اليوم أو بعضه؟ وذكر رحمه الله تعالى من الاقوال فيها ما لم يذكره غيره، وها أنا أشير إلى بسطه مختصرا. القول الاول: أنها قد رفعت، حكاه ابن المنذر عن قومه وزيفه، وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة أنه كذب من قال بذلك. وقال صاحب الهدى: أن قائله إن أراد أنها صارت مبهمة بعد أن كانت معلومة احتمل، وإن أراد حقيقة الرفع فهو مردود. الثاني: أنها موجودة في جمعة واحدة من السنة، روي عن كعب بن مالك. الثالث: أنها مخفية في جميع اليوم كما أخفيت ليلة القدر، وقد روى الحاكم وابن خزيمة عن أبي سعيد أنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها فقال: قد علمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر. وقد مال إلى هذا جمع من العلماء منهم الرافعي وصاحب المغني. الرابع: أنها تنتقل في يوم الجمعة ولا تلزم ساعة معينة، وجزم به ابن عساكر ورجحها الغزالي والمحب الطبري. الخامس: إذا أذن المؤذنون لصلاة الغداة روي ذلك عن عائشة. السادس: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، روى ذلك ابن عساكر عن أبي هريرة. السابع: مثله وزاد: ومن العصر إلى المغرب، رواه سعيد بن منصور عن أبي هريرة وفي إسناده ليث بن أبي سليم. الثامن: مثله وزاد: وما بين أن ينزل الامام من المنبر إلى أن يكبر، رواه حميد بن زنجويه عن أبي هريرة. التاسع: أنها أول ساعة بعد طلوع الشمس، حكاه الجيلي في شرح التنبيه وتبعه المحب الطبري في شرحه. العاشر: عند طلوع الشمس، حكاه الغزالي في الاحياء، وعزاه ابن المنير إلى أبي ذر. الحادي عشر: أنها آخر الساعة الثالثة من النهار، حكاه صاحب المغني وهو في مسند أحمد عن أبي هريرة موقوفا بلفظ: وفي آخر ثلاث ساعات منه ساعة من دعا الله تعالى بها استجيب له وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف. الثاني عشر: من الزوال إلى أن يصير الظل نصف ذراع، حكاه المحب الطبري والمنذري. الثالث عشر: مثله لكن زاد: إلى أن يصير الظل نصف ذراع، حكاه عياض والقرطبي والنووي. الرابع عشر: بعد زوال الشمس يشير إلى ذراع، رواه ابن المنذر وابن عبد البر عن أبي ذر. الخامس عشر: إذا زالت الشمس حكاه ابن المنذر عن أبي العالية، وروي نحوه عن علي وعبد الله بن نوفل، وروى ابن عساكر عن قتادة أنه قال: كانوا يرون الساعة المستجاب فيها الدعاء إذا زالت الشمس. السادس عشر: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة،
[ 298 ]
رواه ابن المنذر عن عائشة. السابع عشر: من الزوال إلى أن يدخل الرجل في الصلاة، ذكره ابن المنذر عن أبي السوار العدوي. الثامن عشر: من الزوال إلى خروج الامام، حكاه أبو الطيب الطبري. التاسع عشر: من الزوال إلى غروب الشمس، حكاه أبو العباس أحمد بن علي الازماري بسكون الزاي وقبل ياء النسبة راء مهملة، ونقله ابن الملقن. العشرون: ما بين خروج الامام إلى أن تقام الصلاة، رواه ابن المنذر عن الحسن، ورواه المروزي عن الشعبي. الحادي والعشرون: عند خروج الامام، رواه حميد بن زنجويه عن الحسن. الثاني والعشرون: ما بين خروج الامام إلى أن تنقضي الصلاة، رواه ابن جرير عن الشعبي، وروي عن أبي موسى وابن عمر. الثالث والعشرون: ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، رواه سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي. الرابع والعشرون: ما بين الاذان إلى انقضاء الصلاة، رواه حميد بن زنجويه عن ابن عباس. الخامس والعشرون: ما بين أن يجلس الامام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، رواه مسلم وأبو داود عن أبي موسى وسيأتي، وهذا يمكن أن يتحد مع الذي قبله. السادس والعشرون: عند التأذين وعند تذكير الامام وعند الاقامة، رواه حميد بن زنجويه عن عوف بن مالك الاشجعي الصحابي. السابع والعشرون: مثله لكن قال: إذا أذن، وإذا رقي المنبر، وإذا أقيمت الصلاة، رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي أمامة الصحابي. الثامن والعشرون: من حيث يفتتح الامام الخطبة حتى يفرغها، رواه ابن عبد البر عن ابن عمر مرفوعا بإسناد ضعيف. التاسع والعشرون: إذا بلغ الخطيب المنبر وأخذ في الخطبة، حكاه الغزالي. الثلاثون: عند الجلوس بين الخطبتين، حكاه الطيبي عن بعض شراح المصابيح. الحادي والثلاثون: عند نزول الامام من المنبر، رواه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح عن أبي بردة. الثاني والثلاثون: حين تقام الصلاة حتى يقوم الامام في مقامه، حكاه ابن المنذر عن الحسن. وروى الطبراني من حديث ميمونة بنت سعد نحوه بإسناد ضعيف. الثالث والثلاثون: من إقامة الصلاة إلى تمام الصلاة، أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث عمرو ابن عوف وفيه: قالوا: أية ساعة يا رسول الله؟ قال: حين تقام الصلاة إلى الانصراف وسيأتي، وإليه ذهب ابن سيرين، رواه عنه ابن جرير وسعد بن منصور. الرابع والثلاثون: هي الساعة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فيها الجمعة، رواه ابن عساكر عن ابن سيرين، قال الحافظ: وهذا يغاير الذي قبله من جهة
[ 299 ]
إطلاق ذلك وتقييد هذا. الخامس والثلاثون: من صلاة العصر إلى غروب الشمس، ويدل على ذلك حديث ابن عباس عند ابن جرير، وحديث أبي سعيد عنده بلفظ: فالتمسوها بعد العصر وذكر ابن عبد البر أن قوله: فالتمسوها إلى آخره مدرج، ورواه الترمذي عن أنس مرفوعا بلفظ: بعد العصر إلى غيبوبة الشمس وإسناده ضعيف. السادس والثلاثون: في صلاة العصر، رواه عبد الرزاق عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. السابع والثلاثون: بعد العصر إلى آخر وقت الاختيار، حكاه الغزالي في الاحياء. الثامن والثلاثون: بعد العصر مطلقا، رواه أحمد وابن عساكر عن أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعا بلفظ: وهي بعد العصر ورواه ابن المنذر عن مجاهد مثله قال: وسمعته عن الحكم عن ابن عباس، ورواه أبو بكر المروزي عن أبي هريرة، ورواه عبد الرزاق عن طاوس. التاسع والثلاثون: من وسط النهار إلى قرب آخر النهار، روي ذلك عن أبي سلمة بن علقمة. الاربعون: من حين تصفر الشمس إلى أن تغيب، رواه عبد الرزاق عن طاوس. الحادي والاربعون: آخر ساعة بعد العصر، ويدل على ذلك حديث جابر الآتى، ورواه مالك وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان عن عبد الله بن سلام من قوله: وروى ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا مثله. الثاني والاربعون: من حين يغرب قرص الشمس أو من حين يدلي قرص الشمس للغروب إلى أن يتكامل غروبها، رواه الطبراني والدارقطني والبيهقي من طريق زيد بن علي عن مرجانة مولاة فاطمة رضي الله عنها قالت: حدثتني فاطمة عن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: أية ساعة هي؟ قال: إذا تدلى نصف الشمس للغروب، وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا كان يوم الجمعة أرسلت غلاما لها يقال له زيد ينظر لها الشمس، فإذا أخبرها أنها تدلت للغروب أقبلت على الدعاء إلى أن تغيب، قال الحافظ: وفي إسناده اختلاف على زيد بن علي، وفي بعض رواته من لا يعرف حاله. وأخرجه أيضا إسحاق بن راهويه ولم يذكر مرجانة. الثالث والاربعون: أنها وقت قراءة الامام الفاتحة في الجمعة إلى أن يقول آمين، قال الجزري في كتابه المسمى الحصن الحصين في الادعية ورجحه، وفيه أنه يفوت على الداعي الانصات لقراءة الامام كما قال الحافظ قال: وهذه الاقوال ليست كلها متغاير من كل وجه، بل كثير منها يمكن أن يتحد مع غيره. قال المحب الطبري: أصح الاحاديث في تعيين الساعة حديث أبي موسى وسيأتي، وقد صرح مسلم بمثل ذلك. وقال بذلك البيهقي وابن العربي وجماعة والقرطبي
[ 300 ]
والنووي، وذهب آخرون إلى ترجيح حديث عبد الله بن سلام، حكى ذلك الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الاحاديث على ذلك. وقال ابن عبد البر: أنه أثبت شئ في هذا الباب، ويؤيده ما سيأتي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن من أن ناسا من الصحابة أجمعوا على ذلك، ورجحه أحمد وإسحاق وجماعة من المتأخرين. (والحاصل) أن حديث أبي هريرة المتقدم ظاهره يخالف الاحاديث الواردة في كونها بعد العصر، لان الصلاة بعد العصر منهي عنها وقد ذكر فيه: لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي وقد أجاب عنه عبد الله بن سلام بأن منتظر الصلاة في صلاة، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي، ولكنه يشكل على ذلك قوله قائم، وقد أجاب عنه القاضي عياض بأنه ليس المراد القيام الحقيقي، وإنما المراد به الاهتمام بالامر كقولهم: فلان قام في الامر الفلاني، ومنه قوله تعالى: * (إلا ما دمت عليه قائما) * (آل عمران: 5) وليس بين حديث أبي هريرة وحديث أبي موسى الآتي تعارض ولا اختلاف، وإنما الاختلاف بين حديث أبي موسى وبين الاحاديث الواردة في كونها بعد العصر، أو آخر ساعة من اليوم وسيأتي. فأما الجمع فإنما يمكن بأن يصار إلى القول بأنها تنتقل، فيحمل حديث أبي موسى على أنه أخبر فيه عن جمعة خاصة، وتحمل الاحاديث الاخر على جمعة أخرى، فإن قيل بتنقلها فذاك، وإن قيل بأنها في وقت واحد لا تنتقل، فيصار حينئذ إلى الترجيح، ولا شك أن الاحاديث الواردة في كونها بعد العصر أرجح لكثرتها واتصالها بالسماع، وأنه لم يختلف في رفعها، والاعتضاد بكونه قول أكثر الصحابة ففيها أربعة مرجحات. وفي حديث أبي موسى مرجح واحد وهو كونه في أحد الصحيحين دون بقية الاحاديث، ولكن عارض كونه في أحد الصحيحين أمران وسيأتي ذكرهما في شرحه. وسلك صاحب الهدى مسلكا آخر، واختار أن ساعة الاجابة منحصرة في أحد الوقتين المذكورين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر، لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم دل على أحدها في وقت وعلى الآخر في وقت آخر، وهذا كقول ابن عبد البر: أنه ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبق إلى تجويز ذلك الامام أحمد. قال ابن المنير: إذا علم أن فائدة الابهام لهذه الساعة والليلة القدر بعث الدواعي على الاكثار من الصلاة والدعاء، ولو وقع البيان لها لا تكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يتكل في طلب تحديدها، وقال
[ 301 ]
في موضع آخر: يحسن جمع الاقوال، فتكون ساعة الاجابة واحدة منها لا بعينها، فيصادفها من اجتهد في الدعاء في جميعها. وعن أبي موسى رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في ساعة الجمعة: هي ما بين أن يجلس الامام يعني على المنبر إلى أن يقضي الصلاة رواه مسلم وأبو داود وعن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال: إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله تعالى العبد فيها شيئا إلا أتاه إياه قالوا: يا رسول الله أية ساعة هي؟ قال: حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها رواه ابن ماجة والترمذي. الحديث الاول مع كونه في صحيح مسلم قد أعل بالانقطاع والاضطراب، أما الانقطاع فلان مخرمة بن بكير رواه عن أبيه بكير بن عبد الله بن الاشج وهو لم يسمع من أبيه، قاله أحمد عن حماد بن خالد عن مخرمة نفسه. وقال سعيد بن أبي مريم: سمعت خالي موسى بن سلمة قال: أتيت مخرمة بن بكير فسألته أن يحدثني عن أبيه فقال: ما سمعت من أبي شيئا إنما هذه كتب وجدناها عندنا عنه، ما أدركت أبي إلا وأنا غلام. وفي لفظ: لم أسمع من أبي وهذه كتبه. وقال علي بن المديني: سمعت معنا يقول: مخرمة سمع من أبيه قال: ولم أجد أحدا بالمدينة يخبر عن مخرمة أنه كان يقول في شئ: سمعت أبي قال: علي ومخرمة ثقة. وقال ابن معين: يخبر عن مخرمة مخرمة ضعيف الحديث ليس حديثه بشئ. قال في الفتح: ولا يقال مسلم يكتفي في المعنعن بإمكان اللقاء مع المعاصرة وهو كذلك هنا، لانا نقول: وجود التصريح من مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كاف في دعوى الانقطاع انتهى. وأما الاضطراب فقال العراقي: إن أكثر الرواة جعلوه من قول أبي بردة مقطوعا، وأنه لم يرفعه غير مخرمة عن أبيه، وهذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم فقال: لم يسنده غير مخرمة عن أبيه عن أبي بردة، قال: ورواه حماد عن أبي بردة من قوله. ومنهم من بلغ به أبا موسى ولم يرفعه، قال: والصواب أنه من قول أبي بردة، وتابعه واصل الاحدب ومجالد روياه عن أبي بردة من قوله. وقال النعمان بن عبد السلام، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه موقوف، ولا يثبت قوله عن أبيه، انتهى كلام الدارقطني. وأجاب النووي في شرح مسلم عن ذلك بقوله: وهذا الذى استدركه بناء على القاعدة المعروفة له ولاكثر المحدثين أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع، أو إرسال واتصال حكموا بالوقف،
[ 302 ]
والارسال وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة، قال: والصحيح طريقة الاصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال لانها زيادة ثقة انتهى. والحديث الثاني المذكور في الباب حسنه الترمذي، وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، وقد اتفق أئمة الجرح والتعديل على ضعفه، والترمذي في شرط في حد الحسن أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، وكثير هنا قال فيه الشافعي وأبو داود: إنه ركن من أركان الكذب، وقد حسن له الترمذي مع هذا عدة أحاديث وصحح له حديث: الصلح جائز بين المسلمين قال الذهبي في الميزان: فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي. قال العراقي: لا يقبل هذا الطعن منه في حق الترمذي، وإنما جهل الترمذي من لا يعرفه كابن حزم، وإلا فهو إمام معتمد عليه، ولا يمتنع أن يخالف اجتهاده اجتهاد غيره في بعض الرجال، وكأنه رأى ما رأه البخاري، فإنه روي عنه أنه قال في حديث كثير عن أبيه عن جده في تكبير العيدين أنه حديث حسن، ولعله إنما حكم عليه بالحسن باعتبار الشواهد، فإنه بمعنى حديث أبي موسى المذكور في الباب، فارتفع بوجود حديث شاهد له إلى درجة الحسن. وقد رواه البيهقي، ورواه أيضا ابن أبي شيبة من طريق مغيرة عن واصل الاحدب عن أبي بردة من قوله: وإسناده قوي. (والحديثان) يدلان على أن ساعة الاجابة هي وقت صلاة الجمعة من عند صعود الامام المنبر، أو من عند الاقامة إلى الانصراف منها، وقد تقدم أن الاحاديث المصرحة بأنها بعد العصر أرجح وسيأتي ذكرها. وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس: إنا لنجد في كتاب الله تعالى في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله عزوجل فيها شيئا إلا قضى له حاجته، قال عبد الله: فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض ساعة، فقلت: صدقت أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال: آخر ساعة من ساعات النهار، فقلت: إنها ليست ساعة صلاة، قال: بلى إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة رواه ابن ماجة. وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله عزوجل فيها خيرا إلا أعطاه إياه وهي بعد العصر رواه أحمد. وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة، منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله تعالى شيئا
[ 303 ]
إلا آتاه إياه والتمسوها آخر ساعة بعد العصر رواه النسائي وأبو داود. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجتمعوا فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة رواه سعيد في سننه. وقال أحمد بن حنبل: أكثر الاحاديث في الساعة التي يرجى فيها إجابة الدعاء أنها بعد صلاة العصر، ويرجى بعد زوال الشمس. الحديث الاول رفعه ابن ماجة كما ذكر المصنف، وهو من طريق أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال: قلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس الحديث. ورواه مالك وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان من طريق محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن عبد الله بن سلام من قوله. والحديث الثاني رواه أيضا البزار عنهما بإسناد، قال العراقي: صحيح، وقال في مجمع الزوائد: ورجالهما رجال الصحيح. والحديث الثالث أخرجه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم، وحسن الحافظ في الفتح إسناده. والاثر الذي روا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جماعة من الصحابة. قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح. (وفي الباب) عن أنس عند الترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس وفي إسناده محمد بن أبي حميد وهو ضعيف، وقد تابعه ابن لهيعة كما رواه الطبراني في الاوسط. وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد تقدم أول الباب. وعن أبي ذر عند ابن عبد البر في التمهيد وابن المنذر، وعن سلمان أشار إليه الترمذي. (والاحاديث) المذكورة في الباب تدل على أن الساعة التي تقدم الخلاف في تعيينها هي آخر ساعة من يوم الجمعة، وقد تقدم بسط الخلاف في ذلك وبيان الجمع بين بعض الاحاديث، والترجيح بين بعض آخر. والقول بأنها آخر ساعة من اليوم هو أرجح الاقوال، وإليه ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والائمة، ولا يعارض ذلك الاحاديث الواردة بأنها بعد العصر بدون تعيين آخر ساعة، لانها تحمل على الاحاديث المقيدة بأنها آخر ساعة، وحمل المطلق على المقيد متعين كما تقرر في الاصول. وأما الاحاديث المصرحة بأنها وقت الصلاة فقد عرفت أنها مرجوحة، ويبقى الكلام في حديث أبي سعيد الذي أخرجه أحمد وابن خزيمة والحاكم بلفظ: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها فقال: قد علمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر. قال العراقي: ورجاله
[ 304 ]
رجال الصحيح، ويجاب عنه بأن نسيانه صلى الله عليه وآله وسلم لها لا يقدح في الاحاديث الصحيحة الواردة بتعيينها، لاحتماله أنه سمع منه صلى الله عليه وآله وسلم التعيين قبل النسيان كما قال البيهقي، وقد بلغنا صلى الله عليه وآله وسلم تعيين وقتها، فلا يكون إنساؤه ناسخا للتعيين المتقدم. وعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت يعني وقد بليت؟ فقال: إن الله عزوجل حرم على الارض أن تأكل أجساد الانبياء رواه الخمسة إلا الترمذي. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدا لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها رواه ابن ماجة. وعن خالد بن معدان رضي الله عنه عن رسوالله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أكثروا الصلاة علي في كل يوم جمعة، فإن صلاأمتي تعرض علي في كل يوم جمعة رواه سعيد في سننه. وعن صفوان بن سليم رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كان يوم الجمعة وليلة الجمعة فأكثروا الصلاة علي رواه الشافعي في مسنده، هذا والذي قبله مرسلان. الحديث الاول أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وذكره ابن أبي حاتم في العلل وحكى عن أبيه أنه حديث منكر، لان في إسناده عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وهو منكر الحديث. وذكر البخاري في تاريخه أنه عبد الرحمن بن يزيد بن تميم. وقال ابن العربي: إن الحديث لم يثبت. والحديث الثاني قال العراقي في شرح الترمذي: رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا، لان في إسناده زيد بن أيمن، عن عبادة بن نسي، عن أبي الدرداء، قال البخاري: زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي مرسل. والحديث الثالث والرابع مرسلان كما قال المصنف، لان خالد ابن معدان وصفوان بن سليم لم يدركا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (وفي الباب) عن شداد بن أوس عند ابن ماجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة بنحو حديث أوس بن أوس، هكذا وقع عند ابن
[ 305 ]
ماجة في الصلاة، ووقع عنده في الجنائز أوس بن أوس وهو الصواب. وعن أبي مسعود الانصاري عند البيهقي في كتابحياة الانبياء في قبورهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أكثروا علي من الصلاة في يوم الجمعة، فإنه ليس يصلي علي أحد يوم الجمعة إلا عرضت علي صلاته قال البيهقي: قال أبو عبد الله يعني الحاكم أبو رافع: هذا يعني المذكور في السند هو إسماعيل بن نافع. قال العراقي: وثقه البخاري وضعفه النسائي، ورواه البيهقي أيضا في شعب الايمان وابن أبي عاصم من هذا الوجه. وأخرج البيهقي في السنن أيضا حديثا آخر بلفظ: أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلى علي صلاة صلى الله تعالى عليه عشرا. قوله: وقد أرمت بهمزة مفتوحة وراء مكسورة وميم ساكنة بعدها تاء المخاطب المفتوحة والاحاديث فيها مشروعية الاكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة، وأنها تعرض عليه صلى الله عليه وآله وسلم وأنه حي في قبره. وقد أخرج ابن ماجة بإسناد جيد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لابي الدرداء: إن الله عزوجل حرم على الارض أن تأكل أجساد الانبياء. وفي رواية للطبراني: ليس من عبد يصلي علي إلا بلغني صلاته، قلنا: وبعد وفاتك؟ قال: وبعد وفاتي إن الله عزوجل حرم على الارض أن تأكل أجساد الانبياء وقد ذهب جماعة من المحققين إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حي بعد وفاته، وأنه يسر بطاعات أمته، وأن الانبياء لا يبلون، مع أن مطلق الادراك كالعلم والسماع ثابت لسائر الموتى. وقد صح عن ابن عباس مرفوعا: ما من أحد يمر على قبر أخيه المؤمن وفي رواية: بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا عرفه ورد عليه. ولابن أبي الدنيا: إذا مر الرجل بقبر يعرفه فيسلم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه رد عليه السلام. وصح أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى ويسلم عليهم. وورد النص في كتاب الله في حق الشهداء أنهم أحياء يرزقون، وأن الحياة فيهم متعلقة بالجسد فكيف بالانبياء والمرسلين؟ وقد ثبت في الحديث: أن الانبياء أحياء في قبورهم رواه المنذري وصححه البيهقي. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مررت بموسى ليلة أسري بي عند الكثيب الاحمر وهو قائم يصلي في قبره.
