نيل الأوطار
الشوكاني ج 2

[ 1 ]
نيل الاوطار من احاديث سيد الاخبار منتقى الاخبار للشيخ الامام المجتهد العلامة الرباني قاضي قضاة القطر اليماني محمد بن علي ابن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 ه‍ الجزء الثاني - 1973 صار الجيل بيروت - لبنان ص - پ - 8737
[ 2 ]
باب قضاء الفوائت عن أنس بن مالك: أن النبي (ص) قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك متفق عليه. ولمسلم: إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عزوجل يقول: * (أقم الصلاة لذكري) * (طه: 14). وعن أبي هريرة: عن النبي (ص) قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول: * (أقم الصلاة لذكري) * رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. قوله: من نسي تمسك بدليل الخطاب من قال: إن العامد لا يقضي الصلاة، لان انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلي، وإلى ذلك ذهب داود وابن حزم وبعض أصحاب الشافعي، وحكاه في البحر عن ابني الهادي والاستاذ ورواية عن القاسم والناصر. قال ابن تيمية حفيد المصنف: والمنازعون لهم ليس لهم حجة قط يرد إليها عند التنازع وأكثرهم يقولون: لا يجب القضاء إلا بأمر جديد وليس معهم هنا أمر، ونحن لا ننازع في وجوب القضاء فقط، بل ننازع في قبول القضاء منه وصحة الصلاة في غير وقتها، وأطال البحث في ذلك واختار ما ذكره داود ومن معه، والامر كما ذكره فإني لم أقف مع البحث الشديد للموجبين للقضاء على العامد، وهم من عدا من ذكرنا على دليل ينفق في سوق المناظرة ويصلح للتعويل عليه في مثل هذا الاصل العظيم إلا حديث: فدين الله أحق أن يقضى باعتبار ما يقتضيه اسم الجنس المضاف من العموم ولكنهم لم يرفعوا إليه رأسا، وأنهض ما جاؤوا به في هذا المقام قولهم: إن الاحاديث الواردة بوجوب القضاء على الناسي يستفاد من مفهوم خطابها وجوب القضاء على العامد لانها من باب التنبيه بالادنى على الاعلى، فتدل بفحوى الخطاب وقياس الاولى على المطلوب، وهذا مردود لان القائل بأن العامد لا يقضي لم يرد أنه أخف حالا من
[ 3 ]
الناسي، بل صرح بأن المانع من وجوب القضاء على العامد أنه لا يسقط الاثم عنه فلا فائدة فيه، فيكون إثباته مع عدم النص عبثا، بخلاف الناسي والنائم فقد أمرهما الشارع بذلك، وصرح بأن القضاء كفارة لهما لا كفارة لهما سواه، ومن جملة حججهم أن قوله في الحديث: لا كفارة لها إلا ذلك يدل على أن العامد مراد بالحديث لان النائم والناسي لا إثم عليهما، قالوا: فالمراد بالناسي التارك سواء كان عن ذهول أم لا. ومنه قوله تعالى: * (نسوا الله فنسيهم) * (التوبة: 67) وقوله تعالى: * (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) * (الحشر: 19) ولا يخفى عليك أن هذا الكلام يستلزم عدم وجوب القضاء على الناسي والنائم لعدم الاثم الذي جعلوا الكفارة منوطة به، والاحاديث الصحيحة قد صرحت بوجوب ذلك عليهما، وقد استضعف الحافظ في الفتح هذا الاستدلال، وقال: الكفارة قد تكون عن الخطأ كما تكون عن العمد، على أنه قد قيل: إن المراد بالكفارة هي الاتيان بها تنبيها على أنه لا يكفي مجرد التوبة والاستغفار من دون فعل لها. وقد أنصف ابن دقيق العيد فرد جميع ما تشبثوا به، والمحتاج إلى إمعان النظر ما ذكرنا لك سابقا من عموم حديث: فدين الله أحق أن يقضى لا سيما على قول من قال: إن وجوب القضاء بدليل هو الخطاب الاول الدال على وجوب الاداء، فليس عنده في وجوب القضاء على العامد فيما نحن بصدده تردد لانه يقول: المتعمد للترك قد خوطب بالصلاة ووجب عليه تأديتها فصارت دينا عليه، والدين لا يسقط إلا بأدائه، إذا عرفت هذا علمت أن المقام من المضايق. وأن قول النووي في شرح مسلم بعد حكاية قول من قال: لا يجب القضاء على العامد أنه خطأ من قائله وجهالة من الافراط المذموم. وكذلك قول المقبلي في المنار: إن باب القضاء ركب على غير أساس ليس فيه كتاب ولا سنة إلى آخر كلامه من التفريط. قوله: لا كفارة لها إلا ذلك استدل بالحصر الواقع في هذه العبارة على الاكتفاء بفعل الصلاة عند ذكرها، وعدم وجوب إعادتها عند حضور وقتها من اليوم الثاني، وسيأتي الكلام على ذلك عند الكلام على حديث عمران بن حصين من آخر هذا الباب. والامر بفعلها عند الذكر يدل على وجوب المبادرة بها، فيكون حجة لمذهب من قال بوجوبه على الفور وهو الهادي والمؤيد بالله والناصر وأبو حنيفة وأبو يوسف والمزني والكرخي. وقال القاسم ومالك والشافعي وروي عن المؤيد بالله أنه على التراخي، واستدلوا في قضاء الصلاة بما في بعض روايات حديث نوم الوادي من أنه لما استيقظ النبي (ص) بعد فوات الصلاة بالنوم
[ 4 ]
أخر قضائها واقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي، ورد بأن التأخير لمانع آخر وهو ما دل عليه الحديث بأن ذلك الوادي كان به شيطان، ولاهل القول الاول حجج غير مختصة بقضاء الصلاة، وكذلك أهل القول الآخر. واعلم أن الصلاة المتروكة في وقتها لعذر النوم والنسيان لا يكون فعلها بعد خروج وقتها المقدر لها لهذا العذر قضاء وإن لزم ذلك باصطلاح الاصول، لكن الظاهر من الادلة أنها أداء لا قضاء، فالواجب الوقوف عند مقتضى الادلة حتى ينتهض دليل يدل على القضاء. والحديثان يدلان على وجوب فعل الصلاة إذا فاتت بنوم أو نسيان وهو إجماع. قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق حديث أبي هريرة: وفيه أن الفوائت يجب قضاؤها على الفور، وإنها تقضي في اوقات النهى وغيرها وان من مات وعليه صلاة فانها لا تقضى عنه ولا يطعم عنه لها لقوله (لا كفارة لها الا ذلك) وفيه دليل على ان شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نسخه انتهى * 3 - وعن ابى قتادة قال " ذكروا للنبى صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة فقال انه ليس في النوم تفريط انما التفريط في اليقظة فإذا نسى احدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها " رواه النسائي والترمذي وصححه) * الحديث اخرجه ايضا أبو داود من حديثه: قال الحافظ واسناده على شرط مسلم ورواه مسلم بنحوه في قصة نومهم في صلاة الفجر ولفظه " ليس في النوم تفريط انما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيئ وقت الصلاة الا خرى فمن فعل ذلك فليصلها حتى ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها " الحديث يدل على ان النائم ليس بمكلف حال نومه وهو اجماع ولا ينافيه ايجاب الضمان عليه لما اتلفه والزامه ارش ما جناه لان ذلك من الاحكام الوضعية لا التكليفية واحكام الوضع تلزم النائم والصبى والمجنون بالاتفاق: وظاهر الحديث انه لا تفريط في النوم سواء كان قبل دخول وقت الصلاة أو بعده قبل تضيقه: وقيل انه إذا تعمد النوم قبل تضيق الوقت واتخذ ذلك ذريعة الى ترك الصلاة لغلبة ظنه انه لا يستيقظ الا وقد خرج الوقت كان آثما والظاهر انه لا إثم عليه بالنظر الى النوم لانه فعله في وقت يباح فعله فيه فيشمله الحديث واما إذا نظر الى التسبب به للترك فلا اشكال في العصيان بذلك ولاشك في اثم من نام بعد تضييق الوقت لتعلق الخطاب به والنوم مانع من الامتثال والواجب ازالة المانع
[ 5 ]
وقد تقدم الكلام على قوله في الحديث " فإذا نسى احدكم صلاة الخ * 4 (وعن ابي قتادة في قصة نومهم عن صلاة الفجر قال " ثم اذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم " رواه احمد ومسلم " * الحديث أو رده مسلم مطولا وذكر فيه قصة ابى قتادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه على راحلته وان ابا قتادة عمه ثلاث مرات واخرج النسائي وابن ماجه طرفا منه. قوله " ثم اذن بلال " فيه استحباب الاذان للصلاة الفائتة: قوله " فصلى " الخ فيه استحباب قضاء السنة الراتبة لان الظاهر ان هاتين الركعتين اللتين قبل الغداة هما سنة الصتح: قوله " كما كان يصنع كل يوم " فيه اشارة الى ان صفة قضاء الفائتة كصفة ادائها فيؤخذ منه ان فائتة الصبح يقنت فيها والى ذلك ذهب الشافعية وسياتى الكلام على القنوت وتحقيق ما هو الحق فيه: ويؤخذ منه ايضا انه يجهر في الصبح المقضيه بعد طلوع الشمس: وقال بعض اصحاب الشافعي انه يسن فقط وحمل قوله " كما كان يصنع " على الافعال فقط وفيه ضعف * 5 (وعن عمران بن حصين قال سرينا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في آخر الليل عرسنا فلم نسبيقظ حتى ايقظنا حر الشمس فجعل الرجل منا يقوم دهشا الى طهوره ثم امر بلالا فاذن ثم صلى الركعتين قبل الفجر ثم اقام فصلينا فقالوا يا رسول الله الا نعيدها في وقتها من الغد فقال اينهاكم ربكم تعالى عن الربا ويقبله منكم " رواه احمد في مسنده) * الحديث اخرجه ابن خزيمة وابن جبان في صحيحيهما وابن الى شيبة والطبراني واخرجه البخاري ومسلم مطولا عن ابى رجاء العطاردي عن عمران وليس فيهما ذكر الاذان والاقامة ولا قوله فقالوا يا رسول الله الا نعيدها الى آخره: والخرجه أبو داود من حديث الحسن عن عمران وفيه ذكر الاذان والاقامة دون قوله فقالوا يارسول الله الى آخر الحديث المذكور ولكنه اخرج هذه الزيادة التى في حديث الباب النسائي وذكرها الحافظ في الفتح واحتج بها ويعارضها صحيح مسلم من حديث ابى قتادة بلفظ " فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها " وما في سنن داود من
[ 6 ]
حديث عمران بن حصين بلفظ " من ادرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض مثلها " ويشهد لصحة تلك الرواية ما تقدم في اول الباب من حديث انس بلفظ " لا كفارة لها الا ذلك " ويدل على صحتها اجماع المسلمين على عدم وجوب قضاء تلك الصلاة التى فعلها النائم عند استيقاظه والساهى عند ذكره إذا حضر وقتها كما صرح بذلك الخطابى والحافظ ابن حجر والمعارضة برواية مسلم السابقة غير صحيحة لاحتمال ان يريد بقوله " فليصلها عند وقتها " اي الصلاة التى تحضر لانه ربما توهم ان وقتها قد تحول الى ذلك الوقت الذى ذكرها فيه ولا يريد انه يعيد الصلاة بعد خروج وقتها قد تحول الى ذلك النووي والحافظ وغيرهما: واما رواية ابى داود فقال الحافظ انها خطا من روايها قال وحكي ذلك الترمذي وغيره عن البخاري: وقد ذكر الحافظ في الفتح انه رواها أبو داود من حديث عمران بن حصين ورايناها في السنن من حديث ابى قتادة الانصاري ولم يتفرد بها عمران حتى يقال في تضعيفها انها من رواية الحسن عنه: وقد صرح على بن المدينى وابو حاتم وغيرهما ان الحسن لم يسمع منه ولكنها لا تنهض لمعارضة حديث الباب بعد باييده بما أسلفنا لا سيما بعد تصريح الحافظ بأنها خطأ: قال المصنف رحمه الله بعد سيقاه لحديث الباب فيه دسليل على أن الفائتة يسن لها الاذان والاقامة والجماعة وإن النداءين مشروعان في السفر وإن السنن الرواتب تقضى انتهى: قوله " عرسنا " التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة هكذا قاله الخليل: وقال أبو زيد هو النزول أي وقت كان من ليل أو نهار قوله " فإذن ثم أقام " سيأتي الكلام علي الاذان والاقامة في القضاء في باب من عليه فائتة آخر الاذان إن شاء الله تعالى * (باب الترتيب في قضاء الفوائت) 1 (عن جابر بن عبد الله " أن عمر جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش وقال يا رسول الله ما كدت أصلى العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما صليتها فتوضأنا فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب " متفق عليه) *
[ 7 ]
قوله " عن جابر " قد اتفق الحافظ من الرواة أن هذا الحديث من رواية جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاحجاج بن نصير فانه رواه عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبى كثير فقال فيه عن جابر عن عمر فجعله في مسند عمر: قال الحافظ تفرد بذلك حجاج وهو ضعيف، قوله " يسب كفار قريش " لانهم كانوا السبب بفي تأخيرهم الصلاة عن وقتها، قوله " ما كدت " لفظة كاد من أفعال المقاربة فإذا قلت كاد زيد يقوم فهم منه أناه قارب القيام ولم يقم كما ترقرر في النحو * والحديث يدل علي وجوب قضاء الصلاة المتروكة لعذر الاشتغال بالقتال وقد وقع الخلاف في سبب ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإصحابه لهذه الصلاة فقيل تركوها نسيانا وقيل شغلوا فلم يتمكنوا وهو الاقرب كما قال الحافظ: وفي سنن النسائي عن إبى سعيد ان ذلك قبل ان ينزل الله في صلاة الخوف فرجالا أو ركبانا وسيأتي الحديث: وقد استدل بهذا الحديث على وجوب الترتيب بين الفوائت المقضية والمؤادة فابو حنيفة ومالك والليث والزهرى والنخعي وربيعة قالوا بوجو تقديم الفائتة علي خلاف بينهم: وقال الشافعي والهادي والقاسم لا يجب ولا ينتهض استدلال الموجبين بالحديث للمطلوب لان الفعل بمجردة لا يدل على الوجوب: قال الحافظ الا أن يستدل بعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلى " فيقوى قال وقد اعتبر ذلك الشافعية في أشياء غير هذه انتهى: وقد استدل للموجبين أيضا بأن توقيت المقضية بوقت الذكر أضيق من توقيت المؤادة فيجب تقديم ما تضيق: والخلاف في جواز التراخي انما هو في المطلقات لا المؤقتات المضيقة: وقد اختلف أيضا في الترتيب بين المقضيات أنفسها وسنذكره في شرح الحديث الاتى * 2 (وعن أبى سعيد قال " حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوى من الليل كفينا وذلك قول الله عزوجل وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا لافأتقام الظهر فصلاها فاحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمره فاقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمره فاقام المغرب فصلاها كذلك قال وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل في صلاة الخوف فان خفتم فرجالا أو ركبانا " رواه أحمد والنسائي ولم يذكر المغرب) *
[ 8 ]
الحديث رجال إسناده رجال الصحيح وسيأتي ذكر من صحهه، وفى الباب عن عبد الله بن مسعود عند الترمذي والنسائي بلفظ " أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق " وساقا نحو الحديث: وأخرج نحوه مالك في الموطأ: قوله " بهوى " الهوي بفتح الهاء وكسر الوا وبياء مشددة السقوط والمراد بعد دخول طائفة من الليل * والحديث يدل على وجوب قضاء الصلاة المتروكة لعذر الاشتغال بحرب الكفار ونحوهم لكن انما كان هذا قبل شرعية صلاة الخوف كما في آخر الحديث والواجب بعد شرعيتها على من حبس بحرب العدو وأن يفعلها: وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا منسوخ بصلاة الخود وذهب مكحول وغيره من الشاميين الى جواز تأخير صلاة الخوف إذا لم يتمكن من ادائها والصحيح الاول لما في آخر هذا الحديث والحديث مصرح بانها فائتة صلاة الظهر والعصر وحديث جابر المتقدم مصرح بانها العصر وحديث عبد الله بن مسعود مصرح بانها أربع صلوات فمن الناس من اعتمد الجمع فقال ان وقعة الخندق بقيت أياما فكان في بعض الايام الفائت العصر فقط وفي بعضها الفائت العصر والظهر وفي بعضها الفائت أربع صلوات ذكره النووي وغيره: ومن الناس من اعتمد الترجيح فقال ان الصلاة التي شغل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحدة وهي العصر ترجيحا لما في الصحيحين على ما في غيرهما ذكره أبو بكر بن العربي قال ابن سيد الناس والجمع أرجح لان حديث أبى سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي حدثنا ابن أبى فديك عن ابن أبي ذئب عن المقبرى عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال وهذا اسناد صحيح جليل انتهيي: وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وصححه ابن السكن وقد تقدم نحو هذا في باب الصلاة الواسطي على ان حديث الباب ونحوه متضمن للزيادة فامصير إليه متحتم واقتصار الراوي على ذكر المصر فقط لا يقدح في قول غيره انها العصر والظهر أو الاربع الصلوات وغايته انه روى ما علم وترك ما لم يعلم ومن علم حجة على من لم يعلم ولايحتاج الى الجمع بتعدد واقعة الخنفق مع هذا * والحديث أيضا يدل على الترتيب بين الفوائت المقضية وقد قال بوجوبه زيد بن على والناصر وأبو حنيفة وقل الشافعي والهادي والامام يحيى انه غير واجب وهو الظاهر لان مجرد الفعل لا يدل على الوجوب الا ان يستدل بعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلى " ك ما سبق ولكنه غير خالص عن شوب اعتراض
[ 9 ]
ومعارضة وفي الحديث دليل على استحباب قضاء الفوائت في الجماعة وخالف فيه الليث ابن سعد والحديث يرد عليه * قال المصنف رحمه الله تعالى وفيه دليل على الاقامة للفوائت وعلى أن صلاة النهار وان قضيت ليلا لا يجهر فيها، وعلى ان تأخيره يوم الخندق نسخ بشرع صلاة الخوف انتهى * (أبواب الاذن) الاذان لغة الاعلام نقل ذلك النووي في شرح مسلم عن أهل اللغة، وشرعا الاعلام بوقت الصلاة بالفاظ مخصوصة وهو مع قلة إلفاظه مشتمل على مسائل العقائد كما بين ذلك الحافظ في الفسخ نقلا عن القرطبى، وقد اختلف في الافضل من الاذان والامامة وسيأتي ما يرشد إلى الصواب: وقد اختلف في أي وقت كان ابتداء شرعية الاذان فقيل نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع فرض الصلاة وقد روى ذلك ابن حبان عن ابن عباس باسناده فيه عبد العزيز بن عمران وهو ممن لا تقوم به حجة: وعند الدار قطني من حديث أنس قال الحافظ واسناده ضعيف وعند الطبراني عن ابن عمر وذكرانه في ليلة الاسراء وفى اسناده طلحة بن زيد وهو متروك، وعند ابن مردويه من حديث عائشة مثله وفيه من لا يعرف: وعند البزار وغيره عن علي رضى الله عنه وفي إسناده زياده بن المنذر أبو الجارود وهو متروك قال الحافظ والحق انه لا يصح شئ من هذه وقد أطالب الكلام في ذلك في الفتح فليرجع إليه: وقيل كان فرض الاذان عند قدوم المسلمين المدينة لما ثبت عند البخاري ومسلم والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي من حديث عبد الله بن عمر قال " كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادى بها أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم اتخذوا قرنا مثل قرن اليهود قال فقال عمر ألا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا بلال قم فناد بالصلاة " وهذا أصح ما ورد في تعيين ابتداء وقت الاذان *
[ 10 ]
(باب وجوبه وفضيلته) 1 * (عن أبي الدرداء قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مامن ثلاثة لا يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة الا استحوذ عليهم الشيطان " رواه أحمد) * الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال صحيح الاسناد ولكن لفظ أبي داود " مامن ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة الا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فانما يأكل الذئب القاصية " الحديث استدل به على وجوب الاذان والاقامة لان الترك الذى هو نوع من استحواذ الشيطان يجب تجنبه: وإلى وجوبهما ذهب أكثر العترة وعطاء وأمد بن حنبل ومالك والاصطخري كذا في البحر ومجاهد والاوزاعي وداود كذا في شرح الترمذي وقد حكى الماوردى عنهم تفصيلا في ذلك فحكى عن مجاهد أن الاذان والاقامة واجبان معا لا ينوب أحدهما عن الاخر فان تركهما أو أحدهما فسدت صلاته، وقال الاوزاعي يعيد ان كان وقت الصلاة باقيا والا لم يعد: وقال عطاء الاقامة واجبة دون الاذان فان تركها لعذر أجزأه ولغير عذر قضى: وفي البحر أن القائل بوجوب الاقامة دون الاذان الاوزاعي وروى عن أبي طالب أن الاذان واجب دون الاقامة، وعند الشافعي وأبي حنيفة انهما سنة واختلف أصحاب الشافعي على ثلاثة أقوال الاول انهما سنة الثاني فرض كفاية: الثالث سنة في غير الجمعة وفرض كفاية فيها وروى ابن عبد البر عن مالك وإصحابه انهما سنة مؤكدة واجبة الكفاية، وقال آخرون الاذان فرض على الكفاية ومن أدلة الموجبين للاذان قوله في حديث مالك بن الحويرث الاتي " فليؤمن لكم أحدكم " وفي لفظ للبخاري " فإذنا ثم أقيما " ومنها حديث أنس المتفق عليه بلفظ " امر بلال أن يشفع الاذان ويوتر الاقامة " والامر له النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي: ومنها ما في حديث عبد الله بن زيد الاتي من قوله " انها لرؤيا حق ان شاء الله ثم أمر بالتأذين " وما سيأتي من قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبى العاص " اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا " ومنها حديث أنس عند البخاري وغيره قال " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أغزى بنا قوما لم يكن
[ 11 ]
يغزينا حتى يصبح وينظر فان سمع أذانا كف عنهم وان لم يسمع أذانا أغار عليهم " ومنها طول الملازمة من أول الهجرة إلى الموت لم يثبت انه ترك ذلك في سفر ولا حضر الا يوم المزدلفة فقد صحح كثير من الائمة انه لم يؤذن فيها وانما أقام على أنه قد أخرج البخاري من حديث ابن مسعود انه صلى الله عليه وسلم صلاها في جمع بأذانين واقامتين وبهذا الترك على ما فيه من الخلاف احتج من قال بعدم الوجوب وخص بعض القائلين بالوجوب الرجال بوجوبهما ولم يوجبهما علي النساء استدلالا بحديث " ليس على النساء إذان ولا اقامة " عند البيهقي من حديث ابن عمر باسناد صحيح الا انه قال ابن الجوزى لا يعرف مرفوعا: وقد رواه البيهقى وابن عبدى من حديث أسماء مرفوعا وفى اسناده الحكم بن عبد الله الايلي وفيه ضعف جدا: وبحديث " النساء عى وعورات فاستروا عيهن بالسكوت وعرواتهن بالبيوت " * 2 (وعن مالك بن الحويرث " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم " متفق عليه) قوله " احكدم " يدل على انه لا يعتبر السن والفضل في الاذن كما يعتبر في إمامة الصلاة: وقد استدل بهذا من قال بافضلية الامامة علي الاذان لا كون الاشرف أحق بها مشعر بمزيد شرف لها: وفي لفظ للبخاري " فإذا أنتما خرجتما فاذنا " ولا تعارض بينه وبين ما في حديث الباب لان المراد بقوله أذانا أي من أحب منكما أن يؤذن فليؤذن وذلك لاستوائهما في الفضل * والحديث استدل به من قال بوجوب الاذان لما فيه من صيغة الامر وقد تقدم الخلاف في ذلك * 3 (وعن معاوية " ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ان المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة " رواه أحمد ومسلم وابن ماجه) * وفي الباب عن أبى هريرة وابن الزبير بالفاظ مختلفة: قوله " أطول الناس أعناقا " هو بفتح الهمزة جمع عنق واختلف السلف والخلف في معناه فقيل معناه أكثر الناس تشوفا الى رحمة الله لان المتشوف يطيل عنقه لما يتطلع إليه فمعناه كثرة ما يرونه من الثواب وقال النضر بن شميل إذا ألجم الناس العرق يوم القيامة طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق: وقيل معناه انهم سادة ورؤساء والعرب تصف السادة بطول العنق: وقيل معناه أكثر اتباعا وقال ابن الاعرابي أكثر الناس أعمالا القاضى عياض وغيره
[ 12 ]
وروي بعضهم إعناقا بكسر الهمزة أي اسراعا الى الجنة وهو من سير العنق قال ابن أبي داود سمعت أبي يقول معناه ان الناس يعطشون يوم القيامة فإذا عطش الانسان أنطوت عنقه والمؤذنون لا يعطشون فاعناقهم قائمة. وفي صحيح ابن حبان من حديث أبى هريرة " يعرفون بطول أعناذهم يوم القيامة " زاد السراج لقولهم " لا إله الا الله " وظاهره الطول الحقيقي فلا يجوز المصير الى التفسير بغيره الا لملجي * والحديث يدل على فضيلة الاذان أن صاحبه يوم القيامة يمتاز عن غيره ولكن إذا كان فاعله غير متخذ أجرا عليه والاكان فعله لذلك من طلب الدنيا والسعى للمعاش وليس من أعمال الاخرة: وقد استدل بهذا الحديث من قال ان الاذان أفضل من الامامة وهو نص الشافعي في الام وقول أكثر أصحابه: وذهب بعض أصحابه الى ان الامامة أفضل وهو نص الشافعي أيضا قاله النووي وبعضهم ذهب الى انهما سواء وبعضهم الى انه ان علم من فسه القيام بحقوق الامامة وجمع خصالها فهي أفضل والا فالاذان قاله أبو على وإبو القاسم بن كج والمسعودي والقاضى حسين من أصحاب الشافعي واختلف في الجمع بين الاذان والامامة فقال جماعة من أصحاب الشافعي انه يستحب ان لا يفعله وقال بعضهم يكره وقال محققوهم وأكثرهم لا بأس به بل يستحب: قال النووي وهذا أصح في البيهقي مرفوعا من حديث جابر النهى عن ذلك قال الحافظ لكن سنده ضعيف * 4 - * (وعن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الامام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الائمة واغفر للمؤذنين رواه أحمد وأبو داود والترمذي. الحديث رواه الشافعي من طريق إبراهيم بن أبي يحيى وابن حبان وابن خزيمة، كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه من ذكر المصنف عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. وروي أيضا عن أبي صالح عن عائشة، قال أبو زرعة: حديث أبي هريرة أصح من حديث عائشة. وقال محمد عكسه، وذكر علي بن المديني أنه لم يثبت واحد منهما. وقال أيضا: لم يسمع سهيل هذا الحديث من أبيه إنما سمعه من الاعمش، ولم يسمعه الاعمش من أبي صالح بيقين لانه يقول فيه: نبئت عن أبي صالح، وكذا قال البيهقي في المعرفة. وقال الدارقطني في العلل: رواه سليمان وروح بن القاسم ومحمد بن جعفر وغيره عن سهيل عن الاعمش، قال: وقال أبو بدر عن الاعمش: حدثت عن أبي صالح،
[ 13 ]
وقال ابن فضيل عنه عن رجل عن أبي صالح. وقال الثوري: لم يسمع الاعمش هذا الحديث من أبي صالح، وصحح حديث أبي هريرة وعائشة جميعا ابن حبان وقال: قد سمع أبو صالح هذين الخبرين من عائشة وأبي هريرة جميعا. وقال ابن عبد الهادي: أخرج مسلم بهذا الاسناد يعني سهيلا عن أبيه نحوا من أربعة عشر حديثا. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه أبو العباس السراج وصححه الضياء في المختارة. وعن أبي أمامة عند أحمد. وعن جابر عند ابن الجوزي في العلل. ورواه البزار عن أبي هريرة وزاد فيه بذلك الاسناد: قالوا يا رسول الله لقد تركتنا نتنافس في الاذان بعدك فقال: إنه يكون بعدكم قوم سفلتهم مؤذنوهم قال الدارقطني: هذه الزيادة ليست محفوظة، وأشار ابن القطان إلى أن البزار هو المنفرد بها، قال الحافظ: وليس كذلك فقد جزم ابن عدي بأنها من أفراد أبي حمزة، وكذا قال الخليلي وابن عبد البر، وأخرجه البيهقي من غير طريق البزار فبرئ من عهدتها، وأخرجها ابن عدي في ترجمة عيسى بن عبد الله عن يحيى بن عيسى الرملي عن الاعمش واتهم بها عيسى وقال: إنما تعرف هذه الزيادة بأبي حمزة. قال ابن القطان: أبو حمزة ثقة ولا عيب للاسناد إلا ما ذكر من الانقطاع، ويجاب عنه بأن الواسطة قد عرفت وهو الاعمش كما تقدم، فلا يضر هذا الانقطاع ولا تعد علة، وأما الانقطاع الثاني بين الاعمش وأبي صالح الذي تقدم فيه قوله عن رجل فيجاب عنه بأن ابن نمير قد قال عن الاعمش عن أبي صالح ولا أراني، إلا قد سمعته منه. وقال إبراهيم بن حميد الرؤاسي: قال الاعمش وقد سمعته من أبي صالح. وقال هشيم عن الاعمش: حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة ذكر ذلك الدارقطني، فبينت هذه الطرق أن الاعمش سمعه عن غير أبي صالح ثم سمعه منه. قال اليعمري: والكل صحيح والحديث متصل. قوله: الامام ضامن الضمان في اللغة الكفالة والحفظ والرعاية، والمراد أنهم ضمناء على الاسرار بالقراءة والاذكار، حكي ذلك عن الشافعي في الام. وقيل: المراد ضمان الدعاء أن يعم القوم به ولا يخص نفسه. وقيل: لانه يتحمل القيام والقراءة عن المسبوق. وقال الخطابي: معناه أنه يحفظ على القوم صلاتهم وليس من الضمان الموجب للغرامة. قوله: والمؤذن مؤتمن قيل: المراد أنه أمين على مواقيت الصلاة. وقيل: أمين على حرم الناس لانه يشرف على المواضع العالية. والحديث استدل به على فضيلة الاذان وعلى أنه أفضل من الامامة، لان الامين أرفع حالا من الضمين، وقد تقدم الخلاف في ذلك، ويؤيد قول من قال
[ 14 ]
إن الامامة أفضل أن النبي (ص) والخلفاء الراشدين بعده أموا ولم يؤذنوا وكذا كبار العلماء بعدهم. وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: يعجب ربك عزوجل من راعي غنم في شظية بجبل يؤذن للصلاة ويصلي فيقول الله عزوجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني فقد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة رواه أحمد وأبو داود والنسائي. الحديث رجال إسناده ثقات، وقد أخرجه أيضا سعيد بن منصور والطبراني والبيهقي، وفي البخاري والموطأ والنسائي بلفظ: إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله (ص)، وأخرج عبد الرزاق والمقدسي والنسائي في المواعظ من سننه عن سلمان رفعه: إذا كان الرجل في أرض في أي قفر فتوضأ فإن لم يجد الماء تيمم ثم ينادي بالصلاة ثم يقيمها ويصليها إلا أم من جنود الله صفا ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن معتمر التيمي عن أبيه، وروى نحوه البيهقي والطبراني في الكبير. والحديث يدل على شرعية الاذان للمنفرد، فيكون صالحا لرد قول من قال: إن شرعية الاذان تختص بالجماعة، وفيه أيضا أن الاذان من أسباب المغفرة للذنوب، وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: يغفر للمؤذن مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس وفي إسناده أبويحيى الراوي له عن أبي هريرة. قال ابن القطان: لا يعرف، وادعى ابن حبان في الصحيح أن اسمه سمعان، وقد رواه البيهقي من وجهين آخرين عن الاعمش، قال تارة عن أبي صالح، وتارة عن مجاهد عن أبي هريرة، ومن طريق أخرى عن مجاهد عن ابن عمر. ورواه أحمد والنسائي من حديث البراء بن عازب بلفظ: المؤذن يغفر له مد صوته ويصدقه من يسمعه من رطب ويابس وله مثل أجر من صلى معه وصححه ابن السكن، ورواه أحمد والبيهقي من حديث مجاهد عن ابن عمر. وفي فضل الاذان أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما مصرحة بعظيم فضله وارتفاع درجته، وأنه من أجل الطاعات التي يتنافس فيها المتنافسون ولكن بذلك الشرط الذي عرفناك في شرح حديث معاوية. قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق حديث الباب: وفيه دليل على أن الاذان يسن للمنفرد وإن كان
[ 15 ]
بحيث لا يسمعه أحد. الشظية الطريقة كالجدة انتهى. ويقال الشظية للقطعة المرتفعة من الجبل وهي بالظاء المعجمة. باب صفة الاذان عن محمد بن إسحق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: لما أجمع رسول الله (ص) أن يضرب بالناقوس وهو له كاره لموافقته النصارى طاف بي من الليل طائف وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران، وفي يده ناقوس يحمله قال فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قال قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ فقلت: بلى، قال تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخر غير بعيد، قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله (ص) فأخبرته بما رأيت فقال رسول الله (ص): إن هذه الرؤيا حق إن شاء الله ثم أمر بالتأذين، فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك ويدعو رسول الله (ص) إلى الصلاة، قال: فجاءه فدعاه ذات غداة إلى الفجر فقيل له: إن رسول الله (ص) نائم فصرخ بلال بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر: رواه أحمد وأبو داود من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه وفيه: فلما أصبحت أتيت رسول الله (ص) فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فإنه أندى صوتا منك، قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي أري، فقال رسول الله (ص): فلله الحمد وروى الترمذي هذا الطرف منه بهذه الطريق وقال:
[ 16 ]
حديث عبد الله بن زيد حديث حسن صحيح. الحديث أخرجه أيضا من الطريقة الاولى الحاكم وقال: هذه أمثل الروايات في قصة عبد الله بن زيد لان سعيد بن المسيب قد سمع من عبد الله بن زيد، ورواه يونس ومعمر وشعيب وابن إسحاق عن الزهري، ومتابعة هؤلاء لمحمد بن إسحاق عن الزهري ترفع احتمال التدليس الذي تحتمله عنعنة ابن إسحاق. وأخرجه أيضا من الطريقة الثانية ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي وابن ماجه. قال محمد بن يحيى الذهلي: ليس في أخبار عبد الله بن زيد أصح من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي يعني هذا، لان محمدا قد سمع من أبيه عبد الله بن زيد، وقال ابن خزيمة في صحيحه: هذا حديث صحيح ثابت من جهة النقل، لان محمدا سمع من أبيه، وابن إسحاق سمع من التيمي وليس هذا مما دلسه. وقد صحح هذه الطريقة البخاري فيما حكاه الترمذي في العلل عنه. وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود من حديث محمد بن عمرو الواقفي عن محمد بن عبد الله عن عمه عبد الله بن زيد ومحمد بن عمرو ضعيف، واختلف عليه فيه فقيل عن محمد بن عبد الله. وقيل عبد الله بن محمد. قال ابن عبد البر: إسناده حسن من حديث الافريقي، قال الحاكم: وأما أخبار الكوفة في هذه القصة يعني في تثنية الاذان والاقامة فمدارها على حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى واختلف عليه فيه، فمنهم من قال عن معاذ بن جبل، ومنهم من قال عن عبد الله بن زيد، ومنهم من قال غير ذلك. الحديث فيه تربيع التكبير. وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء كما قال النووي. ومن أهل البيت الناصر والمؤيد بالله والامام يحيى واحتجوا بهذا الحديث فإن المشهور فيه التربيع وبحديث أبي محذورة الآتي. وبأن التربيع عمل أهل مكة وهي مجمع المسلمين في المواسم وغيرها، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم. وذهب مالك وأبو يوسف ومن أهل البيت زيد بن علي والصادق والهادي والقاسم إلى تثنيته محتجين بما وقع في بعض روايات هذا الحديث من التثنية. وبحديث أبي محذورة الآتي في رواية لمسلم عنه وفيه: أن الاذان مثنى فقط وبأن التثنية عمل أهل المدينة وهم أعرف بالسنن. وبحديث أمره (ص) لبلال بتشفيع الاذان وإيتار الاقامة وسيأتي. والحق أن روايات التربيع أرجح لاشتمالها على الزيادة وهي مقبولة لعدم منافاتها وصحة مخرجها. وفي الحديث ذكر الشهادتين مثنى مثنى، وقد اختلف الناس
[ 17 ]
في ذلك، فذهب أبو حنيفة والكوفيون والهادوية والناصر إلى عدم استحباب الترجيع تمسكا بظاهر الحديث، والترجيع هو العود إلى الشهادتين مرتين مرتين برفع الصوت بعد قولها مرتين مرتين بخفض الصوت، ذكر ذلك النووي في شرح مسلم. وفي كلام الرافعي ما يشعر بأن الترجيع اسم للمجموع من السر والجهر. وفي شرح المهذب والتحقيق والدقائق والتحرير أنه اسم للاول. وذهب الشافعي ومالك وأحمد وجمهور العلماء كما قال النووي إلى أن الترجيع في الاذان ثابت لحديث أبي محذورة الآتي، وهو حديث صحيح مشتمل على زيادة غير منافية فيجب قبولها، وهو أيضا متأخر عن حديث عبد الله بن زيد. قال في شرح مسلم: إن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين، وحديث عبد الله بن زيد في أول الامر، ويرجحه أيضا عمل أهل مكة والمدينة به. قال النووي: وقد ذهب جماعة من المحدثين وغيرهم إلى التخيير بين فعل الترجيع وتركه. وفيه التثويب في صلاة الفجر لقول سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر يعني قول بلال: الصلاة خير من النوم، وزاد ابن ماجه: فأقرها رسول الله (ص) وفي إسناده ضعف جدا. وروى أيضا ابن ماجه وأحمد والترمذي من حديث بلال بلفظ: لا تثويب في شئ من الصلاة إلا في صلاة الفجر وفيه أبو إسماعيل الملائي وهو ضعيف مع انقطاعه بين عبد الرحمن بن أبي ليلى وبلال. وقال ابن السكن: لا يصح إسناده. ورواه الدارقطني من طريق أخرى وفيه أبو سعيد البقال وهو نحو أبي إسماعيل في الضعف: وبيان الانقطاع بين ابن أبي ليلى وبلال أن ابن أبي ليلى مولده سنة سبع عشرة ووفاة بلال سنة عشرين أو إحدى وعشرين بالشام، وكان مرابطا بها قبل ذلك من أوائل فتوحها، فهو شامي وابن أبي ليلى كوفي، فكيف يسمع منه مع حداثة السن وتباعد الديار؟ وقد روي إثبات التثويب من حديث أبي محذورة قال: علمني رسول الله (ص) الاذان وقال: إذا كنت في أذان الصبح فقلت حي على الفلاح فقل الصلاة خير من النوم أخرجه أبو داود وابن حبان مطولا من حديثه وفيه هذه الزيادة، وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة وهو غير معروف الحال، والحرث بن عبيد وفيه مقال. وذكره أبو داود من طريق أخرى عن أبي محذورة، وصححه ابن خزيمة من طريق ابن جريج. ورواه النسائي من وجه آخر، وصححه أيضا ابن خزيمة ورواه بقي بن مخلد. وروى التثويب
[ 18 ]
أيضا الطبراني والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عمر بلفظ: كان الاذان بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين قال اليعمري: وهذا إسناد صحيح. وروى ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي عن أنس أنه قال: من السنة إذا قال المؤذن في الفجر حي على الفلاح قال: الصلاة خير من النوم قال ابن سيد الناس اليعمري: وهو إسناد صحيح. وفي الباب عن عائشة عند ابن حبان، وعن نعيم النحام عد البيهقي. وقد ذهب إلى القول بشرعية التثويب عمر بن الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري وابن سيرين والزهري ومالك والثوري وأحمد وإسحق وأبو ثور وداود وأصحاب الشافعي وهو رأي الشافعي في القديم ومكروه عنده في الجديد، وهو مروي عن أبي حنيفة، واختلفوا في محله فالمشهور أنه في صلاة الصبح فقط، وعن النخعي وأبي يوسف أنه سنة في كل الصلوات، وحكى القاضي أبو الطيب عن الحسن بن صالح أنه يستحب في أذان العشاء، وروي عن الشعبي وغيره أنه يستحب في العشاء والفجر، والاحاديث لم ترد بإثباته إلا في صلاة الصبح لا في غيرها، فالواجب الاقتصار على ذلك، والجزم بأن فعله في غيرها بدعة كما صرح بذلك ابن عمر وغيره، وذهبت العترة والشافعي في أحد قوليه إلى أن التثويب بدعة، قال في البحر: أحدثه عمر فقال ابنه هذه بدعة. وعن علي عليه السلام حين سمعه: لا تزيدوا في الاذان ما ليس منه، ثم قال بعد أن ذكر حديث أبي محذورة، وبلال: قلنا لو كان لما أنكره علي وابن عمر وطاوس سلمنا فأمر به إشعارا في حال لا شرعا جمعا بين الآثار انتهى. وأقول: قد عرفت مما سلف رفعه إلى النبي (ص)، والامر به على جهة العموم من دون تخصيص بوقت دون وقت، وابن عمر لم ينكر مطلق التثويب بل أنكره في صلاة الظهر، ورواية الانكار عن علي عليه السلام بعد صحتها لا تقدح في مروي غيره، لان المثبت أولى، ومن علم حجة، والتثويب زيادة ثابتة فالقول بها لازم، والحديث ليس فيه ذكر حي على خير العمل، وقد ذهبت العترة إلى إثباته وأنه بعد قول المؤذن حي على الفلاح، قالوا يقول مرتين: حي على خير العمل، ونسبه المهدي
[ 19 ]
في البحر إلى أحد قولي الشافعي، وهو خلاف ما في كتب الشافعية، فإنا لم نجد في شئ منها هذه المقالة، بل خلاف ما في كتب أهل البيت، قال في الانتصار: إن الفقهاء الاربعة لا يختلفون في ذلك، يعني في أن حي على خير العمل ليس من ألفاظ الاذان، وقد أنكر هذه الرواية الامام عز الدين في شرح البحر وغيره ممن له اطلاع على كتب الشافعية. (احتج القائلون بذلك) بما في كتب أهل البيت كأمالي أحمد بن عيسى والتجريد والاحكام وجامع آل محمد من إثبات ذلك مسندا إلى رسول الله (ص) قال في الاحكام: وقد صح لنا أن حي على خير العمل كانت على عهد رسول الله (ص) يؤذن بها ولم تطرح إلا في زمن عمر، وهكذا قال الحسن بن يحيى روي ذلك عنه في جامع آل محمد، وبما أخرج البيهقي في سننه الكبرى بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر أنه كان يؤذن بحي على خير العمل أحيانا. وروي فيها عن علي بن الحسين أنه قال: هو الاذان الاول. وروى المحب الطبري في أحكامه عن زيد بن أرقم أنه أذن بذلك قال المحب الطبري: رواه ابن حزم، ورواه سعيد بن منصور في سننه عن أبي أمامة بن سهل البدري، ولم يرو ذلك من طريق غير أهل البيت مرفوعا. وقول بعضهم وقد صحح ابن حزم والبيهقي والمحب الطبري وسعيد بن منصور ثبوت ذلك عن علي بن الحسين وابن عمر وأبي أمامة بن سهل موقوفا ومرفوعا ليس بصحيح، اللهم إلا أن يريد بقوله مرفوعا قول علي بن الحسين هو الاذان الاول. ولم يثبت عن ابن عمر وأبي أمامة الرفع في شئ من كتب الحديث (وأجاب الجمهور) عن أدلة إثباته بأن الاحاديث الواردة بذكر ألفاظ الاذان في الصحيحين وغيرهما من دواوين الحديث ليس في شئ منها ما يدل على ثبوت ذلك، قالوا: وإذا صح ما روي من أنه الاذان الاول فهو منسوخ بأحاديث الاذان لعدم ذكره فيها. وقد أورد البيهقي حديثا في نسخ ذلك ولكنه من طريق لا يثبت النسخ بمثلها. وفي الحديث إفراد الاقامة إلا التكبير في أولها وآخرها وقد قامت الصلاة، وقد اختلف الناس في ذلك، وسنذكر ذلك وما هو الحق في شرح حديث أنس الآتي بعد هذا. قوله في الحديث: أن يضرب بالناقوس هو الذي تضرب به النصارى لاوقات صلاتهم وجمعه نواقيس والنقس ضرب الناقوس. قوله: حي على الصلاة حي على الفلاح اسم فعل معناه أقبلوا إليها وهلموا إلى الفوز والنجاة، وفتحت الياء لسكونها وسكون الياء السابقة المدغمة. قوله: فإنه أندى صوتا منك
[ 20 ]
أي أحسن صوتا منك. وفيه دليل على استحباب اتخاذ مؤذن حسن الصوت. وقد أخرج الدارمي وأبو الشيخ بإسناد متصل بأبي محذورة أن رسول الله (ص) أمر بنحو عشرين رجلا فأذنوا فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الاذان. وأخرجه أيضا ابن حبان من طريق أخرى. ورواه ابن خزيمة في صحيحه، قال الزبير بن بكار: كان أبو محذورة أحسن الناس صوتا وأذانا. ولبعض شعراء قريش في أذان أبي محذورة: أما ورب الكعبة المستورة * وما تلا محمد من سوره والنغمات من أبي محذوره * لافعلن فعلة مذكوره وفي رواية للترمذي بلفظ: فقم مع بلال فإنه أندى أو أمد صوتا منك فألق عليه ما قيل لك والمراد بقوله: أو أمد صوتا منك أي أرفع صوتا منك، وفيه استحباب رفع الصوت بالاذان، وسيذكر المصنف لذلك بابا بعد هذا الباب. وعن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الاذان ويوتر الاقامة إلا الاقامة رواه الجماعة. وليس فيه للنسائي والترمذي وابن ماجه إلا الاقامة. قوله: أمر بلال هو في معظم الروايات على البناء للمفعول. وقد اختلف أهل الاصول والحديث في اقتضاء هذه الصيغة للرفع، والمختار عند محققي الطائفتين أنها تقتضيه، لان الظاهر أن المراد بالآمر من له الامر الشرعي الذي يلزم اتباعه وهو الرسول (ص)، لا سيما في أمور العبادة فإنها إنما تؤخذ عن توقيف، ويؤيد هذا ما وقع في رواية روح عن عطاء: فأمر بلالا بالنصب وفاعل أمر هو النبي (ص)، وأصرح من ذلك رواية النسائي وغيره عن قتيبة عن عبد الوهاب بلفظ: أن النبي (ص) أمر بلالا قال الحاكم: صرح برفعه إمام الحديث بلا مدافعة قتيبة، قال الحافظ: ولم يتفرد به، فقد أخرجه أبو عوانة من طريق عبدان المروزي ويحيى بن معين كلاهما عن عبد الوهاب، وطريق يحيى عند الدارقطني أيضا ولم يتفرد عبد الوهاب. وقد رواه البلاذري من طريق أبي شهاب الحناط عن أبي قلابة، وقضية وقوع ذلك عقب المشاورة في أمر النداء، والآمر بذلك النبي (ص) من غير شك. وقد روى البيهقي فيه بالسند الصحيح عن أنس: أن رسول الله (ص) أمر بلالا أن يشفع الاذان ويوتر الاقامة لا ما حكي عن بعضهم من أن الامر لبلال بذلك
[ 21 ]
كان من بعد رسول الله (ص)، إذ من المنقول أن بلالا لم يؤذن لاحد بعد رسول الله (ص) إلا لابي بكر، وقيل: لم يؤذن لاحد بعد موت رسول الله (ص) إلا مرة واحدة بالشام. قوله: أن يشفع الاذان بفتح أوله وفتح الفاء أي يأتي بألفاظه شفعا وهو مفسر بقوله: مثنى مثنى. قال الحافظ: لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى. فتكون أحاديث تشفيع الاذان وتثنيته مخصصة بالاحاديث التي ذكرت فيها كلمة التوحيد مرة واحدة كحديث عبد الله بن زيد ونحوه. قوله: إلا الاقامة ادعى ابن منده والاصيلي أن قوله: إلا الاقامة من كلام أيوب وليس من الحديث، وفيما قالاه نظر لان عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده متصلا بالخبر مفسرا، وكذا أبو عوانة في صحيحه والسراج في مسنده، والاصل أن كل ما كان من الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل. وفي رواية أيوب زيادة من حافظ، فلا يقدح في صحتها عدم ذكر خالد الحذاء لها، وقد ثبت تكرير لفظ قد قامت الصلاة في حديث ابن عمر مرفوعا وسيأتي. وقد استشكل عدم استثناء التكبير في الاقامة فإنه يثنى كما تقدم في حديث عبد الله بن زيد، وأجيب بأنه وتر بالنسبة إلى تكبير الاذان، فإن التكبير في أول الاذان أربع، وهذا إنما يتم في تكبير أول الاذان لا في آخره كما قال الحافظ، وأنت خبير بأن ترك استثنائه في هذا الحديث لا يقدح في ثبوته، لان روايات التكرير زيادة مقبولة. الحديث يدل على وجوب الاذان والاقامة وعلى أن الاذان مثنى وقد تقدم الكلام على ذلك. ويدل على إفراد الاقامة إلا الاقامة، وقد اختلف الناس في ذلك، ذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أن ألفاظ الاقامة إحدى عشرة كلمة كلها مفردة إلا التكبير في أولها وآخرها، ولفظ قد قامت الصلاة فإنها مثنى مثنى، واستدلوا بهذا الحديث، وحديث ابن عمر الآتي، وحديث عبد الله بن زيد السابق. قال الخطابي: مذهب جمهور العلماء والذي جرى به العمل في الحرمين والحجاز والشام واليمن ومصر والمغرب إلى أقصى بلاد الاسلام أن الاقامة فرادى، قال أيضا: مذهب كافة العلماء أنه يكرر قوله قد قامت الصلاة إلا مالكا فإن المشهور عنه أنه لا يكررها. وذهب الشافعي في قديم قوليه إلى ذلك. قال النووي: ولنا قول شاذ إنه يقول في التكبير الاول الله أكبر مرة وفي الاخير مرة، ويقول قد قامت الصلاة مرة، قال ابن سيد الناس: وقد ذهب إلى القول بأن الاقامة
[ 22 ]
إحدى عشرة كلمة: عمر بن الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري والزهري والاوزاعي وأحمد وإسحق وأبو ثور ويحيى بن يحيى وداود وابن المنذر. قال البيهقي: وممن قال بإفراد الاقامة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز. قال البغوي: هو قول أكثر العلماء. وذهبت الحنفية والهادوية والثوري وابن المبارك وأهل الكوفة إلى أن ألفاظ الاقامة مثل الاذان عندهم مع زيادة قد قامت الصلاة مرتين، واستدلوا بهما في رواية من حديث عبد الله بن زيد عند الترمذي وأبي داود بلفظ: كان أذان رسول الله (ص) شفعا شفعا في الاذان والاقامة وأجيب عن ذلك بأنه منقطع كما قال الترمذي، وقال الحاكم والبيهقي: الروايات عن عبد الله بن زيد في هذا الباب كلها منقطعة، وقد تقدم ما في سماع ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد. ويجاب عن هذا الانقطاع بأن الترمذي قال بعد إخراج هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد ما لفظه: وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: حدثنا أصحاب محمد (ص) أن عبد الله بن زيد رأى الاذان في المنام، قال الترمذي: وهذا أصح انتهى. وقد روى ابن أبي ليلى عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وعثمان وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب والمقداد وبلال: وكعب بن عجرة وزيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان وصهيب وخلق يطول ذكرهم وقال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي (ص) كلهم من الانصار فلا علة للحديث، لانه على الرواية عن عبد الله بدون توسيط الصحابة مرسل عن الصحابة وهو في حكم المسند، وعلى روايته عن الصحابة عنه مسند، ومحمد بن عبد الرحمن وإن كان بعض أهل الحديث يضعفه فمتابعة الاعمش إياه عن عمرو بن مرة ومتابعة شعبة كما ذكر ذلك الترمذي مما يصحح خبره، وإن خالفاه في الاسناد وأرسلا فهي مخالفة غير فادحة. واستدلوا أيضا بما رواه الحاكم والبيهقي في الخلافيات والطحاوي من رواية سويد بن غفلة أن بلالا كان يثني الاذان والاقامة وادعى الحاكم فيه الانقطاع. قال الحافظ: ولكن في رواية الطحاوي سمعت بلالا، ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن جبر بن علي عن شيخ يقال له الحفص عن أبيه عن جده وهو سعد القرظ قال: أذن بلال حياة رسول الله (ص)، ثم أذن لابي بكر في حياته، ولم يؤذن في زمان عمر، وسويد بن غفلة هاجر في زمن أبي بكر. وأما ما رواه أبو داود من أن بلالا ذهب إلى الشام في حياة أبي بكر فكان بها حتى مات فهو مرسل
[ 23 ]
وفي إسناده عطاء الخراساني وهو مدلس. وروى الطبراني في مسند الشاميين من طريق جنادة بن أبي أمية عن بلال أنه كان يجعل الاذان والاقامة مثنى مثنى وفي إسناده ضعف، قال الحافظ: وحديث أبي محذورة في تثنية الاقامة مشهور عند النسائي وغيره انتهى. وحديث أبي محذورة حديث صحيح ساقه الحازمي في الناسخ والمنسوخ وذكر فيه الاقامة مرتين مرتين وقال: هذا حديث حسن على شرط أبي داود والترمذي والنسائي. وسيأتي ما أخرجه عنه الخمسة: أن النبي (ص) علمه الاذان تسع عشرة
[ 24 ]
كلمة والاقامة سبع عشرة وهو حديث صححه الترمذي وغيره، وهو متأخر عن حديث بلال الذي فيه الامر بإيتار الاقامة لانه بعد فتح مكة لان أبا محذورة من مسلمة الفتح، وبلال أمر بإفراد الاقامة أول ما شرع الاذان فيكون ناسخا. وقد روى أبو الشيخ: أن بلالا أذن بمنى ورسول الله (ص) ثم مرتين مرتين وأقام مثل ذلك إذا عرفت هذا تبين لك أن أحاديث تثنية الاقامة صالحة للاحتجاج بها لما أسلفناه، وأحاديث إفراد الاقامة وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين، لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة، فالمصير إليها لازم لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها كما عرفناك. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفراد الاقامة وتثنيتها، قال أبو عمر بن عبد البر: ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله (ص) في ذلك وحملوه على الاباحة والتخيير، قالوا: كل ذلك جائز لانه قد ثبت عن النبي (ص) جميع ذلك وعمل به أصحابه، فمن شاء قال: الله أكبر أربعا في أول الاذان، ومن شاء ثنى، ومن شاء ثنى الاقامة، ومن شاء أفرده إلا قوله قد قامت الصلاة فإن ذلك مرتان على كل حال انتهى. وقد أجاب القائلون بإفراد الاقامة عن حديث أبي محذورة بأجوبة منها أن من شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة وهذا ممنوع فإن المعتبر في الناسخ مجرد الصحة لا الاصحية. ومنها أن جماعة من الائمة ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الاقامة غير محفوظة، ورووا من طريق أبي محذورة أن النبي (ص) أمره أن يشفع الاذان ويوتر الاقامة، كما ذكر ذلك الحازمي في الناسخ والمنسوخ، وأخرجه البخاري في تاريخه والدار قطني وابن خزيمة، وهذا الوجه غير نافع لان القائلين بأنها غير محفوظة غاية ما اعتذروا به عدم الحفظ، وقد حفظ غيرهم من الائمة كما تقدم ومن علم حجة على من لا يعلم. وأما رواية إيتار الاقامة عن أبي محذورة فليست كروايته التشفيع على أن الاعتماد على الرواية المشتملة على الزيادة. ومن الاجوبة أن تثنية الاقامة لو فرض أنها محفوظة وأن الحديث بها ثابت لكانت منسوخة، فإن أذان بلال هو آخر الامرين، لان النبي (ص) لما عاد من حنين ورجع إلى المدينة أقر بلالا على أذانه وإقامته. قالوا: وقد قيل لاحمد بن حنبل أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد لان حديث أبي محذورة بعد فتح مكة؟ قال: أليس قد رجع رسول الله (ص)
[ 25 ]
إلى المدينة فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد وهذا أنهض ما أجابوا به، ولكنه متوقف على نقل صحيح أن بلالا أذن بعد رجوع النبي (ص) المدينة وأفرد الاقامة، ومجرد قول أحمد بن حنبل لا يكفي، فإن ثبت ذلك كان دليلا لمذهب من قال بجواز الكل ويتعين المصير إليها، لان فعل كل واحد من الامرين عقب الآخر مشعر بجواز الجميع لا بالنسخ. وعن ابن عمر قال: إنما كان الاذان على عهد رسول الله (ص) مرتين مرتين والاقامة مرة مرة غير أنه يقول: قد قامت الصلاة مرتان، وكنا إذا سمعنا الاقامة توضأنا ثم خرجنا إلى الصلاة رواه أحمد وداود والنسائي. الحديث أخرجه أيضا الشافعي وأبو عوانة والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وفي إسناده أبو جعفر المؤذن، قال شعبة: لا يحفظ لابي جعفر غير هذا الحديث. وقال ابن حبان: اسمه محمد بن مسلم بن مهران. وقال الحاكم: اسمه عمير بن يزيد بن حبيب الخطمي. قال الحافظ: ووهم الحاكم في ذلك. ورواه أبو عوانة والدارقطني من حديث سعيد بن المغيرة عن عيسى بن يونس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، قال الحافظ: وأظن سعيدا وهم فيه وإنما رواه عيسى عن شعبة كما تقدم، لكن سعيد وثقه أبو حاتم، ورواه ابن ماجه من حديث سعد القرظ مرفوعا: كان أذان بلال مثنى مثنى وإقامته مفردة وعن أبي رافع نحوه وهما ضعيفان، وقد صرح اليعمري في شرح الترمذي أن حديث ابن عمر إسناده صحيح. والحديث يدل على أن الاذان مثنى والاقامة مفردة إلا الاقامة. وقد تقدم البحث عن ذلك. وعن أبي محذورة قالت: أن رسول الله (ص) علمه هذا الاذان: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله رواه مسلم والنسائي. وذكر التكبير في أوله أربعا. وللخمسة عن أبي محذورة: أن النبي (ص) علمه الاذان تسع عشرة
[ 26 ]
كلمة والاقامة سبع عشرة كلمة قال الترمذي: حديث حسن صحيح. الرواية الاولى أخرجها أيضا بتربيع التكبير في أوله الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان، وقال ابن القطان: الصحيح في هذا تربيع التكبير وبه يصح كون الاذان تسع عشرة كلمة كما في الرواية الثانية مضموما إلى تربيع التكبير الترجيع، قال الحافظ حاكيا عن ابن القطان: وقد وقع في بعض روايات مسلم بتربيع التكبير وهي التي ينبغي أن يعد في الصحيح انتهى. وقد رواه أبو نعيم في المستخرج والبيهقي بتربيع التكبير وقال بعده: أخرجه مسلم عن إسحاق، وكذلك أخرجه أبو عوانة في مستخرجه من طريق ابن المديني عن معاذ. والرواية الثانية أخرجها أيضا الدارمي والدارقطني والحاكم في مستدركه والبيهقي وتكلم عليه بأوجه من التضعيف، ردها ابن دقيق العيد في الامام وصحح الحديث وأخرجه أيضا الطبراني. قوله: تسع عشرة كلمة لان التكبير في أوله مربع والترجيع في الشهادتين يصير كل واحدة منهما أربعة ألفاظ، والحيعلتين أربع كلمات، والتكبير كلمتان، وكلمة التوحيد في آخره. قوله: سبع عشرة كلمة بتربيع التكبير في أول الاقامة وترك الترجيع وزيادة قد قامت الصلاة مرتين وباقي ألفاظها كالاذان فتكون الاقامة ذلك المقدار. والحديث يدل على تربيع التكبير والترجيع وتربيع تكبير الاقامة وتثنية باقي ألفاظها، وقد تقدم الكلام على جميع هذه الاطراف مستوفى، وقد عرفت مما سلف أن حديث أبي محذورة راجح لانه متأخر ومشتمل على الزيادة لا سيما مع كون النبي (ص) هو الذي لقنه إياه. وعن أبي محذورة قال: قلت يا رسول الله علمني سنة الاذان فعلمه وقال: فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والنسائي وصححه ابن خزيمة وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة والحرث بن عبيد، والاول غير معروف والثاني فيه مقال، ولكنه قد روي من طريق أخرى، وقد قدمنا الكلام على الحديث وعلى فقهه في شرح حديث عبد الله بن زيد فليرجع إليه.
[ 27 ]
باب رفع الصوت بالاذان [ رح ] وعن أبي هريرة: أن النبي (ص) قال: المؤذن يغفر له مد صوته ويشهد له كل رطب ويابس رواه الخمسة إلا الترمذي. الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وفي إسناده أبويحيى الراوي له عن أبي هريرة قال ابن القطان: لا يعرف، وادعى ابن حبان في الصحيح أن اسمه سمعان، ورواه البيهقي من وجهين آخرين عن الاعمش، قال تارة عن أبي صالح وتارة عن مجاهد عن أبي هريرة، قال الدارقطني: الاشبه أنه عن مجاهد مرسل. وفي العلل لابي حاتم سئل أبو زرعة عن حديث منصور فقال فيه عن عطاء رجل من أهل المدينة ووقفه. ورواه أبو أسامة عن الحرث بن الحكم عن أبي هبيرة يحيى بن عباد عن شيخ من الانصار فقال: الصحيح حديث منصور. ورواه أحمد والنسائي من حديث البراء بن عازب بلفظ: المؤذن يغفر له مد صوته ويصدقه من يسمعه من رطب ويابس وله مثل أجر من صلى معه وصححه ابن السكن، ورواه أحمد والبيهقي من حديث مجاهد عن ابن عمر، وفي الباب عن أنس عند ابن عدي، وعن أبي سعيد الدارقطني في العلل. وعن جابر عند الخطيب في الموضح وغير ذلك. والحديث يدل على استحباب مد الصوت في الاذان لكونه سببا للمغفرة وشهادة الموجودات، ولانه أمر بالمجئ إلى الصلاة، فكل ما كان ادعى لاسماع المأمومين بذلك كان أولى، ولقوله (ص) لابي محذورة: ارجع فارفع صوتك وهذا أمر برفع الصوت، قيل هو تمثيل بمعنى أنه لو كان بين المكان الذي يؤذن فيه والمكان الذي يبلغه صوته ذنوب تملا تلك المسافة لغفرها الله له. وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: أن أبا سعيد الخدري قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا يشهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله (ص) رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه.