[ 306 ]
باب الرجل أحق بمجلسه وآداب الجلوس والنهي عن التخطي إلا لحاجة عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقيم أحدكم يوم الجمعة ثم يخالفه إلى مقعده ولكن ليقل افسحوا رواه أحمد ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا متفق عليه. ولاحمد ومسلم: كان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به رواه أحمد ومسلم. وعن وهب بن حذيفة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الرجل أحق بمجلسه، وإن خرج لحاجته ثم عاد فهو أحق بمجلسه رواه أحمد والترمذي وصححه. قوله: لا يقيم بصيغة الخبر والمراد النهي. وفي لفظ لمسلم: لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه بصيغة النهي المؤكد. قوله: يوم الجمعة فيه التقييد بيوم الجمعة، وفي لفظ من طريق أبي الزبير عن جابر: لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه وقد بوب لذلك البخاري فقال: باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد في مكانه. وذكر يوم الجمعة في حديث جابر من باب التنصيص على بعض أفراد العام، لا من باب التقييد للاحاديث المطلقة، ولا من باب التخصيص للعمومات، فمن سبق إلى موضع مباح سواء كان مسجدا أو غيره، في يوم جمعة أو غيرها لصلاة أو لغيرها من الطاعات فهو أحق به، ويحرم على غيره إقامته منه والقعود فيه، إلا أنه استثنى من ذلك الموضع الذي قد سبق لغيره فيه حق، كأن يقعد رجل في موضع ثم يقوم منه لقضاء حاجة من الحاجات ثم يعود إليه فإنه أحق به ممن قعد فيه بعد قيامه، لحديث أبي هريرة وحديث وهب بن حذيفة المذكورين في الباب، وظاهرهما عدم الفرق بين المسجد وغيره، ويجوز له إقامة من قعد فيه. وقد ذهب إلى ذلك الشافعية والهادوية. ومثل ذلك الاماكن التي يقعد الناس فيها لتجارة أو نحوها، فإن المعتاد للقعود في مكان يكون أحق به من غيره،
[ 307 ]
إلا إذا طالت مفارقته له بحيث ينقطع معا ملوه، ذكره النووي في شرح مسلم. وقال في الغيث: يكون أحق به إلى العشى. وقال الغزالي: يكون أحق به ما ليضرب. وقال أصحاب الشافعي: إن ذلك على وجه الندب لا على وجه الوجوب، وإليه ذهب مالك. قال أصحاب الشافعي: ولا فرق في المسجد بين من قام وترك له سجادة فيه ونحوها وبين من لم يترك، قالوا: وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة وحدها دون غيرها. وظاهر الحديثين عدم الفرق، وظاهر حديث جابر وحديث ابن عمر أنه يجوز للرجل أن يقعد في مكان غيره إذا أقعده برضاه، ولعل امتناع ابن عمر عن الجلوس في مجلس من قام له برضاه كان تورعا منه، لانه ربما استحيا منه إنسان فقام له بدون طيبة من نفسه، ولكن الظاهر أن من فعل ذلك قد أسقط حق نفسه، وتجويز عدم طيبة نفسه بذلك خلاف الظاهر، ويكره الايثار بمحل الفضيلة كالقيام من الصف الاول إلى الثاني، لان الايثار وسلوك طرائق الآداب لا يليق أن يكون في العبادات والفضائل، بل المعهود أنه في حظوظ النفس وأمور الدنيا، فمن آثر بحظه في أمر من أمور الآخرة فهو من الزاهدين في الثواب. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحول إلى غيره رواه أحمد والترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا أبو داود عن هناد عن عبيدة بن سليمان وفي إسناده محمد ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. وقد أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه معنعنا، وأما ابن العربي فمال إلى ضعف الحديث لذلك. (وفي الباب) عن سمرة عند البزار والطبراني في الكبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول إلى مكان صاحبه ويتحول صاحبه إلى مكانه، وهو من رواية إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة، قال البزار: إسماعيل لا يتابع على حديثه انتهى. وفي سماع الحسن من سمرة خلاف قد تقدم ذكره، وللحديث طريق أخرى عند البزار وفيها خالد بن يوسف السمتي وهو ضعيف، وفيها أيضا أبو يوسف بن خالد وهو هالك، وبقية السند مجهولون كما قال ابن القطان، قال الذهبي في الميزان: وبكل حال هذا إسناد مظلم. قوله: إذا نعس أحدكم يوم الجمعة لم يرد بذلك جميع اليوم، بل المراد به إذا كان في المسجد ينتظر صلاة الجمعة كما في رواية أحمد في مسنده بلفظ: إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة. وسواء فيه حال الخطبة أو قبلها لكن حال الخطبة أكثر. قوله: يوم الجمعة يحتمل أنه خرج مخرج الاغلب لطول
[ 308 ]
مكث الناس في المسجد للتبكير إلى الجمعة ولسماع الخطبة، وإن المراد انتظار الصلاة في المسجد في الجمعة وغيرها، كما في رواية أبي هريرة لحديث الباب بلفظ: إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول عن مجلسه ذلك إلى غيره فيكون ذكر يوم الجمعة من التنصيص على بعض أفراد العام، ويحتمل أن المراد يوم الجمعة فقط للاعتناء بسماع الخطبة فيه. (والحكمة) في الامر بالتحول أن الحركة تذهب النعاس، ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان الذي أصابته فيه الغفلة بنومه، وإن كان النائم لا حرج عليه، فقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة نومهم عن صلاة الصبح في الوادي بالانتقال منه كما تقدم، وأيضا من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، فربما كان الامر بالتحول لاذهاب ما هو منسوب إلى الشيطان من حيث غفلة الجالس في المسجد عن الذكر، أو سماع الخطبة، أو ما فيه منفعة. وعن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحبوة يوم الجمعة والامام يخطب رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن. وعن يعلى بن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: شهدت مع معاوية فتح بيت المقدس فجمع بنا فإذا جل من في المسجد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأيتهم محتبين والامام يخطب رواه أبو داود. حديث معاذ بن أنس هو من رواية ابنه سهل بن معاذ، وقد ضعفه يحيى بن معين، وتكلم فيه غير واحد، وفي إسناده أيضا أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون مولى بني ليث ضعفه ابن معين، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به. (وفي الباب) عن عبد الله بن عمرو عند ابن ماجة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الاحتباء يوم الجمعة يعني والامام يخطب وفي إسناده بقية بن الوليد وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة عن شيخه عبد الله بن واقد، قال العراقي: لعله من شيوخه المجهولين، وعن جابر عند ابن عدي في الكامل: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والامام يخطب وفي إسناده عبد الله بن ميمون القداح وهو ذاهب الحديث كما قال البخاري. والاثر الذي رواه يعلى بن شداد عن الصحابة سكت عنه أبو داود والمنذري، وفي إسناده سليمان بن عبد الله بن الزبرقان وفيه لين، وقد وثقه ابن حبان، قال أبو داود: وكان ابن عمر يحتبي والامام يخطب، وأنس بن مالك وشريح وصعصعة
[ 309 ]
بن صوحان وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ومكحول وإسماعيل بن محمد بن سعد ونعيم بن سلامة قال: لا بأس بها، قال أبو داود: لم يبلغني أن أحدا كرهها إلا عبادة بن نسي. قوله: عن الحبوة هي أن يقيم الجالس ركبتيه ويقيم رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشد عليهما ويكون إليتاه على الارض، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب، يقال: احتبى يحتبي احتباء والاسم الحبوة بالضم والكسر معا، والجمع حب وحبى بالضم والكسر. قال الخطابي: وإنما نهى عن الاحتباء في ذلك الوقت لانه يجلب النوم ويعرض طهارته للانتقاض. وقد ورد النهي عن الاحتباء مطلقا غير مقيد بحال الخطبة ولا بيوم الجمعة، لانه مظنة لانكشاف عورة من كان عليه ثوب واحد. (وقد اختلف العلماء) في كراهية الاحتباء يوم الجمعة، فقال بالكراهة قوم من أهل العلم كما قال الترمذي منهم عبادة بن نسي المتقدم. قال العراقي: وورد عن مكحول وعطاء والحسن أنهم كانوا يكرهون أن يحتبوا والامام يخطب يوم الجمعة. رواه ابن أبي شيبة في المصنف قال: ولكنه قد اختلف عن الثلاثة فنقل عنهم القول بالكراهة، ونقل عنهم عدمها، واستدلوا بحديث الباب وما ذكرناه في معناه وهي تقوي بعضها بعضا. وذهب أكثر أهل العلم كما قال العراقي إلى عدم الكراهة، منهم من تقدذكره في رواية أبي داود. ورواه ابن أبي شيبة عن سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وعطاء وابن سيرين والحسن وعمرو بن دينار وأبي الزبير وعكرمة ابن خالد المخزومي. ورواه الترمذي عن ابن عمر وغيره قال: وبه يقول أحمد وإسحاق، وأجابوا عن أحاديث الباب أنها كلها ضعيفة، وإن كان الترمذي قد حسن حديث معاذ بن أنس وسكت عنه أبو داود فإن فيه من تقدم ذكره. وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس فقد آذيت رواه أبو داود والنسائي وأحمد وزاد: وآنيت. وعن أرقم بن أبي الارقم المخزومي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الامام كالجار قصبه في النار رواه أحمد. وعن عقبة بن الحرث رضي الله عنه قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة العصر ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم
[ 310 ]
قد عجبوا من سرعته فقال: ذكرت شيئا متبر كان عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته رواه البخاري والنسائي. حديث عبد الله بن بسر سكت عنه أبو داود والمنذري، وصححه ابن خزيمة وغيره، وهو من رواية أبي الزاهرية، وقد أخرج له مسلم. وحديث أرقم أخرجه أيضا الطبراني في الكبير وفي إسناده هشام بن زياد، ضعفه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وقد اضطرب فيه فرواه مرة عن عثمان بن الارقم عن أبيه، ومرة عن عمارة بن سعد عن عثمان بن الازرق كما سيأتي. (وفي الباب) عن معاذ بن أنس عند الترمذي وابن ماجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم وهو من رواية سهل بن معاذ عن أبيه، وقد تقدم الكلام على سهل في شرح الحديث الذي قبل هذه الاحاديث. وفيه أيضا رشدين بن سعد وفيه مقال. وعن جابر عند ابن ماجة: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فجعل يتخطى رقاب الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس فقد آذيت وآنيت. وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف، وقد رواه بأطول من هذا ابن أبي شيبة في المصنف. وعن عثمان بن الازرق عند الطبراني في الكبير بنحو حديث أرقم المذكور في الباب وفي إسناده هشام بن زياد وقد تقدم أنه ضعيف، وعن أبي الدرداء عند الطبراني في الاوسط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تخطي رقاب الناس يوم الجمعة قال الطبراني: تفرد به أرطأة انتهى. وفي إسناده أيضا عبد الله بن زريق قال الازدي: لم يصح حديثه. وعن أنس عند الطبراني في الصغير والاوسط: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: قد رأيتك تتخطى رقاب الناس وتؤذيهم، من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عزوجل. وفي إسناده موسى بن خلف العجلي، والقاسم بن مطيب العجلي، ضعفهما ابن حبان، واختلف قول ابن معين في موسى فقال مرة ضعيف، ومرة ليس به بأس. وفي الباب أحاديث غير هذه قد تقدم بعضها فباب التنظيف. قوله: يتخطى رقاب الناس قد فرق النووي بين التخطي والتفريق بين الاثنين، وجعل ابن قدامة في المغني التخطي هو التفريق. قال العراقي: والظاهر الاول لان التفريق يحصل بالجلوس بينهما وإن لم يتخط. قوله: وآنيت بهمزة ممدودة أي أبطأت وتأخرت. قوله: قصبه في النار بضم
[ 311 ]
القاف وسكون الصاد المهملة واحد الاقصاب وهي المعي كما في القاموس وغيره. قوله: ففزع الناس أي خافوا وكانت تلك عادتهم إذا رأوا منه ما لا يعهدون خشية أن ينزل فيهم شئ يسوءهم. قوله: من تبر بكسر التاء المثناة وسكون الموحدة الذهب الذي لم يصف ولم يضرب. قوله: فكرهت أن يحبسني أي يشغلني التفكر فيه عن التوجه والاقبال على الله تعالى، كذا قال الحافظ، وفهم منه ابن بطال معنى آخر فقال فيه إن المعنى أن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة. قوله: فأمرت بقسمته في رواية فقسمته. (وأحاديث) الباب تدل على كراهة التخطي يوم الجمعة، وظاهر التقييد بيوم الجمعة أن الكراهة مختصة به، ويحتمل أنه يكون التقييد خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بكثرة الناس بخلاف سائر الصلوات، فلا يختص ذلك بالجمعة، بل يكون حكم سائر الصلوات حكمها، ويؤيد ذلك التعليل بالاذية، وظاهر هذا التعليل أن ذلك يجري في مجالس العلم وغيرها، ويؤيده أيضا ما أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تخطى حلق قوم بغير إذنهم فهو عاص ولكن في إسناده جعفر بن الزبير، وقد كذبه شعبة وتركه الناس، وقد اختلف أهل العلم في حكم التخطي يوم الجمعة فقال الترمذي حاكيا عن أهل العلم: إنهم كرهوا تخطي الرقاب يوم الجمعة وشددوا في ذلك، وحكى أبو حامد في تعليقه عن الشافعي التصريح بالتحريم، وقال النووي في زوائد الروضة: إن المختار تحريمه للاحاديث الصحيحة، واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط، وروى العراقي عن كعب الاحبار أنه قال: لان أدع الجمعة أحب إلي من أن أتخطى الرقاب وقال ابن المسيب لان أصلي الجمعة بالحرة أحب إلي من التخطي. وروي عن أبي هريرة نحوه، ولا يصح عنه لانه من رواية صالح مولى التوأمة عنه. قال العراقي: وقد استثني من التحريم أو الكراهة الامام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي، وهكذا أطلق النووي في الروضة، وقيد ذلك في شرح المهذ ب فقال: إذا لم يجد طريقا إلى المنبر أو المحراب إلا بالتخطي لم يكره لانه ضرورة وروي نحو ذلك عن الشافعي، وحديث عقبة بن الحرث المذكور في الباب يدل على جواز التخطي للحاجة في غير الجمعة، فمن خصص الكراهة بصلاة الجمعة فلا معارضة بينه وبين أحاديث الباب عنده، ومن عمم الكراهة لوجود العلة المذكورة سابقا في الجمعة وغيرها فهو محتاج
[ 312 ]
إلى الاعتذار عنه، وقد خص الكراهة بعضهم بغير من يتبرك الناس بمروره ويسرهم ذلك ولا يتأذون لزوال علة الكراهة التي هي التأذي باب التنفل قبل الجمعة ما لم يخرج الامام وأن انقطاعه بخروجه إلا تحية المسجد عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحدا فإن لم يجد الامام خرج صلى ما بدا له، وإن وجد الامام قد خرج جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الامام جمعته وكلامه إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها رواه أحمد. الحديث في إسناده عطاء الخراساني وفيه مقال، وقد وثقه الجمهور ولكنه قيل إنه لم يسمع من نبيشة. وفيه مشروعية الغسل في يوم الجمعة وترك الاذية، وقد تقدم الكلام على ذلك. وفيه أيضا مشروعية الاستماع والانصات وسيأتي البحث عنهما. وفيه مشروعية الصلاة قبل خروج الامام والكف عنها بعد خروجه. (وقد اختلف العلماء) هل للجمعة سنة قبلها أو لا؟ فأنكر جماعة أن لها سنة قبلها وبالغوا في ذلك قالوا: لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يؤذن للجمعة إلا بين يديه ولم يكن يصليها، وكذلك الصحابة لانه إذا خرج الامام انقطعت الصلاة. وقد حكى ابن العربي عن الحنفية والشافعية أنه لا يصلى قبل الجمعة. وعن مالك أنه يصلى قبلها، واعترض عليه العراقي بأن الحنفية إنما يمنعون الصلاة قبل الجمعة في وقت الاستواء لا بعده، وبأن الشافعية تجوز الصلاة قبل الجمعة بعد الاستواء يقولون: إن وقت سنة الجمعة التي قبلها يدخل بعد الزوال، وبأن البيهقي قد نقل عن الشافعي أنه قال: من شأن الناس التهجير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الامام. قال البيهقي في المعرفة: هذا الذي أشار إليه الشافعي موجود في الاحاديث الصحيحة، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رغب في التبكير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الامام، فمن الاحاديث الدالة على ذلك حديث الباب، وحديث أبي هريرة الآتي. ومنها حديث ابن عباس عند ابن ماجة
[ 313 ]
والطبراني قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يركع قبل الجمعة أربعا لا يفصل بينهن. وقد ضعف النووي في الخلاصة رجال إسناده وقال: إن ميسر بن عبيد أحد رجال إسناده وضاع صاحب أباطيل. ومنها حديث عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الستة بلفظ: بين كل أذانين صلاة ومنها حديث عبد الله بن الزبير عند ابن حبان في صحيحه والدارقطني والطبراني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان وهذا والذي قبله تدخل فيهما الجمعة وغيرها. ومنها الاحاديث الواردة في مشروعية الصلاة بعد الزوال وقد تقدمت والجمعة كغيرها. ومنها حديث استثناء يوم الجمعة من كراهة الصلاة حال الزوال وقد تقدم. قال العراقي: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يصلي قبل الجمعة، لانه كان يخرج إليها فيؤذن بين يديه ثم يخطب. وقد استدل المصنف رحمه الله تعالى بحديث الباب على ترك التحية بعد خروج الامام فقال وفيه حجة بترك التحية كغيرها اه. وسيأتي الكلام على هذا. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين، ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك رواه أبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من اغتسل يوم الجمعة ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له ثم أنصت حتى يفرغ الامام من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الاخرى وفضل ثلاثة أيام رواه مسلم. حديث ابن عمر قال العراقي: إسناده صحيح، وأخرجه النسائي بدون قوله: يطيل الصلاة قبل الجمعة قال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة من وجه آخر بمعناه اه. (والحديثان) يدلان على مشروعية الصلاة قبل الجمعة، ولم يتمسك المانع من ذلك إلا بحديث النهي عن الصلاة وقت الزوال، وهو مع كون عمومه مخصصا بيوم الجمعة كما تقدم ليس فيه ما يدل على المنع من الصلاة قبل الجمعة على الاطلاق، وغاية ما فيه المنع في وقت الزوال وهو غير محل النزاع. والحاصل أن الصلاة قبل الجمعة مرغب فيها عموما وخصوصا، فالدليل على مدعي الكراهة على الاطلاق. قوله: فصلى ما قدر
[ 314 ]
له فيه أن الصلاة قبل الجمعة لا حد لها. قوله: ثم أنصت في رواية: ثم انتصت بزيادة تاء فوقية قال القاضي عياض: وهو وهم. قال النووي: ليس هو وهما بل هي لغة صحيحة. قوله: حتى يفرغ الامام قال النووي: هو في الاصول بدون ذكر الامام، وعاد الضمير إليه للعلم به وإن لم يكن مذكورا. قوله: وفضل ثلاثة أيام هو بنصب فضل على الظرف كما قال النووي قال: قال العلماء: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشر أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الافعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها، قال بعض العلماء: والمراد بما بين الجمعتين من صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت حتى يكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان ويضم إليها ثلاثة فتصير عشرة. وعن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على المنبر فأمره أن يصلي ركعتين رواه الخمسة إلا أبا داود، وصححه الترمذي ولفظه: أن رجلا جاء يوم الجمعة في هيئة بذة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، فأمره فصلى ركعتين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب. قلت: وهذا يصرح بضعف ما روي أنه أمسك عن خطبته حتى فرغ من الركعتين. وعن جابر رضي الله عنه قال: دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقال: صليت؟ قال: لا، قال: فصل ركعتين رواه الجماعة. وفي رواية: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والامام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وفي رواية: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج إلامام فليصل ركعتين متفق عليه. وفي الباب عن سهل بن سعد عند ابن أبي حاتم في العلل، وأشار إليه الترمذي بنحو حديث أبي سعيد. وعن أبي قتادة عند الائمة الستة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين وقد تقدم. وعن أنس عند الدارقطني قال: جاء رجل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قم فاركع ركعتين وأمسك من الخطبة حتى فرغ من صلاته. قال الدارقطني: أسنده عبيد بن محمد العبدي عن معتمر عن أبيه، عن قتادة عن أنس ووهم فيه والصواب كذلك رواه أحمد بن حنبل وغيره عن معتمر، ثم رواه من طريق أحمد مرسلا. وعبيد بن محمد هذا روى عنه أبو حاتم، وإنما حكم عليه
[ 315 ]
الدارقطني بالوهم لمخالفته من هو أحفظ منه أحمد بن حنبل وغيره. وهذا الحديث هو الذي أشار إليه المصنف. وفي الباب أيضا عن سليك عند أحمد. قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا جاء أحدكم والامام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين ورواه أيضا ابن عدي في الكامل. قوله: أن رجلا وكذلك قوله: دخل رجل هو سليك بمهملة مصغرا ابن هدية. وقيل: ابن عمرو الغطفاني وقع مسمى في هذه القصة عند مسلم وأبي داود والدارقطني. وقيل: هو النعمان بن قوقل، كذا وقع عند الطبراني من رواية منصور بن أبي الاسود عن الاعمش. قال أبو حاتم الرازي: وهم فيه منصور، ووقع عند الطبراني أيضا من طريق أبي صالح عن أبي ذر أنه: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب فقال له: صليت ركعتين الحديث. وفي إسناده ابن لهيعة. قال الحافظ: المشهور عن أبي ذر أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في المسجد، كذا عند ابن حبان وغيره. وعند الدراقطني: جاء رجل من قيس المسجد فذكر نحو قصة سليك. قال الحافظ: لا يخالف كونه سليكا، فإن غطفان من قيس. قوله: صليت قال الحافظ: كذا للاكثر بحذف همزة الاستفهام، وثبتت في رواية الاصيلي. (والاحاديث) المذكورة في الباب تدل على مشروعية تحية المسجد حال الخطبة، وإلى ذلك ذهب الحسن وابن عيينة والشافعي وأحمد وإسحاق ومكحول وأبو ثور وابن المنذر، وحكاه النووي عن فقهاء المحدثين. وحكى ابن العربي أن محمد بن الحسن حكاه عن مالك. وذهب الثوري وأهل الكوفة إلى أنه يجلس ولا يصليهما حال الخطبة، حكى ذلك الترمذي، وحكاه القاضي عياض عن مالك، والليل ث وأبي حنيفة وجمهور السلف من الصحابة والتابعين. وحكاه العراقي عن محمد بن سيرين وشريح القاضي والنخعي وقتادة والزهري. ورواه ابن أبي شيبة عن علي وابن عمر وابن عباس وابن المسيب ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير. ورواه النووي عن عثمان وإلى ذلك ذهبت الهادوية، وأجابوا عن أمره صلى الله عليه وآله وسلم لسليك بأن ذلك واقعة عين لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك، قالوا: ويدل على ذلك ما وقع في حديث أبي سعيد أن الرجل كان في هيئة بذة فقال له: أصليت؟ قال: لا، قال: صل الركعتين، وحض الناس على الصدقة، فأمره أن يصلي ليراه الناس وهو قائم فيتصدقون عليه. ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن
[ 316 ]
هذا الرجل دخل في هيئة بذة وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه ويؤيده أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لسليك في آخر الحديث: لا تعودن لمثل هذا أخرجه ابن حبان، ورد هذا الجواب بأن الاصل عدم الخصوصية، والتعليل بكونه صلى الله عليه وآله وسلم قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين لا يجوزون الصلاة في هذا الوقت لعلة التصدق، ولو ساغ هذا لساغ مثله في سائر الاوقات المكروهة ولا قائل به، كذا قال ابن المنير، ومما يرد هذا التأويل ما في الباب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة الخ، فإن هذا نص لا يتطرق إليه التأويل. قال النووي: لا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ صحيحا فيخالفه اه. قال الحافظ: والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض لقوله تعالى: * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له) * (الاعراف: 204) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قلت لصاحبك أنصت والامام يخطب فقد لغوت متفق عليه، قالوا: فإذا امتنع الامر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالانصات فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى، وعارضوا أيضا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي دخل يتخطى رقاب الناس وهو يخطب: قد آذيت وقد تقدم، قالوا: فأمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية. وبما أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر رفعه: إذا دخل أحدكم المسجد والامام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الامام ويجاب عن ذلك كله بإمكان الجمع وهو مقدم على المعارضة المؤدية إلى إسقاط أحد الدليلين، أما في الآية فليست الخطبة قرآنا، وما فيها من القرآن الامر بالانصات حال قراءته عام مخصص بأحاديث البا ب. وأما حديث: إذا قلت لصاحبك أنصت فهو وارد في المنع من المكالمة للغير ولا مكالمة في الصلاة، ولو سلم أنه يتناول كل كلام حتى الكلام في الصلاة لكان عموما مخصصا بأحاديث الباب، قال الحافظ: وأيضا فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت لحديث أبي هريرة المتقدم أنه قال: يا رسول الله سكوتك بين التكبيرة والقراءة ما تقول فيه فأطلق على القول سرا السكوت. وأما أمره صلى الله عليه وآله وسلم لمن دخل يتخطى الرقاب بالجلوس فذلك واقعة عين ولا عموم لها، فيحتمل أن يكون أمره بالجلوس قبل مشروعيتها، أو أمره بالجلوس بشرطه وهو فعل التحية، وقد عرفه قبل ذلك أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز، أو لكون دخوله وقع في آخر الخطبة وقد ضاق الوقت عن التحية. وأما حديث ابن عمر فهو ضعيف، لان في إسناده أيوب بن نهيك، قال
[ 317 ]
أبو زرعة وأبو حاتم: منكر الحديث والاحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله، وقد أجاب المانعون عن أحاديث الباب بأجوبة غير ما تقدم وهي زيادة على عشرة، أوردها الحافظ في الفتح، بعضها ساقط لا ينبغي الاشتغال بذكره، وبعضها لا ينبغي إهماله، فمن البعض الذي لا ينبغي إهماله قولهم إنه صلى الله عليه وآله وسلم سكت عن خطبته حتى فرغ سليك من صلاته، قالوا: ويدل على ذلك حديث أنس المتقدم، ويجاب عن ذلك بأن الدارقطني وهو الذي أخرجه قال: إنه مرسل أو معضل، وأيضا يعارضه اللفظ الذي أورده المصنف عن الترمذي على أنه لو تم لهم الاعتذار عن حديث سليك بمثل هذا، لما تم لهم الاعتذار بمثله عن بقية أحاديث الباب المصرحة بأمر كل أحد إذا دخل المسجد والامام يخطب أن يوقع الصلاة حال الخطبة. ومنها أنه لما تشاغل صلى الله عليه وآله وسلم بمخاطبة سليك سقط فرض الاستماع، إذا لم يكن منه صلى الله عليه وآله وسلم خطبة في تلك الحال. وقد ادعى ابن العربي أن هذا أقوى الاجوبة. قال الحافظ: وهو أضعفها لان المخاطبة لما انقضت رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خطبته، وتشاغل سليك بامتثال ما أمره به من الصلاة، فصح أنه صلى حال الخطبة. ومنها أنهم اتفقوا على أن الامام يسقط عنه التحية، مع أنه لم يكن قد شرع في الخطبة، فسقوطها على المأموم بطريق الاولى، وتعقب بأنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار. ومنها عمل أهل المدينة خلفا عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقا. قال الحافظ: وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة، فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد، روى ذلك عنه الترمذي وابن خزيمة وصححاه، وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة، وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة، ولم يثبت عن احد من الصحابة صريحا ما يخالف ذلك، وأما ما نقله ابن بطال عن عمر وعثمان وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقا، فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال على أنه لا حجة في فعل أهل المدينة ولا في إجماعهم على فرض ثبوته كما تقررفي الاصول. قوله في حديث الباب: وليتجوز فيهما فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة ليتفرغ لسماع الخطبة، ولا خلاف في ذلك بين القائلين بأنها تشرع صلاة التحية حال الخطبة. قوله: فليصل ركعتين فيه أن داخل المسجد حال الخطبة يقتصر على ركعتين. قال المصنف رحمه الله تعالى: ومفهومه يمنع من تجاوز الركعتين بمجرد خروج الامام وإن لم يتكلم. وفي رواية عن أبي هريرة
[ 318 ]
وجابر قالا: جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقال له: أصليت ركعتين قبل أن تجئ؟ قال: لا، قال: فصل ركعتين وتجوز فيهما رواه ابن ماجة ورجال إسناده ثقات. وقوله: قبل أن تجئ يدل على أن هاتين الركعتين سنة للجمعة قبلها وليستا تحية للمسجد اه. حديث ابن ماجة هذا هو كما قال المصنف وصححه العراقي، وقد أخرجه أيضا أبو داود من حديث أبي هريرة، والبخاري ومسلم من حديث جابر. وقد ذهب إلى مثل ما قال المصنف الاوزاعي فقال: إن كان صلى في البيت قبل أن يجئ فلا يصلي إذا دخل المسجد، وتعقب بأن المانع من صلاة التحية لا يجيز التنفل حال الخطبة مطلقا. قال في الفتح: ويحتمل أن يكون معنى قبل أن تجئ أي إلى الموضع الذي أنت فيه. وفائدة الاستفهام احتمال أن يكون صلاها في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة كما تقدم في قصة الذي تخطى، ويؤيده أن في رواية لمسلم: أصليت الركعتين؟ بالالف واللام وهو للعهد، ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد. باب ما جاء في التجميع قبل الزوال وبعده عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس رواه أحمد والبخار وأبو داود والترمذي. وعنه رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة ثم نرجع إلى القائلة فنقيل رواه أحمد والبخاري. وعنه رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة يعني الجمعة رواه البخاري هكذا. وعن سلمة بن الاكوع رضي الله عنه قال: كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفئ أخرجاه. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ما كنا نقيل ولانتغدى إلا بعد الجمعة رواه الجماعة، وزاد أحمد ومسلم والترمذي: في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس يعني النواضح رواه أحمد ومسلم والنسائي.
[ 319 ]
وعن عبد الله بن سيدان السلمي رضي الله عنه قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار، فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره رواه الدارقطني والامام أحمد في رواية ابنه عبد الله واحتج به. وقال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوها قبل الزوال. أثر عبد الله بن سيدان السلمي فيه مقال، لان البخاري قال: لا يتابع على حديثه، وحكي في الميزان عن بعض العلماء أنه قال: هو مجهول لا حجة فيه. قوله: حين تميل الشمس فيه إشعار بمواظبته صلى الله عليه وآله وسلم على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس. قوله: كنا نصلي الجمعة مع النبي (ص) ثم نرجع إلى القائلة فنقيل. وفي لفظ للبخاري: كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة. وفي لفظ له أيضا: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة ثم تكون القائلة وظاهر ذلك أنهم كانوا يصلون الجمعة باكر النهار، قال الحافظ: لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، وقد تقرر أن التبكير يطلق على فعل الشئ في أول وقته أو تقديمه على غيره، وهو المراد هنا، والمعنى أنهم كانوا يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر، فإنهم كانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الابراد اه. والمراد بالقائلة المذكورة في الحديث نوم نصف النهار. قوله: إذا اشتد البرد بكر بالصلاة أي صلاها في أول وقتها. قوله: وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة يعني الجمعة يحتمل أن يكون قوله يعني الجمعة من كلام التابعي أو من دونه، أخذه قائله مما فهمه من التسوية بين الجمعة والظهر عند أنس، ويؤيده ما عند الاسماعيلي عن أنس من طريق أخرى وليس فيه قوله يعني الجمعة. قوله: نجمع هو بتشديد الميم المكسورة. قوله: نتتبع الفئ فيه تصريح بأنه قد وجد في ذلك الوقت فئ يسير. قال النووي: إنما كان ذلك لشدة التبكير وقصر حيطانهم. وفي رواية للبخاري: ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. وفي رواية لمسلم: وما نجد فيئا نستظل به والمراد نفي الظل الذي يستظل به لا نفي أصل الظل، كما هو الاكثر الاغلب من توجه النفي إلى القيود الزائدة، ويدل على ذلك قوله: ثم نرجع نتتبع الفئ قيل: وإنما كان كذلك لان الجدران كانت في ذلك العصر قصيرة لا يستظل بظلها إلا بعد توسط الوقت، فلا دلالة في ذلك على أنهم كانوا يصلون قبل الزوال. قوله: ما كنا
[ 320 ]
نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة فيه دليل لمن قال بجواز صلاة الجمعة قبل الزوال، وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل، واختلف أصحابه في الوقت الذي تصبح فيه قبل الزوال هل هو الساعة السادسة، أو الخامسة، أو وقت دخول وقت صلاة العيد؟ ووجه الاستدلال به أن الغداء والقيلولة محلهما قبل الزوال. وحكوا عن ابن قتيبة أنه قال: لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال. وأيضا قد ثبت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب خطبتين ويجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس كما في مسلم من حديث أم هشام بنت حارثة أخت عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت: ما حفظت * (ق والقرآن المجيد) * (ق: 1) إلا من فئ رسول الله (ص) وهو يقرأها على المنبر كل جمعة. وعند ابن ماجة من حديث أبي بن كعب: أن النبي (ص) قرأ يوم الجمعة * (تبارك) * (الفرقان: 1) وهو قائم يذكر بأيام الله، وكان يصلي الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين. كما ثبت ذلك عند مسلم من حديث علي وأبي هريرة وابن عباس، ولو كانت خطبته وصلاته بعد الزوال لما انصرف منها إلا وقد صار للحيطان ظل يستظل به، وقد خرج وقت الغداء والقائلة، وأصرح من هذا حديث جابر المذكور في الباب فإنه صرح بأن النبي (ص) كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلى جمالهم فيريحونها عند الزوال، ولا ملجئ إلى التأويلات المتعسفة التي ارتكبها الجمهور، واستدلالهم بالاحاديث القاضية بأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الجمعة بعد الزوال لا ينفي الجواز قبله. وقد أغرب ابن العربي فنقل الاجماع، على أنها لا تجب حتى تزول الشمس إلا ما نقل عن أحمد وهو مردود، فإنه قد نقل ابن قدامة وغيره عن جماعة من السلف مثل قول أحمد. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن سلمة أنه قال: صلى بنا عبد الله بن مسعود الجمعة ضحى وقال: خشيت عليكم الحر. وأخرج من طريق سعيد بن سويد قال: صلى بنا معاوية الجمعة ضحى. وكذلك روي عن جابر وسعيد بن زيد كما في رواية أحمد الذي ذكرها المصنف، وروى مثل ذلك ابن أبي شيبة في المصنف عن سعد بن أبي وقاص. قوله: وعن عبد الله بن سيدان السلمي أخرج هذا الاثر أيضا أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة وابن أبي شيبة. قال الحافظ: ورجاله ثقات إلا عبد الله بن سيدان فإنه تابعي كبير، إلا أنه غير معرو ف العدالة. قال ابن عدي: يشبه المجهول. وقال البخاري: لا يتابع على حديثه، وقد عارضه ما هو أقوى منه، روى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين تزول الشمس وإسناده قوي.
[ 321 ]
باب تسليم الامام إذا رقي المنبر، والتأذين إذا جلس عليه واستقبال المأمومين له عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صعد المنبر سلم رواه ابن ماجة وفي إسناده ابن لهيعة. وهو للاثرم في سننه عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. الحديث أخرجه الاثرم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن مجالد، عن الشعبي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال: السلام عليكم وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة عن الشعبي مرسلا، وإسناد ابن ماجة فيه ابن لهيعة كما قال المصنف وهو ضعيف. (وفي الباب) عن ابن عمر عند ابن عدي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان إذا دنا من المنبر سلم على من عند المنبر، ثم صعد، فإذا استقبل الناس بوجهه سلم ثم قعد وأخرجه أيضا الطبراني والبيهقي وفي إسناده عيسى بن عبد الله الانصاري، وقد ضعفه ابن عدي وابن حبان. (وفي الباب) أيضا عن عطاء مرسلا، كذا قال الحافظ في التلخيص. وقال الشافعي: بلغنا عن سلمة بن الاكوع أنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبتين وجلس جلستين، وحكى الذي حدثني قال: استوى صلى الله عليه وآله وسلم على الدرجة التي تلي المستراح قائما، ثم سلم، ثم جلس على المستراح حتى فرغ المؤذن من الاذان، ثم قام فخطب، ثم جلس، ثم قام فخطب الثانية. (والحديث) يدل على مشروعية التسليم من الخطيب على الناس بعد أن يرقى المنبر وقبل أن يؤذن المؤذن. وقال في الانتصار: بعد فراغ المؤذن. وقال أبو حنيفة ومالك: إنه مكروه، قالا: لان سلامه عند دخول المسجد مغن عن الاعادة. وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الامام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤذن غير واحد رواه البخاري والنسائي وأبو داود. وفي رواية لهم: فلما
[ 322 ]
كانت خلافة عثمان وكثروا، أمر عثمان يوم الجمعة بالاذان الثالث فأذن به على الزوراء، فثبت الامر على ذلك ولاحمد والنسائي: كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر ويقيم إذا نزل. وعن عدي بن ثابت عن ابيه عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم رواه ابن ماجة. حديث عدي بن ثابت قال ابن ماجة: أرجو أن يكون متصلا، قال: ووالد عدي لا صحبة له إلا أن يراد بأبيه جده أبو أبيه فله صحبة على رأي بعض الحفاظ من المتأخرين، وأخرج نحوه الترمذي عن ابن مسعود بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية وهو ضعيف. قال الترمذي: ذاهب الحديث، قال: ولا يصح في هذا الباب شئ. قال الحافظ في بلوغ المرام: وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة اه. وفي الباب عن أبي سعيد عند البخاري ومسلم والنسائي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلس يوما على المنبر وجلسنا حوله بوب عليه البخاري باب استقبال الناس الامام إذا خطب. وفي الباب أيضا عن مطيع أبي يحيى عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام استقبلناه بوجوهنا ومطيع هذا مجهول، وقد تقدم من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يستقبل الناس بوجهه. قوله: كان النداء يوم الجمعة في رواية لابن خزيمة: كان ابتداء النداء الذي ذكره الله تعالى في القرآن يوم الجمعة وله في رواية: كان الاذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة وفسر الاذانين بالاذان والاقامة يعني تغليبا. قوله: إذا جلس الامام قال المهلب: الحكمة في جعل الاذان في هذا المحل ليعرف الناس جلوس الامام على المنبر فينصتون له إذا خطب. قال الحافظ: وفيه نظر لما عند الطبراني وغيره في هذا الحديث: أن بلالا كان يؤذن على باب المسجد فالظاهر أنه كان لمطلق الاعلام لا لخصوص الانصات، نعم لما زيد الاذان الاول كان للاعلام، وكان الذي بين يدي الخطيب للانصات. قوله: فلما كان عثمان أي خليفة. قوله: وكثر الناس أي بالمدينة كما هو مصرح به في رواية، وكان أمره بذلك بعد مضي مدة من خلافته كما عند أبي نعيم في المستخرج. قوله: زاد النداء الثالث في رواية: فأمر عثمان بالنداء الاول،
[ 323 ]
وفي رواية التأذين الثاني أمر به عثمان، ولا منافاة لانه سمي ثالثا باعتبار كونه مزيدا، وأولا باعتبار كون فعله مقدما على الاذان والاقامة، وثانيا باعتبار الاذان الحقيقي لا الاقامة. قوله: على الزوراء بفتح الزاي وسكون الواو بعدها راء ممدودة. قال البخاري: هي موضع بسوق المدينة، قال الحافظ: وهو المعتمد. وقال ابن بطال: هو حجر كبير عند باب المسجد، ورد بما عند ابن خزيمة وابن ماجة عن الزهري أنها دار بالسوق يقال لها الزوراء. وعند الطبراني: فأمر بالنداء الاول على دار يقال لها الزوراء فكان يؤذن عليها، فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الاول فإذا نزل أقام الصلاة. قال في الفتح: والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك، لكونه كان خليفة مطاع الامر، لكن ذكر الفاكهاني أن أول من أحدث الاذان الاول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد قال الحافظ وبلغني أن أهل الغرب الادنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة. وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: الاذان الاول يوم الجمعة بدعة، فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الانكار، ويحتمل أن يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة، وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لاعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات، وألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالاذان بين يدي الخطيب. وأما ما أحدث الناس قبل الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى، كذا في الفتح. وقد روي عن معاذ أن عمر هو الذي أحدث ذلك وإسناده منقطع، ومعاذ أيضا خرج من المدينة إلى الشام في أول غزو الشام، واستمر في الشام إلى أن مات في طاعون عمواس. قوله: غير مؤذن واحد فيه أنه قد اشتهر أنه كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من المؤذنين منهم بلال، وابن أم مكتوم، وسعد القرظ، وأبو محذورة، وأجيب بأنه أراد في الجمعة وفي مسجد المدينة، ولم ينقل أن ابن أم مكتوم كان يؤذن يوم الجمعة، بل الذي ورد عنه التأذين يوم الجمعة بلال، وأبو محذورة جعله صلى الله عليه وآله وسلم مؤذنا بمكة، وسعد جعله بقباء. قوله: استقبله أصحابه بوجوههم فيه مشروعية استقبال الناس للخطيب حال الخطبة، وأحاديث الباب
[ 324 ]
وإن كانت غير بالغة إلى درجة الاعتبار فقد شد عضدها عمل السلف والخلف على ذلك. قال ابن المنذر: وهذا كالاجماع. وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم يستحبون استقبال الامام إذا خطب، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. قال العراقي وغيرهم: عطاء بن أبي رباح وشريح، ومالك، والاوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وابن جابر، ويزيد بن أبي مريم، وأصحاب الرأي. وروي عن ابن المسيب والحسن أنهما كان لا ينحرفان إليه وهل المراد باستقبال السامعين للخطيب أن يستقبله من يواجهه أو جميع أهل المسجد حتى أن من كان في الصف الاول والثاني وإن طالت الصفوف ينحرفون بأبدانهم أو بوجوههم لسماع الخطبة، قال العراقي: والظاهر أن المراد بذلك من يسمع الخطبة دون من بعد فلم يسمع، فاستقبال القبلة أولى به من توجهه لجهة الخطبة. وروي عن الامام شرف الدين أنه يجب على العدد الذين تنعقد بهم الجمعة المواجهة دون غيرهم، وأوجب الاستقبال المذكور أبو الطيب الطبري، صرح بذلك في تعليقه. باب اشتمال الخطبة على حمد الله تعالى والثناء على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والموعظة والقراءة عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم رواه أبو داود وأحمد بمعناه. وفي رواية: الخطبة التي ليس فيها شهادة كاليد الجذماء رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: تشهد بدل شهادة. الحديث أخرجه أيضا باللفظ الاول النسائي وابن ماجة وأبو عوانة والدارقطني وابن حبان والبيهقي، واختلف في وصله وإرساله، فرجح النسائي والدارقطني الارسال، واللفظ الآخر من حديث الباب حسنه الترمذي، وأخرج ابن حبان والعسكري وأبو داود عن أبي هريرة مرفوعا: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله تعالى فهو أقطع.
[ 325 ]
وفي الباب عن كعب بن مالك عند الطبراني في الكبير والرهاوي مرفوعا: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع. قوله: أجذم روي بالحاء المهملة وبالجيم المعجمة ثم بالذال المعجمة، والاول من الحذم وهو القطع، والثاني المراد به الداء المعروف. شبه الكلام الذي لا يبتدأ فيه بحمد الله تعالى بإنسان مجذوم تنفيرا عنه وإرشادا إلى استفتاح الكلام بالحمد. قوله: ليس فيها شهادة أي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقد استدل المصنف بالحديث على مشروعية الحمد لله في الخطبة لانها في الرواية الاولى داخلة تحت عموم الكلام، وسيأتي الخلاف في ذلك وبيان ما هو الحق. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا تشهد قال: الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله تعالى شيئا. وعن ابن شهاب رضي الله عنه أنه سئل عن تشهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة فذكر نحوه وقال: ومن يعصهما فقد غوى رواهما أبو داود. الحديث الاول في إسناده عمران بن داورن أبو العوام البصري، قال عفان: كان ثقة واستشهد به البخاري. وقال يحيى بن معين والنسائي: ضعيف الحديث. وقال مرة: ليس بشئ، وقال يزيد بن زريع: كان عمران حروريا، وكان يرى السيف على أهل القبلة، وقد صحح إسناد هذا الحديث النووي في شرح مسلم والحديث الثاني مرسل. قوله: فقد رشد بكسر الشين المعجمة وفتحها. قوله: ومن يعصهما فيه جواز التشريك بين ضمير الله تعالى ورسوله، ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ: أن يكون الله تعالى ورسوله أحب إليه مما سواهما. وما ثبت أيضا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر مناديا ينادي يوم خيبر: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الاهلية. وأما ما في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من حديث عدي بن حاتم: أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله تعالى ورسوله فقد غوى فمحمول على ما قال النووي من أن سبب الانكار عليه
[ 326 ]
أن الخطبة شأنها البسط والايضاح واجتناب الاشارات والرموز، قال: ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه، قال: وإنما ثني الضمير في قوله: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما لانه ليس خطبة وعظ، وإنما هو تعليم حكم، فكل ما قل لفظه كان أقرب إلى حفظه، بخلاف خطبة الوعظ فإنه ليس المراد حفظها، وإنما يراد الاتعاظ بها، ولكنه يرد عليه أنه قد وقع الجمع بين الضميرين منه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الباب، وهو وارد في الخطبة لا في تعليم الاحكام. وقال القاضي عياض وجماعة من العلماء: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أنكر على الخطيب تشريكه في الضمير المقتضي للتسوية، وأمره بالعطف تعظيما لله تعالى بتقديم اسمه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآخر: لا يقل أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم ما شاء فلان. ويرد على هذا ما قد من جمعه صلى الله عليه وآله وسلم بين ضمير الله وضميره، ويمكن أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أنكر على ذلك الخطيب التشريك لانه فهم منه اعتقاد التسوية، فنبهه على خلاف معتقده، وأمره بتقديم اسم الله تعالى على اسم رسوله، ليعلم بذلك فساد ما اعتقده. قوله: فقد غوى بفتح الواو وكسرها والصواب الفتح كما في شرح مسلم، وهو من الغي وهو الانهماك في الشر. (وقد اختلف) أهل العلم في حكم خطبة الجمعة، فذهبت العترة والشافعي وأبو حنيفة ومالك إلى الوجوب، ونسبه القاضي عياض إلى عامة العلماء، واستدلوا على الوجوب بما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم بالاحاديث الصحيحة ثبوتا مستمرا أنه كان يخطب في كل جمعة، وقد عرفت غير مرة أن مجرد الفعل لا يفيد الوجوب، واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي وهو مع كونه غير صالح للاستدلال به على الوجوب لما قدمنا في أبواب صفة الصلاة، ليس فيه إلا الامر بإيقاع الصلاة، على الصفة التي كان يوقعها عليها، والخطبة ليست بصلاة، واستدلوا أيضا بقوله تعالى: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * (ق: 1) وفعله للخطبة بيان للمجمل، وبيان المجمل الواجب واجب، ورد بأن الواجب بالامر هو السعي فقط، وتعقب بأن السعي ليس مأمورا به لذاته بل لمتعلقه وهو الذكر، ويتعقب هذا التعقب بأن الذكر المأمور بالسعي إليه هو الصلاة غاية الامر أنه متردد بينها وبين الخطبة، وقد وقع الاتفاق على وجوب الصلاة والنزاع في وجوب الخطبة، فلا ينتهض هذا الدليل
[ 327 ]
للوجوب، فالظاهر ما ذهب إليه الحسن البصري وداود الظاهري والجويني من أن الخطبة مندوبة فقط، وأما الاستدلال للوجوب بحديث أبي هريرة المذكور وفي أول الباب، وبحديثه أيضا عند البيهقي في دلائل النبوة مرفوعا حكاية عن الله تعالى بلفظ: وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي فوهم لان غاية الاول عدم قبول الخطبة التي لاحمد فيها، وغاية الثاني عدم جواز خطبة لا شهادة فيها بأنه صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله ورسوله، والقبول والجواز وعدمهما لا ملازمة بينها وبين الوجوب قطعا. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب قائما، ويجلس بين الخطبتين، ويقرأ آيات، ويذكر الناس رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. قوله: يخطب قائما فيه أن القيام حال الخطبة مشروع، وسيأتي الخلاف في حكمه. قوله: ويجلس بين الخطبتين. فيه مشروعية الجلوس بين الخطبتين، واختلف في وجوبه، فذهب الشافعي والامام يحيى إلى وجوبه، وذهب الجمهور إلى أنه غير واجب. استدل من أوجب ذلك بفعله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله: صلوا كما رأيتموني أصلي وقد قدمنا الجواب عن مثل هذا الاستدلال، وأنه غير صالح لاثبات الوجوب. قوله: بين الخطبتين فيه أن المشروع خطبتان، وقد ذهب إلى وجوبهما العترة والشافعي، وحكى العراقي في شرح الترمذي عن مالك وأبي حنيفة والاوزاعي وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر وأحمد بن حنبل في رواية أن الواجب خطبة واحدة قال: وإليه ذهب جمهور العلماء، ولم يستدل من قال بالوجوب إلا بمجرد الفعل مع قوله: صلوا كما رأيتموني الحديث. وقد عرفت أن ذلك لا ينتهض لاثبات الوجوب. قوله: ويقرأ آيات ويذكر الناس استدل به على مشروعية القراءة والوعظ في الخطبة، وقد ذهب الشافعي إلى وجوب الوعظ وقراءة آية، وإلى ذلك ذهب الامام يحى ولكنه قال: تجب قراءة سورة، وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب وهو الحق. وعنه أيضا رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان لا يطيل الموعظيوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات رواه أبو داود. الحديث سكت عنه أبوداو والمنذري وهو من رواية شيبان بن عبد الرحمن
[ 328 ]
النحوي عن سماك ورجال إسناده ثقات، وفيه أن الوعظ في الخطبة مشروع، وأن إقصار الخطبة أولى من إطالتها، وسيأتي الكلام على ذلك. وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: ما أخذت * (ق والقرآن المجيد) * (ق: 1) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. وفي الباب عن يعلى بن أمية عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ على المنبر ونادوا يا مالك. وعن أبي هريرة عند البزار قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم جمعة فذكر سورة وله حديث آخر عند ابن عدي في الكامل قال: خطب النبي صلي الله عليه وآله وسلم الناس على المنبر يقرأ آيات من سورة البقرة. وعن أبي بن كعب عند ابن ماجة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ يوم الجمعة: * تبارك) * (الفرقان: 1) وهو قائم يذكر بأيام الله تعالى وهو من رواية عطاء بن يسار عن أبي ولم يدركه. وعن جابر بن عبد الله عند الطبراني في الاوسط: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب فقرأ في خطبته آخر الزمر فتحرك المنبر مرتين وفي إسناده أبو بحر البكروئي واسمه عبد الرحمن بن عثمان بن أمية، وقد طرح الناس حديثه. وقال أبو داود: صالح، وفي إسناده أيضا عباد بن ميسرة المنقري، ضعفه أحمد ويحيى. وعن ابن عمر عند ابن عدي في الكامل بلفظ حديث جابر بن عبد الله، وفي إسناده عباد بن ميسرة وهو ضعيف كما تقدم، وله حديث آخر عند ابن عدي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ على المنبر: * (والارض جميعا قبضته) * (الزمر: 67) الآية. وفي إسناده المنكدر بن محمد وقد ضعفه النسائي. وعن علي بن أبي طالب سلام الله عليه عند الطبراني في الاوسط: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ على المنبر: * (قل يا أيها الكافرون) * (الكافرون: 1) و * (قل هو الله أحد) * (الاخلاص: 1). وفي إسناده هارون بن عنترة، قال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به منكر الحديث، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وقال الدارقطني: يحتج به. وعن أبي الدرداء عند الطبراني أيضا بنحو حديث أبي هريرة المتقدم. وعن ابي ذر عند الطبراني أيضا. وعن أبي سعيد عند أبي داود قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر * (ص) * فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه قال العراقي: وإسناده صحيح. وقد استدل بحديث الباب، وما ذكرناه من الاحاديث
[ 329 ]
على مشروعية قراءة شئ من القرآن في الخطبة، ولا خلاف في الاستحباب، وإنما الخلاف في الوجوب كما تقدم. وقد اختلف في محل القراءة على أربعة أقوال. الاول في إحداهما لا بعينها، وإليه ذهب الشافعي وهو ظاهر إطلاق الاحاديث. والثاني في الاولى وإلى ذلك ذهبت الهادوية وبعض أصحاب الشافعي، واستدلوا بمارواه ابن أبي شيبة عن الشعبي مرسلا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس بوجهه ثم قال: السلام عليكم، ويحمد الله تعالى ويثني عليه، ويقرأ سورة ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب ثم ينزل، وكان أبو بكر وعمر يفعلانه. والقول الثالث إن القراءة مشروعة فيهما جميعا، وإلى ذلك ذهب العراقيون من أصحاب الشافعي، قال العراقي: وهو الذي اختاره القاضي من الحنابلة. والرابع في الخطبة الثانية دون الاولى، حكاه العمراني ويدل له ما رواه النسائي عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم ويقرأ آيات ويذكر الله عز وجل قال العراقي: وإسناده صحيح، وأجيب عنه بأن قوله يقرأ معطوف على قوله يخطب لا على قوله يقوم. والظاهر من أحاديث الباب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يلازم قراءة سورة أو آية مخصوصة في الخطبة، بل كان يقرأ مرة هذه السورة، ومرة هذه، ومرة هذه الآية، ومرة هذه. باب هيئات الخطبتين وآدابهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة قائما ثم يجلس ثم يقوم كما يفعلون اليوم رواه الجماعة. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما، فمن قال إنه يخطب جالسا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة رواه أحمد ومسلم وأبو داود. قوله: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة قائما فيه أن القيام حال الخطبة مشروع. قال ابن المنذر: وهو الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الامصار اه. واختلف في وجوبه، فذهب الجمهور إلى الوجوب، ونقل عن أبي حنيفة أن القيام سنة
[ 330 ]
وليس بواجب، وإلى ذلك ذهبت الهادوية. واستدل الجمهور على الوجوب بحديثي الباب وبغيرهما من الاحاديث الصحيحة. وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما وأبو بكر وعمر وعثمان وأول من جلس على المنبر معاوية. وروى ابن أبي شيبة أيضا عن الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه ولحمه، ولا شك أن الثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعن الخلفاء الراشدين هو القيام حال الخطبة، ولكن الفعل بمجرده لا يفيد الوجوب كما عرفت غير مرة. قوله: ثم يجلس فيه مشروعية الجلوس بين الخطبتين، وقد تقدم الخلاف في حكمه. قوله: فمن قال إنه يخطب رواية أبي داود: فمن حدثك أنه كان يخطب. ورواية مسلم: فمن نبأك أنه كان يخطب. قوله: أكثر من ألفي صلاة قال النووي: المراد الصلوات الخمس لا الجمعة اه. ولا بد من هذا لان الجمع التي صلاها صلى الله عليه وآله وسلم من عند افتراض صلاة الجمعة إلى عند موته لا تبلغ ذلك المقدار ولا نصفه. وعن الحكم بن حزن الكلفي رضي الله عنه قال: قدمت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سابع سبعة أو تاسع تسعة، فلبثنا عنده أياما شهدنا فيها الجمعة، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوكئا على قوس أو قال على عصا، فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال: أيها الناس إنكم لن تفعلوا ولن تطيقوا كل ما أمرتم ولكن سددوا وأبشروا رواه أحمد وأبو داود. الحديث في إسناده شها ب بن حراش أبو الصلت، وقد اختلف فيه، فقال ابن المبارك: ثقة. وقال أحمد ويحيى بن معين وأبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن حبان: كان رجلا صالحا، وكان ممن يخطئ كثيرا حتى خرج عن الاعتداد به. قال الحافظ: والاكثر وثقوه، وقد صحح الحديث ابن خزيمة وابن السكن، وحسن إسناده الحافظ قال: وله شاهد من حديث البراء بن عازب عند أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطي يوم العيد قوسا فخطب عليه وطوله أحمد والطبراني وصححه ابن السكن. (وفي الباب) عن ابن عباس وابن الزبير عند أبي الشيخ ابن حبان في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الباب أيضا عن عطاء مرسلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خطب يعتمد على عنزته اعتمادا أخرجه الشافعي وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. (الحديث) فيه مشروعية الاعتماد على سيف أو عصى حال الخطبة،
[ 331 ]
قيل: والحكمة في ذلك الاشتغال عن العبث، وقيل: إنه أربط للجأش. وفيه أيضا مشروعية اشتمال الخطبة على الحمد لله والوعظ، وقد تقدم الخلاف في الوعظ. وأما الحمد لله فذهب الجمهور إلى أنه واجب في الخطبة. وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحكي في البحر عن الامام يحيى إنه لا بد في الخطبتين من الحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله إجماعا. وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة رواه أحمد ومسلم. والمئنة العلامة والمظنة. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصدا وخطبته قصدا رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود. وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطيل الصلاة ويقصر الخطبة رواه النسائي. حديث ابن أبي أوفى قال العراقي في شرح الترمذي: إسناده صحيح. وفي الباب عن عبد الله بن مسعود عند البزار: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن قصر الخطبة وطول الصلاة مئنة من فقه الرجل، فطولوا الصلاة واقصروا الخطب، وإن من البيان لسحرا، وأنه سيأتي بعدكم قوم يطيلون الخطب ويقصرون الصلاة وقد رواه الطبراني في الكبير موقوفا على عبد الله. قال العراقي: وهو أولى بالصواب لاتفاق سفيان وزائدة على ذلك وانفراد قيس برفعه. وعن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا بعث أميرا قال: اقصر الخطبة، واقلل الكلام، فإن من الكلام سحرا. وفي إسناده جميع بالفتح ويقال بالضم مصغرا ابن ثوب بضم المثلثة وفتح الواو بعدها، قال البخاري والدارقطني: إن منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث. قوله: مئنة قال النووي بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة أي علامة، قال: وقال الازهري والاكثرون: الميم فيها زائدة وهي مفعلة. قال الهروي قال الازهري: غلط أبو عبيد في جعل الميم أصلية، ورده الخطابي وقال: إنما هي فعيلة. وقال القاضي عياض: قال شيخنا ابن سراج: هي أصلية انتهى. وإنما كان إقصار الخطبة علامة من فقه الرجل، لان الفقيه والمطلع على جوامع الالفاظ،
[ 332 ]
فيتمكن بذلك من التعبير باللفظ المختصر على المعاني الكثيرة. قوله: فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة قال النووي: الهمزة في اقصر همزة وصل. وظاهر الامر بإطالة الصلاة في هذا الحديث المخالفة لقوله في حديث جابر بن سمرة: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصدا وخطبته قصدا. وقال النووي: لا مخالفة لان المراد بالامر بإطالة الصلاة بالنسبة إلى الخطبة لا التطويل الذي يشق على المؤتمين، قال العراقي: أو حيث احتيج إلى التطويل لادراك بعض من تخلف، قال: وعلى تقدير تعذر الجمع بين الحديثين يكون الاخذ في حقنا بقوله لانه أدل، لا بفعله لاحتمال التخصيص انتهى، وقد ذكرنا غير مرة أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بالامة مع عدم وجدان دليل يدل على التأسي في ذلك الفعل بخصوصه وهذا منه. قوله: قصدا القصد في الشئ هو الاقتصاد فيه وترك التطويل. وإنما كانت صلاته صلى الله عليه وآله وسلم وخطبته كذلك لئلا يمل الناس. وأحاديث الباب فيها مشروعية إقصار الخطبة ولا خلاف في ذلك. واختلف في أقل ما يجزئ على أقوال مبسوطة في كتب الفقه. وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوت، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم رواه مسلم وابن ماجة. الحديث تمامه في صحيح مسلم: ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الامور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. قوله: إذا خطب احمرت عيناه فيه أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، ويرفع صوته، ويجزل كلامه، ويظهر غاية الغضب والفزع، لان تلك الاوصاف إنما تكون عند اشتدادهما. قوله: يقول أي منذر الجيش. قوله: صبحكم فاعله ضمير يعود إلى العدو المنذر
[ 333 ]
منه ومفعوله يعود إلى المنذرين. وكذلك قوله: ومساكم أي أتاكم العدو وقت الصباح أو وقت المساء. وعن حصين بن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: كنت إلى جنب عمارة بن رؤيبة وبشر بن مروان يخطبنا، فلما دعا رفع يديه فقال عمارة: يعني قبح الله هاتين اليدين، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر يخطب إذا دعا يقول هكذا فرفع السبابة وحدها رواه أحمد والترمذي بمعناه وصححه. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاهرا يديه قط يدعو على منبر ولا غيره ما كان يدعو إلا يضع يده حذو منكبه ويشير بأصبعه رواه أحمد وأبو داود وقال فيه: لكن رأيته يقول هكذا، وأشار بالسبابة وعقد الوسطى بالابهام. الحديث الاول أخرجه أيضا مسلم والنسائي، والحديث الثاني في إسناده عبد الرحمن ابن إسحاق القرشي ويقال له عباد بن إسحاق وفيه مقال، كذا قال المنذري. (وفي الباب) عن غطيف بن الحرث الثمالي عند أحمد والبزار قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: يا أبا سليمان إنا قد جمعنا الناس على أمرين فقال: وما هما؟ رفع الايدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح، فقال: أما أنهما أمثل بدعتكم عندي ولست بمجيبكم إلى شئ منها. قال: لم؟ قال: لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة وفي إسناده ابن أبي مريم وهو ضعيف، وبقية وهو مدلس. قوله: فقال عمارة يعني لفظ يعني ليس في مسلم ولا في سنن أبي داود ولا الترمذي. قوله: قبح الله هاتين اليدين زاد الترمذي: القصيرتين. (والحديثان) المذكوران في الباب يدلان على كراهة رفع الايدي على المنبر حال الدعاء وأنه بدعة. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرفع يديه في شئ من دعائه إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه وظاهره أنه لم يرفع يديه في غير الاستسقاء، قال النووي: وليس الامر كذلك، بل قد ثبت رفع يديه في الدعاء في مواطن وهي أكثر من أن تحصى، قال: وقد جمعت منها نحوا من ثلاثين حديثا من الصحيحين انتهى. وظاهر حديثي الباب أنها تجوز الاشارة بالاصبع في خطبة الجمعة.