[ 28 ]
الحديث أخرجه أيضا الشافعي ومالك في الموطأ وغيرهما. قوله: تحب الغنم والبادية أي لاجل الغنم لان فيها ما يحتاج في إصلاحها إليه من الرعي وهو في الغالب لا يكون إلا بالبادية. قوله: في غنمك أو باديتك يحتمل أن يكون أوشكا من الراوي، ويحتمل أن يكون للتنويع، لان الغنم قد لا تكون في البادية ولانه قد يكون في البادية حيث لا غنم. قوله: فارفع صوتك فيه دليل لمن قال باستحباب الاذان للمنفرد وهو الراجح عند الشافعية. قوله: مدى صوت المؤذن أي غاية صوته. قوله: جن ولا إنس ولا شئ ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات فهو من العام بعد الخاص. والحديث الاول يبين معنى الشئ المذكور هنا، لان الرطب واليابس لا يخرج عن الاتصاف بأحدهما شئ من الموجودات. وفي رواية لابن خزيمة: لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس، وبهذا يظهر أن التخصيص بالملائكة كما قال، القرطبي، أو بالحيوان كما قال غيره غير ظاهر وغير ممتنع عقلا ولا شرعا أن يخلق الله في الجمادات القدرة على السماع والشهادة، ومثله قوله تعالى: * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) * (الاسراء: 44) وفي صحيح مسلم: إني لاعرف حجرا كان يسلم علي ومنه ما ثبت في البخاري وغيره من قول النار: أكل بعضي بعضا، قال الزين بن المنير: والسر في هذه الشهادة مع أنها تقع عند عالم الغيب والشهادة أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدنيا من توجه الدعوى والجواب والشهادة. وقيل: المراد بهذه الشهادة إشهار المشهود له بالفضل وعلو الدرجة، وكما أن الله يفضح بالشهادة قوما كذلك يكرم بالشهادة آخرين. وفي الحديث استحباب رفع الصوت بالاذان وقد تقدم تعليل ذلك، وفيه أن حب الغنم والبادية لا سيما عند نزول الفتنة من عمل السلف الصالح. باب المؤذن يجعل أصبعيه في أذنيه ويلوي عنقه عند الحيعلة ولا يستدير عن أبي جحيفة قال: أتيت النبي (ص) بمكة وهو بالابطح في قبة له حمراء من أدم قال: فخرج بلال بوضوئه فمن ناضح ونائل، قال: فخرج النبي (ص) عليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه، قال: فتوضأ وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يقول يمينا وشمالا: حي على الصلاة حي على الفلاح، قال: ثم ركزت
[ 29 ]
له عنزة فتقدم فصلى الظهر ركعتين يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع وفي رواية: تمر من ورائه المرأة والحمار ثم صلى العصر ثم لم يزل يصلي حتى رجع إلى المدينة متفق عليه. ولابي داود: رأيت بلالا خرج إلى الابطح فأذن فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدر. وفي رواية: رأيت بلالا يؤذن ويدور واتتبع فاه ههنا وههنا وأصبعاه في أذنيه، قال: ورسول الله (ص) في قبة له حمراء أراها من أدم، قال: فخرج بلالا بين يديه بالعنزة فركزها فصلى رسول الله (ص) وعليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بريق ساقيه رواه أحمد والترمذي وصححه. الحديث أخرجه النسائي بزيادة: فجعل يقول في أذانه هكذا ينحرف يمينا وشمالا وابن ماجه بزيادة: رأيته يدور في أذانه لكن في إسناده الحجاج بن أرطاة. ورواه الحاكم بزيادة ألفاظ وقال: قد أخرجاه إلا أنهما لم يذكرا فيه إدخال الاصبعين في الاذنين والاستدارة وهو صحيح على شرطهما. ورواه ابن خزيمة بلفظ: رأيت بلالا يؤذن يتبع بفيه يميل رأسه يمينا وشمالا ورواه من طريق أخرى بزيادة: ووضع الاصبعين في الاذنين وكذا رواه أبو عوانة في صحيحه وأبو نعيم في مستخرجه بزيادة: رأى أبو جحيفة بلالا يؤذن ويدور وأصبعاه في أذنيه وكذا رواه البزار. وقال البيهقي: الاستدارة لم ترد من طريق صحيحة لان مدارها على سفيان الثوري وهو لم يسمعه من عون بن أبي جحيفة إنما سمعه عن رجل عنه، والرجل يتوهم أنه الحجاج والحجاج غير محتج به. قال: ووهم عبد الرزاق في ادراجه، وقد وردت الاستدارة من وجه آخر أخرجه أبو الشيخ في كتاب الاذان من طريق حماد وهشيم جميعا عن عون الطبراني من طريق إدريس الاودي عنه، وفي الافراد للدارقطني عن بلال: أمرنا رسول الله (ص)، إذا أذنا وأقمنا لا نزيل أقدامنا عن مواضعها وإسناده ضعيف. قوله: فمن ناضح ونائل الناضح الآخذ من الماء لجسده تبركا ببقية وضوئه (ص)، والنائل الآخذ من ماء في جسد صاحبه لفراغ الماء لقصد التبرك. وقيل: إن بعضهم كان ينال ما لا يفضل منه شئ، وبعضهم كان ينال منه ما ينضحه على غيره. وفي رواية في الصحيح: ورأيت بلالا أخرج وضوءا فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئا تمسح به، ومن لم يصب أخذ من بلل صاحبه، وبهذه الرواية يتبين المراد من تلك العبارة،
[ 30 ]
والنضح الرش وقد تقدم الكلام عليه. قوله: ههنا وههنا ظرفا مكان، والمراد بهما جهة اليمين والشمال كما فسره بذلك الراوي. وللحديث فوائد وفيه أحكام سيأتي بسط الكلام عليها في مواضعها، والمقصود منه ههنا الاستدلال على مشروعية التفات المؤذن يمينا وشمالا، وجعل الاصبعين في الاذنين حال الاذان، والالتفات المذكور ههنا مقيد بوقت الحيعلتين، وقد بوب له ابن خزيمة فقال باب انحراف المؤذن عند قوله: حي على الصلاة حي على الفلاح بفمه لا ببدنه كله، وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الرأس، وقد اختلفت الروايات في الاستدارة، ففي بعضها أنه كان يستدير وفي بعضها ولم يستدر كما سلف، ولكنها لم تر والاستدارة إلا من طريق حجاج وإدريس الاودي وهما ضعيفان، وقد رويت من طريق ثالثة وفيها ضعيف وهو محمد العرزمي. وقد خالف هؤلاء الثلاثة من هو مثلهم أو أمثل وهو قيس بن الربيع فرواه عن عون قال في حديثه: ولم يستدر أخرجه أبو داود كما تقدم، قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن من أثبت الاستدارة عنى بها استدارة الرأس، ومن نفاها عنى استدارة الجسد كله، ومشى ابن بطال ومن تبعه على ظاهره فاستدل به على جواز الاستدارة. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على استدارة المؤذن للاسماع عند التلفظ بالحيعلتين، واختلف هل يستدير ببدنه كله أو بوجهه فقط وقدماه قارتان، واختلف أيضا هل يستدير في الحيعلتين الاولتين مرة وفي الثانيتين مرة، أو يقول: حي على الصلاة عن يمينه ثم حي على الصلاة عن شماله وكذا في الاخرى، وقد رجح هذا الوجه بأنه يكون لكل جهة نصيب من كل كلمة، قال: والاول أقرب إلى لفظ الحديث انتهى كلامه بالمعنى. وروي عن أحمد أنه لا يدور إلا إذا كان على منارة يقصد إسماع أهل الجهتين، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق، وقال النخعي والثوري والاوزاعي والشافعي وأبو ثور وهو رواية عن أحمد أنه يستحب الالتفات في الحيعلتين يمينا وشمالا ولا يدور ولا يستدير، سواء كان على الارض أو على منارة، وقال مالك: لا يدور ولا يلتفت إلا أن يريد إسماع الناس، وقال ابن سيرين: يكره الالتفات. والحق استحباب الالتفات حال الاذان بدون تقييد، وأما الدوران فقد عرفت اختلاف الاحاديث فيه وقد أمكن الجمع بما تقدم فلا يصار إلى الترجيح. وفي الحديث استحباب وضع الاصبعين في الاذنين وفي ذلك فائدتان ذكرهما العلماء: الاولى أن ذلك أرفع لصوته، قال الحافظ: وفيه حديث ضعيف من طريق سعد القرظ عن بلال. والثانية أنه علامة للمؤذن ليعرف من يراه على بعد أو
[ 31 ]
من كان به صمم أنه يؤذن. قال الترمذي: استحب أهل العلم أن يدخل المؤذن أصبعيه في أذنيه في الاذان، قال: واستحبه الاوزاعي في الاقامة أيضا، ولم يرد في الاحاديث كما قال الحافظ تعيين الاصبع التي يستحب وضعها، وجزم النووي بأنها المسبحة وإطلاق الاصبع مجاز عن الانملة. باب الاذان في أول الوقت وتقديمه عليه في الفجر خاصة عن جابر بن سمرة قال: كان بلال يؤذن إذا زالت الشمس لا يخرم ثم لا يقيم حتى يخرج إليه النبي (ص) فإذا خرج أقام حين يراه رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. قوله: لا يخرم أي لا يترك شيئا من ألفاظه. الحديث فيه المحافظة على الاذان عند دخول وقت الظهر بدون تقديم ولا تأخير، وهكذا سائر الصلوات إلا الفجر لما سيأتي. وفيه أيضا أن المقيم لا يقيم إلا إذا أراد الامام الصلاة، وقد أخرج ابن عدي من حديث أبي هريرة مرفوعا: المؤذن أملك بالاذان والامام أملك بالاقامة وضعفه ولعل تضعيفه له لان في إسناده شريكا القاضي، وقد أخرج البيهقي نحوه عن علي رضي الله عنه من قوله. وقال ليس بمحفوظ، ورواه أبو الشيخ من طريق أبي الجوزاء عن ابن عمه وفيه معارك وهو ضعيف. ويعارض حديث الباب وما في معناه ما عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي بلفظ: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني أي خرجت لانه يدل على أن المقيم شرع في الاقامة قبل خروجه، ويمكن الجمع بين الحديثين بأن بلالا كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيشرع في الاقامة عند أول رؤيته له قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا، ويشهد لهذا ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب: أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن: الله أكبر يقومون للصلاة فلا يأتي النبي (ص) مقامه حتى تعتدل الصفوف. وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود ومستخرج أبي عوانة أنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج النبي (ص) فنهاهم عند ذلك لاحتمال أن يقع له
[ 32 ]
شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم الانتظار. قال المصنف رحمه الله تعالى بعد ذكر حديث الباب: وفيه أن الفريضة تغني عن تحية المسجد انتهى. وعن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو قال ينادي بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم رواه الجماعة إلا الترمذي. قوله: أحدكم في رواية للبخاري: أحدا منكم شك من الراوي وكلاهما يفيد العموم. قوله: من سحوره بفتح أوله وله اسم لما يؤكل في السحر. ويجوز الضم وهو اسم الفعل. قوله: ليرجع بفتح الياء وكسر الجيم المخففة يستعمل هذا لازما ومتعديا، تقول: رجع زيد ورجعت زيدا، ولا يقال في المتعدي بالتثقيل، ومن رواه بالضم والتثقيل فقد أخطأ لانه يصير من الترجيع وهو الترديد وليس مرادا هنا، وإنما معناه يرد القائم أي المتهجد إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطا أو يتسحر إن كان له حاجة إلى الصيام، ويوقظ النائم ليتأهب للصلاة بالغسل والوضوء. والحديث يدل على جواز الاذان قبل دخول الوقت في صلاة الفجر خاصة، وقد ذهب إلى مشروعيته الجمهور مطلقا، وخالف في ذلك الثوري وأبو حنيفة ومحمد والهادي والقاسم والناصر وزيد بن علي، قال الشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم: إنه يكتفى به للصلاة، وقال ابن المنذر وطائفة من أهل الحديث والغزالي: إنه لا يكتفى به وادعى بعضهم أنه لم يرد في شئ من الحديث ما يدل على الاكتفاء وتعقب بحديث الباب، وأجيب بأنه مسكوت عنه وعلى التنزل فمحله ما إذ لم يرد نطق بخلافه، وههنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة الآتي وهو يدل على عدم الاكتفاء، نعم حديث زياد بن الحرث عند أبي داود يدل على الاكتفاء، فإن فيه أنه أذن قبل الفجر بأمر النبي (ص)، وأنه استأذنه في الاقامة فمنعه إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام، لكن في إسناده ضعف كما قال الحافظ. وأيضا فهي واقعة عين وكانت في سفر، ومن ثم قال القرطبي: إنه مذهب واضح. ويدل أيضا على عدم الاكتفاء أن الاذان المذكور قد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغرض به فقال: ليرجع قائمكم الحديث فهو لهذه الاغراض المذكورة لا للاعلام بالوقت، والاذان هو الاعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، والاذان قبل الوقت ليس إعلاما بالوقت، وتعقب بأن الاعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلاما بأنه دخل أو قارب أن يدخل. واحتج المانعون من الاذان قبل دخول الوقت بحجج منها قوله (ص) لبلال:
[ 33 ]
لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر ومد يديه عرضا أخرجه أبو داود. وبما أخرجه أيضا من حديث ابن عمر: أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجع فينادي ألا إن العبد نام قالوا فوجب تأويل حديث الباب بما قال بعض الحنفية أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الاذان وإنما كان تذكيرا كما يقع للناس اليوم. وأجيب عن الاحتجاج بالحديثين المذكورين بأن الاول منهما لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين لا سيما مع إشعار الحديث بالاعتياد. وأما الثاني فلا حجة فيه لانه قد صرح بأنه موقوف أكابر الائمة كأحمد والبخاري والذهلي وأبي داود وأبي حاتم والدارقطني والاثرم والترمذي، وجزموا بأن حمادا أخطأ في رفعه وأن الصواب وقفه. وأما التأويل المذكور فقال الحافظ في الفتح أنه مردود، لان الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعا، وقد تضافرت الاحاديث على التعبير بلفظ الاذان قطعا فحمله على معناه الشرعي مقدم، ولان الاذان الاول لو كان بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين، والحديث ليس فيه تعيين الوقت الذي كان بلال يؤذن فيه، وقد اختلف من أي وقت يشرع في ذلك؟ فقيل: إنه يشرع وقت السحر ورجحه جماعة من أصحاب الشافعي. وقيل: إنه يشرع من النصف الاخير ورجحه النووي وتأول ما خالفه، وقيل: يشرع للسبع الاخير في الشتاء وفي الصيف لنصف السبع قاله الجويني. وقيل: وقته الليل جميعه ذكره صاحب العمدة وكأن مسنده إطلاق لفظ بليل. وقيل: بعد آخر اختيار العشاء، وقد ورد ما يشعر بتعيين الوقت الذي كان بلال يؤذن فيه وهو ما رواه النسائي والطحاوي من حديث عائشة: أنه لم يكن بين أذان بلال وابن أم مكتوم إلا أن يرقى هذا وينزل هذا وكانا يؤذنان في بيت مرتفع كما أخرجه أبو داود، فهذه الرواية تقيد إطلاق سائر الروايات، ويؤيد هذا ما أخرجه الطحاوي أن بلالا وابن أم مكتوم كانا يقصدان وقتا واحدا فيخطئه بلال ويصيبه ابن أم مكتوم. وقد اختلف في أذان بلال بليل هل كان في رمضان فقط أم في جميع الاوقات؟ فادعى ابن القطان الاول، قال الحافظ: وفيه نظر. والحكمة في اختصاص صلاة الفجر لهذا من بين الصلوات ما ورد من الترغيب في الصلاة لاول الوقت، والصبح يأتي غالبا عقيب النوم، فناسب أن
[ 34 ]
ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها ليتأهبوا ويدركوا فضيلة الوقت. وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله (ص): لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الافق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا يعني معترضا رواه مسلم وأحمد والترمذي. ولفظهما: لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الافق. وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي (ص) قال: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم متفق عليه، ولاحمد والبخاري: فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر. ولمسلم: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا. قوله: المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا صفة هذه الاشارة مبينة في صحيح مسلم في الصوم من حديث ابن مسعود بلفظ: وليس أن يقول هكذا وهكذا وصوب يده رفعها حتى يقول هكذا وفرج بين أصبعيه. وفي رواية: ليس الذي يقول هكذا وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الارض ولكن الذي يقول هكذا وجمع أصابعه ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه. وفي رواية: ليس الذي يقول هكذا ولكن يقول هكذا وفسرها جرير بأن المراد أن الفجر هو المعترض، وليس بالمستطيل والمعترض هو الفجر الصادق، ويقال له الثاني والمستطير بالراء، وأما المستطيل باللام فهو الفجر الكاذب الذي يكون كذنب السرحان. وفي البخاري من حديث ابن مسعود: وليس أن يقول الفجر أو الصبح وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا. وقال زهير: بسبابتيه إحداهما فوق الاخرى ثم أمرهما عن يمينه وشماله. قوله: حتى يؤذن ابن أم مكتوم في رواية للبخاري: حتى ينادي وبتلك الزيادة أعني قوله فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر أوردها في الصيام. قوله: ولمسلم لم يكن بينهما هذه الزيادة ذكرها مسلم في الصيام من حديث ابن عمر، وذكرها البخاري في الصيام من كلام القاسم. قال الحافظ في أبواب الاذان من الفتح: ولا يقال إنه مرسل لان القاسم تابعي فلم يدرك القصة المذكورة، لانه ثبت عند النسائي من رواية حفص بن غياث، وعند الطحاوي من رواية يحيى بن القطان كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة بلفظ: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا. قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء معناه أن بلالا كان يؤذن قبل الفجر ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه ثم يرقب الفجر فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها ثم يرقى
[ 35 ]
ويشرع في الاذان مع أول طلوع الفجر. والحديث يدل على جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد واحد، وأما الزيادة فليس في الحديث تعرض لها، ونقل عن بعض أصحاب الشافعي أنه يكره الزيادة على أربعة لان عثمان اتخذ أربعة، ولم تنقل الزيادة عن أحد من الخلفاء الراشدين، وجوزه بعضهم من غير كراهة قالوا: إذا جازت الزيادة لعثمان على ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جازت الزيادة لغيره. قال أبو عمر بن عبد البر: وإذا جاز اتخاذ مؤذنين جاز أكثر من هذا العدد إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له اه. والمستحب أن يتعاقبوا واحدا بعد واحد كما اقتضاه الحديث إن اتسع الوقت لذلك كصلاة الفجر، فإن تنازعوا في البداءة أقرع بينهم. وفي الحديث دليل على جواز أذان الاعمى، قال ابن عبد البر: وذلك عند أهل العلم إذا كان معه مؤذن آخر يهديه للاوقات، وقد نقل عن ابن مسعود وابن الزبير كراهة أذان الاعمى. وعن ابن عباس كراهة إقامته، وللحديثين المذكورين ههنا فوائد وأحكام قد سبق بعضها في شرح حديث ابن مسعود. باب ما يقول عند سماع الاذان والاقامة وبعد الاذان [ رح ] عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن رواه الجماعة. وفي الباب عن أبي رافع عند النسائي، وعن أبي هريرة عند النسائي أيضا، وعن أم حبيبة عند الطحاوي، وعن ابن عمر عند أبي داود والنسائي، وعن عائشة عند أبي داود، وعن معاذ عند أبي الشيخ، وعن معاوية عند النسائي. قوله: إذا سمعتم ظاهره اختصاص الاجابة بمن سمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلا في الوقت وعلم أنه يؤذن لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا تشرع له المتابعة، قاله النووي في شرح المهذب. قوله: فقولوا مثل ما يقول المؤذن ادعى ابن وضاح أن قوله المؤذن مدرج، وأن الحديث انتهى عند قوله مثل ما يقول، وتعقب بأن الادراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها قاله الحافظ. قوله: مثل ما يقول قال الكرماني:
[ 36 ]
قال مثل ما يقول ولم يقل مثل ما قال، ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها. قال الحافظ: والصريح في ذلك ما رواه النسائي من حديث أم حبيبة أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت. وأصرح من ذلك حديث عمر بن الخطاب الآتي بعد هذا. والحديث يدل على أنه يقول السامع مثل ما يقول المؤذن في جميع ألفاظ الاذان الحيعلتين وغيرهما، وقد ذهب الجمهور إلى تخصيص الحيعلتين بحديث عمر الآتي فقالوا: يقول مثل ما يقول فيما عدا الحيعلتين، وأما في الحيعلتين فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح، فيقول تارة كذا وتارة كذا، وحكى بعض المتأخرين عن بعض أهل الاصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب أعمالهما، قال: فلم لا يقال يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة وهو وجه عند الحنابلة. والظاهر من قوله في الحديث فقولوا التعبد بالقول وعدم كفاية إمرار المجاوبة على القلب. والظاهر من قوله مثل ما يقول عدم اشتراط المساواة من جميع الوجوه. قال اليعمري: لاتفاقهم على أنه لا يلزم المجيب أن يرفع صوته ولا غير ذلك. قال الحافظ: وفيه بحث لان المماثلة وقعت في القول لا في صفته، ولاحتياج المؤذن إلى الاعلام شرع له رفع الصوت، بخلاف السامع فليس مقصوده إلا الذكر، والسر والجهر مستويان في ذلك. وظاهر الحديث إجابة المؤذن في جميع الحالات من غير فرق بين المصلي وغيره. وقيل: يؤخر المصلي الاجابة حتى يفرغ. وقيل: يجيب إلا في الحيعلتين، قال الحافظ والمشهور في المذهب كراهة الاجابة في الصلاة بل يؤخرها حتى يفرغ، وكذا حال الجماع والخلاء، قيل: والقول بكراهة الاجابة في الصلاة يحتاج إلى دليل ولا دليل، ولا يخفى أن حديث إن في الصلاة لشغلا دليل على الكراهة، ويؤيده امتناع النبي (ص) من إجابة السلام فيها وهو أهم من الاجابة للمؤذن. وظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول المؤذن من غير فرق بين الترجيع وغيره. وفيه متمسك لمن قال بوجوب الاجابة لان الامر يقتضيه بحقيقته، وقد حكى ذلك الطحاوي عن قوم من السلف، وبه قالت الحنفية وأهل الظاهر وابن وهب. وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب. قال الحافظ: واستدلوا بحديث أخرجه مسلم وغيره: أن النبي (ص) سمع مؤذنا فلما كبر قال: على الفطرة، فلما تشهد قال: خرج من النار قالوا: فلما قال (ص) غير ما قال المؤذن علمنا أن الامر بذلك
[ 37 ]
للاستحباب، ورد بأنه ليس في الرواية أنه لم يقل مثل ما قال، وباحتمال إنه وقع ذلك قبل الامر بالاجابة، واحتمال أن الرجل الذي سمعه النبي (ص) يؤذن لم يقصد الاذان، وأجيب عن هذا الاخير بأنه وقع في بعض طرق هذا الحديث إنه حضرته الصلاة، وقد عرفت غير مرة أن فعله (ص) لا يعارض القول الخاص بنا وهذا منه. والظاهر من الحديث التعبد بالقول مثل ما يقول المؤذن، وسواء كان المؤذن واحدا أو جماعة. قال القاضي عياض: وفيه خلاف بين السلف، فن رأى الاقتصار على الاجابة للاول احتج بأن الامر لا يقتضي التكرار، ويلزمه على ذلك أن يكتفي بإجابة المؤذن مرة واحدة في العمر. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة رواه مسلم وأبو داود. الحديث أخرج البخاري نحوه من حديث معاوية وقال: هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم يقول. قال الحافظ في الفتح: وقد وقع لنا هذا الحديث يعني حديث معاوية، وذكر إسنادا متصلا بعيسى بن طلحة قال: دخلنا على معاوية فنادى مناد بالصلاة فقال: الله أكبر الله أكبر، فقال معاوية: الله أكبر الله أكبر، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال معاوية: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال معاوية: وأنا أشهد أن محمدا رسول الله، ولما قال حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: هكذا سمعت نبيكم (ص). قوله: لا حول ولا قوة قال النووي في شرح مسلم: قال أبو الهيثم الحول الحركة أي لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله تعالى، وكذا قال ثعلب وآخرون. وقيل: لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكي هذا عن ابن مسعود، وحكى الجوهري لغة غريبة ضعيفة إنه يقال: لا حيل ولا قوة إلا بالله، قال: والحول والحيل بمعنى. ويقال في
[ 38 ]
التعبير عن قولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله الحوقلة، هكذا قال الازهري والاكثرون. وقال الجوهري: الحولقة فعلى الاول وهو المشهور الحاء والواو من الحول والقاف من القوة واللام من اسم الله، وعلى الثاني الحاء واللام من الحول والقاف من القوة، والاول أولى لئلا يفصل بين الحروف، ومثل الحوقلة الحيعلة في حي على الصلاة وعلى الفلاح. والبسملة في بسم الله والحمدلة في الحمد لله. والهيللة في لا إله إلا الله، والسبحلة في سبحان الله انتهى كلامه. قوله: دخل الجنة قال القاضي عياض: إنما كان ذلك لان ذلك توحيد وثناء على الله تعالى وانقياد لطاعته وتفويض إليه بقوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، فمن حصل هذا فقد حاز حقيقة الايمان وكمال الاسلام واستحق الجنة بفضل الله، وإنما أفرد (ص) الشهادتين والحيعلتين في هذا الحديث مع أن كل نوع منها مثنى كما هو المشروع لقصد الاختصار. قال النووي: فاختصر صلى الله عليه وآله وسلم من كل نوع شطرا تنبيها على باقيه، والحديث قد تقدم الجمع بينه وبين الحديث الذي قبله. وعن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن بلالا أخذ في الاقامة فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال النبي (ص): أقامها الله وأدامها وقال في سائر الاقامة بنحو حديث عمر في سائر الاذان رواه أبو داود. الحديث في إسناده رجل مجهول، وشهر بن حوشب تكلم فيه غير واحد، ووثقه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وفيه دلالة على استحباب مجاوبة المقيم لقوله وقال في سائر الاقامة بنحو حديث عمر. وفيه أيضا أنه يستحب لسامع الاقامة أن يقول عند قول المقيم قد قامت الصلاة أقامها الله وأدامها. قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه دليل على أن السنة أن يكبر الامام بعد الفراغ من الاقامة انتهى. وفي ذلك خلاف لعله يأتي إن شاء الله تعالى. وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة رواه الجماعة إلا مسلما. وفي الباب عن عبد الله بن مسعود عند الطحاوي، وعن أنس عند ابن حبان في فوائد الاصبهانيين له، وعن ابن عباس عند ابن حبان أيضا في كتاب الاذان، وعن
[ 39 ]
أبي أمامة عند الضياء المقدسي، ورواه الحاكم في المستدرك وفيه عفير بن معدان وقد تكلم فيه غير واحد. وعن عبد الله بن عمرو وسيأتي. قوله: رب هذه الدعوة التامة بفتح الدال والمراد بها دعوة التوحيد لقوله تعالى: * (له دعوة الحق) * وقيل لدعوة التوحيد تامة لانها لا يدخلها تغيير ولا تبديل بل هي باقية إلى يوم القيامة. وقال ابن التين: وصفت بالتامة لان فيها أتم القول وهو لا إله إلا الله. قوله: الوسيلة هي ما يتقرب به، يقال: توسلت أي تقربت وتطلق على المنزلة العلية، وسيأتي تفسيرها في الحديث الذي بعد هذا. قوله: والفضيلة أي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون تفسيرا للوسيلة. قوله: مقاما محمودا أي يحمد القائم فيه، وهو يطلق على كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات ونصبه على الظرفية، أي ابعثه يوم القيامة فأقمه مقاما محمودا، أو ضمن ابعثه معنى أقمه، أو على أنه مفعول به، ومعنى ابعثه اعطه، ويجوز أن يكون حالا أي ابعثه ذا مقام محمود، والتنكير للتفخيم والتعظيم كما قال الطيبي، كأنه قال مقاما أي مقام محمودا بكل لسان. وقد روي بالتعريف عند النسائي وابن حبان والطحاوي والطبراني والبيهقي، وهذا يرد على من أنكر ثبوته معرفا كالنووي. قوله: الذي وعدته أراد بذلك قوله تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * (الاسراء: 79) وذلك لان عسى في كلام الله للوقوع. قال الحافظ: والموصول إما بدل أو عطف بيان أو خبر مبتدأ محذوف وليس صفة للنكرة، وسيأتي تفسير حلت له الشفاعة في الحديث الذي بعد هذا. وعن عبد الله بن عمرو: أنه سمع صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله بها عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة. رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. قوله: مثل ما يقول قد تقدم الكلام على ذلك. قوله: ثم صلوا علي هذه زيادة ثابتة في الصحيح وقبولها متعين. قوله: ثم سلوا الله الخ قد تقدم ذكر بعض الاقوال في تفسير الوسيلة، والمتعين المصير إلى ما في هذا الحديث من تفسيرها. قوله: حلت عليه الشفاعة وفي الحديث الاول حلت له الشفاعة، قال الحافظ: واللام بمعنى على، ومعنى حلت أي استحقت ووجبت أو نزلت عليه، ولا يجوز أن تكون من الحل
[ 40 ]
لانها لم تكن قبل ذلك محرمة. قوله: شفاعتي استشكل بعضهم جعل ذلك ثوابا لقائل ذلك مع ما ثبت أن الشفاعة للمذنبين، وأجيب بأن له (ص) شفاعات أخر، كإدخال الجنة بغير حساب وكرفع الدرجات فيعطي كل أحد ما يناسبه، ونقل عياض عن بعض شيوخه أنه كان يرى اختصاص ذلك بمن قاله مخلصا مستحضرا إجلال النبي (ص) لا من قصد بذلك مجرد الثواب ونحو ذلك. قال الحافظ: وهو تحكم غير مرضي، ولو كان لاخراج الغافل اللاهي لكان أشبه، قال المهلب في الحديث: الحض على الدعاء في أوقات الصلوات لانه حال رجاء الاجابة. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص): الدعاء لا يرد بين الاذان والاقامة رواه أحمد وأبو داود والترمذي. الحديث أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والضياء في المختارة وحسنه الترمذي، ورواه سليمان التيمي عن أنس بن مالك عن النبي (ص) قال: إذا نودي بالاذان فتحت أبوب السماء واستجيب الدعاء وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص): عند الاذان تفتح أبواب السماء، وعند الاقامة لا ترد دعوة وقد روي من حديث سهل بن سعد الساعدي، رواه مالك عن ابن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: ساعتان تفتح لهما أبواب السماء، وقل داع ترد عليه دعوته عند حضور النداء للصلاة والصف في سبيل الله. قال ابن عبد البر: هكذا هو موقوف على سهل بن سعد في الموطأ عند جماعة الرواة، ومثله لا يقال من قبل الرأي، ثم ساقه مرفوعا من طريق أبي بشر الدولابي قال: حدثنا أبو عمير أحمد بن عبد العزيز بن سويد البلوي، حدثنا أيوب بن سويد قال: حدثنا مالك عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله (ص) فذكر نحو الحديث المتقدم. الحديث يدل على قبول مطلق الدعاء بين الاذان والاقامة، وهو مقيد بما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم كما في الاحاديث الصحيحة، وقد ورد تعيين أدعية تقال حال الاذان وبعده وهو بين الاذان والاقامة. منها ما سلف في هذا الباب. ومنها ما أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه، وصححه اليعمري من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا بلفظ من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالاسلام دينا غفر له ذنبه ومنها ما أخرجه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة من
[ 41 ]
حديث ابن عمرو بن العاص: أن رجلا قال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله (ص): قل كما يقول فإذا انتهيت فسل تعطه ومنها ما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أم سلمة قالت: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقول عند أذان المغرب: اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي وقد عين ما يدعى به (ص) لما قال: الدعاء بين الاذان والاقامة لا يرد قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة قال ابن القيم: هو حديث صحيح، وفي المقام أدعية غير هذه. [ رم 176 ] باب من أذن فهو يقيم عن زياد بن الحرث الصدائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا أخا صداء أذن، قال: فأذنت وذلك حين أضاء الفجر، قال: فلما توضأ رسول الله (ص) قام إلى الصلاة فأراد بلال أن يقيم فقال رسول الله (ص): يقيم أخو صداء فإن من أذن فهو يقيم رواه الخمسة إلا النسائي ولفظه لاحمد. الحديث في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي عن زياد بن نعيم الحضرمي عن زياد بن الحرث الصدائي قال الترمذي: إنما نعرفه من حديث الافريقي وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره، وقال أحمد: لا أكتب حديث الافريقي، قال: ورأيت محمد بن إسماعيل يقوي أمره ويقول: هو مقارب الحديث، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم اه. قال في البدر المنير: ضعفه لكثرة روايته للمنكرات مع علمه وزهده، ورواية المنكرات كثير ما تعتري الصالحين لقلة تفقدهم للرواة، لذلك قيل: لم نر الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث اه. وكان سفيان الثوري يعظمه، وقال ابن أبي داود: إنما تكلم الناس فيه لانه روى عن مسلم بن يسار فقيل: أين رأيته؟ فقال: بإفريقية، فقالوا: ما دخل مسلم بن يسار إفريقية قط يعنون البصري ولم يعلموا أن مسلم بن يسار آخر يقال له أبو عثمان الطنبذي وعنه روى. وفي الباب عن ابن عمر قال: قال رسول الله (ص): إنما يقيم من أذن أخرجه الطبراني والعقيلي في الضعفاء وأبو الشيخ في الاذان، وفي إسناده سعيد بن راشد
[ 42 ]
وهو ضعيف. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن سعيد بن راشد هذا فقال: ضعيف الحديث منكر الحديث، وقال مرة: متروك. قال الحازمي في كتابه الناسخ والمنسوخ: واتفق أهل العلم في الرجل يؤذن ويقيم غيره أن ذلك جائز، واختلفوا في الاولوية فقال أكثرهم: لا فرق والامر متسع، وممن رأى ذلك مالك وأكثر أهل الحجاز وأبو حنيفة وأكثر أهل الكوفة وأبو ثور. وقال بعض العلماء: من أذن فهو يقيم، قال الشافعي: وإذا أذن الرجل أحببت أن يتولى الاقامة، وإلى أولوية المؤذن بالاقامة ذهب الهادوية واحتجوا بهذا الحديث، واحتج القائلون بعدم الفرق بالحديث الذي سيأتي، وسيأتي الكلام عليه، والاخذ بحديث الصدائي أولى، لان حديث عبد الله بن زيد الآتي كان أول ما شرع الاذان في السنة الاولى، وحديث الصدائي بعده بلا شك قاله الحافظ اليعمري. فإذا أذن واحد فقط فهو الذي يقيم، وإذا أذن جماعة دفعة واتفقوا على من يقيم منهم فهو الذي يقيم، وإن تشاحوا أقرع بينهم. قال ابن سيد الناس اليعمري: ويستحب أن لا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد إلا إذا لم تحصل به الكفاية اه. وعن عبد الله بن زيد: أنه أري الاذان قال: فجئت إلى النبي (ص) فأخبرته فقال: ألقه على بلال فألقيته فأذن فأراد أن يقيم فقلت: يا رسول الله أنا رأيت أريد أن أقيم، قال: فأقم أنت فأقام هو وأذن بلال رواه أحمد وأبو داود. الحديث في إسناده محمد بن عمرو الواقفي الانصاري البصري وهو ضعيف، ضعفه القطان وابن نمير ويحيى بن معين، واختلف عليه فيه فقيل عن محمد بن عبد الله، وقيل عبد الله بن محمد، قال ابن عبد البر: إسناده أحسن من حديث الافريقي، وقال البيهقي: إن صحا لم يتخالفا لان قصة الصدائي بعد. وذكره ابن شاهين في الناسخ وله طريق أخرى أخرجها أبو الشيخ عن ابن عباس، قال: كان أول من أذن في الاسلام بلال وأول من أقام عبد الله بن زيد: قال الحافظ: وإسناده منقطع لانه رواه الحكم عن مقسم عن ابن عباس، وهذا من الاحاديث التي لم يسمعها الحكم من مقسم، وأخرجه الحاكم وفيه أن الذي أقام عمر قال: والمعروف أنه عبد الله بن زيد. والحديث استدل به من قال بعدم أولوية المؤذن بالاقامة، وقد تقدم ذكرهم في الحديث الذي قبل هذا، وقد عرفت تأخر حديث الصدائي وأرجحية الاخذ به على أنه لو لم يتأخر لكان هذا الحديث خاصا بعبد الله بن زيد، والاولوية باعتبار غيره من
[ 43 ]
الامة، والحكمة في التخصيص تلك المزية التي لا يشاركه فيها غيره أعني الرؤيا، فإلحاق غيره به لا يجوز لوجهين: الاول أنه يؤدي إلى إبطال فائدة النص، أعني حديث من أذن فهو يقيم فيكون فاسد الاعتبار. الثاني: وجود الفارق وهو بمجرده مانع من الالحاق. باب الفصل بين النداءين بجلسة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين أو المؤمنين واحدة وذكر الحديث وفيه: فجاء رجل من الانصار فقال: يا رسول الله إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلا كأن عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن ثم قعد قعدة ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة وذكر الحديث رواه أبو داود. الحديث أخرجه أيضا الدارقطني من حديث الاعمش عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل به. ورواه أبو الشيخ في كتاب الاذان من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد. قال الحافظ: وهذا الحديث ظاهر الانقطاع. قال المنذري: إلا أن قوله في رواية أبي داود حدثنا أصحابنا إن أراد الصحابة فيكون مسندا وإلا فهو مرسل. وفي رواية ابن أبي شيبة وابن خزيمة والطحاوي والبيهقي: حدثنا أصحاب محمد فتعين الاحتمال الاول، ولهذا صححها ابن حزم وابن دقيق العيد. وقد قدمنا في شرح حديث أنس أنه أمر بلال أن يشفع الاذان ويوتر الاقامة ما يجاب به عن دعوى الانقطاع وإعلال الحديث بها فارجع إليه. والحديث استدل به على استحباب الفصل بين الاذان والاقامة. لقوله: فأذن ثم قعد قعدة وقد تقدم الكلام على ذلك في باب جواز الركعتين قبل المغرب من أبواب الاوقات، والكلام على بقية فوائد الحديث قد مر في أول الاذان. باب النهي عن أخذ الاجرة على الاذان عن عثمان بن أبي العاص قال: آخر ما عهد إلي رسول الله (ص)
[ 44 ]
أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا رواه الخمسة. الحديث صححه الحاكم، وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعثمان بن أبي العاص: اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا وأخرج ابن حبان عن يحيى البكالي قال: سمعت رجلا قال لابن عمر: إني لاحبك في الله، فقال له ابن عمر: إني لابغضك في الله، فقال: سبحان الله أحبك في الله وتبغضني في الله، قال: نعم إنك تسأل على أذانك أجرا. وروي عن ابن مسعود أنه قال: أربع لا يؤخذ عليهن أجر: الاذان وقراءة القرآن والمقاسم والقضاء ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي. وروى ابن أبي شيبة عن الضحاك أنه كره أن يأخذ المؤذن على أذانه جعلا ويقول: إن أعطي بغير مسألة فلا بأس. وروي أيضا عن معاوية بن قرة أنه قال: كان يقال لا يؤذن لك إلا محتسب. وقد ذهب إلى تحريم الاجر شرطا على الاذان والاقامة الهادي والقاسم والناصر وأبو حنيفة وغيرهم. وقال مالك: لا بأس بأخذ الاجر على ذلك. وقال الاوزاعي: يجاعل عليه ولا يؤاجر. وقال الشافعي في الام: أحب أن يكون المؤذنون متطوعين، قال: وليس للامام أن يرزقهم وهو يجد من يؤذن متطوعا ممن له أمانة إلا أن يرزقهم من ماله، قال: ولا أحسب أحدا ببلد كثير الاهل يعوزه أن يجد مؤذنا أمينا يؤذن متطوعا، فإن لم يجده فلا بأس أن يرزق مؤذنا، ولا يرزقه إلا من خمس الخمس الفضل. وقال ابن العربي: الصحيح جواز أخذ الاجرة على الاذان والصلاة والقضاء وجميع الاعمال الدينية، فإن الخليفة يأخذ أجرته على هذا كله، وفي كل واحد منها يأخذ النائب أجرة كما يأخذ المستنيب، والاصل في ذلك قوله (ص): ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة اه، فقاس المؤذن على العامل وهو قياس في مصادمة النص، وفتيا ابن عمر التي مرت لم يخالفها أحد من الصحابة كما صرح بذلك اليعمري، وقد عقد ابن حبان ترجمة على الرخص في ذلك وأخرج عن أبي محذورة أنه قال: فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاذان فأذنت ثم أعطاني حين قضيت التأذين صرة فيها شئ من فضة وأخرجه أيضا النسائي،
[ 45 ]
قال اليعمري: ولا دليل فيه لوجهين: الاول أن قصة أبي محذورة أول ما أسلم لانه أعطاه حين علمه الاذان وذلك قبل إسلام عثمان بن أبي العاص فحديث عثمان متأخر. الثاني: أنها واقعة يتطرق إليها الاحتمال، وأقرب الاحتمالات فيها أن يكون من باب التأليف لحداثة عهده بالاسلام، كما أعطي حينئذ غيره من المؤلفة قلوبهم، ووقائع الاحوال إذا تطرق إليها الاحتمال سلبها الاستدلال لما يبقى فيها من الاجمال انتهى. وأنت خبير بأن هذا الحديث لا يرد على من قال: إن الاجرة إنما تحرم إذا كانت مشروطة لا إذا أعطيها بغير مسألة، والجمع بين الحديثين بمثل هذا حسن. [ رم ] (179) باب فيمن عليه فوائت أن يؤذن ويقيم للاولى ويقيم لكل صلاة بعدها عن أبي هريرة قال: عرسنا مع رسول الله (ص) فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ليأخذ كل رجل برأس راحلته فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان، قال: ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم صلى سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة رواه أحمد ومسلم والنسائي. ورواه أبو داود ولم يذكر فيه سجدتي الفجر وقال فيه: فأمر بلالا فأذن وأقام وصلى. الامر بالاقامة للمقضية ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: وأمر بلالا فأقام الصلاة الحديث بطوله في نومهم في الوادي، وفيه من حديث أبي قتادة: أن بلالا أذن. قوله: عرسنا قد تقدم تفسيره في باب قضاء الفوائت. قوله: فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان قال النووي: فيه دليل على اجتناب مواضع الشيطان وهو أظهر المعنيين في النهي عن الصلاة في الحمام. قوله: ثم صلى سجدتين يعني ركعتين وفيه دليل على استحباب قضاء النافلة الراتبة. قوله: فأذن وأقام استدل به على مشروعية الاذان والاقامة في الصلاة المقضية، وقد ذهب إلى استحبابهما في القضاء الهادي والقاسم والناصر وأبو حنيفة وأحمد بن حنبوأبوثور، وقال مالك والاوزاعي، ورواه المهدي في البحر قولا للشافعي أنه لا يستحب الاذان واحتج لهم بأنه لم ينقل في قضائه الاربع، وأجاب عن ذلك بأنه نقل في رواية ثم قال: سلمنا فتركه خوف اللبس، وسيأتي
[ 46 ]
حديث قضاء الاربع بعد هذا الحديث مصرحا فيه بالاذان والاقامة، وإنما ترك الاذان في رواية أبي هريرة عند مسلم وغيره يوم نومهم في الوادي لما قال النووي في شرح مسلم ولفظه. وأما ترك ذكر الاذان في حديث أبي هريرة وغيره فجوابه من وجهين: أحدهما لا يلزم من ترك ذكره أنه لم يؤذن فلعله أذن وأهمله الراوي ولم يعلم به. والثاني لعله ترك الاذان في هذه المرة لبيان جواز تركه، وإشارة إلى أنه ليس بواجب متحتم لا سيما في السفر. وقال أيضا: وفي المسألة خلاف، والاصح عندنا إثبات الاذان لحديث أبي قتادة وغيره من الاحاديث الصحيحة. وفي الحديث استحباب الجماعة في الفائتة، وقد استشكل نومه (ص) في الوادي لقوله: إن عيني تنام ولا ينام قلبي قال النووي: وجوابه من وجهين أصحهما وأشهرهما أنه لا منافاة بينهما، لان القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والالم ونحوهما، ولا يدرك طلوع الفجر وغيره مما يتعلق بالعين، وإنما يدرك ذلك بالعين والعين نائمة، وإن كان القلب يقظان. والثاني أنه كان له حالان: أحدهما ينام فيه القلب وصادق هذا الموضع. والثاني لا ينام وهذا هو الغالب من أحواله، وهذا التأويل ضعيف والصحيح المعتمد هو الاول اه. وعن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله. الحديث رجاله رجال الصحيح، ولا علة له إلا عدم سماع أبي عبيدة من أبية وهو الذي جذم به الحفاظ أعني عدم سماعه منه. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري عند أحمد والنسائي وقد تقدم. قال اليعمري: وحديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي، حدثنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه، وهذا إسناد صحيح جليل انتهى. وفي الباب أيضا عن جابر عند البخاري ومسلم وقد تقدم وليس فيه ذكر الاذان والاقامة. والحديث استدل به على مشروعية الاذان والاقامة في القضاء وقد تقدم الخلاف في ذلك. وللحديث أحكام
[ 47 ]
وفوائد قد تقدم ذكر بعضها في باب الترتيب في قضاء الفوائت. وقد استشكل الجمع بينه وبين ما في الصحيحين من أن الصلاة التي شغل عنها رسول الله (ص) صلاة العصر فقط، وقد قدمنا طرفا من الكلام على ذلك في باب الصلاة الوسطى، وطرفا في باب الترتيب في قضاء الفوائت. أبواب ستر العورة باب وجوب سترها عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: قال قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحي منه رواه الخمسة إلا النسائي. الحديث أخرجه أيضا النسائي في عشرة النساء عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد عن بهز فذكره لا كما قال المصنف، وقد علقه البخاري وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، وأخرجه ابن أبي شيبة قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده بدون قوله: فإذا كان القوم إلى قوله: قلت فإذا كان أحدنا، وزاد بعد قوله: فالله أحق أن يستحيا منه لفظ من الناس، وقد عرف من السياق أنه وارد في كشف العورة، بخلاف ما قال أبو عبد الله البوني أن المراد بقوله أحق أن يستحيا منه أي فلا يعصى. ومفهوم قوله: إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك يدل على أنه يجوز لهما النظر إلى ذلك منه وقياسه أنه يجوز له النظر. ويدل أيضا على أنه لا يجوز النظر لغير من استثنى، ومنه الرجل للرجل والمرأة للمرأة، وكما دل مفهوم الاستثناء على ذلك فقد دل عليه منطوق. قوله: فإذا كان القوم بعضهم في بعض، ويدل على أن التعري في الخلاء غير جائز مطلقا. وقد استدل البخاري على جوازه في الغسل بقصة موسى وأيوب. ومما يدل على عدم الجواز مطلقا حديث ابن عمر عند الترمذي بلفظ: قال
[ 48 ]
رسول الله (ص): إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم ويدل على ما أشعر به الحديث مفهوما ومنطوقا من عدم جواز نظر الرجل إلى عورة الرجل، والمرأة إلى عورة المرأة حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم وأبي داود والترمذي بلفظ: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد. والحديث يدل على وجوب الستر للعورة كما ذكر المصنف. لقوله: احفظ عورتك. وقوله: فلا يرينها وقد ذهب قوم إلى عدم وجوب ستر العورة وتمسكوا بأن تعليق الامر بالاستطاعة قرينة تصرف الامر إلى معناه المجازي الذي هو الندب، ورد بأن ستر العورة مستطاع لكل أحد، فهو من الشروط التي يراد بها التهييج والالهاب كما علم في علم البيان، وتمسكوا أيضا بما سيأتي من كشفه (ص) لفخذه وسيأتي الجواب عليه، والحق وجوب ستر العورة في جميع الاوقات إلا وقت قضاء الحاجة، وإفضاء الرجل إلى أهله كما في حديث ابن عمر السابق، وعند الغسل على الخلاف الذي مر في الغسل، ومن جميع الاشخاص إلا في الزوجة والامة كما في حديث الباب، والطبيب والشاهد والحاكم على نزاع في ذلك. باب بيان العورة وحدها عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت رواه أبو داود وابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبزار من حديث علي وفيه ابن جريج عن حبيب. وفي رواية أبي داود من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرت عن حبيب بن أبي ثابت، وقد قال أبو حاتم في العلل: أن الواسطة بينهما هو الحسن بن ذكوان، قال: ولا يثبت لحبيب رواية عن عاصم. قال الحافظ: فهذه علة أخرى، وكذا قال ابن معين أن حبيبا لم يسمعه من عاصم، وأن بينهما رجلا ليس بثقة، وبين البزار أن الواسطة
[ 49 ]
بينهما هو عمرو بن خالد الواسطي، ووقع في زيادات المسند وفي الدارقطني ومسند الهيثم بن كليب تصريح ابن جريج بأخبار حبيب له وهو وهم كما قال الحافظ. والحديث يدل على أن الفخذ عورة، وقد ذهب إلى ذلك العترة والشافعي وأبو حنيفة. قال النووي: ذهب أكثر العلماء إلى أن الفخذ عورة، وعن أحمد ومالك في رواية العورة القبل والدبر فقط، وبه قال أهل الظاهر وابن جرير والاصطخري، قال الحافظ في ثبوت ذلك عن ابن جرير نظر، فقد ذكر المسألة في تهذيبه ورد على من زعم أن الفخذ ليست بعورة، واحتجوا بما سيأتي في الباب الذي بعد هذا، والحق أن الفخذ من العورة، وحديث علي هذا وإن كان غير منتهض على الاستقلال ففي الباب من الاحاديث ما يصلح للاحتجاج به على المطلوب كما ستعرف ذلك. وأما حديث عائشة وأنس الآتيان في الباب الذي بعد هذا فهما وارد في قضايا معينة مخصوصة يتطرق إليها من احتمال الخصوصية أو البقاء على أصل الاباحة ما لا يتطرق إلى الاحاديث المذكورة في هذا الباب لانها تتضمن إعطاء حكم كلي وإظهار شرع عام فكان العمل بها أولى، كما قال القرطبي على أن طرف الفخذ قد يتسامح في كشفه لا سيما في مواطن الحرب ومواقف الخصام، وقد تقرر في الاصول أن القول أرجح من الفعل. وعن محمد بن جحش قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال: يا معمر غط فخذيك فإن الفخذين عورة رواه أحمد والبخاري في تاريخه. الحديث أخرجه البخاري أيضا في صحيحه تعليقا والحاكم في المستدرك، كلهم من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي كثير مولى محمد بن جحش عنه فذكره. قال الحافظ في الفتح: رجاله رجال الصحيح غير أبي كثير فقد روى عنه جماعة لكن لم أجد فيه تصريحا بتعديل. وقد أخرج ابن قانع هذا الحديث من طريقه أيضا قال: وقد وقع لي حديث محمد بن جحش هذا مسلسلا بالمحمديين من ابتدائه إلى انتهائه وقد أمليته في الاربعين المتباينة. والحديث يدل على أن الفخذ عورة، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه وبيان ما هو الحق. ومحمد بن جحش هذا هو محمد بن عبد الله بن جحش نسب إلى جده، له ولابيه صحبة، وزينب بنت جحش هي عمته، ومعمر المشار إليه هو معمر بن عبد الله بن نضلة القرشي العدوي.
[ 50 ]
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الفخذ عورة رواه الترمذي وأحمد ولفظه: مر رسول الله (ص) على رجل وفخذه خارجة فقال: غط فخذيك فإن فخذ الرجل من عورته. الحديث في إسناده أبويحيى القتات بقاف ومثناتين وهو ضعيف مشهور بكنيته. واختلف في اسمه على ستة أقوال أو سبعة أشهرها دينار. وقد أخرج هذا الحديث البخاري في صحيحه تعليقا وهو يدل على أن الفخذ عورة وقد تقدم الكلام في ذلك. وعن جرهد الاسلمي قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بردة وقد انكشفت فخذي فقال: غط فخذك فإن الفخذ عورة رواه مالك في الموطأ وأحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصححه، وعلقه البخاري في صحيحه وضعفه في تاريخه للاضطراب في إسناده. قال الحافظ في الفتح: وقد ذكرت كثيرا من طرقه في تغليق التعليق. وجرهد هذا هو بفتح الجيم وسكون الراء وفتح الهاء. والحديث من أدلة القائلين بأن الفخذ عورة وهم الجمهور كما تقدم. باب من لم ير الفخذ من العورة وقال هي السوأتان فقط عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا كاشفا عن فخذه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك، فقال: يا عائشة ألا استحيي من رجل والله إن الملائكة لتستحيي منه رواه أحمد. وروى أحمد هذه القصة من حديث حفصة بنحو ذلك ولفظه: دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فوضع ثوبه بين فخذيه، وفيه فلما استأذن عثمان تجلل بثوبه. الحديث أخرج نحوه البخاري تعليقا فقال في صحيحه في بعض ما يذكر في الفخذ: وقال أبو موسى: غطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركبتيه حين دخل عثمان. وأخرجه
[ 51 ]
مسلم من حديث عائشة بلفظ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه الحديث وفيه فلما استأذن عثمان جلس. وحديث حفصة أخرجه الطحاوي والبيهقي من طريق ابن جريج قال: أخبرني أبو خالد عن عبد الله ابن سعيد المدني حدثتني حفصة بنت عمر قالت: كان رسول الله (ص) عندي يوما وقد وضع ثوبه بين فخذيه فدخل أبو بكر الحديث. والحديث استدل به من قال إن الفخذ ليست بعورة، وقد تقدم ذكرهم في الباب الاول وهو لا ينتهض لمعارضة الاحاديث المتقدمة لوجوه، الاول: ما قدمنا من أنها حكاية فعل. الثاني: أنها لا تقوى على معارضة تلك الاقوال الصحيحة العامة لجميع الرجال. الثالث: التردد الواقع في رواية مسلم التي ذكرناها ما بين الفخذ والساق، والساق ليس بعورة إجماعا. الرابع: غاية ما في هذه الواقعة أن يكون ذلك خاصا بالنبي (ص) لانه لم يظهر فيها دليل يدل على التأسي به في مثل ذلك، فالواجب التمسك بتلك الاقوال الناصة على أن الفخذ عورة. وعن أنس: أن النبي (ص) يوم خيبر حسر الازار عن فخذه حتى إن لانظر إلى بياض فخذه رواه أحمد والبخاري وقال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط. قوله: حسر الازار بمهملات مفتوحات أي كشف، وضبطه بعضهم بضم أوله وكسر ثانيه على البناء للمفعول بدليل رواية مسلم فانحسر. قال الحافظ: وليس ذلك بمستقيم إذ لا يلزم من وقوعه، كذلك في رواية مسلم أن لا يقع عند البخاري على خلافه، وزاد البخاري في هذا الحديث عن أنس بلفظ: وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله وهو من جملة حجج القائلين بأن الفخذ ليست بعورة، لان ظاهره أن المس كان بدون الحائل، ومس العورة بدون حائل لا يجوز، ورد بما في صحيح مسلم ومن تابعه من أن الازار لم تنكشف بقصد منه (ص)، ويمكن أن يقال: إن الاستمرار على ذلك يدل على مطلوبهم، لانه وإن كان من غير قصد لكن لو كانت عورة لم يقر على ذلك لمكان
[ 52 ]
عصمته (ص)، وظاهر سياق أبي عوانة والجوزقي من طريقي عبد الوارث عن عبد العزيز يدل على استمرار ذلك لانه بلفظ: فأجرى رسول الله (ص) في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله وإني لارى عياض فخذيه وقد عرفت الجواب عن هذا الاحتجاج مما سلف. باب بيان أن السرة والركبة ليستا من العورة عن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قاعدا في مكان فيه ماء فكشف عن ركبتيه أو ركبته فلما دخل عثمان غطاها رواه البخاري. الحديث في البخاري في كتاب الصلاة باللفظ الذي ذكرناه في شرح حديث عائشة، وقد تقدم الكلام على الحديث هنالك، وهو بهذا اللفظ المذكور هنا في المناقب من صحيح البخاري. واستدل المصنف به وبما بعده لمذهب من قال: إن الركبة والسرة ليستا من العورة، أما الركبة فقال الشافعي إنها ليست عورة، وقال الهادي والمؤيد بالله وأبو حنيفة وعطاء وهو قول الشافعي إنها عورة. وأما السرة فالقائلون بأن الركبة عورة قائلون بأنها غير عورة، وخالفهم في ذلك الشافعي فقال: إنها عورة على عكس ما مر له في الركبة، والاحتجاج بحديث الباب لمن قال إن الركبة ليست بعورة لا يتم، لان الكشف كان لعذر الدخول في الماء، وقد تقدم في الغسل أدلة جوازه والخلاف فيه، وأيضا تغطيتها من عثمان مشعر بأنها عورة، وإن أمكن تعليل التغطية بغير ذلك فغاية الامر الاحتمال. واستدل القائلون بأن الركبة من العورة بحديث أبي أيوب عند الدارقطني والبيهقي بلفظ: عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته وحديث أبي سعيد مرفوعا عند الحرث بن أبي أسامة في مسنده بلفظ: عورة الرجل ما بين سرته وركبته وحديث عبد الله بن جعفر عند الحاكم بنحوه، قالوا: والحد يدخل في المحدود كالمرفق وتغليبا لجانب الحصر، ورد أولا بأن حديث أبي أيوب فيه عباد بن كثير وهو متروك، وحديث أبي سعيد فيه شيخ الحرث بن أبي أسامة داود بن المحبر رواه عن عباد بن كثير عن أبي عبد الله الشامي عن عطاء عنه وهو مسلسل بالضعفاء إلى عطاء. وحديث عبد الله بن جعفر فيه أصرم بن حوشب وهو متروك. وبالمنع من دخول الحد في المحدود والقياس على الوضوء باطل لانه دخل
[ 53 ]
بدليل آخر، ولان غسله من مقدمة الواجب، وأيضا يلزمهم القول بأن السرة عورة وهم لا يقولون بذلك والجواب الجواب. وقد استدل المهدي في البحر للقائلين بأن الركبة عورة لا السرة بقوله (ص): أسفل من سرته إلى ركبته وبتقبيل أبي هريرة سرة الحسن وروايته ذلك عن رسول الله (ص) كما سيأتي. ويمكن الاستدلال لمن قال: السرة والركبة ليستا من العورة بما في سنن أبي داود والدارقطني وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في حديث: وإذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة ورواه البيهقي أيضا ولكنه أخص من الدعوى والدليل على مدعي أنهما عورة، والواجب البقاء على الاصل والتمسك بالبراءة حتى ينتهض ما يتعين به الانتقال، فإن لم يوجد فالرجوع إلى مسمى العورة لغة هو الواجب ويضم إليه الفخذان بالنصوص السالفة. وعن عمير بن إسحق قال: كنت مع الحسن بن علي فلقينا أبو هريرة فقال: أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله (ص) يقبل، فقال بقميصه فقبل سرته رواه أحمد. الحديث في إسناده عمير بن إسحاق الهاشمي مولاهم وفيه مقال. وقد أخرجه الحاكم وصححه بإسناد آخر من غير طريق عمير المذكور، وقد استدل بمن قال: إن السرة ليست بعورة وهو لا يفيد المطلوب لان فعل أبي هريرة لا حجة فيه، وفعل النبي (ص) وقع والحسن طفل، وفرق بين عورة الصغير والكبير، وإلا لزم أن ذكر الرجل ليس بعورة لما روي أنه (ص) قبل زبيبة الحسن أو الحسين، أخرجه الطبراني والبيهقي من حديث أبي ليلى الانصاري، قال البيهقي: وإسناده ليس بالقوي. وروي أيضا من حديث ابن عباس بلفظ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرج ما بين فخذي الحسين وقبل زبيبته أخرجه الطبراني وفي إسناده قابوس بن أبي ظبيان وقد ضعفه النسائي. قال ابن الصلاح: ليس في حديث أبي ليلى تردد بين الحسن والحسين إنما هو الحسن، وقد وقع الاجماع على أن القبل والدبر عورة فاللازم باطل، فلا يكون الحديث متمسكا لمن قال: إن السرة ليست بعورة، وقد حكى المهدي في البحر الاجماع على أن سرة الرجل ليست بعورة ثم قال: وفي دعوى الاجماع نظر وقد عرفناك أن القائل بذلك غير محتاج إلى الاستدلال عليه. قوله: فقال بقميصه هذا من التعبير بالقول
[ 54 ]
عن الفعل وهو كثير. وعن عبد الله بن عمرو قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسرعا قد حفزه النفس قد حسر عن ركبتيه فقال: أبشروا هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم يقول: انظروا إلى عبادي قد صلوا فريضة وهم ينتظرون أخرى رواه ابن ماجه. الحديث رجاله في سنن ابن ماجه رجال الصحيح فإنه قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا حماد عن ثابت عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو فذكره. قوله: وعقب من عقب يقال: عقبه تعقيبا إذا جاء بعقبه، وقال في النهاية: إن معنى قوله عقب أي أقام في مصلاه بعدما يفرغ من الصلاة، يقال: صلى القوم وعقب فلان. قوله: حفزه النفس في القاموس: حفزه يحفزه دفعه من خلفه وبالرمح طعنه، وعن الامر أعجله وأزعجه اه. والحديث من أدلة من قال: إن الركبة ليست بعورة، وقد تقدم الكلام على ذلك وفيه أن انتظار الصلاة بعد فعل الصلاة من موجبات الاجر، وأسباب مباهاة رب العزة لملائكته بمن فعل ذلك. وعن أبي الدرداء قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما صاحبكم فقد غامر فسلم وذكر الحديث رواه أحمد والبخاري. قوله: غامر المغامر في الاصل الملقي بنفسه في الغمرة، وغمرة الشئ شدته ومزدحمه، الجمع غمرات. والمراد بالمغامرة هنا المخاصمة أخذا من الغمر الذي هو الحقد والبغض. والحديث يدل على أن الركبة ليست عورة. قال المصنف رحمه الله: والحجة منه أنه أقره على كشف الركبة ولم ينكره عليه اه. باب أن المرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار رواه الخمسة إلا النسائي. الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة والحاكم
[ 55 ]
وأعله الدار قطني بالوقف وقال: إن وقفه أشبه، وأعله الحاكم بالارسال، ورواه الطبراني في الصغير والاوسط من حديث أبي قتادة بلفظ: لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواري زينتها ولا من جارية بلغت الحيض حتى تختمر. قوله: لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار قد تقدم الكلام على لفظ القبول وما يدل عليه. والحائض من بلغت سن المحيض لا من هي ملابسة للحيض فإنها ممنوعة من الصلاة، وهو مبين في رواية ابن خزيمة في صحيحه بلفظ: لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار. وقوله: إلا بخمار هو بكسر الخاء ما يغطى به رأس المرأة، قال صاحب المحكم: الخمار النصيف وجمعه أخمرة وخمر. والحديث استدل به على وجوب ستر المرأة لرأسها حال الصلاة، واستدل به من سوى بين الحرة والامة في العورة لعموم ذكر الحائض، ولم يفرق بين الحرة والامة وهو قول أهل الظاهر. وفرقت العترة والشافعي وأبو حنيفة والجمهور بين عورة الحرة والامة، فجعلوا عورة الامة ما بين السرة والركبة كالرجل. والحجة لهم ما رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما، وقد ذكرنا لفظ الحديث في شرح حديث أبي موسى المتقدم في الباب الذي قبل هذا، وبما رواه أبو داود أيضا بلفظ: إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظر إلى عورتها قالوا: والمراد بالعورة المذكورة في هذا الحديث ما صرح ببيانه في الحديث الاول. وقال مالك: الامة عورتها كالحرة حاشا شعرها فليس بعورة، وكأنه رأى العمل في الحجاز على كشف الاماء لرؤوسهن، هكذا حكاه عنه ابن عبد البر في الاستذكار. قال العراقي في شرح الترمذي: والمشهور عنه أن عورة الامة كالرجل، وقد اختلف في مقدار عورة الحرة فقيل جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين، وإلى ذلك ذهب الهادي والقاسم في أحد قوليه، والشافعي في أحد أقواله، وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه ومالك. وقيل: والقدمين وموضع الخلخال وإلى ذلك ذهب القاسم في قول وأبو حنيفة في رواية عنه، والثوري وأبو العباس، وقيل: بل جميعها إلا الوجه وإليه ذهب أحمد بن حنبل وداود. وقيل: جميعها بدون استثناء وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي وروي عن أحمد. وسبب اختلاف هذه الاقوال ما وقع من المفسرين من الاختلاف في تفسير قوله تعالى: * (إلا ما ظهر منها) * (النور: 31) وقد استدل بهذا الحديث على أن ستر العورة شرط في صحة الصلاة، لان قوله: لا يقبل صالح للاستدلال به على الشرطية كما قيل. وقد اختلف في ذلك فقال الحافظ في الفتح: ذهب الجمهور إلى أن ستر العورة
[ 56 ]
من شروط الصلاة، قال: وعن بعض المالكية التفرقة بين الذاكر والناسي، ومنهم من أطلق كونه سنة لا يبطل تركها الصلاة. (احتج الجمهور) بقوله تعالى: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * (الاعراف: 31) وبما أخرجه البخاري تعليقا ووصله في تاريخه، وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان عن سلمة بن الاكوع قال: قلت يا رسول الله إني رجل أتصيد أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم زره ولو بشوكة وسيأتي الكلام على هذا الحديث في باب من صلى في قميص غير مزرر. وبحديث بهز بن حكيم المتقدم في أول هذه الابواب. ويجاب عن هذه الادلة بأن غايتها إفادة الوجوب. وأما الشرطية التي يؤثر عدمها في عدم المشروط فلا تصلح للاستدلال بها عليها، لان الشرط حكم وضعي شرعي لا يثبت بمجرد الاوامر، نعم يمكن الاستدلال للشرطية بحديث الباب والحديث الآتي بعده، وبحديث أبي قتادة عند الطبراني بلفظ: لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواري زينتها ولا جارية بلغت المحيض حتى تختمر لكن لا يصفو الاستدلال بذلك عن شوب كدر، لانه أولا يقال نحن نمنع أن نفي القبول يدل على الشرطية، لانه قد نفى القبول عن صلاة الآبق ومن في جوفه الخمر، ومن يأتي عرافا مع ثبوت الصحة بالاجماع. وثانيا بأن غاية ذلك أن الستر شرط لصحة صلاة المرأة وهو أخص من الدعوى، وإلحاق الرجال بالنساء لا يصح ههنا لوجود الفارق وهو ما في تكشف المرأة من الفتنة، وهذا معنى لا يوجد في عورة الرجل. وثالثا بحديث سهل بن سعد عند الشيخين وأبي داود والنسائي بلفظ: كان الرجال يصلون مع النبي (ص) عاقدين أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان، ويقال للنساء: لا ترفعن رؤوسكن حتى تستوي الرجال جلوسا زاد أبو داود: من ضيق الازر وهذا يدل على عدم وجوب الستر فضلا عن شرطيته. ورابعا بحديث عمرو بن سلمة وفيه: فكنت أئمهم وعلي بردة مفتوقة فكنت إذا سجدت تقلصت عني وفي رواية: خرجت أستي فقالت امرأة من الحي: ألا تغطوا عنا است قارئكم الحديث أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي، فالحق أن ستر العورة في الصلاة واجب فقط كسائر الحالات لا شرط يقتضي تركه عدم الصحة. (وقد احتج القائلون) لعدم الشرطية على مطلوبهم بحجج فقهية واهية. منها قولهم: لو كان الستر شرطا في الصلاة لاختص بها ولافتقر إلى النية، ولكان العاجز العريان ينتقل إلى بدل كالعاجز عن القيام ينتقل إلى القعود، والاول منقوض بالايمان فهو شرط في الصلاة ولا يختص بها،
[ 57 ]
والثاني باستقبال القبلة فإنه غير مفتقر إلى النية. والثالث بالعاجز عن القراءة والتسبيح فإنه يصلي ساكتا. وعن أم سلمة: أنها سألت النبي (ص): أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها رواه أبو داود. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرا، قالت: إذن ينكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه رواه النسائي والترمذي وصححه. ورواه أحمد ولفظه: أن نساء النبي (ص) سألنه عن الذيل فقال: اجعلنه شبرا، فقلن: إن شبرا لا يستر من عورة، فقال: اجعلنه ذراعا. حديث أم سلمة أخرجه أيضا الحاكم وأعله عبد الحق بأن مالكا وغيره رووه موقوفا. قال الحافظ: وهو الصواب ولكنه قد قال الحاكم: إن رفعه صحيح على شرط البخاري اه. وفي إسناده عبد الرحمن بن دينار وفيه مقال، قال في التقريب: صدوق يخطئ من السابعة. قال أبو داود: روى هذا الحديث مالك بن أنس وبكر بن مضر وحفص بن غياث وإسماعيل بن جعفر وابن أبي ذئب وابن إسحاق عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة، لم يذكر واحد منهم النبي (ص) قصروا به عن أم سلمة اه، والرفع زيادة لا ينبغي إلغاؤها كما هو مصطلح أهل الاصول وبعض أهل الحديث وهو الحق، وحديث ابن عمر هو للجماعة كلهم بدون قول أم سلمة، وجواب النبي (ص) عليها، وسيأتي الكلام عليه في باب الرخصة في اللباس الجميل من كتاب اللباس. وقد استدل بحديث أم سلمة، فإن فبعض ألفاظه أن النبي (ص) قال لها: لا بأس إذا كان الدرع سابغا الخ كما في التلخيص، على أن ستر بدن المرأة من شروط صحة الصلاة، لان تقييد نفي البأس بتغطية القدمين مشعر أن البأس فيما عداه وليس الافساد الصلاة، وأنت خبير بأن هذا الاشعار لو سلم لم يستلزم حصر البأس في الافساد، لان نقصان الاجر الموجب لنقص الصلاة وعدم كمالها مع صحتها بأس، ولو سلم ذلك الاستلزام فغايته أن يفيد الشرطية في النساء كما عرفت مما سلف. وفي هذا الحديث دليل لمن لم يستثن القدمين من عورة المرأة لان قوله: يغطي ظهور قدميها يدل على عدم العفو، وهكذا
[ 58 ]
استدل من قال بالشرطية بما في حديث ابن عمر من قوله (ص): يرخين شبرا. وقوله: يرخينه ذراعا وهو كما عرفت غير صالح للاستدلال به على الشرطية المدعاة، وغاية ما فيه أن يدل على وجوب ذلك. وفيه أيضا حجة لمن قال: إن قدمي المرأة عورة. قوله: في درع هو قميص المرأة الذي يغطي بدنها ورجليها، ويقال له سابغ إذا طال من فوق إلى أسفل. قوله: يرخين شبرا قال ابن رسلان: الظاهر أن المراد بالشبر والذراع أن يكون هذا القدر زائدا على قميص الرجل لا أنه زائد على الارض. باب النهي عن تجريد المنكبين في الصلاة إلا إذا وجد ما يستر العورة وحدها عن أبي هريرة: أن رسول الله (ص) قال: لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شئ رواه البخاري ومسلم ولكن قال: على عاتقيه ولاحمد اللفظان. الحديث اتفق عليه الشيخان وأبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة. قوله: لا يصلين في لفظ لا يصلي قال ابن الاثير: كذا هو في الصحيحين بإثبات الياء، ووجهه أن لا نافية وهو خبر بمعنى النهي. قال الحافظ: ورواه الدارقطني في غرائب مالك بلفظ: لا يصل ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء عن مالك بلفظ: لا يصلين بزيادة نون التأكيد، ورواه الاسماعيلي من طريق الثوري عن أبي الزناد بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: ليس على عاتقه منه شئ العاتق ما بين المنكبين إلى أصل العنق، والمراد أنه لا يتزر في وسطه ويشد طرفي الثوب في حقويه بل يتوشح بهما على عاتقيه، فيحصل الستر من أعالي البدن، وإن كان ليس بعورة أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة. قال النووي: قال العلماء حكمته أنه إذا اتزر به ولم يكن على عاتقه منه شئ لم يؤمن أن تنكشف عورته، بخلاف ما إذا جعل بعضه على عاتقه، ولانه قد يحتاج إلى إمساكه بيده فيشتغل بذلك وتفوته سنة وضع اليمنى على اليسرى تحت صدره ورفعهما. والحديث يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد. قال النووي: ولا خلاف في هذا إلا ما حكي عن ابن مسعود ولا أعلم صحته وأجمعوا أن الصلاة في ثوبين أفضل. ويدل أيضا على المنع من الصلاة في
[ 59 ]
الثوب الواحد إذا لم يكن على عاتق المصلي منه شئ، وقد حمل الجمهور هذا النهي على التنزيه. وعن أحمد: لا تصح صلاة من قدر على ذلك تركه. وعنه أيضا: تصح ويأثم. وغفل الكرماني عن مذهب أحمد فادعى الاجماع على جواز ترك جعل طرف الثوب على العاتق، وجعله صارفا للنهي عن التحريم إلى الكراهة، وقد نقل ابن المنذر عن محمد بن علي عدم الجواز، وكلام الترمذي يدل على ثبوت الخلاف أيضا، وعقد الطحاوي له بابا في شرح المغني ونقل المنع عن ابن عمر ثم عن طاوس والنخعي، ونقله غيره عن ابن وهب وابن جرير، وجمع الطحاوي بين الاحاديث بأن الاصل أن يصلي مشتملا فإن ضاق اتزر. ونقل الشيخ تقي الدين السبكي وجوب ذلك عن الشافعي واختاره. قال الحافظ: لكن المعروف في كتب الشافعية خلافه. واستدل الخطابي على عدم الوجوب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى في ثوب كان أحد طرفيه على بعض نسائه وهي نائمة، قال: ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لان يتزر به ويفضل منه ما كان لعاتقه، وفيما قاله نظر لا يخفى قاله الحافظ. إذا تقرر لك عدم صحة الاجماع الذي جعله الكرماني صارفا للنهي فالواجب الجزم بمعناه الحقيقي، وهو تحريم ترك جعل طرف الثوب الواحد حال الصلاة على العاتق والجزم بوجوبه مع المخالفة بين طرفيه بالحديث الآتي حتى ينتهض دليل يصلح للصرف، ولكن هذا في الثوب إذا كان واسعا جمعا بين الاحاديث كما سيأتي التصريح بذلك في حديث جابر. وقد عمل بظاهر الحديث ابن حزم فقال: وفرض على الرجل إن صلى في ثوب واسع أن يطرح منه على عاتقه أو عاتقيه فإن لم يفعل بطلت صلاته، إن كان ضيقا اتزر به وأجزأه، سواء كان معه ثياب غيره أو لم يكن، ثم ذكر ذلك عن نافع مولى ابن عمر والنخعي وطاوس. [ رح 529 ] وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من صلى في ثوب واحد فليخالف بطرفيه رواه البخاري وأحمد وأبو داود وزاد على عاتقيه. أخرج هذه الزيادة أحمد، وكذا الاسماعيلي وأبو نعيم من طريق حسين عن شيبان. وقد حمل الجمهور هذا الامر على الاستحباب وخالفهم في ذلك أحمد. والخلاف في الامر ههنا كالخلاف في النهي في الحديث الذي قبل هذا. وفي الباب عن عمر بن أبي سلمة عند الجماعة كلهم. وعن سلمة بن الاكوع عند أبي داود والنسائي. وعن أنس
[ 60 ]
عند البزار والموصلي في مسنديهما. وعن عمرو بن أبي أسد عند البغوي في معجم الصحابة، والحسن بن سفيان في مسنده. وعن أبي سعيد عند مسلم وابن ماجه. وعن كيسان عند ابن ماجه. وعن ابن عباس عند أحمد بإسناد صحيح. وعن عائشة عند أبي داود. وعن أم هانئ عند الشيخين. وعن عمار بن ياسر عند أبي يعلى والطبراني. وعن طلق بن علي عند أبي داود. وعن عبادة بن الصامت عند الطبراني. وعن أبي بن كعب عند عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند: وعن حذيفة عند أحمد. وعن سهل بن سعد عند الشيخين وأبي داود والنسائي وعن عبد الله بن أبي أمية عند الطبراني. وعن عبد الله بن سرجس عند الطبراني أيضا وعن عبد الله بن عبد الله بن المغيرة عند أحمد. وعن عبد الله بن عمر عند أبي داود. وعن علي بن أبي طالب عند الطبراني، وعن معاذ عند الطبراني أيضا، وعن معاوية عند الطبراني أيضا، وعن أبي أمامة عند الطبراني أيضا. وعن أبي بكر الصديق عند أبي يعلى الموصلي. وعن أبي عبد الرحمن حاضن عائشة عند الطبراني. وعن أم حبيبة عند أحمد، وعن أم الفضل عند أحمد، وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسم عند أحمد بإسناد صحيح. وعن جابر بن عبد الله: أن النبي (ص) قال: إذا صليت في ثوب واحد فإن كان واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به متفق عليه، ولفظه لاحمد. وفي لفظ له آخر قال: قال رسول الله (ص): إذا ما اتسع الثوب فلتعاطف به على منكبيك ثم صل، وإذا ضاق عن ذلك فشد به حقويك ثم صل من غير رداء. قوله: فالتحف به الالتحاف بالثوب التغطي به كما أفاده في القاموس. والمراد أنه لا يشد الثوب في وسطه فيصلي مكشوف المنكبين، بل يتزر به ويرفع طرفيه فيلتحف بهما فيكون بمنزلة الازار والرداء، هذا إذا كان الثوب واسعا، وأما إذا كان ضيقا جاز الاتزار به من دون كراهة، وبهذا يجمع بين الاحاديث كما ذكره الطحاوي وغيره، واختاره ابن المنذر وابن حزم وهو الحق الذي يتعين المصير إليه، فالقول بوجوب طرح الثوب على العاتق والمخالفة من غير فرق بين الثوب الواسع والضيق ترك للعمل بهذا الحديث وتعسير مناف للشريعة السمحة، وإن أمكن الاستئناس له بحديث: أن رجالا كانوا
[ 61 ]
يصلون مع النبي (ص) عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان ويقال للنساء: لا ترفعن رؤوسكن حتى تستوي الرجال جلوسا عند الشيخين وأبي داود والنسائي من حديث سهل بن سعد. قوله: فشد به حقويك الحقو بفتح الحاء المهملة موضع شد الازار وهو الخاصرة ثم توسعوا فيه حتى سموا الازار الذي يشد على العورة حقوا. [ رم (186) ] باب من صلى في قميص غير مزرر تبدو منه عورته في الركوع أو غيره عن سلمة بن الاكوع قال: قلت: يا رسول الله إني أكون في الصيد وأصلي وليس علي إلا قميص واحد، قال: فزره وإن لم تجد إلا شوكة رواه أحمد وأبو داود والنسائي. الحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والحاكم، وعلقه البخاري في صحيحه ووصله في تاريخه وقال: في إسناده نظر. قال الحافظ: وقد بينت طرقه في تغليق التعليق وله شاهد مرسل وفيه انقطاع أخرجه البيهقي، وقد رواه البخاري أيضا عن إسماعيل بن أبي أويس وعن أبيه عن موسى بن إبراهيم عن أبيه عن سلمة، زاد في الاسناد رجلا ورواه أيضا عن مالك بن إسماعيل عن عطاف بن خالد قال: حدثنا موسى بن إبراهيم قال: حدثنا سلمة فصرح بالتحديث بين موسى وسلمة، فاحتمل أن يكون رواية أبي أويس من المزيد في متصل الاسانيد، أو يكون التصريح في رواية عطاف وهما، فهذا وجه النظر في إسناده الذي ذكره البخاري. وأما من صححه فاعتمد على رواية الدراوردي وجعل رواية عطاف شاهدة لاتصالها. وطريق عطاف أخرجها أيضا أحمد والنسائي. وأما قول ابن القطان أن موسى هو ابن محمد بن إبراهيم التيمي المضعف عند البخاري وأبي حاتم وأبي داود وأنه نسب هنا إلى جده فليس بمستقيم، لانه نسب في رواية البخاري وغيره مخزوميا وهو غير التيمي فلا تردد، نعم وقع عند الطحاوي موسى بن محمد بن إبراهيم، فإن كان محفوظا فيحتمل على بعد أن يكونا جميعا رويا الحديث وحمله عنهما الدراوردي، وإلا فذكر محمد فيه شاذ، كذا قال الحافظ. قوله: في الصيد جاء في رواية بلفظ: إنا نكون في الصيف وفي أخرى بالصف، وقد جمع ابن الاثير بين الروايات في شرحه للمسند بما حاصله أن ذكر الصيد، لان الصائد يحتاج أن يكون خفيفا ليس عليه ما يشغله عن الاسراع في طلب الصيد، وذكر الصف معناه أن يصلي في جماعة في
[ 62 ]
وليس عليه إلا قميص واحد فربما بدت عورته، وذكر الصيف لانه مظنة للحر لا سيما في الحجاز لا يمكن معه الاكثار من اللباس. قوله: فزره هكذا وقع هنا. وفي رواية البخاري قال: يزره. وفي رواية أبي داود: فازرره. وفي رواية ابن حبان والنسائي: زره. والمراد شد القميص والجمع بين طرفيه لئلا تبدو عورته، ولو لم يمكنه ذلك الا بان يغرز في طرفه شوكة يستمسك بها. والحديث يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد وفي القميص منفردا عن غيره مقيدا بعقد الزرار، وقد تقدم الخلاف في ذلك. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يصلي الرجل حتى يحتزم رواه أحمد وأبو داود. هذا الحديث وقع البحث عنه في سنن أبي داود ومسند أحمد والجامع الكبير ومجمع الزوائد فلم يوجد بهذا اللفظ فينظر في نسبة المصنف له إلى أحمد وأبي داود، ولكنه يشهد له الامر بشد الازار على الحقو وقد تقدم، لان الاحتزام شد الوسط كما في القاموس وغيره. وكذلك حديث: وإن كان ضيقا فاتزر به عند الشيخين كما تقدم، لان الاتزار شد الازار على الحقو، فيكون هذا النهي مقيدا بالثوب الضيق كما في غيره من الاحاديث، وقد تقدم الكلام على ذلك. وعن عروة بن عبد الله عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: أتيت النبي (ص) في رهط من مز ينة فبايعناه وإن قميصه لمطلق، قال: فبايعته فأدخلت يدي من قميصه فمسست الخاتم، قال عروة: فما رأيت معاوية ولا أباه في شتاء ولا حر إلا مطلقي أزرارهما لا يزرران أبدا رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه، وذكر الدارقطني أن هذا الحديث تفرد به وذكر ابن عبد البر أن قرة بن إياس والد معاوية المذكور، ولم يرو عنه غير ابنه معاوية، وفي إسناده أبو مهل بميم ثم هاء مفتوحتين ولام مخففة الجعفي الكوفي، وقد وثقه أبو زرعة الرازي وذكره ابن حبان. قوله: وعن عروة بن عبد الله هو ابن نفيل النفيلي وقيل ابن قشير وهو أبو مهل المذكور الراوي عن معاوية بن قرة. قوله: وإن قميصه بكسر الهمزة لانها بعد واو الحال. قوله: لمطلق أي غير مشدود، وكان
[ 63 ]
عادة العرب أن تكون جيوبهم واسعة، فربما يشدونها وربما يتركونها مفتوحة مطلقة. قوله: فمسست بكسر السين الاولى. قوله: الخاتم يعني خاتم النبوة تبركا به وليخبر به من لم يره. قوله: إلا مطلقي بكسر اللام وفتح القاف. والحديث يدل على أن إطلاق الزرار من السنة. والمصنف أورده ههنا توهما منه أنه معارض بحديث سلمة بن الاكوع الذي مر، وليس الامر كذلك، لان حديث سلمة خاص بالصلاة وهذا الحديث ليس فيه ذكر الصلاة، ويمكن أن يكون مراد المصنف بإيراده ههنا الاستدلال به على جواز إطلاق الزرار في غير الصلاة، وإن كانت ترجمة الباب لا تساعد على ذلك، قال رحمه الله: وهذا محمول على أن القميص لم يكن وحده اه. باب استحباب الصلاة في ثوبين وجوازها في الثوب الواحد عن أبي هريرة: أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في ثوب واحد فقال: أو لكلكم ثوبان رواه الجماعة إلا الترمذي زاد البخاري في رواية: ثم سأل رجل عمر فقال: إذا وسع الله فأوسعوا جمع رجل عليه ثيابه صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقبا، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقبا، في تبان وقبا في تبان وقميص. قال وأحسبه قال: في تبان ورداء. قوله: أن سائلا ذكر شمس الائمة السرخسي الحنفي في كتابه المبسوط أن السائل ثوبان. قوله: أو لكلكم ثوبان قال الخطابي: لفظه استخبار ومعناه الاخبار على ما هم عليه من قلة الثياب، ووقع في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى كأنه يقول: إذا علمتم أن ستر العورة فرض والصلاة لازمة وليس لكل أحد منكم ثوبان فكيف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة؟ أي مع مراعاة ستر العورة. وقال الطحاوي معناه: لو كانت الصلاة مكروهة في الثوب الواحد لكرهت لمن لا يجد إلا ثوبا واحدا اه. قال الحافظ: وهذه الملازمة في مقام المنع للفرق بين القادر وغيره، والسؤال إنما كان عن الجواز وعدمه لا عن الكراهة. قوله: ثم سأل رجل عمر يحتمل أن يكون ابن مسعود لانه اختلف هو وأبي بن كعب، فقال أبي: الصلاة في الثوب الواحد غير مكروهة، وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك وفي الثياب قلة، فقام عمر على المنبر فقال: القول ما قال أبي، ولم يأل ابن مسعود أي لم يقصر أخرجه عبد الرزاق. قوله: جمع رجل هذا
[ 64 ]
من قول عمر وأورده بصيغة الخبر ومراده الامر. قال ابن بطال: يعني ليجمع وليصل، وقال ابن المنير: الصحيح أنه كلام في معنى الشرط كأنه قال: إن جمع رجل عليه ثيابه فحسن ثم فصل الجمع بصور. قال ابن مالك: تضمن هذا فائدتين: الاولى ورود الماضي بمعنى الامر في قوله صلى والمعنى ليصل. والثانية حذف حرف العطف ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: تصدق امرؤ من ديناره من درهمه من صاع تمره. قوله: في سراويل قال ابن سيده: السراويل فارسي معرب يذكر ويؤنث، ولم يعرف أبو حاتم السجستاني التذكير والاشهر عدم صرفه. قوله: وقبا بالقصر وبالمد. قيل: هو فارسي معرب، وقيل: عربي مشتق من قبوت الشئ إذا ضممت أصابعك سمي بذلك لانضمام أطرافه. قوله: في تبان التبان بضم المثناة وتشديد الموحدة وهو على هيئة السراويل إلا أنه ليس له رجلان وهو يتخذ من جلد. قوله: وأحسبه القائل أبو هريرة والضمير في أحسبه راجع إلى عمر، ومجموع ما ذكر عمر من الملابس ستة: ثلاثة للوسط وثلاثة لغيره، فقدم ملابس الوسط لانها محل سترة العورة، وقدم استرها وأكثرها استعمالا لهم، وضم إلى كل واحد واحدا، فخرج من ذلك تسع صور من ضرب ثلاثة في ثلاثة، ولم يقصد الحصر في ذلك بل يلحق به ما يقوم مقامه. والحديث يدل على أن الصلاة في الثوب الواحد صحيحة، ولم يخالف في ذلك إلا ابن مسعود وقد تقدم ذلك، وتقدم قول النووي: لا أعلم صحته، وتقدم الاجماع على أن الصلاة في ثوبين أفضل، صرح بذلك القاضي عياض وابن عبد البر والقرطبي والنووي وفي قول ابن المنذر، واستحب بعضهم الصلاة في ثوبين إشعار بالخلاف. وعن جابر: أن النبي (ص) صلى في ثوب واحد متوشحا به متفق عليه. الحديث أخرجه مسلم من رواية سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر، ومن رواية عمرو بن الحرث عن أبي الزبير. ورواه أبو داود من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال: أمنا جابر الحديث، ولم يخرجه البخاري من حديث جابر بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف، بل أخرج نحوه من حديث عمر بن أبي سلمة الذي سيأتي. قوله: متوشحا به قال ابن عبد البر حاكيا عن الاخفش: إن التوشح هو أن يأخذ طرف الثوب الايسر من تحت يده اليسرى فيلقيه على منكبه الايمن ويلقي طرف الثوب الايمن من تحت يده اليمنى على منكبه الايسر، قال: وهذا التوشح الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله
[ 65 ]
وسلم أنه صلى في ثوب واحد متوشحا به. والحديث يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد إذا توشح به المصلي، وقد تقدم الكلام في ذلك. وعن عمر بن أبي سلمة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في ثوب واحد متوشحا به في بيت أم سلمة قد ألقى طرفيه على عاتقيه رواه الجماعة. قوله: متوشحا به في البخاري والترمذي مشتملا. وفي بعض روايات مسلم: ملتحفا به وقد جعلها النووي بمعنى واحد فقال: المشتمل والمتوشح والمخالف بين طرفيه معناه واحد هنا، وقد سبقه إلى ذلك الزهري، وفرق الاخفش بين الاشمال والتوشيح فقال: إن الاشمال أن يلتف الرجل بردائه أو بكسائه من رأسه إلى قدمه ويرد طرف الثوب الايمن على منكبه الايسر، قال: والتوشح وذكر ما قدمنا عنه في شرح الحديث الذي قبل هذا. وفائدة التوشح والاشتمال والالتحاف المذكورة في هذه الاحاديث أن لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع، ولئلا يسقط الثوب عند الركوع والسجود قاله ابن بطال. قوله: قد ألقى طرفيه على عاتقيه قد تقدم الكلام في ذلك. (والحديث يدل) على أن الصلاة في الثوب الواحد صحيحة إذا توشح به المصلي أو وضع طرفه على عاتقه أو خالف بين طرفيه، وقد تقدم الكلام في ذلك. باب كراهية اشتمال الصماء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شئ وأن يشتمل الصماء بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه منه يعني شئ متفق عليه. وفي لفظ لاحمد: نهى عن لبستين: أن يحتبي أحدكم في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شئ، وأن يشتمل في إزاره إذا ما صلى إلا أن يخالف بطرفيه على عاتقيه. قوله: أن يحتبي الاحتباء أن يقعد على أليتيه وينصب ساقيه ويلف عليه ثوبا ويقال له الحبوة وكانت من شأن العرب. قوله: ليس على فرجه منه شئ فيه دليل على أن الواجب ستر السوأتين فقط لانه قيد النهي بما إذا لم يكن على الفرج
[ 66 ]
شئ، ومقتضاه أن الفرج إذا كان مستورا فلا نهي. قوله: وأن يشتمل الصماء هو بالصاد المهملة والمد، قال أهل اللغة: هو أن يجلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانبا ولا يبقي ما تخرج منه يده. قال ابن قتيبة: سميت صماء لانه يسد المنافذ كلها فيصير كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق. وقال الفقهاء: هو أن يلتحف بالثوب ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيصير فرجه باديا. قال النووي: فعلى تفسير أهل اللغة يكون مكروها لئلا تعرض له حاجة فيتعسر عليه إخراج يده فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء يحرم لاجل انكشاف العورة. قال الحافظ: ظاهر سياق البخاري من رواية يونس في اللباس أن التفسير المذكور فيها مرفوع وهو موافق لما قال الفقهاء ولفظه سيأتي في هذا الباب، وعلى تقدير أن يكون موقوفا فهو حجة على الصحيح لانه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر. قوله: وفي لفظ لاحمد هذه الرواية موافقة لما عند الجماعة في المعنى إلا أن فيها زيادة وهو قوله إذا ما صلى وهي غير صالحة لتقييد النهي بحالة الصلاة، لان كشف العورة محرم في جميع الحالات إلا ما استثني، والنهي عن الاحتباء والاشتمال لكونهما مظنة الانكشاف فلا يختص بتلك الحالة. قوله: لبستين هو بكسر اللام لان المراد بالنهي الهيئة المخصوصة لا المرة الواحدة من اللبس. والحديث يدل على تحريم هاتين اللبستين لانه المعنى الحقيقي للنهي، وصرفه إلى الكراهة مفتقر إلى دليل. [ رح 538 ] وعن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن اشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد ليس على فرجه منه شئ رواه الجماعة إلا الترمذي فإنه رواه من حديث أبي هريرة. وللبخاري: نهى عن لبستين والبستان اشتمال الصماء، والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب، واللبسة الاخرى احتباؤه بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شئ. قد تقدم الكلام على الحديث في شرح الذي قبله. باب النهي عن السدل والتلثم في الصلاة عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه رواه أبو داود. ولاحمد والترمذي عنه النهي عن السدل. ولابن ماجه النهي عن تغطية الفم.