[ 334 ]
باب المنع من الكلام والامام يخطب والرخصة في تكلمه وتكليمه لمصلحة، وفي الكلام قبل أخذه في الخطبة وبعد إتمامها عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والامام يخطب فقد لغوت رواه الجماعة إلا ابن ماجة. وعن علي رضي الله تعالى عنه في حديث له قال: من دنا من الامام فلغا ولم يستمع ولم ينصت كان عليه كفل من الوزر، ومن قال صه فقد لغا، ومن لغا فجمعة له، ثم قال: هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد وأبو داود. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تكلم يوم الجمعة والامام يخطب فهو كمثل حمار يحمل أسفارا، والذي يقول لو أنصت ليس له جمعة رواه أحمد. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: جلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما على المنبر فخطب الناس وتلا آية، وإلى جنبي أبي بن كعب فقلت له: يا أبي متى أنزلت هذه الآية؟ فأبى أن يكلمني، ثم سألته فأبى أن يكلمني، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له أبي ما لك من جمعتك إلا ما لغيت، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جئت فأخبرته فقال: صدق أبي فإذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ رواه أحمد. حديث علي في إسناده رجل مجهول، لان عطاء الخراساني رواه عن مولى امرأته أم عثمان قالت: سمعت عليا الحديث. وعطاء الخراساني وثقه يحيى بن معين وأثنى عليه، وتكلم فيه ابن حبان، وكذبه سعيد بن المسيب. وحديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن أبي شيبة في المصنف، والبزار في مسنده، والطبراني في الكبير، وفي إسناده مجالد ابن سعيد وقد ضعفه الجمهور. وقال الحافظ في بلوغ المرام: لا بأس بإسناده. وحديث أبي الدرداء أخرجه أيضا الطبراني من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء. وروي أيضا من رواية عبد الله بن سعد عن حرب بن قيس، عن أبي الدرداء. قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات. ويشهد له ما أخرجه أبو يعلى والطبراني
[ 335 ]
عن جابر قال: دخل ابن مسعود والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فجلس إلى جنبه أبي فذكر نحو حديث أبي الدرداء. قال العراقي: ورجاله ثقات، ويشهد له أيضا ما رواه الطبراني عن أبي ذر بنحو حديث أبي الدرداء المذكور في الباب. وعن ابن أبي أوفى عند ابن أبي شيبة في المصنف قال: ثلاث من سلم منهن غفر له ما بينه وبين الجمعة الاخرى: من أن يحدث حدثا يعني أذى، أو أن يتكلم، أو أن يقول صه قال العراقي: ورجاله ثقات، قال: وهذا وإن كان موقوفا فمثله لا يقال من قبل الرأي فحكمه الرفع، كما قاله ابن عبد البر وغيره فيما كان من هذا القبيل. ولابن أبي أوفى حديث آخر مرفوع عند النسائي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة وعن جابر عند ابن أبي شيبة أيضا في المصنف قال: قال سعد لرجل يوم الجمعة: لا جمعة لك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لم يا سعد؟ قال: إنه يتكلم وأنت تخطب، قال: صدق سعد يعني ابن أبي وقاص. ورواه أيضا أبو يعلى والبزار وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف عند الجمهور كما تقدم. وعن عبد الله بن عمر عند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يحضر الجمعة ثلاثة نفر: فرجل حضرها يلغو فهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصا ت وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزياد ثلاثة أيام قال العراقي: واسناده جيد. وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير قال: كفى لغوا إذا صعد الامام المنبر أن تقول لصاحبك أنصت قال العراقي: ورجاله ثقات محتج بهم في الصحيح، قال: وهو وإن كان موقوفا فمثله لا يقال من قبل الرأي فحكمه الرفع. قوله: أنصت قال الازهري: يقال أنصت ونصت وانتصت. قال ابن خزيمة: والمراد بالانصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله تعالى، وتعقب بأنه يلزم منه جواز القراءة والذكر حال الخطبة، والظاهر أن المراد السكوت مطلقا، قاله في الفتح وهو ظاهر الاحاديث فلا يجوز من الكلام إلا ما خصه دليل كصلاة التحية، نعم الامر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره يعم جميع الاوقات، والنهي عن الكلام حال الخطبة يعم كل كلام، فيتعارض العمومات، ولكنه يرجح مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره حال الخطبة
[ 336 ]
ما سيأتي في تفسير اللغو من اختصاصه بالكلام الباطل الذي لا أصل له لولا ما سيأتي من الادلة القاضية بالتعميم. قوله: والامام يخطب فيه دليل على اختصاص النهي بحال الخطبة، ورد على من أوجب الانصات من خروج الامام. وكذلك قوله يوم الجمعة ظاهره أن الانصات في خطبة غير يوم الجمعة لا يجب. قوله: فقد لغوت قال في الفتح قال الاخفش: اللغو الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه. وقال ابن عرفة: اللغو السقط من القول. وقيل: الميل عن الصواب. وقيل: اللغو الاثم لقوله تعالى: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72) وقال الزين ابن المنير: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام، وأغرب أبو عبيد الهروي في الغريب فقال: معنى لغا تكلم والصواب التقييد. وقال النضر بن شميل: معنى لغوت خبت من الاجر. وقيل: بطلت فضيلة جمعتك، وقيل: صارت جمعتك ظهرا. قلت: أقوال أهل اللغة متقاربة المعنى، انتهى كلام الفتح. وفي القاموس: اللغو السقط وما لا يعتد به من كلام أو غيره انتهى. ويؤيد قول من قال: إن اللغو صيرورية الجمعة ظهرا ما عند أبي داود وابن خزيمة من حديث ابن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ: من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا. قوله: فلا جمعة له قال العلماء معناه: لا جمعة له كاملة للاجماع على إسقاط فرض الوقت عنه. قوله: فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا شبه من لم يمسك عن الكلام بالحمار الحامل للاسفار بجامع عدم الانتفاع. وظاهر قوله: من تكلم يوم الجمعة المنع من جميع أنواع الكلام من غير فرق بين ما لا فائدة فيه وغيره. ومثله حديث جابر الذي تقدم، وكذلك حديث أبي لاطلاق الكلام فيهما. ويؤيده أنه إذا جعل قوله أنصت مع كونه أمرا بمعروف لغوا فغيره من الكلام أولى بأن يسمى لغوا. وقد وقع عند أحمد بعد قوله: فقد لغوت عليك بنفسك، ويؤيد ذلك أيضا ما تقدم من تسمية السؤال عن نزول الآية لغوا، وقد ذهب إلى تحريم كل كلام حال الخطبة الجمهور، ولكن قيد ذلك بعضهم بالسامع للخطبة، والاكثر لم يقيدوا قالوا: وإذا أراد الامر بالمعروف فليجعله بالاشارة، قال الحافظ: وأغرب ابن عبد البر فنقل الاجماع على وجوب الانصات للخطبة على من سمعها إلا عن قليل من التابعين منهم الشعبي، وتعقبه بأن للشافعي قولين، وكذلك لاحمد، وروى عنهما التفرقة بين من سمع الخطبة ومن لم يسمعها. ولبعض الشافعية التفرقة بين من تنعقد بهم الجمعة فيجب عليهم الانصات، وبين من زاد عليهم فلا يجب. وقد حكى
[ 337 ]
المهدي في البحر عن القاسم وابنه محمد بن القاسم، والمرتضى، ومحمد بن الحسن أنه يجوز الكلام الخفيف حال الخطبة، واستدلوا على ذلك بتقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله عن الساعة ولمن سأله في الاستسقاء، ورد بأن الدليل أخص من الدعوى، وغاية ما فيه أن يكون عموم الامر بالانصات مخصصا بالسؤال. ونقل صاحب المغني الاتفاق على أن الكلام الذي يجوز في الصلاة يجوز في الخطبة، كتحذير الضرير من البئر ونحوه. وخصص بعضهم رد السلام وهو أعم من أحاديث الباب من وجه وأخص من وجه، فتخصيص أحدهما بالآخر فحكم ومثله تشميت العاطس. وقد حكى الترمذي عن أحمد وإسحاق الترخيص في رد السلام وتشميت العاطس. وحكي عن الشافعي خلاف ذلك. وحكى ابن العربي عن الشافعي موافقة أحمد وإسحاق. قال العراقي: وهو أولى مما نقله عنه الترمذي. وقد صرح الشافعي في مختصر البويطي بالجواز فقال: ولو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه لان التشميت سنة، ولو سلم رجل على رجل كرهت ذلك له ورأيت أن يرد عليه، لان السلام سنة، ورده فرض هذا لفظ. وقال النووي في شرح المهذب: إنه الاصح. قال في الفتح: وقد استثنى من الانصات في الخطبة ما إذا انتهى الخطيب إلى كلام لم يشرع في الخطبة مثل الدعاء للسلطان مثلا، بل جزم صاحب التهذيب بأن الدعاء للسلطان مكروه. وقال النووي: محله إذا جاوز وإلا فالدعاء لولاة الامر مطلوب. قال الحافظ: ومحل الترك إذا لم يخف الضرر وإلا فيباح للخطيب إذا خشي على نفسه. قوله: إلا ما لغيت بفتح اللام وبكسر الغين المعجمة لغة في لغوت. وعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطبنا، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما رواه الخمس. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينزل من المنبر يوم الجمعة فيكلمه الرجل في الحاجة ويكلمه ثم يتقدم إلى مصلاه فيصلي رواه الخمسة. وعن ثعلبة بن أبي مالك رضي الله عنه قال: كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن قام
[ 338 ]
عمر، فلم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين كلتيهما، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا رواه الشافعي في مسنده وسنذكر سؤال الاعرابي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاستسقاء في خطبة الجمعة. حديث بريدة قال الترمذي: حسن غريب، إنما نعرفه من حديث الحسين بن واقد انتهى. والحسين المذكور هو أبو علي قاضي مرو، احتج به مسلم في صحيحه. وقال المنذري: ثقة. وحديث أنس قال الترمذي: هذا حديث لا يعرف إلا من حديث جرير بن حازم، وسمعت محمدا يعني البخاري يقول: وهم جرير بن حازم في هذا الحديث، والصحيح ما روى ثابت عن أنس قال: أقيمت الصلاة فأخذ رجل بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما زال يكلمه حتى نعس بعض القوم قال محمد: والحديث هو هذا، وجرير ابن حازم ربما يهم في الشئ وهو صدوق، انتهى كلام الترمذي. وقال أبو داود: الحديث ليس بمعروف، وهو مما تفرد به جرير بن حازم. وقال الدارقطني: تفرد به جرير بن حازم عن ثابت. قال العراقي: ما أعل به البخاري وأبو داود الحديث من أن الصحيح كلام الرجل له بعدما أقيمت الصلاة لا يقدح ذلك في صحة حديث جرير بن حازم، بل الجمع بينهما ممكن بأن يكون المراد بعد إقامة صلاة الجمعة وبعد نزوله من المنبر، فليس الجمع بينهما متعذرا كيف وجرير بن حازم أحد الثقات المخرج لهم في الصحيح، فلا تضر زيادته في كلام الرجل له أنه كان بعد نزوله عن المنبر. قوله: فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه جواز الكلام في الخطبة للامر يحدث. وقال بعض الفقهاء: إذا تكلم أعاد الخطبة، قال الخطابي: والسنة أولى ما اتبع. قوله: فيكلمه الرجل في الحاجة ويكلمه فيه أنه لا بأس بالكلام بعد فراغ الخطيب من الخطبة، وأنه لا يحرم ولا يكره، ونقله ابن قدامة في المغني عن عطا وطاوس والزهري وبكر المزني والنخعي ومالك والشافعي وإسحاق ويعقوب ومحمد قال: وروي ذلك عن ابن عمر انتهى. وإلى ذلك ذهبت الهادوية. وروي عن أبي حنيفة أنه يكره الكلام بعد الخطبة، قال ابن العربي: والاصح عندي أن لا يتكلم بعد الخطبة، لان مسلما قد روى أن الساعة التي في يوم الجمعة هي من حين يجلس الامام على المنبر إلى أن تقام الصلاة، فينبغي أن يتجرد للذكر والتضرع، والذي في مسلم أنها ما بين أن يجلس الامام إلى أن تقضى الصلاة. ومما يرجح ترك الكلام بين الخطبة والصلاة الاحاديث الواردة في الانصات حتى تنقضي الصلاة، كما
[ 339 ]
عند النسائي بإسناد جيد من حديث سلمان بلفظ: فينصت حتى يقضي صلاته وأحمد بإسناد صحيح من حديث نبيشة بلفظ: فاستمع وأنصت حتى يقضي الامام جمعته وكلامه وقد تقدما، ويجمع بين الاحاديث بأن الكلام الجائز بعد الخطبة هو كلام الامام لحاجة، أو كلام الرجل للرجل لحاجة. قوله: وعمر جالس على المنبر فيه جواز الكلام حال قعود الامام على المنبر قبل شروعه في الخطبة، لان ظهور ذلك بين الصحابة من دون نكير يدل على أنه إجماع لهم. وروى أحمد بإسناد قال العراقي: صحيح أن عثمان بن عفان كان وهو على المنبر والمؤذن يقيم يستخبر الناس عن أخبارهم وأسعارهم. قوله: وسنذكر سؤال الاعرابي الخ، سيذكره المصنف في كتاب الاستسقاء. باب ما يقرأ به في صلاة الجمعة وفي صبح يومها عن عبد الله بن أبي رافع رضي الله عنه قال: استخلف مروان أبا هريرة على المدينة وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبو هريرة يوم الجمعة، فقرأ بعد سورة الجمعة في الركعة الآخرة * (إذا جاءك المنافقون) * (المنافقون: 1) فقلت له حين انصرف: إنك قرأت سورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الكوفة، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بهما في الجمعة رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه وسأله الضحاك: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟ قال: كان يقرأ: * (هل أتاك حديث الغاشية) * رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: ب * (سبح اسم ربك الاعلى) * (الاعلى: 1) و * (هل أتاك حديث الغاشية) * (الغاشية: 1) قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الجمعة ب * (سبح اسم ربك الاعلى) * و * (هل أتاك حديث الغاشية) * رواه أحمد والنسائي وأبو داود. حديث سمرة قال العراقي: إسناده صحيح. وفي الباب عن أبي عنبسة الخولاني
[ 340 ]
عند ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الجمعة * (سبح اسم ربك الاعلى) * و * (هل أتاك حديث الغاشية) * وفي إسناده سعيد بن سنان، ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير والبزار في مسنده. وعن ابن عباس وسيأتي. وقد استدل بأحاديث الباب على أن السنة أن يقرأ الامام في صلاة الجمعة في الركعة الاولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين، أو في الاولى: ب * (سبح اسم ربك الاعلى) * وفي الثانية بهل أتاك حديث الغاشية) *. أو في الاولى بالجمعة، وفي الثانية ب * (هل أتاك حديث الغاشيه) *. قال العراقي: والافضل من هذه الكيفيات قراءة الجمعة في الاولى، ثم المنافقين في الثانية، كما نص عليه الشافعي فيما رواه عنه الربيع، وقد ثبتت الاوجه الثلاثة التي قدمناها، فلا وجه لتفضيل بعضها على بعض، إلا أن الاحاديث التي فيها لفظ كان مشعرة بأنه فعل ذلك في أيام متعددة كما تقرر في الاصول. وقال مالك: إنه أدرك الناس يقرؤون في الاول بالجمعة، والثانية بسبح، ولم يثبت ذلك في الاحاديث: وقال الهادي والقاسم والناصر: أنه يندب أن يقرأ في الجمعة مع الفاتحة سورة الجمعة في الاولى، والمنافقين في الثانية أو سبح والغاشية. وقال زيد بن علي: في الاولى السجدة، وفي الثانية الدهر. وقال أبو حنيفة وأصحابه ورواه ابن أبي شيبة في المصنف عن الحسن البصري أنه يقرأ الامام بما شاء. وقال ابن عيينة أنه يكره أن يتعمد القراءة في الجمعة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لئلا يجعل ذلك من سننها وليس منها. قال ابن العربي: وهو مذهب ابن مسعود، وقد قرأ فيها أبو بكر الصديق بالبقرة. وحكى ابن عبد البر في الاستذكار عن أبي إسحاق المروزي مثل قول أبي عيينة، وحكى عن ابن أبي هريرة مثله، وخالفهم جمهور العلماء، وممن خالفهم من الصحابة علي وأبي هريرة، قال العراقي: وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور. (والحكمة) في القراءة في الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين ما أخرجه الطبراني في الاوسط عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة فيحرض به المؤمنين، وفي الثانية بسورة المنافقين فيفزع المنافقين. قال العراقي: وفي إسناده من يحتاج إلى الكشف عنه. قال الطبراني: لم يروه عن أبي جعفر إلا منصور، تفرد به عنه عمرو بن أبي قيس. وقد اختلف فيه على منصور فرفعه عنه عمرو بن أبي قيس، وخالفه في إسناده جرير بن حازم، وأعضله فرواه عن منصور عن إبراهيم عن الحكم عن أناس من أهل المدينة.
[ 341 ]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الصبح: * (الم تنزيل) * (السجدة: 1) و * (هل أتى على الانسان) * (الانسان: 1) وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: * (آلم تنزيل) * و * (هل أتى على الانسان) * رواه الجماعة إلا الترمذي وأبا داود، لكنه لهما من حديث ابن عباس. وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص عند ابن ماجة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: * (الم تنزيل) * و * (هل أتى على الانسان) * وأورده ابن عدي في الكامل وفي إسناده الحرث بن شهاب وهو متروك الحديث. وعن ابن مسعود عند ابن ماجة أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: * (آلم تنزيل) * و * (هل أتى) * وقد رواه الطبراني ورجاله ثقات. وعن علي بن أبي طالب عليه السلام عند الطبراني في معجميه الصغير والاوسط بنحو الذي قبله، وفي إسناده حفص بن سليمان الغاضري ضعفه الجمهور. (وهذه الاحاديث) فيها مشروعية قراءة تنزيل السجدة وهل أتى على الانسان. قال العراقي: وممن كان يفعله من الصحابة عبد الله بن عباس. ومن المتابعين: إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث وكرهه مالك وآخرون. قال النووي: وهم محجوجون بهذه الاحاديث الصحيحة الصريحة المروية من طرق. واعتذر مالك عن ذلك بأن حديث أبي هريرة من طريق سعد بن إبراهيم وهو مردود، أما أولا فبأن سعد بن إبراهيم قد اتفق الائمة على توثيقه. قال العراقي: ولم أر من نقل عن مالك تضعيفه غير ابن العربي، ولعل الذي أوقعه في ذلك هو أن مالكا لم يرو عنه. قال ابن عبد البر: وأما امتناع مالك عن الرواية عن سعد فلكونه طعن في نسب مالك. وأما ثانيا فغاية هذا الاعتذار سقوط الاستدلال بحديث أبي هريرة دون بقية أحاديث الباب. قال الحافظ: ليس في شئ من الطرق التصريح بأنه صلى الله عليه وآله وسلم سجد لما قرأ سورة تنزيل في هذا المحل إلا في كتاب الشريعة لابن أبي داود من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غدوت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة في صلاة الفجر فقرأ سورة فيها سجدة فسجد الحديث. وفي إسناده من ينظر في حاله،
[ 342 ]
وللطبراني في الصغير من حديث علي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد في صلاة الصبح في تنزيل السجدة لكن في إسناده ضعف انتهى. قال العراقي: قد فعله عمر بن الخطاب، وعثمان ابن عفان، وابن مسعود، وابن عمر، وعبد الله بن الزبير، وهو قول الشافعي وأحمد، وقد كرهه في الفريضة من التابعين أبو مجلز، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وبعض الحنابلة، ومنعته الهادوية، وقد قدمنا بعض حجج الفريقين في أبواب سجود التلاوة. وقد اختلف القائلون باستحباب قراءة: آلم تنزيل السجدة في يوم الجمعة هل للامام أن يقرأ بدلها سورة أخرى فيها سجدة فيسجد فيها أو يمتنع ذلك؟ فروى ابن أبي شيبة في المصنف عن إبراهيم النخعي قال: كان يستحب أن يقرأ يوم الجمعة بسورة فيها سجدة، وروي أيضا عن ابن عباس. وقال ابن سيرين: لا أعلم به بأسا، قال النووي في الروضة من زوائده: لو أراد أن يقرأ آية أو آيتين فيهما سجدة لغرض السجود فقط لم أر فيه كلاما لاصحابنا قال: وفي كراهته خلاف السلف. وأفتى الشيخ ابن عبد السلام بالمنع من ذلك وبطلان الصلاة به. وروى ابن أبي شيبة عن أبي العالية والشعبي كراهة اختصار السجود، زاد الشعبي: وكانوا يكرهون إذا أتوا على السجدة، أن يجاوزوها حتى يسجدوا. وكره اختصار السجود ابن سيرين. وعن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون أن تختصر السجدة. وعن الحسن أنه كره ذلك. وروي عن سعيد بن المسيب وشهر بن حوشب أن اختصار السجود مما أحدث الناس، وهو أن يجمع الآيات التي فيها السجود فيقرأها ويسجد فيها. وقيل: اختصار السجود أن يقرأ القرآن إلا آيات السجود فيحذفها، وكلاهما مكروه لانه لم يرد عن السلف. باب انفضاض العدد في أثناء الصلاة أو الخطبة عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا، فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) * (الجمعة: 11) رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. وفي رواية: أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة فانفض الناس إلا اثني عشر
[ 343 ]
رجلا فنزلت هذه الآية: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) * (الجمعة: 11) رواه أحمد والبخاري. قوله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب قائما ظاهره أن الانفضاض وقع حال الخطبة وظاهر قوله في الرواية الاخرى: ونحن نصلي مع النبي (ص) أن الانفضاض وقع بعد دخولهم في الصلاة. ويؤيد الرواية الاولى ما عند أبي عوانة من طريق عباد بن العوام، وعند ابن حميد من طريق سليمان بن كثير، كلاهما عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بلفظ: يخطب وكذا وقع في حديث ابن عباس عند البزار. وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني في الاوسط. وفي مرسل قتادة عند الطبراني وغيره، وعلى هذا فقوله: نصلي أي ننتظر الصلاة، وكذا يحمل قوله: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة كما وقع في مستخرج أبي نعيم، على أن المراد بقوله في الصلاة أي في الخطبة، وهو من تسمية الشئ باسم ما يقارنه، وبهذا يجمع بين الروايات. ويؤيده استدلال ابن مسعود على القيام في الخطبة بالآية المذكورة كما أخرجه ابن ماجة بإسناد صحيح. وكذلك استدلال كعب بن عجرة كما في صحيح مسلم على ذلك. قوله: فجاءت عير من الشام العير بكسر العين الابل التي تحمل التجارة طعاما كانت أو غيره، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، ولابن مردويه عن ابن عباس: جاءت عير لعبد الرحمن بن عوف ووقع عند الطبراني عن أبي مالك أن الذي قدم بها من الشام دحية بن خليفة الكلبي، وكذلك في حديث ابن عباس عند البزار، وجمع بين الروايتين بأن التجارة كانت لعبد الرحمن، وكان دحية السفير فيها أو كان مقارضا وقع. وفي رواية ابن وهب عن الليث أنها كانت لوبرة الكلبي، ويجمع بأنه كان رفيق دحية. قوله: فانفتل الناس إليها وفي الرواية الاخرى: فانفض الناس إليها وهو موافق للفظ القرآن. وفي رواية للبخاري: فالتفتوا إليها والمراد بالانفتال والالتفات الانصراف، يدل على ذلك رواية فانفض. وفيه رد على من حمل الالتفات على ظاهره وقال: لا يفهم منه الانصراف عن الصلاة وقطعها، وإنميفهم منه التفاتهم بوجوههم أو بقلوبهم، وأيضا لو كان الالتفات على ظاهره لما وقع الانكار الشديد لانه لا ينافي الاستماع للخطبة. قوله: إلا اثنا عشر رجلا قال الكرماني: ليس هذا الاستثناء مفرغا فيجب رفعه، بل هو من ضمير لم يبق العائد إلى الناس فيجوز فيه الرفع والنصب، قال: وثبت الرفع في بعض الروايات. ووقع عند الطبراني إلا أربعين رجلا وقال: تفرد به علي بن عاصم وهو ضعيف الحفظ، وخالفه أصحاب حصين كلهم. ووقع عند ابن مردويه من رواية
[ 344 ]
ابن عباس وسبع نسوة بعد قوله: إلا اثنا عشر رجلا، وفي تفسير إسماعيل بن زياد الشامي وامرأتان. وقد سمي من الجماعة الذين لم ينفضوا أبو بكر وعمر عند مسلم. وفي رواية له: أن جابرا قال: أنا فيهم، وفي تفسير الشامي أن سالما مولى أبي حذيفة منهم. وروى العقيلي عن ابن عباس أن منهم الخلفاء الاربعة وابن مسعود وأناسا من الانصار، وروى السهيلي بسند منقطع أن الاثني عشر هم العشرة المبشرة بالجنة وبلال وابن مسعود. قال: وفي رواية عمار بدل ابن مسعود. قال في الفتح: ورواية العقيلي أقوى وأشبه. قوله: فأنزلت هذه الآية ظاهر في أنها نزلت بسبب قدوم العير المذكورة. والمراد باللهو على هذا ما ينشأ من رؤية القادمين وما معهم. ووقع عند الشافعي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة وكان لهم سوق كانت بنو سليم يجلبون إليه الخيل والابل والسمن، فقدموا فخرج إليهم الناس وتركوه قائما وكان لهم لهو يضربونه فنزلت ووصله أبو عوانة في صحيحه. قوله: انفضوا إليها قيل: النكتة في عود الضمير إلى التجارة دون اللهو، أن اللهو لم يكن مقصودا، وإنما كان تبعا للتجارة. وقيل: حذف ضمير أحدهما لدلالة الآخر عليه. وقال الزجاج: أعيد الضمير إلى المعنى أي انفضوا إلى الرؤية. (والحديث) استدل به من قال: إن عدد الجمعة اثنا عشر رجلا، وقد تقدم بسط الكلام في ذلك، وقد استشكل الاصيلي حديث الباب فقال: إن الله تعالى قد وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ثم أجاب باحتمال أن يكون هذا الحديث قبل نزول الآية. قال الحافظ: وهذا الذي يتعين المصير إليه مع أنه ليس في آية النور التصريح بنزولها في الصحابة، وعلى تقدير ذلك فلم يكن تقدم لهم نهي عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة وفهموا منها ذم ذلك اجتنبوه، فوصفوا بعد ذلك بما في آية النور. باب الصلاة بعد الجمعة وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا
[ 345 ]
صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات رواه الجماعة إلا البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته رواه الجماعة. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين، ثم تقدم فصلى أربعا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد، فقيل له في ذلك، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك رواه أبو داود. حديث ابن عمر الآخر سكت عنه أبو داود والمنذري، وقال العراقي: إسناده صحيح، وفي الباب عن ابن عباس عند الطبراني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بعد الجمعة أربعا وفي إسناد مبشر بن عبيد وهو ضعيف جدا. وفي السند ضعفاء غيره عن ابن مسعود عند الترمذي موقوفا عليه: أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا. قوله: إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها الخ، لفظ أبي داود والترمذي وهو أحد ألفاظ مسلم: من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا قال النووي في شرح مسلم: نبه بقوله من كان منكم مصليا على أنها سنة ليست بواجبة، وذكر الاربع لفضلها وفعل الركعتين في أوقات بيانا لان أقلها ركعتان قال: ومعلوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في أكثر الاوقات أربعا لانه أمرنا بهن وحثنا عليهن. قال العراقي: وما ادعي من أنه معلوم فيه نظر، بل ليس ذلك بمعلوم ولا مظنون، لان الذي صح عنه صلاة ركعتين في بيته، ولا يلزم من كونه أمر به أن يفعله، وكون ابن عمر بن الخطاب كان يصلي بمكة بعد الجمعة ركعتين ثم أربعا، وإذا كان بالمدينة صلى بعدها ركعتين في بيته، فقيل له فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك، فليس في ذلك علم ولا ظن أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل بمكة ذلك، وإنما أراد رفع فعله بالمدينة فحسب، لانه لم يصح أنه صلى الجمعة بمكة، وعلى تقدير وقوعه بمكة منه فليس ذلك في أكثر الاوقات، بل نادرا، وربما كانت الخصائص في حقه بالتخفيف في بعض الاوقات، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم: كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش الحديث فربما لحقه تعب من ذلك، فاقتصر على الركعتين في بيته وكان يطيلهما، كما ثبت في رواية النسائي، وأفضل الصلاة طول القنوت أي القيام، فلعلهما كانت أطول من أربع ركعات خفاف أو متوسطات انتهى. (والحاصل) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الامة أمرا مختصا بهم بصلاة أربع ركعات بعد الجمعة وأطلق ذلك، ولم يقيده بكونها في البيت، واقتصاره صلى الله عليه وآله وسلم على ركعتين كما في حديث ابن
[ 346 ]
عمر لا ينافي مشروعية الاربع لما تقرر في الاصول من عدم المعارضة بين قوله الخاص بالامة وفعله الذي لم يقترن بدليل خاص يدل على التأسي به فيه، وذلك لان تخصيصه للامة بالامر يكون مخصصا لادلة التأسي العامة. قوله: ركعتين في بيته استدل به على أن سنة الجمعة ركعتان. وممن فعل ذلك عمران بن حصين، وقد حكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد، قال العراقي: لم يرد الشافعي وأحمد بذلك إلا بيان أقل ما يستحب، وإلا فقد استحبا أكثر من ذلك، فنص الشافعي في الام على أنه يصلي بعد الجمعة أربع ركعات ذكره في باب صلاة الجمعة والعيدين. ونقل ابن قدامة عن أحمد أنه قال: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين، وإن شاء صلى أربعا، وفي رواية عنه: وإن شاء ستا، وكان ابن مسعود والنخعي وأصحاب الرأي يرون أن يصلي بعدها أربعا لحديث أبي هريرة. وعن علي عليه السلام وأبي موسى وعطاء ومجاهد وحميد بن عبد الرحمن والثوري أنه يصلي ستا لحديث ابن عمر المذكور في الباب. (وقد اختلف) في الاربع الركعات هل تكون متصلة بتسليم في آخرها أو يفصل بين كل ركعتين بتسليم؟ فذهب إلى الاول أهل الرأي وإسحاق بن راهويه وهو ظاهر حديث أبي هريرة، وذهب إلى الثاني الشافعي والجمهور كما قال العراقي، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة النهار مثنى مثنى أخرجه أبو داود وابن حبان في صحيحه وقد تقدم، والظاهر القول الاول لان دليله خاص، ودليل القول الآخر عام، وبناء العام على الخاص واجب. قال أبو عبد الله المازري وابن العربي: أن أمره صلى الله عليه وآله وسلم لمن يصلي بعد الجمعة بأربع لئلا يخطر على بال جاهل أنه صلى ركعتين لتكملة الجمعة، أو لئلا يتطرق أهل البدع إلى صلاتها ظهرا أربعا. (واختلف) أيضا هل الافضل فعل سنة الجمعة في البيت أو في المسجد؟ فذهب إلى الاول الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة وأما صلاة ابن عمر في مسجد مكة فقيل لعله كان يريد التأخر في مسجد مكة للطواف بالبيت، فيكره أن يفوته بمضيه إلى منزله لصلاة سنة الجمعة، أو أنه يشق عليه الذهاب إلى منزله ثم الرجوع إلى المسجد للطواف، أو أنه كان يرى النوافة تضاعف بمسجد مكة دون بقية مكة أو كان له أمر متعلق به.
[ 347 ]
باب ما جاء في اجتماع العيد والجمعة عن زيد بن أرقم رضي الله عنه وسأله معاوية: هل شهدت مع رسوالله صلى الله عليه وآله وسلم عيدين اجتمعا قال: نعم صلى العيد أول النهار ثم رخص في الجمعة فقال: من شاء أن يجمع فليجمع رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال: قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزاه من الجمعة وإنا مجمعون رواه أبو داود وابن ماجة. وعن وهب بن كيسان رضي الله عنه قال: اجتمع عيدان على عهد اب الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب، ثم نزل فصلى ولم يصل للناس يوم الجمعة، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: أصاب السنة رواه النسائي وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء. ولابي داود أيضا عن عطاء قال: اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر على عهد ابن الزبير فقال: عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما جميعا فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر. حديث زيد بن أرقم أخرجه أيضا النسائي والحاكم وصححه علي بن المديني، وفي إسناده إياس بن أبي رملة وهو مجهول. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا الحاكم وفي إسناده بقية بن الوليد، وقد صحح أحمد بن حنبل والدارقطني إرساله، ورواه البيهقي موصولا مقيدا بأهل العوالي وإسناده ضعيف، وفعل ابن الزبير وقول ابن عباس أصاب السنة رجاله رجال الصحيح. وحديث عطاء رجاله رجال الصحيح. (وفي الباب) عن ابن عباس عند ابن ماجة قال الحافظ: وهو وهم منه نبه عليه هو. وعن ابن عمر عند ابن ماجة أيضا وإسناده ضعيف. ورواه الطبراني من وجه آخر عن ابن عمر، ورواه البخاري من قول ابن عثمان. ورواه الحاكم من قول بن الخطاب، كذا قال الحافظ. قوله: ثم رخص في الجمعة الخ، فيه أن صلاة الجمعة في يوم العيد يجوز تركها، وظاهر الحديثين عدم الفرق بين من صلى العيد ومن لم يصل، وبين الامام وغيره، لان قوله لمن شاء يدل على أن الرخصة تعم كل أحد، وقد ذهب الهادي والناصر والاخوان إلى أن صلاة الجمعة تكون رخصة لغير الامام وثلاثة، واستدلوا بقوله في حديث أبي هريرة: وإنا مجمعون
[ 348 ]
وفيه أن مجرد هذا الاخبار لا يصلح للاستدلال به على المدعي أعني الوجوب، ويدل على عدم الوجوب أن الترخيص عام لكل أحد ترك ابن الزبير للجمعة وهو الامام إذ ذاك. وقول ابن عباس: أصاب السنة رجاله رجال الصحيح وعدم الانكار عليه من أحد من الصحابة. وأيضا لو كانت الجمعة واجبة على البعض لكانت فرض كفاية وهو خلاف معنى الرخصة، وحكى في البحر عن الشافعي في أحد قوليه، وأكثر الفقهاء أنلا ترخيص لان دليل وجوبها لم يفصل. وأحاديث الباب ترد عليهم. وحكي عن الشافعي أيضا أن الترخيص يختص بمن كان خارج المصر، واستدل له بقول عثمان: من أراد من أهل العوالي أن يصلي معنا الجمعة فليصل، ومن أحب أن ينصرف فليفعل، ورده بأن قول عثمان لا يخصص قوله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: لم يزد عليهما حتى صلى العصر ظاهره أنه لم يصل الظهر، وفيه أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر، وإليه ذهب عطاء، حكي ذلك عنه في البحر، والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بإن الجمعة الاصل، وأنت خبير بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل، ولا دليل يصلح للتمسك به على ذلك فيما أعلم. قال المصنف رحمه الله تعالى. بعد أن ساق الرواية المتقدمة عن ابن الزبير: قلت إنما وجه هذا أنه رأى تقدمة الجمعة قبل الزوال فقدمها واجتزأ بها عن العيد انتهى. ولا يخفى ما في هذا الوجه من التعسف. كتاب العيدين العيد مشتق من العود، فكل عيد يعود بالسرور وإنما جمع على أعياد بالياء للفرق بينه وبين أعواد الخشب، وقيل غير ذلك. وقيل أصله عود بكسر العين وسكون الواو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها مثل ميعاد وميقات وميزان. قال الخليل: وكل يوم مجمع كأنهم عادوا إليه. وقال ابن الانباري: يسمى عيدا للعود في الفرح والمرح. وقيل: سمي عيدا لان كل إنسان يعود فيه إلى قدر منزلته، فهذا يضيف وهذا يضاف. وهذا يرحم وهذا يرحم. وقيل: سمي عيدا لشرفه من العيدوهو محل كريم مشهور في العرب تنسب إليه الابل العيدية.
[ 349 ]
باب التجمل للعيد وكراهة حمل السلاح فيه إلا لحاجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وجد عمر حلة من استبرق تباع في السوق فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد، فقال: إنما هذه لباس من لا خلاق له متفق عليه. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس برد حبرة في كل عيد رواه الشافعي. وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه، فلزقت قدمه بالركاب فنزلت فنزعتها وذلك بمنى، فبلغ الحجاج فجاء يعوده، فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟ فقال ابن عمر: أنت أصبتني، قال: وكيف؟ قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم رواه البخاري وقال: قال الحسن نهوا أن يحملوا السلاح يوم عيد إلا أن يخافوا عدوا. حديث جعفر بن محمد رواه الشافعي عن شيخه إبراهيم بن محمد، عن جعفر، وإبراهيم بن محمد المذكور لا يحتج بما تفرد به، ولكنه قد تابعه سعيد بن الصلت عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن ابن عباس به، كذا أخرجه الطبراني، قال الحافظ: فظهر أن إبراهيم لم يتفرد به، وأن رواية إبراهيم مرسلة. وفي الباب عن جابر عند ابن خزيمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس برده الاحمر في العيدين وفي الجمعة. قوله: من استبرق في رواية للبخاري: رأى حلة سيراء والاستبراق ما غلظ من الديباج، والسيراء قد تقدم الكلام عليه في اللباس. قوله: ابتع هذا فتجمل في رواية للبخاري: ابتع هذه تجمل بها. وفي رواية: ابتع هذه وتجمل. قوله: للعيد والوفد في لفظ للبخاري: للجمعة مكان العيد. قال الحافظ: وكلاهما صحيح، وكان ابن عمر ذكرهما معا فاقتصر كل راو على أحدهما. قوله: إنما هذه لباس من لا خلاق له الخلاق النصيب. وفيه دليل على تحريم لبس الحرير، وقد تقدم بسط الكلام على ذلك في اللباس، ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية التجمل للعيد تقريره صلى الله عليه وآله وسلم لعمر على أصل التجمل للعيد، وقصر الانكار على من لبس مثل تلك الحلة لكونها
[ 350 ]
كانت حرير. وقال الداودي: ليس في الحديث دلالة على ذلك. وأجاب ابن بطال بأنه كان معهودا عندهم أن يلبس المرء أحسن ثيابه للجمعة، وتبعه ابن التين، والاستدلال بالتقرير أولى كما تقدم. قوله: برد حبرة كعنبة ضرب من برود اليمن كما في القاموس. قوله: أخمص قدمه الاخمص بإسكان الخاء المعجمة وفتح الميم بعدها صاد مهملة باطن القدم ومارق من أسفلها. وقيل: هو ما لا تصيبه الارض عند المشي من باطنها. قوله: بالركاب أي وهي في راحلته. قوله: فنزعتها ذكر الضمير مؤثنا مع أنه أعاده على السنان وهو مذكر، لانه أراد الحديدة، ويحتمل أنه أراد القدم. قوله: فبلغ الحجاج أي ابن يوسف الثقفي وكان إذ ذاك أميرا على الحجاز، وذلك بعد قتل عبد الله بن الزبير سنة ثلاث وسبعين. قوله: فجاء يعوده في رواية للبخاري: فجعل يعوده، وفي رواية الاسماعيلي: فأتاه. قوله: لو نعلم لو للتمني، ويحتمل أن تكون شرطية، والجواب محذوف لدلالة السياق عليه، ويرجح ذلك ما أخرجه ابن سعد بلفظ: لو نعلم من أصابك عاقبناه وله من وجه آخر: لو أعلم الذي أصابك لضربت عنقه. قوله: أنت أصبتني نسبة الفعل إلى الحجاج لكونه سببا فيه. وحكى الزبير في الانساب أن عبد الملك لما كتب إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر شق عليه وأمر رجلا معه حربة يقال إنها كانت مسمومة فلصق ذلك الرجل به فأمر الحربة على قدمه فمرض منها أياما ثم مات، وذلك في سنة أربع وسبعين، وقد ساق هذه القصة في الفتح ولم يتعقبها، وصدور مثلها غير بعيد من الحجاج، فإنه صاحب الافاعيل التي تبكي لها عيون الاسلام وأهله. قوله: حملت السلاح أي فتبعك أصحابك في حمله. قوله: في يوم لم يكن يحمل فيه هذا محل الدليل على كراهة حمل السلاح يوم العيد، وهو مبني على أن قول الصحابي كان يفعل كذا على البناء للمجهول له حكم الرفع، وفيه خلاف معروف في الاصول. قوله: قال الحسن: نهوا أن يحملوا السلاح قال الحافظ: لم أقف عليه موصولا، إلا أن ابن المنذر قد ذكر نحوه عن الحسن، وفيه تقييد لاطلاق قول ابن عمر أنه لا يحمل، وقد ورد مثله مرفوعا مقيدا وغير مقيد، فروى عبد الرزاق بإسناد مرسل قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج بالسلاح يوم العيد. وروى ابن ماجة بإسناد ضعيف عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يلبس السلاح في بلاد الاسلام في العيدين إلا أن يكون بحضرة العدو. وهذا كله في العيدين، فأما الحرم فروى مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحمل
[ 351 ]
السلاح بمكة. وسيأتي الجمع بينه وبين أحاديث دخوله صلى الله عليه وآله وسلم مكة بالسلاح في باب المحرم يتقلد بالسيف من كتاب الحج. باب الخروج إلى العيد ماشيا والتكبير فيه وما جاء في خروالنساء عن علي عليه السلام رضي الله تعالى عنه قال: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا، وأن يأكل شيئا قبل أن يخرج رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نخرجهن في الفطر والاضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة. وفي لفظ: المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لتلبسها أختها من جلبابها رواه الجماعة. وليس للنسائي فيه أمر الجلباب. ولمسلم وأبي داود في رواية والحيض يكن خلف الناس يكبرن مع الناس. وللبخاري: قالت أم عطية: كنا نؤمر أن نخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهن. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه كان إذا غدا إلى المصلى كبر فرفع صوته بالتكبير. وفي رواية: كان يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس، فيكبر حتى يأتي المصلى، ثم يكبر بالمصلى حتى إذا جلس الامام ترك التكبير رواهما الشافعي. حديث علي أخرجه أيضا ابن ماجة، وفي إسناده الحرث الاعور، وقد اتفقوا على أنه كذاب كما قال النووي في الخلاصة. ودعوى الاتفاق غير صحيحة، فقروى عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن معين أنه قال فيه ثقة. وقال النسائي مرة: ليس به بأس، ومرة ليس بالقوي. وروى عباس الدوري عن ابن معين أنه قال: لا بأس به. وقال أبو بكر بن أبي داود: كان أفقه الناس، وأفرض الناس، وأحسب الناس، تعلم الفرائض من علي، نعم كذبه الشعبي وأبو إسحاق السبيعي وعلي بن المديني. وقال أبو زرعة: لا يحتج به. وقال ابن حبان: كان غالبا في التشيع واهيا في الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف، وضرب يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على حديثه. قال في الميزان: والجمهور على توهين أمره مع روايتهم لحديثه في الابواب، قال: وحديثه في السنن الاربع والنسائي مع تعنته في الجراح، قد احتج به وقوي أمره، قال: وكان من أوعية العلم.
[ 352 ]
(وفي الباب) عن ابن عمر عند ابن ماجة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج إلى العيد ماشيويرجع ماشيا وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العمري كذبه أحمد. وقال أبو زرعة وأبو حاتم والنسائي: متروك. وقال البخاري: ليس ممن يروى عنه. وعسعد القرظ عند ابن ماجة أيضا بنحو حديث ابن عمر، وفي إسناده أيضا عبد الرحمن بسعد بن عمار بن سعد القرظ عن أبيه عن جده، وقد ضعفه ابن معين، وأبوه سعد بن عمار، قال في الميزان: لا يكاد يعرف، وجده عمار بن سعد قال فيه البخاري: لا يتابع على حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات. وعن أبي رافع عند ابن ماجة أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي العيد ماشيا وفي إسناده مندل بن علي، ومحمد بن عبد الله بن أبي رافع. ومندل متكلم فيه وقد ضعفه أحمد. وقال ابن معين: لا بأس به. ومحمد قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بشئ. وعن سعد بن أبي وقاص عند البزار في مسنده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى العيد ماشيا، ويرجع في طريق غير الطريق الذي خرج منه وفي إسناده خالد بن إلياس ليس بالقوي، كذا قال البزار. وقال ابن معين والبخاري: ليس بشئ. وقال أحمد والنسائي: متروك. وحديث أم عطية أخرجه من ذكر المصنف. (وفي الباب) عن ابن عباس عند ابن ماجة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج بناته ونساءه في العيدين وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وهو مختلف فيه. وقد رواه الطبراني من وجه آخر. وعن جابر عند أحمد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج في العيدين ويخرج أهله وفي إسناده الحجاج المذكور. وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس للنساء نصيب في الخروج إلا المضطرة ليس لها خادم إلا في العيدين الاضحى والفطر وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك. وعن ابن عمرو بن العاص عند الطبراني أيضا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإخراج العواتق والحيض وفي إسناده يزيد ابن شداد وعتبة بن عبد الله وهما مجهولان، قال أبو حاتم الرازي. وعن عائشة عند ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد في المسند أنها قالت: قد كانت الكعاب تخرج لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خدرها في الفطر والاضحى قال العراقي: ورجاله رجال الصحيح، ولكنه من رواية أبي قلابة عن عائشة. وقد قال
[ 353 ]
ابن أبي حاتم: أنها مرسلة. وفيه أن أبا قلابة أدرك علي بن أبي طالب عليه السلام. وقد قال أبو حاتم: إن أبا قلابة لا يعرف له تدليس. ولعائشة حديث آخر عند الطبراني في الاوسط قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل تخرج النساء في العيدين؟ قال: نعم. قيل: فالعواتق؟ قال: نعم فإن لم يكن لها ثوب تلبسه فلتلبس ثوب صاحبتها وفي إسناده مطيع بن ميمون، قال ابن عدي له حديثان غير محفوظين. قال العراقي: وله هذا الحديث فهو ثالث. وقال فيه علي بن المديني: ذاك شيخ عندنا ثقة. وعن عمرة أخت عبد الله بن رواحة عند أحمد وأبي يعلى والطبراني في الكبير: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وجب الخروج على كل ذات نطاق. زاد أبو يعلى: يعني في العيدين. وقال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من رواية امرأة من عبد القيس عنها. والاثر الذي ذكره المصنف عن ابن عمر أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي مرفوعا وموقوفا وصحح وقفه. قوله: من السنة أن يخرج ماشيا فيه مشروعية الخروج إلى صلاة العيد والمشي إليها وترك الركوب، وقد روى الترمذي ذلك عن أكثر أهل العلم. وحديث الباب وإن كان ضعيفا فما ذكرنا من الاحاديث الواردة بمعناه تقويه، وهذا حسنه الترمذي. وقد استدل العراقي لاستحباب المشي في صلاة العيد بعموم حديث أبي هريرة المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون فهذا عام في كل صلاة تشرع فيها الجماعة، كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء. قال: وقد ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يأتي إلى صلاة العيد ماشيا، فمن الصحابة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. ومن التابعين: إبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز. ومن الائمة: سفيان الثوري والشافعي وأحمد وغيرهم. وروي عن الحسن البصري أنه كان يأتي صلاة العيد راكبا، ويستحب أيضا المشي في الرجوع، كما في حديث ابن عمر وسعد القرظ، وروى البيهقي في حديث الحرث عن علي أنه قال: من السنة أن تأتي العيد ماشيا ثم تركب إذا رجعت قال العراقي: وهذا أمثل من حديث ابن عمر وسعد القرظ، وهو الذي ذكره أصحابنا يعني الشافعية. قوله: وأن يأكل. فيه استحباب الاكل قبل الخروج إلى الصلاة، وهذا مختص بعيد الفطر، وأما عيد النحر فيؤخر الاكل حتى يأكل من أضحيته لما سيأتي في الباب الذي بعد هذا. قوله: العواتق جمع عاتق، وهي المرأة الشابة أول ما تدرك. وقيل: هي التي لم تبن من والديها ولم تزوج بعد إدراكها، وقال
[ 354 ]
ابن دريد: هي التي قاربت البلوغ. قوله: وذوات الخدور جمع خدر بكسر الخاء المعجمة وهو ناحية في البيت يجعل عليها ستر فتكون فيه الجارية البكر وهي المخدرة أي خدرت في الخدر. قوله: لا يكون لها جلباب الجلباب بكسر الجيم وبتكرار الموحدة وسكون اللام قيل: هو الازار والرداء، وقيل: الملحفة. وقيل: المقنعة تغطي بها المرأة رأسها وظهرها. وقيل: هو الخمار. (والحديث) وما في معناه من الاحاديث قاضية بمشروعية خروج النساء في العيدين إلى المصلى من غير فربين البكر والثيب، والشابة والعجوز، والحائض وغيرها، ما لم تكن معتدة أو كان في خروجها فتنة أو كان لها عذر. (وقد اختلف) العلماء في ذلك على أقوال. أحدها: أن ذلك مستحب وحملوا الامر فيه على الندب، ولم يفرقوا بين الشابة والعجوز، وهذا قول أبي حامد من الحنابلة، والجرجاني من الشافعية، وهو ظاهر إطلاق الشافعي. القول الثاني: التفرقة بين الشابة والعجوز، قال العراقي: وهو الذي عليه جمهور الشافعية تبعا لنص الشافعي في المختصر. والقول الثالث: أنه جائز غير مستحب لهن مطلقا، وهو ظاهر كلام الامام أحمد فيما نقله عنه ابن قدامة. والرابع: أنه مكروه، وقد حكاه الترمذي عن الثوري وابن المبارك، وهو قول مالك وأبي يوسف، وحكاه ابن قدامة عن النخعي ويحيى بن سعيد الانصاري. وروى ابن أبي شيبة عن النخعي أنه كره للشابة أن تخرج إلى العيد. القول الخامس: إنه على النساء الخروج إلى العيد، حكاه القاضي عياض عن أبي بكر وعلي وابن عمر وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي بكر وعلي أنهما قالا: حق على كل ذات نطاق الخرو إلى العيدين انتهى. والقول بكراهة الخروج على الاطلاق رد للاحاديث الصحيحة بالآراء الفاسدة، وتخصيص الشواب يأباه صريح الحديث المتفق عليه وغيره. قوله: يكبرن مع الناس. وكذلك قوله: يشهدن الخير ودعوة المسلمين يرد ما قاله الطحاوي أن خروج النساء إلى العيد كان في صدر الاسلام لتكثير السواد ثم نسخ. وأيضا قد روى ابن عباس خروجهن بعد فتح مكة، وقد أفتت به أم عطية بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمدة كما في البخاري. قوله: إذا غدا إلى المصلى كبر فيه إن صح رفعه دليل على مشروعية التكبير حال المشي إلى المصلى. وقد روى أبو بكر النجاد عن الزهري أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج يوم الفطر فيكبر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى وهو عند ابن أبي شيبة عن الزهري مرسلا بلفظ
[ 355 ]
فإذا قضى الصلاة قطع التكبير. وأخرج الطبراني في الاوسط عن أبي هريرة مرفوعا: زينوا أعيادكم بالتكبير وإسناده غريب كما قال الحافظ. وقد روى البيهقي عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع صوته بالتكبير والتهليل حال خروجه إلى العيد يوم الفطر حتى يأتي المصلى وقد أخرجه أيضا الحاكم، قال البيهقي: وهو ضعيف. وأخرجه موقوفا على ابن عمر قال: وهذا الموقوف صحيح. قال الناصر: إن تكبير الفطر واجب لقوله تعالى: * (ولتكلموا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) * (البقرة: 185) والاكثر على أنه سنة، وهو من خروج الامام من بيته للصلاة إلى ابتداء الخطبة عند الاكثر، وسيأتي الكلام على تكبير التشريق. باب استحباب الاكل قبل الخروج في الفطر دون الاضحى عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا رواه أحمد والبخاري. وعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل، ولا يأكل يوم الاضحى حتى يرجع رواه ابن ماجة والترمذي وأحمد وزاد: فيأكل من أضحيته. ولمالكفي الموطأ عن سعيد بن المسيب: أن الناس كانوا يؤمرون بالاكل قبل الغدو يوم الفطر. الحديث الاول أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم. والحديث الثاني أخرجه أبن ابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان. (وفي الباب) عن على عند الترمذي وابن ماجة وقد تقدم. وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير والدارقطني بلفظ: من السنة أن لا يخرج حتى يطعم ويخرج صدقة الفطر. وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وهو مختلف فيه. وفي لفظ: من السنة أن يطعم قبل أن يخرج رواه البزار، قال العراقي: وإسناده حسن. وفي لفظ: أن ابن عباس قال: إن استطعتم أن لا يغدو أحدكم يوم الفطر حتى يطعم فليفعل رواه الطبراني. وعن أبي سعيد عند أحمد والبزار وأبي يعلى والطبراني قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفطر يوم الفطر قبل الخروج. قال العراقي: وإسناده جيد، زاد الطبراني من وجه آخر: ويأمر
[ 356 ]
الناس بذلك. وعن جابر بن سمرة عند البزار في مسنده قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان يوم الفطر أكل قبل أن يخرج سبع تمرات وإذا كان يوم الاضحى لم يطعم شيئا وفي إسناده ناصح أبو عبد الله وهو لين الحديث، وقد ضعفه ابن معين والفلاس والبخاري وأبو داود وابن حبان. وعن سعيد بن المسيب مرسلا عند مالك في الموطأ باللفظ الذي ذكره المصنف. وعن صفوان بن سليم مرسلا عند الشافعي: أن الرجل كان يطعم قبل أن يخرج إلى الجبانة ويأمر به. وعن السائب بن يزيد عند ابن أبي شيبة قال: مضت السنة أن نأكل قبل أن نغدو يوم الفطر. وعن رجل من الصحابة عند ابن أبي شيبة أنه كان يؤمر بالاكل يوم الفطر قبل أن نأتي المصلى. وعن ابن عمر عند العقيلي وضعفه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يغدي أصحابه من صدقة الفطر. قوله: كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات. لفظ الاسماعيلي وابن حبان والحاكم: ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك أو أكثر وترا وهي أصرح في المداومة على ذلك. قال المهلب: الحكمة في الاكل قبل الصلاة أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة، وقال غيره: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله سبحانه، أشار إلى ذلك ابن أبي حمزة. وقال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب تعجيل الاكل يوم الفطر اختلافا كذا في الفتح. قال الحافظ: وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود التخيير فيه. وعن النخعي أيضا مثله. قال: والحكمة في استحباب التمر فيه لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، ولان الحلو مما يوافق الايمان، ويعبر به المنام، ويرق القلب، وهو أسر من غيره، ومن ثم استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقا كالعسل، رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما. وقد أخرج الترمذي عن سلمان: إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور. قوله: ويأكلهن وترا هذه الزيادة أوردها البخاري تعليقا ووصلها أحمد بن حنبل وغيره. (والحكمة) في جعلهن وترا الاشارة إلى الوحدانية، وكذلك كان يفعل صلى الله عليه وآله وسلم في جميع أموره تبركا بذلك، كذا في الفتح. قوله: ولا يأكل يوم الاضحى حتى يرجع
[ 357 ]
في رواية للترمذي: ولا يطعم يوم الاضحى حتى يصلي ورواه أبو بكر الاثرم بلفظ: حتى يضحي وقد خصص أحمد بن حنبل استحباب تأخير الاكل في عيد الاضحى بمن له ذبح. (والحكمة) في تأخير الفطر يوم الاضحى أنه يوم تشرع فيه الاضحية والاكل منها، فشرع له أن يكون فطره على شئ منها، قاله ابن قدامة. قا الزين بن المنير: وقع أكله صلى الله عليه وآله وسلم في كل من العيدين في الوقت المشروع لاخراج صدقتهما الخاصة بهما بإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج صدقة الاضحية بعد ذبحها. باب مخالفة الطريق في العيد والتعييد في الجامع للعذر عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي خرج فيه رواه أحمد ومسلم والترمذي. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ يوم العيد في طريق ثم رجع في طريق آخر رواه أبو داود وابن ماجة. حديث أبي هريرة أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم، وقد عزاه المصنف إلى مسلم، ولم نجد له موافقا على ذلك، ولا رأينا الحديث في صحيح مسلم. وقد رجح البخاري في صحيحه حديث جابر المذكور في الباب على حديث أبي هريرة وقال: إنا أصح. وحديث ابن عمر رجال إسناده عند ابن ماجة ثقات، وكذلك عند أبي داود رجاله رجال الصحيح، وفيه عبد الله بن عمر العمري وفيه مقال. وقد أخرج له مسلم، وقد رواه أيضا الحاكم. (وفي الباب) عن أبي رافع عند ابن ماجة وقد تقدم في باب الخروج إلى العيد ماشيا. وعن سعد بن أبي وقاص عند البزار في مسنده وقد تقدم أيضا هنالك. وعن بكر بن مبشر عند أبي داود قال: كنت أغدو مع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفطر ويوم الاضحى فنسلك بطن بطحان حتى نأتي المصلى، فنصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نرجع من بطن بطحان إلى بيوتنا. قال ابن السكن: وإسناده
[ 358 ]