[ 67 ]
الحديث قال الترمذي: لا نعرفه من حديث عطاء عن أبي هريرة مرفوعا إلا من حديث عسل بن سفيان وأخرجه الحاكم في المستدرك من الطريق التي رواها أبو داود بالزيادة التي ذكرها وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجا فيه تغطية الرجل فاه في الصلاة اه، وكلامه هذا يفهم أنهما أخرجا أصل الحديث مع أنهما لم يخرجاه. وفي الباب عن أبي جحيفة عند الطبراني في معاجمه الثلاثة، والبزار في مسنده وفي إسناده حفص بن أبي داود وقد اختلف فيه عليه وهو ضعيف، وكذلك أبو مالك النخعي وقد ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم. قال البيهقي: وقد كتبناه من حديث إبراهيم بن طهمان عن الهيثم، فإن كان محفوظا فهو أحسن من رواية حفص. وفي الباب أيضا عن ابن مسعود عند البيهقي وقد تفرد به بسر بن رافع وليس بالقوي. وعن ابن عباس عند ابن عدي في الكامل وفي إسناده عيسى بن قرطاس وليس بثقة، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه. وقد اختلف الائمة في الاحتجاج بحديث الباب، فمنهم من لم يحتج به لتفرد عسل ابن سفيان وقد ضعفه أحمد، قال الخلال: سئل أحمد عن حديث السدل في الصلاة من حديث أبي هريرة فقال: ليس هو بصحيح الاسناد وقال: عسل بن سفيان غير محكم الحديث، وقد ضعفه الجمهور يحيى بن معين وأبو حاتم والبخاري وآخرون، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف على قلة روايته اه. وقد أخرج له الترمذي هذا الحديث فقط، وأبو داود أخرج له هذا وحديثا آخر، وقد تقدم تصحيح الحاكم لحديث أبي هريرة. وعسل بن سفيان لم يتفرد به، فقد شاركه في الرواية عن عطاء الحسن بن ذكوان، وترك يحيى له لم يكن إلا لقوله إنه كان قدريا، وقد قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. قوله: نهى عن السدل قال أبو عبيدة في غريبه: السدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه فإن ضمه فليس بسدل، وقال صاحب النهاية: هو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك، قال: وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب، قال وقيل: هو أن يضع وسط الازار على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه. وقال الجوهري: سدل ثوبه يسدله بالضم سدلا أي أرخاه. وقال الخطابي: السدل إرسال الثوب حتى يصيب الارض اه.
[ 68 ]
فعلى هذا السدل والاسبال واحد. قال العراقي: ويحتمل أن يراد بالسدل سدل الشعر، ومنه حديث ابن عباس: إن النبي (ص) سدل ناصيته وفي حديث عائشة أنها سدلت قناعها وهي محرمة أي أسبلته اه. ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني إن كان السدل مشتركا بينها وحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوي. وقد روي أن السدل من فعل اليهود، أخرج الخلال في العلل وأبو عبيد في الغريب من رواية عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه عن علي عليه السلام أنه خرج فرأى قوما يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال: كأنهم اليهود خرجوا من قهرهم قال أبو عبيد: هو موضع مدارسهم الذي يجتمعون فيه. قال صاحب الامام: والقهر بضم القاف وسكون الهاء موضع مدارسهم الذي يجتمعون فيه، وذكره في القاموس والنهاية في الفاء لا في القاف. (والحديث يدل) على تحريم السدل في الصلاة لانه معنى النهي الحقيقي، وكرهه ابن عمر ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري والشافعي في الصلاة وغيرها. وقال أحمد: يكره في الصلاة. وقال جابر بن عبد الله وعطاء والحسن وابن سيرين ومكحول والزهري: لا بأس به. وروي ذلك عن مالك، وأنت خبير بأنه لا موجب للعدول عن التحريم إن صح الحديث لعدم وجدان صارف له عن ذلك. قوله: وأن يغطي الرجل فاه قال ابن حبان: لانه من زي المجوس، قال: وإنما زجر عن تغطية الفم في الصلاة على الدوام لا عند التثاؤب بمقدار ما يكظمه لحديث: إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه فإن الشيطان يدخل وهذا لا يتم إلا بعد تسليم عدم اعتبار قيد في الصلاة المصرح به في المعطوف عليه في جانب المعطوف وفيه خلاف ونزاع. وقد استدل به على كراهة أن يصلي الرجل ملتثما كما فعل المصنف. باب الصلاة في ثوب الحرير والغصب عن ابن عمر قال: من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يقبل الله عزوجل له صلاة ما دام عليه، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه وقال: صمتا إن لم يكن النبي (ص) سمعته يقوله رواه أحمد. الحديث أخرجه عبد بن حميد والبيهقي في الشعب وضعفه، وتمام والخطيب وابن عساكر والديلمي وفي إسناده هاشم عن ابن عمر، قال ابن كثير في إرشاده وهو لا يعرف. وقد استدل
[ 69 ]
به من قال: إن الصلاة في الثوب المغصوب أو المغصوب ثمنه لا تصح وهم العترة جميعا. وقال أبو حنيفة والشافعي: تصح لان العصيان ليس بنفس الطاعة لتغاير اللباس والصلاة، ورد بأن الحديث مصرح بنفي قبول الصلاة في الثوب المغصوب ثمنه والمغصوب عينه بالاولى، وأنت خبير بأن الحديث لا ينتهض للحجية، ولو سلم فمعنى نفي القبول لا يستلزم نفي الصحة لانه يرد على وجهين: الاول يراد به الملازم لنفي الصحة والاجزاء نحو قوله: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به والثاني يراد به نفي الكمال والفضيلة كما في حديث نفي قبول صلاة الآبق، والمغاضبة لزوجها، ومن في جوفه خمر، وغيرهم ممن هو مجمع على صحة صلاتهم، وقد تقدمت الاشارة إلى هذا في موضعين من هذا الشرح، ومن ههنا تعلم أن نفي القبول مشترك بين الامرين، فلا يحمل على أحدهما إلا لدليل، فلا يتم الاحتجاج به في مواطن النزاع. وقال أبو هاشم: إن استتر بحلال لم يفسدها المغصوب فوقه إذ هو فضلة. قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه يعني الحديث دليل على أن النقود تتعين في العقود اه، وفي ذلك خلاف بين الفقهاء، وقد صرح المتأخرون من فقهاء الزيدية أنها تتعين في اثني عشر موضعا ومحل الكلام على ذلك علم الفروع. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد متفق عليه. ولاحمد: من صنع أمرا على غير أمرنا فهو مردود. قوله: ليس عليه أمرنا المراد بالامر هنا واحد الامور وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. قوله: فهو رد المصدر بمعنى اسم المفعول كما بينته الرواية الاخرى، قال في الفتح: يحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المترتبة عليها، وأن النهي يقتضي الفساد، لان المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها، ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الامر. لقوله: ليس عليه أمرنا والمراد به أمر الدين، وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد اه. وهذا الحديث من قواعد الدين لانه يندرج تحته من الاحكام ما لا يأتي عليه الحصر. وما أصرحه وأدله على إبطال ما فعله الفقهاء من تقسيم البدع إلى أقسام وتخصيص الرد
[ 70 ]
ببعضها بلا مخصص من عقل ولا نقل، فعليك إذا سمعت من يقول هذه بدعة حسنة بالقيام في مقام المنع مسندا له بهذه الكلية وما يشابهها من نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: كل بدعة ضلالة طالبا لدليل تخصيص تلك البدعة التي وقع النزاع في شأنها بعد الاتفاق على أنها بدعة، فإن جاءك به قبلته وإن كاع كنت قد ألقمته حجرا واسترحت من المجادلة. ومن مواطن الاستدلال لهذا الحديث كل فعل أو ترك وقع الاتفاق بينك وبين خصمك على أنه ليس من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخالفك في اقتضائه البطلان أو الفساد، متمسكا بما تقرر في الاصول من أنه لا يقتضي ذلك إلا عدم أمر يؤثر عدمه في العدم كالشرط، أو وجود أمر يؤثر وجوده في العدم كالمانع، فعليك بمنع هذا التخصيص الذي لا دليل عليه إلا مجرد الاصطلاح، مسندا لهذا المنع بما في حديث الباب من العموم المحيط بكل فرد من أفراد الامور التي ليست من ذلك القبيل قائلا: هذا أمر ليس من أمره، وكل أمر ليس من أمره رد فهذا رد، وكل رد باطل فهذا باطل، فالصلاة مثلا التي ترك فيها ما كان يفعله رسول الله (ص) أو فعل فيها ما كان يتركه ليست من أمره فتكون باطلة بنفس هذا الدليل، سواء كان ذلك الامر المفعول أو المتروك مانعا باصطلاح أهل الاصول أو شرطا أو غيرهما فليكن منك هذا على ذكر. قال في الفتح: وهذا الحديث معدود من أصول الاسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه من اخترع من الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه، قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك. وقال الطوخي: هذا الحديث يصح أن يسمى نصف أدلة الشرع لان الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه. وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه، لان منطوقه مقدمة كلية، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس هذا ليس من أمر الشرع وكل ما كان كذلك فهو مردود فهذا العمل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الدليل وإنما يقع النزاع في الاولى، ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجمع أدلة الشرع لكن هذا الثاني لا يوجد، فإذن حديث الباب نصف أدلة الشرع انتهى. وعن عقبة بن عامر قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فروج حرير فلبسه ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا عنيفا شديدا كالكاره له ثم
[ 71 ]
قال: لا ينبغي هذا للمتقين متفق عليه. قوله: فروج بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وآخره جيم هو القبا المفرج من خلف. وحكى أبو زكريا التبريزي عن أبي العلاء المعري جواز ضم أوله وتخفيف الراء، قال الحافظ في الفتح: والذي أهداه هو أكيدر دومة كما صرح بذلك البخاري في اللباس. والحديث استدل به من قال بتحريم الصلاة في الحرير وهو الهادي في أحد قوليه، والناصر والمنصور بالله والشافعي. وقال الهادي في أحد قوليه وأبو العباس والمؤيد بالله والامام يحيى وأكثر الفقهاء أنها مكروهة فقط، مستدلين بأن علة التحريم الخيلاء ولا خيلاء في الصلاة، وهذا تخصيص للنص بخيال علة الخيلاء وهو مما لا ينبغي الالتفات إليه. وقد استدلوا لجواز الصلاة في ثياب الحرير بعدم إعادته صلى الله عليه وآله وسلم لتلك الصلاة وهو مردود، لان ترك إعادتها لكونها وقعت قبل التحريم، ويدل على ذلك حديث جابر عند مسلم بلفظ: صلى في قبا ديباج ثم نزعه وقال: نهاني جبريل وسيأتي، وهذا ظاهر في أن صلاته فيه كانت قبل تحريمه. قال المصنف: وهذا يعني حديث الباب محمول على أنه لبسه قبل تحريمه، إذ لا يجوز أن يظن به أنه لبسه بعد التحريم في صلاة ولا غيرها، ويدل على إباحته في أول الامر ما روى أنس بن مالك: أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبة سندس أو ديباج قبل أن ينهى عن الحرير فلبسها فتعجب الناس منها فقال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها رواه أحمد انتهى. قال في البحر: فإن لم يوجد غيره صحت فيه وفاقا بينهم، فإن صلى عاريا بطلت صلاته. وقال أحمد بن حنبل: يصلي عاريا كالنجس. وقد اختلفوا هل تجزئ الصلاة في الحرير بعد تحريمه أم لا؟ فقال الحافظ في الفتح: إنها تجزئ عند الجمهور مع التحريم، وعن مالك يعيد في الوقت انتهى. وسيأتي البحث عن لبس الحرير وحكمه قريبا. وعن جابر بن عبد الله قال: لبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبا له من ديباج أهدي إليه ثم أوشك أن نزعه وأرسل به إلى عمر بن الخطاب فقيل: قد أوشكت ما نزعته يا رسول الله، قال: نهاني عنه جبريل عليه السلام، فجاءه عمر يبكي فقال: يا رسول الله كرهت أمرا وأعطيتنيه فما لي، فقال: ما أعطيتك لتلبسه إنما أعطيتك تبيعه فباعه بألفي درهم رواه أحمد. الحديث أخرجه مسلم في صحيحه بنحو مما هنا. قوله: من ديباج الديباج هو
[ 72 ]
نوع من الحرير، قيل: هو ما غلظ منه. قوله: ثم أوشك أي أسرع كما في القاموس وغيره. والحديث يدل على تحريم لبس الحرير، ولبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون دليلا على الحل لانه محمول على أنه لبسه قبل التحريم بدليل. قوله: نهاني عنه جبريل ولهذا حصر الغرض من الاعطاء في البيع، وسيأتي تحقيق ما هو الحق في ذلك. قال المصنف رحمه الله فيه يعني الحديث دليل أن أمته عليه السلام أسوته في الاحكام اه. وقد تقرر في الاصول ما هو الحق في ذلك، والادلة العامة قاضية بمثل ما ذكره المصنف من نحو قوله تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الاحزاب: 21) * (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * (الحشر: 7) * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * (آل عمران: 31). كتاب اللباس [ رم ] باب تحريم لبس الحرير والذهب على الرجال دون النساء عن عمر قال: سمعت النبي (ص) يقول: لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة. وعن أنس: أن النبي (ص) قال: من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة متفق عليهما. الحديثان يدلان على تحريم لبس الحرير، لما في الاول من النهي الذي يقتضي بحقيقته التحريم، وتعليل ذلك بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، والظاهر أنه كناية عن عدم دخول الجنة وقد قال الله تعالى في أهل الجنة: * (ولباسهم فيها حرير) * (الحج: 23) فمن لبسه في الدنيا لم يدخل الجنة، روى ذلك النسائي عن ابن الزبير، وأخرج النسائي عن ابن عمر أنه قال: والله لا يدخل الجنة وذكر الآية، وأخرج النسائي والحاكم عن أبي سعيد أنه قال: وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه. ويدل على ذلك أيضا حديث ابن عمر عند الشيخين بلفظ قال: قال رسول الله (ص): إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة والخلاق كما في كتب اللغة وشروح الحديث النصيب أي من لا نصيب له في الآخرة، وهكذا إذا فسر بمن لا حرمة له أو من لا دين له كما قيل. وهكذا حديث ابن عمر عند الستة إلا الترمذي بلفظ: أنه رأى عمر حلة من استبرق تباع
[ 73 ]
فأتى بها النبي (ص) فقال: يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفود، فقال رسول الله (ص): إنما هذه لباس من لا خلاق له، ثم لبث عمر ما شاء الله أن يلبث، فأرسل إليه (ص) بجبة ديباج فأتى عمر النبي (ص) فقال: يا رسول الله قلت: إنما هذه لباس من لا خلاق له ثم أرسلت إلي بهذه، فقال (ص): إني لم أرسلها إليك لتلبسها ولكن لتبيعها وتصيب بها حاجتك. ومن أدلة التحريم حديث عقبة بن عامر السابق في الباب الذي قبل هذا الكتاب، فإن قوله: لا ينبغي هذا للمتقين إرشاد إلى أن لابس الحرير ليس من زمرة المتقين. وقد علم وجوب الكون منهم ومن ذلك ما عند البخاري بلفظ: الذهب والفضة والحرير والديباج لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ومن ذلك حديث أبي موسى وعلي وحذيفة وعمر وأبي عامر وستأتي، وإذا لم تفد هذه الادلة التحريم فما في الدنيا محرم. وأما معارضتها بما سيأتي فستعرف ما عليه. وقد أجمع المسلمون على التحريم، ذكر ذلك المهدي في البحر وقد نسب فيه الخلاف في التحريم إلى ابن علية وقال: إنه انعقد الاجماع بعده على التحريم. وقال القاضي عياض: حكي عن قوم إباحته، وقال أبو داود: إنه لبس الحرير عشرون نفسا من الصحابة أو أكثر منهم أنس والبراء بن عازب ووقع الاجماع على أن التحريم مختص بالرجال دون النساء، وخالف في ذلك ابن الزبير مستدلا بعموم الاحاديث، ولعله لم يبلغه المخصص الذي سيأتي. وقد استدل من جوز لبس الحرير بأدلة: منها حديث عقبة بن عامر المتقدم في الباب الذي قبل الكتاب، وقد عرفت الجواب عن ذلك فيما سلف. ومنها حديث أسماء بنت أبي بكر في الجبة التي كان يلبسها رسول الله (ص)، وسيأتي في باب إباحة اليسير من الحرير وسنذكر الجواب عنه هنالك. ومنها حديث المسور بن مخرمة عند الشيخين إنها قدمت للنبي (ص) أقبية فذهب هو وأبوه إلى النبي (ص) لشئ منها فخرج النبي (ص) وعليه قباء من ديباج مزرور فقال: يا مخرمة خبأنا لك هذا وجعل يريه محاسنه وقال: أرضي مخرمة؟ والجواب أن هذا فعل لا ظاهر له، والاقوال صريحة في التحريم، على أنه لا نزاع أن النبي (ص) كان يلبس الحرير ثم كان التحريم آخر الامرين كما يشعر بذلك حديث جابر المتقدم. ومنها حديث عبد الله بن سعد عن أبيه، وسيأتي في باب ما جاء في لبس الحرير وسنذكر الجواب عنه هنالك. ومنها ما تقدم من لبس جماعة
[ 74 ]
من الصحابة له، وسيأتي الجواب عليه في باب ما جاء في لبس الخز. ومنها أنه (ص) لبس مستقة من سندس أهداها له ملك الروم ثم بعث بها إلى جعفر فلبسها ثم جاءه فقال: إني لم أعطكها لتلبسها، قال: فما أصنع؟ قال: أرسل بها إلى أخيك النجاشي، أخرجه أبو داود، والجواب عن الاحتجاج بلبسه (ص) مثل ما تقدم في الجواب عن حديث مخرمة. وأما عن الاحتجاج بأمره (ص) لجعفر أن يبعث بها للنجاشي فالجواب عنه كالجواب الذي سيأتي في شرح حديث لبسه (ص) للخز، على أن الحديث غير صالح للاحتجاج، لان في إسناده علي بن زيد بن جدعان ولا يحتج بحديثه، ويمكن أن يقال: إن لبسه (ص) لقبا الديباج وتقسيمه للاقبية بين أصحابه ليس فيه ما يدل على أنه متقدم على أحاديث النهي، كما أنه ليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عنه، فيكون قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة، ويكون ذلك جمعا بين الادلة. ومن مقويات هذا ما تقدم أنه لبسه عشرون صحابيا، ويبعد كل البعد أن يقدموا على ما هو محرم في الشريعة، ويبعد أيضا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه، فقد كانوا ينكرون على بعضهم بعضا ما هو أخف من هذا وقد اختلفوا في الصغار أيضا هل يحرم إلباسهم الحرير أم لا؟ فذهب الاكثر إلى التحريم، قالوا: لان قوله على ذكور أمتي كما في الحديث الآتي يعمهم. ولحديث ثوبان عند أبي داود: أن النبي (ص) قدم من غزاة وكان لا يقدم إلا بدأ حين يقدم ببيت فاطمة، فوجدها قد علقت سترا على بابها وحلت الحسنين بقلبين من فضة، فتقدم فلم يدخل عليها فظنت أنه إنما منعه أن يدخل ما رأى، فهتكت الستر وفكت القلبين عن الصبيين فانطلقا إلى رسول الله (ص) يبكيان فأخذه منهما وقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى آل فلان الحديث. وهذا وإن كان واردا في الحلية ولكنه مشعر بأن حكمهم حكم المكلفين فيها فيكون حكمهم
[ 75 ]
في لبس الحرير كذلك. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن في آخر الحديث ما يشعر بعدم التحريم فإنه قال: نحن أهل بيت لا نستغرق طيباتنا في حياتنا الدنيا أو كما قال. وقد ثبت عنه (ص) أنه قال: عليكم بالفضة فالعبوا بها كيف شئتم والصغار غير مكلفين وإنما التكليف على الكبار. وقد روي أن إسماعيل بن عبد الرحمن دخل على عمر وعليه قميص من حرير وسواران من ذهب فشق القميص وفك السوارين وقال: اذهب إلى أمك. وقال محمد بن الحسن: إنه يجوز إلباسهم الحرير. وقال أصحاب الشافعي: يجوز في يوم العيد لانه لا تكليف عليهم، وفي جواز إلباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه: أصحها جوازه. والثاني تحريمه. والثالث يحرم بعد سن التمييز. واختلفوا في المقدار الذي يستثنى من الحرير للرجال وسيأتي الكلام عليه. وعن أبي موسى: أن النبي (ص) قال: أحل الذهب والحرير للاناث من أمتي وحرم على ذكورها رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. الحديث أيضا أخرجه أبو داود والحاكم وصححه والطبراني وفي إسناده سعيد ابن أبي هند عن أبي موسى قال أبو حاتم: إنه لم يلقه، وقال الدارقطني في العلل: لم يسمع سعيد بن أبي هند من أبي موسى. وقال ابن حبان في صحيحه: حديث سعيد بن أبي هند عن أبي موسى معلول لا يصح. والحديث قد صححه الترمذي كما ذكر المصنف، وصححه أيضا ابن حزم كما ذكر الحافظ. وقد روي من طريق يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ذكر ذلك الدارقطني في العلل قال: والصحيح عن نافع عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى. وقد اختلف فيه على نافع، فرواه أيوب وعبيد الله بن عمر عن نافع عن سعيد مثله، ورواه عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن سعيد عن رجل عن أبي موسى. وفي الباب عن علي بن أبي طالب عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان بلفظ: أخذ النبي (ص) حريرا فجعله في يمنيه وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي زاد ابن ماجه: حل لاناثهم وبين النسائي الاختلاف فيه على يزيد بن حبيب. قال الحافظ: وهو اختلاف لا يضر، ونقل عبد الحق عن ابن المديني أنه قال: حديث حسن ورجاله معروفون. وذكر الدارقطني الاختلاف فيه على يزيد بن أبي حبيب، ورجح النسائي رواية ابن المبارك عن الليث عن يزيد عن ابن أبي الصعبة عن رجل من همدان يقال
[ 76 ]
له أفلح عن عبد الله بن زرير عن علي عليه السلام، قال الحافظ: الصواب أبو أفلح. وقد أعله ابن القطان بجهالة حال رواته ما بين يزيد بن أبي حبيب وعلي، فأما عبد الله بن زرير فقد وثقه العجلي وابن سعد، وأما أبو أفلح فقال الحافظ ينظر فيه، وأما ابن أبي الصعبة فقد ذكره ابن حبان في الثقات واسمه عبد العزيز. وفي الباب أيضا عن عقبة بن عامر عند البيهقي بإسناد حسن. وعن عمر عند البزار والطبراني وفيه عمرو بن جرير البجلي قال البزار: لين الحديث. وعن عبد الله بن عمرو نحو حديث أبي موسى عند ابن ماجه والبزار وأبي يعلى والطبراني وفي إسناده الافريقي وهو ضعيف. وعن زيد بن أرقم عند الطبراني والعقيلي وابن حبان في الضعفاء وفيه ثابت ابن زيد قال أحمد: له مناكير. وعن واثلة بن الاسقع عند الدارقطني وإسناده مقارب. وعن ابن عباس عند الدارقطني والبزار بإسناد واه، وهذه الطرق متعاضدة بكثرتها ينجبر الضعف الذي لم تخل منه واحدة منها. والحديث دليل للجماهير القائلين بتحريم الحرير والذهب على الرجال وتحليلهما للنساء، وقد تقدم الخلاف في ذلك. وعن علي عليه السلام قال: أهديت إلى النبي (ص) حلة سيراء فبعث بها إلي فلبستها فعرفت الغضب في وجهه فقال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء متفق عليه. قوله: أهديت له أهداها له ملك ايلة وهو مشرك. قوله: حلة الحلة على ما في القاموس وغيره من كتب اللغة إزار ورداء، ولا تكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة وهي بضم الحاء. قوله: سيراء بكسر السين المهملة بعدها مثناة تحتية ثم راء مهملة ثم ألف ممدودة، قال في القاموس: كعنباء نوع من البرود فيه خطوط صفر أو يخالطه حرير والذهب الخالص اه. قال الخطابي: هي برود مضلعة بالقز، وكذا قال الخليل والاصمعي وأبو داود، وقال آخرون: إنها شبهت خطوطها بالسيور. وقيل: هي مختلفة الالوان قاله الازهري. وقيل: هي وشي من حرير قاله مالك، وقيل: هي حرير محض. وقال ابن سيده: إنها ضرب من البرود. وقال الجوهري: إنها ما كان فيه خطوط صفر، وقيل: ما يعمل من القز. وقيل: ما يعمل من ثياب اليمن. وقد روي تنوين الحلة وإضافتها والمحققون على الاضافة. قال القرطبي: كذا قيد عمن يوثق بعلمه، فهو على هذا من باب إضافة الشئ إلى صفته، على أن سيبويه قال: لم يأت فعلاء صفة. قوله: خمرا جمع خمار.
[ 77 ]
وقوله: بين النساء زاد في رواية: فشققته بين نسائي. وفي رواية بين الفواطم وهن ثلاث: فاطمة بنت رسول الله. وفاطمة بنت أسد أم علي. وفاطمة بنت حمزة. وذكر عبد الغني وابن عبد البر أن الفواطم أربع والرابعة فاطمة بنت شيبة بن ربيعة، كذا قاله عياض وابن رسلان. والحديث يدل على المنع من لبس الثوب المشوب بالحرير إن كانت السيراء تطلق على المخلوط بالحرير، وإن لم يكن خالصا كما هو المشهور عند أئمة اللغة، وإن كانت الحرير الخالص كما قاله البعض فلا إشكال. وقد رجح بعضهم أنه الخالص لحديث ابن عباس: أن النبي (ص) إنما نهى عن الثوب المصمت وسيأتي، وستعرف ما هو الحق في المقدار الذي يحل من المشوب. ويدل الحديث أيضا على حل الحرير للنساء، وقد تقدم الكلام على ذلك. وعن أنس بن مالك: أنه رأى على أم كلثوم بنت النبي (ص) برد حلة سيراء رواه البخاري والنسائي وأبو داود. قوله: أم كلثوم هي بنت خديجة بنت خويلد تزوجها عثمان بعد رقية. قوله: برد حلة بالاضافة في رواية البخاري. وفي رواية أبي داود: بردا سيراء بالتنوين. والحديث من أدلة جواز الحرير للنساء أن فرض اطلاع النبي (ص) على ذلك وتقريره، وقد تقدم مخالفة ابن الزبير في ذلك. باب في أن افتراش الحرير كلبسه عن حذيفة قال: نهانا النبي (ص) أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه رواه البخاري. الحديث قد تقدم الكلام عليه في باب الاواني. وقوله: وأن نجلس عليه يدل على تحريم الجلوس على الحرير وإليه ذهب الجمهور كذا في الفتح بأنه مذهب الجمهور، وبه قال عمر وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص، وإليه ذهب الناصر والمؤيد بالله والامام يحيى. قال القاسم وأبو طالب والمنصور بالله وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن ابن عباس وأنس أنه يجوز افتراش الحرير، وبه قال ابن الماجشون وبعض الشافعية. واحتج لهم في البحر بأن
[ 78 ]
الفراش موضع إهانة، وبالقياس على الوسائد المحشوة بالقز قال: إذ لا خلاف فيها، وهذا دليل باطل لا ينبغي التعويل عليه في مقابلة النصوص كحديث الباب والحديث الآتي بعده، وقد تقرر عند أئمة الاصول وغيرهم بطلان القياس المنصوب في مقابلة النص وأنه فاسد الاعتبار، وعدم حجية أقوال الصحابة لا سيما إذا خالفت الثابت عنه (ص). وعن علي عليه السلام قال: نهاني رسول الله (ص) عن الجلوس على المياثر والمياثر قسي كانت تصنعه النساء لبعولتهن على الرحل كالقطائف من الارجوان رواه مسلم والنسائي. قد اتفق الشيخان على النهي عن المياثر من حديث البراء. وأخرج الجماعة كلهم إلا البخاري حديث علي عليه السلام بلفظ: نهى رسول الله (ص) عن خاتم الذهب وعن لبس القسي وعن الميثرة. وفي رواية: مياثر الارجوان ولم يذكر الجلوس إلا في رواية مسلم ولهذا ذكره المصنف رحمه الله. قوله: على المياثر جمع ميثرة بكسر الميم وبالثاء المثلثة وهي مأخوذة من الوثارة وهي اللين والنعمة وياء ميثرة وأو لكنها قلبت لكسر ما قبلها كميزان وميعاد، وقد فسرها علي بما ذكره مسلم في صحيحه كما رواه المصنف عنه، وكذلك فسرها البخاري في صحيحه، وقد اختلف في تفسير المياثر على أربعة أقوال: منها هذا التفسير المروي عن علي عليه السلام والاخذ به أولى. قوله: والمياثر قسي القسي بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة على الصحيح، قال أهل اللغة: وغريب الحديث هي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس بفتح القاف موضع من بلاد مصر على ساحل البحر قريب من تنيس. وقيل إنها منسوبة إلى القز وهو ردئ الحرير فأبدلت الزاي سينا. قوله: من الارجوان هو بضم الهمزة والجيم وهو الصوف الاحمر كذا في شرح السنن لابن رسلان وقيل: الارجوان الحمرة، وقيل: الشديد الحمرة، وقيل: الصباغ الاحمر القاني. والحديث يدل على تحريم الجلوس على ما فيه حرير، وقد خصص بعضهم بالمذهب فقال: إن كان حرير الميثرة أكثر أو كانت جميعها من الحرير فالنهي للتحريم وإلا فالنهي للتنزيه. والاستدلال بهذا الحديث على تحريم ذلك على الامة مبني على أن خطابه (ص) لواحد خطاب لبقية الامة، والحكم عليه حكم عليهم، وفي ذلك خلاف في الاصول مشهور، وقد ثبت في غير هذه الرواية بلفظ نهي كما عرفت، وهو دليل على عدم اختصاص ذلك بعلي عليه السلام.
[ 79 ]
باب إباحة يسير ذلك كالعلم والرقعة عن عمر: أن رسول الله (ص) نهى عن لبوس الحرير إلا هكذا ورفع لنا رسول الله (ص) أصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما متفق عليه. وفي لفظ: نهى عن لبس الحرير إن موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة رواه الجماعة إلا البخاري، وزاد فيه أحمد وأبو داود: وأشار بكفه. الحديث فيه دلالة على أنه يحل من الحرير مقدار أربع أصابع كالطراز والسجاف، من غير فرق بين المركب على الثوب والمنسوج والمعمول بالابرة والترقيع كالتطريز، ويحرم الزائد على الاربع من الحرير ومن الذهب بالاولى وهذا مذهب الجمهور، وقد أغرب بعض المالكية فقال: يجوز العلم وإن زاد على الاربع، وروي عن مالك القول بالمنع من المقدار المستثنى في الحديث ولا أظن ذلك يصح عنه، وذهبت الهادوية إلى تحريم ما زاد على الثلاث الاصابع، ورواية الاربع ترد عليهم وهي زيادة صحيحة بالاجماع فتعين الاخذ بها. وعن أسماء: أنها أخرجت جبة طيالسة عليها لبنة شبر من ديباج كسرواني وفرجيها مكفوفين به فقالت: هذه جبة رسول الله (ص) كان يلبسها كانت عند عائشة، فلما قبضت عائشة قبضتها إلي فنحن نغسلها للمريض يستشفى بها رواه أحمد ومسلم ولم يذكر لفظ الشبر. قوله: جبة طيالسة هو بإضافة جبة إلى طيالسة كما ذكره ابن رسلان في شرح السنن، والطيالسة جمع طيلسان وهو كساء غليظ، والمراد أن الجبة غليظة كأنها من طيلسان. قوله: كسرواني بفتح الكاف وسكون السين وفتح الواو نسبة إلى كسرى ملك الفرس. قوله: وفرجيها مكفوفين الفرج في الثوب الشق الذي يكون أمام الثوب وخلفه في أسفلها وهما المراد بقوله فرجيها. (والحديث) يدل على جواز لبس ما فيه من الحرير هذا المقدار. وقد قيل: إن ذلك محمول على أنه أربع أصابع أو دونها أو فوقها إذا لم يكن مصمتا جمعا بين الادلة، ولكنه يأبى الحمل على الاربع فما دون. قوله في حديث
[ 80 ]
الباب: شبر من ديباج وعلى غير المصمت. قوله: من ديباج فإن الظاهر أنها من ديباج فقط لا منه ومن غيره، إلا أن يصار إلى المجاز للجمع كما ذكر، نعم يمكن أن يكون التقدير بالشبر لطول تلك اللبنة لا لعرضها فيزول الاشكال (وفي الحديث) أيضا دليل على استحباب التجمل بالثياب والاستشفاء بآثار رسول الله (ص)، وفي الادب المفرد للبخاري أنه كان يلبسها للوفد والجمعة، وقد وقع عند ابن أبي شيبة من طريق حجاج بن أبي عمر وعن أسماء أنها قالت: كان يلبسها إذا لقي العدو وجمع وأخرج الطبراني من حديث علي النهي عن المكفف بالديباج، وفي إسناده محمد بن جحادة عن أبي صالح عن عبيد بن عمير، وأبو صالح هو مولى أم هانئ وهو ضعيف، وروى البزار من حديث معاذ بن جبل أن النبي (ص) رأى رجلا عليه جبة مزررة أو مكفف بحرير فقال له: طوق من نار، وإسناده ضعيف. وقد أسلفنا أنه استدل بعض من جوز لبس الحرير بهذا وهو استدلال غير صحيح، لان لبسه (ص) للجبة المكفوفة بالحرير لا يدل على جواز لبث الثوب الخالص الذي هو محل النزاع، ولو فرض أن هذه الجبة جميعها حرير خالص لم يصلح هذا الفعل للاستدلال به على الجواز، لما قدمنا من الجواب على الاستدلال بحديث مخرمة. وعن معاوية قال: نهى رسول الله (ص) عن ركوب النمار وعن لبس الذهب إلا مقطعا رواه أحمد وأبو داود والنسائي. الحديث أخرجه أبو داود في الخاتم، والنسائي في الزينة بإسناد رجاله ثقات إلا ميمون القناد وهو مقبول وقد وثقه ابن حبان، وقد رواه النسائي عن غير طريقه، وقد اقتصر أبو داود في اللباس منه على النهي عن ركوب النمار وكذلك ابن ماجه، ورواه أبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب ومعاوية، وفيه النهي من لبس الذهب والحرير وجلود السباع، وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال معروف. قوله: عن ركوب النمار في رواية النمور فكلاهما جمع نمر بفتح النون وكسر الميم، ويجوز التخفيف بكسر النون وسكون الميم وهو سبع أخبث وأجرأ من الاسد، وهو منقط الجلد نقط سود، وفيه شبه من الاسد إلا أنه أصغر منه، وإنما نهى عن استعمال جلوده لما فيها من الزينة والخيلاء ولانه زي العجم، وعموم النهي شامل للمذكي وغيره. قوله: وعن لبس الذهب إلا مقطعا لا بد فيه من تقييد القطع بالقدر المعفو عنه لا بما فوقه جمعا بين الاحاديث. قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: والمراد بالنهي الذهب الكثير لا المقطع قطعا يسيرة منه
[ 81 ]
تجعل حلقة أو قرطا أو خاتما للنساء، أو في سيف الرجل، وكره الكثير منه الذي هو عادة أهل السرف والخيلاء والتكبر. وقد يضبط الكثير منه بما كان نصابا تجب فيه الزكاة واليسير بما لا تجب فيه انتهى. وقد ذكر مثل هذا الكلام الخطابي في المعالم وجعل هذا الاستثناء خاصا بالنساء، قال: لان جنس الذهب ليس بمحرم عليهن كما حرم على الرجال قليله وكثيره. باب لبس الحرير للمريض عن أنس: أن النبي (ص) رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما رواه الجماعة، إلا أن لفظ الترمذي: أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبي (ص) القمل فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما. وهكذا في صحيح مسلم أن الترخيص لعبد الرحمن والزبير كان في السفر. وزعم المحب الطبري انفراده به وعزاه إليهما ابن الصلاح وعبد الحق والنووي. قوله: في قمص الحرير بضم القاف والميم جمع قميص ويروى بالافراد. قوله: لحكة بكسر الحاء وتشديد الكاف. قال الجوهري: هي الجرب، وقيل هي غيره، وهكذا يجوز لبسه للقمل كما في رواية الترمذي وهي أيضا في الصحيحين. والتقييد بالسفر بيان للحال الذي كانا عليه لا للتقييد، وقد جعل السفر بعض الشافعية قيدا في الترخيص وهو ضعيف، ووجهه أنه شاغل عن التفقد والمعالجة، واختاره ابن الصلاح لظاهر الحديث والجمهور على خلافه. (والحديث) يدل على جواز لبس الحرير لعذر الحكة والقمل عند الجمهور، وقد خالف في ذلك مالك والحديث حجة عليه، ويقاس غيرهما من الحاجات عليهما، وإذا ثبت الجواز في حق هذين الصحابين ثبت في حق غيرهما ما لم يقم دليل على اختصاصهما بذلك وهو مبني على الخلاف المشهور في الاصول، فمن قال: حكمه على الواحد حكم على الجماعة كان الترخيص لهما ترخيصا لغيرهما إذا حصل له عذر مثل عذرهما، ومن منع من ذلك ألحق غيرهما بالقياس بعدم الفارق.
[ 82 ]
باب ما جاء في لبس الخز وما نسج من حرير وغيره عن عبد الله بن سعد عن أبيه سعد قال: رأيت رجلا ببخارى على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء فقال: كسانيها رسول الله (ص) رواه أبو داود والبخاري في تاريخه. وقد صح لبسه عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم. الحديث أخرجه أيضا الترمذي، ورواه البخاري في التاريخ الكبير عن مخيلد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد وقال: قال عبد الله نراه ابن خازم السلمي، قال: وابن خازم ما أدري أدرك النبي (ص) أم لا؟ وهذا شيخ آخر. وقال النسائي قال بعضهم: إن هذا الرجل عبد الله بن خازم أمير خراسان. قال المنذري: عبد الله بن خازم هذا بالخاء المعجمة والزاي كنيته أبو صالح ذكر بعضهم أن له صحبة وأنكرها بعضهم انتهى. وعبد الله بن سعد المذكور في هذا الحديث هو عبد الله بن سعد بن عثمان الدشتكي الرازي، روى عنه هذا الحديث ابنه عبد الرحمن وليس له في الكتب غيره، وقد وثقه ابن حبان، وقد ساق هذا الحديث أبو داود في سننه من طريق أحمد بن عبد الرحمن الرازي عن أبيه عبد الرحمن قال: أخبرني أبي عبد الله بن سعد عن أبيه سعد قال: رأيت رجلا، الحديث. ولعل عبد الله بن خازم كما ذكر النسائي والبخاري هو الرجل المبهم في الحديث، وقد صرح بهذا ابن رسلان فقال: الرجل الراكب، قيل: هو عبد الله بن خازم وكنيته أبو صالح. قوله: عمامة خز قال ابن الاثير: الخز ثياب تنسج من صوف وإبريسم وهي مباحة، وقد لبسها الصحابة والتابعون، وقال غيره: الخز اسم دابة ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها. وقال المنذري: أصله من وبر الارنب ويسمى ذكره الخز. وقيل: إن الخز ضرب من ثياب الابريسم. وفي النهاية ما معناه: أن الخز الذي كان على عهد النبي (ص) مخلوط من صوف وحرير. وقال عياض في المشارق: إن الخز ما خلط من الحرير والوبر، وذكر أنه من وبر الارنب ثم قال: فسمي ما خالط الحرير من سائر الاوبار خزا (والحديث) قد استدل به على جواز لبس الخز، وأنت خبير بأن غاية ما في الحديث أنه أخبر بأن رسول الله (ص) كساه عمامة الخز
[ 83 ]
وذلك لا يستلزم جواز اللبس. وقد ثبت من حديث علي عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي أنه قال: كساني رسول الله (ص) حلة سيراء فخرجت بها فرأيت الغضب في وجهه فأطرتها خمرا بين نسائي هذا لفظ الحديث في التيسير، فلم يلزم من قول علي عليه السلام كساني جواز اللبس، وهكذا قال عمر لما بعث إليه النبي (ص) بحلة سيراء: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت، فقال رسول الله (ص): إني لم أكسكها لتلبسها هذا لفظ أبي داود، وبهذا يتبين لك أنه لا يلزم من قوله كساني جواز اللبس، على أنه قد ثبت في تحريم الخز ما هو أصح من هذا الحديث وهو حديث أبي عامر الآتي وكذلك حديث معاوية. (وقد استدل) بهذا الحديث أيضا على جواز لبس المشوب، وهو لا يدل على ذلك إلا على أحد التفاسير للخز وقد تقدم ذكر بعضها، وقد اختلف الناس في المشوب، وسيأتي بيان ما هو الحق. قوله: وقد صح لبسه عن غير واحد من الصحابة لا يخفاك أنه لا حجة في فعل بعض الصحابة وإن كانوا عددا كثيرا، والحجة إنما هي في إجماعهم عند القائلين بحجية الاجماع، ولو كان لبسهم الخز يدل على أنه حلال لكان الحرير الخالص حلالا، لما تقدم عن أبي داود أنه قال: لبس الحرير عشرون صحابيا، وقد أخبر الصادق المصدوق أنه سيكون من أمته أقوام يستحلون الخز والحرير، وذكر الوعيد الشديد في آخر هذا الحديث من المسخ إلى القردة والخنازير كما سيأتي. وعن ابن عباس قال: إنما نهى رسول الله (ص) عن الثوب المصمت من قز، قال ابن عباس: أما السدى والعلم فلا نرى به بأسا رواه أحمد وأبو داود. الحديث في إسناده خصيف بن عبد الرحمن وقد ضعفه غير واحد، قال في التقريب: هو صدوق سيئ الحفظ خلط بأخرة ورمي بالارجاء، وقد وثقه ابن معين وأبو زرعة وبقية رجال إسناده ثقات. وأخرجه الحاكم بإسناد صحيح والطبراني بإسناد حسن كما قال الحافظ في الفتح. قوله: المصمت بضم الاولى وفتح الثانية المخففة وهو الذي جميعه حرير لا يخالطه قطن ولا غيره قاله ابن رسلان. قوله: أما السدى بفتح السين والدال بوزن الحصى ويقال ستى بمثناة من فوق بدل الدال لغتان بمعنى واحد وهو خلاف اللحمة وهو ما مد طولا في النسج. قوله: والعلم هو رسم الثوب ورقمه قاله في القاموس وذلك كالطراز والسجاف.
[ 84 ]
والحديث يدل على حل لبس الثوب المشوب بالحرير، وقد اختلف الناس في ذلك. قال في البحر مسألة ويحل المغلوب بالقطن وغيره ويحرم الغالب إجماعا فيهما اه. وكلا الاجماعين ممنوع، أما الاول فقد نقل الحافظ في الفتح عن العلامة ابن دقيق العيد أنه إنما يجوز من المخلوط ما كان مجموع الحرير فيه أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة إلى جميع الثوب. وأما الثاني فقد تقدم الخلاف عن ابن علية في الحرير الخالص، ونقله القاضي عياض عن قوم كما عرفت. وقد ذهب الامامية إلى أنه لا يحرم إلا ما كان حريرا خالصا لم يخالطه ما يخرجه عن ذلك كما روى ذلك الريمي عنهم. وقال الهادي في الاحكام والمؤيد بالله وأبو طالب أنه يحرم من المخلوط ما كان الحرير غالبا فيه أو مساويا تغليبا لجانب الحظر، ولا دليل على تحليل المشوب إلا حديث ابن عباس هذا وهو غير صالح للاحتجاج من وجهين: الاول الضعف في إسناده كما عرفت. الثاني أنه أخبر بما بلغه من قصر النهي على المصمت وغيره أخبر بما هو أعم من ذلك، كما تقدم في حلة السيراء من غضبه (ص) لما رأى عليا لابسا لها. والقول بأن حلة السيراء هي الحرير الخالص كما قال البعض ممنوع، والسند ما أسلفناه عن أئمة اللغة، بل أخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه والدورقي والبيهقي حديث على السابق في السيراء بلفظ: قال علي أهدى إلي رسول الله (ص) حلة سيراء وإما سداها حرير وإما لحمتها فأرسل بها إلي فأتيته فقلت: ما أصنع بها ألبسها؟ قال: لا إني لا أرضى لك ما أكره لنفسي شققها خمرا لفلانة وفلانة فشققتها أربعة أخمرة وسيأتي الحديث. وهذا صريح بأن تلك السيراء مخلوطة لا حرير خالص. ومن ذلك حديث أبي ريحانة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه وفيه النهي عن عشر. منها أن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرا مثل الاعاجم، وأن يجعل على منكبه حريرا مثل الاعاجم، وقد عرفت مما سلف الاحاديث الواردة في تحريم الحرير بدون تقييد، فالظاهر منها تحريم ماهية الحرير سواء وجدت منفردة أو مختلطة بغيرها، ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الاربع الاصابع من الحرير الخالص، وسواء وجد ذلك المقدار مجتمعا كما في القطعة الخالصة أو مفرقا كما في الثوب المشوب. وحديث ابن عباس لا يصلح لتخصيص تلك العمومات ولا لتقييد تلك الاطلاقات لما عرفت، ولا متمسك للجمهور القائلين بحل المشوب إذا كان الحرير مغلوبا إلا قول ابن عباس فيما أعلم، فانظر أيها المنصف هل
[ 85 ]
يصلح جعله جسرا تذاد عنه الاحاديث الواردة في تحريم مطلق الحرير ومقيده؟ وهل ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الاصل العظيم مع ما في إسناده من الضعف الذي يوجب سقوط الاستدلال به على فرض تجرده عن المعارضات؟ فرحم الله ابن دقيق العيد فلقد حفظ الله به في هذه المسألة أمة نبيه عن الاجماع على الخطأ، ويمكن أن يقال: إن خصيفا المذكور في إسناد الحديث قد وثقه من تقدم واعتضد الحديث بوروده من وجهين آخرين: أحدهما صحيح والآخر حسن كما سلف، فانتهض الحديث للاحتجاج به. (فإن قلت): قد صرح الحافظ ابن حجر أن عهدة الجمهور في جواز لبس ما خالطه الحرير إذا كان غير الحرير أغلب ما وقع في تفسير الحلة السيراء. (قلت): ليس في أحاديث الحلة السيراء ما يدل على أنها حلال بل جميعها قاضية بالمنع منها كما في حديث عمر وعلي وغيرهما مما سلف، فإن فسرت بالثياب المخلوطة بالحرير كما قال جمهور أهل اللغة كانت حجة على الجمهور لا لهم، وإن فسرت بأنها الحرير الخالص فأي دليل فيها على جواز لبس المخلوط، وهكذا إن فسرت بسائر التفاسير المتقدمة. (والحاصل) أنه لم يأت المدعون للحل بشئ تركن النفس إليه، وغاية ما جادلوا به أنه قول الجمهور وهذا أمر هين والحق لا يعرف بالرجال. وأما دعوى الاجماع التي ذكرها صاحب البحر فما هي بأول دعاويه، على أن الراجح عند من أطلق نفسه عن وثاق العصبية الوبية عدم حجية الاجماع إن سلم إمكانه ووقوعه ونقله والعلم به وإن كان الحق منع الكل. وأحسن ما يستدل به على الجواز حديث عبد الله بن سعد المتقدم في لبس عمامة الخز لما في النهاية من أن الخز الذي كان على عهده (ص) مخلوط من صوف وحرير. وقال في المشارق: إن الخز ما خلط من الحرير والوبر كما تقدم، لولا أنه يمنع من صلاحيته للاحتجاج به على المطلوب ما أسلفناه في شرحه، على أن النزاع في مسمى الخز بمجرده مانع مستقل. وعن علي عليه السلام قال: أهدي لرسول الله (ص) حلة مكفوفة بحرير إما سداها وإما لحمتها فأرسل بها إلي فأتيته فقلت: يا رسول الله ما أصنع بها ألبسها؟ قال: لا ولكن اجعلها خمرا بين الفواطم. الحديث في إسناده يزيد بن أبي زياد وفيه مقال معروف، وأما هبيرة بن يريم الراوي له عن علي فقد وثقه ابن حبان، وقد أخرجه أيضا ابن أبي شيبة والبيهقي والدورقي. قوله: بين الفواطم قد تقدم ذكر أسمائهن في شرح حديث علي
[ 86 ]
المتقدم. والحديث يدل على المنع من لبس الثوب المخلوط بالحرير، وقد قدمنا الكلام على ذلك وذكرنا القدر المعفو عنه. وعن معاوية قال: قال رسول الله (ص): لا تركبوا الخز ولا النمار رواه أبو داود. الحديث رجال إسناده ثقات. وقد أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه، والكلام على الخز تفسيرا وحكما قد تقدم. وكذلك الكلام على النمار وقد ذكرناه في حديث معاوية السابق. وعن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الاشجعي أنه سمع النبي (ص) يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير وذكر كلاما قال: يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة رواه أبو داود والبخاري تعليقا. وقال فيه: يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف. الحديث رجال إسناده في سنن أبي داود ثقات، وقد وهم المصنف رحمه الله فقال: أبو مالك الاشجعي وليس كذلك بل هو الاشعري. قوله: ليكونن من أمتي استدل بهذا على أن استحلال المحرمات لا يوجب لفاعله الكفر والخروج عن الامة. قوله: الخز بالخاء المعجمة والزاي وهو الذي نص عليه الحميدي وابن الاثير، وذكره أبو موسى في باب الحاء والراء المهملتين وهو الفرج، وكذلك ابن رسلان في شرح السنن ضبطه بالمهملتين قال: وأصله حرح فحذف أحد الحاءين وجمعه أحراح كفرخ وأفراخ. ومنهم من شدد الراء وليس بجيد يريد أنه يكثر فيهم الزنا. قال في النهاية: والمشهور الاول، وقد تقدم تفسير الخز، وعطف الحرير على الخز يشعر بأنهما متغايران. قوله: آخرين وفي رواية: آخرون. قوله: قردة بكسر القاف وفتح الراء جمع قرد. وفي ذلك دليل على أن المسخ واقع في هذه الامة. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الملاهي عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: يمسخ قوم من هذه الامة في آخر الزمان قردة وخنازير، فقالوا: يا رسول الله أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ قال: بلى ويصومون ويصلون ويحجون، قالوا: فما بالهم؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف والقينات فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير، وليمرن الرجل على الرجل في حانوته يبيع فيرجع إليه وقد مسخ قردا أو خنزيرا. قال أبو هريرة: لا تقوم الساعة
[ 87 ]
حتى يمشي الرجلان في الامر فيمسخ أحدهما قردا أو خنزيرا، ولا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه حتى يقضي شهوته. قوله: والمعازف بعين مهملة فزاي معجمة وهي أصوات الملاهي قاله ابن رسلان، وفي القاموس: المعازف الملاهي كالعود والطنبور انتهى. والكلام الذي أشار إليه المصنف تبعا لابي داود بقوله وذكر كلاما هو ما ذكره البخاري بلفظ: ولينزلن أقوام إلى جنب علم بروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم يعني الفقير لحاجته فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم عليهم انتهى. والعلم بفتح العين المهملة واللام هو الجبل، ومعنى يضع العلم عليهم أي يدكدكه عليهم فيقع. (والحديث) يدل على تحريم الامور المذكورة في الحديث للتوعد عليها بالخسف والمسخ، وإنما لم يسند البخاري الحديث بل علقه في كتاب الاشربة من صحيحه لاجل الشك الواقع من المحدث حيث قال أبو عامر وأبو مالك، وأبو عامر هو عبد الله بن هانئ الاشعري صحابي نزل الشام وقيل هو عبيد بن وهب، وأبو مالك هو الحرث وقيل كعب بن عاصم صحابي يعد في الشاميين. باب نهي الرجال عن المعصفر وما جاء في الاحمر عن عبد الله بن عمر وقال: رأى رسول الله (ص) علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها رواه أحمد ومسلم والنسائي. قوله: معصفرين المعصفر هو المصبوغ بالعصفر كما في كتب اللغة وشروح الحديث. وقد استدل بهذا الحديث من قال بتحريم لبس الثوب المصبوغ بعصفر وهم العترة، واستدلوا أيضا على ذلك بحديث ابن عمرو وحديث علي المذكورين بعد هذا وغيرهما وسيأتي بعض ذلك. وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك إلى الاباحة، كذا قال ابن رسلان في شرح السنن، قال: وقال جماعة من العلماء بالكراهة للتنزيه، وحملوا النهي على هذا لما في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: رأيت رسول الله (ص) يصبغ بالصفرة زاد في رواية أبي داود والنسائي: وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها وقال الخطابي: النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب، وكأنه نظر إلى ما في الصحيحين من ذكر مطلق الصبغ بالصفرة، فقصره على صبغ اللحية دون الثياب، وجعل النهي متوجها إلى الثياب، ولم يلتفت إلى تلك الزيادة المصرحة بأنه كان
[ 88 ]
يصبغ ثيابه بالصفرة، ويمكن الجمع بأن الصفرة التي كان يصبغ بها رسول الله (ص) غير صفرة العصفر المنهي عنه. ويؤيد ذلك ما سيأتي في باب لبس الابيض والاسود من حديث ابن عمر: أن النبي (ص) كان يصبغ بالزعفران وقد أجاب من لم يقل بالتحريم عن حديث ابن عمرو المذكور في الباب وحديثه الذي بعده بأنه لا يلزم من نهيه له نهي سائر الامة، وكذلك أجاب عن حديث علي الآتي بأن ظاهر قوله نهاني أن ذلك مختص به، ولهذا ثبت في رواية عنه أنه قال: ولا أقول نهاكم، وهذا الجواب ينبني على الخلاف المشهور بين أهل الاصول في حكمه (ص) على الواحد من الامة، هل يكون حكما على بقيتهم أو لا؟ والحق الاول فيكون نهيه لعلي وعبد الله نهيا لجميع الامة، ولا يعارضه صبغه بالصفرة على تسليم أنها من العصفر، لما تقرر في الاصول من أن فعله الخالي عن دليل التأسي الخاص لا يعارض قوله الخاص بأمته، فالراجح تحريم الثياب المعصفرة والعصفر وإن كان يصبغ صبغا أحمر كما قال ابن القيم، فلا معارضة بينه وبين ما ثبت في الصحيحين من أنه (ص) كان يلبس حلة حمراء كما يأتي، لان النهي في هذه الاحاديث يتوجه إلى نوع خاص من الحمرة وهي الحمرة الحاصلة عن صباغ العصفر، وسيأتي ما حكاه الترمذي عن أهل الحديث بمعنى هذا. وقد قال البيهقي رادا لقول الشافعي أنه لم يحك أحد عن النبي (ص) النهي عن الصفرة إلا ما قال علي: نهاني، ولا أقول نهاكم أن الاحاديث تدل على أن النهي على العموم، ثم ذكر أحاديث ثم قال بعد ذلك: ولو بلغت هذه الاحاديث الشافعي رحمه الله لقال بها، ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعي أنه قال: إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أقبلنا مع رسول الله (ص) من ثنية فالتفت إلي وعلي ريطة مضرجة بالعصفر فقال: ما هذه؟ فعرفت ما كره، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم فقذفتها فيه ثم أتيته من الغد فقال: يا عبد الله ما فعلت الربطة؟ فأخبرته فقال: ألا كسوتها بعض أهلك؟ رواه أحمد وكذلك أبو داود وابن ماجه وزاد: فإنه لا بأس بذلك للنساء. الحديث في إسناده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه مقال مشهور ومن دونه ثقات. قوله: من ثنية هي الطريقة في الجبل، وفي لفظ ابن ماجه: من ثنية أذاخر
[ 89 ]
وأذاخر بفتح الهمزة والذال المعجمة المخففة وبعدها ألف ثم خاء معجمة على وزن أفاعل ثنية بين مكة والمدينة. قوله: ريطة بفتح الراء المهملة وسكون المثناة تحت ثم طاء مهملة ويقال رائطة. قال المنذري: جاءت الرواية بهما وهي كل ملاءة منسوجة بنسج واحد، وقيل: كل ثوب رقيق لين والجمع ريط ورياط. قوله: مضرجة بفتح الراء المشددة أي ملطخة. قوله: يسجرون أي يوقدون. قوله: بعض أهلك يعني زوجته أو بعض نساء محارمه وأقاربه. (وفيه دليل) على جواز لبس المعصفر للنساء، وفيه الانكار على إحراق الثوب المنتفع به لبعض الناس دون بعض لانه من إضاعة المال المنهي عنها، ولكنه يعارض هذا ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. وأيضا قال: رأى علي النبي (ص) ثوبين معصفرين فقال: أمك أمرتك بهذا؟ قال قلت: أغسلهما يا رسول الله، قال: بل أحرقهما وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأنه (ص) أمر أولا بإحراقهما ندبا، ثم لما أحرقهما قال له النبي (ص): لو كسوتهما بعض أهلك إعلاما له بأن هذا كان كافيا لو فعله وأن الامر للندب، ولا يخفى ما في هذا من التكلف الذي عنه مندوحة، لان القضية لم تكن واحدة حتى يجمع بين الروايتين بمثل هذا، بل هما قضيتان مختلفتان، وغايته أنه (ص) في إحدى القضيتين غلظ عليه وعاقبه فأمره بإحراقهما، ولعل هذه المرة التي أمره فيها بالاحراق كانت بعد تلك المرة التي أخبره فيها بأن ذلك غير واجب، وهذا وإن كان بعيدا من جهة أن صاحب القصة يبعد أن يقع منه اللبس للمعصفر مرة أخرى بعد أن سمع فيه ما سمع المرة الاولى، ولكنه دون البعد الذي في الجمع الاول، لان احتمال النسيان كائن، وكذا احتمال عروض شبهة توجب الظن بعدم التحريم، ولا سيما وقد وقعت منه (ص) المعاتبة على الاحراق. قال القاضي عياض: أمره (ص) بإحراقهما من باب التغليظ والعقوبة انتهى. وفيه حجة على جواز المعاقبة بالمال. والحديث يدل على المنع من لبس الثياب المصبوغة بالعصفر وقد تقدم الكلام في ذلك. وعن علي عليه السلام قال: نهاني رسول الله (ص) عن التختم بالذهب، وعن لباس القسي، وعن القراءة في الركوع والسجود، وعن لباس المعصفر رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
[ 90 ]
قوله: نهاني هذا لفظ مسلم، وفي لفظ لابي داود وغيره نهى، وقد تقدم جواب من أجاب عن الحديث باختصاصه بعلي عليه السلام وتعقبه. قوله: القسي قد تقدم ضبطه وتفسيره في شرح حديث علي في باب أن افتراش الحرير كلبسه. قوله: وعن القراءة في الركوع والسجود فيه دليل على تحريم القراءة في هذين المحلين، لان وظيفتهما إنما هي التسبيح والدعاء لما في صحيح مسلم وغيره عنه (ص): نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء. قوله: وعن لبس المعصفر فيه دليل على تحريم لبسه، وقد تقدم البحث عن ذلك. وعن البراء بن عازب قال: كان رسول الله (ص) مربوعا بعيد ما بين المنكبين له شعر يبلغ شحمة أذنيه رأيته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه متفق عليه. الحديث أخرجه أيضا الترمذي والنسائي وأبو داود. وفي الباب عن أبي جحيفة عند البخاري وغيره: أنه رأى النبي (ص) خرج في حلة حمراء مشمرا صلى إلى العنزة بالناس ركعتين وعن عامر المزني عند أبي داود بإسناد فيه اختلاف قال: رأيت رسول الله (ص) بمنى وهو يخطب على بغلة وعليه برد أحمر وعلي عليه السلام أمامه يعبر عنه قال في البدر المنير: وإسناده حسن، وأخرج البيهقي عن جابر أنه كان له (ص) ثوب أحمر يلبسه في العيدين والجمعة. وروى ابن خزيمة في صحيحه نحوه بدون ذكر الاحمر. (والحديث) احتج به من قال بجواز لبس الاحمر وهم الشافعية والمالكية وغيرهم. وذهبت العترة والحنفية إلى كراهة ذلك، واحتجوا بحديث عبد الله بن عمرو الذي سيأتي بعد هذا، وسيأتي في شرحه إن شاء الله تعالى ما يتبين به عدم انتهاضه للاحتجاج. واحتجوا أيضا بالاحاديث الواردة في تحريم المصبوغ بالعصفر قالوا: لان العصفر يصبغ صباغا أحمر وهي أخص من الدعوى، وقد عرفناك أن الحق أن ذلك النوع من الاحمر لا يحل لبسه. (ومن أدلتهم) حديث رافع بن خديج عند أبي داود قال: خرجنا مع رسول الله (ص) في سفر فرأى على رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهن أحمر فقال: ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم؟ فقمنا سراعا لقول رسول الله (ص) فأخذنا الاكسية فنزعناها عنها وهذا الحديث لا تقوم به حجة لان
[ 91 ]
في إسناده رجلا مجهولا. (ومن أدلتهم) حديث أن امرأة من بني أسد قالت: كنت يوما عند زينب امرأة رسول الله (ص) ونحن نصبغ ثيابها بمغرة والمغرة صباغ أحمر قالت: فبينا نحن كذلك إذ طلع علينا رسول الله (ص) فلما رأى المغرة رجع، فلما رأت ذلك زينب علمت أنه (ص) قد كره ما فعلت وأخذت فغسلت ثيابها ووارت كل حمرة، ثم إن رسول الله (ص) رجع فاطلع فلما لم ير شيئا دخل الحديث أخرجه أبو داود وفي إسناده إسماعيل بن عياش وابنه وفيهما مقال پمشهور. وهذه الادلة غاية ما فيها لو سلمت صحتها وعدم وجدان معارض لها الكراهة لا التحريم، فكيف وهي غير صالحة للاحتجاج بها لما في أسانيدها من المقال الذي ذكرنا ومعارضة بتلك الاحاديث الصحيحة، نعم من أقوى حججهم ما في صحيح البخاري من النهي عن المياثر الحمر، وكذلك ما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي من حديث علي قال: نهاني رسول الله (ص) عن لبس القسي والميثرة الحمراء ولكنه لا يخفى عليك أن هذا الدليل أخص من الدعوى، وغاية ما في ذلك تحريم الميثرة الحمراء، فما الدليل على تحريم ما عداها مع ثبوت لبس النبي (ص) له مرات، ومن أصرح أدلتهم حديث رافع بن برد أو رافع بن خديج كما قال ابن قانع مرفوعا بلفظ: أن الشيطان يحب الحمرة فإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة أخرجه الحاكم في الكنى، وأبو نعيم في المعرفة، وابن قانع وابن السكن وابن منده وابن عدي، ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن عمران بن حصين مرفوعا بلفظ: إياكم والحمرة فإنها أحب الزينة إلى الشيطان وأخرج نحوه عبد الرزاق من حديث الحسن مرسلا، وهذا إن صح كان أنص أدلتهم على المنع، ولكنك قد عرفت لبسه (ص) للحلة الحمراء في غير مرة، ويبعد منه (ص) أن يلبس ما حذرنا من لبسه معللا ذلك بأن الشيطان يحب الحمرة. ولا يصح أن يقال ههنا فعله لا يعارض القول الخاص بنا كما صرح بذلك أئمة الاصول، لان تلك العلة مشعرة بعدم اختصاص الخطاب بنا، إذ تجنب ما يلابسه الشيطان هو (ص) أحق الناس به. (فإن قلت) فما الراجح إن صح ذلك الحديث؟ قلت: قد تقرر في الاصول أن النبي (ص) إذا فعل فعلا لم يصاحبه دليل خاص يدل على التأسي به فيه كان مخصصا له عن عموم القول الشامل له بطريق الظهور، فيكون على هذا لبس الاحمر مختصا به، ولكن ذلك الحديث غير صالح للاحتجاج به، كما صرح بذلك
[ 92 ]
الحافظ وجزم بضعفه لانه من رواية أبي بكر البدلي. وقد بالغ الجوزقاني فقال باطل، فالواجب البقاء على البراءة الاصلية المعتضدة بأفعاله الثابتة في الصحيح، لا سيما مع ثبوت لبسه لذلك بعد حجة الوداع، ولم يلبث بعدها إلا أياما يسيرة. وقد زعم ابن القيم أن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الاسود، وغلط من قال أنها كانت حمراء بحتا، قال: وهي معروفة بهذا الاسم، ولا يخفاك أن الصحابي قد وصفها بأنها حمراء وهو من أهل اللسان، والواجب الحمل على المعنى الحقيقي وهو الحمراء البحت، والمصير إلى المجاز أعني كون بعضها أحمر دون بعض لا يحمل ذلك الوصف عليه إلا لموجب، فإن أراد أن ذلك معنى الحلة الحمراء لغة فليس في كتب اللغة ما يشهد لذلك، وإن أراد أن ذلك حقيقة شرعية فيها فالحقائق الشرعية لا تثبت بمجرد الدعوى، والواجب حمل مقالة ذلك الصحابي على لغة العرب لانها لسانه ولسان قومه، فإن قال: إنما فسرها بذلك التفسير للجمع بين الادلة فمع كون كلامه آبيا عن ذلك لتصريحه بتغليظ من قال إنها الحمراء البحت لا ملجئ إليه لامكان الجمع بدونه كما ذكرنا، مع أن حمله الحلة الحمراء على ما ذكر ينافي ما احتج به في أثناء كلامه من إنكاره (ص) على القوم الذين رأى على رواحلهم أكسية فيها خطوط حمر. (وفيه دليل) على كراهية ما فيه الخطوط وتلك الحلة كذلك بتأويله. قوله في الحديث: يبلغ شحمة أذنيه هي اللين من الاذن في أسفلها وهو معلق القرط منها، وقد اختلفت الروايات الصحيحة في شعره، فههنا إلى شحمة أذنيه، وفي رواية كان يبلغ شعره منكبيه، وفي رواية إلى أنصاف أذنيه وعاتقه. قال القاضي: الجمع بين هذه الروايات أن ما يلي الاذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه وهو الذي بين أذنه وعاتقه، وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه. وقيل: كان ذلك لاختلاف الاوقات، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب، وإذا قصرها كانت إلى أنصاف أذنيه، وكان يقصر ويطول بحسب ذلك. وقد تقدم نحو هذا في باب اتخاذ الشعر. وفي فتح الباري أن في لبس الثوب الاحمر سبعة مذاهب: الاول الجواز مطلقا جاء عن علي عليه السلام وطلحة وعبد الله بن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب والنخعي والشعبي وأبي قلابة وطائفة من التابعين. والثاني: المنع مطلقا ولم ينسبه الحافظ إلى قائل معين إنما ذكر أخبارا وآثارا يعرف بها من قال بذلك. الثالث: يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما كان صبغه خفيفا، جاء ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد. الرابع: يكره لبس الاحمر
[ 93 ]
مطلقا لقصد الزينة والشهرة ويجوز في البيوت والمهنة جاء ذلك عن ابن عباس. الخامس: يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج، ويمنع ما صبغ بعد النسج، جنح إلى ذلك الخطابي. السادس: اختصاص النهي بما يصبغ بالعصفر ولم ينسبه إلى أحد. السابع: تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله، وأما ما فيه لون آخر غير أحمر فلا حكي عن ابن القيم أنه قال بذلك بعض العلماء، ثم قال الحافظ: والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الاحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار فالقول فيه كالقول في الميثرة الحمراء، وإن كان من أجل أنه زي النساء فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء فيكون النهي عنه لا لذاته، وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة فيمنع حيث يقع ذلك وإلا فلا، فيقوى ما ذهب إليه مالك من التفرقة بين لبسه في المحافل وفي البيوت. وعن عبد الله بن عمرو قال: مر على النبي (ص) رجل عليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد النبي (ص) رواه الترمذي وأبو داود، وقال: معناه عند أهل الحديث أنه كره المعصفر، وقال: ورأوا أن ما صبغ بالحمرة من مدر أو غيره فلا بأس به إذا لم يكن معصفرا. الحديث قال الترمذي: إنه حسن غريب من هذا الوجه اه. وفي إسناده أبويحيى القتات، وقد اختلف في اسمه، فقيل عبد الرحمن بن دينار، وقيل زازان، وقيل عمران، وقيل مسلم، وقيل زياد، وقيل يزيد. قال المنذري: وهو كوفي لا يحتج بحديثه. قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمرو، ولا نعلم له طريقا إلا هذه الطريق، ولا نعلم رواه إسرائيل إلا عن إسحق بن منصور. قال الحافظ في الفتح: هو حديث ضعيف الاسناد وإن وقع في نسخ الترمذي أنه حسن. (والحديث) احتج به القائلون بكراهية لبس الاحمر وقد تقدم ذكرهم، وأجاب المبيحون عنه بأنه لا ينهض للاستدلال به في مقابلة الاحاديث القاضية بالاباحة لما فيه من المقال وبأنه واقعة عين، فيحتمل أن يكون ترك الرد عليه بسبب آخر، وحمله البيهقي على ما صبغ بعد النسج لا ما صبغ غزلا ثم نسج فلا كراهة فيه. قال ابن التين: زعم بعضهم أن لبس النبي (ص) الحلة كان لاجل الغزو وفيه نظر، لانه كان عقيب حجة الوداع ولم يكن له إذ ذاك غزو، وقد قدمنا الكلام على حجج الفريقين مستوفى. قوله: فلم يرد النبي (ص) عليه فيه جواز ترك الرد على من سلم وهو مرتكب
[ 94 ]
لمنهي عنه، ردعا له وزجرا عن معصيته. قال ابن رسلان: ويستحب أن يقول المسلم عليه: أنا لم ارد عليك لانك مرتكب لمنهي عنه. وكذلك يستحب ترك السلام على أهل البدع والمعاصي الظاهرة تحقيرا لهم وزجرا، ولذلك قال كعب بن مالك: فسلمت عليه فوالله ما رد السلام علي، والجمع الذي ذكره الترمذي ونسبه إلى أهل الحديث جمع حسن لانتهاض الاحاديث القاضية بالمنع من لبس ما صبغ بالعصفر. باب ما جاء في لبس الابيض والاسود والاخضر والمزعفر والملونات [ رم 565 ] عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله (ص): البسوا ثياب البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم واختلف في وصله وإرساله، قال الحافظ في الفتح: وإسناده صحيح وصححه الحاكم. وفي الباب عن ابن عباس عند الشافعي وأحمد وأصحاب السنن إلا النسائي بلفظ: البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم وأخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي بمعناه. وفي لفظ للحاكم: خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم وكفنوا بها موتاكم وصحح حديث ابن عباس ابن القطان والترمذي وابن حبان. وفي الباب أيضا عن عمران بن الحصين عند الطبراني. وعن أنس عند أبي حاتم في العلل. وعند البزار في مسنده. وعن ابن عمر عند ابن عدي في الكامل. وعن أبي الدرداء يرفعه عند ابن ماجه بلفظ: أحسن ما زرتم الله به في قبوركم ومساجدكم البياض (والحديث) يدل على مشروعية لبس البياض وتكفين الموتى به لعلة كونه أطهر من غيره وأطيب، أما كونه أطيب فظاهر، وأما كونه أطهر فلان أدنى شئ يقع عليه يظهر فيغسل إذا كان من جنس النجاسة فيكون نقيا، كما ثبت عنه (ص) في دعائه: ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس والامر المذكور في الحديث ليس للوجوب، أما في اللباس فلما ثبت (ص) من لبس غيره وإلباس جماعة من الصحابة ثيابا غير بيض وتقريره لجماعة منهم على غير لبس البياض، وأما في الكفن فلما ثبت عند أبي داود. قال الحافظ
[ 95 ]
بإسناده حسن من حديث جابر مرفوعا: إذا توفي أحدكم فوجد شيئا فليكفن في ثوب حبرة. وعن أنس قال: كان أحب الثياب إلى رسول الله (ص) أن يلبسها الحبرة رواه الجماعة إلا ابن ماجه. قوله: الحبرة بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها. قال الجوهري: الحبرة كعنبة برديمان يكون من كتان أو قطن، سميت حبرة لانها محبرة أي مزينة، والتحبير التزيين والتحسين والتخطيط، ومنه حديث أبي ذر: الحمد لله الذي أطعمنا الخمير وألبسنا الحبير وإنما كانت الحبرة أحب الثياب إلى رسول الله (ص) لانه ليس فيها كثير زينة، ولانها أكثر احتمالا للوسخ من غيرها. وعن أبي رمثة قال: رأيت النبي (ص) وعليه بردان أخضران رواه الخمسة إلا ابن ماجه. الحديث حسنه الترمذي وقال: لا نعرفه إلا من حديث عبيد الله بن أياد انتهى. وعبيد الله وأبوه ثقتان، وأبو رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها ثاء مثلثة مفتوحة واسمه رفاعة بن يثربي، كذا قال صاحب التقريب، وقال الترمذي: اسمه حبيب بن وهب، ويدل على استحباب لبس الاخضر لانه لباس أهل الجنة، وهو أيضا من أنفع الالوان للابصار ومن أجملها في أعين الناظرين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي (ص) ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. قوله: مرط بكسر الميم وسكون الراء المهملة كساء من صوف أو خز، الجمع مروط كذا في القاموس. وقيل: كساء من خزأ وكتان. قوله: مرحل بميم مضمومة وراء مهملة مفتوحة وحاء مهملة مشددة ولام كمعظم وهو برد فيه تصاوير. قال في القاموس: وتفسير الجوهري إياه بإزار خز فيه علم غير جيد إنما ذلك تفسير المرجل بالجيم انتهى. وتلك التصاوير هي صور الرحال، والرحال تطلق على المنازل وعلى الرواحل، وعلى ما يوضع على الرواحل يستوي عليه الراكب، والترحيل مصدر رحل البرد أي وشاه. قال النووي: والمراد تصاوير رحال الابل، ولا بأس بهذه الصورة انتهى. وسيأتي الكلام على حكم ما فيه صورة في الباب الذي بعد هذا. (والحديث) يدل على أنه
[ 96 ]
لا كراهة في لبس السواد. وقد أخرج أبو داود والنسائي من حديث عائشة قالت: صبغت للنبي (ص) بردة سوداء فلبسها فلما عرق فيها وجد ريح الصوف فقذفها، قال: وأحسبه قال وكان يعجبه الريح الطيبة. وعن أم خالد قالت: أتي النبي (ص) بثياب فيها خميصة سوداء فقال: من ترون نكسو هذه الخميصة؟ فأسكت القوم، فقال: ائتوني بأم خالد، فأتي إلى النبي (ص) فألبسنيها بيده وقال: أبلي وأخلقي مرتين، وجعل ينظر إلى علم الخميصة ويشير بيده إلي ويقول: يا أم خالد هذا سنا يا أم خالد هذا سنا والسنا بلسان الحبشة الحسن رواه البخاري. قوله: خميصة بفتح المعجمة وكسر الميم وبالصاد المهملة كساء مربع له علمان. قوله: نكسو هذه بالنون للمتكلم. قوله: فأسكت القوم بضم الهمزة على البناء للمجهول. قوله: أبلي وأخلقي هذا من باب التفاؤل والدعاء لللابس بأن يعمر ويلبس ذلك الثوب حتى يبلى ويصير خلقا، وفيه أنه يستحب أن يقال لمن لبس ثوبا جديدا كذلك، وأخرج ابن ماجه عن ابن عمر: أن رسول الله (ص) رأى على عمر قميصا أبيض فقال: البس جديدا أو عش حميدا ومت شهيدا وأخرج أبو داود وسعيد بن منصور من حديث أبي نضرة قال: كان أصحاب النبي (ص) إذا لبس أحدهم ثوبا جديدا قيل له: تبلى ويخلف الله تعالى وسنده صحيح. قوله: هذا سنا بفتح السين المهملة وتشديد النون وفيه جواز التكلم باللغة العجمية ومعناه حسن. (والحديث) يدل على أنه يجوز للنساء لباس الثياب السود، ولا أعلم في ذلك خلافا. وعن ابن عمر: أنه كان يصبغ ثيابه ويدهن بالزعفران فقيل له: لم تصبغ ثيابك وتدهن بالزعفران؟ فقال: إني رأيته أحب الاصباغ إلى رسول الله (ص) يدهن به ويصبغ به ثيابه رواه أحمد، وكذلك أبو داود والنسائي بنحوه وفي لفظهما: ولقد كان يصبغ ثيابه كلها حتى عمامته. الحديث في إسناده اختلاف كما قال المنذري، ولم يذكر أبو داود والنسائي الزعفران، وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبيد بن جريج عن ابن عمر أنه قال: وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله (ص) يصبغ بها فإني أحب أن أصبغ بها. قال
[ 97 ]
المنذري: واختلف الناس في ذلك فقال بعضهم: أراد الخضاب للحية بالصفرة. وقال آخرون: أراد يصفر ثيابه ويلبس ثيابا صفرا، انتهى. ويؤيد القول الثاني تلك الزيادة التي أخرجها أبو داود والنسائي. قوله: حتى عمامته بالنصب. (والحديث) يدل على مشروعية صبغ الثياب بالصفرة، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب نهي الرجال عن المعصفر. وفيه أيضا مشروعية الادهان بالزعفران. ومشروعية صباغ اللحية بالصفرة لقوله (ص) في رواية النسائي وغيره: إن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوهم واصبغوا قال ابن الجوزي: قد اختضب جماعة من الصحابة والتابعين بالصفرة. ورأى أحمد بن حنبل رجلا قد خضبت لحيته فقال: إني لارى الرجل يحيي ميتا من السنة. وقد تقدم الكلام على الخضاب في باب تغيير الشيب بالحناء والكتم. باب حكم ما فيه صورة من الثياب والبسط والستور والنهي عن التصوير [ رم 571 ] عن عائشة: أن النبي (ص) لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه رواه البخاري وأبو داود وأحمد. ولفظه: لم يكن يدع في بيته ثوبا فيه تصليب إلا نقضه. الحديث أخرجه أيضا النسائي. قوله: لم يكن يترك في بيته شيئا يشمل الملبوس والستور والبسط والآلات وغير ذلك. قوله: فيه تصاليب أي صورة صليب من نقش ثوب أو غيره، والصليب فيه صورة عيسى عليه السلام تعبده النصارى. قوله: نقضه بفتح النون والقاف والضاد المعجمة أي كسره وأبطله وغيره صورة الصليب. وفي رواية أبي داود: قضبه بالقاف المفتوحة والضاد المعجمة والباء الموحدة أي قطع موضع التصليب منه دون غيره، والقضب القطع كذا قال ابن رسلان. (والحديث) يدل على عدم جواز اتخاذ الثياب والستور والبسط وغيرها التي فيها تصاوير، وعلى جواز تغيير المنكر باليد من غير استئذان مالكه زوجة كانت أو غيرها لما ثبت عنه (ص) يوم فتح مكة أنه كان يهوي بالقضيب الذي في يده إلى كل صنم فيخر لوجهه ويقول: جاء الحق وزهق الباطل حتى مر على ثلثمائة وستين صنما. وأخرج البخاري من حديث ابن عباس قال: لما رأى النبي (ص) الصور التي في
[ 98 ]
البيت لم يدخل حتى أمر فمحيت، ورأى صورة إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الازلام فقال: قاتلهم الله والله إن استقسما بالازلام قط قال النووي: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر، لانه متوعد عليه بالوعيد الشديد المذكور في الاحاديث، وسواء صنعه لما يمتهن أو لغيره، فصنعته حرام بكل حال، لان فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار وفلس وإناء وحائط وغيرها. وأما تصوير صورة الشجرة وجبال الارض وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام، هذا حكم نقش التصوير. وأما اتخاذ ما فيه صورة حيوان، فإن كان معلقا على حائط أو ثوبا أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخذة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام، ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟ وسيأتي. قال: ولا فرق في ذلك كله بين ما له ظل وما لا ظل له، قال: هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي (ص) الصور فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل مع باقي الاحاديث المطلقة في كل صورة. وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقما في ثوب أو غير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن عملا بظاهر الاحاديث، لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم وهذا مذهب قوي. وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقما في ثوب، سواء امتهن أم لا، وسواء علق في حائط أم لا، قال: وهو مذهب القاسم بن محمد، وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره. قال القاضي عياض: إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك، لكن كره مالك شراء الرجل ذلك لابنته، وادعى بعضهم أن إباحة اللعب بالبنات منسوخ بهذه الاحاديث انتهى. وعن عائشة: أنها نصبت سترا وفيه تصاوير فدخل رسول الله (ص) فنزعه، قالت: فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما متفق عليه. وفي لفظ أحمد: فقطعته مرفقتين فلقد رأيته متكئا على إحداهما وفيها صورة.