صالح. وعن سعد القرظ وقد تقدم في باب الخروج إلى العيد ماشيا أيضا. وعن عبد الرحمن بن حاطب عن الطبراني في الكبير قال رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي العيد يذهب في طريق ويرجع في آخر وفي إسناده خالد بن إلياس وهو ضعيف. وعن معاذ بن عبد الرحمن التيمي عن أبيه عن جده عند الشافعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجع من المصلى في يوم عيد فسلك على النجارين من أسفل السوق حتى إذا كان عند مسجد الاعرج الذي هو موضع البركة التي بالسوق قام فاستقبل فج أسلم فدعا ثم انصرف. قال الشافعي: فأحب أن يصنع الامام مثل هذا، وأن يقف في موضع فيدعو الله مستقبل القبلة. وفي إسنا الحديث إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وثقه الشافعي وضعفه الجمهور. (وأحاديث) الباب تدل على استحباب الذهاب إلى صلاة العيد في طريق، والرجوع في طريق أخرى للامام والمأموم، وبه قال أكثر أهل العلم كما في الفتح. (وقد اختلف) في الحكمة في مخالفته صلى الله عليه وآله وسلم الطريق في الذهاب والرجوع يوم العيد على أقوال كثيرة. قال الحافظ: اجتمع لي منها أكثر من عشرين قولا. قال القاضي عبد الوهاب المالكي: ذكر في ذلك فوائد بعضها قريب وأكثرها دعاوى فارغة اه. قال في الفتح: فمن ذلك أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان، وقيل: سكانهما من الجن والانس. وقيل: ليسوي بينهما في مزية الفضل بمروره أو في التبرك به، أو لتشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها لانه كان معروفا بذلك. وقيل: لان طريقه إلى المصلى كانت على اليمين، فلو رجع منها لرجع إلى جهة الشمال فرجع من غيرها، وهذا يحتاج إلى دليل. وقيل: لاظهار شعار الاسلام فيهما. وقيل: لاظهار ذكر الله تعالى. وقيل: ليغيظ المنافقين واليهود. وقيل: ليرهبهم بكثرة من معه ورجحه ابن بطال. وقيل: حذرا من كيد الطائفتين، أو إحداهما، وفيه نظر لانه لكان كذلك لم يكرره. قال ابن التين: وتعقب أنه لا يلزم من مواظبته على مخالفة الطريق المواظبة على طريق منها معين، لكن في رواية الشافعي من طريق المطلب ابن عبد الله بن حنطب مرسلا: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الاعظم ويرجع من الطريق الآخر. وهذا لو ثبت لقوي بحث ابن التين. وقيل: فعل ذلك ليعمهم بالسرور به، والتبرك بمروره ورؤيته والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء، أو التعليم أو الاقتداء أو الاسترشاد أو الصدقة أو السلام عليهم أو غير ذلك، وقيل: ليزور أقاربه الاحياء والاموات. وقيل: ليصل رحمه،
[ 359 ]
وقيل: للتفاؤل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا. وقيل: كان في ذهابه يتصدق، فإذا رجع لم يبق معه شئ فرجع من طريق آخر لئلا يرد من سأله، وهذا ضعيف جدا مع احتياجه إلى الدليل. وقيل: فعل ذلك لتخفيف الزحام، وهذا رجحه الشيخ أبو حامد، وأيده المحب الطبري بما رواه البيهقي من حديث ابن عمر فقال فيه: ليسع الناس، وتعقب بأنه ضعيف، وبأن قوله يسع الناس يحتمل أن يفسر ببركته وفضله وهو الذي رجحه ابن التين. وقيل: كان طريقه التي يتوجه منها أبعد من التي يرجع فيها، فأراد تكثير الاجر بتكثير الخطا في الذهاب، وأما في الرجوع فليسرع إلى منزله، وهذا اختيار الرافعي وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل، وبأن أجر الخطا يكتب في الرجوع أيضا، كما ثبت في حديث أبي بن كعب عند الترمذي وغيره فلو عكس ما قال لكان له اتجاه ويكون سلوك الطريق القريبة للمبادرة إلى فعل الطاعة وإدراك الفضيلة أول الوقت. وقيل: إن الملائكة تقف في الطرقات فأراد أن يشهد له فريقان منهم، وقال ابن أبي حمزة: هو في معنى قول يعقوب لبنيه: * (لا تدخلوا من باب واحد) * (يوسف: 67) وأشار إلى أنه فعل ذلك حذر إصابة العين. وأشار صاحب الهدى إلى أنه فعل ذلك لجميع ما ذكر من الاشياء المحتملة القريبة، انتهى كلام الفتح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنهم أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العيد في المسجد رواه أبو داود وابن ماجة. الحديث أخرجه أيضا الحاكم وسكت عنه أبو داود والمنذري، وقال في التلخيص: إسناده ضعيف انتهى، وفي إسناده رجل مجهول وهو عيسى بن عبد الاعلى بن أبي فروة الفروي المدني، قال فيه الذهبي في الميزان: لا يكاد يعرف، وقال: هذا حديث منكر، وقال ابن القطان: لا أعلم عيسى هذا مذكورا في شئ من كتب الرجال، ولا في غير هذا الاسناد. (الحديث) يدل على أن ترك الخروج إلى الجبانة وفعل الصلاة في المسجد عند عروض عذر المطر غير مكروه، وقد اختلف هل الافضل فعل صلاة العيد في المسجد أو الجبانة؟ فذهبت العترة ومالك إلى أن الخروج إلى الجبانة أفضل، واستدلوا على ذلك بما ثبت من مواظبته صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج إلى الصحراء، وذهب الشافعي والامام يحيى وغيرهما إلى أن المسجد أفضل. قال في الفتح: قال الشافعي في الام: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وهكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه، وكذا عامة أهل البلدان إلا أهل مكة، ثم أشار الشافعي
[ 360 ]
إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة، قال: فلو عمر بلد وكان مسجد أهله يسعهم في الاعياد لم أر أن يخرجوا منه، فإن لم يسعهم كرهت الصلاة فيه ولا إعادة، قال الحافظ: ومقتضى هذا أن العلة تدور على الضيق والسعة لا لذات الخروج إلى الصحراء، لان المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أولويته كان أولى انتهى. وفيه أن كون العلة الضيق، والسعة مجرد تخمين لا ينتهض للاعتذار عن التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج إلى الجبانة بعد الاعتراف بمواظبت صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك. وأما الاستدلال على أن ذلك هو العلة بفعل الصلاة في مسجد مكة فيجاب عنه باحتمال أن يكون ترك الخروج إلى الجبانة لضيق أطراف مكة لا للسعة في مسجدها. باب وقت صلاة العيد عن عبد الله بن بسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج مع الناس يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر إطاء الامام وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح رواه أبو داود وابن ماجة. وللشافعي في حديث مرسل: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران أن عجل الاضحى، وأخر الفطر، وذكر الناس. الحديث الاول سكت عنه أبو داود والمنذري، ورجال إسناده عن أبي داود ثقات. والحديث الثاني رواه الشافعي عن شيخه إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث وهو كما قال المصنف: مرسل، وإبراهيم بن محمد ضعيف عند الجمهور كما تقدم. وقال البيهقي: لم أر له أصلا في حديث عمرو بن حزم. (وفي الباب) عن جندب عند أحمد بن حسن البناء في كتاب الاضاحي قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين، والاضحى على قيد رمح أورده الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه. قوله: حين التسبيح قال ابن رسلان: يشبه أن يكون شاهدا على جواز حذف اسمين مضافين، والتقدير وذلك حين وقت صلاة التسبيح كقوله تعالى: * (فإنها من تقوى القلوب) * (الحج: 32) أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب. وقوله
[ 361 ]
(فقبضت قبضة من أثر الرسول) * (سورة طه: 96) أي من أثر حافر فرس الرسول. وقوله: حين التسبيح يعني ذلك الحين حين وقت صلاة العيد، فدل ذلك على أن صلاة العيد سبحة ذلك اليوم انتهى. وحديث عبد الله بن بسيدل على مشروعية التعجيل لصلاة العيد وكراهة تأخيرها تأخيرا زائدا على الميعاد. وحديث عمرو بن حزم يدل على مشروعية تعجيل الاضحى وتأخير الفطر، ولعل الحكمة في ذلك ما تقدم من استحباب الامساك في صلاة الاضحى حتى يرفع من الصلاة، فإنه ربما كان ترك التعجيل لصلاة الاضحى مما يتأذى به منتظر الصلاة لذلك، وأيضا فإنه يعود إلى الاشتغال بالذبح لاضحيته، بخلاف عيد الفطر فإنه لا إمساك ولا ذبيحة. وأحسن ما ورد من الاحاديث في تعيين وقت صلاة العيدين حديث جندب المتقدم. قال في البحر: وهي من بعد انبساط الشمس إلى الزوال ولا أعرف فيه خلافا انتهى. باب صلاة العيد قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة وما يقرأ فيها عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة رواه الجماعة إلا أبا داود. وفي الباب عن جابر عند البخاري ومسلم وأبي داود قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفطر فصلى قبل الخطبة. وعن ابن عباس عند الجماعة إلا الترمذي قال: شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة. وفي لفظ: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصلى قبل الخطبة. وعن أنس عند البخاري ومسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى يوم النحر ثم خطب. وعن البراء عند البخاري ومسلم وأبي داود قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاضحى بعد الصلاة وعن جندب عند البخاري ومسلم قال: صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر ثم خطب ثم ذبح. وعن أبي سعيد عند البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أضحى أو فطر إلى المصلى فصلى ثم انصرف فقام فوعظ الناس الحديث. وعن عبد الله بن السائب عند أبي داود والنسائي وابن ماجة قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العيد فلما قضى الصلاة
[ 362 ]
قال: إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب. قال أبو داود: وهو مرسل. وقال النسائي: هذا خطأ والصواب مرسل. وعن عبد الله بن الزبير عند أحمد أنه قال: حين صلى قبل الخطبة ثم قام يخطب أيها الناس كل سنة الله وسنة رسوله. قال العراقي: وإسناده جيد. (وأحاديث) الباب تدل على أن المشروع في صلاة العيد تقديم الصلاة على الخطبة، قال القاضي عياض: هذا هو المتفق عليه بين علماء الامصار وأئمة الفتوى، ولا خلا ف بين أئمتهم فيه وهو فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، إلا ما روي أن عمر في شطر خلافته الآخر قدم الخطبة لانه رأى من الناس من تفوته الصلاة وليس بصحيح، ثم قال: وقد فعله ابن الزبير في آخر أيامه. وقال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافا بين المسلمين إلا عن بني أمية. قال: وعن ابن عبا س وابن الزبير أنهما فعلاه ولم يصح عنهما. قال: ولا يعتد بخلاف بني أمية لانه مسبو بالاجماع الذي كان قبلهم، ومخالف لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحيحة. وقد أنكر عليهم فعلهم وعد بدعة ومخالفا للسنة. وقال العراقي: أن تقديم الصلاة على الخطبة قول العلماء كافة، وقال: إن ما روي عن عمر وعثمان وابن الزبير لم يصح عنهم، أما رواية ذلك عن عمر فرواها ابن أبي شيبة أنه لما كان عمر وكثر الناس في زمانه فكان إذا ذهب ليخطب ذهب أكثر الناس، فلما رأى ذلك بدأ بالخطبة وختم بالصلاة، قال: وهذا الاثر وإن كان رجاله ثقات فهو شاذ مخالف لما ثبت في الصحيحين عن عمر من رواية ابنه عبد الله وابن عباس وروايتهما عنه أولى، قال: وأما رواية ذلك عن عثمان فلم أجد لها إسنادا. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: يقال إن أول من قدمها عثمان وهو كذب لا يلتفتون إليه انتهى. ويرده ما ثبت في الصحيحين من رواية ابن عباس عن عثمان كما تقدم. وقال الحافظ في الفتح: إنه روى ابن المنذر ذلك عن عثمان بإسناد صحيح إلى الحسن البصري، قال: أول من خطب الناس قبل الصلاة عثمان، قال الحافظ: ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانا، وقال بعد أن ساق الرواية المتقدمة عن عمر وعزاها إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وصحح إسنادها: إنه يحمل على أن ذلك وقع منه نادرا. قال العراقي: وأما فعل ابن الزبير فرواه ابن أبي شيبة في المصنف، وإنما فعل ذلك لامر وقع بينه وبين ابن عباس، ولعل ابن الزبير كان يرى ذلك جائزا، وقد تقدم عن ابن الزبير أنه صلى قبل الخطبة، وثبت في صحيح مسلم عن عطاء أن ابن
[ 363 ]
عباس أرسل إلى ابن الزبير أول ما بويع له أنه لم يكن يؤذن للصلاة يوم الفطر فلا تؤذن لها، قال: فلم يؤذن لها ابن الزبير يومه، وأرسل إليه مع ذلك إنما الخطبة بعد الصلاة، وإن ذلك قد كان يفعل، قال: فصلى ابن الزبير قبل الخطبة. قال الترمذي: ويقال إن أول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم انتهى. وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية طارق بن شهاب عن أبي سعيد قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان. وقيل: أول من فعل ذلك معاوية، حكاه القاضي عياض وأخرجه الشافعي عن ابن عباس بلفظ: حتى قدم معاوية فقدم الخطبة. ورواه عبد الرزاق عن الزهري بلفظ: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية. وقيل: أول من فعل ذلك زياد بالبصرة في خلافة معاوية، حكاه القاضي عياض أيضا. وروى ابن المنذر عن ابن سيرين أن أول من فعل ذلك زياد بالبصرة قال: ولا مخالفة بين هذين الاثرين وأثر مروان، لان كلا من مروان وزياد كان عاملا لمعاوية، فيحمل على أنه ابتدأ ذلك وتبعه عماله. قال العراقي: الصواب أن أول من فعله مروان بالمدينة في خلافة معاوية، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: ولم يصح فعله عن أحد من الصحابة، لا عمر ولا عثمان ولا معاوية ولا ابن الزبير انتهى. وقد عرفت صحة بعض ذلك فالمصير إلى الجمع أولى. وقد اختلف في صحة صلاة العيدين مع تقدم الخطبة، ففي مختصر المزني عن الشافعي ما يدل على عدم الاعتداد بها. وكذا قال النووي في شرح المهذب إن ظاهر نص الشافعي أنه لا يعتد بها قال: وهو الصواب. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم العيد غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي. وعن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الاضحى متفق عليه. ولمسلم عن عطاء قال: أخبرني جابر أن لا أذان لصلاة يوم الفطر حين يخرج الامام ولا بعدما يخرج، ولا إقامة ولا نداء ولا شئ، لا نداء يومئذ ولا إقامة. وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص عند البزار في مسنده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى العيد بغير أذان ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلسة. وعن البراء بن عازب عند الطبراني في الاوسط: أن رسول الله صلى الله
[ 364 ]
عليه وآله وسلم صلى في يوم الاضحى بغير أذان ولا إقامة. وعن أبي رافع عند الطبراني في الكبير: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى العيد ماشيا بغير أذان ولا إقامة وفي إسناده مندل، وفيه مقال قد تقدم. (وأحاديث الباب) تدل على عدم شرعية الاذان والاقامة في صلاة العيدين. قال العراقي: وعليه عمل العلماء كافة. وقال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم في هذا خلافا ممن يعتبخلافه، إلا أنه روي عن ابن الزبير أنه أذن وأقام، قال وقيل: إن أول من أذن في العيدين زياد انتهى. وروى ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد صحيح عن ابن المسيب قال: أول من أحدث الاذان في العيد معاوية، وقد زعم ابن العربي أنه رواه عن معاوية من لا يوثق به. قوله: لا إقامة ولا نداء ولا شئ فيه أنه لا يقال أمام صلاة العيد شئ من الكلام، لكن روى الشافعي عن الزهري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر المؤذن في العيدين فيقول: الصلاة جامعة، قال في الفتح: وهذا مرسل يعضده القياس على صلاة الكسوف لثبوت ذلك فيها انتهى. وأخرج هذا الحديث البيهقي من طريق الشافعي. وعن سمرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في العيدين ب * (سبح اسم ربك الاعلى) * (الاعلى: 1) و * (هل أتاك حديث الغاشية) * (الغاشية: 1) رواه أحمد. ولابن ماجة من حديث ابن عباس، وحديث النعمان بن بشير مثله، وقد سبق حديث النعمان لغيره في الجمعة. وعن أبي واقد الليثي: وسأله عمر ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الاضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما ب * (ق والقرآن المجيد) * (ق: 1) و * (اقتربت الساعة) * (القمر: 1) رواه الجماعة إلا البخاري. حديث سمرة أخرجه أيضا ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير. والحديث عند أبي داود والنسائي إلا أنهما قالا: الجمعة بدل العيد. وحديث ابن عباس الذي أشار إليه المصنف لفظه كلفظ حديث سمرة وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف. ولابن عباس حديث آخر عند البزار في مسنده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في العيدين ب * (عم يتساءلون) * (النبأ: 1) وب * (والشمس وضحاها) * (الشمس: 1). وفي إسناده أيوب بن سيار، قال فيه ابن معين: ليس بشئ، وقال ابن المديني والجوزجاني: ليس بثقة. وقال النسائي: متروك. ولابن عباس أيضا حديث ثالث عند أحمد قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العيدين ركعتين لا يقرأ فيهما إلا بأم الكتاب لم يزد
[ 365 ]
عليها شيئا. وفي إسناده شهر بن حوشب وهو مختلف فيه. وحديث النعمان الذي أشار إليه المصنف أيضا في باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، وقد تقدم حديث النعمان هذا لسمرة ابن جندب في الجمعة في الباب المذكور بدون ذكر العيدين. وحديث أبي واقد أخرجه من ذكرهم المصنف. (وفي الباب) عن أنس عند ابن أبي شيبة في المصنف عن مولى لانس قد سماه قال: انتهيت مع أنس يوم العيد حتى انتهينا إلى الزاوية، فإذا مولى له يقرأ في العيد بسبح اسم ربك الاعلى) * و * (هل أتاك حديث الغاشية) * فقال أنس: إنهما للسورتان اللتان قرأ بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعن عائشة عند الطبراني في الكبير والدارقطني: أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم صلى بالناس يوم الفطر والاضحى فكبر في الركعة الاولى سبعا وقرأ: * (ق والقرآن المجيد) * وفي الثانية خمسا وقرأ: * (اقتربت الساعة وانشق القمر) * وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال مشهور. وأكثر أحاديث الباب تدل على استحباب القراءة في العيدين: ب * (سبح اسم ربك الاعلى) * و * (الغاشية) * وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل، وذهب الشافعي إلى استحباب القراءة فيهما ب * (ق) * و * (اقتربت) * لحديث أبي واقد، واستحب ابن مسعود القراءة فيهما بأوساط المفصل من غير تقييد بسورتين معينتين. وقال أبو حنيفة والهادوية: ليس فيه شئ مؤقت. وروي ابن أبي شيبة أن أبا بكر قرأ في يوم عيد بالبقرة حتى رأيت الشيخ يمتد من طول القيام. وقد جمع النووي بين الاحاديث فقال: كان في وقت يقرأ في العيدين ب * (ق) * و * (اقتربت) * وفي وقت ب * (سبح) * و * (هل أتاك) * وقد سبقه إلى مثل ذلك الشافعي. (ووجه الحكمة) في القراءة في العيدين بالسور المذكور أن في سورة * (سبح) * الحث على الصلاة وزكاة الفطر على ما قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في تفسير قوله تعالى * (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) * (الاعلى: 14) فاختصت الفضيلة بها كاختصاص الجمعة بسورتها. وأما الغاشية فللموالاة بين سبح وبينها، كما بين الجمعة والمنافقين. وأما سورة * (ق) * و * (اقتربت) * فنقل النووي في شرح مسلم عن العلماء أن ذلك لما اشتملتا عليه من الاخبار بالبعث، والاخبار عن القرون الماضية، وإهلاك المكذبين، وتشبيه بروز الناس في العيد ببروزهم في البعث، وخروجهم من الاجداث كأنهم جراد منتشر. وقد استشكل بعضهم سؤال عمر لابي واقد الليثي عن قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العيد، مع ملازمة عمر لابي واقد الليثي عن قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العيد، مع ملازمة عمر له في الاعياد وغيرها. قال النووي: قالوا يحتمل أن عمر شك في ذلك فاستثبته أو أراد إعلام الناس بذلك أو نحو ذلك. قال العراقي
[ 366 ]
: ويحتمل أن عمر كان غائبا في بعض الاعياد عن شهوده، وأن ذلك الذي شهده أبو واقد كان في عيواحد أو أكثر، قال: ولا عجب أن يخفى على الصاحب الملازم بعض ما وقع من مصحوبه كما في قصة الاستئذان ثلاثا. وقول عمر: خفي علي هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألهاني الصفق بالاسواق، انتهى. باب عدد التكبيرات في صلاة العيد ومحلها عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة: سبعا في الاولى، وخمسا في الآخرة، ولم يصل قبلها وبعدها. رواه أحمد وابن ماجة. وقال أحمد: أنا أذهب إلى هذا. وفي رواية قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: التكبير في الفطر سبع في الاولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما رواه أبو داود والدارقطني. وعن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر في العيدين في الاولى سبعا قبل القراءة، وفي الثانية خمسا قبل القراءة رواه الترمذي وقال: هو أحسن شئ في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه ابن ماجة ولم يذكر القراءة، لكنه رواه وفيه القراءة، كما سبق من حديث سعد المؤذن. حديث عمرو بن شعيب قال العراقي: إسناده صالح، ونقل الترمذي في العلل المفردة عن البخاري أنه قال: إنه حديث صحيح. وحديث عمرو بن عوف أخرجه أيضا الدارقطني وابن عدي والبيهقي، وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، قال الشافعي وأبو داود: إنه ركن من أركان الكذب. وقال ابن حبان: له نسخة موضوعة عن أبيه عن جده، وقد تقدم الكلام عليه. قال الحافظ في التلخيص: وقد أنكر جماعة تحسينه على الترمذي، وأجاب النووي في الخلاصة عن الترمذي في تحسينفقال: لعله اعتضد بشواهد وغيرها انتهى. قال العراقي والترمذي: إنما تبع فذلك البخاري، فقد قال في كتاب العلل المفردة: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: ليس في هذا الباب شئ أصح منه، وبه أقول انتهى. وحديث سعد المؤذن وهو سعد القرظ، أخرجه ابن ماجة، عن هشام بن عمار، عن عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد مؤذن رسول
[ 367 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكبر في العيدين، في الاولى سبعا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسا قبل القراءة قال العراقي: وفي إسناده ضعف. (وفي الباب) عن أبي موسى الاشعري وحذيفة عند أبي داود أن سعيد بن العاص سألهما كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكبر في الاضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعا تكبيره على الجنازة، فقال حذيفة: صدق، قال البيهقي: خولف راويه في موضعين في رفعه وفي جواب أبي موسى، والمشهور أنهم أسندوه إلى ابن مسعود فأفتاهم بذلك، ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعن عبد الرحمن بن عوف عند البزار في مسنده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخرج له العنزة في العيدين حتى يصلي إليها، فكان يكبر ثلاث عشرة تكبيرة، وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك وفي إسناده الحسن البجلي وهو لين الحديث. وقد صحح الدارقطني إرسال هذا لحديث. وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة، في الاولى سبعا، وفي الآخرة خمسا. وفي إسناده سليمان بن أرقم وهو ضعيف. وعن جابر عند البيهقي قال: مضت السنة أن يكبر للصلاة في العيدين سبعا وخمسا. وعن ابن عمر عند البزار والدارقطني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: التكبير في العيدين في الركعة الاولى سبع تكبيرات، وفي الآخرة خمس تكبيرات. وفي إسناده فرج بن فضالة، وثقه أحمد، وقال البخاري ومسلم: منكر الحديث. وعن عائشة عند أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكبر في الفطر والاضحى في الاولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف. وذكر الترمذي في كتاب العلل أن البخاري ضعف هذا الحديث، وزاد ابن وهب في هذا الحديث: سوى تكبيرتي الركوع. وزاد إسحاق: سوى تكبيرة الافتتاح ورواه الدارقطني أيضا. (وقد اختلف) العلماء في عدد التكبيرات في صلاة العيد في الركعتين، وفي موضع التكبير على عشرة أقوال: أحدها أنه يكبر في الاولى سبعا قبل القراءة، وفي الثانية خمسا قبل القراءة. قال العراقي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والائمة، قال: وهو مروي عن
[ 368 ]