[ 99 ]
قوله: فنزعه فيه الارشاد إلى إزالة التصاوير المنقوشة على الستور. قوله: فقطعته وسادتين فيه أن الصورة والتمثال إذا غيرا لم يكن بهما بأس بعد ذلك وجاز افتراشهما والارتفاق عليهما. قوله: فكان يرتفق في القاموس: ارتفق اتكأ على مرفق يده أو على المخدة. قوله: فقطعته مرفقتين تثنية مرفقة كمكنسة وهي المخدة. (والحديث) يدل على جواز افتراش الثياب التي كانت فيها تصاوير، وعلى استحباب الارتفاق لما يشعر به لفظ كان من استمراره على ذلك، وكثيرا ما يتجنبه الرؤساء تكبرا. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك الليلة فليمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان فيه تمثال رجل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع يصير كهيئة الشجرة، وأمر بالستر يقطع فيجعل وسادتين منتبذتين توطآن، وأمر بالكلب يخرج، ففعل رسول الله (ص)، وإذا الكلب جرو، وكان للحسن والحسين تحت نضد لهم رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا النسائي. قوله: الليلة وفي رواية أبي داود البارحة. قوله: قرام ستر بكسر القاف وتخفيف الراء والتنوين، وروي بحذف التنوين والاضافة وهو الستر الرقيق من صوف ذي ألوان. قوله: فيه تماثيل وفي رواية لمسلم: وقد سترت سهوة لي بقرام والسهوة الخزانة الصغيرة، وفي رواية للنسائي: قال جبريل: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير واختلاف الروايات يبين بعضها بعضا. قوله: فمر بضم الميم أي فقال جبريل عليه السلام للنبي (ص): مر. قوله: يصير كهيئة الشجرة لان الشجر ونحوه مما لا روح فيه لا يحرم صنعته ولا التكسب به، من غير فرق بين الشجرة المثمرة وغيرها. قال ابن رسلان: وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهد، فإنه جعل الشجرة المثمرة من المكروه لما روي عنه (ص) أنه قال حاكيا عن الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي. قوله: وأمر بالستر رواية أبي داود ومر، وكذلك قوله: وأمر بالكلب. قوله: منتبذتين أي مطروحتين على الارض، ولفظ أبي داود: منبوذتين. قوله: وكان للحسن والحسين فيه جواز تربية جرو الكلب للولد الصغير، وقد يستدل به على طهارة الكلب، وقد
[ 100 ]
تقدم الكلام على ذلك وعلى جواز اتخاذه لغير الاصطياد. قوله: تحت نضد بفتح النون والضاد المعجمة فعل بمعنى مفعول، أي تحت متاع البيت المنضود بعضه فوق بعض. وقيل: هو السرير سمي بذلك لان النضد يوضع عليه أي يجعل بعضه فوق بعض، وفي حديث مسروق: شجر الجنة نضد من أصلها إلى فرعها، أي ليس لها سوق بارزة ولكنها منضودة بالورق والثمار من أسفلها إلى أعلاها. (الحديث) يدل على أنها لا تدخل الملائكة البيوت التي فيها تماثيل أو كلب، كما ورد من حديث أبي طلحة الانصاري عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي بلفظ قال: قال رسول الله (ص): لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل زاد أبو داود والنسائي عن علي مرفوعا: ولا جنب قيل: أراد بالملائكة السياحين غير الحفظة وملائكة الموت. قال في معالم السنن: الملائكة الذين ينزلون بالبركة والرحمة، وأما الحفظة فلا يفارقون الجنب وغيره. قال النووي في شرح مسلم: سبب امتناع الملائكة من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة، وسبب امتناعهم من بيت فيه كلب كثرة أكله كله النجاسات ولان بعضها يسمى شيطانا كما جاء في الحديث، والملائكة ضد الشياطين، وخص الخطابي ذلك بما كان يحرم اقتناؤه من الكلاب، وبما لا يجوز تصويره من الصور لا كلب الصيد والماشية ولا الصورة التي في البساط والوسادة وغيرهما، فإن ذلك لا يمنع دخول الملائكة، والاظهر أنه عام في كل كلب وفي كل صورة، وأنهم يمتنعون من الجميع لاطلاق الاحاديث، ولان الجر والذي كان في بيت النبي (ص) تحت السرير كان له فيه عذر فإنه لم يعلم به، ومع هذا امتنع جبريل من دخول البيت لاجل ذلك الجرو. وعن ابن عمر: أن رسول الله (ص) قال: الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم. وعن ابن عباس: وجاءه رجل فقال: إني أصور هذه التصاوير فأفتني فيها، فقال: سمعت رسول الله (ص) يقول: كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا تعذبه في جهنم، فإن كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجر وما لا نفس له متفق عليهما. الحديثان يدلان على أن التصوير من أشد المحرمات للتوعد عليه بالتعذيب في النار، وبأن كل مصور من أهل النار، ولورود لعن المصورين في أحاديث أخر، وذلك لا يكون إلا على محرم متبالغ في القبح، وإنما كان التصوير من أشد المحرمات الموجبة لما ذكر، لان فيه
[ 101 ]
مضاهاة لفعل الخالق جل جلاله، ولهذا سمى الشارع فعلهم خلقا وسماهم خالقين. وظاهر قوله: كل مصور. وقوله: بكل صورة صورها، أنه لا فرق بين المطبوع في الثياب وبين ما له جرم مستقل. ويؤيد ذلك ما في حديث عائشة المتقدم من التعميم وما في حديث مسلم وغيره: أن النبي (ص) هتك درنوكا لعائشة كان فيه صور الخيل ذوات الاجنحة حتى اتخذت منه وسادتين والدرنوك ضرب من الثياب أو البسط. وما أخرج البخاري ومسلم والموطأ والنسائي من حديث عائشة قالت: قدم رسول الله (ص) من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: يا عائشة أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله وما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): من صور صورة عذبه الله بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ. فهذه الاحاديث قاضية بعدم الفرق بين المطبوع من الصور والمستقل، لان اسم الصورة صادق على الكل، إذ هي كما في كتب اللغة الشكل، وهو يقال لما كان منها مطبوعا على الثياب شكلا، نعم حديث أبي طلحة عند مسلم وأبي داود وغيرهما بلفظ: سمعت رسول الله (ص) يقول: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تمثال. وفيه أنه قال: إلا رقما في ثوب فهذا إن صح رفعه كان مخصصا لما رقم في الاثواب من التماثيل. قوله: احيوا ما خلقتم هذا من باب التعليق بالمحال، والمراد أنهم يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: لا تزالون في عذاب حتى تحيوا ما خلقتم وليسوا بفاعلين وهو كناية عن دوام العذاب واستمراره، وهذا الذي قدرناه في تفسير الحديث مصرح بمعناه في حديث ابن عباس المتقدم، والاحاديث يفسر بعضها بعضا. قوله: فاجعل الشجر وما لا نفس له فيه الاذن بتصوير الشجر وكل ما ليس له نفس، وهو يدل على اختصاص التحريم بتصوير الحيوانات، قال في البحر: ولا يكره تصوير الشجر ونحوها من الجماد إجماعا. باب ما جاء في لبس القميص والعمامة والسراويل عن أبي أمامة قال: قلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا
[ 102 ]
يأتزرون، فقال رسول الله (ص): تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب رواه أحمد. وعن مالك بن عمير قال: بعت رسول الله (ص) رجل سراويل قبل الهجرة فوزن لي فأرجح لي رواه أحمد وابن ماجه. أما حديث أبي أمامة فلم أقف فيه على كلام لاحد إلا ما ذكره في مجمع الزوائد فإنه قال: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح خلا القاسم وهو ثقة وفيه كلام لا يضر انتهى. وفيه الاذن بلبس السراويل، وأن مخالفة أهل الكتاب تحصل بمجرد الاتزار في بعض الاوقات لا بترك لبس السراويل في جميع الحالات فإنه غير لازم وإن كان أدخل في المخالفة. وأما حديث مالك بن عمير فأخرجه أيضا أبو داود والنسائي ورجال إسناده رجال الصحيح، ويشهد لصحته حديث سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله (ص) يمشي فساومنا سراويل فبعناه وثم رجل يزن بالاجر فقال له: زن وأرجح رواه الخمسة وصححه الترمذي، وسيأتي في أبواب الاجارة إن شاء الله وحديث مالك بن عمير المذكور هو عند أحمد من طريق يزيد بن هارون عن شعبة عن سماك بن حرب عنه، وقد صرح كثير من الائمة بثبوت شرائه (ص) للسراويل. (قال في الهدى) فصل: واشترى (ص) سراويل. والظاهر أنه إنما اشتراها ليلبسها، وقد روي في غير حديث أنه لبس السراويل، وكانوا يلبسون السراويلات بإذنه انتهى. وقال في الفصل الذي بعد هذا في الهدى: ولبس البرود اليمانية والبرد الاخضر، ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل انتهى. قال في المواهب اللدنية للقسطلاني: وأما السراويل فاختلف هل لبسها النبي (ص) أم لا؟ فجزم بعض العلماء بأنه (ص) لم يلبسه، ويستأنس له بما جزم به النووي في ترجمة عثمان رضي الله عنه من كتاب تهذيب الاسماء واللغات أنه لم يلبس السراويل في جاهلية ولا إسلام إلى يوم قتله، فإنهم كانوا أحرص شئ على اتباعه، لكن قد ورد في حديث أبي يعلى الموصلي بسند ضعيف جدا عن أبي هريرة قال: دخلت السوق يوما مع رسول الله (ص) فجلس إلى البزار فاشترى منه سراويل بأربعة دراهم، وكان لاهل السوق وزان يزن، فقال له رسول الله (ص): أتزن راجحا، فقال الوزان أن هذه كلمة ما سمعتها من أحد، قال أبو هريرة: فقلت له: كفى بك من الجفاء في دينك أن لا تعرف
[ 103 ]
نبيك، فطرح الميزان ووثب إلى يد رسول الله (ص) يريد أن يقبلها، فجذب يده رسول الله (ص) وقال له: يا هذا إنما تفعل هذا الاعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم، فأخذ فوزن وأرجح، وأخذ رسول الله (ص) السراويل، قال أبو هريرة: فذهبت لاحمله عنه فقال: صاحب الشئ أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم، قال قلت: يا رسول الله وإنك لتلبس السراويل؟ قال: أجل في السفر والحضر والليل والنهار، فإني أمرت بالستر فلم أجد شيئا أستر منه وكذا أخرجه ابن حبان في الضعفاء عن أبي يعلى، ورواه الطبراني في الاوسط، والدارقطني في الافراد، والعقيلي في الضعفاء، ومداره على يوسف بن زياد الواسطي وهو ضعيف عن شيخه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي وهو أيضا ضعيف، لكن قد صح شراء النبي (ص) للسراويل، وأما اللبس فلم يأت من طريق صحيحة، ولهذا قال أبو عبد الله الحجازي في حاشيته على الشفاء ما لفظه: وما قاله في الهدى من أنه (ص) لبس السراويل سبق قلم والله اعلم. وقد أورد أبو سعيد النيسابوري ذكر الحديث في السراويل، وأورد فيه حديث المحرم لكونه لم يرد فيه شئ على شرطه. وعن أم سلمة قالت: كان أحب الثياب إلى رسول الله (ص) القمص رواه أحمد وأبو داود والترمذي. الحديث أخرجه أيضا النسائي، وقال الترمذي: حسن غريب إنما نعرفه من حديث عبد المؤمن بن خالد تفرد به وهو مروزي. وروى بعضهم هذا الحديث عن أبي ثميلة عن عبد المؤمن بن خالد عن عبد الله بن بريدة عن أمه عن أم سلمة قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث عبد الله بن بريدة عن أمه عن أم سلمة أصح. هذا آخر كلامه. وعبد المؤمن هذا قاضي مرو. قال المنذري: ولا بأس به، وأبو ثميلة يحيى بن واضح أدخله البخاري في الضعفاء ووثقه يحيى بن معين. (والحديث) يدل على استحباب لبس القميص، وإنما كان أحب الثياب إلى رسول الله (ص) لانه أمكن في الستر من الرداء والازار اللذين يحتاجان كثيرا إلى الربط والامساك وغير ذلك بخلاف القميص. ويحتمل أن يكون المراد من أحب الثياب إليه القميص لانه يستر عورته ويباشر جسمه فهو شعار الجسد، بخلاف ما يلبس فوقه من الدثار، ولا شك أن كل ما قرب من الانسان كان أحب إليه من غيره، ولهذا شبه (ص) الانصار بالشعار
[ 104 ]
الذي يلي البدن بخلاف غيرهم فإنهم شبههم بالدثار، وإنما سمي القميص قميصا لان الآدمي يتقمص فيه أي يدخل فيه ليستره، وفي حديث المرجوم أنه يتقمص في أنهار الجنة أي ينغمس فيها. وعن أسماء بنت بريد قالت: كانت يد كم قميص رسول الله (ص) إلى الرسغ رواه أبو داود والترمذي. وعنابن عباس قال: كان رسول الله (ص) يلبس قميصا قصير اليدين والطول رواه ابن ماجه. الحديث الاول أخرجه النسائي أيضا. وقال الترمذي: حسن غريب وفي إسناده شهر ابن حوشب وفيه مقال مشهور. والحديث الثاني رواه ابن ماجه في سننه من طريق عبيد بن محمد قال: حدثنا الحسن بن صالح، ورواه أيضا من طريق شعبان ابن وكيع عن أبيه عن الحسن بن صالح عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس، وعبيد بن محمد ضعيف، وشعبان بن وكيع أضعف منه، ولكن شطره الاول يشهد له حديث أسماء هذا، وشطره الثاني يشهد له حديث ابن عمر الآتي في إسبال الازار والعمامة والقميص. قوله: إلى الرسغ بالسين المهملة هذا لفظ الترمذي، ولفظ أبي داود الرصغ بالصاد المهملة الساكنة قبلها راء مكسورة وبعدها غين معجمة وهو مفصل ما بين الكف والساعد، ويقال لمفصل الساق والقدم رسغ أيضا، قاله ابن رسلان في شرح السنن. (والحديثان) يدلان على أن السنة في الاكمام أن لا تجاوز الرسغ، قال الحافظ ابن القيم في الهدى. وأما الاكمام الواسعة الطوال التي هي كالاخراج فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البتة، وهي مخالفة لسنته، وفي جوازها نظر فإنها من جنس الخيلاء انتهى. وقد صار أشهر الناس بمخالفة هذه السنة في زماننا هذا العلماء، فيرى أحدهم وقد جعل لقميصه كمين يصلح كل واحد منهما أن يكون جبة أو قميصا لصغير من أولاده أو يتيم، وليس في ذلك شئ من الفائدة الدنيوية إلا العبث وتثقيل المؤنة على النفس ومنع الانتفاع باليد في كثير من المنافع، وتعريضه لسرعة التمزق وتشويه الهيئة، ولا الدينية إلا مخالفة السنة والاسبال والخيلاء. قال ابن رسلان: والظاهر أن نساءه (ص) كن كذلك، يعني أن أكمامهن إلى الرسغ، إذ لو كانت أكمامهن تزيد على ذلك لنقل، ولو نقل لوصل إلينا، كما نقل في الذيول من رواية النسائي وغيره أن أم سلمة لما سمعت من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه قالت: يا رسول الله فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخينه شبرا، قالت: إذن ينكشف أقدامهن، قال: يرخينه ذراعا
[ 105 ]
ولا يزدن عليه. ويفرق بين الكف إذا ظهر وبين القدم، أن قدم المرأة عورة بخلاف كفها انتهى. (وفي الحديث) الثاني دلالة على أن هديه (ص) كان تقصير القميص لان تطويله إسبال وهو منهي عنه وسيأتي الكلام على ذلك. [ رح 581 ] وعن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله (ص) إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه، قال نافع: وكان ابن عمر يسدل عمامته بين كتفيه رواه الترمذي. الحديث أخرج نحوه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال: رأيت النبي (ص) على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه. وأخرج ابن عدي من حديث جابر قال: كان للنبي (ص) عمامة سوداء يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه قال ابن عدي: لا أعلم يرويه عن أبي الزبير غير العرزمي وعنه حاتم بن إسماعيل. وأخرج الطبراني عن أبي موسى: أن جبريل نزل على النبي (ص) وعليه عمامة سوداء قد أرخى ذؤابته من ورائه. قوله: سدل السدل الاسبال والارسال وفسره في القاموس بالارخاء. (والحديث) يدل على استحباب لبس العمامة، وقد أخرج الترمذي وأبو داود والبيهقي من حديث ركانة ابن عبد يزيد الهاشمي أنه قال: سمعت النبي (ص) يقول: فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس قال ابن القيم في الهدى: وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة انتهى. (والحديث)
[ 106 ]
أيضا يدل على استحباب إرخاء العمامة بين الكتفين، وقد أخرج أبو داود من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: عممني رسول الله (ص) فسدلها من بين يدي ومن خلفي والراوي عن عبد الرحمن شيخ من أهل المدينة لم يذكر أبو داود اسمه، وأخرج الطبراني من حديث عبد الله بن ياسر قال: بعث رسول الله (ص) علي بن أبي طالب عليه السلام إلى خيبر فعممه بعمامة سوداء ثم أرسلها من ورائه، أو قال: على كتفه اليسرى وحسنه السيوطي. وأخرج ابن سعد عن مولى يقال له هرمز قال: رأيت عليا عليه عمامة سوداء قد أرخاها من بين يديه ومن خلفه قال ابن رسلان في شرح السنن عند ذكر حديث عبد الرحمن: وهي التي صارت شعار الصالحين المتمسكين بالسنة يعني إرسال العمامة على الصدر. وقال: وفي الحديث النهي عن العمامة المقعطة بفتح القاف وتشديد العين المهملة، قال أبو عبيد في الغريب: المقعطة التي لا ذؤابة لها ولا حنك، قيل: المقعطة عمامة إبليس، وقيل: عمامة أهل الذمة. وورد النهي عن العمامة التي ليست محنكة ولا ذؤابة لها، فالمحنكة من حنك الفرس إذا جعل له في حنكه الاسفل ما يقوده به، هذا معنى كلام ابن رسلان. والذي ذكره أبو عبيد في الغريب في حديث أنه (ص) أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط أن المقعطة هي التي لم يجعل منها تحت الحنك. وقال ابن الاثير في النهاية في حديث أنه (ص) نهى عن الاقتعاط وأمر بالتلحي: أن الاقتعاط أن لا يجعل تحت الحنك من العمامة شيئا، والتلحي جعل بعض العمامة تحت الحنك، وقال الجوهري في الصحاح: الاقتعاط شد العمامة على الرأس من غير إدارة تحت الحنك، والتلحي تطويف العمامة تحت الحنك، وهكذا في القاموس، وكذا قال ابن قتيبة، وقال الامام أبو بكر الطرطوشي: اقتعاط العمائم هو التعميم دون حنك وهو بدعة منكرة وقد شاعت في بلاد الاسلام. وقال ابن حبيب في كتاب الواضحة: إن ترك الالتحاء من بقايا عمائم قوم لوط. وقال مالك: أدركت في مسجد رسول الله (ص) سبعين محنكا وأن أحدهم لو ائتمن على بيت المال لكان به أمينا. وقال القاضي عبد الوهاب في كتاب المعونة له: ومن المكروه ما خالف زي العرب وأشبه زي العجم كالتعمم بغير حنك، وقال القرافي: ما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكا، وقد روي التحنك عن جماعة من السلف. وروي النهي عن الاقتعاط عن جماعة منهم، وكان طاوس والمجاهد يقولان: إن الاقتعاط عمامة الشيطان، فينظر فيما نقله ابن رسلان
[ 107 ]
عن أبي عبيد من أن المقعطة هي التي لا ذؤابة لها. (وقد استدل) على جواز ترك الذؤابة ابن القيم في الهدى بحديث جابر بن سليم عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: أن رسول الله (ص) دخل مكة وعليه عمامة سوداء بدون ذكر الذؤابة، قال: فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه، وقد يقال: إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه اه. وروى أبو داود من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: عممني رسول الله (ص) فسدلها بين يدي ومن خلفي وروى الطبراني عن عائشة قالت: عمم رسول الله (ص) عبد الرحمن بن عوف وأرخى له أربع أصابع وفي إسناده المقدام بن داود وهو ضعيف. وأخرج نحوه الطبراني في الاوسط عن ابن عمر: أن النبي (ص) عمم عبد الرحمن بن عوف فأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوها ثم قال: هكذا فاعتم فإنه أعرب وأحسن قال السيوطي: وإسناده حسن. وأخرج الطبراني أيضا في الاوسط من حديث ثوبان: أن النبي (ص) كان إذا اعتم أرخى عمامته بين يديه ومن خلفه وفي إسناده الحجاج بن رشدين وهو ضعيف. وأخرج الطبراني أيضا في الكبير عن أبي أمامة قال: كان رسول الله (ص) قلما يولي واليا حتى يعممه ويرخي لها من جانبه الايمن نحو الاذن وفي إسناده جميع بن ثوبان وهو متروك، قيل: ويحرم إطالة العذبة طولا فاحشا ولا مقتضى للجزم بالتحريم. قال النووي في شرح المهذب: يجوز لبس العمامة بإرسال طرفها وبغير إرساله، ولا كراهة في واحد منهما، ولم يصح في النهي عن ترك إرسالها إرسالا فاحشا كإرسال الثوب يحرم للخيلاء ويكره لغيره انتهى. وقد أخرج ابن أبي شيبة أن عبد الله بن الزبير كان يعتم بعمامة سوداء قد أرخاها من خلفه نحوا من ذراع. وروى سعد بن سعيد عن رشدين قال: رأيت عبد الله بن الزبير يعتم بعمامة سوداء ويرخيها شبرا أو أقل من شبر. قال السيوطي في الحاوي في الفتاوى: وأما مقدار العمامة الشريفة فلم يثبت في حديث وقد روى البيهقي في شعب الايمان عن ابن سلام بن عبد الله بن سلام قال: سألت ابن عمر كيف كان النبي (ص) يعتم؟ قال: كان يدير العمامة على رأسه ويقورها من ورائه ويرسل لها ذؤابة بين كتفيه وهذا يدل على أنها عدة أذرع، والظاهر أنها كانت نحو العشرة أو فوقها بيسير انتهى. ولا أدري ما هذا الظاهر
[ 108 ]
الذي زعمه، فإن كان الظهور من هذا الحديث الذي ساقه باعتبار ما فيه من ذكر الادارة والتقوير وإرسال الذؤابة فهذه الاوصاف تحصل في عمامة دون ثلاثة أذرع، وإن كان من غيره فما هو بعد إقراره بعدم ثبوت مقدارها في حديث. باب الرخصة في اللباس الجميل واستحباب التواضع فيه وكراهة الشهرة والاسبال عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (ص): لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس رواه أحمد ومسلم. قوله: إن الله جميل اختلفوا في معناه فقيل: إن كل أمره سبحانه وتعالى حسن جميل، وله الاسماء الحسنى وصفات الجمال والكمال. وقيل: جميل بمعنى مجمل ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع. وقال أبو القاسم القشيري: معناه جليل. وقال الخطابي: إنه بمعنى ذي النور والبهجة أي مالكهما. وقيل: معناه جميل الافعال بكم والنظر إليكم يكلفكم اليسير ويعين عليه ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه. (قال النووي): واعلم أن هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الآحاد، وقد ورد أيضا في حديث الاسماء الحسنى وفي إسناده مقال، والمختار جواز إطلاقه على الله ومن العلماء من منعه، قال إمام الحرمين: ما ورد الشرع بإطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه، وما منع الشرع من إطلاقه منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم، فإن الاحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع، ولو قضينا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكما بغير الشرع انتهى. وقد وقع الخلاف في تسمية الله ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يرد به الشرع ولا منعه، فأجازه طائفة ومنعه آخرون، إلا أن يرد به شرع مقطوع به من نص كتاب أو سنة متواترة أو إجماع على إطلاقه، فإن ورد خبر واحد فاختلفوا فيه فأجازه طائفة وقالوا الدعاء به والثناء من باب العمل وهو جائز بخبر الواحد، ومنعه آخرون لكونه راجعا إلى اعتقاد ما يجوز أو يستحيل على الله تعالى وطريق هذا القطع قال القاضي
[ 109 ]
عياض: والصواب جوازه لاشتماله على العمل ولقول الله تعالى: * (ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها) * (الاعراف: 180) انتهى. والمسألة مدونة في علم الكلام فلا نطيل فيها المقال. قوله: بطر الحق هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا قاله النووي. وفي القاموس: بطر الحق أن يتكبر عنده فلا يقبله. قوله: وغمص الناس هو بغين معجمة مفتوحة وصاد مهملة قبلها ميم ساكنة، وقال النووي في شرح مسلم: هو بالطاء المهملة في نسخ صحيح مسلم. قال القاضي عياض: لم نرو هذا الحديث عن جميع شيوخنا هنا وفي البخاري إلا بالطاء، ذكره أبو داود في مصنفه، وذكره أبو سعيد الترمذي وغيره. والغمط والغمص قال النووي بمعنى واحد وهو احتقار الناس. (والحديث) يدل على أن الكبر مانع من دخول الجنة، وإن بلغ في القلة إلى الغاية، ولهذا ورد التحديد بمثقال ذرة، وقد اختلف في تأويله فذكر الخطابي فيه وجهين: أحدهما أن المراد التكبر عن الايمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلا إذا مات عليه. والثاني أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخول الجنة كما قال الله تعالى: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * (الاعراف: 43) قال النووي: وهذان التأويلان فيهما بعد، فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف وهو الارتفاع عن الناس واحتقارهم ودفع الحق، فلا ينبغي أن يحمل على هذين التأويلين المخرجين له عن المطلوب، بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخلها بدون مجازاة إن جازاه. وقيل: هذا جزاؤه لو جازاه، وقيل: لا يدخلها مع المتقين أول وهلة، ويمكن أن يقال: إن هذا الحديث وما يشابهه من الاحاديث التي وردت مصرحا فيها بعدم دخول جماعة من العصاة الجنة، أو عدم خروج جماعة منهم من النار خاصة. وأحاديث دخول جميع الموحدين الجنة وخروج عصاتهم من النار عامة، فلا حاجة على هذا إلى التأويل. (والحديث). أيضا يدل على أن محبة لبس الثوب الحسن والنعل الحسن وتخير اللباس الجميل ليس من الكبر في شئ، وهذا مما لا خلاف فيه فيما أعلم، والرجل المذكور في الحديث هو مالك بن مرارة الرهاوي، ذكر ذلك ابن عبد البر والقاضي عياض، وقد جمع الحافظ ابن بشكوال في اسمه أقوالا استوفاها النووي في شرح مسلم. وعن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من ترك أن يلبس صالح الثياب وهو يقدر عليه تواضع لله عزوجل دعاه الله
[ 110 ]
عزوجل على رؤوس الخلائق حتى يخيره في حلل الايمان أيتهن شاء رواه أحمد والترمذي. الحديث حسنه الترمذي، وقد رواه من طريق عباس بن محمد الدوري، عن عبد الله ابن يزيد المقري، عن سعيد بن أبي أيوب، عن أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعبد الرحيم بن ميمون قال النسائي: ليس به بأس، وضعفه ابن معين. وسهل بن معاذ وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين، وفيه استحباب الزهد في الملبوس وترك لبس حسن الثياب ورفيعها لقصد التواضع، ولا شك أن لبس ما فيه جمال زائد من الثياب يجذب بعض الطباع إلى الزهو والخيلاء والكبر، وقد كان هديه صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الحافظ ابن القيم أن يلبس ما تيسر من اللباس: الصوف تارة، والقطن أخرى، والكتان تارة، ولبس البرود اليمانية، والبرد الاخضر، ولبس الجبة والقباء والقميص، إلى أن قال: فالذين يمتنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تزهدا وتعبدا بإزائهم طائفة قابلوهم فلم يلبسوا إلا أشرف الثياب، ولم يأكلوا إلا أطيب وألين الطعام، فلم يروا لبس الخشن ولا أكله تكبرا وتجبرا، وكلا الطائفتين مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا قال بعض السلف: كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب: العالي والمنخفض. وفي السنن عن ابن عمر يرفعه: من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة إلى آخر كلامه. وذكر الشيخ أبو إسحق الاصفهاني بإسناد صحيح عن جابر بن أيوب قال: دخل الصلت بن راشد على محمد بن سيرين وعليه جبة صوف وإزار صوف وعمامة صوف فاشمأز عنه محمد وقال: أظن أن أقواما يلبسون الصوف ويقولون قد لبسه عيسى ابن مريم، وقد حدثني من لا أتهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد لبس الكتان والصوف والقطن وسنة نبينا أحق أن تتبع. ومقصود ابن سيرين من هذا أن قوما يرون أن لبس الصوف دائما أفضل من غيره فيتحرونه ويمنعون أنفسهم من غيره، وكذلك يتحرون زيا واحدا من الملابس، ويتحرون رسوما وأوضاعا وهيئات يرون الخروج عنها منكرا، وليس المنكر إلا التقييد بها والمحافظة عليها وترك الخروج عنها. (والحاصل) أن الاعمال بالنيات، فلبس المنخفض من الثياب تواضعا وكسرا لسورة النفس التي لا يؤمن عليها من التكبر إن لبست غالي الثياب من المقاصد الصالحة الموجبة للمثوبة من الله، ولبس الغالي من الثياب عند الامن
[ 111 ]
على النفس من التسامي المشوب بنوع من التكبر لقصد التوصل بذلك إلى تمام المطالب الدينية من أمر بمعروف أو نهي عن منكر عند من لا يلتفت إلا إلى ذوي الهيئات، كما هو الغالب على عوام زماننا وبعض خواصه، لا شك أنه من الموجبات للاجر، لكنه لا بد من تقييد ذلك بما يحل لبسه شرعا. وعنابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا النسائي ورجال إسناده ثقات، رواه أبو داود عن شيخه محمد بن عيسى بن بحيح بن الطباع قال فيه أبو حاتم: مبرز ثقة له عدة مصنفات عن أبي عوانة الوضاح وهو ثقة عن عثمان بن أبي زرعة الثقفي، وقد أخرج له البخاري في الانبياء عن المهاجر بن عمرو البسامي، وقد أخرج له ابن حبان في الثقات عن ابن عمر، وأخرجه أيضا من طريق محمد بن عيسى عن القاضي شريك عن عثمان بذلك الاسناد. قوله: من لبس ثوب شهرة قال ابن الاثير: الشهرة ظهور الشئ، والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لالوان ثيابهم، فيرفع الناس إليه أبصارهم ويختال عليهم بالعجب والتكبر. قوله: ألبسه الله تعالى ثوب مذلة لفظ أبي داود ثوبا مثله، والمراد بقوله ثوب مذلة يوجب ذلته يوم القيامة، كما لبس في الدنيا ثوبا يتعزز به على الناس ويترفع به عليهم، والمراد بقوله مثله في تلك الرواية أنه مثله في شهرته بين الناس. قال ابن رسلان: لانه لبس الشهرة في الدنيا ليعزبه ويفتخر على غيره، ويلبسه الله يوم القيامة ثوبا يشتهر بمذلته واحتقاره بينهم عقوبة له، والعقوبة من جنس العمل انتهى. ويدل على هذا التأويل الزيادة التي زادها أبو داود من طريق أبي عوانة بلفظ: تلهب فيه النار. (والحديث) يدل على تحريم لبس ثوب الشهرة، وليس هذا الحديث مختصا بنفيس الثياب، بل قد يحصل ذلك لمن يلبس ثوبا يخالف ملبوس الناس من الفقراء ليراه الناس فيتعجبوا من لباسه ويعتقدوه قاله ابن رسلان، وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في النار فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها، والموافق لملبوس الناس والمخالف، لان التحريم يدور مع الاشتهار والمعتبر القصد وإن لم يطابق الواقع. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر: إن أحد شقي إزاري يسترخي
[ 112 ]
إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء رواه الجماعة إلا أن مسلما وابن ماجه والترمذي لم يذكروا قصة أبي بكر. قوله: خيلاء فعلاء بضم الخاء المعجمة ممدود. والمخيلة والبطر والكبر والزهو والتبختر والخيلاء كلها بمعنى واحد، يقال: خال واختال اختيالا إذا تكبر، وهو رجل خال أي متكبر، وصاحب خال أي صاحب كبر. قوله: لم ينظر الله إليه النظر حقيقة في إدراك العين للمرئي وهو هنا مجاز عن الرحمة، أي لا يرحمه الله لامتناع حقيقة النظر في حقه تعالى والعلاقة هي السببية، فإن من نظر إلى غيره وهو في حالة ممتهنة رحمه. وقال في شرح الترمذي: عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر لان من نظر إلى متواضع رحمه ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر (والحديث) يدل على تحريم جر الثوب خيلاء، والمراد بجره هو جره على وجه الارض، وهو الموافق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أسفل من الكعبين من الازار في النار كما سيأتي، وظاهر الحديث أن الاسبال محرم على الرجال والنساء لما في صيغة من في. قوله: من جر من العموم، وقد فهمت أم سلمة ذلك لما سمعت الحديث فقالت: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخينه شبرا، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن، قال: فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه أخرجه النسائي والترمذي، ولكنه قد أجمع المسلمون على جواز الاسبال للنساء، كما صرح بذلك ابن رسلان في شرح السنن، وظاهر التقييد. بقوله: خيلاء يدل بمفهومه أن جر الثوب لغير الخيلاء لا يكون داخلا في هذا الوعيد، قال ابن عبد البر: مفهومه أن الجار لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد إلا أنه مذموم، قال النووي: إنه مكروه وهذا نص الشافعي، قال البويطي في مختصره عن الشافعي: لا يجوز السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء ولغيرها خفيف لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابي بكر انتهى. قال ابن العربي: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول لا أجره خيلاء لان النهي قد تناوله لفظا، ولا يجوز لمن تناوله لفظا أن يخالفه إذ صار حكمه أن يقول لا أمتثله لان تلك العلة ليست في، فإنها دعوى غير مسلمة بل إطالة ذيله دالة على تكبره انتهى (وحاصله) أن الاسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصده اللابس، ويدل على عدم اعتبار التقييد بالخيلاء ما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث جابر بن سليم من حديث طويل فيه: وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الازار فإنها من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة. وما أخرج الطبراني من
[ 113 ]
حديث أبي أمامة قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا لحقنا عمرو بن زرارة الانصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله عزوجل ويقول: عبدك وابن عبدك وأمتك حتى سمعها عمرو فقال: يا رسول الله إني أحمش الساقين فقال: يا عمرو إن الله تعالى قد أحسن كل شئ خلقه، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل. والحديث رجاله ثقات وظاهره أن عمرا لم يقصد الخيلاء، وقد عرفت ما في حديث الباب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لابي بكر: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء وهو تصريح بأن مناط التحريم الخيلاء، وأن الاسبال قد يكون للخيلاء وقد يكون لغيره فلا بد من حمل. قوله: فإنها من المخيلة في حديث جابر بن سليم على أنه خرج مخرج الغالب، فيكون الوعيد المذكور في حديث الباب متوجها إلى من فعل ذلك اختيالا، والقول بأن كل إسبال من المخيلة أخذا بظاهر حديث جابر ترده الضرورة، فإن كل أحد يعلم أن من الناس من يسبل إزاره مع عدم خطور الخيلاء بباله، ويرده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لابي بكر لما عرفت وبهذا يحصل الجمع بين الاحاديث وعدم إهدار قيد الخيلاء المصرح به في الصحيحين وقد جمع بعض المتأخرين رسالة طويلة جزم فيها بتحريم الاسبال مطلقا، وأعظم ما تمسك به حديث جابر. وأما حديث أبي أمامة فغاية ما فيه التصريح بأن الله لا يحب المسبل، وحديث الباب مقيد بالخيلاء، وحمل المطلق على المقيد واجب، وأما كون الظاهر من عمرو أنه لم يقصد الخيلاء فما بمثل هذا الظاهر تعارض الاحاديث الصحيحة، وسيأتي ذكر المقدار الذي يعد إسبالا وذكر عموم الاسبال لجميع اللباس. ومن الاحاديث الدالة على أن الاسبال من أشد الذنوب ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قلت: من هم يا رسول الله فقد خابوا وخسروا؟ فأعادها ثلاثا قلت: من هم خابوا وخسروا؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أو الفاجر وما أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة قال: بينما رجل يصلي مسبلا إزاره فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذهب فتوضأ فذهب فتوضأ ثم جاء قال: اذهب فتوضأ، فقال له رجل: يا رسول الله ما لك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟ قال: إنه صلى وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة رجل
[ 114 ]
مسبل وفي إسناده أبو جعفر رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه. وما أخرجه أبو داود من جملة حديث طويل وفيه: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم الرجل خزيم الاسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره. وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الاسبال في الازار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. الحديث في إسناده عبد العزيز بن أبي رواد، وقد تكلم فيه غير واحد، قال ابن ماجه: قال أبو بكر بن أبي شيبة: ما أعرفه انتهى. وهو مولى المهلب بن أبي صفرة، وقد أخرج له البخاري، وقال النووي في شرح مسلم بعد أن ذكر هذا الحديث: إن إسناده حسن. (والحديث) يدل على عدم اختصاص الاسبال بالثوب والازار، بل يكون في القميص والعمامة كما في الحديث. قال ابن رسلان: والطيلسان: والرداء والشملة. قال ابن بطال: وإسبال العمامة المراد به إرسال العذبة زائدا على ما جرت به العادة انتهى. وأما المقدار الذي جرت به العادة فقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله هو وأصحابه، وتطويل أكمام القميص تطويلا زائدا على المعتاد من الاسبال، وقد نقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على المعتاد في اللباس في الطول والسعة. [ رح 587 ] وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا متفق عليه. ولاحمد والبخاري: ما أسفل من الكعبين من الازار في النار. قوله: بطرا قد تقدم أن البطر معناه معنى الخيلاء، وفي القاموس: البطر النشاط والاشر وقلة احتمال النعمة والدهش والحيرة والطغيان وكراهة الشئ من غير أن يستحق الكراهة انتهى. قوله: ما أسفل من الكعبين إلخ قال في الفتح: موصولة وبعض صلته المحذوف وهو كان، وأسفل خبره وهو منصوب ويجوز الرفع أي ما هو أسفل وهو أفعل تفضيل، ويحتمل أن يكون فعلا ماضيا، ويجوز أن تكون ما نكرة موصوفة بأسفل. قال الخطابي: يريد أن الموضع الذي يناله الازار من أسفل الكعبين في النار، فكنى بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة. وحاصله أنه من تسمية الشئ باسم ما جاوره أو حل فيه وتكون من بيانية ويحتمل أن تكون سببية،
[ 115 ]
ويكون المراد الشخص نفسه، فيكون هذا من باب تسمية الشئ بما يؤول إليه أمره في الآخرة كقوله: * (إني أراني أعصر خمرا) * يعني عنبا فسماه بما يؤول إليه غالبا. وقيل معناه فهو محرم عليه لان الحرام يوجب النار في الآخرة. وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج أو لا جناح فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار. وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه. (وحديث) الباب يدل على أن الاسبال المحرم إنما يكون إذا جاوز الكعبين، وقد تقدم الكلام على اعتبار الخيلاء وعدمه. باب نهي المرأة أن تلبس ما يحكي بدنها أو تشبه بالرجال عن أسامة بن زيد قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهدى له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما لك لا تلبس القبطية؟ فقلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي، فقال: مرها أن تجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها رواه أحمد. الحديث أخرجه أيضا ابن أبي شيبة والبزار وابن سعد والروياني والبارودي والطبراني والبيهقي والضياء في المختارة، وقد أخرج نحوه أبو داود عن دحية بن خليفة قال: أتي رسول الله بقباطي فأعطاني منها قبطية فقال: اصدعها صدعتين فاقطع أحدهما قميصا وأعط الآخر امرأتك تختمر به، فلما أدبر قال: امرأتك تجعل تحته ثوبا لا يصفها وفي إسناده ابن لهيعة ولا يحتج بحديثه، وقد تابع ابن لهيعة على روايته هذه أبو العباس يحيى بن أيوب المصري وفيه مقال، وقد احتج به مسلم واستشهد به البخاري. قوله: قبطية قال في القاموس: بضم القاف على غير قياس وقد تكسر وفي الضياء بكسرها. وقال القاضي عياض: بالضم وهي نسبة إلى القبط بكسر القاف وهم أهل مصر. قوله: غلالة الغلالة بكسر الغين المعجمة شعار يلبس تحت الثوب كما في القاموس وغيره. (والحديث) يدل على أنه يجب على المرأة أن تستر بدنها بثوب لا يصفه وهذا شرط ساتر العورة، وإنما أمر بالثوب تحته لان القباطي ثياب رقاق لا تستر البشرة عن رؤية الناظر بل تصفها.
[ 116 ]
وعن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أم سلمة وهي تختمر فقال: لية لا ليتين رواه أحمد وأبو داود. الحديث رواه عن أم سلمة وهب مولى أبي أحمد، قال المنذري: وهذا يشبه المجهول، وفي الخلاصة أنه وثقه ابن حبان. قوله: وهي تختمر الواو للحال والتقدير دخل عليها حال كونها تصلح خمارها، يقال: اختمرت المرأة وتخمرت إذا لبست الخمار، كما يقال: اعتم وتعمم إذا لبس العمامة. قوله: فقال لية بفتح اللام وتشديد الياء والنصب على المصدر، والناصب فعل مقدر والتقدير ألويه لية. قوله: لا ليتين أمرها أن تلوي خمارها على رأسها وتديره مرة واحدة لا مرتين لئلا يشبه اختمارها تدوير عمائم الرجال إذا اعتموا فيكون ذلك من التشبه المحرم، وسيأتي أنه محرم على العموم من دون تخصيص. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن أمثال أسنمة البخت المائلة لا يرين الجنة ولا يجدن ريحها. ورجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس رواه أحمد ومسلم. قوله: صنفان من أهل النار فيه ذم هذين الصنفين: قال النووي: هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع هذان الصنفان وهما موجودان. قوله: كاسيات عاريات قيل كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها، وقيل معناه تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهارا لجمالها ونحوه، وقيل تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها. قوله: مائلات أي عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه، مميلات أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم وقيل مائلات بمشيهن متبخترات مميلات لاكتافهن. وقيل المائلات بمشطهن مشطة البغايا المميلات بمشطهن غيرهن تلك المشطة. قوله: على رؤوسهن أمثال أسنمة البخت أي يكر من شعورهن ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها. والبخت بضم الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة والتاء المثناة الابل الخراسانية. (والحديث) ساقه المصنف للاستدلال به على كراهة لبس المرأة ما يحكى بدنها وهو أحد التفاسير كما تقدم، والاخبار بأن من فعل ذلك من أهل النار وأنه لا يجد ريح الجنة مع أن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام، وعيد شديد يدل على تحريم ما اشتمل عليه الحديث من صفات هذين الصنفين.
[ 117 ]
(رح 591) وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن الرجل يلبس لبس المرأة والمرأة تلبس لبس الرجل رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا النسائي، ولم يتكلم عليه أبو داود ولا المنذري، ورجال إسناده رجال الصحيح. وأخرج أبو داود عن عائشة أنها قالت: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرجلة من النساء. وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء. وأخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه رأى امرأة متقلدة قوسا وهي تمشي مشية الرجل فقال: من هذه؟ فقال: هذه أم سعيد بنت أبي جهل، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ليس منا من تشبه بالرجال من النساء. قوله: لبس المرأة ولبس الرجل رواية أبي داود لبسة في الموضعين. (والحديث) يدل على تحريم تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء، لان اللعن لا يكون إلا على فعل محرم وإليه ذهب الجمهور. وقال الشافعي في الام: إنه لا يحرم زي النساء على الرجل وإنما يكره فكذا عكسه انتهى. وهذه الاحاديث ترد عليه ولهذا قال النووي في الروضة: والصواب أن تشبه النساء بالرجال وعكسه حرام للحديث الصحيح انتهى. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المترجلات: أخرجوهن من بيوتكم. وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بال هذا؟ فقالوا: يتشبه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع، قيل: يا رسول الله ألا نقتله؟ قال: إني نهيت أن أقتل المصلين وروى البيهقي أن أبا بكر أخرج مخنثا وأخرج عمر واحدا. باب التيامن في اللبس وما يقول من استجد ثوبا عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا لبس قميصا بدأ بميامينه. [ رح 593 ] وعن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء ثم يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له رواهما الترمذي.
[ 118 ]
الحديث الاول أخرجه أيضا النسائي وذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه. ويشهد له حديث: إذا توضأتم وإذا لبستم فابدؤوا بميامنكم أخرجه ابن حبان والبيهقي والطبراني، قال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأن يصح، ويشهد له أيضا حديث عائشة المتفق عليه بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله وهو يدل على مشروعية الابتداء في لبس القميص بالميامن وكذلك لبس غيره، لعموم الاحاديث الدالة على مشروعية تقديم الميامن. (والحديث) الثاني أخرجه أيضا النسائي وأبو داود وحسنه الترمذي. قوله: سماه باسمه قال ابن رسلان في شرح السنن: البداءة باسم الثوب قبل حمد الله تعالى أبلغ في تذكر النعمة وإظهارها، فإن فيه ذكر الثوب مرتين: فمرة ذكره ظاهرا ومرة ذكره مضمرا. قوله: أسألك خيره هكذا لفظ الترمذي. ولفظ أبي داود: أسألك من خيره بزيادة من. ولفظ الترمذي أعم وأجمع لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة: عليك بالجوامع الكوامل: اللهم إني أسألك الخير كله. ولفظ أبي داود أنسب لما فيه من المطابقة لقوله في آخر الحديث: وأعوذ بك من شره. قوله: وخير ما صنع له هو استعماله في طاعة الله تعالى وعبادته ليكون عونا له عليها. قوله: وشر ما صنع له هو استعماله في معصية الله ومخالفة أمره. (والحديث) يدل على استحباب حمد الله تعالى عند لبس الثوب الجديد. وقد أخر الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما اشترى عبد ثوبا بدينار أو بنصف دينار فحمد الله إلا لم يبلغ ركبتيه حتى يغفر الله له وقال: حديث لا أعلم في إسناده أحدا، ذكر بجرح والله أعلم. أبواب اجتناب النجاسات ومواضع الصلوات باب اجتناب النجاسة في الصلاة والعفو عما لا يعلم بها عن جابر بن سمرة قال: سمعت رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي؟ قال: نعم إلا أن ترى فيه شيئا فتغسله رواه أحمد وابن ماجه. وعن معاوية قال: قلت لام حبيبة: هل كان يصلي النبي صلى الله
[ 119 ]
عليه وآله وسلم في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم إذا لم يكن فيه أذى رواه الخمسة إلا الترمذي. حديث جابر بن سمرة رجال إسناده عند ابن ماجه ثقات، وحديث معاوية رجال إسناده كلهم ثقات. (والحديثان) يدلان على تجنب المصلي للثوب المتنجس، وهل طهارة ثوب المصلي شرط لصحة الصلاة أم لا؟ فذهب الاكثر إلى أنها شرط، وروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وهو مروي عن مالك أنها ليست بواجبة، ونقل صاحب النهاية عن مالك قولين: أحدهما إزالة النجاسة سنة وليست بفرض. وثانيهما أنها فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان. وقديم قولي الشافعي أن إزالة النجاسة غير شرط. (احتج الجمهور) بحجج. منها قول الله تعالى: * (وثيابك فطهر) * (المدثر: 4) قال في البحر: والمراد للصلاة للاجماع على أن لا وجوب في غيرها، ولا يخفاك أن غاية ما يستفاد من الآية الوجوب عند من جعل الامر حقيقة فيه، والوجوب لا يستلزم الشرطية، لان كون الشئ شرطا حكم شرعي وضعي لا يثبت إلا بتصريح الشارع بأنه شرط، أو بتعليق الفعل به بأداة الشرط، أو بنفي الفعل بدونه نفيا متوجها إلى الصحة لا إلى الكمال، أو بنفي الثمرة ولا يثبت بمجرد الامر به. وقد أجاب صاحب ضوء النهار عن الاستدلال بالآية بأنها مطلقة، وقد حملها القائلون بالشرطية على الندب في الجملة، فأين دليل الوجوب في المقيد وهو الصلاة؟ وفيه أنهم لم يحملوها على الندب بل صرحوا بأنها مقتضية للوجوب في الجملة، لكنه قام الاجماع على عدم الوجوب في غير الصلاة، فكان صارفا عن اقتضاء الوجوب فيما عدا المقيد. ومنها حديث خلع النعل الذي سيأتي وغاية ما فيه الامر بمسح النعل، وقد عرفت أنه لا يفيد الشرطية، على أنه بنى على ما كان قد صلى قبل الخلع، ولو كانت طهارة الثياب ونحوها شرطا لوجب عليه الاستئناف، لان الشرط يؤثر عدمه في عدم المشروط كما تقرر في الاصول فهو عليهم لا لهم. ومنها الحديثان المذكوران في الباب، ويجاب عنهما بأن الثاني فعل وهو لا يدل على الوجوب فضلا عن الشرطية، والاول ليس فيه ما يدل على الوجوب، سلمنا أن قوله فتغسله خبر في معنى الامر فهو غير صالح للاستدلال به على المطلوب. ومنها حديث عائشة قالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الكساء فلبسه ثم خرج فصلى فيه الغداة ثم جلس فقال رجل: يا رسول الله
[ 120 ]
هذه لمعة من دم في الكساء، فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها مع ما يليها وأرسلها إلي مصرورة في يد الغلام فقال: اغسلي هذه واجفيها ثم ارسلي بها إلي، فدعوت بقصعتي فغسلتها ثم أجفيتها ثم أخرجتها فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عليه أخرجه أبو داود، ويجاب عنه أولا بأنه غريب كما قال المنذري. وثانيا بأن غاية ما فيه الامر وهو لا يدل على الشرطية. وثالثا بأنه عليهم لا لهم لانه لم ينقل إلينا أنه أعاد الصلاة التي صلاها في ذلك الثوب. ومنها حديث عمار بلفظ: إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقئ والدم والمني رواه أبو يعلى والبزار في مسنديهما، وابن عدي في الكامل، والدارقطني والبيهقي في سننهما، والعقيلي في الضعفاء، وأبو نعيم في المعرفة، والطبراني في الكبير والاوسط، ويجاب عنه أولا بأن هؤلاء كلهم ضعفوه وضعفه غيرهم من أهل الحديث، لان في إسناده ثابت بن حماد وهو متروك ومتهم بالوضع، وعلي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف حتى قال البيهقي في سننه: حديث باطل لا أصل له وثانيا بأنه لا يدل على المطلوب وليس فيه إلا أنه يغسل الثوب من هذه الاشياء لا من غيرها. ومنها حديث غسل المني وفركه في الصحيحين وغيرهما كما تقدم، وهو لا يدل على الوجوب فكيف يدل على الشرطية؟ ومنها حديث: حتيه ثم اقرصيه عند البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أسماء. وفي لفظ: فلتقرصه ثم لتنضحه بماء من حديث عائشة. وفي لفظ: حكيه بضلع من حديث أم قيس بنت محصن، ويجاب عن ذلك أولا بأن الدليل أخص من الدعوى، وثانيا بأن غاية ما فيه الدلالة على الوجوب. ومنها أحاديث الامر بغسل النجاسة كحديث تعذيب من لم يستنزه من البول، وحديث الامر بغسل المذي وغيرهما، وقد تقدمت في أول هذا الكتاب، ويجاب عنها بأنها أوامر وهي لا تدل على الشرطية التي هي محل النزاع كما تقدم، نعم يمكن الاستدلال بالاوامر المذكورة في هذا الباب على الشرطية إن قلنا إن الامر بالشئ نهي عن ضده وأن النهي يدل على الفساد، وفي كلا المسألتين خلاف مشهور في الاصول، لولا أن ههنا مانعا من الاستدلال بها على الشرطية وهو عدم إعادته صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة التي خلع فيها نعليه، لان بناءه على ما فعله من الصلاة قبل الخلع مشعر بأن الطهارة غير شرط، وكذلك عدم نقل إعادته للصلاة التي صلاها في الكساء الذي فيه لمعة من دم كما تقدم. ومن أدلتهم على الشرطية حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم
[ 121 ]
أخرجه الدارقطني والعقيلي في الضعفاء وابن عدي في الكامل. وهذا الحديث لو صح لكان صالحا للاستدلال به على الشرطية المدعاة، لكنه غير صحيح بل باطل، لان في إسناده روح بن غطيف، وقال ابن عدي وغيره: إنه تفرد به وهو ضعيف، قال الذهلي: أخاف أن يكون هذا موضوعا. وقال البخاري: حديث باطل. وقال ابن حبان: موضوع. وقال البزار: أجمع أهل العلم على نكرة هذا الحديث. قال الحافظ: وقد أخرجه ابن عدي في الكامل من طريق أخرى عن الزهري لكن فيها أبو عصمة وقد اتهم بالكذب انتهى. إذا تقرر لك ما سقناه من الادلة وما فيها فاعلم أنها لا تقصر عن إفادة وجوب تطهير الثياب، فمن صلى وعلى ثوبه نجاسة كان تاركا لواجب، وأما أن صلاته باطلة كما هو شأن فقدان شرط الصحة فلا لما عرفت. ومن فوائد حديثي الباب أنه لا يجب العمل بمقتضى المظنة، لان الثوب الذي يجامع فيه مظنة لوقوع النجاسة فيه، فأرشد الشارع صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن الواجب العمل بالمئنة دون المظنة. ومن فوائدهما كما قال ابن رسلان في شرح السنن طهارة رطوبة فرج المرأة لانه لم يذكر هنا أنه كان يغسل ثوبه من الجماع قبل أن يصلي ولو غسله لنقل. ومن المعلوم أن الذكر يخرج وعليه رطوبة من فرج المرأة انتهى. [ رح 596 ] وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال لهم: لم خلعتم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثا فليمسحه بالارض ثم ليصل فيهما رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا الحاكم وابن خزيمة وابن حبان، واختلف في وصله وإرساله، ورجح أبو حاتم في العلل الموصول، ورواه الحاكم من حديث أنس وابن مسعود، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وعبد الله بن الشخير وإسناداهما ضعيفان، ورواه البزار من حديث أبي هريرة وإسناده ضعيف معلول أيضا، قاله الحافظ في التلخيص. قوله: فأخبرني فيه جواز تكليم المصلي وإعلامه بما يتعلق بمصالح الصلاة، وأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. قوله: خبثا في رواية أبي داود قذرا وهو ما تكرهه الطبيعة من نجاسة ومخاط ومني وغير ذلك. (والحديث) قد عرفت مما سلف أنه استدل به القائلون بأن إزالة النجاسة من شروط صحة الصلاة وهو كما عرفناك عليهم لا لهم، لان استمراره على الصلاة التي صلاها قبل خلع النعل وعدم استئنافه لها يدل على عدم
[ 122 ]
كون الطهارة شرطا. وأجاب الجمهور عن هذا بأن المراد بالقذر هو الشئ المستقذر كالمخاط والبصاق ونحوهما، ولا يلزم من القذر أن يكون نجسا، وبأنه يمكن أن يكون دما يسيرا معفوا عنه، وإخبار جبريل له بذلك لئلا تتلوث ثيابه بشئ مستقذر. ويرد هذا الجواب بما قاله في البارع في تفسير قوله: * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * (النساء: 43) أنه كنى بالغائط عن القذر، وقول الازهري: النجس القذر الخارج من بدن الانسان، فجعله لمستقذر غير نجس أو نجس معفو عنه تحكم، وإخبار جبريل في حال الصلاة بالقذر الظاهر أنه لما فيها من النجاسة التي يجب تجنبها في الصلاة لا لمخافة التلوث، لانه لو كان لذلك لاخبره قبل الدخول في الصلاة، لان القعود حال لبسها مظنة للتلوث بما فيها، على أن هذا الجواب لا يمكن مثله في رواية الخبث المذكورة في الباب للاتفاق بين أئمة اللغة وغيرهم أن الاخبثين هما البول والغائط. قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق الحديث ما لفظه: وفيه أن ذلك النعال يجزئ، وأن الاصل أن أمته أسوته في الاحكام، وأن الصلاة في النعلين لا تكره، وأن العمل اليسير معفو عنه انتهى. وقد تقدم الكلام على أن ذلك النعال مطهر لها في أبواب تطهير النجاسة، وأما أمته أسوته فهو الحق وفيه خلاف في الاصل مشهور، وأما عدم كراهة الصلاة في النعلين فسيأتي، وأما العفو عن العمل اليسير فسيأتي أيضا. ومن فوائد الحديث جواز المشي إلى المسجد بالنعل. باب حمل المحدث والمستجمر في الصلاة وثياب الصغار وما شك في نجاسته عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها متفق عليه. قوله: وهو حامل أمامة قال الحافظ: المشهور في الروايات التنوين ونصب أمامة وروي بالاضافة، وزاد عبد الرزاق عن مالك بإسناد حديث الباب: على عاتقه وكذا المسلم وغيره من طريق أخرى، ولاحمد من طريق ابن جريج: على رقبته وأمامة بضم الهمزة وتخفيف الميمين كانت صغيرة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتزوجها علي بعد موت فاطمة بوصية منها. قوله: فإذا ركع وضعها هكذا في صحيح مسلم والنسائي وأحمد وابن حبان كلهم عن عامر بن عبد الله شيخ مالك. ورواية البخاري عن مالك: فإذا سجد. ولابي داود
[ 123 ]
من طريق المقبري عن عمرو بن سليم: حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها. وهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه لا منها، وهو يرد تأويل الخطابي حيث قال: يشبه أن تكون الصبية قد ألفته، فإذا سجد تعلقت بأطرافه والتزمته فينهض من سجوده فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع فيرسلها. ويرد أيضا قول ابن دقيق العيد: أن لفظ حمل لا يساوي لفظ وضع في اقتضاء فعل الفاعل لانا نقول: فلان حمل كذا ولو كان غيره حمله، بخلاف وضع فعلي هذا، فالفعل الصادر منه هو الوضع لا الرفع فيقل العمل انتهى. لان قوله: حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها صريح في أن الرفع صادر منه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رجع ابن دقيق العيد إلى هذا فقال: وقد كنت أحسب هذا يعني الفرق بين حمل ووضع، وأن الصادر منه الوضع لا الرفع حسنا، إلى أن رأيت في بعض طرقه الصحيحة فإذا قام أعادها انتهى. وهذه الرواية في صحيح مسلم. ولاحمد: فإذا قام حملها فوضعها على رقبته. (والحديث) يدل على أن مثل هذا الفعل معفو عنه. من غير فرق بين الفريضة والنافلة والمنفرد والمؤتم والامام لما في صحيح مسلم من زيادة: وهو يؤم الناس في المسجد وإذا جاز ذلك في حال الامامة في صلاة الفريضة جاز في غيرها بالاولى. قال القرطبي: وقد اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، والذي أحوجهم إلى ذلك أنه عمل كثير، فروى ابن القاسم عن مالك أنه كان في النافلة، واستبعده المازري وعياض وابن القاسم، قال المازري: إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة. وأصرح من هذا ما أخرجه أبو داود بلفظ: بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الظهر أو العصر وقد دعاه بلال إلى الصلاة إذ خرج علينا وأمامة على عاتقه فقام في مصلاه فقمنا خلفه فكبر فكبرنا وهي في مكانها. وروى أشهب وعبد الله بن نافع عن مالك أن ذلك للضرورة حيث لم يجد من يكفيه أمرها، وقال بعض أصحابه: لانه لو تركها لبكت وشغلته أكثر من شغلته بحملها. وفرق بعض أصحابه بين الفريضة والنافلة. وقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما. قال القرطبي: وروى عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك أن الحديث منسوخ. قال الحافظ: روى ذلك عنه الاسماعيلي لكنه غير صريح. وقال ابن عبد البر: لعل الحديث منسوخ بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال،
[ 124 ]
وبأن القضية كانت بعد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن في الصلاة لشغلا لان ذلك كان قبل الهجرة، وهذه القصة كانت بعد الهجرة بمدة مديدة قطعا قاله الحافظ. وقال القاضي عياض: إن ذلك كان من خصائصه، ورد بأن الاصل عدم الاختصاص. قال النووي بعد أن ذكر هذه التأويلات: وكل ذلك دعاوى باطلة مردودة لا دليل عليه، لان الآدمي طاهر وما في جوفه معفو عنه، وثياب الاطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة حتى تتبين النجاسة، والاعمال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، ودلائل الشرع متظاهرة على ذلك، وإنما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لبيا الجواز انتهى. قال الحافظ: وحمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غيمتوال لوجود الطمأنينة في أركان الصلاة. ومن فوائد الحديث جواز إدخال الصبيان المساجد وسيأتي الكلام على ذلك، وأن مس الصغيرة لا ينتقض به الوضوء، والظاهر طهارة ثياب من لا يحترز من النجاسة كالاطفال. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون ذلك وقع حال التنظيف لان حكايات الاحوال لا عموم لها. وعن أبي هريرة قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم العشاء، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه أخذا رفيقا ويضعهما على الارض، فإذا عاد عادا، حتى قضى صلاته، ثم أقعد أحدهما على فخذيه، قال: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله أردهما؟ فبرقت برقة، فقال لهما: الحقا بأمكما، فمكث ضوءها حتى دخلا رواه أحمد. الحديث أخرجه أيضا ابن عساكر، وفي إسناد أحمد كامل بن العلاء وفيه مقال معروف، وهو يدل على أن مثل هذا الفعل الذي وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم غير مفسد للصلاة، وفيه التصريح بأن ذلك كان في الفريضة، وقد تقدم الكلام في شرح الحديث الذي قبل هذا، وفيه جواز إدخال الصبيان المساجد، وقد أخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم وحدودكم وشراءكم وبيعكم وجمروها يوم جمعكم واجعلوا على أبوابها مطاهركم ولكن الراوي له عن معاذ مكحول وهو لم يسمع منه. وأخرج ابن ماجه من حديث واثلة بن الاسقع: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم
[ 125 ]
وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع وفي إسناده الحرث بن شهاب وهو ضعيف. وقد عارض هذين الحديثين الضعيفين حديث أمامة المتقدم وهو متفق عليه. وحديث الباب وحديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إني لاسمع بكاء الصبي وأنا في الصلاة فأخفف مخافة أن تفتتن أمه وهو متفق عليه، فيجمع بين الاحاديث بحمل الامر بالتجنيب على الندب كما قال العراقي في شرح الترمذي، أو بأنها تنزه المساجد عمن لا يؤمن حدثه فيها. وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعلي مرط وعليه بعضه رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا النسائي، واتفق على نحوه الشيخان من حديث ميمونة. قوله: مرط بكسر الميم وهو كساء من صوف أو خز أو كتان. وقيل: لا يسمى مرطا إلا الاخضر. وفي الصحيح: في مرط من شعر أسود والمرط يكون إزارا ويكون رداء، قاله ابن رسلان. (وفيه دليل) على أن وقوف المرأة بجنب المصلي لا يبطل صلاته وهو مذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: إنها تبطل والحديث يرد عليه. وفيه أن ثياب الحائض طاهرة إلا موضعا يرى فيه أثر الدم أو النجاسة. وفيه جواز الصلاة بحضرة الحائض وجواز الصلاة في ثوب بعضه على المصلي وبعضه عليها. وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلي في شعرنا رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. ولفظه: لا يصلي في لحف نسائه. الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه كلهم من طريق محمد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة، قال أبو داود في سننه: قال حماد يعني ابن زيد: سمعت سعيد بن أبي صدقة قال: سألت محمدا يعني ابن سيرين عنه فلم يحدثني وقال: سمعته منذ زمان ولا أدري ممن سمعته من ثبت أم لا، فاسألوا عنه. قال ابن عبد البر في هذا المعنى: قول من حفظ عنه حجة على من سأله في حال نسيانه أو في حال تغير، فكره من أمر طرأ له من غضب أو غيره، ففي مثل هذا العالم لا يسأل. وقوله: فاسألوا عنه غيري لا يقدح في الرواية المتقدمة فإنه محمول على أنه أمر بسؤال غيره لتقوية الحجة. قوله: في شعرنا
[ 126 ]
بضم الشين والعين المهملة جمع شعار على وزن كتب وكتاب وهو الثوب الذي يلي الجسد، وخصتها بالذكر لانها أقرب إلى أن تنالها النجاسة من الدثار وهو الثوب الذي يكون فوق الشعار، قال ابن الاثير: المراد بالشعار هنا الازار الذي كانوا يتغطون به عند النوم وفي رواية أبي داود: في شعرنا أو لحفنا شك من الراوي، واللحاف اسم لما يلتحف به. (والحديث) يدل على مشروعية تجنب ثياب النساء التي هي مظنة لوقوع النجاسة فيها، وكذلك سائر الثياب التي تكون كذلك. وفيه أيضا أن الاحتياط والاخذ باليقين جائز غير مستنكر في الشرع، وأن ترك المشكوك فيه إلى المتيقن المعلوم جائز وليس من نوع الوسواس كما قال بعضهم. وقد تقدم في الباب الاول أنه كان يصلي في الثوب الذي يجامع فيه أهله ما لم ير فيه أذى، وأنه قال لمن سأله هل يصلي في الثوب الذي يأتي فيه أهله: نعم إلا أن يرى فيه شيئا فيغسله، وذكرنا هنالك أنه من باب الاخذ بالمئنة لعدم وجوب العمل بالمظنة، وهكذا حديث صلاته في الكساء الذي لنسائه وقد تقدم، وحديث عائشة المذكور قبل هذا، وكل ذلك يدل على عدم وجوب تجنب ثياب النساء، وإنما هو مندوب فقط عملا بالاحتياط كما يدل عليه حديث الباب، وبهذا يجمع بين الاحاديث. [ رح (205) ] باب من صلى على مركوب نجس أو قد أصابته نجاسة عن ابن عمر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. وعن أنس: أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على حمار وهو راكب إلى خيبر والقبلة خلفه رواه النسائي. أما حديث ابن عمر فرواه عمرو بن يحيى المازني عن أبي الحباب سعيد بن يسار عن عبد الله بن عمر بلفظ الكتاب. قال النسائي: عمرو بن يحيى لا يتابع على قوله على حمار وربما قال على راحلته وقال الدارقطني وغيره: غلط عمرو بن يحيى بذكر الحمار والمعروف على راحلته وعلى البعير، وقد أخرجه مسلم في الصحيح من طريق عمرو بن يحيى بلفظ: على حمار قال النووي: وفي الحكم بتغليط عمرو بن يحيى نظر لانه ثقة نقل شيئا محتملا، فلعله كان الحمار مرة والبعير مرات، ولكنه يقال إنه شاذ، فإنه مخالف رواية الجمهور في البعير والراحلة، والشاذ مردود وهو المخالف للجماعة والله أعلم انتهى.
[ 127 ]
وأما حديث أنس فإسناده في سنن النسائي، هكذا أخبرنا محمد بن منصور قال: حدثنا إسماعيل بن عمر قال: حدثنا داود بن قيس عن محمد بن عجلان عن يحيى بن سعيد عن أنس فذكره، وهؤلاء كلهم ثقات. قال النسائي: الصواب موقوف انتهى. وقد خرجه مسلم والامام مالك في الموطأ من فعل أنس. ولفظ مسلم: حدثنا أنس بن سيرين قال: تلقينا أنس بن مالك حين قدم الشام فلقيناه بعين التمر فرأيته يصلي على حمار. قال القاضي عياض: قيل إنه وهم وصوابه قدم من الشام كما جاء في صحيح البخاري، لانهم خرجوا من البصرة للقائه حين قدم من الشام. قال النووي: ورواية مسلم صحيحة، ومعناه تلقيناه في رجوعه حين قدم الشام، وإنما حذف في رجوعه للعلم به. واستدل المصنف بالحديثين على جواز الصلاة على المركوب النجس والمركوب الذي أصابته نجاسة، وهو لا يتم إلا على القول بأن الحمار نجس عين، نعم يصح الاستدلال به على جواز الصلاة على ما فيه نجاسة لان الحمار لا ينفك عن التلوث بها. (والحديثان) يدلان على جواز التطوع على الراحلة. قال النووي: وهو جائز بإجماع المسلمين، ولا يجوز عند الجمهور إلا في السفر من غير فرق بين قصيره وطويله، وقيده مالك بسفر القصر. وقال أبو يوسف وأبو سعيد الاصطخري من أصحاب الشافعي: إنه يجوز التنفل على الدابة في البلد، وسيعقد المصنف لذلك بابا في آخر أبواب القبلة. باب الصلاة على الفراء والبسط وغيرهما من المفارش عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على بساط رواه أحمد وابن ماجه. الحديث في إسناده زمعة بن صالح الحيدي، ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي، وقد أخرج له مسلم فرد حديث مقرونا بآخر، وهذا الحديث قد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف قال: حدثنا وكيع عن زمعة عن عمرو بن دينار وسلمة، قال أحدهما عن عكرمة عن ابن عباس فذكره. وفي الباب عن أنس بن مالك عند البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وصححه ابن ماجه بلفظ: كان يقول لاخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ قال: ونضح بساط لنا فصلى عليه. قوله: بساط بكسر الباء جمعه بسط بضمها وتسكين السين وضمها وهو ما يبسط أي يفرش، وأما البساط بفتح الباء فهي الارض الواسعة، قال عديل بن الفرخ العجلي:
[ 128 ]
[ شع ] ودون يد الحجاج من أن تنالني * بساط لايدي الناعجات عريض [ / شع ] (والحديث) يدل على جواز الصلاة على البسط، وقد حكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، وهو قول الاوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور الفقهاء، وقد كره ذلك جماعة من التابعين ممن بعدهم، فروى ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهما قالا: الصلاة على الطنفسة وهي البساط الذي تحته خمل محدثة. وعن جابر بن زيد أنه كان يكره الصلاة على كل شئ من الحيوان، ويستحب الصلاة على كل شئ من نبات الارض. وعن عروة بن الزبير أنه كان يكره أن يسجد على شئ دون الارض. وإلى الكراهة ذهب الهادي ومالك. ومنعت الامامية صحة السجود على ما لم يكن أصله من الارض، وكره مالك أيضا الصلاة على ما كان من نبات الارض، فدخلته صناعة أخرى كالكتان والقطن. قال ابن العربي: وإنما كرهه من جهة الزخرفة. واستدل الهادي على كراهة ما ليس من الارض بحديث: جعلت لنا الارض مسجدا وطهورا بناء على أن لفظ الارض لا يشتمل ذلك. قال في ضوء النهار: وهو وهم لان المراد بالارض في حديث التراب بدليل وطهورا، وإلا لزم مذهب أبي حنيفة في جواز التيمم بما أنبتت الارض انتهى. وأقول: بل المراد بالارض في الحديث ما هو أعم من التراب بدليل ما ثبت في الصحيح بلفظ: وتربتها طهورا وإلا لزم صحة إضافة الشئ إلى نفسه وهي باطلة بالاتفاق، ولكن الاولى أن يقال في الجواب عن الاستدلال بالحديث أن التنصيص على كون الارض مسجدا لا ينفي كون غيرها مسجدا بعد تسليم عدم صدق مسمى الارض على البسط، على أن السجود على البسط ونحوها سجود على الارض، كما يقال للراكب على السرج الموضوع على ظهر الفرس: راكب على الفرس، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى على البسط وهو لا يفعل المكروه. (فائدة) حديث أنس الذي ذكر بلفظ البسط أخرجه الائمة الستة بلفظ الحصير، قال العراقي في شرح الترمذي: فرق المصنف يعني الترمذي بين حديث أنس في الصلاة على البسط وبين حديث أنس في الصلاة على الحصير وعقد لكل منهما بابا، وقد روى ابن أبي شيبة في سننه ما يدل على أن المراد بالبساط الحصير بلفظ: فيصلي أحيانا على بساط لنا وهو حصير ننضحه بالماء قال العراقي: فتبين أن مراد أنس بالبساط الحصير، ولا شك أنه صادق على الحصير، لكونه يبسط على الارض أي يفرش انتهى.
[ 129 ]
وهذه الرواية إن صلحت لتقييد حديث أنس لم تصلح لتقييد حديث ابن عباس. وعن المغيرة بن شعبة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحصير والفروة المدبوغة رواه أحمد وأبو داود. الحديث في إسناده أبو عون محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي عن أبيه عن المغيرة، وأبو عون ثقة احتج به الشيخان، وأما أبوه فلم يرو عنه غير ابنه أبي عون. قال أبو حاتم فيه مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات في أتباع التابعين وقال: يروي المقاطيع، قال العراقي: وهذا يدل على الانقطاع بينه وبين المغيرة انتهى. ولكن صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على الحصير ثابتة من حديث أنس عند الجماعة، ومن حديث أبي سعيد وسيأتي، ومن حديث أم سلمة عند الطبراني في الكبير، ومن حديث ابن عمر عند أبي حاتم في العلل. قوله: والفروة المدبوغة الفروة هي التي تلبس وجمعها فراء كبهمة وبهام، وفي ذلك رد على من كره الصلاة على غير الارض وما خلق منها، وقد تقدم الكلام على ذلك. (ويدل الحديث) وسائر الاحاديث التي ذكرناها على أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على الحصير. وأخرج أبو يعلى الموصلي عن عائشة بسند قال العراقي رجاله ثقات: أنها سئلت: أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحصير؟ قالت: لم يكن يصلي عليه وكيفية الجمع بين حديثها هذا وسائر الاحاديث أنها إنما نفت علمها، ومن علم صلاته على الحصير مقدم على النافي، وأيضا فإن حديثها وإن كان رجاله ثقات فإن فيه شذوذا ونكارة كما قال العراقي. وقد ذهب إلى استحباب الصلاة على الحصير أكثر أهل العلم كما قال الترمذي قال: إلا أن قوما من أهل العلم اختاروا الصلاة على الارض استحبابا انتهى. وقد روي عن زيد بن ثابت وأبي ذر وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب ومكحول وغيرهما من التابعين استحباب الصلاة على الحصير، وصرح ابن المسيب بأنها سنة. وممن اختار مباشرة المصلى للارض من غير وقاية عبد الله بن مسعود فروى الطبراني عنه أنه كان لا يصلي ولا يسجد إلا على الارض، وعن إبراهيم النخعي أنه كان يصلي على الحصير ويسجد على الارض. وعن أبي سعيد: أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه رواه مسلم. حديث أبي سعيد أخرجه مسلم عن عمر والناقد وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن عيسى بن
[ 130 ]
يونس. ورواه أيضا مسلم وابن ماجه عن أبي كريب، زاد مسلم: وعن أبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن أبي معاوية عن الاعمش، زاد مسلم: ورأيته يصلي في ثوب واحد متوشحا به وهذه الزيادة أفردها ابن ماجه، فرواها عن أبي كريب عن عمر بن عبيد عن الاعمش، والكلام على فقه الحديث قد تقدم. وعن ميمونة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الخمرة رواه الجماعة إلا الترمذي لكنه له من رواية ابن عباس رضي الله عنه. لفظ حديث ابن عباس في سنن الترمذي: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الخمرة وقال: حسن صحيح. وفي الباب عن أم حبيبة عند الطبراني، وعن أم سلمة عند الطبراني أيضا، وعن عائشة عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير والاوسط وأحمد والبزار. وعن أم كلثوم بنت أبي سلمة بن عبد الاسد عند ابن أبي شيبة. قال الترمذي: ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أورد لها الطبراني في المعجم الكبير أحاديث من روايتها عن أم سلمة، وفي بعض طرقها عن أم كلثوم بنت عبد الله بن زمعة أن جدتها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفعت إليها مخضبا من صفر، وعن أنس عند الطبراني في الصغير والاوسط والبزار بإسناد رجاله ثقات، وعن جابر عند البزار، وعن أبي بكرة عند الطبراني بإسناد رجاله ثقات، وعن أبي هريرة عند مسلم والنسائي، وعن أم أيمن عند الطبراني بإسناد جيد، وعن أم سليم عند أحمد والطبراني وإسناده جيد. قوله: على الخمرة قال أبو عبيد: هي بضم الخاء سجادة من سعف النخل على قدر ما يسجد عليه المصلي، فإن عظم بحيث يكفي لجسده كله في صلاة أو اضطجاع فهو حصير وليس بخمرة. وقال الجوهري: الخمرة بالضم سجادة صغيرة تعمل من سعف النخل وترمل بالخيوط. وقال الخطابي: الخمرة السجادة، وكذا قال صاحب المشارق، قال: وهي على قدر ما يضع عليه الوجه والانف. وقال صاحب النهاية: هي مقدار ما يضع عليه الرجل وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خوص ونحوه من الثياب، ولا يكون خمرة إلا في هذا المقدار، وقد تقدم تفسير الخمرة بأخصر مما هنا في باب الرخصة في اجتياز الجنب من المسجد من أبواب الغسل. ومادة خمر تدل على التغطية والستر، ومنه سميت الخمر لانها تخمر العقل أي تغطيه وتستره. (والحديث) يدل على أنه لا بأس بالصلاة على السجادة، سواء كانت من الخرق أو الخوص أو غير ذلك، وسواء كانت صغيرة كالخمرة على القول بأنها لا تسمى خمرة
[ 131 ]
إلا إذا كانت صغيرة، أو كانت كبيرة كالحصير والبساط لما تقدم من صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على الحصير والبساط والفروة. وقد أخرج أحمد في مسنده من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لافلح: يا أفلح ترب وجهك أي في سجوده، قال العراقي: والجواب عنه أنه لم يأمره أن يصلي على التراب، وإنما أراد به تمكين الجبهة من الارض، وكأنه رآه يصلي ولا يمكن جبهته من الارض فأمره بذلك، لا أنه رآه يصلي على شئ يستره من الارض فأمره بنزعه انتهى. وقد ذهب إلا أنه لا بأس بالصلاة على الخمرة الجمهور، قال الترمذي وبه يقول بعض أهل العلم، وقد نسبه العراقي إلى الجمهور من غير فرق بين ثياب القطن والكتان والجلود وغيرها من الطاهرات، وقد تقدم ذكر من اختار مباشرة الارض. وعن أبي الدرداء قال: ما أبالي لو صليت على خمس طنافس رواه البخاري في تاريخه. الحديث رواه ابن أبي شيبة عنه بلفظ: ست طنافس بعضها فوق بعض وروي ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه صلى على طنفسة. وعن أبي وائل أنه صلى على طنفسة. وعن الحسن قال: لا بأس بالصلاة على الطنفسة. وعنه أنه كان يصلي على طنفسة قدماه وركبتاه عليها ويداه ووجهه على الارض. وعن إبراهيم والحسن أيضا أنهما صليا على بساط فيه تصاوير. وعن عطاء أنه صلى على بساط أبيض. وعن سعيد بن جبير أنه صلى على بساط أيضا. وعن مرة الهمداني أنه صلى على لبد، وكذا عن قيس بن عباد. (وإلى جواز الصلاة) على الطنافس ذهب جمهور العلماء والفقهاء كما تقدم في الصلاة على البسط، وخالف في ذلك من خالف في الصلاة على البسط، لان الطنافس البسط التي تحتها خمل كما تقدم. قوله: طنافس جمع طنفسة وفي ضبطها لغات كسر الطاء والفاء معا وضمهما وفتحهما معا وكسر الطاء مع فتح الفاء. باب الصلاة في النعلين والخفين عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: سألت أنسا: أكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم متفق عليه. وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم
[ 132 ]
رواه أبو داود. الحديث الاول أخرجه البخاري عن آدم عن شعبة، وعن سليمان بن حرب عن حماد ابن زيد، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عن بشر بن المغفل، وعن الربيع الزهراني عن عباد بن العوام، وأخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يزيد بن زريع، وغسان بن مضر عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد. والحديث الثاني أخرجه ابن حبان أيضا في صحيحه ولا مطعن في إسناده، وفي الباب أحاديث أربعة أخر عن أنس: الاول عند الطبراني والبيهقي قال البيهقي: لا بأس بإسناده. الثاني عند البزار بنحو حديث شداد بن أوس. والثالث عند ابن مردويه بلفظ: صلوا في نعالكم وفي إسناده عباد بن جويرية كذبه أحمد والبخاري. والرابع عند ابن مردويه وفي إسناده عيسى بن عبد الله العسقلاني وهو ضعيف يسرق الحديث. وفي الباب عن عبد الله بن مسعود عند ابن ماجه، وله حديث آخر عند الطبراني في إسناده علي بن عاصم تكلم فيه، وله حديث ثالث عند البزار والطبراني والبيهقي وفي إسناده أبو حمزة الاعور وهو غير محتج به. وعن عبد الله بن أبي حبيبة عند أحمد والبزار والطبراني، وعن عبد الله بن عمرو وعند أبي داود وابن ماجه، وعن عمرو بن حريث عند الترمذي في الشمائل والنسائي، وعن أوس الثقفي عند ابن ماجه، وعن أبي هريرة عند أبي داود، وله حديث آخر عند أحمد والبيهقي، وله حديث ثالث عند البزار والطبراني وفيه عباد بن كثير وهو لين الحديث، وقيل: متروك، وقيل: لا يحتج بحديثه، وله حديث رابع رواه ابن مردويه وفيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف، وعن عطاء الشيبي عند ابن منده في معرفة الصحابة والطبراني وابن قانع، وعن البراء عند أبي الشيخ وفي إسناده سوار بن مصعب وهو ضعيف، وعن عبد الله بن الشخير عند مسلم وله حديث آخر عند الطبراني، وعن ابن عباس عند البزار والطبراني وابن عدي وفي إسناده النضر بن عمر وهو ضعيف جدا وله حديث آخر عند الطبراني، وعن عبد الله بن عمر عند الطبراني، وعن علي بن أبي طالب عند ابن عدي في الكامل من رواية الحسين بن ضميرة عن أبيه عن جده وهو ضعيف جدا، وله حديث آخر عند أبي يعلى وابن عدي وقال: وهذا ليس له أصل وهو مما وضعه محمد بن الحجاج اللخمي، وعن فيروز الديلمي عند الطبراني وإسناده جيد، وعن مجمع بن جارية عند أحمد وفي إسناده يزيد بن عياض وهو ضعيف، وعن الهرماس بن زياد عند ابن حبان في الثقات والطبراني في معجميه الكبير والاوسط، وعن أبي بكرة عند البزار وأبي يعلى وابن عدي وفي إسناده بحر بن مرار اختلط وتغير وقد وثقه ابن معين، وعن أبي ذر عند أبي
[ 133 ]
الشيخ والبيهقي، وعن أبي سعيد أبي داود، وعن عائشة عند الطبراني بإسناد صحيح، وعن أعرابي من الصحابة لم يسم عند ابن أبي شيبة في مصنفه وأحمد في مسنده. (والحديثان يدلان) على مشروعية الصلاة في النعال، وقد اختلف نظر الصحابة والتابعين في ذلك هل هو مستحب أو مباح أو مكروه؟ فروي عن عمر بإسناد ضعيف أنه كان يكره خلع النعال ويشتد على الناس في ذلك وكذا عن ابن مسعود. وكان أبو عمرو الشيباني يضرب الناس إذا خلعوا نعالهم. وروي عن إبراهيم أنه كان يكره خلع النعال وهذا يشعر بأنه مستحب عند هؤلاء. قال العراقي في شرح الترمذي: وممن كان يفعل ذلك يعني لبس النعل في الصلاة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الاكوع وأوس الثقفي، ومن التابعين سعيد بن المسيب والقاسم وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وعطاء بن يسار وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وطاوس وشريح القاضي وأبو مجلز وأبو عمر والشيباني والاسود بن يزيد وإبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي وعلي بن الحسين وابنه أبو جعفر، وممن كان لا يصلي فيهما عبد الله بن عمر وأبو موسى الاشعري. وممن ذهب إلى الاستحباب الهادوية وإن أنكر ذلك عوامهم، قال الامام المهدي في البحر مسألة ويستحب في النعل الطاهر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا في نعالكم الخبر. وقال ابن دقيق العيد في شرح الحديث الاول من حديثي الباب: أنه لا ينبغي أن يؤخذ منه الاستحباب لان ذلك لا مدخل له في الصلاة، ثم أطال البحث وأطاب، إلا أن الحديث الثاني من حديثي الباب أقل أحواله الدلالة على الاستحباب، وكذلك سائر الاحاديث التي ذكرنا. وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما ويمكن الاستدلال لعدم الاستحباب بما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحدا ليجعلهما بين رجليه أو ليصل فيهما وهو كما قال العراقي صحيح الاسناد. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي حافيا ومنتعلا أخرجه أبو داود وابن ماجه. وروى ابن أبي شيبة بإسناده إلى أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نعليه فصلى الناس في نعالهم فخلع
[ 134 ]
نعليه فخلعوا، فلما صلى قال: من شاء أن يصلي في نعليه فليصل ومن شاء أن يخلع فليخلع قال العراقي: وهذا مرسل صحيح الاسناد، ويجمع بين أحاديث الباب بجعل حديث أبي هريرة وما بعده صارفا للاوامر المذكورة المعللة بالمخالفة لاهل الكتاب من الوجوب إلى الندب، لان التخيير والتفويض إلى المشيئة بعد تلك الاوامر لا ينافي الاستحباب كما في حديث: بين كل أذانين صلاة لمن شاء وهذا أعدل المذاهب وأقواها عندي. [ رم (208) ] باب المواضع المنهي عنها والمأذون فيها للصلاة عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: جعلت لي الارض طهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته متفق عليه. وقال ابن المنذر: ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: جعلت لي كل الارض طيبة مسجدا وطهورا رواه الخطابي بإسناده. الحديث قد تقدم الكلام على طرقه وفقهه في التيمم فلا نعيده، وهو ثابت بزيادة طيبة من رواية أنس عند ابن السراج في مسنده، قال العراقي بإسناد صحيح: وأخرجه أيضا أحمد والضياء في المختارة، وأشار إلى حديث أنس أيضا الترمذي. قال العراقي في شرح الترمذي ما لفظه: وحديث جابر أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من رواية يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعطيت خمسا فذكرها وفيه: وجعلت لي الارض طيبة طهورا ومسجدا الحديث انتهى. فعلى هذا يكون زيادة طيبة مخرجة في الصحيحين، ولكنه ذكر البخاري الحديث من طريق يزيد الفقير عن جابر في التيمم والصلاة وليس فيه هذه الزيادة، وأما مسلم فصرح بها في صحيحه في الصلاة، وهي تدل على أن المراد بالارض المذكورة في الحديث ليس هي الارض جميعها، كما تدل على ذلك زيادة لفظ كلها في حديث حذيفة عند مسلم، وكما في حديث أبي ذر وحديث أبي سعيد الآتيين، بل المراد الارض الطاهرة المباحة، لان المتنجسة ليست بطيبة لغة، والمغصوبة ليست بطيبة شرعا، نعم من قال: إن التأكيد ينفي المجاز قال: المراد بالارض المؤكدة بلفظ كل جميعها، وجعل هذه الزيادة معارضة لاصل الحديث لانها وقعت منافية له، والزيادة إنما تقبل مع عدم منافاة الاصل فيصار حينئذ إلى
[ 135 ]
التعارض، وقد حكى بعضهم في التأكيد بكل خلافا هل يرفع المجاز أو يضعفه؟ والظاهر عدم الرفع لما في الصحيح من حديث عائشة: كان يصوم شعبان كله كان يصوم نصفه إلا قليلا والقول بأنه يرفع المجاز يستلزم عدم صحة وقوع الاستثناء بعد المؤكد كما صرح بذلك القائلون به، وللمقام بحث ليس هذا موضعه. ومما يدل على عدم الرفع الاحاديث الواردة في المنع من الصلاة في المقبرة والحمام وغيرهما وسيأتي ذكرها. وعن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: أي؟ قال: المسجد الاقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، قلت: ثم أي؟ قال: حيثما أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد متفق عليه. قوله: قال أربعون يعني في الحدوث لا في المسافة. قوله: حيثما أدركت لفظ مسلم وأينما أدركتك الصلاة فصلها فإنه مسجد. وفي لفظ له: ثم حيثما أدركتك وفي لفظ له أيضا: فحيثما أدركتك الصلاة فصل قال النووي: وفيه جواز الصلاة في جميع المواضع إلا ما استثناه الشرع من الصلاة في المقابر وغيرها من المواضع التي فيها النجاسة كالمزبلة والمجزرة، وكذا ما نهى عنه لمعنى آخر، فمن ذلك أعطان الابل، ومنه قارعة الطريق والحمام وغيرهما، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى. قوله: فكلها هو تأكيد لما فهم من قوله: حيثما أدركت وهو الارض أو أمكنتها. [ رح 612 ] وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الارض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه الخمسة إلا النسائي. الحديث أخرجه الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، قال الترمذي: وهذا حديث فيه اضطراب، رواه سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. ورواه حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد، ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال: وكان عامة روايته عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يذكر فيه عن أبي سعيد، وكأن رواية الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه أثبت وأصح انتهى. وقال الدارقطني في العلل: المرسل المحفوظ، ورجح البيهقي المرسل. وقال النووي: هو ضعيف. وقال صاحب الامام: حاصل
[ 136 ]
ما علل به الارسال، وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول. قال الحافظ: وأفحش ابن دحية فقال في كتاب التنوير له: هذا لا يصح من طريق من الطرق، كذا قال فلم يصب انتهى. (والحديث) صححه الحاكم في المستدرك وابن حزم الظاهري، وأشار ابن دقيق العيد في الامام إلى صحته. وفي الباب عن علي عند أبي داود، وعن ابن عمر عند الترمذي وابن ماجه وسيأتي، وعن عمر عند ابن ماجه، وعن أبي مرثد الغنوي عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وسيأتي، وعن جابر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمران بن الحصين ومعقل بن يسار وأنس بن مالك جميعهم عند ابن عدي في الكامل، وفي إسناد حديثهم عباد بن كثير ضعيف جدا ضعفه أحمد وابن معين، قال ابن حزم: أحاديث النهي عن الصلاة إلى القبور والصلاة في المقبرة أحاديث متواترة لا يسع أحدا تركها، قال العراقي: إن أراد بالتواتر ما يذكره الاصوليون من أنه رواه عن كل واحد من رواته جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب في الطرفين والواسطة فليس كذلك فإنها أخبار آحاد، وإن أراد بذلك وصفها بالشهرة فهو قريب، وأهل الحديث غالبا إنما يريدون بالمتواتر المشهور انتهى. وفيه أن المعتبر في التواتر هو أن يروي الحديث المتواتر جمع عن جمع، يستحيل تواطؤ كل جمع على الكذب، لا أنه يرويه جمع كذلك عن كل واحد من رواته ما لم يعتبره أهل الاصول، اللهم إلا أن يريد بكل واحد من رواته كل رتبة من رتب رواته. قوله: إلا المقبرة مثلثة الباء مفتوحة الميم وقد تكسر الميم وهي المحل الذي يدفن فيه الموتى. (والحديث) يدل على المنع من الصلاة في المقبرة والحمام، وقد اختلف الناس في ذلك، أما المقبرة فذهب أحمد إلى تحريم الصلاة في المقبرة، ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيئا يقيه من النجاسة أم لا، ولا بين أن يكون في القبور أو في مكان منفرد عنها كالبيت، وإلى ذلك ذهبت الظاهرية ولم يفرقوا بين مقابر المسلمين والكفار. قال ابن حزم: وبه يقول طوائف من السلف، فحكي عن خمسة من الصحابة النهي عن ذلك وهم: عمر وعلي وأبو هريرة وأنس وابن عباس وقال: ما نعلم لهم مخالفا من الصحابة، وحكاه عن جماعة من التابعين إبراهيم النخعي ونافع بن جبير بن مطعم وطاوس وعمرو بن دينار وخيثمة وغيرهم. وقوله: لا نعلم لهم مخالفا في الصحابة إخبار عن علمه، وإلا فقد حكى الخطابي في معالم السنن عن عبد الله بن عمر أنه رخص في الصلاة في المقبرة، وحكى أيضا عن الحسن أنه صلى في المقبرة. وقد ذهب إلى تحريم الصلاة على القبر من أهل البيت المنصور بالله
[ 137 ]
والهادوية وصرحوا بعدم صحتها إن وقعت فيها. وذهب الشافعي إلى الفرق بين المقبرة المنبوشة وغيرها فقال: إذا كانت مختلطة بلحم الموتى وصديدهم وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة، فإن صلى رجل في مكان طاهر منها أجزأته. وإلى مثل ذلك ذهب أبو طالب وأبو العباس والامام يحيى من أهل البيت، وقال الرافعي: أما المقبرة فالصلاة مكروهة فيها بكل حال. وذهب الثوري والاوزاعي وأبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة، ولم يفرقوا كما فرق الشافعي ومن معه بين المنبوشة وغيرها، وذهب مالك إلى جواز الصلاة في المقبرة وعدم الكراهة والاحاديث ترد عليه. (وقد احتج له) بعض أصحابه بما يقضى منه العجب، فاستدل له بأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قبر المسكينة السوداء، وأحاديث النهي المتواترة كما قال ذلك الامام لا تقصر عن الدلالة على التحريم الذي هو المعنى الحقيقي له، وقد تقرر في الاصول أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، فيكون الحق التحريم والبطلان، لان الفساد الذي يقتضيه النهي هو المرادف للبطلان، من غير فرق بين الصلاة على القبر وبين المقابر وكل ما صدق عليه لفظ المقبرة. وأما الحمام فذهب أحمد إلى عدم صحة الصلاة فيه ومن صلى فيه أعاد أبدا. وقال أبو ثور: لا يصلى في حمام ولا مقبرة على ظاهر الحديث وإلى ذلك ذهبت الظاهرية. وروي عن ابن عباس أنه قال: لا يصلين إلى حش ولا في حمام ولا في مقبرة، قال ابن حزم: وما نعلم لابن عباس في هذا مخالفا من الصحابة، وروينا مثل ذلك عن نافع بن جبير بن مطعم وإبراهيم النخعي وخيثمة والعلاء بن زياد عن أبيه، قال ابن حزم: ولا تحل الصلاة في حمام سواء في ذلك مبدأ بابه إلى جميع حدوده ولا على سطحه وسقف مستوقده وأعالي حيطانه خربا كان أو قائما، فإن سقط من بنائه شئ يسقط عنه اسم حمام جازت الصلاة في أرضه حينئذ انتهى. وذهب الجمهور إلى صحة الصلاة في الحمام مع الطهارة وتكون مكروهة، وتمسكوا بعمومات نحو حديث: أينما أدركت الصلاة فصل وحملوا النهي على حمام متنجس، والحق ما قاله الاولون لان أحاديث المقبرة والحمام مخصصة لذلك العموم، وحكمة المنع من الصلاة في المقبرة قيل هو ما تحت المصلى من النجاسة، وقيل لحرمة الموتى، وحكمة المنع من الصلاة في الحمام أنه يكثر فيه النجاسات، وقيل إنه مأوى الشيطان. [ رح 613 ] وعن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
[ 138 ]
الحديث يدل على منع الصلاة إلى القبور، وقد تقدم الكلام في ذلك وعلى منع ال جلوس عليها، وظاهر النهي التحريم. وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: لان يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر أخيه وروي عن مالك أنه لا يكره القعود عليها ونحوه قال: إنما النهي عن القعود لقضاء الحاجة. وفي الموطأ عن علي أنه كان يتوسد القبور ويضطجع عليها. وفي البخاري أن يزيد بن ثابت أخا يزيد بن ثابت كان يجلس على القبور وقال: إنما كره ذلك لمن أحدث عليها، وفيه عن ابن عمر أنه كان يجلس على القبور، وقد صحت الاحاديث القاضية بالمنع، ولا حجة في قول أحد لا سيما إذا كان معارضا للثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه، وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث جابر بلفظ: نهى أن يجصص القبر ويبنى عليه وأن يكتب عليه وأن يوطأ وهو في صحيح مسلم بدون الكتابة. وقال الحاكم: الكتابة على شرط مسلم، والجلوس لا يكون غالبا إلا مع الوطئ. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا رواه الجماعة إلا ابن ماجه. قوله: من صلاتكم قال القرطبي: من للتبعيض والمراد النوافل بدليل ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته وقد حكى القاضي عياض عن بعضهم أن معناه: اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن. قال الحافظ: وهذا وإن كان محتملا لكن الاول هو الراجح، وقد بالغ الشيخ محيي الدين فقال: لا يجوز حمله على الفريضة. قوله: ولا تتخذوها قبورا لان القبور ليست بمحل للعبادة، وقد استنبط البخاري من هذا الحديث كراهية الصلاة في المقابر، ونازعه الاسماعيلي فقال: الحديث دال على كراهة الصلاة في القبر لا في المقابر، وتعقب بأن الحديث قد ورد بلفظ المقابر كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: ولا تجعلوا بيوتكم مقابر وقال ابن التين: تأوله البخاري على كراهة الصلاة في المقابر، وتأوله جماعة على أنه إنما فيه الندب إلى الصلاة في البيوت إذ الموتى لا يصلون في بيوتهم وهي القبور، قال: فأما جواز الصلاة في المقابر أو المنع منه فليس في الحديث ما يؤخذ منه ذلك. قال الحافظ: إن أراد لا يؤخذ بطريق المنطوق فمسلم، وإن أراد نفي ذلك مطلقا فلا. وقيل: يحتمل أن المراد لا تجعلوا
[ 139 ]
البيوت وطن النوم فقط لا تصلون فيها فإن النوم أخو الموت والميت لا يصلي. وقيل: يحتمل أن يكون المراد أن من لم يصل في بيته جعل نفسه كالميت وبيته كالقبر. ويؤيد ما رواه مسلم: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت قال الخطابي: وأما من تأوله على النهي عن دفن الموتى في البيوت فليس بشئ، فقد دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته، وتعقبه الكرماني بأن قال: لعل ذلك من خصائصه. وقد روي أن الانبياء يدفنون حيث يموتون، كما روى ذلك ابن ماجه بإسناد فيه حسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف وله طريق أخرى مرسلة. قال الحافظ: فإذا حمل دفنه في بيته على الاختصاص لم يبعد نهي غيره عن ذلك بل هو متجه، لان استمرار الدفن في البيوت ربما صيرها مقابر فتصير الصلاة فيها مكروهة. ولفظ أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث الباب وهو. قوله: لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقا انتهى. وكأن البخاري أشار بترجمة الباب بقوله: باب كراهة الصلاة في المقابر إلى حديث أبي سعيد المتقدم لما لم يكن على شرطه. وعن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك رواه مسلم. الحديث أخرجه النسائي أيضا. وفي الباب عن عائشة عند الشيخين والنسائي، وعن أبي هريرة عند الشيخين وأبي داود والنسائي، وعن ابن عباس عند أبي داود والترمذي وحسنه، وله حديث آخر عند الشيخين والنسائي، وعن أسامة بن زيد عند أحمد والطبراني بإسناد جيد، وعن زيد بن ثابت عند الطبراني بإسناد جيد أيضا، وعن ابن مسعود عند الطبراني بإسناد جيد أيضا، وعن أبي عبيدة بن الجراح عند البزار، وعن علي عند البزار أيضا، وعن أبي سعيد عند البزار أيضا، وفي إسناده عمر بن صهبان وهو ضعيف، وعن جابر عند ابن عدي. (والحديث) يدل على تحريم اتخاذ قبور الانبياء والصلحاء مساجد، قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به وربما أدى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الامم الخالية، ولما احتاجت الصحابة رضي الله عنهم والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات
[ 140 ]
المؤمنين فيه. وفيها حجرة عائشة مدفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين حرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر. وقد روي أن النهي عن اتخاذ القبور مساجد كان في مرض موته قبل اليوم الذي مات فيه بخمسة أيام، وقد حمل بعضهم الوعيد على من كان في ذلك الزمان لقرب العهد بعبادة الاوثان وهو تقييد بلا دليل، لان التعظيم والافتتان لا يختصان بزمان دون زمان. وقد يؤخذ من. قوله: كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد في حديث الباب، وكذلك قوله في حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي بلفظ: والمتخذين عليها المساجد أن محل الذم على ذلك أن تتخذ المساجد على القبور بعد الدفن لا لو بني المسجد أولا وجعل القبر في جانبه ليدفن فيه واقف المسجد أو غيره فليس بداخل في ذلك. قال العراقي: والظاهر أنه لا فرق، وأنه إذا بني المسجد لقصد أن يدفن في بعضه أحد فهو داخل في اللعنة بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدا والله أعلم انتهى. واستنبط البيضاوي من علة التعظيم جواز اتخاذ القبور في جوار الصلحاء لقصد التبرك دون التعظيم، ورد بأن قصد التبرك تعظيم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الابل رواه أحمد والترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه، وفي الباب عن جابر بن سمرة عند مسلم، وعن البراء عند أبي داود، وعن سبرة بن معبد عند ابن ماجه، وعن عبد الله بن مغفل عند ابن ماجه أيضا والنسائي، وعن ابن عمر عند ابن ماجه أيضا، وعن أنس عند الشيخين، وعن أسيد بن حضير عند الطبراني، وعن سليك الغطفاني عند الطبراني أيضا وفي إسناده جابر الجعفي ضعفه الجمهور ووثقه شعبة وسفيان، وعن طلحة بن عبد الله عند أبي يعلى في مسنده، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد وفي إسناده ابن لهيعة وله حديث آخر عند الطبراني، وعن عقبة بن عامر عند الطبراني ورجال إسناده ثقات، وعن يعيش الجهني المعروف بذي الغرة عند أحمد والطبراني ورجال إسناده ثقات. قوله: في مرابض الغنم جمع مربض بفتح الميم وكسر الباء الموحدة وآخره ضاد معجمة، قال الجوهري: المرابض للغنم
[ 141 ]
كالمعاطن للابل واحدها مربض مثال مجلس، قال: وربوض الغنم والبقر والفرس مثل بروك الابل وجثوم الطير. قوله: في أعطان الابل هي جمع عطن بفتح العين والطاء المهملتين، وفي بعض الطرق معاطن وهي جمع معطن بفتح الميم وكسر الطاء، قال في النهاية: العطن مبرك الابل حول الماء. (والحديث) يدل على جواز الصلاة في مرابض الغنم وعلى تحريمها في معاطن الابل، وإليه ذهب أحمد بن حنبل فقال: لا تصح بحال، وقال: من صلى في عطن إبل أعاد أبدا، وسئل مالك عمن لا يجد إلا عطن إبل قال: لا يصلى فيه، قيل: فإن بسط عليه ثوبا؟ قال: لا. وقال ابن حزم: لا تحل في عطن إبل، وذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة وعلى التحريم مع وجودها، وهذا إنما يتم على القول بأن علة النهي هي النجاسة، وذلك متوقف على نجاسة أبوال الابل وأزبالها، وقد عرفت ما قدمنا فيه، ولو سلمنا النجاسة فيه لم يصح جعلها علة، لان العلة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها وبين مرابض الغنم، إذ لا قائل بالفرق بين أرواث كل من الجنسين وأبوالها كما قال العراقي، وأيضا قد قيل: إن حكمة النهي ما فيها من النفور، فربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطعها أو أذى يحصل له منها، أو تشوش الخاطر الملهي عن الخشوع في الصلاة، وبهذا علل النهي أصحاب الشافعي وأصحاب مالك، وعلى هذا فيفرق بين كون الابل في معاطنها وبين غيبتها عنها إذ يؤمن نفورها حينئذ، ويرشد إلى صحة هذا حديث ابن مغفل عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ: لا تصلوا في أعطان الابل فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيئتها إذا نفرت؟ وقد يحتمل أن علة النهي أن يجاء بها إلى معاطنها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها أو يستمر فيها مع شغل خاطره. وقيل: لان الراعي يبول بينها، وقيل: الحكمة في النهي كونها خلقت من الشياطين. ويدل على هذا أيضا من حديث ابن مغفل السابق، وكذا عند النسائي من حديثه، وعند أبي داود من حديث البراء، وعند ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة، إذا عرفت هذا الاختلاف في العلة تبين لك أن الحق الوقوف على مقتضى النهي وهو التحريم، كما ذهب إليه أحمد والظاهرية، وأما الامر بالصلاة في مرابض الغنم فأمر إباحة ليس للوجوب، قال العراقي: اتفاقا وإنما نبه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك لئلا يظن أن حكمها حكم الابل، أو أنه أخرج على جواب السائل حين سأله عن الامرين فأجاب في الابل بالمنع وفي الغنم بالاذن. وأما الترغيب المذكور في الاحاديث بلفظ: فإنها بركة فهو إنما ذكر لقصد تبعيدها عن حكم
[ 142 ]
الابل كما وصف أصحاب الابل بالغلظ والقسوة، ووصف أصحاب الغنم بالسكينة. (فائدة) ذكر ابن حزم أن أحاديث النهي عن الصلاة في أعطان الابل متواتر يوجب العلم. [ رح 617 ] وعنزيد بن جبيرة عند اود بن حصين عن نافع عنابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي أعطان الابل وفوق ظهر بيت الله رواه عبد بن حميد في مسنده وابن ماجه والترمذي وقال: إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه. وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله قال: وحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد. والعمري ضعفه بعض أهل الحديث من قبل حفظه. الحديث في إسناد الترمذي زيد بن جبيرة وهو ضعيف كما قال الترمذي، قال البخاري وابن معين: زيد بن جبيرة متروك، وقال أبو حاتم: لا يكتب حديثه، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال الحافظ في التلخيص: إنه ضعيف جدا. وفي إسناد ابن ماجه عبد الله بن صالح و عبد الله بن عمر العمري وهما ضعيفان، قال ابن أبي حاتم في العلل: هما جميعا يعني الحديثين واهيان، وصحح الحديث ابن السكن وإمام الحرمين، وقد تقدم الكلام في المقبرة والحمام وأعطان الابل وما فيها من الاحاديث الصحيحة. قوله: المزبلة فيها لغتان: فتح الموحدة وضمها حكاهما الجوهري، وهي المكان الذي يلقى فيه الزبل. قوله: والمجزرة بفتح الزاي المكان الذي ينحر فيه الابل وتذبح فيه البقر والغنم. قوله: وقارعة الطريق قيل: المراد به أعلى الطريق، وقيل صدره، وقيل ما برز منه. (والحديث) يدل على تحريم الصلاة في هذه المواطن، وقد اختلف في العلة في النهي، أما في المقبرة والحمام وأعطان الابل فقد تقدم الكلام في ذلك. وأما في المزبلة والمجزرة فلكونهما محلا للنجاسة فتحرم الصلاة فيهما من غير حائل اتفاقا ومع الحائل فيه خلاف. وقيل: إن العلة في المجزرة كونها مأوى الشياطين ذكر ذلك عن جماعة اطلعوا على ذلك، وأما في قارعة الطريق فلما فيها من شغل الخاطر المؤدي إلى ذهاب الخشوع الذي هو سر الصلاة. وقيل: لانها مظنة النجاسة، وقيل: لان الصلاة فيها شغل لحق المار، ولهذا قال أبو
[ 143 ]
طالب: إنها لا تصح الصلاة فيها ولو كانت واسعة، قال: لاقتضاء النهي الفساد. وقال المؤيد بالله والمنصور بالله: لا تكره في الواسعة إذ لا ضرر لان العلة عندهما الاضرار بالمار. وأما في ظهر الكعبة فلانه إذا لم يكن بين يديه سترة ثابتة تستره لم تصح صلاته لانه مصل على البيت لا إلى البيت. وذهب الشافعي إلى الصحة بشرط أن يستقبل من بنائها قدر ثلثي زراع، وعند أبي حنيفة لا يشترط ذلك، وكذا قال ابن سريج قال: لانه كمستقبل العرب لو هدم البيت والعياذ بالله. (فائدة) قال القاضي أبو بكر بن العربي: والمواضع التي لا يصلى فيها ثلاثة عشر، فذكر السبعة المذكورة في حديث الباب وزاد: الصلاة إلى المقبرة، وإلى جدار مرحاض عليه نجاسة، والكنيسة، والبيعة، وإلى التماثيل، وفي دار العذاب، وزاد العراقي: الصلاة في الدار المغصوبة، والصلاة إلى النائم والمتحدث، والصلاة في بطن الوادي، والصلاة في الارض المغصوبة، والصلاة في مسجد الضرار، والصلاة إلى التنور، فصارت تسعة عشر موضعا، ودليل المنع من الصلاة في هذه المواطن، أما السبعة الاولة فلما تقدم، وأما الصلاة إلى المقبرة فلحديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد وقد تقدم، وأما الصلاة إلى جدار مرحاض فلحديث ابن عباس في سبعة من الصحابة بلفظ: نهى عن الصلاة في المسجد تجاهه حش، أخرجه ابن عدي قال العراقي: ولم يصح إسناده، وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يصلى إلى الحش، وعن علي قال: لا يصلى تجاه حش، وعن إبراهيم كانوا يكرهون ثلاثة أشياء فذكر منها الحش، وفي كراهة استقباله خلاف بين الفقهاء. وأما الكنيسة والبيعة فروى ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس أنه كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تصاوير، وقد رويت الكراهة عن الحسن، ولم ير الشعبي وعطاء بن أبي رباح بالصلاة في الكنيسة والبيعة بأسا، ولم ير ابن سيرين بالصلاة في الكنيسة بأسا، وصلى أبو موسى الاشعري وعمر بن عبد العزيز في كنيسة، ولعل وجه الكراهة ما تقدم من اتخاذهم لقبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد لانها تصير جميع البيع والمساجد مظنة لذلك. وأما الصلاة إلى التماثيل فلحديث عائشة الصحيح أنه قال لها صلى الله عليه وآله وسلم: أزيلي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي وكان لها ستر فيه تماثيل. وأما الصلاة في دار العذاب فلما عند أبي داود من حديث علي قال: نهاني حبي أن أصلي في أرض بابل لانها ملعونة وفي إسناده ضعف. وأما إلى النائم والمتحدث فهو في حديث ابن عباس عند أبي داود
[ 144 ]
وابن ماجه وفي إسناده من لم يسم. وأما في بطن الوادي فورد في بعض طرق حديث الباب بدل المقبرة، قال الحافظ: وهي زيادة باطلة لا تعرف. وأما الصلاة في الارض المغصوبة فلما فيها من استعمال مال الغير بغير إذنه. وأما الصلاة في مسجد الضرار فقال ابن حزم: إنه لا يجزي أحدا الصلاة فيه لقصة مسجد الضرار. وقوله: لا تقم فيه أبدا فصح أنه ليس موضع صلاة. وأما الصلاة إلى التنور فكرهها محمد بن سيرين وقال: بيت نار، رواه ابن أبي شيبة في المصنف، وزاد ابن حزم فقال: لا تجوز الصلاة في مسجد يستهزأ فيه بالله أو برسوله أو شئ من الدين، أو في مكان يكفر بشئ من ذلك فيه، وزادت الهادوية كراهة الصلاة إلى المحدث والفاسق والسراج، وزاد الامام يحيى الجنب والحائض، فيكون الجميع ستة وعشرين موضعا، واستدل على كراهة الصلاة إلى المحدث بحديث ذكره الامام يحيى في الانتصار بلفظ: لا صلاة إلى محدث، لا صلاة إلى جنب، لا صلاة إلى حائض وقيل في الاستدلال على كراهة الصلاة إليه القياس على الحائض وقد ثبت أنها تقطع الصلاة، وأما الفاسق فإهانة له كالنجاسة. وأما السراج فللفرار من التشبيه بعبدة النار، والاولى عدم التخصيص بالسراج ولا بالتنور، بل إطلاق الكراهة على استقبال النار، فيكون استقبال التنور والسراج وغيرهما من أنواع النار قسما واحدا. وأما الجنب والحائض فللحديث الذي في الانتصار ولما في الحائض من قطعها للصلاة. واعلم أن القائلين بصحة الصلاة في هذه المواطن أو في أكثرهها تمسكوا في المواطن التي صحت أحاديثها بأحاديث: أينما أدركتك الصلاة فصل ونحوها وجعلوها قرينة قاضية بصحة تأويل الاحاديث القاضية بعدم الصحة، وقد عرفناك أن أحاديث النهي عن المقبرة والحمام ونحوهما خاصة، فبنى العامة عليها وتمسكوا في المواطن التي لم تصح أحاديثها بالقدح فيها لعدم التعبد بما لم يصح وكفاية البراءة الاصلية حتى يقوم دليل صحيح ينقل عنها، لا سيما بعد ورود عمومات قاضية بأن كل موطن من مواطن الارض مسجد تصح الصلاة فيه وهذا متمسك صحيح لا بد منه. قوله: أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد قيل: إن قوله من حديث الليث صفة لحديث ابن عمر بأنه من حديث الليث الذي هو أصح من حديث ابن جبيرة.
[ 145 ]
باب صلاة التطوع في الكعبة عنابن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب، فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم بين العمودين اليمانيين متفق عليه. وعن ابن عمر أنه قال لبلال: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم ركعتين بين الساريتين عن يسارك إذا دخلت ثم خرج فصلى في وجهة الكعبة ركعتين رواه أحمد والبخاري. قوله: دخل النبي (ص) البيت قال الحافظ: كان ذلك في عام الفتح كما وقع مبينا من رواية يونس بن يزيد عن نافع عند البخاري في كتاب الجهاد. قوله: هو وأسامة وبلال وعثمان، زاد مسلم من طريق أخرى: ولم يدخلها معهم أحد. ووقع عند النسائي من طريق ابن عون عن نافع ومعه الفضل بن عباس وأسامة وبلال وعثمان فزاد الفضل. ولاحمد من حديث ابن عباس: حدثني أخي الفضل وكان معه حين دخلها. قوله: فأغلقوا عليهم الباب زاد مسلم: فمكث فيها مليا. وفي رواية له: فأجافوا عليهم الباب طويلا. وفي رواية لابي عوانة: من داخل. وزاد يونس: فمكث نهارا طويلا وفي رواية فليح زمانا. قوله: فلما فتحوا في رواية: ثم خرج فابتدر الناس الدخول فسبقتهم. وفي رواية: وكنت شابا قويا فبادرت الناس فبدرتهم. وأفاد الازرقي في كتاب مكة أن خالد بن الوليد كان على الباب يذب الناس عنه. قوله: بين العمودين اليمانيين وفي رواية: بين العمودين المقدمين. قوله: فصلى في وجهة الكعبة ركعتين وفي رواية للبخاري في الصلاة أن ابن عمر قال: فذهب على أن أسأله كم صلى، وروي عنه أنه قال: نسيت أن أسأله كم صلى. وقد جمع الحافظ بين الروايتين في الفتح. (والحديثان) يدلان على مشروعية الصلاة في الكعبة لصلاته صلى الله عليه وآله وسلم فيها، وقد ادعى ابن بطال أن الحكمة في تغليق الباب لئلا يظن الناس أن ذلك سنة فيلتزمونه، قال الحافظ: وهو مع ضعفه منتقض بأنه لو أراد إخفاء ذلك ما أطلع عليه بلال ومن كان معه، وإثبات الحكم بذلك يكفي فيه نقل الواحد انتهى. فالظاهر أن التغليق ليس لما ذكره بل لمخافة أن يزدحموا عليه لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعاله ليأخذوها عنه، أو ليكون ذلك أسكن لقلبه وأجمع لخشوعه. وإنما أدخل معه عثمان لئلا يظن أنه عزل من ولاية البيت وبلالا وأسامة لملازمتهما خدمته. وقيل: فائدة ذلك
[ 146 ]
للتمكن من الصلاة في جميع جهاتها، لان الصلاة إلى جهة الباب وهو مفتوح لا تصح، وقد عارض أحاديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلم في الكعبة حديث ابن عباس عند البخاري وغيره: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر في البيت ولم يصل فيه قال الحافظ: ولا معارضة في ذلك بالنسبة إلى التكبير، لان ابن عباس أثبته ولم يتعرض له بلال، وأما الصلاة فإثبات بلال أرجح، لان بلالا كان معه يومئذ ولم يكن معه ابن عباس، وإنما استند في نفيه تارة إلى أسامة وتارة إلى أخيه الفضل، مع أنه لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة، وقد روى أحمد من طريق ابن عباس عن أخيه الفضل نفى الصلاة فيها، فيحتمل أن يكون تلقاه عن أسامة فإنه كان معه، وقد روى عنه نفي الصلاة في الكعبة أيضا مسلم من طريق ابن عباس، ووقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر عنه فتعارضت الروايات في ذلك، فتترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت وغيره ناف، ومن جهة أنه لم يختلف عنه في الاثبات واختلف على من نفى، وقال النووي وغيره: يجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو، فاشتغل بالدعاء في ناحية والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ناحية، ثم صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله، ولان بإغلاق الباب تكون الظلمة مع احتمال أنه يحجب عنه بعض الاعمدة فنفاها عملا بظنه. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته، ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أسامة قال: دخلت على رسول الله (ص) الكعبة فرأى صورا فدعا بدلو من ماء فأتيته به فضرب به الصور قال الحافظ: هذا إسناده جيد، قال القرطبي: فلعله استصحب النفي لسرعة عوده انتهى. وقد روى عمر بن شيبة في كتاب مكة عن علي بن بذيمة قال: دخل النبي (ص) الكعبة ودخل معه بلال وجلس أسامة على الباب، فلما خرج وجد أسامة قد احتبى فأخذ حبوته فحلها الحديث فلعله احتبى فاستراح فنعس فلم يشاهد صلاته، فلما سئل عنها نفاها مستصحبا للنفي لقصر زمن احتبائه، وفي كل نفي رؤيته لا ما في نفس الامر. ومنهم من جمع بين الحديثين بعد الترجيح وذلك من وجوه: الاول أن الصلاة المثبتة هي اللغوية والمنفية الشرعية. والثاني يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرتين قاله المهلب شارح البخاري. وقال ابن حبان: الاشبه عندي في الجمع أن يجعل الخبران في وقتين
[ 147 ]
فيقال لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها، لان ابن عباس نفاها وأسنده إلى أسامة، وابن عمر أثبتها وأسند إثباته إلى بلال وإلى أسامة أيضا، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض. قال الحافظ: وهذا جمع حسن، لكن تعقبه النووي بأنه لا خلاف أنه صلى الله عليه وآله وسلم دخل في يوم الفتح لا في حجة الوداع، ويشهد له ما روى الازرقي في كتاب مكة عن غير واحد من أهل العلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح وأما يوم حج فلم يدخلها، وإذا كان الامر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين، ويكون المراد بالوحدة وحدة السفر لا الدخول. باب الصلاة في السفينة عن ابن عمر قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف أصلي في السفينة؟ قال: صل فيها قائما إلا أن تخاف الغرق رواه الدارقطني والحاكم وأبو عبد الله في المستدرك على شرط الصحيحين. الحديث رواه الحاكم من طريق جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عمر وقال: على شرط مسلم، قال: وهو شاذ بمرة. (الحديث) يدل على وجوب الصلاة من قيام في السفينة، ولا يجوز القعود إلا لعذر مخافة غرق أو غيره، لان مخافة الغرق تنفي عنه الاستطاعة وقد قال الله تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (التغابن: 16) وثبت من حديث ابن عباس: إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وهي أيضا عذر أشد من المرض. وقد أخرج الدارقطني من حديث علي: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: يصلي المريض قائما إن استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الايمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الايمن صلى مستلقيا رجلاه مما يلي القبلة. وفي إسناده حسين بن زيد ضعفه ابن المديني والحسن بن الحسين العرني وهو متروك. وقال النووي: هذا حديث ضعيف، وأخرج البزار والبيهقي في المعرفة من حديث جابر مرفوعا بلفظ: صل على الارض إن استطعت وإلا فأوم إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك قال أبو حاتم: الصواب أنه موقوف ورفعه خطأ.