عمر وعلي وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وزيد بن ثابت وعائشة، وهو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وعمر بن عبد العزيز والزهري ومكحول، وبه يقول مالك والاوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، قال الشافعي والاوزاعي وإسحاق وأبو طالب وأبو العباس: أن السبع في الاولى بعد تكبيرة الاحرام. القول الثاني: أن تكبيرة الاحرام معدودة من السبع في الاولى وهو قول مالك وأحمد والمزني وهو قول المنتخب. القول الثالث: إن التكبير في الاولى سبع، وفي الثانية سبع، روي ذلك عن أنس بن مالك والمغيرة بن شعبة وابن عباس وسعيد بن المسيب والنخعي. القول الرابع في الاولى ثلاثة بعد تكبيرة الاحرام قبل القراءة، وفي الثانية ثلاث بعد القراءة، وهو مروي عن جماعة من الصحابة ابن مسعود وأبي موسى وأبي مسعود الانصاري، وهو قول الثوري وأبي حنيفة. والقول الخامس: يكبر في الاولى ستا بعد تكبيرة الاحرام وقبل القراءة، وفي الثانية خمسا بعد القراءة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، ورواه صاحب البحر عن مالك. القول السادس: يكبر في الاولى أربعا غير تكبيرة الاحرام، وفي الثانية أربعا وهو قول محمد بن سيرين، وروي عن الحسن ومسروق والاسود والشعبي وأبي قلابة، وحكاه صاحب البحر عن ابن مسعود وحذيفة وسعيد بن العاص. القول السابع: كالقول الاول إلا أنه يقرأ في الاولى بعد التكبير، ويكبر في الثانية بعد القراءة، حكاه في البحر عن القاسم والناصر. القوالثامن: التفرقة بين عيد الفطر والاضحى، يكبر في الفطر إحدى عشرة، ستا في الاولى، وخمسا في الثانية. وفي الاضحى ثلاثا في الاولى، وثنتين في الثانية، وهو مروي عن علي بن أبي طالب كما في مصنف ابن أبي شيبة، ولكنه من رواية الحرث الاعور عنه. القول التاسع: التفرقة بينهما على وجه آخر، وهو أن يكبر في الفطر إحدى عشرة تكبيرة، وفي الاضحى تسعا، وهو مروي عن يحيى بن يعمر. القول العاشر كالقول الاولى، إلا أن محل التكبير بعد القراءة، وإليه ذهب الهادي والمؤيد بالله وأبو طالب. (احتج أهل القول الاول) بما في الباب من الاحاديث المصرحة بعدد التكبير وكونه قبل القراءة. قال ابن عبد البر: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق حسان أنه كبر في العيدين سبعا في الاولى وخمسا في الثانية، من حديث عبد الله بن عمر وابن عمرو وجابر وعائشة وأبي واقد وعمرو بن عوف المزني، ولم يرو عنه من وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا، وهو أولى ما عمل به انتها. وقد تقدم في حديث عائشة عند الدارقطني سوى
[ 369 ]
تكبيرة الافتتاح، وعند أبي داود سوى تكبيرتي الركوع، وهو دليل لمن قال: إن السبع لا تعد فيها تكبيرة الافتتاح والركوع، والخمس لا تعد فيها تكبيرة الركوع. (واحتج أهل) القول الثاني بإطلاق الاحاديث المذكورة في الباب، وأجابوا عن حديث عائشة بأنه ضعيف كما تقدم وأما أهل القول الثالث فلم أقف لهم على حجة. قال العراقي: لعلهم أرادوا بتكبيرة القيام من الركعة الاولى وتكبيرة الركوع في الثانية وفيه بعد انتهى. (واحتج أهل القول الرابع) بحديث أبي موسى وحذيفة المتقدم، وفتيا ابن عباس السابقة، قالوا: لان الاربع المذكورة في الحديث جعلت تكبيرة الاحرام منها، وهذا التأويل لا يجري في الثانية، وقد تقدم ما في حديث أبي موسى، وصرح الخطابي بأنه ضعيف، ولم يبين وجه الضعف، وضعفه البيهقي في المعرفة بعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وقد ضعف ثابتا يحيى بن معين، وضعفه غير واحد بأن راويه عن أبي موسى هو أبو عائشة ولا يعرف ولا نعرف اسمه. ورواه البيهقي من رواية مكحول عن رسول أبي موسى وحذيفة عنهما، قال البيهقي: هذا الرسول مجهول، ولم يحتج أهل القول الخامس بما يصلح للاحتجاج. (واحتج أهل القول) السادس بحديث أبي موسى وحذيفة المتقدم، وقد تقدم ما فيه. (واحتج أهل القول) السابع بما روي عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى بين القراءتين في صلاة العيد ذكر هذا الحديث في الانتصار ولم أجده في شئ من كتب الحديث. (واحتج أهل) القول الثامن على التفرقة بين عيد الفطر والاضحى بما تقدم من رواية ذلك عن علي وهو مع كونه غير مرفوع في إسناده الحرث الاعور وهو ممن لا يحتج به. وأما القول التاسع فلم يأت القائل به بحجة. (واحتج أهل القول) العاشر بما ذكره في البحر من أن ذلك ثابت في رواية لابن عمر، وثابت من فعل علي عليه السلام، ولا أدري ما هذه الرواية التي عن ابن عمر. وقد ذكر في الانتصار الدليل على هذا القول فقال: والحجة على هذا ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كبر سبعا في الاولى وخمسا في الثانية القراءة قبلهما كلاهما، وهو عكس الرواية التي ذكرها المصنف عنه وذكرها غيره، فينظر هل وافق صاحب الانتصار على ذلك أحد من أهل هذا الشأن، فإني لم أقف على شئ من ذلك، مع أن الثابت في أصل الانتصار لفظ بعدهما مكان قبلهما
[ 370 ]
، ولكنه وقع التضبيب على الاصل في حاشية بلفظ قبلهما فلا مخالفة حينئذ. (وأرجح هذه الاقوال) أولها في عدد التكبير وفي محل القراءة. وقد وقع الخلاف هل المشروع الموالاة بين تكبيرات صلاة العيد أو الفصل بينهما بشئ من التحميد والتسبيح ونحو ذلك؟ فذهب مالك وأبو حنيفة والاوزاعي إلى أنه يوالي بينها كالتسبيح في الركوع والسجود قالوا: لانه لو كان بينها ذكر مشروع لنقل كما نقل التكبير. وقال الشافعي: إنه يقف بين كل تكبيرتين يهلل ويمجد ويكبر، واختلف أصحابه فيما يقوله بين التكبيرتين فقال الاكثرون يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقال بعضهم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وقيل: غير ذلك. وقال الهادي وبعض أصحاب الشافعي: إنه يفصل بينها يقول: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا. وقال الناصر والمؤيد بالله والامام يحيى: إنه يقول: لا إله إلا الله إلى آخر الدعاء الطويل الذي رواه الامير الحسين، قال في الشفاء عن علي عليه السلام: وروي في البحر عن مالك أنه يفصل بالسكوت. وقد اختلف في حكم تكبير العيدين فقالت الهادوية: إنه فرض، وذهب من عداهم إلى أنه سنة لا تبطل الصلاة بتركه عمدا ولا سهوا. قال ابن قدامة: ولا أعلم فيه خلافا، قالوا: وإن تركه لا يسجد للسهو. وروي عن أبي حنيفة ومالك أنه يسجد للسهو، والظاهر عدم وجوب التكبير كما ذهب إليه الجمهور لعدم وجدان دليل يدل عليه. باب لا صلاة قبل العيد ولا بعدها عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما رواه الجماعة وزادوا: إلا الترمذي وابن ماجة: ثم أتى النسائي وبلال معهن فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تصدق بخرصها وسخابها. وعن ابن عمر رضي الله عنه: أنه خرج يوم عيد فلم يصل قبلها ولا بعدها، وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله رواه أحمد والترمذي وصححه. وللبخاري عن ابن عباس أنه كره الصلاة قبل العيد. وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان لا يصلي قبل العيد شيئا، فإذا رجع
[ 371 ]
إلى منزله صلى ركعتين رواه ابن ماجة وأحمد بمعناه. حديث ابن عمر أخرجه أيضا الحاكم وهو صحيح كما قال الترمذي، وله طريق أخرى عند الطبراني في الاوسط وفيها جابر الجعفي وهو متروك. وحديث أبي سعيد أخرجه أيضا الحاكم وصححه وحسنه الحافظ في الفتح، وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه مقال. (وفي الباب) عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند ابن ماجة بنحو حديث ابن عباس. وعن علي عند البزار من طريق الوليد بن سريع مولى عمرو بن حريث قال: خرجنا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في يوم عيد فسأله قوم من أصحابه عن الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها فلم يرد عليهم شيئا. ثم جاء قوم فسألوه فما رد عليهم شيئا، فلما انتهينا إلى الصلاة فصلى بالناس فكبر سبعا وخمسا، ثم خطب الناس ثم نزل فركب فقالوا: يا أمير المؤمنين هؤلاء قوم يصلون، قال: فما عسيت أن أصنع؟ سألتموني عن السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها فمن شاء فعل ومن شاء ترك، أتروني أمنع قوما يصلون فأكون بمنزلة من منع عبدا إذا صلى. قال العراقي: وفي إسناده إبراهيم بن محمد بن النعما الجعفي لم أقف على حاله وباقي رجاله ثقات. وعن ابن مسعود عند الطبراني في الكبير قال: ليس من السنة الصلاة قبل خروج الامام يوم العيد ورجاله ثقات. وعن كعب بن عجرة عند الطبراني في الكبير أيضا من طريق عبد الملك بن كعب بن عجرة قال: خرجت مع كعب بن عجرة يوم العيد إلى المصلى فجلس قبل أن يأتي الامام ولم يصل حتى انصرف الامام والناس ذاهبون كأنهم عنق نحو المسجد، فقلت: ألا ترى؟ فقال: هذه بدعة وترك للسنة. وفي رواية له: أن كثيرا مما يرى جفاء وقلة علم أن هاتين الركعتين سبحة هذا اليوم حتى تكون الصلاة تدعوك وإسناده جيد كما قال العراقي. وعن ابن أبي أوفى عند الطبراني في الكبير أيضا أنه أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل قبل العيد ولا بعدها وفي إسناده قائد أبي الورقاء وهو متروك. قوله: لم يصل قبلها ولا بعدها. فيه وفي بقية أحاديث الباب دليل على كراهة الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها، وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل قال ابن قدامة: وهو مذهب ابن عباس وابن عمر، قال: وروي ذلك عن علي وابن مسعود وحذيفة وبريدة وسلمة بن الاكوع وجابر وابن أبي أوفى. وقال به شريح وعبد الله بن مغفل ومسروق والضحاك والقاسم وسالم ومعمر وابن جريج والشعبي ومالك
[ 372 ]
وروي عن مالك أنه قال: لا يتطوع في المصلى قبلها ولا بعدها، وله في المسجد روايتان. وقال الزهري: لم أسمع أحدا من علمائنا يذكر أن أحدا من سلف هذه الامة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها. قال ابن قدامة: وهو إجماع كما ذكرنا عن الزهري وعن غيره انتهى. ويرد دعوى الاجماع ما حكاه الترمذي عن طائفة من أهل العلم من الصحابة وغيرهم أنهم رأوا جواز الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها، وروى ذلك العراقي عن أنس بن مالك، وبريدة بن الحصيب، ورافع ابن خديج، وسهل بن سعد، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبي بزرة، قال: وبه قال من التابعين: إبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، والاسود بن يزيد، وجابر بن زيد، والحسن البصري، وأخوه سعيد بن أبي الحسن، وسعيد بن المسيب، وصفوان بن محرز، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعروة بن الزبير، وعلقمة، والقاسم بن محمد، ومحمد بن سيرين، ومكحول، وأبو بردة، ثم ذكر من روى ذلك عن الصحابة المذكورين من أئمة الحديث قال: وأما أقوال التابعين فرواها ابن أبي شيبة وبعضها في المعرفة للبيهقي انتهى. ومما يدل على فساد دعوى ذلك الاجماع ما رواه ابن المنذر عن أحمد أنه قال: الكوفيون يصلون بعدها لا قبلها، والبصريون يصلون قبلها لا بعدها، والمدنيون لا قبلها ولا بعدها. قال في الفتح: وبالاول قال الاوزاعي والثوري والحنفية، وبالثاني قال الحسن البصري وجماعة، وبالثالث قال الزهري وابن جريج وأحمد، وأما مالك فمنعه في المصلى، وعنه في المسجد روايتان انتهى. وحمل الشافعي أحاديث الباب على الامام قال: فلا يتنفل قبلها ولا بعدها، وأما المأموم فمخالف له في ذلك، نقل ذلك عنه البيهقي في المعرفة وهو نصه في الام. وقال النووي في شرح مسلم: قال الشافعي وجماعة من السلف: لا كراهة في الصلاة قبلها ولابعدها، قال الحافظ: إن حمل كلامه على المأموم وإلا فهو مخالف لنص الشافعي. وقد أجاب القائلون بعدم كراهة الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها عن أحاديث الباب بأجوبة منها جواب الشافعي المتقدم. ومنها ما قاله العراقي في شرح الترمذي من أنه ليس فيها نهي عن الصلاة في هذه الاوقات، ولكن لما كان صلى الله عليه وآله وسلم يتأخر مجيئه إلى الوقت الذي يصلي بهم فيه ويرجع عقب الخطبة روى عنه من روى من أصحابه أنه كان لا يصلي قبلها ولا بعدها، ولا يلزم من تركه لذلك لاشتغاله بما هو مشروع في حقه من التأخر إلى وقت الصلاة أن غيره لا يشرع ذلك له ولا يستحب، فقد روى عنه غير واحد من الصحابة أنه صلى الله
[ 373 ]
عليه وآله وسلم لم يكن يصلي الضحى وصح ذلك عنهم، وكذلك لم ينقل عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى سند الجمعة قبلها لانه إنما كان يؤذن للجمعة بين يديه وهو على المنبر. قال البيهقي يوم العيد كسائر الايام، والصلاة مباحة إذا ارتفعت الشمس حيث كان المصلى، ويدل على عدم الكراهة حديث أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الصلاة خير موضوع، فمن شاء استكثر ومن شاء استقل رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في صحيحه. قال الحافظ في الفتح: والحاصل أن صلاة العيد لم تثبت لها سنة قبلها ولا بعدها، خلافا لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص، إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة في جميع الايام انتهى. وكذا قال العراقي في شرح الترمذي، وهو كلام صحيح جار على مقتضى الادلة، فليس في الباب ما يدل على منع مطلق النفل، ولا على منع ما ورد فيه دليل يخصه كتحية إذا أقيمت صلاة العيد في المسجد، وقد قدمنا الاشارة إلى مثل هذا في باب تحية المسجد، نعم في التلخيص ما لفظه: وروى أحمد من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: لا صلاة يوم العيد قبلها ولا بعدها فإن صح هذا كان دليلا على المنع مطلقا لانه نفى في قوة النهي، وقد سكت عليه الحافظ فينظر فيه. قوله: فجعلت المرأة المراد بالمرأ جنس النساء. قوله: تصدق بخرصها هو الحلقة الصغيرة من الحلي. وفي القاموس: الخرص بالضم ويكسر حلقة الذهب والفضة، أو حلقة القرط، أو الحلقة الصغيرة من الحلي انتهى. قوله: وسخابها بسين مهملة مكسورة بعدها خاء معجمة وهو خيط تنظم فيه الخرزات. وفي القاموس: أن السخاب ككتاب قلادة من سك وقرنفل ومحلب بلا جوهر انتهى. ولهذا الحديث ألفاظ مختلفة، وفيه استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الاسلام، وتذكيرهن بما يجب عليهن، واستحباب حثهن على الصدقة وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد. باب خطبة العيد وأحكامها عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج يوم الفطر والاضحى إلى المصلى، وأول شئ يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل
[ 374 ]
الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثا أو يأمر بشئ أمر به ثم ينصرف متفق عليه. قوله: إلى المصلى هو موضع بالمدينة معروف قال في الفتح: بينه وبين باب المسجد ألف ذراع، قاله عمر بن شبة في أخبار المدينة عن أبي غسان الكتاني صاحب مالك. قوله: وأول شئ يبدأ به الصلاة فيه أن السنة تقديم الصلاة على الخطبة، وقد تقدم الكلام على ذلك مبسوطا. قوله: ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس في رواية ابن حبان: فينصرف إلى الناس قائما في مصلاه ولابن خزيمة في رواية مختصرة: خطب يوم عيد على رجليه. قوله: فيعظهم ويوصيهم فيه استحبا ب الوعظ والتوصية في خطبة العيد. قوله: وإن كان يريد أن يقطع بعثا أي يخرج طائفمن الجيش إلى جهة من الجهات. وهذا الحديث يدل على أنه لم يكن في المصلى فزمانه صلى الله عليه وآله وسلم منبر، ويدل على ذلك ما عند البخاري وغيره في هذا الحديث أن أبا سعيد قال: فلم تزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذ منبر بناه كثير بن الصلت الحديث. وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال: أخرج مروان المنبر في يوم عيد فبدأ بالخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال: يا مروان خالفت السنة، أخرجت المنبر في يوم عيد ولم يكن يخرج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد أدى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة. قوله: أخرج مروان المنبر الخ، هذا يؤيد ما مر من أن مروان أول من فعل ذلك ووقع في المدونة لمالك. ورواه عمر بن شبة عن أبي غسان عنه. قال: أول من خطب الناس في المصلى على منبر عثمان بن عفان قال الحافظ: يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان. قوله: فبدأ بالخطبة قبل الصلاة قد قدمنا الكلام على هذا في باب صلاة العيد قبل الخطبة. وقد اعتذر مروان عن فعله لما قال له أبو سعيد: غيرتم والله كما في البخاري بقوله: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبلها. قال في الفتح، وهذا يشعر بأن مروان فعل ذلك باجتهاد منه. وقال في موضع
[ 375 ]
آخر: لكن قيل إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون ترك سماع الخطبة لما فيها من سب من لا يستحق السب، والافراد في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه. قوله: فقام رجل في المهمات أنه عمارة بن رؤيبة. وقال في الفتح: يحتمل أن يكون هو أبا مسعود كما في رواية عبد الرزاق. وفي البخاري ومسلم: أن أبا مسعود أنكر على مروان أيضا، فيمكن أن يكون الانكار من أبي سعيد وقع في أول الامر، ثم تعقبه الانكار من الرجل المذكور. ويؤيد ذلك ما عند البخاري في حديث أبي سعيد بلفظ: فإذا مروان يريد أن يرتقيه يعني المنبر قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجذبني فارتفع فخطب فقلت له: غير تم والله، فقال: يا أبسعيد قد ذهب ما تعلم فقلت ما أعلم والله خير مما لا أعلم. وفي مسلم: فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم، فقلت: كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم ثلاث مرات ثم انصرف والحديث فيه مشروعية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد إن استطاع ذلك، وإلا فباللسان، وإلا فبالقلب، وليس وراء ذلك من الايمان شئ. وعن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على الطاعة ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن رواه مسلم والنسائي. وفي لفظ لمسلم: فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن. الحديث فيه تقديم صلاة العيد على الخطبة، وترك الاذان والاقامة لصلاة العيد، وقد تقدم بسط ذلك، وفيه استحباب الوعظ والتذكير في خطبة العيد، واستحباب وعظ النساء وتذكيرهن وحثهن على الصدقة، إذا لم يترتب على ذلك مفسدة وخوف فتنة على الواعظ أو الموعوظ أو غيرهما، وفيه أيضا تمييز مجلس النساء إذا حضرن مجامع الرجال، لان الاختلاط ربما كان سببا للفتنة الناشئة عن النظر أو غيره. قوله: فلما فرغ نزل قال القاضي عياض: هذا النزول كان في أثناء الخطبة. قال النووي: وليس كما قال، إنما نزل إليهن بعد خطبة العيد وبعد انقضاء وعظ الرجال، وقد ذكره مسلم صريحا في حديث جابر كما في اللفظ الذي أورده المصنف، وهو صريح أنه
[ 376 ]
أتاهن بعد فراغ خطبة الرجال. قال المصنف رحمه الله تعالى: وقوله نزل يدل على أن خطبته كانت علشئ عال، انتهى. وعن سعد المؤذن رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير في خطبة العيدين رواه ابن ماجة. وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنه قال: السنة أن يخطب الامام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس رواه الشافعي. الحديث الاول هو من رواية عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤذن عن أبيه عن جده، وعبد الرحمن ضعيف. وقد أخرج نحوه البيهقي من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: السنة أن تفتتح الخطبة بتسع تكبيرات تترى والثانية بسبع تكبيرات تترى. وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عبيد الله، وعبيد الله المذكور أحد فقهاء التابعين، وليس قول التابعي من السنة ظاهرا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال باستحباب التكبير على الصفة المذكورة في الخطبة كثير من أهل العلم. قال ابن القيم: وأما قول كثير من الفقهاء إنه تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيدين بالتكبير، فليس معهم فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم البتة، والسنة تقتضي خلافه وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد. والحديث الثاني يرجحه القياس على الجمعة. وعبيد الله بن عبد الله تابعي كما عرفت، فلا يكون قوله: من السنة دليلا على أنها سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقرر في الاصول. وقد ورد في الجلوس بين خطبتي العيد حديث مرفوع رواه ابن ماجة عن جابر. وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف. وعن عطاء عن عبد الله بن السائب رضي الله عنهما قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب رواه النسائي وابن ماجة وأبو داود. الحديث قال أبو داود: هو مرسل. وقال النسائي: هذا خطأ والصواب أنه مرسل، وفيه أن الجلوس لسماع خطبة العيد غير واجب. قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه بيان أن الخطبة سنة، إذ لو وجبت وجب الجلوس لها، انتهى. وفيه أن تخيير السامع لا يدل على
[ 377 ]
عدم وجوب الخطبة، بل على عدم وجوب سماعها، إلا أن يقال: إنه يدل من باب الاشارة، لانه إذا لم يجب سماعها لا يجب فعلها، وذلك لان الخطبة خطاب، ولا خطاب إلا المخاطب، فإذا لم يجب السماع على المخاطب لم يجب الخطاب، وقد اتفق الموجبون لصلاة العيد وغيرهم على عدم وجوب خطبته، ولا أعرف قائلا يقول بوجوبها. باب استحباب الخطبة يوم النحر عن الهرماس بن زياد رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسليخطب الناس على ناقته العضباء يوم الاضحى بمنى رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى يوم النحر رواه أبو داود. وعن عبد الرحمن بن معاذ التميمي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ميقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار، فوضع أصبعيه السبابتين ثم قال بحصا الخذف، ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد وأمر الانصار فنزلوا من وراء المسجد، ثم نزل الناس بعد ذلك رواه أبو داود والنسائي بمعناه. الاحاديث الثلاثة سكت عنها أبو داود والمنذري، ورجال إسناد الحديث الاول ثقات، وكذلك رجال إسناد الحديث الثاني، وكذلك رجال إسناد الحديث الثالث. (وفي الباب) عن رافع بن عمرو المزني عند أبي داود والنسائي. وعن أبي سعيد عند النسائي وابن ماجة وابن حبان وأحمد. وعن ابن عباس عند البخاري وله حديث آخر عند الطبراني. وعن أبي كاهل الاحمسي عند النسائي وابن ماجة، وعن أبي بكرة وسيأتي. وعن ابن عمر عند البخاري. وعن ابن عمرو بن العاص عند البخاري أيضا وغيره. وعن جابر عند أحمد. وعن أبي حرة الرقاشي عن عمه عند أحمد أيضا. وعن كعب بن عاهم عند الدارقطني. (وأحاديث الباب) تدل على مشروعية الخطبة في يوم النحر، وهي ترد على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج، وأن المذكور في أحاديث الباب إنما هو من قبيل الوصايا العامة، لا أنه خطبة من شعار الحج. ووجه الرد أن الرواة سموها خطبة، كما سموا التي وقعت بعرفات خطبة. وقد اتفق على مشروعية الخطبة
[ 378 ]
بعرفات، ولا دليل على ذلك إلا ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطب بعرفات. والقائلون بعدم مشروعية الخطبة يوم النحر هم المالكية والحنفية وقالوا: خطب الحج ثلاث: سابع ذي الحجة، ويوم عرفة، وثاني يوم النحر، ووافقهم الشافعي إلا أنه قال بدل ثاني النحر ثالثه، وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر، قال: وبالناس إليها حاجة ليعملوا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف. واستدل بأحاديث الباب، وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج لانه لم يذكر فيها شيئا من أعمال الحج، وإنما ذكر وصايا عامة كما تقدم، قال: ولم ينقل أحد أنهم علمهم فيها شيئا مما يتعلق بالحج يوم النحر، فعرفنا أنها لم تقصد لاجل الحج. وقال ابن القصار: إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا، فظن الذي رآه أنه خطب. قال: وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين، لان الامام يمكنه أن يعلمهم إياها بمكة أو يوم عرفة انتهى. وأجيب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم نبه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم عشر ذي الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام. وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة كما تقدم فلا تلتفت إلى تأويل غيرهم. وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة يعكر عليه كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يأتي بعده من أعمال الحج، لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجدد الاسباب وقد بين الزهري وهو عالم أهل زمانه أن الخطبة ثاني يوم النحر نقلت من خطبة يوم النحر، وأن ذلك من عمل الامراء يعني بني أمية، كما أخرج ذلك ابن أبي شيبة عنه، وهذا وإن كان مرسلا لكنه معتضد بما سبق، وبان به أن السنة الخطبة يوم النحر ثانيه. وأما قول الطحاوي: أنه لم يعلمهم شيئا من أسباب التحلل فيرده ما عند البخاري من حديث ابن عمرو بن العاص أنه شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عن تقديم بعض المناسك. وثبت أيضا في بعض أحاديث الباب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خذوا عني مناسككم فكأنه وعظهم وأحال في تعليمهم على تلقي ذلك من أفعاله. قوله: ونحن بمنى أيام منى أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة أيام بعده، وأحاديث الباب مصرحة بيوم النحر، فيحمل المطلق على المقيد ويتعين يوم النحر. قوله: ثم
[ 379 ]