[ 148 ]
باب صلاة الفرض على الراحلة لعذر عن يعلى بن مرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم فحضرت الصلاة فأمر المؤذن وأقام ثم تقدم رسول الله (ص) على راحلته فصلى بهم يومئ إيماء ويجعل السجود أخفض من الركوع رواه أحمد والترمذي. الحديث أخرجه أيضا النسائي والدارقطني، وقال الترمذي: حديث غريب تفرد به عمرو بن الرياح، وثبت ذلك عن أنس من فعله، وصححه عبد الحق، وحسنه النووي، وضعفه البيهقي، وهو يدل على ما ذهب إليه البعض من صحة صلاة الفريضة على الراحلة كما تصح في السفينة بالاجماع، ويعارض هذا حديث عامر بن ربيعة الآتي، وستعرف الكلام على ذلك هنالك. وقد صحح الشافعي الصلاة المفروضة على الراحلة بالشروط التي ستأتي، وحكى النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح الاجماع على عدم جواز ترك الاستقبال في الفريضة. قال الحافظ: لكن رخص في شدة الخوف، وحكى النووي أيضا الاجماع على عدم صلاة الفريضة على الدابة قال: فلو أمكنه استقبال القبلة والقيام والركوع والسجود على دابة واقفة عليها هودج أو نحوه جازت الفريضة على الصحيح من مذهبنا، فإن كانت سائرة لم تصح على الصحيح المنصوص للشافعي. وقيل: تصح كالسفينة فإنها تصح فيها الفريضة بالاجماع ولو كان في ركب وخاف لو نزل للفريضة انقطع عنهم ولحقه الضرر، قال أصحابنا: يصلي الفريضة على الدابة بحسب الامكان ويلزمه إعادتها لانه عذر نادر انتهى. (والحديث) يدل على جواز صلاة الفريضة على الراحلة، ولا دليل يدل على اعتبار تلك الشروط إلا عمومات يصلح هذا الحديث لتخصيصها، وليس في الحديث إلا ذكر عذر المطر ونداوة الارض، فالظاهر صحة الفريضة على الراحلة في السفر لمن حصل له مثل هذا العذر وإن لم يكن في هودج إلا أن يمنع من ذلك إجماع ولا إجماع، فقد روى الترمذي في جامعه عن أحمد وإسحاق أنهما يقولان بجواز الفريضة على الراحلة إذا لم يجد موضعا يؤدي فيه الفريضة نازلا. ورواه العراقي في شرح
[ 149 ]
الترمذي عن الشافعي. قوله: والسماء من فوقهم المراد بالسماء هنا المطر، قال الشاعر: [ شع ] إذا نزل السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا [ / شع ] قال الجوهري: يقال ما زلنا نطأ في السماء حتى أتيناكم. قوله: والبلة بكسر الباء الموحدة وتشديد اللام، قال الجوهري: البلة بالكسر النداوة. قال المصنف رحمه الله: وإنما ثبتت الرخصة إذا كان الضرر بذلك بينا، فأما اليسير فلا، روى أبو سعيد الخدري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته متفق عليه انتهى. وسيأتي حديث أبي سعيد هذا بطوله في باب الاجتهاد في العشر الاواخر من كتاب الاعتكاف. واستدلال المصنف على تقييده لجواز صلاة الفريضة على الراحلة بالضرر البين بحديث أبي سعيد غير متجه، لان سجوده على الماء والطين كان في الحضر وكان معتكفا، على أنه لا نزاع أن السجود على الارض مع المطر عزيمة، فلا يكون صالحا لتقييد هذه الرخصة. وعن عامر بن ربيعة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على راحلته يسبح يومئ برأسه قبل أي وجهة توجه، ولم يكن يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة متفق عليه. وفي الباب عن جابر عند البخاري وأبي داود والترمذي وصححه، وعن أنس عند الشيخين وأبي داود والنسائي، وعن ابن عمر عند أبي داود والنسائي. وأخرجه البخاري من فعل ابن عمر. وأخرجه مسلم عنه مرفوعا بنحو ما عند أبي داود والنسائي، وعن أبي سعيد عند أحمد، وعن سعيد بن أبي وقاص عند البزار وفي إسناده ضرار بن صرد وهو ضعيف، وعن شقران عند أحمد وفي إسناده مسلم بن خالد وثقه الشافعي وابن حبان وضعفه غير واحد، ورواه أيضا الطبراني في الكبير والاوسط، وعن الهرماس عند أحمد أيضا وفي إسناده عبد الله بن واقد الحراني مختلف فيه، ورواه الطبراني أيضا، وعن أبي موسى عند أحمد أيضا وفي إسناده يونس بن الحرث، وثقه ابن معين في رواية عنه وابن حبان وابن عدي، وضعفه أحمد وغير واحد، ورواه الطبراني في الاوسط. (والحديث) يدل على جواز التطوع على الراحلة للمسافر قبل جهة مقصده وهو إجماع، كما قال النووي والعراقي والحافظ وغيرهم، وإنما الخلاف في جواز ذلك في الحضر، فجوزه أبو يوسف وأبو سعيد الاصطخري من أصحاب الشافعي وأهل الظاهر. قال ابن حزم: وقد روينا عن
[ 150 ]
وكيع عن سفيان عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يصلون على رحالهم ودوابهم حيثما توجهت، قال: وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم عموما في الحضر والسفر. قال النووي: وهو محكي عن أنس بن مالك انتهى. قال العراقي: استدل من ذهب إلى ذلك بعموم الاحاديث التي لم يصرح فيها بذكر السفر وهو ماش على قاعدتهم في أنه لا يحمل المطلق على المقيد بل يعمل بكل منهما، فأما من يحمل المطلق على المقيد وهم جمهور العلماء فحمل الروايات المطلقة على المقيدة بالسفر انتهى. وظاهر الاحاديث المقيدة بالسفر عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير، وإليه ذهب الشافعي وجمهور العلماء وذهب مالك، إلا أنه لا يجوز إلا في سفر تقصر فيه الصلاة وهو محكي عن الشافعي ولكنها حكاية غريبة، وذهب إليه الامام يحيى، ويدل لما قالوه ما في رواية رزين من حديث جابر بزيادة في سفر القصر، فإن صحت هذه الزيادة وجب حمل ما أطلقته الاحاديث عليها. وظاهر الاحاديث أن الجواز مختص بالراكب، وإليه ذهب أهل الظاهر وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل، وقال الاوزاعي والشافعي: إنه يجوز للراجل، قال المهدي في البحر: وهو قياس المذهب واستدلوا بالقياس على الراكب. وظاهر الاحاديث اختصاص ذلك بالنافلة، كما صرح في حديث الباب وغيره بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يفعل ذلك في المكتوبة، وقد تقدم الخلاف في ذلك في الحديث الذي قبل هذا، ونفى فعل ذلك في المكتوبة وإن كان ثابتا في الصحيحين وغيرهما، لكن غاية ما فيه أنه أخبرنا النافي بما علم وعدم علمه لا يستلزم العدم، فالواجب علينا العمل بخبر من أخبرنا بشرع لم يعلمه غيره، لان من علم حجة على من لا يعلم، وكثيرا ما يرجح أهل الحديث ما في الصحيحين على ما في غيرهما في مثل هذه الصورة وهو غلط أوقع في مثله الجمود، فليكن منك هذا على ذكر. قوله: يسبح أي يتنفل، والسبحة بضم السين وإسكان الباء النافلة قاله النووي، وإطلاق التسبيح على النافلة مجاز، والعلاقة الجزئية والكلية أو اللزوم، لان الصلاة المخلصة يلزمها التنزيه. باب اتخاذ متعبدات الكفار ومواضع القبور إذا نبشت مساجد عن عثمان بن أبي العاص: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يجعل مساجد الطائف حيث كان طواغيتهم رواه أبو داود وابن ماجه قال البخاري. وقال
[ 151 ]
عمر: إنا لا ندخل كنائسهم من أجل التماثيل التي فيها الصور. قال: وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها التماثيل. الحديث رجال إسناده ثقات، ومحمد بن عبد الله بن عياض الطائفي المذكور في إسناد هذا الحديث ذكره ابن حبان في الثقات، وكذلك أبو همام ثقة واسمه محمد بن محمد الدلال البصري، وعثمان بن أبي العاص المذكور هو الثقفي أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك حين استعمله على الطائف. قوله: طواغيتهم جمع طاغوت وهو بيت الصنم الذي كانوا يتعبدون فيه لله تعالى ويتقربون إليه بالاصنام على زعمهم. (والحديث) يدل على جواز جعل الكنائس والبيع وأمكنة الاصنام مساجد، وكذلك فعل كثير من الصحابة حين فتحوا البلاد، جعلوا متعبداتهم متعبدات للمسلمين وغيروا محاريبها. قوله: وقال عمر هكذا ذكره البخاري تعليقا، ووصله عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر قال: لما قدم عمر الشام صنع له رجل من النصارى طعاما وكان من عظمائهم وقال: أحب أن تجيبني وتكرمني، فقال له عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها يعني التماثيل. قوله: من أجل التماثيل هو جمع تمثال بمثناة ثم مثلثة بينهما ميم. قال الحافظ: وبينه وبين الصورة عموم وخصوص مطلق فالصورة أعم. قوله: التي فيها الصور الضمير يعود على الكنيسة، والصور بالجر بدل من التماثيل أو بيان لها، أو بالنصب على الاختصاص أو بالرفع، أي أن التماثيل مصورة والضمير على هذا للتماثيل. وفي رواية الاصيلي بزيادة الواو العاطفة. قوله: وكان ابن عباس هكذا ذكره البخاري تعليقا، ووصله البغوي في الجعديات وزاد فيه: فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر. (والاثران يدلان) على جواز دخول البيع والصلاة فيها إلا إذا كان فيها تماثيل، وقد تقدم الكلام في ذلك، والبيعة صومعة الراهب قاله في المحكم، وقيل: كنيسة النصارى. قال الحافظ: والثاني هو المعتمد وهي بكسر الباء، قال: ويدخل في حكم البيعة الكنيسة وبيت المدراس والصومعة وبيت الصنم وبيت النار ونحو ذلك. قال ابن رسلان: وفي الحديث أنه كان يصلي في البيعة وهي كنيسة أهل الكتاب. وعن قيس بن طلق بن علي عن أبيه قال: خرجنا وفدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعناه وصلينا معه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا واستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء فتوضأ وتمضمض ثم صبه في إداوة وأمرنا فقال: اخرجوا
[ 152 ]
فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم وانضحوا مكانها بهذا الماء واتخذوها مسجدا رواه النسائي. الحديث أخرج نحوه الطبراني في الكبير والاوسط، وقيس بن طلق ممن لا يحتج بحديثه، قال يحيى بن معين: لقد أكثر الناس في قيس بن طلق وأنه لا يحتج بحديثه، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: إن أباه وأبا زرعة قالا: قيس بن طلق ليس ممن تقوم به حجة ووهناه ولم يثبتاه، وضعفه أحمد ويحيى بن معين في إحدى الروايتين عنه، وفي رواية عثمان بن سعيد عنه أنه وثقه ووثقه العجلي، قال في الميزان حاكيا عن ابن القطان أنه قال: يقتضي أن يكون خبره حسنا لا صحيحا، وأما من دون قيس بن طلق فهم ثقات، فإن النسائي قال: أخبرنا هناد بن السري عن ملازم قال: حدثني عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق، وملازم هو ابن عمر ووثقه ابن معين والنسائي. وعبد الله بن بدر ثقة، وأما هناد فهو الامام الكبير المشهور. والطهور والاداوة قد تقدم ضبطهما. (والحديث) يدل على جواز اتخاذ البيع مساجد وغيرها من الكنائس ونحوها ملحق بها بالقياس كما تقدم. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملا من بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا، قالوا: لا والله ما نطلب ثمنه إلا إلى الله، فقال أنس: وكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت ثم بالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم وهو يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخره فاغفر للانصار والمهاجرة مختصر من حديث متفق عليه. قوله: ثامنوني أي اذكروا لي ثمنه لاذكر لكم الثمن الذي اختاره، قال ذلك على سبيل المساومة فكأنه قال: ساوموني في الثمن. قوله: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تقديره لا نطلب الثمن لكن الامر فيه إلى الله أو إلى بمعنى من، وكذا عند الاسماعيلي: لا نطلب ثمنه إلا من الله. وزاد ابن ماجه: أبدا وظاهر الحديث أنهم لم يأخذوا منه ثمنا، وخالف ذلك أهل السير قاله الحافظ. قوله: فكان فيه أي في الحائط الذي بني في مكانه المسجد. قوله: وفيه خرب قال ابن الجوزي: المعروف فيه فتح الخاء وكسر الراء بعدها موحدة
[ 153 ]
جمع خربة ككلم وكلمة. وحكى الخطابي كسر أوله وفتح ثانيه جمع خربة كعنب وعنبة، وللكشميهني بفتح الحاء المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة. وقد بين أبو داود أن رواية عبد الوارث بالمعجمة والموحدة، ورواية حماد بن سلمة عن أبي التياح بالمهملة والمثلثة، قال الحافظ: فعلى هذا فرواية الكشميهني وهم لان البخاري إنما أخرجه من رواية عبد الوارث. قوله: فاغفر للانصار وفي رواية في البخاري للمستملي والحموي: فاغفر الانصار بحذف اللام قال الحافظ ويوجه له بأن ضمن اغفر معنى استر. وقد رواه أبو داود عن مسدد بلفظ فانصر الانصار. (وفي الحديث) جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع، وجواز نبش القبور الدارسة إذا لم تكن محترمة، وجواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها وإخراج ما فيها، وجواز بناء المساجد في أماكنها، وجواز قطع النخل المثمرة للحاجة، قال الحافظ: وفيه نظر لاحتمال أن يكون ذلك مما لا يثمر، إما بأن يكون ذكورا، وإما أن يكون مما طرأ عليه ما قطع ثمرته، وفيه أن احتمال كونها مما لا تثمر خلاف الظاهر فلا يناقش بمثله، والاولى المناقشة باحتمال أن تكون غير مثمرة حال القطع إن أراد المستدل بالمثمرة ما كانت الثمرة موجودة فيها حال القطع. (وللحديث) فوائد ليس هذا محل بسطها، وصفة بنيان المسجد ما ثبت عند البخاري وغيره من حديث ابن عمر أنه قال: إن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج. باب فضل من بنى مسجدا عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة متفق عليه. وفي الباب عن أبي بكرة عند الطبراني في الاوسط وابن عدي في الكامل، وفي إسناد الطبراني وهب بن حفص وهو ضعيف، وفي إسناد ابن عدي الحكم بن يعلى بن عطاء وهو
[ 154 ]
منكر الحديث، وعن عمر عند ابن ماجه، وعن علي عند ابن ماجه أيضا وفيه ابن لهيعة، وعن عبد الله بن عمرو عند أحمد وفي إسناده الحجاج بن أرطأة، وعن أنس عند الترمذي وفي إسناده زياد النميري وهو ضعيف، وله طرق أخر عن أنس منها عند الطبراني ومنها عند ابن عدي وفيهما مقال، وعن ابن عباس عند أحمد والبزار في مسنديهما وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف. وعن عائشة عند البزار والطبراني في الاوسط وفيه كثير ابن عبد الرحمن ضعفه العقيلي، وله طريق أخرى عند الطبراني في الاوسط وفيها المثنى بن الصباح ضعفه الجمهور، ورواه أبو عبيد في غريبه بإسناد جيد، وعن أم حبيبة عند ابن عدي في الكامل وفيه أبو ظلال ضعيف جدا. وعن أبي ذر عند ابن حبان في صحيحه، والبزار والطبراني والبيهقي وزاد: قدر مفحص قطاة قال العراقي: وإسناده صحيح، وعن عمرو بن عبسة عند النسائي، وعن واثلة بن الاسقع عند أحمد والطبراني وابن عدي، وعن أبي هريرة عند البزار وابن عدي والطبراني وفي إسناده سليمان بن داود اليمامي وليس بشئ، ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها المثنى بن الصباح، وعن جابر عند ابن ماجه وإسناده جيد، وعن معاذ عند الحافظ الدمياطي في جزء المساجد له، وعن عبد الله بن أبي أوفى عنده أيضا، وعن ابن عمر عند البزار والطبراني وفي إسناده الحكم بن ظهير وهو متروك بزيادة: ولو كمفحص قطاة، وعن أبي موسى عند الدمياطي في جزئه المذكور، وعن أبي أمامة عند الطبراني وفيه علي بن زيد وهو ضعيف، وعن أبي قرصافة واسمه حيدرة عند الطبراني وفي إسناده جهالة، وعن نبيط بن شريط عند الطبراني، وعن عمر بن مالك عند الدمياطي في الجزء المذكور، وعن أسماء بنت يزيد عند أحمد والطبراني وابن عدي، قال يحيى بن معين: هذا ليس بشئ، وذكر أبو القاسم بن منده في كتابه المستخرج من كتب الناس للفائدة أنه رواه عن النبي (ص) رافع بن خديج، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين، وفضالة بن عبيد، وقدامة بن عبد الله العامري، ومعاوية بن حيدة، والمغيرة بن شعبة، والمقدام بن معديكرب، وأبو سعيد الخدري. قوله: من بنى لله مسجدا يدل على أن الاجر المذكور يحصل ببناء المسجد لا بجعل الارض مسجدا من غير بناء، وأنه لا يكفي في ذلك تحويطه من غير حصول مسمى البناء والتنكير في مسجد للشيوع فيدخل فيه الكبير والصغير، وعن أنس عند الترمذي مرفوعا بزيادة لفظ: كبيرا أو صغيرا ويدل لذلك رواية: كمفحص قطاة وهي مرفوعة ثابتة عند ابن أبي شيبة عن عثمان
[ 155 ]
وابن حبان، والبزار عن أبي ذر، وأبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس، والطبراني في الاوسط من حديث أنس وابن عمر، وعن أبي نعيم في الحلية عن أبي بكر، وابن خزيمة عن جابر، وحمل ذلك العلماء على المبالغة، لان المكان الذي تفحصه القطاة لتضع فيه بيضها وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة، وقيل: هي على ظاهرها، والمعنى أنه يزيد في مسجد قدرا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد فيقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر، وفي رواية للبخاري قال بكير: حسبت أنه قال يعني شيخه عاصم بن عمر بن قتادة: يبتغي به وجه الله قال الحافظ: وهذه الجملة لم يجزم بها بكير في الحديث، ولم أرها إلا من طريقه هكذا وكأنها ليست في الحديث بلفظها، فإن كل من روى الحديث من جميع الطرق إليه لفظهم: من بنى لله مسجدا فكأن بكيرا نسيها فذكرها بالمعنى مترددا في اللفظ الذي ظنه انتهى ولكنه يؤدي معنى هذه الزيادة. قوله: من بنى لله فإن الباني للرياء والسمعة والمباهاة ليس بانيا لله، وأخرج الطبراني من حديث عائشة بزيادة: لا يريد به رياء ولا سمعة. قوله: بنى الله له مثله وقد اختلف في معنى المماثلة، فقال ابن العربي: مثله في القدر والمساحة، ويرده زيادة بيتا أوسع منه عند أحمد والطبراني من حديث ابن عمر. وروى أحمد أيضا من طريق واثلة بن الاسقع بلفظ: أفضل منه وقيل مثله في الجودة والحصانة وطول البقاء، ويرده أن بناء الجنة لا يخرب بخلاف بناء المسجد فلا مماثلة. وقال صاحب المفهم: هذه المثلية ليست على ظاهرها وإنما يعني أنه يبنى له بثوابه بيتا أشرف وأعظم وأرفع. وقال النووي: يحتمل أن يكون مثله معناه بنى الله له مثله في مسمى البيت، وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها، فإنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويحتمل أن يكون معناه أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا انتهى. قال الحافظ: لفظ المثل له استعمالان: أحدهما الافراد مطلقا كقوله تعالى: * (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا) * (المؤمنون: 47) والآخر المطابقة كقوله تعالى: * (أمم أمثالكم) * (الانعام: 38) فعلى الاول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة، فيحصل جواب من استشكل تقييده بقوله مثله مع أن الحسنة بعشر أمثالها، لاحتمال أن يكون المراد بنى الله له عشرة أبنية مثله. وأما من أجاب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك قبل نزول قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (الانعام: 160) ففيه بعد. وكذا من أجاب بأن التقييد بالواحد لا ينفي الزيادة قال: ومن الاجوبة المرضية أن المثلية هنا بحسب الكمية، والزيادة حاصلة بحسب الكيفية، فكم من بيت خير من
[ 156 ]
عشرة بل من مائة، وهذا الذي ارتضاه هو الاحتمال الاول الذي ذكره النووي. وقيل: إن المثلية هي أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء لا من غيره مع قطع النظر عن غير ذلك، مع أن التفاوت حاصل قطعا بالنسبة إلى ضيق الدنيا وسعة الجنة. قال في المفهم: هذا البيت والله أعلم مثل بيت خديجة الذي قال فيه إنه من قصب، يريد أنه من قصب الزمرد والياقوت انتهى. وعنابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتا في الجنة رواه أحمد. الكلام على الحديث تخريجا وتفسيرا قد قدمناه في شرح الذي قبله. باب الاقتصاد في بناء المساجد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أمرت بتشييد المساجد قال ابن عباس: لتزخرفها كما زخرفت اليهود والنصارى. أخرجه أبو داود. الحديث صححه ابن حبان ورجاله رجال الصحيح، لان أبا داود رواه عن سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري عن أبي فزارة وهو راشد بن كيسان الكوفي، وقد أخرج له مسلم عن يزيد بن الاصم هو العامري التابعي، أخرج له مسلم أيضا عن ابن عباس، وقد أخرج البخاري في صحيحه قول ابن عباس المذكور تعليقا، وإنما لم يذكر البخاري المرفوع للاختلاف على يزيد بن الاصم في وصله وإرساله قاله الحافظ. قوله: ما أمرت بضم الهمزة وكسر الميم مبني للمفعول. قوله: بتشييد المساجد قال البغوي في شرح السنة: التشييد رفع البناء وتطويله ومنه قوله تعالى: * (بروج مشيدة) * (النساء: 78) وهي التي طول بناؤها، يقال: شدت الشئ أشيده مثل بعته أبيعه إذا بنيته بالشيد وهو الجص، وشيدته تشييدا طولته ورفعته. وقيل: المراد بالبروج المشيدة المجصصة، قال ابن رسلان: والمشهور في الحديث أن المراد بتشييد المساجد هنا رفع البناء وتطويله كما قال البغوي، وفيه رد على من حمل قوله تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفع) * (النور: 36) على رفع بنائها وهو الحقيقة، بل المراد أن تعظم فلا يذكر فيها الخنى من الاقوال وتطييبها من الادناس والانجاس ولا ترفع فيها الاصوات انتهى. قوله: قال ابن عباس هكذا رواه ابن حبان موقوفا، وقبله حديث ابن عباس أيضا مرفوعا، وظن
[ 157 ]
الطيبي في شرح المشكاة أنهما حديث واحد، فشرحه على أن اللام في لتزخرفنها مكسورة، قال: وهي لام التعليل للمنفي قبله، والمعنى: ما أمرت بالتشييد ليجعل ذريعة إلى الزخرفة، قال: والنون فيه لمجرد التأكيد وفيه نوع تأنيب وتوبيخ، ثم قال: ويجوز فتح اللام على أنها جواب القسم. قال الحافظ: وهذا يعني فتح اللام هو المعتمد، والاول لم تثبت به الرواية أصلا فلا يغتر به. وكلام ابن عباس فيه مفصول من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب المشهورة وغيرها انتهى. والزخرفة الزينة، قال محيي السنة: إنهم زخرفوا المساجد عندما بدلوا دينهم وحرفوا كتبهم، وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم، وسيصير أمركم إلى المراءاة بالمساجد والمباهاة بتشييدها وتزيينها، قال أبو الدرداء: إذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مساجدكم فالدمار عليكم. قال ابن رسلان: وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة لاخباره صلى الله عليه وآله وسلم عما سيقع بعده، فإن تزويق المساجد والمباهاة بزخرفتها كثر من الملوك والامراء في هذا الزمان بالقاهرة والشام وبيت المقدس، بأخذهم أموال الناس ظلما وعمارتهم بها المدارس على شكل بديع، نسأل الله السلامة والعافية انتهى. (والحديث) يدل على أن تشييد المساجد بدعة، وقد روي عن أبي حنيفة الترخيص في ذلك. وروي عن أبي طالب أنه لا كراهة في تزيين المحراب. وقال المنصور بالله: انه يجوز في جميع المسجد. وقال البدر بن المنير: لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونا لها عن الاستهانة، وتعقب بأن المنع إن كان للحث على اتباع السلف في ترك الرفاهية فهو كما قال، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة فلا لبقاء العلة. ومن جملة ما عول عليه المجوزون للتزيين بأن السلف لم يحصل منهم الانكار على من فعل ذلك، وبأنه بدعة مستحسنة، وبأنه مرغب إلى المسجد، وهذه حجج لا يعول عليها من له حظ من التوفيق، لا سيما مع مقابلتها للاحاديث الدالة على أن التزيين ليس من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه نوع من المباهاة المحرمة، وأنه من علامات الساعة كما روي عن علي عليه السلام. وأنه من صنع اليهود والنصارى، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يحب مخالفتهم ويرشد إليها عموما وخصوصا. ودعوى ترك إنكار السلف ممنوعة لان التزيين بدعة أحدثها أهل الدول الجائرة من غير مؤاذنة لاهل العلم والفضل، وأحدثوا من البدع ما لا يأتي عليه الحصر ولا ينكره أحد، وسكت العلماء عنهم تقية لا رضا، بل قام في وجه باطلهم جماعة من علماء الآخرة، وصرخوا بين أظهرهم بنعي ذلك عليهم
[ 158 ]
ودعوى أنه بدعة مستحسنة باطلة، وقد عرفناك وجه بطلانها في شرح حديث: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد في باب الصلاة في ثوب الحرير والغصب ودعوى أنه مرغب إلى المسجد فاسدة، لان كونه داعيا إلى المسجد ومرغبا إليه، لا يكون إلا لمن كان غرضه وغاية قصده النظر إلى تلك النقوش والزخرفة، فأما من كان غرضه قصد المساجد لعبادة الله التي لا تكون عبادة على الحقيقة إلا مع خشوع، وإلا كانت كجسم بلا روح، فليست إلا شاغلة عن ذلك، كما فعله صلى الله عليه وآله وسلم في الانبجانية التي بعث بها إلى أبي جهم. وكما تقدم من هتكه للستور التي فيها نقوش. وكما سيأتي في باب تنزيه قبلة المصلي عما يلهي، وتقويم البدع المعوجة التي يحدثها الملوك، توقع أهل العلم في المسالك الضيقة فيتكلفون لذلك من الحجج الواهية ما لا ينفق إلا على بهيمة. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد رواه الخمسة إلا الترمذي. وقال البخاري: قال أبو سعيد: كان سقف المسجد من جريدة النخل، وأمر عمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. الحديث صححه ابن خزيمة، وأورده البخاري عن أنس تعليقا بلفظ: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا ووصله أبو يعلى الموصلي في مسنده. وروى الحديث أبو نعيم في كتاب المساجد من الوجه الذي عند ابن خزيمة بلفظ: يتباهون بكثرة المساجد. قوله: حتى يتباهى الناس في المساجد أي يتفاخرون في بناء المساجد، والمباهاة بها كما في رواية البخاري أن يتفاخروا بها بالنقش والكثرة. وروي في شرح السنة بسنده عن أبي قلابة قال: غدونا مع أنس بن مالك إلى الزاوية فحضرت صلاة الصبح فمررنا بمسجد فقال أنس: أي مسجد هذا؟ قالوا: مسجد أحدث الآن، فقال أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: سيأتي على الناس زمان يتباهون في المساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا. قوله: وقال أكن الناس قال الحافظ: وقع في روايتنا أكن الناس بضم الهمزة وكسر الكاف وتشديد النون المضمومة بلفظ المضارع من أكن الرباعي، يقال: أكننت الشئ اكنانا أي صنته وسترته، وحكى أبو زيد: كننته من الثلاثي بمعنى أكننته، وفرق الكسائي بينهما فقال: كننته أي سترته، وأكننته في نفسي أي أسررته. ووقع في رواية الاصيلي أكن بفتح الهمزة والنون فعل أمر من الاكنان أيضا، ويرجحه قوله قبله: وأمر عمر، وقوله بعده: وإياك، وتوجه الاولى بأنه خاطب القوم بما أراد، ثم التفت إلى الصانع فقال له:
[ 159 ]
وإياك. أو يحمل قوله وإياك على التجريد كأنه خاطب نفسه بذلك، قال عياض: وفي رواية غير الاصيلي كن الناس بحذف الهمزة وكسر الكاف وهو صحيح أيضا، وجوز ابن مالك ضم الكاف على أنه من كن فهو مكنون انتهى. قال الحافظ وهو متجه: لكن الرواية لا تساعده. قوله: فتفتن الناس بفتح المثناة من فتن، وضبطه الاصيلي بالضم من افتن، وذكر أن الاصمعي أنكره، وأن أبا عبيدة أجازه فقال: فتن وأفتن بمعنى قال ابن بطال: كأن عمر فهم من ذلك رد الشارع الخميصة إلى أبي جهم من أجل الاعلام التي فيها وقال: إنها ألهتني عن صلاتي. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك علم خاص بهذه المسألة، فقد روى ابن ماجه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر مرفوعا: ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم ورجاله ثقات إلا شيخ جبارة بن المغلس ففيه مقال. باب كنس المساجد وتطييبها وصيانتها من الروائح الكريهة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها رواه أبو داود. الحديث أخرجه أيضا الترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال: وذاكرت به محمد بن إسماعيل يعني البخاري فلم يعرفه واستغربه، قال محمد: ولا أعرف للمطلب بن عبد الله يعني الراوي له عن أنس سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي (ص). وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس وفي إسناده عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد الازدي وثقه يحيى بن معين وتكلم فيه غير واحد. قال الحافظ في بلوغ المرام: وصححه ابن خزيمة. قوله: القذاة بتخفيف الذال المعجمة والقصر الواحدة من التبن والتراب وغير ذلك. قال أهل اللغة: القذى في العين والشراب مما يسقط فيه، ثم استعمل في كل شئ يقع في البيت وغيره إذا كان يسيرا. قال ابن رسلان في شرح السنن: فيه ترغيب في تنظيف المساجد مما يحصل فيها من القمامات القليلة أنها تكتب في أجورهم وتعرض على نبيهم، وإذا كتب هذا القليل وعرض فيكتب الكبير ويعرض من باب الاولى،
[ 160 ]
ففيه تنبيه بالادنى على الاعلى، وبالطاهر عن النجس، والحسنات على قدر الاعمال. قال: وسمعت من بعض المشايخ أنه ينبغي لمن أخرج قذاة من المسجد أو أذى من طريق المسلمين أن يقول عند أخذها: لا إله إلا الله ليجمع بين أدنى شعب الايمان وأعلاها وهي كلمة التوحيد، وبين الافعال والاقوال، وإن اجتمع القلب مع اللسان كان ذلك أكمل انتهى. إلا أنه لا يخفى أن الاحكام الشرعية تحتاج إلى دليل، وقوله ينبغي حكم شرعي. قوله: فلم أر ذنبا أعظم قال شارح المصابيح: أي من سائر الذنوب الصغائر، لان نسيان القرآن من الحفظ ليس بذنب كبير إن لم يكن من استخفافه وقلة تعظيمه للقرآن، وإنما قال صلى الله عليه وآله وسلم هذا التشديد العظيم تحريضا منه على مراعاة حفظ القرآن انتهى. والتقييد بالصغائر يحتاج إلى دليل. وقيل: المراد بقوله نسيها ترك العمل بها. ومنه قوله تعالى: * (نسوا الله فنسيهم) * (الحشر: 19) وهو مجاز لا يصار إليه إلا لموجب. وعن عائشة قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب رواه الخمسة إلا النسائي. وعن سمرة بن جندب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتخذ المساجد في ديارنا وأمرنا أن ننظفها رواه أحمد والترمذي وصححه، ورواه أبو داود ولفظه: كان يأمرنا بالمساجد أن نصنعها في ديارنا ونصلح صنعتها ونطهرها. الحديث الاول أخرجه الترمذي مسندا ومرسلا. وقال: المرسل أصح، ولكنه رواه غير مسند بإسناد رجاله ثقات، فرواه أبو داود عن حسين بن علي بن الاسود العجلي، قال أبو حاتم: صدوق عن زائدة بن قدامة أو ابن بسيط وهما ثقتان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا، والحديث الثاني رواه أحمد بإسناد صحيح. وكذا رواه غيره بأسانيد جيدة. قوله: في الدور قال البغوي في شرح السنة: يريد المحال التي فيها الدور، ومنه قوله تعالى: * (سأريكم دار الفاسقين) * (الاعراف: 145) لانهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة دارا، ومنه الحديث: ما بقيت دار إلا بني فيها مسجد قال سفيان: بناء المساجد في الدور يعني القبائل أي من العرب يتصل بعضها ببعض وهم بنو أب واحد، يبنى لكل قبيلة مسجد، هذا ظاهر معنى تفسير سفيان الدور. قال أهل اللغة: الاصل في إطلاق الدور على المواضع، وقد تطلق على القبائل مجازا. قال بعض المحدثين: والبساتين في معنى الدور، وعلى هذا فيستحب بناء المسجد من حجر أو لبن أو مدر أو خشب وغير ذلك، في كل محلة يحلها المقيمون
[ 161 ]
بها وكل بساتين مجتمعة. وقال في شرح المشكاة: الدور المذكورة في الحديث جمع دار وهو اسم جامع للبناء والعرصة والمحلة، والمراد المحلات فإنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة دارا، أو محمول على اتخاذ بيت للصلاة كالمسجد يصلي فيه أهل البيت، قاله ابن عبد الملك. والاول هو المعول عليه انتهى. وقال شارح المصابيح: يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن أن يبني الرجل في داره مسجدا يصلي فيه أهل بيته اه. فعلى تفسير الدار بالمحلة المساجد المذكورة في الحديث جمع مسجد بكسر الجيم، وعلى تفسيرها بدار الرجل المساجد جمع مسجد بفتح الجيم، وقد نقل عن سيبويه ما يؤدي هذا المعنى. قوله: وأن تنظف بالظاء المشا ة لا بالضاد فإنه تصحيف، ومعناه تطهر كما في رواية ابن ماجه، والمراد تنظيفها من الوسخ والدنس. قوله: وتطيب قال ابن رسلان: بطيب الرجال وهو ما خفي لونه وظهر ريحه، فإن اللون ربما شغل بصر المصلي، والاولى في تطييب المسجد مواضع المصلين ومواضع سجودهم أولى، ويجوز أن يحمل التطييب على التجمير في المسجد، والظاهر أن الامر ببناء المسجد للندب لحديث: جعلت لنا الارض مسجدا. وحديث: أينما أدركت الصلاة فصل. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم متفق عليه. قال النووي بعد أن ذكر حديث مسلم بلفظ: فلا يقربن المساجد هذا تصريح بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد، وهذا مذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء أن النهي خاص بمسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله في رواية: مسجدنا وحجة الجمهور فلا يقربن المساجد. قال ابن دقيق العيد: ويكون مسجدنا للجنس أو لضرب المثال، فإنه معلل إما بتأذي الآدميين أو بتأذي الملائكة الحاضرين، وذلك قد يوجد في المساجد كلها، ثم إن النهي إنما هو عن حضور المسجد لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، فهذه البقول حلال بإجماع من يعتد به. وحكى القاضي عياض عن أهل الظاهر تحريمها لانها تمنع عن حضور الجماعة وهي عندهم فرض عين. (وحجة الجمهور) قوله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث الباب: كل فإني أناجي من لا تناجي. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها أخرجه مسلم وغيره. قال العلماء: ويلحق بالثوم والبصل
[ 162 ]
والكراث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها. قال القاضي عياض: ويلحق به من أكل فجلا وكان يتجشأ. قال: قال ابن المرابط: ويلحق به من به بخر في فيه أو به جرح له رائحة، قال القاضي: وقاس العلماء على هذا مجامع الصلاة غير المسجد، كمصلى العيد والجنائز ونحوهما من مجامع العبادات، وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها، ولا يلحق بها الاسواق ونحوها انتهى. وفيه أن العلة إن كانت هي التأذي فلا وجه لاخراج الاسواق، وإن كانت مركبة من التأذي وكونه حاصلا للمشتغلين بطاعة صح ذلك، ولكن العلة المذكورة في الحديث هي تأذي الملائكة، فينبغي الاقتصار على إلحاق المواطن التي تحضرها الملائكة. وقد ورد في حديث عند مسلم بلفظ: لا يؤذينا بريح الثوم وهي تقتضي التعليل بتأذي بني آدم. قال ابن دقيق العيد: والظاهر أن كل واحد منهما علة مستقلة انتهى. وعلى هذا الاسواق كغيرها من مجامع العبادات. (وقد استدل) بالحديث على عدم وجوب الجماعة، قال ابن دقيق العيد: وتقريره أن يقال كل هذه الامور جائزة بما ذكرنا، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة في حق آكلها، ولازم الجائز جائز، فترك الجماعة في حق آكلها جائز وذلك ينافي الوجوب. وأهل الظاهر القائلون بتحريم أكل ما له رائحة كريهة يقولون: إن صلاة الجماعة واجبة على الاعيان ولا تتم إلا بترك أكل الثوم، لهذا الحديث قوما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فترك أكل ذلك واجب. قوله: فإن الملائكة تتأذى قال النووي: وهو بتشديد الذال، ووقع في أكثر الاصول بالتخفيف وهي لغة، يقال: أذى تأذى مثل عمى يعمى. قال قال العلماء: وفي هذا الحديث دليل على منع من أكل الثوم من دخول المسجد وإن كان خاليا لانه محل الملائكة ولعموم الاحاديث. باب ما يقول إذا دخل المسجد وإذا خرج منه عن أبي حميد وأبي أسيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لنا أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك رواه أحمد والنسائي، وكذا مسلم وأبو داود. وقال عن أبي حميد أو أبي أسيد بالشك. وأخرجه أيضا ابن ماجه عن أبي حميد وحده وهو عبد الرحمن بن سعد الساعدي،
[ 163 ]
وأبو أسيد بضم الهمزة مصغرا هو مالك بن ربيعة الساعدي الانصاري. قوله: فليقل في رواية أبي داود فليسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ليقل وروى ابن السني عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المسجد قال: بسم الله اللهم صل على محمد وإذا خرج قال: بسم الله اللهم صل على محمد قال النووي: وروينا الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند دخول المسجد والخروج منه من رواية ابن عمر أيضا، وسيأتي حديث فاطمة عليها السلام. قوله: افتح لنا رواية أبي داود: افتح لي ويجمع بينهما بأن المنفرد يقول: اللهم افتح لي، وإذا دخل ومعه غيره يقول: اللهم افتح لنا، كذا قال ابن رسلان. قوله: اللهم إني أسألك من فضلك في رواية الطبراني في الاوسط عن ابن عمر: وإذا خرج قال: اللهم افتح لنا أبواب فضلك وفي إسناده سالم بن عبد الاعلى، قال ابن رسلان: وسؤال الفضل عند الخروج موافق لقوله تعالى: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله) * (الجمعة: 10) يعني الرزق الحلال. وقيل: وابتغوا من فضل الله هو طلب العلم والوجهان متقاربان، فإن العلم هو من رزق الله تعالى، لان الرزق لا يختص بقوت الابدان بل يدخل فيه قوت الارواح والاسماع وغيرها، وقيل: فضل الله عيادة مريض وزيارة أخ صالح. وعن فاطمة الزهراء رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المسجد قال: بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك رواه أحمد وابن ماجه. الحديث إسناده في سنن ابن ماجه هكذا: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم وأبو معاوية عن ليث عن عبد الله بن الحسن عن أمه عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره وفيه انقطاع، لان فاطمة بنت الحسين وهي أم عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي لم تدرك فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وليث المذكور في الاسناد إن كان ابن أبي سليم ففيه مقال معروف. (وهذا الحديث) فيه زيادة التسمية والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدعاء بالمغفرة في الدخول والخروج، وزيادة التسليم ثابتة عند أبي داود في الحديث الاول وابن مردويه، وزيادة التسمية ثابتة عند ابن السني من حديث أنس كما تقدم وعن ابن مردويه، وقد تقدمت زيادة الصلاة، فينبغي لداخل المسجد والخارج منه أن يجمع بين التسمية والصلاة
[ 164 ]
والسلام على رسول الله، والدعاء بالمغفرة والدعاء بالفتح لابواب الرحمة داخلا ولابواب الفضل خارجا، ويزيد في الخروج سؤال الفضل، وينبغي أيضا أن يضم إلى ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم وما أخرج الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين عن ابن عباس في قوله تعالى: * (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) * (النور: 61) قال: هو المسجد إذا دخلته فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. باب جامع فيما تصان عنه المساجد وما أبيح فيها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سمع رجلا ينشد في مسجد ضالة فليقل: لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا. وعن بريدة: أن رجلا نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الاحمر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له رواهما أحمد ومسلم وابن ماجه. قوله: ينشد بفتح الياء وضم الشين، يقال: نشدت الضالة بمعنى طلبتها وأنشدتها عرفتها. والضالة تطلق على الذكر والانثى والجمع ضوال كدابة ودواب، وهي مختصة بالحيوان، ويقال لغير الحيوان ضائع ولقيط. قال ابن رسلان. قوله لا أداها الله إليك فيه دليل على جواز الدعاء على الناشد في المسجد بعدم الوجدان معاقبة له في ماله معاملة له بنقيض قصده. قال ابن رسلان: ويلحق بذلك من رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحة ترجع إلى الرافع صوته، قال: وفيه النهي عن رفع الصوت بنشد الضالة، وما في معناه من البيع والشراء والاجارة والعقود. قال مالك وجماعة من العلماء: يكره رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره، وأجاز أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس لانه مجمعهم ولا بد لهم منه. قوله: وإنما بنيت المساجد لما بنيت له قال النووي: معناه لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها: قال القاضي عياض: فيه دليل على منع الصنائع في المسجد، قال: وقال بعض شيوخنا إنما يمنع من الصنائع الخاصة فأما العامة للمسلمين في دينهم فلا بأس بها، وكره بعض
[ 165 ]
المالكية تعليم الصبيان في المساجد وقال: إنه من باب البيع وهذا إذا كان بأجرة، فإن كان بغير أجرة كان مكروها لعدم تحرزهم من الوسخ الذي يصان عنه المسجد، وقد تقدم اختلاف الاحاديث في دخولهم المساجد في باب حمل المحدث. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له رواه أحمد وابن ماجه وقال: هو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره. الحديث إسناده في سنن ابن ماجه، هكذا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن حميد بن صخر عن المقبري عن أبي هريرة فذكره، وحاتم بن إسماعيل قد وثقه ابن سعد وهو صدوق كان يهم وبقية الاسناد ثقات، وحميد بن صخر هو حميد الطويل الامام الكبير. قوله: مسجدنا هذا فيه تصريح بأن الاجر المترتب على الدخول إنما يحصل لمن كان في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يصح إلحاق غيره به من المساجد التي هي دونه في الفضيلة لانه قياس مع الفارق. قوله: ليتعلم خيرا أو ليعلمه فيه أن الثواب المذكور. إنما يتسبب عن هذه الطاعة الخاصة لا عن كل طاعة. وفيه أيضا التنويه بشرف تعلم العلم وتعليمه، لانه هو الخير الذي لا يقادر قدره، وهذا إن جعل تنكير الخير للتعظيم، ويمكن إدراج كل تعلم وتعليم لخير أي خير كان تحت ذلك فيدخل كل ما فيه قربة يتعلمها الداخل أو يعلمها غيره. وفيه أيضا التسوية بين العالم والمتعلم والارشاد إلى أن التعليم والتعلم في المسجد أفضل من سائر الامكنة. قوله: ومن دخل لغير ذلك إلخ ظاهره أن كل ما ليس فيه تعليم ولا تعلم من أنواع الخير لا يجوز فعله في المسجد ولا بد من تقييده، بما عدا الصلاة والذكر والاعتكاف ونحوها مما ورد فعله في المسجد أو الارشاد إلى فعله فيه. (والحديث) يدل على أن المسجد لم يوضع لكل طاعة، بل الطاعات مخصوصة لتقييد الخير في الحديث بالتعليم والتعلم. وعن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقام الحدود في المساجد ولا يستفاد فيها رواه أحمد وأبو داود والدارقطني. الحديث أخرجه أيضا الحاكم وابن السكن والبيهقي، قال الحافظ في التلخيص: ولا بأس بإسناده، وقال في بلوغ المرام: إن إسناده ضعيف. وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي وابن ماجه وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف من قبل حفظه، وعن جبير بن مطعم عند البزار
[ 166 ]
وفيه الواقدي، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه ابن لهيعة. (والحديث) يدل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الاستفادة فيها، لان النهي كما تقرر في الاصول حقيقة في التحريم، ولا صارف له ههنا عن معناه الحقيقي. وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا: لا رد الله عليك رواه الترمذي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الاشعار، وأن تنشد فيه الضالة، وعن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة رواه الخمسة وليس للنسائي فيه إنشاد الضالة. الحديث الاول أخرجه النسائي في اليوم والليلة وحسنه الترمذي، والحديث الثاني حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة. قال الحافظ في الفتح: وإسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب، فمن يصحح نسخته يصححه، قال: وفي المعنى أحاديث لكن في أسانيدها مقال انتهى. وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه مقال مشهور. قال الترمذي قال محمد بن إسماعيل: رأيت أحمد وإسحق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، قال: وقد سمع شعيب بن محمد من عبد الله بن عمرو قال أبو عيسى: ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لانه يحدث من صحيفة جده، كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الاحاديث من جده. قال علي بن عبد الله المديني: قال يحيى بن سعيد: حديث عمرو بن شعيب عندنا واه. (وفي الباب) عن بريدة عند مسلم وابن ماجه والنسائي، وعن جابر عند النسائي، وعن أنس عند الطبراني قال العراقي: ورجاله ثقات، وعن أبي هريرة من طريق أخرى غير التي في الباب عند مسلم، وعن سعد بن أبي وقاص عند البزار وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، وعن ابن مسعود عند البزار أيضا والطبراني، وعن ثوبان عند الطبراني أيضا، وثوبان هذا ليس بثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يورده ابن حبان في الصحابة ولا ابن عبد البر، وأورده ابن منده، وعن معاذ بن جبل عند الطبراني أيضا، وعن ابن عمر عند ابن ماجه، وعن واثلة بن الاسقع عند ابن ماجه أيضا، وعن عصمة عند الطبراني، وعن أبي سعيد عند ابن أبي حاتم في العلل. (الحديثان) يدلان على تحريم البيع والشراء وإنشاد الضالة وإنشاد الاشعار والتحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، وقد تقدم الكلام في
[ 167 ]
إنشاد الضالة. أما البيع والشراء فذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة، قال العراقي: وقد أجمع العلماء على أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه، وهكذا قال الماوردي. وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين بأن النهي حقيقة في التحريم وهو الحق، وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم، فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة. وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا يكره البيع والشراء في المسجد والاحاديث ترد عليه. وفرق أصحاب أبي حنيفة بين أن يغلب ذلك ويكثر فيكره أو يقل فلا كراهة وهو فرق لا دليل عليه. وأما إنشاد الاشعار في المسجد فحديث الباب وما في معناه يدل على عدم جوازه، ويعارضه ما سيأتي من قصة عمر وحسان، وتصريح حسان بأنه كان ينشد الشعر بالمسجد وفيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك حديث جابر بن سمرة الآتي، وقد جمع بين الاحاديث بوجهين: الاول حمل النهي على التنزيه والرخصة على بيان الجواز. والثاني حمل أحاديث الرخصة على الشعر الحسن المأذون فيه، كهجاء حسان للمشركين ومدحه صلى الله عليه وآله وسلم وغير ذلك، ويحمل النهي على التفاخر والهجاء ونحو ذلك، ذكر هذين الوجهين العراقي في شرح الترمذي، وقد بوب النسائي على قصة حسان مع عمر بن الخطاب فقال: باب الرخصة في إنشاد الشعر الحسن. وقال الشافعي: الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح. وقد ورد هذا مرفوعا في غير حديث، فروى أبو يعلى عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشعر فقال: هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح قال العراقي: وإسناده حسن، ورواه أيضا البيهقي في سننه من طريق أبي يعلى ثم قال: وصله جماعة والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل. وروى الطبراني في الاوسط من رواية إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الرحمن بن رافع وحبان بن جبلة وبكر بن سوادة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبح الكلام وقد جمع الحافظ بين الاحاديث بحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين، وحمل المأذون فيه على ما سلم من ذلك، ولكن حديث جابر بن سمرة الآتي فيه التصريح بأنهم كانوا يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية قال: وقيل المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالبا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه. وأبعد أبو عبد الله البوني
[ 168 ]
فأعمل أحاديث النهي وادعى النسخ في حديث الاذن ولم يوافق على ذلك، حكاه ابن التين عنه انتهى. وقد تقرر أن الجمع بين الاحاديث ما أمكن هو الواجب، وقد أمكن هنا بلا تعسف كما عرفت. قال ابن العربي: لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في مدح الدين وإقامة الشرع، وإن كان فيه الخمر ممدوحة بصفاتها الخبيثة من طيب رائحة وحسن لون إلى غير ذلك مما يذكره من يعرفها، وقد مدح فيه كعب بن زهير رسول الله (ص) فقال: [ شع ] بانت سعاد فقلبي اليوم متبول [ / شع ] إلى قوله في صفة ريقها: [ شع ] كأنه منهل بالراح معلول [ / شع ] قال العراقي: وهذه القصيدة قد رويناها من طرق لا يصح منها شئ، وذكرها ابن إسحق بسند منقطع، وعلى تقدير ثبوت هذه القصيدة عن كعب وإنشادها بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد أو غيره فليس فيها مدح الخمر وإنما فيها مدح ريقها وتشبيهه بالراح، قال: ولا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا لم يرفع به صوته بحيث يشوش بذلك على مصل أو قارئ أو منتظر للصلاة، فإن أدى إلى ذلك كره، ولو قيل بتحريمه لم يكن بعيدا. وقد قدمنا ما يدل على النهي عن رفع الصوت في المساجد مطلقا في باب حمل المحدث. وأما التحلق يوم الجمعة في المسجد قبل الصلاة فحمل النهي عنه الجمهور على الكراهة وذلك لانه ربما قطع الصفوف، مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف الاول فالاول. وقال الطحاوي: التحلق المنهي عنه قبل الصلاة إذا عم المسجد وغلبه فهو مكروه وغير ذلك لا بأس به. والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه بعدها للعلم والذكر. والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيرها، كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي واقد الليثي قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فأقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله وذهب واحد، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم الحديث. وأما التحلق في المسجد في أمور الدنيا فغير جائز. وفي حديث ابن مسعود: سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا أمانيهم الدنيا فلا تجالسوهم فإنه ليس لله فيهم حاجة ذكره العراقي في شرح الترمذي قال: وإسناده ضعيف فيه بزيغ أبو الخليل وهو ضعيف جدا. قوله: وعن الحلق بفتح المهملة ويجوز كسرها واللام مفتوحة على كل حال جمع حلقة بإسكان اللام على غير قياس، وحكي فتحها أيضا كذا في الفتح.
[ 169 ]
وعن سهل بن سعد: أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله؟ الحديث فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد متفق عليه. الحديث سيأتي بطوله في كتاب اللعان ويأتي شرحه إن شاء الله هنالك. وساقه المصنف هنا للاستدلال به على جواز اللعان في المسجد. وقد جعلت الهادوية إيقاعه في غير المسجد مندوبا ولا وجه له، والتعليل بأنه ربما كان مفضيا إلى الحد إذا أقر أحد الزوجين بكذبه باطل لان تسبب الحد عنه نادر لا يستلزم وقوع الحد فيه. وعنجابر بن سمرة قال: شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم رواه أحمد. الحديث أخرجه أيضا الترمذي بلفظ: جالست النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون العر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت فربما تبسم معهم وقال: هذا حديث صحيح. (والحديث) يدل على جواز إنشاد الشعر في المسجد، وقد تقدم الكلام في ذلك. وعن سعيد بن المسيب قال: مر عمر في المسجد وحسان فيه ينشد فلحظ إليه فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه واآله وسلم يقول أجب عني: اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم متفق عليه. قوله: قال مر عمر رواية سعيد لهذه القصة مرسلة عندهم لانه لم يدرك زمن المرور، لكن يحمل على أن سعيدا سمع ذلك من أبي هريرة بعد أو من حسان، أو وقع لحسان استشهاد بأبي هريرة مرة أخرى فحضر ذلك سعيد. قوله: وفيه من هو خير منك يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: أنشدك الله بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة أي سألتك الله، والنشد بفتح النون وسكون المعجمة التذكير. قوله: أيده بروح القدس أي قوه، وروح القدس المراد به هنا جبريل بدليل حديث البراء عند البخاري بلفظ: وجبريل معك والمراد بالاجابة الرد على الكفار الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينصب لحسان منبرا في المسجد فيقوم عليه يهجو الكفار وأخرجه الحاكم في
[ 170 ]
المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الاسناد. (والحديث) يدل على جواز إنشاد الشعر في المسجد، وقد تقدم الجمع بين حديث الباب وبين ما يعارضه. [ رح 645 ] وعن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الاخرى متفق عليه. قوله: واضعا إحدى رجليه على الاخرى قال الخطابي فيه: أن النهي الوارد عن ذلك منسوخ، أو يحمل النهي حيث يخشى أن تبدو عورته، والجواز حيث يؤمن من ذلك. قال الحافظ: الثاني أولى من ادعاء النسخ لانه لا يثبت بالاحتمال. وممن جزم به البيهقي والبغوي وغيرهما من المحدثين، وجزم ابن بطال ومن تبعه بأنه منسوخ، ويمكن أن يقال: إن النهي عن وضع إحدى الرجلين على الاخرى الثابت في مسلم وسنن أبي داود عام، وفعله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك مقصور عليه، فلا يؤخذ من ذلك الجواز لغيره، صرح بذلك المازري قال: لكن لما صح أن عمر وعثمان كانا يفعلان ذلك دل على أنه ليس خاصا به صلى الله عليه وآله وسلم بل هو جائز مطلقا. فإذا تقرر هذا صار بين الحديثين تعارض فيجمع بينهما، ثم ذكر نحو ما ذكره الخطابي. قال الحافظ وفي قوله: فلا يؤخذ منه الجواز نظر لان الخصائص لا تثبت بالاحتمال، والظاهر أن فعله كان لبيان الجواز، والظاهر على ما تقتضيه القواعد الاصولية ما قاله المازري من قصر الجواز عليه صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن قوله: لكن لما صح أن عمر وعثمان الخ لا يدل على الجواز مطلقا كما قال لاحتمال أنهما فعلا ذلك لعدم بلوغ النهي إليهما. (والحديث) يدل على جواز الاستلقاء في المسجد على تلك الهيئة وعلى غيرها لعدم الفارق. وعنعبد الله بن عمر أنه كان ينام وهو شاب عزب لا أهل له في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه البخاري والنسائي وأبو داود وأحمد. ولفظه: كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ننام في المسجد ونقيل فيه ونحن شباب. قال البخاري: وقال أبو قلابة عن أنس: قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا في الصفة، وقال: قال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصفة الفقراء. قوله: عزب قال الحافظ: المشهور فيه فتح العين المهملة وكسر الزاي. وفي رواية للبخاري أعزب وهي لغة قليلة مع أن القزاز أنكرها. والمراد به الذي لا زوجة له. وقوله: لا أهل له تفسير لقوله عزب، ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص فيدخل فيه
[ 171 ]
الاقارب ونحوهم. وقوله: في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعلق بقوله ينام، ورواية أحمد أدل على الجواز للتصريح فيها بأن ذلك كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد أخرج البخاري حديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء وعلي مضطجع في المسجد قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسحه ويقول: قم أبا تراب وقد ذهب الجمهور إلى جواز النوم في المسجد. وروي عن ابن عباس كراهته إلا لمن يريد الصلاة، وعن ابن مسعود مطلقا. وعن مالك التفصيل بين من له مسكن فيكره وبين من لا مسكن له فيباح. قوله: وقال أبو قلابة عن أنس هذا طرف من قصة العرنيين وقد ذكرها البخاري في الطهارة من صحيحه، ووصل هذا اللفظ المذكور هنا في المحاربين من طريق وهيب عن أيوب عن أبي قلابة. قوله: قال عبد الرحمن هو أيضا طرف من حديث طويل ذكره البخاري في علامات النبوة. والصفة موضع مظلل في المسجد النبوي كانت تأوي إليه المساكين. وعكل بضم العين المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم، وقد تقدم ضبطه وتفسيره في باب الرخصة في بول ما يؤكل لحمه. وعن عائشة قالت: أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة في الاكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب متفق عليه. قوله: حبان بن العرقة بعين مهملة مفتوحة ثم راء مكسورة ثم قاف بعدها هاء التأنيث. قوله: في الاكحل هو عرق في اليد، وتمام الحديث في البخاري: قالت: فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل عليهم فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات فيها يعني الخيمة أو في تلك المرضة. (والحديث) يدل على جواز ترك المريض في المسجد وإن كان في ذلك مظنة لخروج شئ منه يتنجس به المسجد. وعن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا؟ فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز بين يدي عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها إليه رواه أبو داود. قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن بن أبي بكر إلا بهذا
[ 172 ]
الاسناد وذكر أنه روي مرسلا. قال المنذري: وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي حازم سلمان الاشجعي بنحوه أتم منه. (والحديث) يدل على جواز التصدق في المسجد وعلى جواز المسألة عند الحاجة، وقد بوب أبو داود في سننه لهذا الحديث فقال: باب المسألة في المساجد. وعن عبد الله بن الحرث قال: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الخبز واللحم رواه ابن ماجه. الحديث إسناده في سنن ابن ماجه هكذا: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب وحرملة ابن يحيى قالا: حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحرث قال: حدثني سليمان بن زياد الحضرمي أنه سمع عبد الله بن الحرث فذكره، وهؤلاء كلهم من رجال الصحيح إلا يعقوب بن حميد وقد رواه معه حرملة بن يحيى. (والحديث) يدل على المطلوب منه وهو جواز الاكل في المسجد، وفيه أحاديث كثيرة منها سكنى أهل الصفة في المسجد الثابت في البخاري وغيره، فإن كون لا مسكن لهم سواه يستلزم أكلهم للطعام فيه. ومنها حديث ربط الرجل الاسير بسارية من سواري المسجد المتفق عليه، وفي بعض طرقه أنه استمر مربوطا ثلاثة أيام. ومنها ضرب الخيام في المسجد لسعد بن معاذ كما تقدم، أو للسوداء التي كانت تقم المسجد كما في الصحيحين. ومنها إنزال وفد ثقيف المسجد وغيرهم، والاحاديث الدالة على جواز أكل الطعام في المسجد متكاثرة. (قال المصنف) رحمه الله: وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسر ثمامة بن أثال فربط بسارية في المسجد قبل إسلامه، وثبت عنه أنه نثر مالا جاء من البحرين في المسجد وقسمه فيه انتهى. قلت: ربط ثمامة ثابت في الصحيحين بلفظ: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فاغتسل ثم دخل فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ونثر المال في المسجد وقسمته ثابت في البخاري وغيره بلفظ: أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال من البحرين فقال: انثروه في المسجد، وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ساق القصة بطولها. (والحديثان) يدلان على جواز ربط الاسير المشرك في المسجد والمسلم بالاولى، وعلى جواز قسمة الاموال في المساجد ونثرها فيها.
[ 173 ]
باب تنزيه قبلة المسجد عما يلهي المصلي عن أنس قال: كان قرام لعائشة قد سترت به جانب بيتها فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أميطي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي رواه أحمد والبخاري. قوله: قرام بكسر القاف وتخفيف الراء ستر رقيق من صوف ذو ألوان كما تقدم. قوله: أميطي أي أزيلي وزنا ومعنى. قوله: لا تزال تصاويره في رواية للبخاري: لا تزال تصاوير بحذف الضمير، قال الحافظ: كذا في روايتنا وللباقين بإثبات الضمير، قال: والهاء على روايتنا في فإنه ضمير الشأن، وعلى الاخرى يحتمل أن يعود على الثوب. قوله: تعرض بفتح أوله وكسر الراء أي تلوح، وللاسماعيلي تعرض بفتح العين وتشديد الراء وأصله تتعرض. (والحديث) يدل على كراهة الصلاة في الامكنة التي فيها تصاوير، وقد تقدم كراهة زخرفة المساجد والتصاوير نوع من ذلك، وقد تقدم أيضا الكلام على الثياب التي فيها تصاوير. (ودل الحديث) أيضا على أن الصلاة لا تفسد بذلك لانه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقطعها ولم يعدها. وعن عثمان بن طلحة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا بعد دخوله الكعبة فقال: إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شئ يلهي المصلي رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أبو داود من طريق منصور الحجبي قال: حدثني خالي عن أمي قالت: سمعت الاسلمية تقول قلت لعثمان: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دعاك؟ قال: إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيت شئ يشغل المصلي. وخال صفوان المذكور في الاسناد قال ابن السراج: هو مسافع بن شيبة، وأم منصور المذكورة هي صفية بنت شيبة القرشية العبدرية وقد جاءت مسماة في بعض طرق هذا الحديث، واختلف في صحبتها، وقد جاءت أحاديث ظاهرة في صحبتها. وعثمان بن طلحة المذكور هو القرشي العبدري الحجبي بفتح الحاء المهملة وبعدها جيم مفتوحة وباء
[ 174 ]
موحدة منسوب إلى حجابة بيت الله الحرام شرفه الله تعالى، وهم جماعة من بني عبد الدار وإليهم حجابة الكعبة. وقد اختلف في هذا الحديث، فروي عن منصور عن خاله مسافع عن فية بنت شيبة عن امرأة من بني سليم عن عثمان، وروي عنه عن خاله عن امرأة من بني سليم ولم يذكر أمه. والاسلمية المذكورة لم أقف على اسمها. (والحديث) يدل على كراهة تزيين المحاريب وغيرها مما يستقبله المصلي بنقش أو تصوير أو غيرهما مما يلهي، وعلى أن تخمير التصاوير مزيل لكراهة الصلاة في المكان الذي هي فيه لارتفاع العلة وهي اشتغال قلب المصلي بالنظر إليها، وقد أسلفنا الكلام في التصاوير وفي كراهية زخرفة المساجد. قوله: قرني الكبش أي كبش إبراهيم الذي فدى به إسماعيل. باب لا يخرج من المسجد بعد الاذان حتى يصلي إلا لعذر عن أبي هريرة قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي رواه أحمد. وعن أبي الشعثاء قال: خرج رجل من المسجد بعد ما أذن فيه فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم رواه الجماعة إلا البخاري. الحديث الاول روى من طريق ابن أبي الشعثاء واسمه أشعث عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه عن أبي هريرة أبو صالح ومحمد بن زاذان وسعيد بن المسيب، قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي بعد أن روى الحديث بإسناده ولم يتكلم فيه. وأما الحديث الثاني فروي عن بعضهم أنه موقوف، قال ابن عبد البر: هو مسند عندهم لا يختلفون فيه انتهى. وفي إسناده إبراهيم بن المهاجر وقد وثق وضعف وأخرج له الجماعة إلا البخاري. وفي الرواة من يسمى إبراهيم بن مهاجر ثلاثة. هذا أحدهم وهو البجلي الكوفي. والثاني المدني مولى سعد ابن أبي وقاص. والثالث الازدي الكوفي. وفي الباب عن عثمان بلفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أدرك الآذان وهو في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق رواه ابن سنجر والزيدوني في أحكامه، وابن سيد الناس في شرح الترمذي، وأشار إليه الترمذي في جامعه. (والحديثان) يدلان على تحريم الخروج من المسجد بعد سماع الاذان لغير الوضوء وقضاء الحاجة وما تدعو الضرورة إليه
[ 175 ]
حتى يصلي فيه تلك الصلاة، لان ذلك المسجد قد تعين لتلك الصلاة، قال الترمذي بعد أن ذكر الحديث: وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد إلا من عذر أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه، ويروى عن إبراهيم النخعي أنه قال: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الاقامة، وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج منه انتهى. قال ابن رسلان في شرح السنن: إن الخروج مكروه عند عامة أهل العلم إذا كان لغير عذر من طهارة أو نحوها وإلا جاز بلا كراهة. قال القرطبي: هذا محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدليل نسبته إليه، وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الاذان فأطلق لفظ المعصية عليه. أبواب استقبال القبلة باب وجوبه للصلاة عن أبي هريرة في حديث يأتي ذكره قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فإذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر. هذا الحديث الذي أشار إليه المصنف هو حديث المسئ، وسيأتي في باب السجدة الثانية ولزوم الطمأنينة، ويأتي إن شاء الله شرحه هنالك، وهذا اللفظ الذي ذكره المصنف هو لفظ مسلم، وهو يدل على وجوب الاستقبال، وهو إجماع المسلمين إلا في حالة العجز أو في الخوف عند التحام القتال أو في صلاة التطوع كما سيأتي. وقد دل على الوجوب القرآن والسنة المتواترة. وفي الصحيح من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزوجل. وقالت الهادوية: إن استقبال القبلة من شروط صحة الصلاة، وقد عرفناك فيما سبق أن الاوامر بمجردها لا تصلح للاستدلال بها على الشرطية إلا على القول بأن الامر بالشئ نهي عن ضده، ولكن ههنا ما يمنع من الشرطية وهو خبر السرية الذي أخرجه الترمذي وأحمد والطبراني من حديث عامر بن ربيعة بلفظ: كنا مع
[ 176 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة وصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزل: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * (البقرة: 115) فإن الاستقبال لو كان شرطا لوجبت الاعادة في الوقت وبعده، لان الشرط يؤثر عدمه في العدم، مع أن الهادوية يوافقون في عدم وجوب الاعادة بعد الوقت، وهو يناقض قولهم: إن الاستقبال شرط، وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين ولكن له شواهد تقويه: منها حديث جابر عند البيهقي بلفظ: صلينا ليلة في غيم وخفيت علينا القبلة، فلما انصرفنا نظرنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: قد أحسنتم ولم يأمرنا أن نعيد وله طريق أخرى عنه بنحو هذه وفيها أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: قد أجزأت صلاتكم ولكنه تفرد به محمد بن سالم ومحمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء وهما ضعيفان. وكذا قال الدارقطني، قال البيهقي: وكذلك روي عن عبد الملك العرزمي عن عطاء،، ثم رواه من طريق أخرى بنحو ما هنا وقال: لا نعلم لهذا الحديث إسنادا صحيحا قويا، والصحيح أن الآية إنما نزلت في التطوع خاصة كما في صحيح مسلم، وسيأتي ذلك في باب تطوع المسافر. ومنها حديث معاذ عند الطبراني في الاوسط بلفظ: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم غيم في سفر إلى غير القبلة، فلما قضى الصلاة وسلم تجلت الشمس فقلنا: يا رسول الله صلينا إلى غير القبلة، فقال: قد رفعت صلاتكم بحقها إلى الله عزوجل وفي إسناده أبو عبلة واسمه شمر بن عطاء وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وهذه الاحاديث يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها، وفي حديث معاذ التصريح بأن ذلك كان بعد الفراغ من الصلاة قبل انقضاء الوقت وهو أصرح في الدلالة على عدم الشرطية، وفيها أيضا رد لمذهب من فرق في وجوب الاعادة بين بقاء الوقت وعدمه. وعن ابن عمر قال: بينما الناس بقبا في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة متفق عليه. وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت * (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) * (البقرة: 144) فمر رجل
[ 177 ]
ومن بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى: ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وفي الباب عن البراء عند الجماعة إلا أبا داود. وعن ابن عباس عند أحمد والبزار والطبراني، قال العراقي: وإسناده صحيح. وعن عمارة بن أوس عند أبي يعلى في مسنده والطبراني في الكبير، وعن عمرو بن عوف المزني عند البزار والطبراني أيضا، وعن سعد بن أبي وقاص عند البيهقي وإسناده صحيح، وعن سهل بن سعد عند الطبراني والدارقطني، وعن عثمان بن حنيف عند الطبراني أيضا، وعن عمارة بن رويبة عند الطبراني أيضا، وعن أبي سعيد بن المعلى عند البزار والطبراني أيضا، وعن تويلة بنت أسلم عند الطبراني أيضا. قوله: في صلاة الصبح هكذا في صحيح مسلم من حديث أنس بلفظ: وهم ركوع في صلاة الفجر. وكذا عند الطبراني من حديث سهل بن سعد بلفظ: فوجدهم يصلون صلاة الغداة. وفي الترمذي من حديث البراء بلفظ: فصلى رجل معه العصر وساق الحديث، وهو مصرح بذلك في رواية البخاري من حديث البراء، وليس عند مسلم تعيين الصلاة من حديث البراء. وفي حديث عمارة بن أوس أن التي صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكعبة إحدى صلاتي العشى، وهكذا في حديث عمارة بن رويبة وحديث تويلة، وفي حديث أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر. والجمع بين هذه الروايات أن من قال إحدى صلاتي العشى شك هل هي الظهر أو العصر؟ وليس من شك حجة على من جزم، فنظرنا فيمن جزم فوجدنا بعضهم قال الظهر وبعضهم قال العصر، ووجدنا رواية العصر أصح لثقة رجالها وإخراج البخاري لها في صحيحه. وأما حديث كونها الظهر ففي إسنادها مروان بن عثمان وهو مختلف فيه. وأما رواية أن أهل قباء كانوا في صلاة الصبح فيمكن أنه أبطأ الخبر عنهم إلى صلاة الصبح. قال ابن سعد في الطبقات حاكيا عن بعضهم: إن ذلك كان بمسجد المدينة، فقال: ويقال صلى رسول الله صل الله عليه وآله وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه وكان معه المسلمون، ويكون المعنى برواية البخاري أنها العصر أي أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة كاملة صلاة العصر. قوله: إذ جاءهم آت قيل: هو عباد بن بشر، وقيل: عباد بن نهيك، وقيل غيرهما. قوله: فاستقبلوها بفتح الموحدة للاكثر أي فتحولوا إلى جهة الكعبة، وفاعل استقبلوها المخاطبون بذلك وهم أهل قبا، ويحتمل
[ 178 ]
أن يكون فاعل استقبلوها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه. وفي رواية في البخاري بكسر الموحدة بصيغة الامر، ويؤيد الكسر ما عند البخاري في التفسير بلفظ: ألا فاستقبلوها. قوله: وكانت وجوههم هو تفسير من الراوي للتحول المذكور، والضمير في وجوههم فيه الاحتمالان، وقد وقع بيان كيفية التحول في خبر تويلة قالت: فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء. قال الحافظ: وتصويره أن الامام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد لان من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس، وهو لو دار في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، ولما تحول الامام تحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحول النساء حتى صرن خلف الرجال، وهذا يستدعي عملا كثيرا في الصلاة، فيحتمل أن ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير كما كان قبل تحريم الكلام، ويحتمل أن يكون اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة، أو وقعت الخطوات غير متوالية عند التحول بل وقعت مفرقة. (وللحديث الاول فوائد) منها: أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه لان أهل قبا لم يؤمروا بالاعادة. ومنها: جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر القبلة، لان الانصار تحولوا إلى جهة الكعبة بالاجتهاد ونظره الحافظ قال: يحتمل أن يكون عندهم بذلك نص سابق. ومنها: جواز تعليم من ليس في الصلاة من هو فيها. ومنها: جواز نسخ الثابت بطريق العلم والقطع بخبر الواحد، وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على أهل قبا عملهم بخبر الواحد، وأجيب عن ذلك بأن الخبر المذكور احتف بالقرائن والمقدمات التي أفادت القطع لكونه في زمن تقلب وجهه في السماء ليحول إلى جهة الكعبة، وقد عرفت منه الانصار ذلك بملازمتهم له فكانوا يتوقعون ذلك في كل وقت، فلما فجأهم الخبر عن ذلك أفادهم العلم لما كانوا يتوقعون حدوثه. وأجاب العراقي بأجوبة أخر. منها: أن النسخ بخبر الواحد كان جائزا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما امتنع بعده. قال الحافظ: ويحتاج إلى دليل. ومنها أنه تلا عليهم الآية التي فيها ذكر النسخ بالقرآن وهم أعلم الناس بإطالته وإيجازه وأعرفهم بوجوه إعجازه. ومنها أن العمل بخبر الواحد مقطوع به، ثم قال: الصحيح أن النسخ للمقطوع بالمظنون كنسخ نص الكتاب أو السنة المتواترة بخبر الواحد جائز عقلا وواقع سمعا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزمانه، ولكن أجمعت الامة على منعه بعد الرسول، فلا مخالف فيه وإنما الخلاف في تجويزه في عهد الرسول صلى الله
[ 179 ]
عليه وآله وسلم انتهى. (ومن فوائد الحديث) ما ذكره المصنف قال: وهو حجة في قبول أخبار الآحاد انتهى، وذلك لانه أجمع عليه الذين بلغ إليهم ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بل روى الطبراني في آخر حديث تويلة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فيهم: أولئك رجال آمنوا بالغيب. باب حجة من رأى فرض البعيد إصابة الجهة لا العين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة رواه ابن ماجه والترمذي وصححه. وقوله عليه السلام في حديث أبي أيوب: ولكن شرقوا أو غربوا يعضد ذلك. الحديث الاول أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق أبي معشر، وقد تابع أبا معشر عليه علي بن ظبيان قاضي حلب، كما رواه ابن عدي في الكامل قال: ولا أعلم يرويه عن محمد بن عمرو غير علي بن ظبيان وأبي معشر، وهو بأبي معشر أشهر منه بعلي بن ظبيان، قال: ولعل علي بن ظبيان سرقه منه، وذكر قول ابن معين فيه أنه ليس بشئ، وقول النسائي متروك الحديث، وقد تابعه عليه أيضا أبو جعفر الرازي، رواه البيهقي في الخلافيات. وأبو جعفر وثقه ابن معين وابن المديني وأبو حاتم، وقال أحمد والنسائي ليس بقوي، وقال العلاسي: سيئ الحفظ. وأبو معشر المذكور ضعيف. (والحديث) رواه أيضا الحاكم والدارقطني، وقد أخرج الحديث الترمذي من طريق غير طريق أبي معشر وقال: حديث حسن صحيح، وقد خالفه البيهقي فقال بعد إخراجه من هذه الطريق: هذا إسناد ضعيف، فنظرنا في الاسناد فوجدنا عثمان بن محمد بن المغيرة بن الاخنس بن شريق قد تفرد به عن المقبري وقد اختلف فيه، فقال علي بن المديني: إنه روى أحاديث مناكير، ووثقه ابن معين وابن حبان فكان الصواب ما قاله الترمذي. وأما الحديث الثاني أعني حديث أبي أيوب فهو متفق عليه وقد تقدم شرحه في أبواب التخلي. وفي الباب عن ابن عمر عند البيهقي. وفي الباب أيضا من قول عمر عند الموطأ وابن أبي شيبة والبيهقي. ومن قول علي عند ابن أبي شيبة. ومن قول عثمان عند ابن عبد البر في التمهيد. ومن قول ابن عباس أشار إلى ذلك الترمذي. (والحديث) يدل على أن الفرض على من بعد عن الكعبة الجهة
[ 180 ]
لا العين، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد، وهو ظاهر ما نقله المزني عن الشافعي، وقد قال الشافعي أيضا: إن شطر البيت وتلقاء وجهته واحد في كلام العرب، واستدل لذلك أيضا بحديث أخرجه البيهقي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: البيت قبلة لاهل المسجد، والمسجد قبلة لاهل الحرم، والحرم قبلة لاهل الارض مشارقها ومغاربها من أمتي قال البيهقي: تفرد به عمر بن حفص المكي وهو ضعيف، قال: وروي بإسناد آخر ضعيف لا يحتج بمثله. وإلى هذا المذهب ذهب الاكثر، وذهب الشافعي في أظهر القولين عنه إلى أن فرض من بعد العين، وأنه يلزمه ذلك بالظن لحديث أسامة بن زيد أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه ولم يصل فيه حتى خرج فلما خرج ركع ركعتين في قبل القبلة وقال: هذه القبلة ورواه البخاري من حديث ابن عباس مختصرا، وقد عرفت ما قدمنا في باب صلاة التطوع في الكعبة من ترجيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى في الكعبة. وقد اختلف في معنى حديث الباب الاول فقال العراقي: ليس عاما في سائر البلاد، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المشرقة وما وافق قبلتها، وهكذا قال البيهقي في الخلافيات، وهكذا قال أحمد بن خالويه الوهبي قال: ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال، ونحو ذلك قال ابن عبد البر، وهذا صحيح لا مدفع له ولا خلاف بين أهل العلم فيه. وقال الاثرم: سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث فقال: هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إن زال عنه شيئا وإن قل فقد ترك القبلة، ثم قال: هذا المشرق وأشار بيده، وهذا المغرب وأشار بيده، وما بينهما قبلة، قلت له: فصلاة من صلى بينهما جائزة؟ قال: نعم وينبغي أن يتحرى الوسط. قال ابن عبد البر: تفسير قول أحمد هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لاهلها في قبلتهم مثل ما لمن كانت قبلتهم بالمدينة الجنوب التي يقع لهم فيها الكعبة فيستقبلون جهتها ويتسعون يمينا وشمالا فيها ما بين المشرق والمغرب، يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم، وكذلك لاهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما لاهل المدينة ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضا قبل القبلة إلا أنهم يجعلون المشرق عن أيمانهم والمغرب عن يسارهم، وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال، مثل ما كان لاهل المدينة من السعة فيما بين المشرق والمغرب، وكذلك ضد العراق على ضد ذلك أيضا، وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام
[ 181 ]
وهي لاهل مكة أوسع قليلا، ثم هي لاهل الحرم أوسع قليلا، ثم لاهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا اه. قال الترمذي قال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة. وقال ابن المبارك: ما بين المشرق والمغرب قبلة هذا لاهل المشرق، واختار ابن المبارك التياسر لاهل مرو اه. وقد يستشكل قول ابن المبارك من حيث أن من كان بالمشرق إنما يكون قبلته المغرب فإن مكة بينه وبين المغرب، والجواب عنه أنه أراد بالمشرق البلاد التي يطلق عليها اسم المشرق كالعراق مثلا فإن قبلتهم أيضا بين المشرق والمغرب قبلة لاهل العراق، قال: وقد ورد مقيدا بذلك في بعض طرق حديث أبي هريرة: ما بين المشرق والمغرب قبلة لاهل العراق رواه البيهقي في الخلافيات، وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لاهل المشرق. ويدل على ذلك أيضا تبويب البخاري على حديث أبي أيوب بلفظ باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام، والمشرق ليس في المشرق ولا المغرب قبلة. قال ابن بطال في تفسير هذه الترجمة: يعني وقبلة مشرق الارض كلها إلا ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من المشرق إلى المغرب، فحكم مشرق الارض كلها كحكم مشرق أهل المدينة والشام في الامر بالانحراف عند الغائط، لانهم إذا شرقوا أو غربوا لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها، قال: وأما ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من شرقها إلى مغربها فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث، ولا يصح لهم أن يشرقوا ولا أن يغربوا، لانهم إذا شرقوا استدبروا القبلة، وإذا غربوا استقبلوها، وكذلك من كان موازيا بالمغرب مكة، إذ العلة فيه مشتركة مع المشرق، فاكتفى بذكر المشرق عن المغرب لان المشرق أكثر الارض المعمورة، وبلاد الاسلام في جهة مغرب الشمس قليل، قال: وتقدير الترجمة بأن قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق ليس في التشريق ولا في التغريب يعني أنهم عند الانحراف للتشريق والتغريب ليسوا بمواجهين للقبلة ولا مستدبرين لها، والعرب تطلق المشرق والمغرب بمعنى التغريب والتشريق، وأنشد ثعلب في المجالس: أبعد مغربهم نجدا وساحتها. قال ثعلب معناه أبعد تغريبهم انتهى. وقد أطلنا الكلام في تفسير معنى الحديث لانه كثيرا ما يسأل عنه الناس ويستشكلونه لا سيما مع زيادة لفظ لاهل المشرق.
[ 182 ]
باب ترك القبلة لعذر الخوف عن نافع عنابن عمر: أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال: فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه البخاري. الحديث ذكره البخاري في تفسير سورة البقرة، وأخرجه مالك في الموطأ وقال في آخره قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه ابن خزيمة وأخرجه مسلم وصرح بأن الزيادة من قول ابن عمر، ورواه البيهقي من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر. وقال النووي في شرح المهذب: هو بيان حكم من أحكام صلاة الخوف لا تفسير للآية. وقد أخرجه البخاري في صلاة الخوف بلفظ: وزاد ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وإذا كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما وركبانا (والحديث) يدل على أن صلاة الخوف لاسيما إذا كثر العدو تجوز حسب الامكان، فينتقل عن القيام إلى الركوب، وعن الركوع والسجود إلى الايماء، ويجوز ترك ما لا يقدر عليه من الاركان، وبهذا قال الجمهور، لكن قالت المالكية: لا يصنعون ذلك إلا إذا خشي فوات الوقت، وسيأتي للمصنف في باب الصلاة في شدة الخوف نحو ما هنا ويأتي شرحه هنالك إن شاء الله. باب تطوع المسافر على مركوبه حيث توجه به عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسبح على راحلته قبل أي وجهة توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة متفق عليه. وفي رواية: كان يصلي على راحلته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت به وفيه نزلت: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. الحديث قد تقدم شرحه والكلام على فقهه في باب صلاة الفرض على الراحلة، لان المصنف رحمه الله ذكره هنالك بنحو ما هنا من حديث عامر بن ربيعة. ولفظ الرواية
[ 183 ]
الآخرة في الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى إلى بعيره أو راحلته وكان يصلي على راحلته حيثما توجهت به ولم يذكر نزول الآية. قوله: حيثما توجهت به قيدت الشافعية الحديث بالمذهب فقالت: إذا توجهت به نحو مقصده، وأما إذا توجهت به إلى غير مقصده، فإن كان إلى جهة القبلة لم يضر، وإن كان إلى غيرها بطلت صلاته، وقد تقدم في أول أبواب الاستقبال ما يدل على أن الآية نزلت في صلاة الفريضة ولكن الصحيح ما هنا كما تقدم. وعن جابر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وهو على راحلته النوافل في كل جهة ولكن يخفض السجود من الركوع ويومئ إيماء رواه أحمد وفي لفظ: بعثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع رواه أبو داود والترمذي وصححه. الحديث أخرجه البخاري عن جابر ولكن بلفظ: كان يصلي التطوع وهو راكب. وفي لفظ: كان يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة. وأخرجه أيضا مسلم بنحو ذلك. وفي الباب عن جماعة من الصحابة وقد قدمنا في باب صلاة الفرض على الراحلة أنه يجوز التطوع عليها للمسافر بالاجماع، وقدمنا الخلاف في جواز ذلك في الحضر وفي جواز صلاة الفريضة. (والحديث) يدل على أن سجود من صلى على الراحلة يكون أخفض من ركوعه، ولا يلزمه وضع الجبهة على السرج، ولا بذل غاية الوسع في الانحناء، بل يخفض سجوده بمقدار يفترق به السجود عن الركوع. وعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا استقبل القبلة فكبر للصلاة ثم خلى عن راحلته فصلى حيثما توجهت به رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا الشيخان بنحو ما هنا. وأخرجه أيضا النسائي من رواية يحيى بن سعيد عن أنس وقال: حديث يحيى بن سعيد عن أنس الصواب موقوف، وأما أبو داود فأخرجه من رواية الجارود بن أبي سبرة عن أنس. (والحديث) يدل على جواز التنفل على الراحلة، وقد تقدم الكلام على ذلك وعلى أنه لا بد من الاستقبال حال تكبيرة الاحرام، ثم لا يضر الخروج بعد ذلك عن سمت القبلة كما أسلفنا.
[ 184 ]
أبواب صفة الصلاة باب افتراض افتتاحها بالتكبير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم رواه الخمسة إلا النسائي وقال الترمذي: هذا أصح شئ في هذا الباب وأحسن. الحديث أخرجه أيضا الشافعي والبزار والحاكم وصححه وابن السكن من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن الحنفية عن علي، قال البزار: لا نعلمه عن علي إلا من هذا الوجه. وقال أبو نعيم: تفرد به ابن عقيل، وقال العقيلي: في إسناده لين، وقال: هو أصح من حديث جابر الآتي، وعكس ذلك ابن العربي فقال: حديث جابر أصح شئ في هذا الباب، والعقيلي أقعد منه بمعرفة الفن. وقال ابن حبان: هذا حديث لا يصح لان له طريقين: إحداهما عن علي وفيه ابن عقيل وهو ضعيف. والثانية عن أبي نضرة عن أبي سعيد تفرد به أبو سفيان عنه. (وفي الباب) عن جابر عند أحمد والبزار والترمذي والطبراني وفي إسناده أبويحيى القتات وهو ضعيف. وقال ابن عدي: أحاديثه عندي حسان. وعن أبي سعيد عند الترمذي وابن ماجه وفي إسناده أبو سفيان طريف بن شهاب وهو ضعيف، ورواه الحاكم عن سعيد بن مسروق الثوري عن أبي سعيد وهو معلول قاله الحافظ. (وفي الباب) أيضا عن عبد الله بن زيد عند الطبراني وفي إسناده الواقدي. وعن ابن عباس عند الطبراني أيضا وفي إسناده نافع بن هرمز وهو متروك. وعن أنس عند ابن عدي وفي إسناده أيضا نافع بن هرمز. وعن عبد الله بن مسعود عند أبي نعيم قال الحافظ: وإسناده صحيح وهو موقوف. وعن عائشة عند مسلم وغيره بلفظ: كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين الحديث وآخره: وكان يختم الصلاة بالتسليم وروى الحديث الدارقطني من حديث أبي إسحق والبيهقي من حديث شعبة، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا فيصلح الحديث للاحتجاج به. قوله: مفتاح بكسر الميم والمراد أنه أول شئ يفتتح به من أعمال الصلاة لانه شرط من شروطها. قوله: الطهور بضم الطاء وقد تقدم ضبطه في أول الكتاب. وفي رواية: الوضوء مفتاح الصلاة. قوله: وتحريمها التكبير فيه دليل على
[ 185 ]
أن افتتاح الصلاة لا يكون إلا بالتكبير دون غيره من الاذكار، وإليه ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: تنعقد الصلاة بكل لفظ قصد به التعظيم والحديث يرد عليه، لان الاضافة في قوله تحريمها تقتضي الحصر فكأنه قال: جميع تحريمها التكبير أي انحصرت صحة تحريمها في التكبير لا تحريم لها غيره كقولهم: مال فلان الابل، وعلم فلان النحو. (وفي الباب) أحاديث كثيرة تدل على تعين لفظ التكبير من قوله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله. وعلى هذا فالحديث يدل على وجوب التكبير، وقد اختلف في حكمه، فقال الحافظ: إنه ركن عند الجمهور، وشرط عند الحنفية، ووجه عند الشافعي، وسنة عند الزهري. قال ابن المنذر: ولم يقبه أحد غيره، وروي عن سعيد بن المسيب والاوزاعي ومالك ولم يثبت عن أحد منهم تصريحا، وإنما قالوا فيمن أدرك الامام راكعا يجزيه تكبيرة الركوع. قال الحافظ: نعم نقله الكرخي من الحنفية عن ابن علية وأبي بكر الاصم ومخالفتهما للجمهور كثيرة. وذهب إلى الوجوب جماعة من السلف، قال في البحر: إنه فرض إلا عن نفاة الاذكار والزهري، ويدل على وجوبه ما في حديث المسئ عند مسلم وغيره من حديث أبي هريرة بلفظ: فإذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر. وعند الجماعة من حديثه بلفظ: إذا قمت إلى الصلاة فكبر وقد تقرر أن حديث المسئ هو المرجع في معرفة واجبات الصلاة، وأن كل ما هو مذكور فيه واجب، وما خرج عنه وقامت عليه أدلة تدل على وجوبه ففيه خلاف سنذكره إن شاء الله في شرحه في الموضع الذي سيذكره فيه المصنف. ويدل للشرطية حديث رفاعة في قصة المسئ صلاته عند أبي داود بلفظ: لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر. ورواه الطبراني بلفظ: ثم يقول الله أكبر والاستدلال بهذا على الشرطية صحيح إن كان نفي التمام يستلزم نفي الصحة وهو الظاهر، لانا متعبدون بصلاة لا نقصان فيها، فالناقصة غير صحيحة، ومن ادعى صحتها فعليه البيان، وقد جعل صاحب ضوء النهار نفي التمام هنا هو نفي الكمال بعينه، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المسئ: فإن انتقصت من ذلك شيئا فقد انتقصت من صلاتك وأنت خبير بأن هذا من محل النزاع أيضا لانا نقول: الانتقاص يستلزم عدم الصحة لذلك الدليل الذي أسلفناه، ولا نسلم أن ترك مندوبات الصلاة ومسنوناتها انتقاص منها لانها أمور خارجة عن ماهية الصلاة فلا يرد الالزام بها، وكونها تزيد في الثواب
[ 186 ]
لا يستلزم أنها منها، كما أن الثياب الحسنة تزيد في جمال الذات وليست منها، نعم وقع في بعض روايات الحديث بلفظ أنه لما قال صلى الله عليه وآله وسلم: فإنك لم تصل كبر على الناس أنه من أخف صلاته لم يصل، حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: فإن انتقصت من ذلك شيئا فقد انتقصت من صلاتك فكان أهون عليهم. فكون هذه المقالة كانت أهون عليهم يدل على أن نفي التمام المذكور بمعنى نفي الكمال، إذ لو كان بمعنى نفي الصحة لم يكن فرق بين المقالتين، ولما كانت هذه أهون عليهم، ولا يخفاك أن الحجة في الذي جاءنا عن الشارع من قوله وفعله وتقريره لا في فهم بعض الصحابة سلمنا أن فهمهم حجة لكونهم أعرف بمقاصد الشارع، فنحن نقول بموجب ما فهموه، ونسلم أن بين الحالتين تفاوتا، ولكن ذلك التفاوت من جهة أن من أتى ببعض واجبات الصلاة فقد فعل خيرا من قيام وذكر وتلاوة، وإنما يؤمر بالاعادة لدفع عقوبة ما ترك، وترك الواجب سبب للعقاب، فإذا كان يعاقب بسبب ترك البعض لزمه أن يفعله إن أمكن فعله وحده، وإلا فعله مع غيره، والصلاة لا يمكن فعل المتروك منها إلا بفعل جميعها. وقد أجاب بمعنى هذا الجواب الحافظ ابن تيمية حفيد المصنف وهو حسن، ثم إنا نقول: غاية ما ينتهض له دعوى من قال إن نفي التمام بمعنى نفي الكمال هو عدم الشرطية لا عدم الوجوب، لان المجئ بالصلاة تامة كاملة واجب. وما أحسن ما قاله ابن تيمية في المقام ولفظه، ومن قال من الفقهاء إن هذا لنفي الكمال قيل: إن أردت الكمال المستحب فهذا باطل لوجهين: أحدهما أن هذا لا يوجد قط في لفظ الشارع أنه ينفي عملا فعله العبد على الوجه الذي وجب عليه ثم ينفيه لترك المستحبات، بل الشارع لا ينفي عملا إلا إذا لم يفعله العبد كما وجب عليه. والثاني لو نفي لترك مستحب لكان عامة الناس لا صلاة لهم ولا صيام، فإن الكمال المستحب متفاوت، إذ كل من لم يكملها كتكميل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقال لا صلاة له اه. قوله: وتحليلها التسليم سيأتي إن شاء الله الكلام عليه في باب كون السلام فرضا. وعن مالك بن الحويرث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلوا كما رأيتموني أصلي رواه أحمد والبخاري، وقد صح عنه أنه كان يفتتح بالتكبير. الحديث يدل على وجوب جميع ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة من الاقوال والافعال، ويؤكد الوجوب كونها بيانا لمجمل قوله: أقيموا الصلاة وهو أمر
[ 187 ]
قرآني يفيد الوجوب، وبيان المجمل الواجب واجب كما تقرر في الاصول، إلا أنه ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم اقتصر في تعليم المسئ صلاته على بعض ما كان يفعله ويداوم عليه، فعلمنا بذلك أنه لا وجوب لما خرج عنه من الاقوال والافعال، لان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، كما تقرر في الاصول بالاجماع ووقع الخلاف إذا جاءت صيغة أمر بشئ لم يذكر في حديث المسئ، فمنهم من قال: يكون قرينة تصرف الصيغة إلى الندب، ومنهم من قال: تبقى الصيغة على الظاهر الذي تدل عليه ويؤخذ بالزائد فالزائد، وسيأتي ترجيح ما هو الحق عند الكلام على الحديث إن شاء الله تعالى. باب أن تكبير الامام بعد تسوية الصفوف والفراغ من الاقامة عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسوي صفوفنا إذا قمنا إلى الصلاة فإذا استوينا كبر رواه أبو داود. الحديث أخرجه أبو داود بهذا اللفظ، وبلفظ آخر من طريق سماك بن حرب عن النعمان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسوينا في الصفوف كما يقوم القدح حتى إذا ظن أن قد أخذنا عنه ذلك وفقهنا أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبذ بصدره فقال: لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم. قال المنذري: والحديث المذكور في الباب طرف من هذا الحديث، وهذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه. وأخرج البخاري ومسلم من حديث سالم بن أبي الجعد عن النعمان بن بشير الفصل الاخير منه. (وفي الباب) عن جابر بن سمرة عند مسلم، وعن البراء عند مسلم أيضا، وعن أنس عند البخاري ومسلم، وله حديث آخر عند البخاري، وعن جابر عند عبد الرزاق، وعن أبي هريرة عند مسلم، وعن عائشة عند أحمد وابن ماجه، وعن ابن عمر عند أحمد وأبي داود. وروي عن عمر أنه كان يوكل رجالا بإقامة الصفوف فلا يكبر حتى يخبر أن الصفوف قد استوت أخرجه عنه الترمذي، قال: وروي عن علي وعثمان أنهما كان يتعاهدان ذلك ويقولان: استووا، وكان علي يقول: تقدم يا فلان تأخر يا فلان اه، قال ابن سيد الناس عن سويد بن غفلة قال: كان بلال يضرب أقدامنا في الصلاة ويسوي مناكبنا، قال: والآثار في هذا الباب كثيرة عمن ذكرنا وعن غيرهم، قال القاضي عياض: ولا يختلف فيه أنه من سنن الجماعات، وفي البخاري بزيادة: فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة
[ 188 ]
وقد ذهب ابن حزم الظاهري إلى فرضية ذلك محتجا بهذه الزيادة، قال: وإذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض، لان إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض، وأجاب عن هذا اليعمري فقال: إن الحديث ثبت بلفظ الاقامة وبلفظ التمام، ولا يتم له الاستدلال إلا برد لفظ التمام إلى لفظ الاقامة، وليس ذلك بأولى من العكس، قال: وأما قوله وإقامة الصلاة فرض، فإقامة الصلاة تطلق ويراد بها فعل الصلاة، وتطلق ويراد بها الاقامة بالصلاة التي تلي التأذين، وليس إرادة الاول كما زعم بأولى من إرادة الثاني، إذ الامر بتسوية الصفوف تعقب الاقامة وهو من فعل الامام أو من يوكله الامام وهو مقيم الصلاة غالبا، قال: فما ذهب إليه الجمهور من الاستحباب أولى، ويحمل لفظ الاقامة على الاقامة التي تلي التأذين أو يقدر له محذوف تقديره من تمام إقامة الصلاة، وتنتظم به أعمال الالفاظ الواردة في ذلك كلها، لان إتمام الشئ زائد على وجود حقيقته، فلفظ من تمام الصلاة يدل على عدم الوجوب. وقد ورد من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم مرفوعا بلفظ: فإن إقامة الصلاة من حسن الصلاة. وعن أبي موسى قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قمتم إلى الصلاة فليؤمكم أحدكم، وذا قرأ الامام فأنصتوا رواه أحمد. الفصل الاول من الحديث ثابت عند مسلم والنسائي وغيرهما من طرق. والفصل الثاني ثابت عند أبي داود وابن ماجه والنسائي وغيرهم، وقال مسلم: هو صحيح كما سيأتي، وسيأتي الكلام على الحديث في باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته، وفي أبواب الاقامة، وقد ساقه المصنف هنا لانه جعل إقامة الصلاة مقدمة على الامر بالامامة، وهذا إنما يتم إذا جعلت الاقامة بمعنى تسوية الصلاة، لا إذا كان المراد بها الاقامة التي تلي التأذين كما تقدم. باب رفع اليدين وبيان صفته ومواضعه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا رواه الخمسة إلا ابن ماجه. الحديث لا مطعن في إسناده لانه رواه أبو داود عن مسدد، والنسائي عن عمرو بن علي، كلاهما عن يحيى القطان عن ابن أبي ذئب وهؤلاء من أكابر الائمة، عن سعيد
[ 189 ]
بن سمعان وهو معدود في الثقات وقد ضعفه الازدي، وعن أبي هريرة، وقد أخرجه الدارمي عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي أيضا بهذا اللفظ المذكور في الكتاب وبلفظ: كان إذا كبر للصلاة نشر أصابعه وقد تفرد بإخراج هذا اللفظ الآخر من طريق يحيى بن اليمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة وقال: قد روى هذا الحديث غير واحد عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه واآله وسلم كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدا وهذا أصح من رواية يحيى بن اليمان، وأخطأ يحيى بن اليمان في هذا الحديث ثم قال: وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أخبرنا عبد الله بن عبد المجيد الحنفي، حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان قال: سمعت أبا هريرة يقول كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا قال قال عبد الله: وهذا أصح من حديث يحيى بن اليمان، وحديث يحيى بن اليمان خطأ، انتهى كلام الترمذي: وقال ابن أبي حاتم: قال أبي وهم يحيى إنما أراد كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا، كذا رواه الثقات من أصحاب ابن أبي ذئب. قوله: مدا يجوز أن يكون منتصبا على المصدرية بفعل مقدر وهو يمدهما مدا، ويجوز أن يكون منتصبا على الحالية أي رفع يديه في حال كونه مادا لهما إلى رأسه، ويجوز أن يكون مصدرا منتصبا بقوله رفع لان الرفع بمعنى المد، وأصل المد في اللغة الجر قاله الراغب. والارتفاع قال الجوهري: ومد النهار ارتفاعه، وله معان أخر ذكرها صاحب القاموس وغيره. وقد فسر ابن عبد البر المد المذكور في الحديث بمد اليدين فوق الاذنين مع الرأس انتهى. والمراد به ما يقابل النشر المذكور في الرواية الاخرى لان النشر تفريق الاصابع. (والحديث) يدل على مشروعية رفع اليدين عند تكبيرة الاحرام، وقد قال النووي في شرح مسلم: إنها أجمعت الامة على ذلك عند تكبير الاحرام، وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك، وحكى النووي أيضا عن داود إيجابه عند تكبيرة الاحرام قال: وبهذا قال الامام أبو الحسن أحمد بن سيار، والنيسابوري من أصحابنا أصحاب الوجوه، وقد اعتذر له عن حكاية الاجماع أولا، وحكاية الخلاف في الوجوب ثانيا، بأن الاستحباب لا ينافي الوجوب، أو بأنه أراد إجماع من قبل المذكورين، أو بأنه لم يثبت ذلك عنده عنهم، ولم يتفرد النووي بحكاية الاجماع، فقد روى الاجماع على الرفع عند تكبيرة الاحرام ابن حزم وابن المنذر وابن السبكي، وكذا حكى الحافظ في الفتح عن ابن عبد البر
[ 190 ]
أنه قال: أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. قال الحافظ: وممن قال بالوجوب أيضا الاوزاعي والحميدي شيخ البخاري وابن خزيمة من أصحابنا، نقله عنه الحاكم في ترجمة محمد بن علي العلوي، وحكاه القاضي حسين عن الامام، وقال ابن عبد البر: كل من نقل عنه الايجاب لا تبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الاوزاعي والحميدي، قال الحافظ: ونقل بعض الحنفية عن أبي حنيفة أنه يأثم تاركه، ونقل القفال عن أحمد بن سيار أنه يجب، ولا تصح صلاة من لم يرفع، ولا دليل يدل على الوجوب ولا على بطلان الصلاة بالترك، نعم من ذهب من أهل الاصول إلى أن المداومة على الفعل تفيد الوجوب قال به هنا. ونقل ابن المنذر والعبدري عن الزيدية أنه لا يجوز رفع اليدين عند تكبيرة الاحرام ولا عند غيرها انتهى. وهو غلط على الزيدية، فإن إمامهم زيد بن علي رحمه الله ذكر في كتابه المشهور بالمجموع حديث الرفع وقال باستحبابه، وكذا أكابر أئمتهم المتقدمين والمتأخرين صرحوا باستحبابه، ولم يقل بتركه منهم إلا الهادي يحيى بن الحسين، وروي مثل قوله عن جده القاسم بن إبراهيم، وروي عنه أيضا القول باستحبابه، وروى صاحب التبصرة من المالكية عن مالك أنه لا يستحب، وحكاه الباجي عن كثير من متقدميهم، والمشهور عن مالك القول باستحباب الرفع عند تكبيرة الاحرام، وإنما حكي عنه أنه لا يستحب عند الركوع والاعتدال منه، قال ابن عبد الحكم: لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم. (احتج القائلون) بالاستحباب بالاحاديث الكثيرة عن العدد الكثير من الصحابة حتى قال الشافعي: روى الرفع جمع من الصحابة لعله لم يرو حديث قط بعدد أكثر منهم. وقال البخاري في جزء رفع اليدين: روى الرفع تسعة عشر نفسا من الصحابة، وسرد البيهقي في السنن وفي الخلافيات أسماء من روى الرفع نحوا من ثلاثين صحابيا وقال: سمعت الحاكم يقول: اتفق على رواية هذه السنة العشرة المشهود لهم بالجنة فمن بعدهم من أكابر الصحابة، قال البيهقي: وهو كما قال. قال الحاكم والبيهقي أيضا: ولا يعلم سنة اتفق على روايتها العشرة فمن بعدهم من أكابر الصحابة على تفرقهم في الاقطار الشاسعة غير هذه السنة. وروى ابن عساكر في تاريخه من طريق أبي سلمة لا عرج قال: أدركت الناس كلهم يرفع يديه عند كل خفض ورفع، قال البخاري في الجزء المذكور: قال الحسن وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله (ص) يرفعون أيديهم ولم يستثن أحدا منهم. قال البخاري: ولم يثبت عن أحد من أصحاب رسول الله (ص)
[ 191 ]
أنه لم يرفع يديه، وجمع العراقي عدد من روى رفع اليدين في ابتداء الصلاة فبلغوا خمسين صحابيا منهم العشرة المشهود لهم بالجنة. قال الحافظ في الفتح: وذكر شيخنا الحافظ أبو الفضل أنه تتبع من رواه من الصحابة رضي الله عنهم فبلغوا خمسين رجلا (واحتج من قال) بعدم الاستحباب بحديث جابر بن سمرة عند مسلم وأبي داود قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة وأجيب عن ذلك بأنه ورد على سبب خاص، فإن مسلما رواه أيضا من حديث جابر بن سمرة قال: كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيديه إلى الجانبين، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: علام تومؤن بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدكم أن يضع يديه على فخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله ورد هذا الجوب بأنه قصر للعام على السبب وهو مذهب مرجوح كما تقرر في الاصول، وهذا الرد متجه لولا أن الرفع قد ثبت من فعله صلى الله عليه وآله وسلم ثبوتا متواترا كما تقدم، وأقل أحوال هذه السنة المتواترة أن تصلح لجعلها قرينة لقصر ذلك العام على السبب أو لتخصيص ذلك العموم على تسليم عدم القصر، وربما نازع في هذا بعضهم فقال: قد تقرر عند بعض أهل الاصول أنه إذا جهل تاريخ العام والخاص اطرحا وهو لا يدري أن الصحابة قد أجمعت على هذه السنة بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم وهم لا يجمعون إلا على أمر، فارقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أنه قد ثبت من حديث ابن عمر عند البيهقي أنه قال بعد أن ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة الاحرام وعند الركوع وعند الاعتدال، فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى. وأيضا المتقرر في الاصول بأن العام والخاص إذا جهل تاريخهما وجب البناء، وقد جعله بعض أئمة الاصول مجمعا عليه كما في شرح الغاية وغيره. وربما احتج بعضهم بما رواه الحاكم في المدخل من حديث أنس بلفظ: من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له وربما رواه ابن الجوزي عن أبي هريرة بنحو حديث أنس وهو لا يشعر أن الحاكم قال بعد إخراج حديث أنس أنه موضوع. وقد قال في البدر المنير: إن في إسناده محمد بن عكاشة الكرماني، قال الدارقطني: يضع الحديث، وابن الجوزي جعل حديث أبي هريرة المذكور من جملة الموضوعات. (وقد اختلفت الاحاديث) في محل الرفع عند تكبيرة الاحرام هل يكون قبلها أو بعدها أو مقارنا لها؟ ففي بعضها قبلها كحديث ابن عمر الآتي
[ 192 ]
بلفظ: رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه ثم يكبر وفي بعضها بعدها كما في حديث مالك بن الحويرث عند مسلم بلفظ: كبر ثم رفع يديه وفي بعضها ما يدل على المقارنة كحديث ابن عمر الآتي في هذا الباب بلفظ: كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه وفي ذلك خلاف بين العلماء، والمرجح عند الشافعية المقارنة. قال الحافظ: ولم أر من قال بتقديم التكبير على الرفع، ويرجح المقارنة حديث وائل بن حجر الآتي عند أبي داود بلفظ: رفع يديه مع التكبير وقضية المعية أنه ينتهي بانتهائه، وهو المرجح أيضا عند المالكية. وقال فريق من العلماء: الحكمة في اقترانهما أنه يراه الاصم ويسمعه الاعمى، وقد ذكرت في ذلك مناسبات أخر سيأتي ذكرها. ونقل ابن عبد البر عن ابن عمر أنه قال: رفع اليدين من زينة الصلاة. وعن عقبة بن عامر أنه قال: لكل رفع عشر حسنات لكل أصبع حسنة انتهى. وهذا له حكم الرفع لانه مما لا مجال للاجتهاد فيه هذا الكلام في رفع اليدين عند تكبيرة الاحرام، وسيأتي الكلام على الرفع عند الركوع والاعتدال وعند القيام من التشهد الاوسط. [ رح 667 ] وعن وائل بن حجر: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه مع التكبيرة رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه البيهقي أيضا من طريق عبد الرحمن بن عامر اليحصبي عن وائل. ورواه أحمد وأبو داود من طريق عبد الجبار بن وائل قال: حدثني أهل بيتي عن أبي، قال المنذري: وعبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه، وأهل بيته مجهولون، وقد تقدم الكلام على فقه الحديث. وعن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد متفق عليه. وللبخاري: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود. ولمسلم: ولا يفعل حين يرفع رأسه من السجود. وله أيضا. ولا يرفعهما بين السجدتين. الحديث أخرجه البيهقي بزيادة: فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى قال ابن المديني: هذا الحديث عندي حجة على الخلق كل من سمعه فعليه أن يعمل به لانه ليس في إسناده شئ. وقد صنف البخاري في هذه المسألة جزءا مفردا وحكى فيه عن الحسن وحميد بن هلال أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، يعني الرفع في الثلاثة المواطن، ولم يستثن الحسن أحدا،
[ 193 ]
قال ابن عبد البر: كل من روى عنه ترك الرفع في الركوع والرفع منه روى عنه فعله إلا ابن مسعود. وقال محمد بن نصر المروزي: أجمع علماء الامصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة. وقال ابن عبد الحكم: لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم، والذي نأخذ به الرفع على حديث ابن عمر وهو الذي رواه ابن وهب وغيره عن مالك، ولم يحك الترمذي عن مالك غيره. ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم أنه آخر قول مالك. وإلى الرفع في الثلاثة المواطن ذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم، وروي عن مالك والشافعي قول أنه يستحب رفعهما في موضع رابع وهو إذا قام من التشهد الاوسط. قال النووي: وهذا القول هو الصواب، فقد صح في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يفعله رواه البخاري. وصح أيضا من حديث أبي حميد الساعدي، رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة وسيأتي ذلك. وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة: لا يستحب في غير تكبيرة الاحرام، قال النووي: وهو أشهر الروايات عن مالك. (واحتجوا) على ذلك بحديث البراء بن عازب عند أبي داود والدارقطني بلفظ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لم يعد وهو من رواية يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه. وقد اتفق الحفاظ أن قوله: ثم لم يعد مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد. وقد رواه بدون ذلك شعبة والثوري وخالد الطحان وزهير وغيرهم من الحفاظ. وقال الحميدي: إنما روى هذه الزيادة يزيد ويزيد يزيد. وقال أحمد بن حنبل: لا يصح، وكذا ضعفه البخاري وأحمد ويحيى والدارمي والحميدي وغير واحد. قال يحيى بن محمد بن يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول هذا الحديث حديث رواه. وكان يزيد يحدث به برهة من دهره لا يقول فيه ثم لا يعود، فلما لقنوه يعني أهل الكوفة تلقن وكان يذكرها، وهكذا قال علي بن عاصم. وقال البيهقي: اختلف فيه على عبد الرحمن بن أبي ليلى. وقال البزار قوله في الحديث: ثم لم يعد لا يصح. وقال ابن حزم: إن صح قوله لا يعود دل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك ولبيان الجواز، فلا تعارض بينه وبين حديث ابن عمر وغيره. (واحتجوا) أيضا بما روي عن عبد الله بن مسعود من طريق عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الاسود
[ 194 ]
عن علقمة عنه عند أحمد وأبي داود والترمذي أنه قال: لاصلين لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة ورواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي من حديث محمد بن جابر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عنه بلفظ: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند الاستفتاح وهذا الحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حزم ولكنه عارض هذا التحسين، والتصحيح قول ابن المبارك لم يثبت عندي. وقول ابن أبي حاتم هذا حديث خطأ، وتضعيف أحمد وشيخه يحيى بن آدم له وتصريح أبي داود بأنه ليس بصحيح. وقول الدارقطني أنه لم يثبت، وقول ابن حبان: هذا أحسن خبر روى أهل الكوفة في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه، وهو في الحقيقة أضعف شئ يعول عليه لان له عللا تبطله. قال الحافظ: وهؤلاء الائمة إنما طعنوا كلهم في طريق عاصم بن كليب، أما طريق محمد بن جابر فذكرها ابن الجوزي في الموضوعات وقال عن أحمد: محمد بن جابر لا شئ ولا يحدث عنه إلا من هو شر منه. (واحتجوا) أيضا بما روي عن ابن عمر عند البيهقي في الخلافيات بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود قال الحافظ: وهو مقلوب موضوع. (واحتجوا) أيضا بما روي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى عليه وآله وسلم يرفع يديه كلما ركع وكلما رفع، ثم صار إلى افتتاح الصلاة وترك ما سوى ذلك حكاه ابن الجوزي وقال: لا أصل له ولا أعرف من رواه. والصحيح عن ابن عباس خلافه، ورووا نحو ذلك عن ابن الزبير، قال ابن الجوزي: لا أصل له ولا أعرف من رواه، والصحيح عن ابن الزبير خلافه. قال ابن الجوزي: وما أبلد من يحتج بهذه الاحاديث لتعارض بها الاحاديث الثابتة انتهى. ولا يخفى على المنصف أن هذه الحجج التي أوردوها منها ما هو متفق على ضعفه وهو ما عدا حديث ابن مسعود منها كما بينا، ومنها ما هو مختلف فيه وهو حديث ابن مسعود لما قدمنا من تحسين الترمذي وتصحيح ابن حزم له، ولكن أين يقع هذا التحسين والتصحيح من قدح أولئك الائمة الاكابر فيه غاية الامر؟ ونهايته أن يكون ذلك الاختلاف موجبا لسقوط الاستدلال به، ثم لو سلمنا صحة حديث ابن مسعود ولم نعتبر بقدح أولئك الائمة فيه، فليس بينه وبين الاحاديث المثبتة للرفع في الركوع والاعتدال منه تعارض،
[ 195 ]
لانها متضمنة للزيادة التي لا منافاة بينها وبين المزيد وهي مقبولة بالاجماع، لاسيما وقد نقلها جماعة من الصحابة واتفق على إخراجها الجماعة، فمن جملة من رواها ابن عمر كما في حديث الباب. وعمر كما أخرجه البيهقي وابن أبي حاتم وعلي وسيأتي. ووائل بن حجر عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه ومالك بن الحويرث عند البخاري ومسلم وسيأتي. وأنس بن مالك عند ابن ماجه. وأبو هريرة عند ابن ماجه أيضا وأبي داود. وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة عند ابن ماجه. وأبو موسى الاشعري عند الدارقطني وجابر عند ابن ماجه. وعمير الليثي عند ابن ماجه أيضا. وابن عباس عند ابن ماجه أيضا، وله طريق أخرى عند أبي داود، فهؤلاء أربعة عشر من الصحابة ومعهم أبو حميد الساعدي في عشرة من الصحابة كما سيأتي، في كون الجميع خمسة وعشرين أو اثنين وعشرين إن كان أبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة من العشرة المشار إليهم في رواية أبي حميد كما في بعض الروايات، فهل رأيت أعجب من معارضة رواية مثل هؤلاء الجماعة بمثل حديث ابن مسعود السابق مع طعن أكثر الائمة المعتبرين فيه؟ ومع وجود مانع عن القول بالمعارضة وهو تضمن رواية الجمهور للزيادة كما تقدم. قوله في حديث الباب: حتى يكونا بحذو منكبيه وهكذا في رواية علي وأبي حميد وسيأتي ذكرهما، وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور، وفي حديث مالك بن الحويرث الآتي حتى يحاذي بهما أذنيه، وعند أبي داود من رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر أنه جمع بينهما فقال: حتى يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله الاذنين. ويؤيده رواية أخرى عن وائل عند أبي داود بلفظ: حتى كانتا حيال منكبيه وحاذى بإبهاميه أذنيه وأخرج الحاكم في المستدرك والدارقطني من طريق عاصم الاحول عن أنس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كبر فحاذى بإبهاميه أذنيه ومن طريق حميد عن أنس: كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم رفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه أذنيه. وأخرج أبو داود عن ابن عمر: أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه في الافتتاح وفي غيره دون ذلك. وأخرج أبو داود أيضا عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه. وفي حديث وائل عند أبي داود أنه رأى الصحابة يرفعون أيديهم إلى صدورهم. والاحاديث الصحيحة وردت بأنه صلى الله عليه وآله وسلم رفع يديه إلى حذو منكبيه وغيرها لا يخلو عن مقال إلا حديث مالك بن الحويرث. قوله: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه
[ 196 ]
من السجود. في الرواية الاخرى: ولا يرفعهما بين السجدتين وسيأتي في حديث علي بلفظ: ولا يرفع يديه في شئ من صلاته وقد عارض هذه الروايات ما أخرجه أبو داود عن ميمون المكي: أنه رأى عبد الله بن الزبير يشير بكفيه حين يقوم وحين يركع وحين يسجد وحين ينهض للقيام قال: فانطلقت إلى ابن عباس فقلت: إني رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحدا يصليها فوصفت له هذه الاشارة فقال: إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاقتد بصلاة عبد الله بن الزبير. وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال مشهور. وأخرج أبو داود والنسائي عن النضر بن كثير السعدي قال: صلى إلى جنبي عبد الله بن طاوس في مسجد الخيف، فكان إذا سجد السجدة الاولى ورفع رأسه منها رفع يديه تلقاء وجهه، فأنكرت ذلك فقلت لوهيب بن خالد، فقال له وهيب: تصنع شيئا لم أر أحدا يصنعه؟ فقال ابن طاوس: رأيت أبي يصنعه، وقال أبي: رأيت ابن عباس يصنعه، ولا أعلم إلا أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصنعه وفي إسناده النضر بن كثير وهو ضعيف الحديث. قال الحافظ أبو أحمد النيسابوري: هذا حديث منكر من حديث ابن طاوس، وأخرج الدارقطني في العلل من حديث أبي هريرة: أنه كان يرفع يديه في كل خفض ورفع ويقول: أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه الاحاديث لا تنتهض للاحتجاج بها على الرفع في غير تلك المواطن، فالواجب البقاء على النفي الثابت في الصحيحين حتى يقوم دليل صحيح يقتضي تخصيصه، كما قام في الرفع عند القيام من التشهد الاوسط وقد تقدم الكلام عليه. وقد ذهب إلى استحبابه في السجود أبو بكر بن المنذر وأبو علي الطبري من أصحاب الشافعي وبعض أهل الحديث. وعن نافع أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. رواه البخاري والنسائي وأبو داود. قوله: ورفع ذلك ابن عمر قال أبو داود: رواه الثقفي يعني عبد الوهاب عن عبيد الله يعني ابن عمر بن حفص فلم يرفعه وهو الصحيح. وكذا رواه الليث بن سعد وابن جريج ومالك يعني موقوفا. وحكى الدارقطني في العلل الاختلاف في رفعه ووقفه. قال الحافظ: وقفه معتمر وعبد الوهاب عن عبيد الله عن نافع كما قال يعني الدارقطني، لكن رفعاه عن سالم عن ابن عمر، أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين وفيه الزيادة، وقد توبع نافع
[ 197 ]
على ذلك عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه وله شواهد كما تقدم وسيأتي. (والحديث) يدل على مشروعية الرفع في الاربعة المواطن، وقد تقدم الكلام على ذلك. وعن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وإذا أراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع يديه في شئ من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وصححه أيضا أحمد بن حنبل فيما حكاه الخلال. قوله: وإذا قام من السجدتين وقع في هذا الحديث وفي حديث ابن عمر في طريق ذكر السجدتين مكان الركعتين، والمراد بالسجدتين الركعتان بلا شك كما جاء في رواية الباقين، كذا قال العلماء من المحدثين والفقهاء إلا الخطابي فإنه ظن أن المراد السجدتان المعروفتان، ثم استشكل الحديث الذي وقع فيه ذكر السجدتين وهو حديث ابن عمر، وهذا الحديث مثله وقال: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به. قال ابن رسلان: ولعله لم يقف على طرق الحديث، ولو وقف عليها لحمله على الركعتين كما حمله الائمة. (والحديث) يدل على استحباب الرفع في هذه الاربعة المواطن، وقد عرفت الكلام على ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: وقد صح التكبير في المواضع الاربعة في حديث أبي حميد الساعدي، وسنذكره إن شاء الله انتهى. وعن أبي قلابة: أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ورفع يديه، وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وإذا رفع رأسه رفع يديه، وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنع هكذا متفق عليه. وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده فعل مثل ذلك رواه أحمد ومسلم. وفي لفظ لهما: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه. قوله: إذا صلى كبر في رواية مسلم: ثم كبر وقد تقدم الكلام على اختلاف الاحاديث في الرفع، هل يكون قبل التكبير أو بعده أو مقارنا له؟ والحديث قد تقدم
[ 198 ]
البحث عن جميع أطرافه. وقد اختلف في الحكمة في رفع اليدين فقال الشافعي: هو إعظام لله تعالى واتباع لرسوله. وقيل: استكانة واستسلام وانقياد، وكان الاسير إذا غلب مد يديه علامة لاستسلامه، وقيل: هو إشارة إلى استعظام ما دخل فيه. وقيل: إشارة إلى طرح أمور الدنيا والاقبال بكليته على صلاته ومناجاته ربه كما تضمن ذلك قوله: الله أكبر فيطابق فعله قوله، وقيل: إشارة إلى تمام القيام. وقيل: إلى رفع الحجاب بينه وبين المعبود. وقيل: ليستقبل بجميع بدنه. وقيل: ليراه الاصم ويسمعه الاعمى. وقيل: إشارة إلى دخوله في الصلاة وهذا يختص بالرفع لتكبيرة الاحرام. وقيل: لان الرفع نفي صفة الكبرياء عن غير الله، والتكبير إثبات ذلك له عزوجل، والنفي سابق على الاثبات كما في كلمة الشهادة، وقيل غير ذلك. قال النووي: وفي أكثرها نظر. واعلم أن هذه السنة تشترك فيها الرجال والنساء، ولم يرد ما يدل على الفرق بينهما فيها، وكذا لم يرد ما يدل على الفرق بين الرجل والمرأة في مقدار الرفع. وروي عن الحنفية أن الرجل يرفع إلى الاذنين والمرأة إلى المنكبين لانه أستر لها، ولا دليل على ذلك كما عرفت. وعن أبي حميد الساعدي أنه قال وهو في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدهم أبو قتادة أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: ما كنت أقدم منا له صحبة ولا أكثرنا له إتيانا، قال: بلى، قالوا: فاعرض، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم قال: الله أكبر وركع ثم اعتدل فلم يصوب رأسه ولم يقنع ووضع يديه على ركبتيه ثم قال: سمع الله لمن حمده ورفع يديه واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلا، ثم هوى إلى الارض ساجدا ثم قال: الله أكبر، ثم ثنى رجله وقعد عليها واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ثم نهض، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة، ثم صنع كذلك حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركا ثم سلم، قالوا: صدقت هكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي، ورواه البخاري مختصرا. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان، وأعله الطحاوي بأن محمد بن عمرو بن عطاء لم يدرك أبا قتادة، قال: ويزيد ذلك بيانا أن عطاف بن خالد رواه عن محمد بن عمرو بلفظ:
[ 199 ]
حدثني رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلوسا. وقال ابن حبان: سمع هذا الحديث محمد بن عمرو عن أبي حميد، وسمعه من عباس بن سهل بن سعد عن أبيه والطريقان محفوظان. قال الحافظ: السياق يأبى على ذلك كل الاباء، والتحقيق عندي أن محمد بن عمرو الذي رواه عطاف بن خالد عنه هو محمد بن عمر بن علقمة بن وقاص الليثي، وهو لم يلق أبا قتادة ولا قارب ذلك، إنما يروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وغيره من كبار التابعين. وأما محمد بن عمرو الذي رواه عبد الحميد بن جعفر عنه فهو محمد بن عمرو بن عطاء تابعي كبير جزم البخاري بأنه سمع من أبي حميد وغيره، وأخرج الحديث من طريقه انتهى. وقد اختلف في موت أبي قتادة، فقيل: مات في سنة أربع وخمسين وعلى هذا فلقا محمد له ممكن لان محمدا مات بعد سنة عشرين ومائة وله نيف وثمانون سنة. وقيل: مات أبو قتادة في خلافة علي رضي الله عنه ولا يمكن على هذا أن محمدا أدركه لان عليا قتل في سنة أربعين. وقد أجيب عن هذا أنه إذا صح موته في خلافة علي فلعل من ذكر مقدار عمر محمد أو وقت وفاته وهم. قوله: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه مدح الانسان نفسه لمن يأخذ عنه ليكون كلامه أوقع وأثبت عند السامع، كما أنه يجوز مدح الانسان نفسه وافتخاره في الجهاد ليوقع الرهبة في قلوب الكفار. قوله: فاعرض بوصل الهمزة وكسر الراء من قولهم: عرضت الكتاب عرضا قرأته عن ظهر قلب، ويحتمل أن يكون من قولهم عرضت الشئ عرضا من باب ضرب أي أظهرته. قوله: فلم يصوب بضم الياء المثناة من تحت وفتح الصاد وتشديد الواو وبعده باء موحدة أي يبالغ في خفضه وتنكيسه. قوله: ولم يقنع بضم الياء وإسكان القاف وكسر النون أي لا يرفعه حتى يكون أعلى من ظهره. قوله: حتى يرجع كل عظم وفي رواية ابن ماجه: حتى يقر كل عظم في موضعه. وفي رواية البخاري: حتى يعود كل فقار. قوله: ثم هوى الهوي السقوط من علو إلى أسفل. قوله: ثم ثنى رجله وقعد عليها وهذه تسمى قعدة الاستراحة وسيأتي الكلام فيها. قوله: حتى يرجع كل عظم في موضعه فيه فضيلة الطمأنينة في هذه الجلسة. قوله: متوركا التورك في الصلاة القعود على الورك اليسرى، والوركان فوق الفخذين كالكعبين فوق العضدين. (والحديث) قد اشتمل على جملة كثيرة من صفة صلاته صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدم الكلام على بعض ما فيه في هذا الباب، وسيأتي الكلام على بقية فوائده في المواضع التي يذكرها المصنف فيها إن شاء الله تعالى. وقد رويت حكاية أبي حميد لصلاته
[ 200 ]
(ص) بالقول كما في حديث الباب وبالفعل كما في غيره. قال الحافظ: ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون وصفها مرة بالفعل ومرة بالقول. باب ما جاء في وضع اليمين على الشمال عن وائل بن حجر: أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة وكبر ثم التحف بثوبه ثم وضع اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما وكبر فركع فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه فلما سجد سجد بين كفيه رواه أحمد ومسلم. وفي رواية لاحمد وأبي داود: ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد. الحديث أخرجه النسائي وابن حبان وابن خزيمة. وفي الباب عن هلب عند أحمد والترمذي وابن ماجه والدارقطني، وفي إسناده قبيصة بن هلب لم يروعنه غير سماك وثقه العجلي. وقال ابن المديني والنسائي: مجهول وحديث هلب حسنه الترمذي. وعن غطيف بن الحرث عند أحمد، وعن ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي وابن حبان والطبراني وقد تفرد به حرملة، وعن ابن عمر عند العقيلي وضعفه، وعن حذيفة عند الدارقطني، وعن أبي الدرداء عند الدارقطني مرفوعا وابن أبي شيبة موقوفا، وعن جابر عند أحمد والدارقطني، وعن ابن الزبير عند أبي داود، وعن عائشة عند البيهقي وقال: صحيح، وعن شداد بن شرحبيل عند البزار وفيه عباس بن يونس، وعن يعلى بن مرة عند الطبراني وفيه عمر بن عبد الله بن يعلى وهو ضعيف، وعن عقبة بن أبي عائشة عند الهيثمي موقوفا بإسناد حسن، وعن معاذ عند الطبراني وفيه الخصيب بن جحدر، وعن أبي هريرة عند الدارقطني والبيهقي، وعن الحسن مرسلا عند أبي داود، وعن طاوس مرسلا عنده أيضا، وعن سهل ابن سعد وابن مسعود وعلي وسيأتي في هذا الباب. قوله: والرسغ بضم الراء وسكون المهملة بعدها معجمة هو المفصل بين الساعد والكف. قوله: والساعد بالجر عطف على الرسغ، والرسغ مجرور لعطفه على قوله: كفه اليسرى. والمراد أنه وضع يده اليمنى على كف يده اليسرى ورسغها وساعدها. ولفظ الطبراني: وضع يده اليمنى على ظهر اليسرى في الصلاة قريبا من الرسغ قال أصحاب الشافعي: يقبض بكفه اليمنى كوع اليسرى
[ 201 ]
وبعض رسغها وساعدها. (والحديث) يدل على مشروعية وضع الكف على الكف، وإليه ذهب الجمهور، وروى ابن المنذر عن ابن الزبير والحسن البصري والنخعي أنه يرسلهما ولا يضع اليمنى على اليسرى، ونقله النووي عن الليث بن سعد. ونقله المهدي في البحر عن القاسمية والناصرية والباقر. ونقله ابن القاسم عن مالك، وخالفه ابن الحكم فنقل عن مالك الوضع، والرواية الاولى عنه هي رواية جمهور أصحابه وهي المشهورة عندهم. ونقل ابن سيد الناس عن الاوزاعي التخيير بين الوضع والارسال. (احتج الجمهور) على مشروعية الوضع بأحاديث الباب التي ذكرها المصنف وذكرناها وهي عشرون عن ثمانية عشر صحابيا وتابعيين. وحكى الحافظ عن ابن عبد البر أنه قال: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه خلاف. (واحتج القائلون) بالارسال بحديث جابر بن سمرة المتقدم بلفظ: ما لي أراكم رافعي أيديكم وقد عرفناك أن حديث جابر وارد على سبب خاص. (فإن قلت): العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قلنا: إن صدق على الوضع مسمى الرفع فلا أقل من صلاحية أحاديث الباب لتخصيص ذلك العموم، وإن لم يصدق عليه مسمى الرفع لم يصح الاحتجاج على مشروعيته بحديث جابر المذكور. (واحتجوا) أيضا بأنه مناف للخشوع وهو مأمور به في الصلاة، وهذه المنافاة ممنوعة. قال الحافظ قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل، وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع. ومن اللطائف قول بعضهم: القلب موضع النية، والعادة أن من احترز على حفظ شئ جعل يديه عليه، انتهى. قال المهدي في البحر: ولا معنى لقول أصحابنا ينافي الخشوع والسكون. (واحتجوا) أيضا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم المسئ صلاته الصلاة ولم يذكر وضع اليمين على الشمال، كذاه حكاه ابن سيد الناس عنهم وهو عجيب، فإن النزاع في استحباب الوضع لا وجوبه، وترك ذكره في حديث المسئ إنما يكون حجة على القائل بالوجوب، وقد علم أن النبي (ص) اقتصر على ذكر الفرائض في حديث المسئ. وأعجب من هذا الدليل قول المهدي في البحر مجيبا عن أدلة الجمهور بلفظ قلنا: أما فعله فلعله لعذر لاحتماله، وأما الخبر فإن صح فقوي، ويحتمل الاختصاص بالانبياء انتهى. وقد اختلف في محل وضع اليدين وسيأتي الكلام عليه. وعن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، قال أبو حازم: ولا أعلمه إلا ينمي
[ 202 ]
ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والبخاري. قوله: كان الناس يؤمرون قال الحافظ: هذا حكمه الرفع، لانه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال البيهقي: لا خلاف في ذلك بين أهل النقل. قال النووي في شرح مسلم: وهذا حديث صحيح مرفوع. قوله: على ذراعه اليسرى أبهم هنا موضعه من الذراع، وقد بينته رواية أحمد وأبي داود في الحديث الذي قبل هذا. قوله: ولا أعلمه إلا ينمي هو بفتح أوله وسكون النون وكسر الميم. قال أهل اللغة: نميت الحديث رفعته وأسندته. وفي رواية يرفع مكان ينمي، والمراد بقوله ينميه يرفعه في اصطلاح أهل الحديث قاله الحافظ. وقد أعل بعضهم الحديث بأنه ظن من أبي حازم ورد بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلمه إلى آخره لكان في حكم المرفوع، لان قول الصحابي: كنا نؤمر بكذا يصرف بظاهره إلى من له الامر وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأجيب عن هذا بأنه لو كان مرفوعا لما احتاج أبو حازم إلى قوله: لا أعلمه إلى آخره، ورد بأنه قال ذلك للانتقال إلى التصريح، فالاول لا يقال له مرفوع وإنما يقال له حكم الرفع. والثاني يقال له مرفوع. (والحديث) يصلح للاستدلال به على وجوب وضع اليد على اليد، للتصريح من سهل بن سعد بأن الناس كانوا يؤمرون، ولا يصلح لصرفه عن الوجوب ما في حديث علي الآتي بلفظ: أن من السنة في الصلاة وكذا ما في حديث ابن عباس بلفظ: ثلاث من سنن المرسلين: تعجيل الفطر، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال لما تقرر من أن السنة في لسان أهل الشرع أعم منها في لسان أهل الاصول، على أن الحديثين ضعيفان. ويؤيد الوجوب ما روي أن عليا فسر قوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * (الكوثر: 2) بوضع اليمين على الشمال، رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال: إنه أحسن ما روي في تأويل الآية. وعند البيهقي من حديث ابن عباس مثل تفسير علي وروى البيهقي أيضا أن جبريل فسر الآية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وفي إسناده إسرائيل بن حاتم وقد اتهمه ابن حبان به، ومع هذا فطول ملازمته صلى الله عليه وآله وسلم لهذه السنة معلوم لكل ناقل، وهو بمجرده كاف في إثبات الوجوب عند بعض أهل الاصول، فالقول بالوجوب هو المتعين إن لم يمنع منه إجماع على أنا لا ندين بحجية الاجماع، بل نمنع إمكانه ونجزم بتعذر وقوعه، إلا أن من جعل حديث المسئ قرينة صارفة لجميع
[ 203 ]
الاوامر الواردة بأمور خارجة عنه، لم يجعل هذه الادلة صالحة للاستدلال بها على الوجوب، وسيأتي الكلام على ذلك. وعن ابن مسعود: أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يد ه اليمنى على اليسرى رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. الحديث قال ابن سيد الناس: رجاله رجال الصحيح. وقال الحافظ في الفتح: إسناده حسن. وفي الباب عن جابر عند أحمد والدارقطني قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجل وهو يصلي وقد وضع يده اليسرى على اليمنى فانتزعها ووضع اليمنى على اليسرى. (والحديث) يدل على أن المشروع وضع اليمنى على اليسرى دون العكس، ولا خلاف فيه بين القائلين بمشروعية الوضع. وعن علي رضي الله عنه قال: إن من السنة في الصلاة وضع الاكف على الاكف تحت السرة رواه أحمد وأبو داود. الحديث ثابت في بعض نسخ أبي داود وهي نسخة ابن الاعرابي ولم يوجد في غيرها، وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي. قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يضعفه، وقال البخاري: فيه نظر. وقا ل النووي: هو ضعيف بالاتفاق. وأخرج أبو داود أيضا عن أبي جرير الضبي عن أبيه قال: رأيت عليا يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة. وفي إسناده أبو طالوت عبد السلام بن أبي حازم، قال أبو داود: يكتب حديثه. وأخرجه أبو داود عن أبي هريرة بلفظ: أخذ الاكف على الاكف تحت السرة وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق المتقدم. وأخرج أبو داود أيضا عن طاوس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم يشد بهما على صدره وهو في الصلاة وهو مرسل، وهذه الروايات المذكورة عن أبي داود كلها ليست إلا في نسخة ابن الاعرابي كما تقدم. (والحديث) استدل به من قال: إن الوضع يكون تحت السرة وهو أبو حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وأبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي. وذهبت الشافعية قال النووي: وبه قال الجمهور إلى أن الوضع يكون تحت صدره فوق سرته. وعن أحمد روايتان كالمذهبين، ورواية ثالثة أنه يخير بينهما ولا ترجيح، وبالتخيير قال الاوزاعي وابن المنذر. قال ابن المنذر في بعض تصانيفه: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شئ فهو مخير. وعن
[ 204 ]
مالك روايتان: إحداهما يضعهما تحت صدره. والثانية يرسلهما ولا يضع إحداهما على الاخرى. واحتجت الشافعية لما ذهبت إليه بما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وصححه من حديث وائل بن حجر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره. وهذا الحديث لا يدل على ما ذهبوا إليه لانهم قالوا: إن الوضع يكون تحت الصدر كما تقدم، والحديث الصريح بأن الوضع على الصدر، وكذلك حديث طاوس المتقدم، ولا شئ في الباب أصح من حديث وائل المذكور وهو المناسب لما أسلفنا من تفسير علي وابن عباس لقوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * (الكوثر: 2) بأن النحر وضع اليمين على الشمال في محل النحر والصدر. باب نظر المصلي إلى موضع سجوده والنهي عن رفع البصر في الصلاة عن ابن سيرين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقلب بصره في السماء فنزلت هذا الآية: * (الذين هم في صلاتهم خاشعون) * (المؤمنون: 2) فطأطأ رأسه. رواه أحمد في كتاب الناسخ والمنسوخ، وسعيد بن منصور في سننه بنحوه وزاد فيه: وكانوا يستحبون للرجل أن لا يجاوز بصره مصلاه وهو حديث مرسل. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهن أو لتخطفن أبصارهم رواه الجماعة إلا مسلما والترمذي. وعن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بالسبابة ولم يجاوز بصره إشارته رواه أحمد والنسائي وأبو داود. حديث ابن سيرين مرسل كما قال المصنف لانه تابعي لم يدرك النبي (ص) ورجاله ثقات. وأخرجه البيهقي موصولا وقال: المرسل هو المحفوظ. وأخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت * (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) * (المؤمنون: 2) فطأطأ رأسه وقال: إنه
[ 205 ]
على شرط الشيخين. وحديث ابن الزبير أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه وأصله في مسلم دون قوله: ولم يجاوز بصره إشارته. قوله: كان يقلب بصره إلخ، لعل ذلك كان عند إرادته (ص) تحويل القبلة كما وصفه الله تعالى في كتابه بقوله: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) * (البقرة: 144). قوله: أن لا يجاوز بصره مصلاه فيه دليل على استحباب النظر إلى المصلى وترك مجاوزة البصر له. قوله: لينتهين أقوام بتشديد النون وفيه: أن النبي (ص) كان لا يواجه أحدا بمكروه، بل إن رأى أو سمع ما يكره عمم كما قال: ما بال أقوام يشترطون شروطا لينتهين أقوام عن كذا. قوله: يرفعون أبصارهم قال ابن المنير: نظر المأموم إلى الامام من مقاصد الائتمام، فإذا تمكن من مراقبته بغير التفات أو رفع بصر إلى السماء كان ذلك من إصلاح صلاته. وقال ابن بطال: فيه حجة لمالك في أن نظر المصلي يكون إلى جهة القبلة. وقال الشافعي والكوفيون، يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده لانه أقرب إلى الخشوع. ويدل عليه ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي (ص) أنها قالت: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام المصلي يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد موضع جبينه، فتوفي أبو بكر فكان عمر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فكان عثمان وكانت الفتنة فالتفت الناس يمينا وشمالا. لكن في إسناده موسى بن عبد الله بن أبي أمية لم يخرج له من أهل الكتب الستة غير ابن ماجه. قوله: أو لتخطفن بضم الفوقية وفتح الفاء على البناء للمفعول، يعني لا يخلو الحال من أحد الامرين: إما الانتهاء عنه، وإما العمى، وهو وعيد عظيم وتهديد شديد، وإطلاقه يقضي بأنه لا فرق بين أن يكون عند الدعاء أو عند غيره إذا كان ذلك في الصلاة كما وقع به التقييد. والعلة في ذلك أنه إذا رفع بصره إلى السماء خرج عن سمت القبلة وأعرض عنها وعن هيئة الصلاة. والظاهر أن رفع البصر إلى السماء حال الصلاة حرام، لان العقوبة بالعمى لا تكون إلا عن محرم، والمشهور عند الشافعية أنه مكروه، وبالغ ابن حزم فقال: تبطل الصلاة به. وقيل: المعنى في ذلك أنه يخشى على الابصار من الانوار التي تنزل بها الملائكة على المصلي، كما في حديث أسيد بن حضير في فضائل القرآن، وأشار إلى ذلك الداودي ونحوه في جامع حماد بن سلمة عن أبي مجلز أحد التابعين. قوله: فاشتد
[ 206 ]
قوله في ذلك إما بتكرير هذا القول أو غيره مما يفيد المبالغة في الزجر. قوله: لينتهن في رواية أبي داود: لينتهين وهو جواب قسم محذوف. وفيه روايتان للبخاري: فالاكثرون بفتح أوله وضم الهاء وحذف الياء المثناة وتشديد النون على البناء للفاعل. والثانية بضم الياء وسكون النون وفتح الفوقية والهاء والياء التحتية وتشديد النون للتأكيد على البناء للمفعول. قوله: وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى الخ، سيأتي الكلام على هذه الهيئة. قوله: ولم يجاوز بصره إشارته فيه أنه يستحب للمصلي حال التشهد أن لا يرفع بصره إلى ما يجاوز به الاصبع التي يشير بها. باب ذكر الاستفتاح بين التكبير والقراءة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل القراءة، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الابيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد رواه الجماعة إلا الترمذي. قوله: هنيهة في رواية هنية قال النووي: وأصله هنوة، فلما صغرت صارت هنيوة فاجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغمت وقد تقلب هاء كما في رواية الكتاب. قال النووي أيضا: والهمز خطأ. وقال القرطبي: إن أكثر الرواة قالوه بالهمز. قوله: بأبي أنت وأمي هو متعلق بمحذوف إما اسم أو فعل، والتقدير: أنت مفدى أو أفديك. قوله: أرأيت الظاهر أنه بفتح التاء بمعنى أخبرني. قوله: ما تقول فيه إشعار بأنه قد فهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول قولا. قال ابن دقيق العيد: ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم، كما استدل غيره على القراءة باضطراب اللحية. قوله: باعد قال الحافظ: المراد بالمباعدة نحو ما حصل منها، يعني الخطايا والعصمة عما سيأتي منها انتهى. وفي هذا اللفظ مجازان: الاول استعمال المباعدة التي هي في الاصل للاجسام في مباعدة المعاني. الثاني: استعمال المباعدة في الازالة بالكلية، مع أن أصلها لا يقتضي الزوال، وموضع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل، وكأنه
[ 207 ]
أراد أن لا يقع له منها اقتراب بالكلية، وكرر لفظ بين لان العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض. قوله: نقني بتشديد القاف وهو مجاز عن زوال الذنوب ومحوها بالكلية. قال الحافظ: ولما كان الدنس في الثوب الابيض أظهر من غيره من الالوان وقع التشبيه به والدنس الوسخ الذي يدنس الثوب. قوله: بالثلج والماء والبرد جمع بين الثلاثة تأكيدا ومبالغة كما قال الخطابي، لان الثلج والبرد نوعان من الماء. قال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية تكون في غاية النقاء، قال: ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الاشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو. (والحديث) يدل على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة. وخالف في ذلك مالك في المشهور عنه والاحاديث ترد عليه. وفيه جواز الدعاء في الصلاة بما ليس من القرآن خلافا للحنفية والهادوية. وفيه أن دعاء الاستفتاح يكون بعد تكبيرة الاحرام، وخالف في ذلك الهادي والقاسم وأبو العباس وأبو طالب من أهل البيت، وسيأتي بيان ما هو الحق في ذلك. وعن علي بن أبي طالب قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لاحسن الاخلاق لا يهدي لاحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليك أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك. وإذا ركع قال: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وإذا رفع رأسه قال: اللهم ربنا لك الحمد، مل ء السموات ومل ء الارض ومل ء ما بينهما، ومل ء ما شئت من شئ بعد. وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه.