قال: بحصى الخذف فيه استعارة القول للفعل وهو كثير في السنة، والمراد أنه وضع إحدى السبابتين على الاخرى ليريهم أنه يريد حصى الخذف، والخذف بالخاء والذال المعجمتين، ويروى بالحاء المهملة والاول أصوب. قال الجوهري في فصل الحاء المهملة: حذفته بالعصى أي رميته بها، وفي فصل الخاء المعجمة: الخذف بالحصى الرمي به بالاصابع، وسيأتي ذكر مقدار حصا الخذف في باب استحباب الخطبة يوم النحر من كتاب الحج، لان المصنف رحمه الله سيكرر هذه الاحاديث المذكورة في هذا الباب جميعها هنالك، وسنشرح هنالك ما لم نتعرض لشرحه ههنا من ألفاظ هذه الاحاديث. وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: أي شهرهذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض رواه أحمد والبخاري. قوله: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم في البخاري من حديث ابن عباس أنهم قالوا: يوم حرام وقالوا عند سؤاله عن الشهر: شهر حرام، وعند سؤاله عن البلد، بلد حرام. وعند البخاري أيضا من حديث ابن عمر بنحو حديث أبي بكرة، إلا أنه ليس فيه قوله: فسكت في الثلاثة المواضع. وقد جمع بين حديث ابن عباس وحديث الباب ونحوه بتعدد الواقعة، قال في الفتح: وليس بشئ، لان الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة، وقد قال في كل منهما: إن ذلك كان يوم النحر، وقيل في الجمع بينهما: إن بعضهم بادر بالجواب وبعضهم سكت. وقيل في الجمع: إنهم فوضوا الامر أولا كلهم بقولهم: الله ورسوله أعلم، فلما سكت أجابه بعضهم دون بعض. وقيل: وقع السؤال في الوقت الواحد مرتين بلفظين، فلما كان في حديث أبي بكرة فخامة ليس في حديث ابن عباس لقوله فيه: أتدرون؟ سكتوا عن الجواب، بخلاف حديث ابن عباس لخلوه عن
[ 380 ]
ذلك، أشار إلى هذا الكرماني. وقيل في حديث ابن عباس اختصار بينته رواية أبي بكرة، فكأنه أطلق قولهم قالوا يوم حرام، باعتبار أنهم قرروا ذلك حيث قالوا بلى، قال الحافظ: وهذا جمع حسن. (والحكمة) في سؤاله صلى الله عليه وآله وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها ما قاله القرطبي من أن ذلك كان لاستحضار فهو مهم، وليقبلوا عليه بكليتهم ويستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: فإن دماءكم الخ مبالغة في بيان تحريم هذه الاشياء اه. ومناط التشبيه في قوله: كحرمة يومكم هذا وما بعده ظهوره عند السامعين، لان تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتا في نفوسهم مقررا عندهم، بخلاف الانفس والاموال والاعراض فكانوا يستبيحونها في الجاهلية، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه، لان الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع. قوله: أليست البلدة كذا وقع بتأنيث البلدة. وفي رواية للبخاري: أليس بالبلدة الحرام. وفي أخرى له: أليس بالبلدة الحرام قال الخطابي يقال إن البلدة اسم خاص لمكة وهي المراد بقوله عز وجل: * (إنما أمر ت أن أعبد رب هذه البلدة) * (النمل: 91) وقال الطيبي: المطلق محمول على الكامل وهي الجامعة للخير المستحقة للكمال. قوله: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام هكذا ساقه البخاري في الحج، وذكره في كتاب العلم بزيادة: وأعراضكم وكذا ذكر هذه الزيادة في الحج من حديث ابن عباس، ومن حديث ابن عمر، وهو على حذف مضاف، أي سفك دماءكم وأخذ أموالكم وسلب أعراضكم. والعرض بكسر العين موضع المدح والذم من الانسان سواء كان سلفه أو نفسه. قوله: اللهم اشهد إنما قال ذلك لانه كان فرضا عليه أن يبلغ، فأشهد الله تعالى على أداء ما أوجبه عليه. قوله: فرب مبلغ بفتح اللام أي رب شخص بلغه كلامي فكان أحفظ له وأفهم لمعناه من الذي نقله له. قال المهلب فيه: أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم والعلم ما ليس لمن تقدمه، إلا أن ذلك يكون في الاقل لان رب موضوعة للتقليل. قال الحافظ: هي في الاصل كذلك، إلا أنها استعملت في التكثير بحيث غلب على الاستعمال الاول، قال: لكن يؤيد أن التقليل هنا مراد أنه وقع في رواية للبخاري بلفظ: عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه وقوله: أوعى من سامع نعت لمبلغ، والذي يتعلق به رب محذوف وتقديره يوجد
[ 381 ]
أو يكون، ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن تكون هي مبتدأ وأوعى الخبر، فلا حذف ولا تقدير. قوله: فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض قال النووي في شرح مسلم في معناه سبعة أقوال: أحدها أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق. والثاني: المراد كفر النعمة وحق الاسلام. والثالث: أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه. والرابع: أنه فعل كفعل الكفار. والخامس: المراد حقيقة الكفر ومعناه: لا تكفروا بل دوموا مسلمين. والسادس: حكاه الخطابي وغيره أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه. قال الازهري في كتاب تهذيب اللغة: يقال للابس السلاح كافر. والسابع معناه لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتال بعضكم بعضا، قاله الخطابي. قال النووي: وأظهر الاقوال الرابع وهو اختيار القاضي عياض قال: والرواية يضرب برفع الباء هذا هو الصواب، وهكذا رواه المتقدمون والمتأخرون، وبه يصح المقصود هنا. ونقل القاضي عياض أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء والصواب الضم، وكذا قال أبو البقاء أنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر، أي أن ترجعوا يضرب. والمراد بقوله بعدي أي بعد فراقي من موقفي هذا، كذا قال الطبري، أو يكون صلى الله عليه وآله وسلم تحقق أن هذا الامر لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد مماته. (والحديث) فيه استحباب الخطبة يوم النحر، وقد تقدم الكلام على ذلك، وفيه وجوب تبليغ العلم وتأكيد تحريم تلك الامور وتغليظها بأبلغ ما يمكن، وفيه غير ذلك من الفوائد. باب حكم الهلال إذا غم ثم علم به من آخر النهار عن عمير بن أنس عن عمومة له من الانصار رضي الله عنهم قالوا: غم علينا هلال شوال فأصبحنا صياما، فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم رأوا الهلال بالامس، فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد رواه الخمسة إلا الترمذي. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وصححه ابن المنذر، وابن السكن، وابن حزم، والخطابي، وابن حجر في بلوغ المرام، وعلق الشافعي القول به على صحته. وقال
[ 382 ]
ابن عبد البر: أبو عمير مجهول. قال الحافظ: كذا قال، وقد عرفه من صحح له اه. وقول المصنف عن عمير لعله من سقط القلم وهو أبو عمير كما في سائر كتب هذا الفن. (والحديث) دليل لمن قال: إن صلاة العيد تصلى في اليوم الثاني إن لم يتبين العيد إلا بعد خروج وقت صلاته، وإلى ذلك ذهب الاوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وهو قول للشافعي. ومن أهل البيت: الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب، وقيد ذلك أبو طالب بشرط أن يكون ترك الصلاة في اليوم الاول للبس كما في الحديث، ورد بأن كون الترك للبس إنما هو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه لا للركب، لانهم تركوا الصلاة في يوم العيد عمدا بعد رؤيتهم للهلال بالامس، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم كما في رواية أبي داود يدل على عدم الفرق بين عذر اللبس وغيره، كما ذهب إلى ذلك الباقون، فإنهم لا يفرقون بين اللبس وغيره من الاعذار، إما لذلك، وإما قياسا لها عليه. وظاهر الحديث أن الصلاة في اليوم الثاني أداء لا قضاء، وروى الخطابي عن الشافعي أنهم إن علموا بالعيد قبل الزوال صلوا، وإلا لم يصلوا يومهم ولا من الغد، لانه عمل في وقت فلا يعمل في غيره، قال: وكذا قال مالك وأبو ثور. قال الخطابي: سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالاتباع. وحديث أبي عمير صحيح فالمصير إليه واجب اه. وحكى في شرح القدوري عن الحنفية أنهم إذا لم يصلوها في اليوم الثاني حتى زالت الشمس صلوها في اليوم الثالث، فإن لم يصلوها فيه حتى زالت الشمس سقطت سواء كان لعذر أو لغير عذر اه. (والحديث) وارد في عيد الفطر، فمن قال بالقياس ألحق به عيد الاضحى، وقد استدل بأمره صلى الله عليه وآله وسلم للركب أن يخرجوا إلى المصلى لصلاة العيد الهادي والقاسم وأبو حنيفة، على أن صلاة العيد من فرائض الاعيان، وخالفهم في ذلك الشافعي وجمهور أصحابه، قال النووي وجماهير العلماء: فقالوا إنها سنة، وبه قال زيد بن علي، والناصر، والامام يحيى، وقال أبو سعيد الاصطخري من الشافعية إنها فرض كفاية، وحكاه المهدي في البحر عن الكرخي وأحمد بن حنبل وأبي طالب وأحد قولي الشافعي. واستدل القائلون بأنها سنة بحديث: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. وقد قدمنا في باب تحية المسجد الجواب عن هذا الاستدلال مبسوطا فراجعه. (واستدل القائلون) أنها فرض كفاية بأنها شعار كالغسل والدفن، وبالقياس على صلاة الجنازة بجامع التكبيرات، والظاهر ما قاله الاولون، لانه قد انضم إلى ملازمته صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة القيد على جهة الاستمرار وعدم إخلاله بها
[ 383 ]
الامر بالخروج إليها، بل ثبت كما تقدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج للعواتق والحيض وذوات الخدور، وبالغ في ذلك حتى أمر من لها جلباب أن تلبس من لا جلباب لها، ولم يأمر بذلك في الجمعة ولا في غيرها من الفراض، بل ثبت الامر بصلاة العيد في القرآن، كما صرح بذلك أئمة التفسير في تفسير قول الله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * (الكوثر: 2) فقالوا: المراد صلاة العيد ونحر الاضحية. ومن مقويات القول بأنها فرض إسقاطها لصلاة الجمعة كما تقدم، والنوافل لا تسقط الفرائض في الغالب. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الفطر يوم يفطر الناس، والاضحى يوم يضحي الناس رواه الترمذي وصححه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الصوم يوم يصومون، والفطر يوم يفطرون والاضحى يوم يضحون رواه الترمذي أيضا. وهو لابي داود وابن ماجة إلا فصل الصوم. الحديث الاول أخرجه أيضا الدارقطني وقال: وقفه عليها هو الصواب. والحديث الثاني حسنه الترمذي وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات، قال الترمذي: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظيم الناس. وقال الخطابي في معنى الحديث: أن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعا وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماض لا شئ عليهم من وزر أو عيب، وكذلك في الحج إذا أخطؤوا يوم عرفة ليس عليهم إعادة. وقال غيره: فيه الاشارة إلى أن يوم الشك لا يصام احتياطا، وإنما يصوم يوم يصوم الناس. وقيل فيه الرد على من يقول: إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل جاز له أن يصوم به ويفطر دون من لم يعلم. وقيل: إن الشاهد الواحد إذا رأى الهلال ولم يحكم القاضي بشهادته أنه لا يكون هذا صوما له كما لم يكن للناس، ذكر هذه الاقوال المنذري في مختصر السنن. وقد ذهب إلى الاخير محمد بن الحسن الشيباني قال: إنه يتعين على المنفرد برؤية هلال الشهر حكم الناس في الصوم والحج وإن خالف ما تيقنه، وروي مثل ذلك عن عطاء والحسن، والخلاف في ذلك للجمهور فقالوا: يتعين عليه حكم نفسه فيما تيقنه، وفسروا الحديث بمثل ما ذكر الخطابي. وقيل في معنى الحديث: أنه إخبار بأن الناس
[ 384 ]
يتحزبون أحزابا، ويخالفون الهدي النبوي، فطائفة تعمل بالحساب وعليه أمة من الناس، وطائفة يقدمون الصوم والوقوف بعرفة وجعلوا ذلك شعارا وهم الباطنية، وبقي الهدي النبوي الفرقة التي لا تزال ظاهرة على الحق فهي المرادة بلفظ الناس في الحديث، وهي السواد الاعظم ولو كانت قليلة العدد. باب الحث على الذكر والطاعة في أيام العشر وأيام التشريق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عزوجل من هذه الايام يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشئ من ذلك رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الايام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد رواه أحمد. وعن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عزوجل رواه أحمد ومسلم والنسائي. قال البخاري: وقال ابن عباس: واذكروا الله في أيام معومات أيام العشر، والايام المعدودات أيام التشريق. قال: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. قال: وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الاسواق حتى يرتج منى تكبيرا. حديث ابن عمر أخرجه أيضا ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير عن ابن عباس. قوله: ما من أيام العمل الصالح فيها في لفظ للبخاري: ما العمل الصالح في أيام وفي رواية كريمة عن الكشميهني: ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه قال في الفتح: وهذا يقتضي نفي أفضلية العمل في أيام العشر على العمل في هذه الايام إن فسرت بأنها أيام التشريق، وعلى ذلك جرى بعض شراح البخاري وزعم أن البخاري فسر الايام المبهمة في هذا
[ 385 ]
الحديث بأنها أيها التشريق، وفسر العمل بالتكبير لكونه أورد الآثار المذكورة المتعلقة بالتكبير فقط. وقال ابن أبي حمزة: الحديث دال على أن العمل في أيام التشريق أفضل من العمل في غيرها، قال: ولا يعكر على ذلك كونها أيام عيد كما في حديث عائشة، ولا ما صح من قوله: إنها أيام أكل وشرب كما في حديث الباب، لان ذلك لا يمنع العمل فيها، بل قد شرع فيها أعلى العبادات وهو ذكر الله تعالى ولم يمتنع فيها إلا الصوم قال وسر كون العبادات فيها أفضل من غيرها أن العبادة في أوقات الغفلة فاضلة على غيرها وأيام التشريق أيام غفلة في الغالب فصار للعابد فيها مزيد فضل على العابد في غيرها. قال الحافظ وهو توجيه حسن إلا أن المنقول يعارضه والسياق الذي وقع في رواية كريمة شاذ مخالف لما رواه أبو ذر وهو من الحافظ عن الكشميهني وهو شيخ كريمة بلفظ: ما العمل في أيام أفضل منها في هذه العشر. وكذا أخرجه أحمد وغيره عن غندر عن شعبة بالاسناد المذكور. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة فقال: في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة وكذا رواه الدارمي عن سعيد بن الربيع عن شعبة. ووقع في رواية وكيع باللفظ الذي ذكره المصنف، وكذا رواه ابن ماجة من طريق أبي معاوية عن الاعمش، ورواه الترمذي من رواية أبي معاوية وقال: من هذه الايام العشر. وقد ظن بعض الناس أن قوله في حديث الباب يعني أيام العشر تفسير من بعض الرواة، لكن ما ذكرنا من رواية الطيالسي وغيره ظاهر في أنه من نفس الخبر، وكذا وقع في رواية القاسم بن أبي أيوب بلفظ: ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الاضحى. وفي حديث جابر في صحيحي أبي عوانة وابن حبان: ما من أيام أفضل عند الله من عشر ذي الحجة. ومن جملة الروايات المصرحة بالعشر حديث ابن عمر المذكور في الباب، فظهر أن المراد بالايام في حديث الباب عشر ذي الحجة. قوله: ولا الجهاد في سبيل الله يدل على تقرر أفضلية الجهاد عندهم، وكأنهم استفادوه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في جواب من سأله عن عمل يعدل الجهاد فقال: لا أجده كما في البخاري من حديث أبي هريرة. قوله: إلا رجل هو على حذف مضاف أي إلا عمل رجل. قوله: ثم لم يرجع بشئ من ذلك أي فيكون أفضل من العامل في أيام العشر أو مساويا له. قال ابن بطال: هذا اللفظ يحتمل أمرين: أن لا يرجع بشئ من ماله وإن رجع هو، وأن لا يرجع هو ولا ماله بأن رزقه الله الشهادة، وتعقبه الزين بن
[ 386 ]
المثير بأن قوله: لم يرجع بشئ يستلزم أن يرجع بنفسه ولا بد انتهى. قال الحافظ: وهو تعقب مردود، فإن قوله: لم يرجع بشئ نكرة في سياق النفي فتعم ما ذكره. وقد وقع فرواية الطيالسي وغندر وغيرهما عن شعبة، وكذا في أكثر الروايات فلم يرجع من ذلك بشئ، قال: والحاصل أن نفي الرجوع بالشئ لا يستلزم إثبات الرجوع بغير شئ بل هو على الاحتمال كما قال ابن بطال انتهى. ومبنى هذا الاختلاف على توجيه النفس المذكور إلى القيد فقط كما هو الغالب، فيكون هو المنتفي دون الرجوع الذي هو المقيد أو توجيهه إلى القيد والمقيد فينتفيان معا. ويدل على الثاني ما عند ابن أبي عوانة بلفظ: إلا من عقر جواده وأهريق دمه. وفي رواية له: إلا من لا يرجع بنفسه ولا ماله. وفي حديث جابر: إلا من عفر وجهه التراب. (والحديث) فيه تفضيل أيام العشر على غيرها من السنة، وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر بصيام أفضل الايام، وقد تقدم الجمع بين حديث أبي هريرة عند مسلم: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة وبين الاحاديث الدالة على أن غيره أفضل منه. (والحكمة) في تخصيص عشر ذي الحجة بهذه المزية اجتماع أمهات العبادة فيها الحج والصدقة والصيام والصلاة، ولا يتأتى ذلك في غيرها، وعلى هذا هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم فيه احتمال. وقال ابن بطال: المراد بالعمل في أيام التشريق التكبير فقط، لانه ثبت أنها أيام أكل وشرب وبعال. وثبت تحريم صومها، وورد فيها إباحة اللهو بالحراب ونحو ذلك، فدل على تفريغها لذلك مع الحض على الذكر، والمشروع منه فيها التكبير فقط، وتعقبه الزين بأن العمل إنما يفهم منه عند الاطلاق العبادة وهي لا تنافي استيفاء حظ النفس من الاكل وسائر ما ذكر، فإن ذلك يستغرق اليوم والليلة. وقال الكرماني: الحث على العمل في أيام التشريق لا ينحصر في التكبير، بل المتبادر إلى الذهن منه أنه المناسك من الرمي وغيره الذي يجتمع مع الاكل والشرب انتهى. والذي يجتمع مع الاكل والشرب لكل أحد من العبادة الزائدة على مفروضات اليوم والليلة هو الذكر المأمور به، وقد فسر بالتكبير كما قال ابن بطال. وأما المناسك فمختصة بالحاج. ويؤيد ذلك ما وقع في حديث ابن عمر المذكور في الباب من الامر بالاكثار فيها من التهليل والتكبير. وفي البيهقي من حديث ابن عباس فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير ووقع من الزيادة في حديث ابن عباس: وإن صيام يوم منها يعدل صيام سنة والعمل بسبعمائة ضعف. وللترمذي عن أبي هريرة: يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة فيها بقيام ليلة القدر لكن إسناده
[ 387 ]
ضعيف، وكذا إسناد حديث ابن عباس. قوله: قال ابن عباس هذا الاثر وصله عبد بن حميد وفيه الايام المعدودات أيام التشريق والايام المعلومات أيام العشر. وروى ابن مردويه عن ابن عباس أن الايام المعلومات التي قبل يوم التروية، ويوم التروية ويوم عرفة والمعدودات أيام التشريق. قال الحافظ: وإسناده صحيح، وظاهره إدخال يوم العيد في أيام التشريق. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أيضا أن المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ورجح الطحاوي هذا لقوله تعالى: * (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام) * (الحج: 28). فإنه يشعر بأن المراد أيام النحر، قال في الفتح: وهذا لا يمنع تسمية أيام العشر معلومات، ولا أيام التشريق معدودات، بل تسمية أيام التشريق معدودات متفق عليه لقوله تعالى: * (واذكروا الله في أيام معدودات) * (البقرة: 203) الآية. وهكذا قال المهدي في البحر: إن أيام التشريق هي الايام المعدودات إجماعا. وقيل: إنها سميت معدودات لانها إذا زيد عليها شئ عد ذلك حصرا أي في حكم حصر العدد. وقد وقع الخلاف في أيام التشريق، فمقتضى كلام أهل اللغة والفقه أن أيام التشريق ما بعد يوم النحر على اختلافهم هل هي ثلاثة أو يومان؟ لكن ما ذكره من سبب تسميتها بذلك يقتضي دخول يوم العيد فيها. وقد حكى أبو عبيد أن فيه قولين: أحدهما لانهم كانوا يشرقون فيها لحوم الاضاحي يقد دونها ويبرزونها للشمس. ثانيهما: لانها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر فصارت تبعا ليوم النحر، قال: وهذا أعجب القولين، إلى أن قال الحافظ: وأظنه أراد ما حكاه غيره أن أيام التشريق سميت بذلك، لان صلاة العيد إنما تصلى بعد أن تشرق الشمس. وعن ابن الاعرابي قال: سمعت بذلك لان الهدايا والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس. وعن يعقوب بن السكيت قال: هو من قول الجاهلية: أشرق ثبير كيما نغير أي ندفع للنحر: قال الحافظ: وأظنهم أخرجوا يوم العيد منها لشهرته بلقب يخصه وهو العيد، وإلا فهي في الحقيقة تبعا له في التسمية كما تبين من كلامهم. ومن ذلك حديث علي عليه السلام: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إليه موقوفا، ومعناه لا صلاة جمعة ولا صلاة عيد. قال: وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق في هذا إلى التكبير في دبر الصلاة يقول: لا تكبير إلا على أهل الامصار، قال: وهذا لم نجد أحدا يعرفه ولا وافقه عليه صاحباه ولا غيرهما، ومن ذلك حديث: من ذبح قبل التشريق فليعد أي قبل صلاة العيد، رواه أبو عبيد من مرسل الشعبي ورجاله ثقات، وهذا كله يدل على أن
[ 388 ]
يوم العيد من أيام التشريق. قوله: وكان ابن عمر وأبو هريرة الخ، قال الحافظ: لم أره موصولا، وقد ذكره البيهقي معلقا عنهما، وكذا البغوي. قوله: وكان عمر الخ، وصله سعيد بن منصور وأبو عبيد. وقوله: ترتج بتثقيل الجيم أي تضطرب وتتحرك، وهي مبالغة في اجتماع رفع الاصوات. وقد ورد فعل تكبير التشريق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند البيهقي والدارقطني: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كبر بعد صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر آخر أيام التشريق. وفي إسناده عمرو بن بشر وهو متروك، عن جابر الجعفي وهو ضعيف، عن عبد الرحمن بن سابط قال البيهقي: لا يحتج به، عن جابر بن عبد الله. وروي من طريق أخرى مختلفة أخرجها الدارقطني مدارها على عبد الرحمن المذكور، واختلف فيها في شيخ جابر الجعفي. ورواه الحاكم من وجه آخر عن فطر بن خليفة عن أبي الفضل عن علي وعمار قال وهو صحيح: وصح من فعل عمر وعلوابن عباس وابن مسعود، وأخرج الدارقطني عن عثمان أنه كان يكبر من ظهر يوم النحر إلى صبح يوم الثالث من أيام التشريق. وأخرج أيضا هو والبيهقي عن ابن عمروزيد بن ثابت أنهما كانا يفعلان ذلك. وجاء عن ابن عمر خلاف ذلك، رواه ابن أبي شيبة. وأخرج الدارقطني عن جابر وابن عباس أنهما كانا يكبران ثلاثا ثلاثا بسندين ضعيفين. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: صح عن عمر وعلي وابن مسعود أنهم كانوا يكبرون ثلاثا ثلاثا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. وقد حكي في البحر الاجماع على مشروعية تكبير التشريق إلا عن النخعي قال: ولا وجه له. وقد اختلف في محله فحكي في البحر عن علي وابن عمر والعترة والثوري وأحمد بن حنبل وأبي يوسف ومحمد، وأحد أقوال الشافعي أن محله عقيب كل صلاة من فجر عرفة إلى آخر أيام التشريق. وقال عثمان بن عفان وابن عباس وزيد بن علي ومالك والشافعي في أحد أقواله: بل من ظهر النحر إلى فجر الخامس. وقال الشافعي في أحد أقواله: بل من مغرب يوم النحر إلى فجر الخامس. وقال أبو حنيفة: من فجر عرفة إلى عصر النحر وقال داود والزهري وسعيد بن جبير: من ظهر النحر إلى عصر الخامس. قال في الفتح: وفيه اختلاف بين العلماء في مواضع، فمنهم من خص التكبير على أعقاب الصلوا ت. ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات وسعيد بن جبير: من ظهر النحر إلى عصر الخامس. قال في الفتح: وفيه اختلاف بين العلماء في مواضع، فمنهم من خص التكبير على أعقاب الصلوا ت. ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل. ومنهم من خصه بالرجال دون النسا، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤداة دون المقضية، وبالمقيم دون المسافر، وساكن المصر دون القرية. قال: وللعلماء أيضا اختلاف في ابتدائه وانتهائه فقيل: من صبح يوم عرفة. وقيل: من ظهره. وقيل: من عصره. وقيل: من صبح
[ 389 ]
يوم النحر. وقيل: من ظهره. وقيل: في الانتهاء إلى ظهر يوم النحر. وقيل: إلى عصره وقيل: إلى ظهر ثانيه. وقيل: إلى صبح آخر أيام التشريق. وقيل: إلى ظهره وقيل: إلى عصره. قال: حكى هذه الاقوال كلها النووي إلا الثاني من الانتهاء. وقد رواه البيهقي عن أصحاب ابن مسعود، ولم يثبت في شئ من ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث. وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود: أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى، أخرجهما ابن المنذر وغيره. وأما صفة التكبير فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال كبروا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا. ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى، أخرجه الفريابي في كتاب العيدين من طريق يزيد بن أبي الزناد عنهم وهو قول الشافعي وزاد: ولله الحمد. وقيل: يكبر ثلاثا ويزيد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ. وقيل: يكبر ثنتين بعدهما لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، جاء ذلك عن عمر وابن مسعود، وبه قال أحمد وإسحاق، وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها، انتهى كلام الفتح. وقد استحسن البعض زيادات في تكبير التشريق لم ترد عن السلف، وقد استوفى ذلك الامام المهدي في البحر. والظاهر أن تكبير التشريق لا يختص استحبابه بعقب الصلوات، بل هو مستحب في كل وقت من تلك الايام، كما يدل على ذلك الآثار المذكورة.