[ 208 ]
الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي مطولا، وابن ماجه مختصرا، وقد وقع في بعض نسخ هذا الكتاب مكان قوله: رواه أحمد ومسلم الخ، رواه الجماعة إلا البخاري وهو الصواب. وأخرجه أيضا ابن حبان وزاد: إذا قام إلى الصلاة المكتوبة، وكذلك رواه الشافعي وقيده أيضا بالمكتوبة وكذا غيرهما، وأما مسلم فقيده بصلاة الليل وزاد لفظ من جوف الليل. قوله: كان إذا قام إلى الصلاة زاد أبو داود: كبر ثم قال. وهذا تصريح بأن هذا التوجه بعد التكبيرة لا كما ذهب إليه من ذكرنا في شرح الحديث السابق من أنه قبل التكبيرة محتجين على ذلك بقوله تعالى: * (وكبره تكبيرا) * (الاسراء: 111) بعد قوله: * (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) * (الاسراء: 111) إلى آخره، وهو عندهم التوجه الصغير. وقوله: وجهت وجهي التوجه الكبير وهذا إنما يتم بعد تسليم أن المراد بقوله: * (وكبره تكبيرا) * الاحرام وبعد تسليم أن الواو تقتضي الترتيب، وبعد تسليم أن قوله تعالى: * (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) * (الاسراء: 111) إلى آخره من التوجهات الواردة. وهذه الامور جميعا ممنوعة، ودون تصحيحها مفاوز وعقاب، والاحسن الاحتجاج لهم بإطلاق بعض الاحاديث الواردة كحديث جابر بلفظ: كان إذا استفتح الصلاة. وحديث الباب بلفظ: كان إذا قام إلى الصلاة ولا يخفى عليك أنه قد ورد التقييد في حديث أبي هريرة المتقدم، وفي حديث الباب أيضا في رواية أبي داود كما ذكرنا. وفي حديث أبي سعيد: كان إذا قام إلى الصلاة كبر وسيأتي. وقد ورد التقييد في غير حديث، وحمل المطلق على المقيد واجب على ما هو الحق في الاصول. (ومن غرائبهم) قولهم: إنه لا يشرع التوجه بغير ما ورد في هذا الحديث من الالفاظ القرآنية إلا قوله تعالى: * (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) * (الاسراء: 111) الخ، وقد وردت الاحاديث الصحيحة بتوجهات متعددة. قوله: وجهت وجهي قيل معناه قصدت بعبادتي. وقيل: أقبلت بوجهي وجمع السموات وإفراد الارض مع كونها سبعا لشرفها. وقال القاضي أبو الطيب: لانا لا ننتفع من الارض إلا بالطبقة الاولى بخلاف السماء، فإن الشمس والقمر والكواكب موزعة عليها. وقيل: لان الارض السبع لها سكن، أخرج البيهقي عن أبي الضحى عن ابن عباس أنه قال قوله: * (ومن الارض مثلهن) * (الطلاق: 12). قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيساكم. قال: وإسناده صحيح عن ابن عباس، غير أني لا أعلم لابي الضحى متابعا. قوله: حنيفا الحنيف المائل إلى الدين بالحق وهو الاسلام قاله الاكثر، ويطلق على المائل والمستقيم، وهو عند العرب
[ 209 ]
اسم لمن كان على ملة إبراهيم وانتصابه على الحال. قوله: ونسكي النسك العبادة لله وهو من ذكر العام بعد الخاص. قوله: ومحياي ومماتي أي حياتي وموتي. والجمهور على فتح الياء الآخرة في محياي وقرئ بإسكانها. قوله: وأنا من المسلمين في رواية لمسلم: وأنا أول المسلمين قال الشافعي: لانه صلى الله عليه وآله وسلم كان أول مسلمي هذه الامة. وفي رواية أخرى لمسلم كما هنا. قال في الانتصار: أن غير النبي إنما يقول: وأنا من المسلمين وهو وهم منشؤه توهم أن معنى وأنا أول المسلمين أني أول شخص اتصف بذلك بعد أن كان الناس بمعزل عنه وليس كذلك، بل معناه بيان المسارعة في الامتثال لما أمر به ونظيره: * (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) * (الزخرف: 81) وقال موسى: * (وأنا أول المؤمنين) * (الاعراف: 143) وظاهر الاطلاق أنه لا فرق في قوله: وأنا من المسلمين. وقوله: وما أنا من المشركين بين الرجل والمرأة، وهو صحيح على إرادة الشخص. وفي المستدرك للحاكم من رواية عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة: قومي فاشهدي أضحيتك وقولي: إن صلاتي ونسكي إلى قوله: وأنا من المسلمين فدل على ما ذكرناه. قوله: ظلمت نفسي اعتراف بما يوجب نقص حظ النفس من ملابسة المعاصي تأدبا، وأراد بالنفس هنا الذات المشتملة على الروح. قوله: لاحسن الاخلاق أي لاكملها وأفضلها. قوله: سيئها أي قبيحها. قوله: لبيك هو من ألب بالمكان إذا أقام به، وثنى هذا المصدر مضافا إلى الكاف، وأصل لبيك لبين فحذف النون للاضافة. وقال النووي: قال العلماء ومعناه أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة. قوله: وسعديك قال الازهري وغيره: معناه مساعدة لامرك بعد مساعدة، ومتابعة لدينك بعد متابعة. قوله: والخير كله في يديك زاد الشافعي عن مسلم بن خالد عن موسى بن عقبة: والمهدى من هديت. قال الخطابي وغيره: فيه الارشاد إلى الادب في الثناء على الله ومدحه بأن يضاف إليه محاسن الامور دون مساويها على جهة الادب. قوله: والشر ليس إليك قال الخليل بن أحمد، والنضر بن شميل، وإسحق بن راهويه، ويحيى بن معين، وأبو بكر بن خزيمة، والازهري وغيرهم معناه لا يتقرب به إليك، روى ذلك النووي عنهم، وهذا القول الاول والقول الثاني حكاه الشيخ أبو حامد عن المزني أن معناه لا يضاف إليك على انفراده، لا يقال: يا خالق القردة والخنازير، ويا رب الشر ونحو هذا، وإن كان خالق كل شئ ورب كل شئ، وحينئذ يدخل الشر في العموم. والثالث معناه والشر لا يصعد إليك، وإنما يصعد الكلم الطيب
[ 210 ]
والعمل الصالح. والرابع معناه والشر ليس شرا بالنسبة إليك، فإنك خلقته بحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين. والخامس حكاه الخطابي أنه كقولك: فلان إلى بني فلان إذا كان عداده فيهم، حكى هذه الاقوال النووي في شرح مسلم وقال: إنه مما يجب تأويله، لان مذهب أهل الحق أن كل المحدثات فعل الله تعالى وخلقه، سواء خيرها وشرها اه. وفي المقام كلام طويل ليس هذا موضعه. قوله: أنا بك وإليك أي التجائي وانتمائي إليك وتوفيقي بك، قاله النووي. قوله: تباركت قال ابن الانباري: تبارك العباد بتوحيدك، وقيل: ثبت الخير عندك، وقال النووي: استحققت الثناء. قوله: خشع لك أي خضع وأقبل عليك من قولهم: خشعت الارض إذا سكنت واطمأنت. قوله: ومخي قال ابن رسلان: المراد به هنا الدماغ، وأصله الودك الذي في العظم، وخالص كل شئ مخه. قوله: وعصبي العصب طنب المفاصل وهو ألطف من العظم، زاد الشافعي في مسنده من رواية أبي هريرة: وشعري وبشري، والجمهور على تضعيف هذه الزيادة، وزاد النسائي من رواية جابر: ودمي ولحمي. وزاد ابن حبان في صحيحه: وما استقلت به قدمي لله رب قوله: مل ء السموات هو وما بعده بكسر الميم ونصب الهمزة ورفعها العالمين والنصب أشهر قاله النووي، ورجحه ابن خالويه وأطنب في الاستدلال، وجوز الرفع على أنه مرجوح. وحكى عن الزجاج أنه يتعين الرفع ولا يجوز غيره، وبالغ في إنكار النصب. والذي تقتضيه القواعد النحوية هو ما قاله ابن خالويه. قال النووي: قال العلماء معناه حمدا لو كان أجساما لملا السموات والارض وما بينهما لعظمه، وهكذا قال القاضي عياض وصرح أنه من قبيل الاستعارة. قوله: ومل ء ما شئت من شئ بعد وذلك كالكرسي والعرش وغيرهما مما لم يعلمه إلا الله، والمراد الاعتناء في تكثير الحمد. قوله: وصوره زاد مسلم وأبو داود: فأحسن صورته وهو الموافق لقوله تعالى: * (فأحسن صوركم) * (التغابن: 3). قوله: وشق سمعه وبصره رواية أبي داود فشق، قال القاضي عياض: قال الامام يحتج به من يقول الاذنان من الوجه، وقد مر الكلام على ذلك. قوله: فتبارك هكذا رواية ابن حبان، وهو في مسلم بدون الفاء، وفي سنن أبي داود بالواو. قوله: أحسن الخالقين أي المصورين والمقدرين. والخلق في اللغة الفعل الذي يوجده فاعله مقدرا له لا عن سهو وغفلة، والعبد قد يوجد منه ذلك. قال الكعبي: لكن لا يطلق الخالق على العبد إلا مقيدا كالرب. قوله: ما قدمت وما أخرت المراد بقوله ما أخرت إنما هو بالنسبة إلى ما وقع من ذنوبه المتأخرة، لان الاستغفار قبل الذنب محال، كذا قال أبو الوليد النيسابوري. قال الاسنوي: ولقائل
[ 211 ]
أن يقول: المحال إنما هو طلب مغفرته قبل وقوعه، وأما الطلب قبل الوقوع أن يغفر إذا وقع فلا استحالة فيه. قوله: وما أسررت وما أعلنت أي جميع الذنوب لانها إما سر أو علن. قوله: وما أسرفت المراد الكبائر لان الاسراف الافراط في الشئ ومجاوزة الحد فيه. قوله: وما أنت أعلم به مني أي من ذنوبي وإسرافي في أموري وغير ذلك. قوله: أنت المقدم وأنت المؤخر قال البيهقي: قدم من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين، وأخر من شاء عن مراتبهم. وقيل: قدم من أحب من أوليائه على غيرهم من عبيده، وأخر من أبعده عن غيره، فلا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم. قوله: لا إله إلا أنت أي ليس لنا معبود نتذلل له ونتضرع إليه في غفران ذنوبنا إلا أنت. (الحديث) يدل على مشروعية الاستفتاح بما في هذا الحديث. قال النووي: إلا أن يكون إماما لقوم لا يرون التطويل. وفيه استحباب الذكر في الركوع والسجود والاعتدال والدعاء قبل السلام، وفيه الدعاء في الصلاة بغير القرآن والرد على المانعين من ذلك وهم الحنفية والهادوية. وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا استفتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك رواه أبو داود والدارقطني مثله من رواية أنس. وللخمسة مثله من حديث أبي سعيد. وأخرج مسلم في صحيحه أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي بكر الصديق أنه كان يستفتح بذلك وكذلك رواه الدارقطني عن عثمان بن عفان وابن المنذر عن عبد الله بن مسعود. وقال الاسود: كان عمر إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، يسمعنا ذلك ويعلمنا رواه الدارقطني. أما حديث عائشة فأخرجه الترمذي وابن ماجه والدارقطني والحاكم، قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحارثة يعني ابن أبي الرجال المذكور في إسناد هذا الحديث قد تكلم فيه من قبل حفظه انتهى. وقال أبو داود بعد إخراجه: ليس بالمشهور عن عبد السلام بن حرب، لم يروه عن عبد السلام إلا طلق بن غنام. وقال الدارقطني: ليس هذا الحديث بالقوي. وقال الحافظ محمد بن عبد الواحد: ما علمت فيهم يعني رجال إسناد أبي داود مجروحا انتهى. وطلق بن غنام أخرج عنه البخاري في الصحيح. وعبد السلام بن حرب
[ 212 ]
أخرج له الشيخان ووثقه أبو حاتم، وقد صحح الحاكم هذا الحديث وأورد له شاهدا، وقال الحافظ: رجال إسناده ثقات لكفيه انقطاع، قال: وفي الباب عن ابن مسعود وعثمان وأبي سعيد وأنس والحكم بن عمرو وأبي أمامة وعمرو بن العاص وجابر. وأما حارثة بن أبي الرجال الذي أخرج الحديث الترمذي من طريقه فضعفه أحمد ويحيى والرازيان وابن عدي وابن حبان. وأما حديث أبي سعيد فسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا. وأما أن عمر كان يجهر بهذه الكلمات فرواه مسلم عن عبدة بن أبي لبابة عنه وهو موقوف على عمر، وعبدة لا يعرف له سماع من عمر، وإنما سمع من عبد الله بن عمر، ويقال: رأى عمر رؤية، وقد روى هذا الكلام عن عمر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال الدارقطني: المحفوظ عن عمر موقوف. قال الحاكم: وقد صح ذلك عن عمر، وهو في صحيح ابن خزيمة عنه. قال الحافظ: وفي إسناده انقطاع، وهكذا رواه الترمذي عن عمر موقوفا، ورواه أيضا عن ابن مسعود. قوله: سبحانك التسبيح تنزيه الله تعالى، وأصله كما قال ابن سيد الناس المر السريع في عبادة الله، وأصله مصدر مثل غفران. قوله: وبحمدك قال الخطابي: أخبرني ابن جلاد قال: سألت الزجاج عن قوله سبحانك اللهم وبحمدك، فقال: معناه سبحانك وبحمدك سبحتك. قوله: تبارك اسمك البركة ثبوت الخير الالهي في الشئ، وفيه إشارة إلى اختصاص أسمائه تعالى بالبركات. قوله: وتعالى جدك الجد العظمة، وتعالى تفاعل من العلو، أي علت عظمتك على عظمة كل أحد غيرك. قال ابن الاثير: معنى تعالى جدك علا جلالك وعظمتك. (والحديثان) وما ذكره المصنف من الآثار تدل على مشروعية الاستفتاح بهذه الكلمات. قال المصنف رحمه الله: واختيار هؤلاء يعني الصحابة الذين ذكرهم بهذا الاستفتاح وجهر به عمر أحيانا بمحضر من الصحابة ليتعلمه الناس مع أن السنة إخفاؤه، يدل على أنه الافضل، وأنه الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يداوم عليه غالبا، وإن استفتح بما رواه علي أو أبو هريرة فحسن لصحة الرواية انتهى. (لا يخفى) أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالايثار والاختيار. وأصح ما روي في الاستفتاح حديث أبي هريرة المتقدم ثم حديث علي. وأما حديث عائشة فقد عرفت ما فيه من المقال، وكذلك حديث أبي سعيد ستعرف المقال الذي فيه. قال الامام أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر، ولو أن رجلا استفتح ببعض ما روي كان حسنا. وقال ابن خزيمة: لا أعلم في الافتتاح بسبحانك اللهم خبرا ثابتا، وأحسن أسانيده حديث أبي
[ 213 ]
سعيد، ثم قال: لا نعلم أحدا ولا سمعنا به استعمل هذا الحديث على وجهه. باب التعوذ بالقراءة قال الله تعالى: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * (النحل: 98). وعن أبي سعيد الخدري: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه: كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه رواه أحمد والترمذي. وقال ابن المنذر: جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال الاسود: رأيت عمر حين يفتتح الصلاة يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يتعوذ رواه الدارقطني. حديث أبي سعيد أخرجه أيضا أبو داود والنسائي، ولفظ الترمذي: كان إذا قام إلى الصلاة كبر ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ثم يقول: الله أكبر الله أكبر، ثم يقول: أعوذ بالله إلى آخر ما ذكره المصنف. ولفظ أبي داود كلفظ الترمذي إلا أنه قال: ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثا، ثم يقول: الله أكبر كبيرا ثلاثا أعوذ بالله إلى آخره. قال أبو داود: وهذا الحديث يقولون هو عن علي بن علي يعني الرفاعي عن الحسن الوهم من جعفر. وقال الترمذي: حديث أبي سعيد أشهر حديث في هذا الباب، وقد أخذ قوم من أهل العلم بهذا الحديث. وأما أكثر أهل العلم فقالوا: إنما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك هكذا روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من التابعين وغيرهم. وقد تكلم في إسناد حديث أبي سعيد: كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي، وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث، انتهى كلام الترمذي. وعلي بن علي هو ابن نجاد بن رفاعة الرفاعي البصري، روى عنه وكيع ووثقه، وأبو نعيم وزيد بن الحباب وشيبان بن فروخ. وقال الفضل بن دكين وعفان: كان علي بن علي الرفاعي يشبه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال أحمد بن حنبل: هو صالح. وقال محمد بن عبد الله بن عمار: زعموا أنه كان يصلي كل يوم ستمائة
[ 214 ]
ركعة، وكان يشبه عيناه بعيني النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان رجلا عابدا، ما أرى أن يكون له عشرون حديثا، قيل له: أكان ثقة؟ قال: نعم. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: ليس به بأس لا يحتج بحديثه. وقال يعقوب بن إسحاق: قدم علينا شعبة فقال: اذهبوا بنا إلى سيدنا وابن سيدنا علي بن علي الرفاعي. قوله: من همزه ونفخه ونفثه قد ذكر ابن ماجه تفسير هذه الثلاثة عن عمرو بن مرة الجملي بفتح الجيم والميم فقال: نفثه الشعر، ونفخه الكبر، وهمزه الموتة بسكون الواو بدون هموالمراد بها هنا الجنون، وكذا فسره بهذا أبو داود في سننه. وإنما كان الشعر من نفثة الشيطان لانه يدعو الشعراء المداحين الهجائين المعظمين المحقرين إلى ذلك. وقيل: المراد شياطين الانس وهم الشعراء الذين يختلقون كلاما لا حقيقة له، والنفث في اللغة قذف الريق وهو أقل من التفل. والنفخ في اللغة أيضا نفخ الريح في الشي، وإنما فسر بالكبر لان المتكبر يتعاظم لاسيما إذا مدح. والهمز في اللغة أيضا العصر، يقال: همزت الشئ في كفي أي عصرته. وهمز الانسان اغتيابه. (والحديث) يدل على مشروعية الافتتاح بما ذكر في الحديث، وفيه وفي سائر الاحاديث رد لما ذهب إليه مالك من عدم استحباب الافتتاح بشئ، وفي تقييده ببعد التكبير كما تقدم رد لما ذهب من قال: إن الافتتاح قبل التكبير، وفيه أيضا مشروعية التعوذ من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه، وإلى ذلك ذهب أحمد وأبو حنيفة والثوري وابن راهويه وغيرهم، وقد ذهب الهادي والقاسم من أهل البيت إلى أن محله قبل التوجه، ومذهبهما أن التوجه قبل التكبيرة كما تقدم، وقد عرفت التصريح بأنه بعد التكبير، وهذا الحديث وإن كان فيه المقال المتقدم فقد ورد من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا. منها ما أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي (ص) بلفظ: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه وأخرجه أيضا البيهقي. ومنها ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث جبير بن مطعم: أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة فقال: الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا، الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا، أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه ومنها ما أخرجه أحمد عن أبي أمامة بنحو حديث جبير. ومنها عن سمرة عند الترمذي. ومنها عن عمر موقوفا عند الدارقطني كما ذكره المصنف، وهو أيضا عند الترمذي، هذا مع ما يؤيد ثبوت هذه السنة من عموم القرآن
[ 215 ]
والحديث مصرح أن التعوذ المذكور يكون بعد الافتتاح بالدعاء المذكور في الحديث. (فائدة). قال الحافظ في التلخيص: كلام الرافعي يقتضي أنه لم يرد الجمع بين وجهت وجهي وبين سبحانك اللهم وليس كذلك فقد جاء في حديث ابن عمر رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد الله بن عامر الاسلمي وهو ضعيف، وفيه عن جابر أخرجه البيهقي بسند جيد ولكنه من رواية ابن المنكدر عنه وقد اختلف عليه فيه، وفيه عن علي رواه إسحق بن راهويه في مسنده وأعله أبو حاتم انتهى. (فائدة أخرى). الاحاديث الواردة في التعوذ ليس فيها إلا أنه فعل ذلك في الركعة الاولى، وقد ذهب الحسن وعطاء وإبراهيم إلى استحبابه في كل ركعة واستدلوا بعموم قوله تعالى: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) * (النحل: 98) ولا شك أن الآية تدل على مشروعية الاستعاذة قبل قراءة القرآن وهي أعم من أن يكون القارئ خارج الصلاة أو داخلها. وأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة يدل على المنع منه حال الصلاة من غير فرق بين الاستعاذة وغيرها مما لم يرد به دليل يخصه ولا وقع الاذن بجنسه، فالاحوط الاقتصار على ما وردت به السنة وهو الاستعاذة قبل قراءة الركعة الاولى فقط، وسيأتي ما يدل على ذلك في باب افتتاح الثانية بالقراءة. باب ما جاء في بسم الله الرحمن الرحيم عن أنس بن مالك قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم رواه أحمد ومسلم. وفي لفظ: صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الصحيح. ولاحمد ومسلم: صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها ولعبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم قال شعبة: فقلت لقتادة: أنت سمعته من أنس؟ قال: نعم نحن سألناه عنه. وللنسائي عن منصور بن زاذان عن أنس
[ 216 ]
قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما. الحديث قد استوفى المصنف رحمه الله أكثر ألفاظه. ورواية: فكانوا لا يجهرون أخرجها أيضا ابن حبان والدارقطني والطحاوي والطبراني. وفي لفظ لابن خزيمة: كانوا يسرون. وقوله: كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين هذا متفق عليه، وإنما انفرد مسلم بزيادة: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم وقد أعل هذا اللفظ بالاضطراب، لان جماعة من أصحاب شعبة رووه عنه بهذا، وجماعة رووه عنه بلفظ: فلم أسمع أحدا منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وأجاب الحافظ عن ذلك بأنه قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين. وأخرجه البخاري في جزء القراءة، والنسائي وابن ماجه عن أيوب وهؤلاء والترمذي من طريق أبي عوانة والبخاري فيه، وأبو داود من طريق هشام الدستوائي والبخاري فيه، وابن حبان من طريق حماد بن سلمة والبخاري فيه، والسراج من طريق همام كلهم عن قتادة باللفظ الاول. وأخرجه مسلمن طريق الاوزاعي عن قتادة بلفظ: لم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم. ورواه أبو يعلى والسراج وعبد الله بن أحمد عن أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة إلى آخر ما ذكره المصنف. وفي الباب عن عائشة عند مسلم، وعن أبي هريرة عند ابن ماجه وفي إسناده بشر ابن رافع وقد ضعفه غير واحد، وله حديث آخر عند أبي داود والنسائي وابن ماجه، وله حديث ثالث سيأتي ذكره. وعن عبد الله بن مغفل وسيأتي أيضا. وقد استدل بالحديث من قال: إنه لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وهم ما حكاه ابن سيد الناس في شرح الترمذي علماء الكوفه ومن شايعهم، قال: وممن رأى الاسرار بها عمر وعلي وعمار. وقد اختلف عن بعضهم فروي عنه الجهر بها، وممن لم يختلف عنه أنه كان يسر بها عبد الله ابن مسعود، وبه قال أبو جعفر محمد بن علي بن حسين والحسن وابن سيرين، وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير، وروي عنهما الجهر بها، وروي عن علي أنه كان لا يجهر بها وعن سفيان وإليه ذهب الحكم وحماد والاوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو عبيد وحكي عن النخعي، وروي عن عمر، قال أبو عمر من وجوه ليست بالقائمة أنه قال: يخفي الامام
[ 217 ]
أربعا: التعوذ وبسم الله الرحمن الرحيم وآمين وربنا لك الحمد. وروى علقمة والاسود عن عبد الله بن مسعود قال: ثلاث يخفيهن الامام: الاستعاذة وبسم الله الرحمن الرحيم وآمين. وروي نحو ذلك عن إبراهيم والثوري، وعن الاسود: صليت خلف عمر سبعين صلاة فلم يجهر فيها ببسم الله الرحمن الرحيم. وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم أنه قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بدعة. وروى الترمذي والحازمي الاسرار عن أكثر أهل العلم. وأما الجهر بها عند الجهر بالقراءة فروي عن جماعة من السلف، قال ابن سيد الناس: روي ذلك عن عمر وابن عر وابن الزبير وابن عباس وعلي بن أبي طالب وعمار بن ياسر، وعن عمر فيها ثلاث روايات: أنه لا يقرؤها، وأنه يقرؤها سرا، وأنه يجهر بها. وكذلك اختلف عن أبي هريرة في جهره بها وإسراره. وروى الشافعي بإسناده عن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالناس بالمدينة صلاة جهر فيها بالقراءة فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر في الخفض والرفع، فلما فرغ ناداه المهاجرون والانصار: يا معاوية نقصت الصلاة أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ وأين التكبير إذا خفضت ورفعت؟ فكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبر. وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم. وذكره الخطيب عن أبي بكر الصديق وعثمان وأبي بن كعب وأبي قتادة وأبي سعيد وأنس وعبد الله بن أبي أوفى وشداد بن أوس وعبد الله بن جعفر والحسين بن علي ومعاوية. قال الخطيب: وأما التابعون ومن بعدهم ممن قال بالجهر بها فهم أكثر من أن يذكروا وأوسع من أن يحصروا، منهم سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء ومجاهد وأبو وائل وسعيد بن جبير وابن سيرين وعكرمة وعلي بن الحسين وابنه محمد بن علي وسالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن المنكدر وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن كعب ونافع مولى ابن عمر وأبو الشعثاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول وحبيب بن أبي ثابت والزهري وأبو قلابة وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه والازرق بن قيس وعبد الله بن معقل بن مقرن. وممن بعد التابعين عبيد الله العمري والحسن بن زيد وزيد بن علي بن حسين ومحمد بن عمر بن علي وابن أبي ذئب والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه. وزاد البيهقي في التابعين: عبد الله بن صفوان ومحمد ابن الحنفية وسليمان التيمي. ومن تابعيهم: المعتمر بن سليمان، وزاد أبو عمر عن أصبغ بن الفرج قال: كان ابن وهب
[ 218 ]
يقول بالجهر ثم رجع إلى الاسرار، وحكاه غيره عن ابن المبارك وأبي ثور. وذكر البيهقي في الخلافيات أنه اجتمع آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، حكاه عن أبي جعفر الهاشمي، ومثله في الجامع الكافي وغيره من كتب العترة. وقد ذهب جماعة من أهل البيت إلى الجهر بها في الصلاة السرية والجهرية. وذكر الخطيب عن عكرمة أنه كان لا يصلي خلف من لا يجهر بالبسملة. وعن أبي جعفر الهاشمي مثله، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه، ونقل عن مالك قراءتها في النوافل في فاتحة الكتاب وسائر سور القرآن. وقال طاوس: تذكر فاتحة الكتاب ولا تذكر في السورة بعدها. وحكي عن جماعة أنها لا تذكر سرا ولا جهرا، وأهل هذه المقالة منهم القائلون إنها ليست من القرآن. وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن ابن أبي ليلى والحكم أن الجهر والاسرار بها سواء، فهذه المذاهب في الجهر بها والاسرار وإثبات قراءتها ونفيها. (وقد اختلفوا) هل هي آية من الفاتحة فقط؟ أو من كل سورة؟ أو ليست بآية؟ فذهب ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وطاوس وعطاء ومكحول وابن المبارك وطائفة إلى أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة غير براءة، وحكي عن أحمد وإسحاق وأبي عبيد وجماعة أهل الكوفة ومكة وأكثر العراقيين، وحكاه الخطابي عن أبي هريرة وسعيد بن جبير، ورواه البيهقي في الخلافيات بإسناده عن علي بن أبي طالب والزهري وسفيان الثوري، وحكاه في السنن الكبرى عن ابن عباس ومحمد بن كعب أنها آية من الفاتحة فقط، وحكي عن الاوزاعي ومالك وأبي حنيفة وداود وهو رواية عن أحمد أنها ليست آية في الفاتحة ولا في أوائل السور. وقال أبو بكر الرازي وغيره من الحنفية: هي آية بين كل سورتين غير الانفال وبراءة، وليست من السور بل هي قرآن مستقل كسورة قصيرة، وحكي هذا عن داود وأصحابه وهو رواية عن أحمد. واعلم أن الامة أجمعت أنه لا يكفر من أثبتها ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها، بخلاف ما لو نفى حرفا مجمعا عليه، أو أثبت ما لم يقل به أحد فإنه يكفر بالاجماع. ولا خلاف أنها آية في أثناء سورة النمل، ولا خلاف في إثباتها خطأ في أوائل السور في المصحف إلا في أول سورة التوبة. وأما التلاوة فلا خلاف بين القراء السبعة في أول فاتحة الكتاب وفي أول كل سورة إذا ابتدأ بها القارئ ما خلا سورة التوبة. وأما في أوائل السور مع الوصل بسورة قبلها فأثبتها ابن كثير وقالون وعاصم والكسائي من
[ 219 ]
القراء في أول كل سورة إلا أول سورة التوبة، وحذفها منهم أبو عمرو وحمزة وورش وابن عامر. (وقد احتج القائلون) بالاسرار بها بحديث الباب وحديث ابن مغفل الآتي وغيرهما مما ذكرنا. (واحتج القائلون) بالجهر بها في الصلاة الجهرية بأحاديث: منها حديث أنس وحديث أم سلمة الآتيان وسيأتي الكلام عليهما. ومنها حديث ابن عباس عند الترمذي والدارقطني بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وفي إسناده إسماعيل بن حماد، قال البزار: إسماعيل لم يكن بالقوي. وقال العقيلي: غير محفوظ، وقد وثق إسماعيل يحيى بن معين. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وفي إسناده أبو خالد الوالبي اسمه هرمز وقيل هرم قال الحافظ: مجهول. وقال أبو زرعة: لا أعرف من هو. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقد ضعف أبو داود هذا الحديث، روى ذلك عنه الحافظ في التلخيص. وللحديث طريق أخرى عن ابن عباس رواها الحاكم بلفظ: كان يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم وصحح الحاكم هذا الطريق، وخطأه الحافظ في ذلك لان في إسنادها عبد الله بن عمرو بن حسان، وقد نسبه ابن المديني إلى الوضع للحديث. وقد رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن يحيى بن آدم عن شريك، ولم يذكر ابن عباس في إسناده بل أرسله وهو الصواب من هذا الوجه قاله الحافظ. وقال أبو عمر: الصحيح في هذا الحديث أنه روي عن ابن عباس من فعله لا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل يجهر في السورتين ببسم الله الرحمن الرحيم وفي إسناده عمر بن حفص المكي وهو ضعيف. وأخرجه أيضا عنه من طريق أخرى وفيها أحمد بن رشيد بن خثيم عن عمه سعيد بن خثيم وهما ضعيفان. ومنها ما أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة بلفظ: قال نعيم المجمر: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن. وفيه: ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لاشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال على شرط البخاري ومسلم، وقال البيهقي: صحيح الاسناد وله شواهد، وقال أبو بكر الخطيب فيه ثابت صحيح لا يتوجه عليه تعليل. ومنها عن أبي هريرة أيضا عند الدارقطني عن النبي (ص): كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم
[ 220 ]
ثقات انتهى. وفي إسناده عبد الله بن عبد الله الاصبحي روي عن ابن معين توثيقه وتضعيفه، وقال االمديني: كان عند أصحابنا ضعيفا وقد تكلم فيه غير واحد. ومنها عن أبي هريرة أيضا عند الدارقطني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آيها قال اليعمري: وجميع رواته ثقات، إلا أن نوح بن أبي بلال الراوي له عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة تردد فيه فرفعه تارة ووقفه أخرى. وقال الحافظ: هذا الاسناد رجاله ثقات، وصحح غير واحد من الائمة وقفه على رفعه، وأعله ابن القطان بتردد نوح المذكور، وتكلم فيه ابن الجوزي من أجل عبد الحميد بن جعفر فإن فيه مقالا، ولكن متابعة نوح له مما تقويه. ومنها عن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم أخرجه الدارقطني وفي إسناده جابر الجعفي وإبراهيم بن الحكم بن ظهير وغيرهما ممن لا يعول عليه. ومنها عن علي أيضا بلفظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في صلاته أخرجه الدارقطني وقال: هذا إسناد علوي لا بأس به، وله طريق أخرى عنده عنه بلفظ: أنه سئل عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين، قيل: إنما هي ست، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم وإسناده كلهم ثقات. وقال الحافظ في الحديث الاول الذي قال إنه لا بأس بإسناده أنه بين ضعيف ومجهول. ومنها عن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة فأراد أن يقرأ قال: بسم الله الرحمن الرحيم رواه ابن عبد البر قال: ولا يثبت فيه إلا أنه موقوف. ومنها عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تقرأ إذا قمت في الصلاة؟ قلت: أقرأ الحمد لله رب العالمين، قال قل: بسم الله الرحمن الرحيم رواه الشيخ أبو الحسن وفي إسناده الجهم بن عثمان قال أبو حاتم مجهول. ومنها عن سمرة قال: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سكتتان: سكتة إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وسكتة إذا فرغ من القراءة، فأنكر ذلك عمران بن الحصين فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن صدق سمرة أخرجه الدارقطني وإسناده جيد، غير أن الحديث أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما بلفظ: سكتة حين يفتتح وسكتة إذا فرغ من السورة ومنها عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم أخرجه الدارقطني أيضا، وله طريق أخرى عن أنس عند الدارقطني والحاكم بمعناه. ومنها عن أنس أيضا بلفظ: سمعت
[ 221 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم أخرجه الحاكم قال: ورواته كلهم ثقات. ومنها عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي وفي إسناده الحكم بن عبد الله بن سعد وقد تكلم فيه غير واحد. ومنها عن بريدة بن الحصيب بنحو حديث عائشة وفيه جابر الجعفي وليس بشئ، وله طريق أخرى فيها سلمة بن صالح وهو ذاهب الحديث. ومنها عن الحكم بن عمر وغيره من طرق لا يعول عليها. ومنها عن ابن عمر قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم أخرجه الدارقطني، قال الحافظ: وفيه أبو طاهر أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي العلوي، وقد كذبه أبو حاتم وغيره ومن دونه أيضا ضعيف ومجهول، ورواه الخطيب عن ابن عمر من وجه آخر وفيه مسلم بن حبان وهو مجهول قال: والصواب أن ذلك عن ابن عمر غير مرفوع. (فهذه الاحاديث) فيها القوي والضعيف كما عرفت، وقد عارضتها الاحاديث الدالة على ترك البسملة التي قدمناها، وقد حملت روايات حديث أنس السابقة على ترك الجهر لا ترك البسملة مطلقا لما في تلك الرواية التي قدمناها في حديثه بلفظ: فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم وكذلك حملت رواية حديث عبد الله بن مغفل الآتية وغيرهما حملا لما أطلقته أحاديث نفي قراءة البسملة على تلك الرواية المقيدة بنفي الجهر فقط، وإذا كان محصل أحاديث نفي البسملة هو نفي الجهر بها، فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه. قال الحافظ: لا بمجرد تقديم رواية المثبت على النافي، لان أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدة عشر سنين، ويصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة فلا يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة، بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم، كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرا فلم يستحضر الجهر بالبسملة، فيتعين الاخذ بحديث من أثبت الجهر انتهى. ويؤيد ما قاله الحافظ من عدم استحضار أنس لذلك ما أخرجه الدارقطني عن أبي سلمة قال: سألت أنس بن مالك أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: إنك سألتني عن شئ ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك، فقلت: أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في النعلين؟ قال: نعم. قال
[ 222 ]
الدارقطني: هذا إسناد صحيح، وعروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر، فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا، وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والاخفات قال: وكان صيتا يملا صوته الجامع، فاختلفوا في ذلك فقال بعضهم يجهر، وقال بعضهم يخفت، ولكنه لا يخفى عليك أن هذه الاحاديث التي استدل بها القائلون بالجهر منها ما لا يدل على المطلوب، وهو ما كان فيه ذكر أنها آية من الفاتحة، أو ذكر القراءة لها، أو ذكر الامر بقراءتها من دون تقييد بالجهر بها في الصلاة، لانه لا ملازمة بين ذلك وبين المطلوب وهو الجهر بها في الصلاة. وكذلك ما كان مقيدا بالجهر بها دون ذكر الصلاة لانه لا نزاع في الجهر بها خارج الصلاة. (فإن قلت): أما ذكر أنها آية أو ذكر الامر بقراءتها في الصلاة بدون تقييد بالجهر فعدم الاستلزام مسلم، وأما ذكر قراءته صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة لها فالظاهر أنه يستلزم الجهر، لان الطريق إلى نقله إنما هي السماع وما يسمع جهر وهو المطلوب. قلت: يمكن أن تكون الطريق إلى ذلك إخباره صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرأ بها في الصلاة فلا ملازمة. والذي يدل على المطلوب منها هو ما صرح فيه بالجهر بها في الصلاة، وهي أحاديث لا ينتهض الاحتجاج بها كما عرفت، ولهذا قال الدارقطني: إنه لم يصح في الجهر بها حديث، ولو سلمنا أن ذكر القراءة في الصلاة يستلزم الجهر بها لم يثبت بذلك مطلوب القائلين بالجهر، لان أنهض الاحاديث الواردة بذلك حديث أبي هريرة المتقدم، وقد تعقب باحتمال أن يكون أبو هريرة أشبههم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها، على أنه قد رواه جماعة غير نعيم عن أبي هريرة بدون ذكر البسملة كما قال الحافظ في الفتح. وقد جمع القرطبي بما حاصله: إن المشركين كانوا يحضرون المسجد فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: إنه يذكر رحمن اليمامة يعنون مسيلمة، فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم ونزلت: * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * (الاسراء: 110) قال الحكيم الترمذي: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة، وقد روى هذا الحديث الطبراني في الكبير والاوسط. وعن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان المشركون يهزؤون بمكاء وتصدية ويقولون: محمد يذكر إله اليمامة، وكان مسيلمة الكذاب يسمى رحمن، فأنزل الله: * (ولا تجهر بصلاتك) * فتسمع المشركين فيهزؤوا بك * (ولا تخافت) * عن أصحابك فلا تسمعهم. رواه ابن جبير
[ 223 ]
عن ابن عباس، ذكره النيسابوري في التيسير، وهذا جمع حسن إن صح أن هذا كان السبب في ترك الجهر. وقد قال في مجمع الزوائد: إن رجاله موثقون. وقد ذكر ابن القيم في الهدى أن النبي (ص) كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفيها أكثر مما جهر بها، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائما في كل يوم وليلة خمس مرات أبدا حضرا وسفرا، ويخفي ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابه وأهل بلده في الاعصار الفاضلة، هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة وأحاديث واهية، فصحيح تلك الاحاديث غير صريح وصريحها غير صحيح انتهى. وحجج بقية الاقوال التي فيها التفصيل في الجهر والاسرار وجواز الامرين مأخوذة من هذه الادلة فلا نطول بذكرها. وأما أدلة المثبتين لقرآنية البسملة والنافين لقرآنيتها فيأتي ذكر طرف منها في الباب الذي بعد هذا. وهذه المسألة طويلة لذيل، وقد أفردها جماعة من أكابر العلماء بتصانيف مستقلة ومن آخر ما وقع رسالة جمعتها في أيام الطلب مشتملة على نظم ونثر أجبت بها على سؤال ورد، وأجاب عنه جماعة من علماء العصر، فلنقتصر في هذا الشرح على هذا المقدار، وإن كان بالنسبة إلى ما في المسألة من التطويل نزرا يسيرا، ولكنه لا يقصر عن إفادة المنصف ما هو الصواب في المسألة، وأكثر ما في المقام الاختلاف في مستحب أو مسنون فليس شئ من الجهر، وتركه يقدح في الصلاة يبطلان بالاجماع، فلا يهولنك تعظيم جماعة من العلماء لشأن هذه المسألة والخلاف فيها، ولقد بالغ بعضهم حتى عدها من مسائل الاعتقاد. وعن ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: يا بني إياك والحدث، قال: ولم أر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا كان أبغض إليه حدثا في الاسلام منه، فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها، إذا أنت قرأت فقل: الحمد لله رب العالمين رواه الخمسة إلا أبا داود.
[ 224 ]
الحديث حسنه الترمذي وقد تفرد به الجريري، وقد قيل إنه اختلط بأخرة وقد توبع عليه الجريري كما سيأتي، وهو أيضا من أفراد ابن عبد الله بن مغفل وعليه مداره، وذكر أن اسمه يزيد وهو مجهول، لا يعرف روى عنه إلا أبو نعامة، وقد رواه معمر عن الجريري، ورواه إسماعيل بن مسعود عن خالد بن عبد الله الواسطي عن عثمان بن غياث عن أبي نعامة عن ابن عبد الله بن مغفل ولم يذكر الجريري. وإسماعيل هو الجحدري قال أبو حاتم: صدوق وروى عنه النسائي فعثمان بن غياث متابع للجريري، وقد وثق عثمان أحمد ويحيى وروى له البخاري ومسلم. وقال ابن خزيمة: هذا الحديث غير صحيح. وقال الخطيب وغيره ضعيف، قال النووي: ولا يرد على هؤلاء الحفاظ قول الترمذي أنه حسن انتهى. وسبب تضعيف هذا الحديث ما ذكرناه من جهالة ابن عبد الله بن مغفل والمجهول لا تقوم به حجة. قال أبو الفتح اليعمري: والحديث عندي ليس معللا بغير الجهالة في ابن عبد الله بن مغفل، وهي جهالة حالية لا عينية للعلم بوجوده، فقد كان لعبد الله بن المغفل سبعة أولاد سمى هذا منهم يزيد، وما رمى بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا أبا نعامة، فحكمه حكم المستور، قال: وليس في رواة هذا الخبر من يتهم بكذب فهو جار على رسم الحسن عنده. وأما تعليله بجهالة المذكور فما أراه يخرجه عن رسم الحسن عند الترمذي ولا غيره. وأما قول من قال غير صحيح فكل حسن كذلك. (والحديث) استدل به القائلون بترك قراءة البسملة في الصلاة والقائلون بترك الجهر بها، وقد تقدم الكلام على ذلك. (قال المصنف) رحمه الله: ومعنى قوله لا تقلها. وقوله: لا يقرؤونها أو لا يذكرونها ولا يستفتحون بها أي جهرا بدليل قوله في رواية تقدمت: ولا يجهرون بها، وذلك يدل على قراءتهم لها سرا انتهى. وقد قدمنا الكلام على ذلك في شرح الحديث الذي قبل هذا. وعن قتادة قال: سئل أنس كيف كان قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: كانت مدا ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم رواه البخاري. الحديث أخرجه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بدون ذكر البسملة، وهو يدل على مشروعية قراءة البسملة، وعلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمد قراءته في البسملة وغيرها. (وقد استدل به القائلون) باستحباب الجهر بقراءة البسملة في الصلاة، لان كون قراءته كانت على الصفة التي وصفها أنس تستلزم سماع
[ 225 ]
أنس لها منه (ص) خارج الصلاة، فظاهره أنه أخبر عن مطلق قراءته صلى الله عليه وآله وسلم ولفظ كان مشعر بالاستمرار كما تقرر في الاصول، فيستفاد منه عموم الازمان، وكونه من لفظ الراوي لا يقدح في ذلك لان الفرض أنه عدل عارف. وروى ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عنأم سلمة أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: كان يقطع قراءته آية آية بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا الترمذي في القراءة ولم يذكر التسمية وقال غريب وليس إسناده بمتصل، وقد أعل الطحاوي الخبر بالانقطاع فقال: لم يسمعه ابن أبي مليكة من أم سلمة، واستدل على ذلك برواية الليث عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك عن أم سلمة. قال الحافظ: وهذا الذي أعل به ليس بعلة. قد رواه الترمذي من طريق ابن أبي مليكة عن أم سلمة بلا واسطة، وصححه ورجحه على الاسناد الذي فيه يعلى بن مملك انتهى. وقد عرفت أن الترمذي قال: إنه غريب وليس بمتصل في باب القراءة، ورواه في باب فضائل القرآن، وصححه هنالك بعد أن رواه عن أبي مليكة عن يعلى بن مملك، فلعل التصحيح لاجل الاتصال كما يدل عليه قوله في باب القراءة وليس إسناده بمتصل. وأخرجه الدارقطني عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقطعها آية آية وعدها عد الاعراب، وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية ولم يعد عليهم. قال اليعمري: رواته موثقون، وكذا رواه من هذا الوجه ابن خزيمة والحاكم وفي إسناده عمر بن هارون البلخي، قال الحافظ: هو ضعيف انتهى. ولكنه قد وثق فقول اليعمري: رواته موثقون صحيح. (والحديث) يدل على أن البسملة آية، وقد استدل به من قال باستحباب الجهر بالبسملة في الصلاة لما ذكرناه في شرح الحديث الذي قبله، وقد تقدم بسط الكلام على ذلك في أول الباب. [ رح (232) ] باب في البسملة هل هي من الفاتحة وأوائل السور أم لا عنأبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلى صلاة
[ 226 ]
لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج يقولها ثلاثا، فقيل لابي هريرة: إنا نكون وراء الامام، فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: قال الله عزوجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل؟ فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. قوله: خداج بكسر الخاء المعجمة قال الخليل والاصمعي وأبو حاتم السجستاني والهروي وآخرون: الخداج النقصان، يقال: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج وإن كان تام الخلق، وأخدجت إذا ولدته ناقصا وإن كان لتمام الولادة. وقال جماعة من أهل اللغة: خدجت وأخدجت إذا ولدت لغير تمام، قالوا: فقوله خداج أي ذات خداج. قوله: اقرأ بها في نفسك السائل لابي هريرة هو أبو السائب أي اقرأها سرا بحيث تسمع نفسك. قوله: قسمت الصلاة قال النووي قال العلماء: المراد بالصلاة الفاتحة، سميت بذلك لانها لا تصح إلا بها، والمراد قسمتها من جهة المعنى، لان نصفها الاول تحميد لله وتمجيد وثناء عليه وتفويض إليه، والنصف الثاني سؤال وطلب وتضرع وافتقار. قوله: حمدني وأثنى علي ومجدني الحمد الثناء بجميل الفعال، والتمجيد الثناء بصفات الجلال، والثناء مشتمل على الامرين، ولهذا جاء جوابا للرحمن الرحيم لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية، حكى ذلك النووي عن العلماء. قوله: فوض إلي عبدي وجه مطابقة هذا لقوله مالك يوم الدين أن الله تعالى هو المنفرد بالملك ذلك اليوم وبجزاء العباد وحسابهم. والدين الحساب وقيل الجزاء، ولا دعوى لاحد ذلك اليوم حقيقة ولا مجازا، وأما في الدنيا فلبعض العباد ملك مجازي، ويدعي بعضهم دعوى باطلة، وكل هذا ينقطع في ذلك اليوم. قوله: فإذا قال إياك نعبد إلخ قال القرطبي: إنما قال الله تعالى هذا لان في ذلك تذلل العبد لله وطلبه الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله وقدرته على ما طلب منه. قوله: فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة إنما كان هذا للعبد لانه سؤال يعود نفعه إلى العبد، وفيه دليل على أن اهدنا وما بعده إلى آخر السورة ثلاث آيات لا آيتان، وفي المسألة خلاف مبني على أن البسملة من الفاتحة أم لا، وقد تقدم بسطه. (والحديث)
[ 227 ]
يدل على أنها ليست من الفاتحة، لان الفاتحة سبع آيات بالاجماع، فثلاث في أولها ثناء أولها الحمد لله. وثلاث دعاء أولها اهدنا الصراط المستقيم، والرابعة متوسطة وهي إياك نعبد وإياك نستعين، ولم تذكر البسملة في الحديث ولو كانت منها لذكرت. قال النووي. وهو من أوضح ما احتجوا به، قال: وأجاب أصحابنا وغيرهم ممن يقول إن البسملة آية من الفاتحة بأجوبة: أحدها أن التنصيف عائد إلى جملة الصلاة لا إلى الفاتحة هذا حقيقة اللفظ. والثاني أن التنصيف عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات الكاملة. والثالث معناه فإذا انتهى العبد في قراءته إلى الحمد لله رب العالمين فحينئذ تكون القسمة انتهى. ولا يخفى أن هذه الاجوبة منها ما هو غير نافع ومنها ما هو متعسف. (والحديث) أيضا يدل على وجوب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة وإليه ذهب الجمهور، وسيأتي البحث عن ذلك في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله. وأما الاستدلال بهذا الحديث على ترك الجهر في الصلاة بالبسملة فليس بصحيح، قال اليعمري: لان جماعة ممن يرى الجهر بها لا يعتقدونها قرآنا، بل هي من السنن عندهم كالتعوذ والتأمين، وجماعة ممن يرى الاسرار يعتقدونها قرآنا، ولهذا قال النووي: إن مسألة الجهر ليست مرتبة على إثبات مسألة البسملة، وكذلك احتجاج من احتج بأحاديث عدم قراءتها على أنها ليست بآية لما عرفت. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك رواه أحمد وأبو داود والترمذي. الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان، وصححه وحسنه الترمذي، وأعله البخاري في التاريخ الكبير بأن عباسا الجشمي لا يعرف سماعه من أبي هريرة، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات، وله شاهد من حديث ثابت عن أنس رواه الطبراني في الكبير بإسناد صحيح. (والحديث) استدل به من قال: إن البسملة ليست من القرآن، وقد تقدم ذكر أهل هذه المقالة في الباب الاول، وإنما استدلوا به لان سورة تبارك ثلاثون آية بالاجماع بدون التسمية، ولهذا قال المصنف: ولا يختلف العادون أنها ثلاثون آية بدون التسمية انتهى. وأجيب عن ذلك بأن المراد عدد ما هو خاصة السورة لان البسملة كالشئ المشترك فيه، وكذا الجواب عما روي عن أبي هريرة أن سورة الكوثر ثلاث آيات. وعن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا له: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: نزلت
[ 228 ]
علي آنفا سورة فقرأ * (بسم الله الرحمن الرحيم، إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الابتر) * ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قال: وذكر الحديث، رواه أحمد ومسلم والنسائي. تمام الحديث: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: إنه نهر وعدنيه ربي عزوجل عليه خير كثير، وهو حوض يرد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي؟ فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك هذا الحديث من جملة أدلة من أثبت البسملة وقد تقدم ذكرهم. ومن أدلتهم على إثباتها ما ثبت في المصاحف منها بغير تمييز، كما ميزوا أسماء السور وعدد الآي بالحمرة أو غيرها مما يخالف صورة المكتوب قرآنا. (وأجاب عن ذلك القائلون) بأنها ليست من القرآن، أنها ثبتت للفصل بين السور، وتخلص القائلون بإثباتها عن هذا الجواب بوجوه: الاول أن هذا تغرير ولا يجوز ارتكابه لمجرد الفصل. الثاني: لو كان للفصل لكتبت بين براءة والانفال ولما كتبت في أول الفاتحة. الثالث: أن الفصل كان ممكنا بتراجم السور كما حصل بين براءة والانفال. ومن جملة حجج المثبتين ما تقدم من الاحاديث المصرحة بأنها آية من الفاتحة، وأجاب من لم يثبتها بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ولا تواتر لاسيما مع ورود الادلة الدالة على أنها ليست بقرآن، كحديثي أبي هريرة المتقدم ذكرهما في هذا الباب، وحديث إتيان جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * (سورة العلق: 1) رواه البخاري ومسلم وسائر الاحاديث المتقدمة في الباب الاول. وبإجماع أهل العدد على ترك عدها آية من غير الفاتحة، وتخلص المثبتون عن قولهم لا يثبت القرآن إلا بالتواتر بوجهين: الاول أن إثباتها في المصحف في معنى التواتر، وقد صرح عضد الدين أن الرسم دليل علمي. الثاني: أن التواتر إنما يشترط فيما يثبت قرآنا على سبيل القطع، فأما ما ثبت قرآنا على سبيل الحكم فلا، والبسملة قرآن على سبيل الحكم. (ومن جملة) ما أجيب به أن عدم تواترها ممنوع لان بعض القراء السبعة أثبتها، والقراءات السبع متواترة فيلزم تواترها، والاختلاف لا يستلزم عدم التواتر، فكثيرا ما يقع لبعض الباحثين ولا يقع لمن لم يبحث كل البحث، ومحل البحث الاصول، فمن رام الاستيفاء فليراجع مطولاته. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم رواه أبو داود.
[ 229 ]
الحديث أخرجه أيضا الحاكم وصححه على شرطهما. وقد رواه أبو داود في المراسيل عن سعيد بن جبير وقال: المرسل أصح. وقال الذهبي في تلخيص المستدرك بعد أن ذكر الحديث عن ابن عباس: أما هذا فثابت. وقال الهيثمي: رواه البزار بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح. (والحديث) استدل به القائلون بأن البسملة من القرآن وقد تقدم ذكرهم، وهو ينبني على تسليم أن مجرد تنزيل البسملة يستلزم قرآنيتها. باب وجوب قراءة الفاتحة عن عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب رواه الجماعة. وفي لفظ: لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح. الحديث زاد فيه مسلم وأبو داود وابن حبان لفظ: فصاعدا لكن قال ابن حبان: تفرد بها معمر عن الزهري، وأعلها البخاري في جزء القراءة، ورواية الدارقطني صححها ابن القطان، ولها شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا بهذا اللفظ، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما. ولاحمد بلفظ: لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن. وفي الباب عن أنس عند مسلم والترمذي. وعن أبي قتادة عند أبي داود والنسائي. وعن عبد الله بن عمر عند ابن ماجه. وعن أبي سعيد عند أحمد وأبي داود وابن ماجه. وعن أبي الدرداء عند النسائي وابن ماجه. وعن جابر عند ابن ماجه. وعن علي عند البيهقي. وعن عائشة وأبي هريرة وسيأتيان إن شاء الله تعالى. وعن عبادة وسيأتي في الباب الذي بعد هذا. (والحديث) يدل على تعين فاتحة الكتاب في الصلاة وأنه لا يجزئ غيرها، وإليه ذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وهو مذهب العترة، لان النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات إن أمكن انتفاؤها، وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة لا إلى الكمال، لان الصحة أقرب المجازين والكمال أبعدهما، والحمل على أقرب المجازين واجب. وتوجه النفي ههنا إلى الذات ممكن كما قال الحافظ في الفتح، لان المراد بالصلاة معناها الشرعي لا اللغوي لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، وإذا كان
[ 230 ]
المنفي الصلاة الشرعية استقام نفي الذات، لان المركب كما ينتفي بانتفاء جميع أجزائه ينتفي بانتفاء بعضها، فلا يحتاج إلى إضمار الصحة ولا الاجزاء ولا الكمال كما روي عن جماعة، لانه إنما يحتاج إليه عند الضرورة وهي عدم إمكان انتفاء الذات، ولو سلم أن المراد هنا الصلاة اللغوية فلا يمكن توجه النفي إلى ذاتها لانها قد وجدت في الخارج كما قاله البعض، لكان المتعين توجيه النفي إلى الصحة أو الاجزاء لا إلى الكمال، أما أولا فلماذا ذكرنا من أن ذلك أقرب المجازين. وأما ثانيا فلرواية الدارقطني المذكورة في الحديث فإنها مصرحة بالاجزاء فيتعين تقديره. إذا تقرر هذا فالحديث صالح للاحتجاج به على أن الفاتحة من شروط الصلاة لا من واجباتها فقط، لان عدمها قد استلزم عدم الصلاة وهذا شأن الشرط. وذهبت الحنفية وطائفة قليلة إلى أنها لا تجب بل الواجب آية من القرآن، هكذا قال النووي، والصواب ما قال الحافظ أن الحنفية يقولون بوجوب قراءة الفاتحة، لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطا في صحة الصلاة، لان وجوبها إنما ثبت بالسنة، والذي لا تتم الصلاة إلا به فرض، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن وقد قال تعالى: * (فاقرءوا ما تيسر منه) * (المزمل: 20) فالفرض قراءة ما تيسر، وتعين الفاتحة إنما يثبت بالحديث، فيكون واجبا يأثم من يتركه وتجزئ الصلاة بدونه، وهذا تعويل على رأي فاسد حاصله رد كثير من السنة المطهرة بلا برهان ولا حجة نيرة، فكم موطن من المواطن يقول فيه الشارع: لا يجزئ كذا، لا يقبل كذا، لا يصح كذا، ويقول المتمسكون بهذا الرأي: يجزئ ويقبل ويصح، ولمثل هذا حذر السلف من أهل الرأي. (ومن جملة) ما أشادوا به هذه القاعدة أن الآية مصرحة بما تيسر وهو تخيير، فلو تعينت الفاتحة لكان التعيين نسخا للتخيير، والقطعي لا ينسخ بالظني، فيجب توجيه النفي إلى الكمال، وهذه الكلية ممنوعة، والسند ما تقدم من تحول أهل قبا إلى الكعبة بخبر واحد، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل مدحهم كما تقدم ذلك في باب الاستقبال، ولو سلمت لكان محل النزاع خارجا عنها، لان المنسوخ إنما هو استمرار التخيير وهو ظني، وأيضا الآية نزلت في قيام الليل فليست مما نحن فيه. وأما قولهم: إن الحمل على توجه النفي إلى الصحة إثبات للغة بالترجيح، وأن الصحة عرف متجدد لاهل الشرع فلا يحمل خطاب الشارع عليه، وأن تصحيح الكلام ممكن بتقدير الكمال فيكفي، لان الواجب التقدير بحسب الحاجة، فيرده تصريح الشارع بلفظ الاجزاء، وكونه من إثبات اللغة بالترجيح ممنوع، بل هو من إلحاق الفرد المجهول بالاعم
[ 231 ]
الاغلب المعلوم. ومن جملة ما استظهروا به على توجه النفي إلى الكمال أن الفاتحة لو كانت فرضا لوجب تعلمها واللازم باطل فالملزوم مثله، لما في حديث المسئ صلاته بلفظ: فإن كان معك قرآن وإلا فاحمد الله وكبره وهلله عند النسائي وأبي داود والترمذي وهذا ملتزم، فإن أحاديث فرضيتها تستلزم وجوب تعلمها، لان ما لا يتم الواجب إلا به واجب كما تقرر في الاصول. وما في حديث المسئ لا يدل على بطلان اللازم لان ذلك فرضه حين لا قرآن معه، على أنه يمكن تقييده بعدم الاستطاعة لتعلم القرآن، كما في حديث ابن أبي أوفى عند أبي داود والنسائي وأحمد وابن الجارود وابن حبان والحاكم والدارقطني: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزيني في صلاتي، فقال قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولا شك أن غير المستطيع لا يكلف لان الاستطاعة شرط في التكليف، فالعدول ههنا إلى البدل عند تعذر المبدل غير قادح في فرضيته أو شرطيته. (ومن أدلتهم) ما في حديث المسئ بلفظ: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن والجواب عنه أنه قد ورد في حديث المسئ أيضا عند أحمد وأبي داود وابن حبان بلفظ: ثم اقرأ بأم القرآن فقوله ما تيسر مجمل مبين أو مطلق مقيد أو مبهم مفسر بذلك، لان الفاتحة كانت هي المتيسرة لحفظ المسلمين لها، وقد قيل: إن المراد بما تيسر فيما زاد على الفاتحة جمعا بين الادلة، لان حديث الفاتحة زيادة وقعت غير معارضة وهذا حسن. وقيل: إن ذلك منسوخ بحديث تعيين الفاتحة، وقد تعقب القول بالاجمال والاطلاق والنسخ والظاهر الابهام والتفسير، وهذا الكلام إنما يحتاج إليه على القول بأن حديث المسئ يصرف ما ورد في غيره من الادلة المقتضية للفرضية. وأما على القول بأنه يؤخذ بالزائد فالزائد فلا إشكال في تحتم المصير إلى القول بالفرضية بل القول بالشرطية لما عرفت. ومن أدلتهم أيضا حديث أبي سعيد بلفظ: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها قال ابن سيد الناس: لا يدري بهذا اللفظ من أين جاء، وقد صح عن أبي سعيد عند أبي داود أنه قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر وإسناده صحيح ورواته ثقات، ومن أدلتهم أيضا حديث أبي هريرة عند أبي داود بلفظ لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب ويجاب بأنه من رواية جعفر بن ميمون وليس بثقة كما قال النسائي. وقال أحمد: ليس بقوي في الحديث. وقال ابن عدي: يكتب حديثه في الضعفاء. وأيضا قد روى أبو داود هذا
[ 232 ]
الحديث من طريقه عن أبي هريرة بلفظ: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد كما سيأتي، وليست الرواية الاولى بأولى من هذه، وأيضا أين تقع هذه الرواية على فرض صحتها بجنب الاحاديث المصرحة بفرضية فاتحة الكتاب وعدم إجزاء الصلاة بدونها؟ (ومن أدلتهم) أيضا ما روى ابن ماجه عن ابن عباس أنه لما مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر حديث صلاة أبي بكر بالناس ومجئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم وفيه: فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والناس يأتمون بأبي بكر، قال ابن عباس وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر. ويجاب عنه بأنه روي بإسناد فيه قيس بن الربيع، قال البزار: لا نعلم روي هذا الكلام إلا من هذا الوجه بهذا الاسناد، وقيس قال ابن سيد الناس: هو ممن اعتراه من ضعف الرواية وسوء الحفظ بولاية القضاء ما اعترى ابن أبي ليلى وشريكا، وقد وثقه قوم وضعفه آخرون، على أنه لا مانع من قراءته صلى الله عليه وآله وسلم للفاتحة بكمالها في غير هذه الركعة التي أدرك أبا بكر فيها، لان النزاع إنما هو في وجوب الفاتحة في جملة الصلاة لا في وجوبها في كل ركعة، فسيأتي هذا خلاصة ما في هذه المسألة من المعارضات. (وقد استدل) بهذا الحديث على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بناء على أن الركعة تسمى صلاة وفيه نظر، لان قراءتها في ركعة واحدة تقتضي حصول مسمى القراءة في تلك الصلاة، والاصل عدم وجوب الزيادة على المرة الواحدة، وإطلاق اسم الكل على البعض مجاز لا يصار إليه إلا لموجب فليس في الحديث، إلا أن الواجب في الصلاة التي هي اسم لجميع الركعات قراءة الفاتحة مرة واحدة، فإن دل دليل خارجي على وجوبها في كل ركعة وجب المصير إليه، وقد نسب القول بوجوب الفاتحة في كل ركعة النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح إلى الجمهور. ورواه ابن سيد الناس في شرح الترمذي عن علي وجابر، وعن ابن عون والاوزاعي وأبي ثور قال: وإليه ذهب أحمد وداود، وبه قال مالك إلا في الناسي، وإليه ذهب الامام شرف الدين من أهل البيت. قال المهدي في البحر: أن الظاهر مع من ذهب إلى إيجابها في كل ركعة، واستدلوا أيضا على ذلك بما وقع عند الجماعة، واللفظ للبخاري من قوله (ص) للمسئ: ثم افعل ذلك في صلاتك كلها بعد أن أمره بالقراءة، وفي رواية لاحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسئ صلاته أنه قال في آخره: ثم افعل ذلك في كل ركعة وقد نسب صاحب ضوء النهار هذه الرواية إلى
[ 233 ]
البخاري من حديث أبي قتادة وهو وهم، والذي في البخاري عن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وهذا الدليل إذا ضممته إلى ما أسلفنا لك من حمل قوله في حديث المسئ: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن على الفاتحة لما تقدم، انتهض ذلك للاستدلال به على وجوب الفاتحة في كل ركعة، وكان قرينة لحمل قوله في حديث المسئ: ثم كذلك في كل صلاتك فافعل على المجاز وهو الركعة وكذلك حمل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب عليه. ويؤيد وجوب الفاتحة في كل ركعة حديث أبي سعيد عند ابن ماجه بلفظ: لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها. قال الحافظ: وإسناده ضعيف. وحديث أبي سعيد أيضا بلفظ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة رواه إسماعيل بن سعيد الشاكنجي، قال ابن عبد الهادي في التفتيح: رواه إسماعيل هذا هو صاحب الامام أحمد من حديث عبادة وأبي سعيد بهذا اللفظ، وظاهر هذه الادلة وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من غير فرق بين الامام والمأموم، وبين إسرار الامام وجهره، وسيأتي الكلام على ذلك. (ومن جملة المؤيدات) لوجوب الفاتحة في كل ركعة ما أخرجه مالك في الموطأ والترمذي وصححه عن جابر أنه قال: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الامام. وذهب الحسن البصري والهادي والمؤيد بالله وداود وإسحاق إلى أن الواجب في الصلاة قراءة الفاتحة وقرآن معها مرة واحدة في أي ركعة أو مفرقة. وقال زيد بن علي والناصر: أن الواجب القراءة في الاوليين، وكذا قال أبو حنيفة، لكن من غير تخصيص للفاتحة كما سلف عنه. وأما الاخريان فلا تتعين القراءة فيهما عندهم، بل إن شاء قرأ وإن شاء سبح، زاد أبو حنيفة: وإن شاء سكت. (واحتج القائلون) بوجوب الفاتحة مرة واحدة بالاحاديث المذكورة في الباب، فإن المعنى الحقيقي للصلاة هو جميعها لا بعضها. وقد عرفت الجواب عن ذلك، واحتج من قال بوجوبها في الاوليين فقط بما روي عن علي عليه السلام أنه قرأ في الاوليين وسبح في الآخريين، وقد اختلف القائلون بتعيين الفاتحة في كل ركعة هل تصح صلاة من نسيها؟ فذهبت الشافعية وأحمد بن حنبل إلى عدم الصحة، وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن نسيها في ركعة من صلى ركعتين فسدت صلاته، وإن نسيها في ركعة من صلى ثلاثية أو رباعية فروي عنه أنه يعيدها ولا تجزئه، وروي عنه أنه يسجد سجدتي السهو، وروي عنه أنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام ومقتضى الشرطية التي نبهناك
[ 234 ]
على صلاحية الاحاديث للدلالة على أن الناسي يعيد الصلاة كمن صلى بغير وضوء ناسيا، واختلف هل تجب القراءة بزيادة على الفاتحة أو لا؟ وسيأتي تحقيقه. وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج رواه أحمد وابن ماجه. وقد سبق مثله من حديث أبي هريرة. الحديث أخرجه ابن ماجه من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه عن عائشة. ومحمد بن إسحاق فيه مقال مشهور، ولكنه يشهد لصحته حديث أبي هريرة المتقدم الذي أشار إليه المصنف عند الجماعة إلا البخاري بلفظ: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج وتقدم هنالك أيضا ضبط الخداج وتفسيره، ويشهد له أيضا ما أخرجه البيهقي عن علي عليه السلام مرفوعا بلفظ: كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج. (والحديث) احتج به الجمهور القائلون بوجوب قراءة الفاتحة، وأجاب القائلون بعدم الوجوب عنه بأن الخداج معناه النقص وهو لا يستلزم البطلان، ورد بأن الاصل أن الصلاة الناقصة لا تسمى صلاة حقيقة، وقد تقدم الكلام على بقية الادلة في المسألة. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يخرج فينادي: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أبو داود من طريق جعفر بن ميمون. وقد تقدم أن النسائي قال: ليس بثقة، وأحمد قال: ليس بقوي، وابن عدي قال: يكتب حديثه في الضعفاء. ولكنه يشهد لصحته ما عند مسلم وأبي داود وابن حبان من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا وإن كان قد أعلها البخاري في جزء القراءة كما تقدم. ويشهد له أيضا حديث أبي سعيد عند أبي داود بلفظ: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر قال ابن سيد الناس: وإسناده صحيح ورجاله ثقات. وقال الحافظ: إسناده صحيح، ويشهد له أيضا حديث أبي سعيد عند ابن ماجه بلفظ: لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة وقد تقدم تضعيف الحافظ له. وهذه الاحاديث لا تقصر عن الدلالة على وجوب قرآن مع الفاتحة، ولا خلاف في استحباب قراءة السورة مع الفاتحة في صلاة الصبح والجمعة والاوليين من كل الصلوات. قال النووي: إن ذلك سنة عند جميع
[ 235 ]
العلماء، وحكى القاضي عياض عن بعض أصحاب مالك وجوب السورة. قال النووي: وهو شاذ مردود. وأما السورة في الركعة الثالثة والرابعة فكره ذلك مالك، واستحبه الشافعي في قوله الجديد دون القديم. وقد ذهب إلى إيجاب قرآن مع الفاتحة عمر وابنه عبد الله وعثمان بن أبي العاص والهادي والقاسم والمؤيد بالله كذا في البحر. وقدره الهادي بثلاث آيات، قال القاسم والمؤيد بالله أو آية طويلة، والظاهر ما ذهبوا إليه من إيجاب شئ من القرآن، وأما التقدير بثلاث آيات فلا دليل عليه إلا توهم أنه لا يسمى ما دون ذلك قرآنا لعدم إعجازه كما قال المهدي في البحر وهو فاسد، لصدق القرآن على القليل والكثير لانه جنس، وأيضا المراد ما يسمى قرآنا لا ما يسمى معجزا ولا تلازم بينهما، وكذلك التقدير بالآية الطويلة. نعم لو كان حديث أبي سعيد المصرح فيه بذكر السورة صحيحا لكان مفسرا للمبهم في الاحاديث من قوله: فما زاد. وقوله: فصاعدا. وقوله: وما تيسر ولكان دالا على وجوب الفاتحة وسورة في كل ركعة ولكنه ضعيف كما عرفت. وقد عورضت هذه الاحاديث بما في البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أنه قال في كل صلاة يقرأ: فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسمعناكم، وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير، ولكن الظاهر من السياق أن قوله: وإن لم تزد الخ ليس مرفوعا ولا مما له حكم الرفع فلا حجة فيه. وقد أخرج أبو عوانة هذا الحديث كرواية الشيخين، إلا أنه زاد في آخره وسمعته يقول: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب قال الحافظ في الفتح: وظاهر سياقه أن ضمير سمعته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون مرفوعا بخلاف رواية الجماعة ثم قال نعم. قوله: ما أسمعنا وما أخفى عنا يشعر بأن جميع ما ذكره متلقى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون للجميع حكم الرفع اه. وهذا الاشعار في غاية الخفاء باعتبار جميع الحديث، فإن صح جمع بينه وبين الاحاديث المصرحة بزيادة ما تيسر من القرآن بحملها على الاستحباب. وقد قيل: إن المراد بقوله فصاعدا دفع توهم حصر الحكم على الفاتحة، كذا قال الحافظ، وهو معنى ما قال البخاري في جزء القراءة أن قوله فصاعدا نظير قوله: تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا قال الحافظ في الفتح: وادعى ابن حبان والقرطبي وغيرهما الاجماع على عدم وجوب قدر زائد على الفاتحة وفيه نظر، لثبوته عن بعض الصحابة وغيرهم اه.
[ 236 ]
باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته إذا سمع إمامه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما جعل الامام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا رواه الخمسة إلا الترمذي. وقال مسلم: هو صحيح. زيادة قوله: وإذا قرأ فأنصتوا قال أبو داود: ليست بمحفوظة، والوهم عندنا من أبي خالد. قال المنذري: وفيما قاله نظر، فإن أبا خالد هذا هو سليمان بن حبان الاحمر، وهو من الثقات الذين احتج البخاري ومسلم بحديثهم في صحيحيهما، ومع هذا فلم يتفرد بهذه الزيادة، بل قد تابعه عليها أبو سعيد محمد بن سعد الانصاري الاشهلي المدني نزيل بغداد. وقد سمع من ابن عجلان وهو ثقة، وثقه يحيى بن معين ومحمد بن عبد الله المخرمي وأبو عبد الرحمن النسائي، وقد أخرج هذه الزيادة النسائي في سننه من حديث أبي خالد الاحمر، ومن حديث محمد بن سعد، وقد أخرج مسلم في الصحيح هذه الزيادة في حديث أبي موسى الاشعري من حديث جرير بن عبد الحميد عن سليمان التيمي عن قتادة، وقال الدارقطني: هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمي فيها عن قتادة، وخالفه الحفاظ فلم يذكروها، قال: وإجماعهم على مخالفته يدل على وهمه، قال المنذري: ولم يؤثر عند مسلم، تفرد سليمان بذلك لثقته وحفظه وصحح هذه الزيادة يعني مسلما، قال أبو إسحاق صاحب مسلم. قال أبو بكر ابن أخت أبي النصر في هذا الحديث لمسلم أي طعن فيه، فقال مسلم: يزيد أحفظ من سليمان، فقال أبو بكر: فحديث أبي هريرة هو صحيح يعني فإذا قرأ فانصتوا فقال: هو عندي صحيح، فقال: لم لم تضعه ههنا؟ فقال: ليس كل شئ عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه، فقد صحح مسلم هذه الزيادة من حديث أبي موسى الاشعري ومن حديث أبي هريرة. قوله: إنما جعل الامام ليؤتم به معناه أن الائتمام يقتضي متابعة المأموم لامامه، فلا يجوز له المقارنة والمسابقة والمخالفة إلا ما دل الدليل الشرعي عليه، كصلاة القائم خلف القاعد ونحوها، وقد ورد النهي عن الاختلاف بخصوصه بقوله: لا تختلفوا قوله: فكبروا جزم ابن بطال وابن دقيق العيد بأن الفاء للتعقيب، ومقتضاه الامر بأن أفعال المأموم تقع عقب فعل الامام، فلو سبقه بتكبيرة الاحرام له لم تنعقد صلاته، وتعقب القول بالتعقيب بأن فاءه هي العاطفة، وأما التي هنا فهي للربط
[ 237 ]
فقط لانها وقعت جوابا للشرط، فعلى هذا لا يقتضي تأخر أفعال المأموم عن الامام إلا على القول بتقدم الشرط على الجزاء. وقد قال قوم: إن الجزاء يكون مع الشرط فينبغي على هذا المقارنة. قوله: وإذا قرأ فأنصتوا احتج بذلك القائلون أن المؤتم لا يقرأ خلف الامام في الصلاة الجهرية، وهم زيد بن علي والهادي والقاسم وأحمد بن عيسى وعبيد الله بن الحسن العنبري وإسحاق بن راهويه وأحمد ومالك والحنفية، لكن الحنفية قالوا: لا يقرأ خلف الامام لا في سرية ولا جهرية، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن شداد الآتي وهو ضعيف لا يصلح للاحتجاج به كما ستعرف ذلك. (واستدل القائلون) أن المؤتم لا يقرأ خلف الامام في الجهرية بقوله تعالى: * (فاستمعوا له وأنصتوا) * (الاعراف: 204) وبحديث أبي هريرة الآتي ذهب الشافعي وأصحابه إلى وجوب قراءة الفاتحة على المؤتم من غير فرق بين الجهرية والسرية، سواء سمع المؤتم قراءة الامام أم لا، وإليه ذهب الناصر من أهل البيت واستدلوا على ذلك بحديث عبادة بن الصامت الآتي، وأجابوا عن أدلة أهل القول الاول بأنها عمومات، وحديث عبادة خاص، وبناء العام على الخاص واجب كما تقرر في الاصول وهذا لا محيص عنه. ويؤيده الاحاديث المتقدمة القاضية بوجوب فاتحة الكتاب في كل ركعة من غير فرق بين الامام والمأموم، لان البراءة عن عهدتها إنما تحصل بناقل صحيح، لا بمثل هذه العمومات التي اقترنت بما يجب تقديمه عليها، وقد أجاب المهدي في البحر عن حديث عبادة بأنه معارض بحديث ما لي أنازع القرآن وهي من معارضة العام بالخاص وهو لا يعارضه، أما على قول من قال من أهل الاصول أنه يبنى العام على الخاص مطلقا وهو الحق فظاهر، وأما على قول من قال: إن العام المتأخر عن الخاص ناسخ له، وإنما يخصص المقارن والمتأخر بمدة لا تتسع للعمل فكذلك أيضا، لان عبادة روى العام والخاص في حديثه الآتي فهو من التخصيص بالمقارن، فلا تعارض في المقام على جميع الاقوال. (ومن جملة) ما استدل به القائلون بوجوب السكوت خلف الامام في الجهرية ما تقدم من قول جابر: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الامام وهو مع كونه غير مرفوع مفهوم لا يعارض بمثله منطوق حديث عبادة. (وقد اختلفت) الشافعية في قراءة الفاتحة هل تكون عند سكتات الامام أو عند قراءته؟ وظاهر الاحاديث الآتية أنها تقرأ عند قراءة الامام، وفعلها حال سكوت الامام إن أمكن أحوط لانه يجوز عند أهل القول الاول، فيكون فاعل ذلك آخذا بالاجماع، وأما اعتياد
[ 238 ]
قراءتها حال قراءة الامام للفاتحة فقط، أو حال قراءته للسورة فقط فليس عليه دليل، بل الكل جائز وسنة، نعم حال قراءة الامام للفاتحة مناسب من جهة عدم الاحتياج إلى تأخير الاستعاذة عن محلها الذي هو بعد التوجه، أو تكريرها عند إرادة قراءة الفاتحة إن فعلها في محلها أولا، وأخر الفاتحة إلى حال قراءة الامام للسورة، ومن جهة الاكتفاء بالتأمين مرة واحدة عند فراغه، وفراغ الامام من قراءة الفاتحة إن وقع الاتفاق في التمام، بخلاف من أخر قراءة الفاتحة إلى حال قراءة الامام للسورة، وقد بالغ بعض الشافعية، فصرح بأنه إذا اتفقت قراءة الامام والمأموم في آية خاصة من آي الفاتحة بطلت صلاته، روى ذلك صاحب البيان من الشافعية عن بعض أهل الوجوه منهم وهو من الفساد بمكان يغني عن رده. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقل: هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال: فإني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجهر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن. الحديث أخرجه أيضا مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وابن ماجه وابن حبان. وقوله: فانتهى الناس عن القراءة مدرج في الخبر كما بينه الخطيب، واتفق عليه البخاري في التاريخ وأبو داود ويعقوب بن سفيان والذهلي والخطابي وغيرهم، قال النووي: وهذا مما لا خلاف فيه بينهم. قوله: ما لي أنازع بضم الهمزة للمتكلم وفتح الزاي مضارع، ومفعوله الاول مضمر فيه، والقرآن مفعوله الثاني، قاله شارح المصابيح، واقتصر عليه ابن رسلان في شرح السنن. والمنازعة المجاذبة، قال صاحب النهاية: أنازع أي أجاذب، كأنهم جهروا بالقراءة خلفه فشغلوه فالتبست عليه القراءة، وأصل النزع الجذب ومنه نزع الميت بروحه. (والحديث) استدل به القائلون بأنه لا يقرأ المؤتم خلف الامام في الجهرية وهو خارج عن محل النزاع، لان الكلام في قراءة المؤتم خلف الامام سرا، والمنازعة إنما تكون مع جهر المؤتم لا مع إسراره، وأيضا لو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان هذا الاستفهام الذي للانكار عاما لجميع القرآن أو مطلقا في جميعه، وحديث
[ 239 ]
عبادة خاصا ومقيدا، وقد تقدم البحث عن ذلك. وعن عبادة قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم، قال قلنا يا رسول الله إي والله، قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها رواه أبو داود والترمذي. وفي لفظ: فلا تقرؤوا بشئ من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وقال: كلهم ثقات. وعن عبادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقرأن أحد منكم شيئا من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن رواه الدارقطني وقال: رجاله كلهم ثقات. الحديث أخرجه أيضا أحمد والبخاري في جزء القراءة وصححه، وابن حبان والحاكم والبيهقي من طريق ابن إسحاق قال: حدثني مكحول عن محمود بن ربيعة عن عبادة وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول. ومن شواهده ما رواه أحمد من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي (ص) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعلكم تقرؤون والامام يقرأ قالوا: إنا لنفعل، قال: لا إلا بأن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب قال الحافظ إسناده حسن، ورواه ابن حبان من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس وزعم أن الطريقتين محفوظتان، وخالفه البيهقي فقال: إن طريق أبي قلابة عن أنس ليست بمحفوظة، ومحمد بن إسحاق قد صرح بالتحديث فذهبت مظنة تدليسه وتابعه من تقدم. قوله: فثقلت عليه القراءة أي شق عليه التلفظ والجهر بالقراءة، ويحتمل أن يراد به أنها التبست عليه القراءة، بدليل ما عند أبي داود من حديث عبادة في رواية له بلفظ: فالتبست عليه القراءة. قوله: لا تفعلوا هذا النهي محمول على الصلاة الجهرية كما في الرواية الاخرى التي ذكرها المصنف بلفظ: إذا جهرت به وبلفظ: إذا جهرت بالقراءة وفي رواية لمالك والنسائي وأبي داود والترمذي وحسنها عن أبي هريرة بلفظ فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما جهر فيه حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم في الحديث الذي قبل هذا. وفي لفظ للدارقطني: إذا أسررت بقراءتي فاقرؤوا، وإذا جهرت بقراءتي فلا يقرأ معي أحد. قوله: فإنه لا صلاة قد تقدم الكلام على ما يقدر في هذا النفي. (والحديث) استدل به من قال بوجوب قراءة الفاتحة خلف الامام وهو الحق، وقد تقدم بيان ذلك، وظاهر الحديث الاذن بقراءة الفاتحة جهرا لانه استثنى من النهي عن الجهر خلفه، ولكنه أخرج ابن حبان من حديث أنس قال: قال
[ 240 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتقرؤون في صلاتكم خلف الامام والامام يقرأ فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه وأخرجه أيضا الطبراني في الاوسط والبيهقي، وأخرجه عبد الرزاق عن أبي قلابة مرسلا، وظاهر التقييد بقوله من القرآن يدل على أنه لا بأس بالاستفتاح حال قراءة الامام بما ليس بقرآن والتعوذ والدعاء. وقد ذهب ابن حزم إلى أن المؤتم لا يأتي بالتوجه وراء الامام، قال: لان فيه شيئا من القرآن، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرأ خلف الامام إلا أم القرآن وهو فاسد، لانه إن أراد بقوله لان فيه شيئا من القرآن كل توجه فقد عرفت مما سلف أن أكثرها مما لا قرآن فيه، وإن أراد خصوص توجه علي رضي الله عنه الذي فيه: وجهت وجهي إلى آخره فليس محل النزاع هذا التوجه الخاص، ولكنه ينبغي لمن صلى خلف إمام يتوجه قبل التكبيرة كالهادوية، أو دخل في الصلاة حال قراءة الامام أن يأتي بأخصر التوجهات ليتفرغ لسماع قراءة الامام. ويمكن أن يقال: لا يتوجه بشئ من التوجهات من صلى خلف إمام لا يتوجه بعد التكبيرة، لان عمومات القرآن والسنة قد دلت على وجوب الانصات والاستماع، والمتوجه حال قراءة الامام للقرآن غير منصت ولا مستمع، وإن لم يكن تاليا للقرآن إلا عند من يجوز تخصيص مثل هذا العموم بمثل ذلك المفهوم، أعني مفهوم قوله من القرآن هذا هو التحقيق في المقام. (فائدة) قد عرفت مما سلف وجوب الفاتحة على كل إمام ومأموم في كل ركعة، وعرفناك أن تلك الادلة صالحة للاحتجاج بها، على أن قراءة الفاتحة من شروط صحة الصلاة، فمن زعم أنها تصح صلاة من الصلوات أو وركعة من الركعات بدون فاتحة الكتاب فهو محتاج إلى إقامة برهان يخصص تلك الادلة. ومن ههنا يتبين لك ضعف ما ذهب إليه الجمهور أن من أدرك الامام راكعا دخل معه واعتد بتلك الركعة وإن لم يدرك شيئا من القراءة، واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة: من أدرك الركوع من الركعة الاخيرة في صلاته يوم الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى رواه الدارقطني من طريق ياسين بن معاذ وهو متروك. وأخرجه الدارقطني بلفظ: إذا أدرك أحدكم الركعتين يوم الجمعة فقد أدرك، وإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى ولكنه رواه من طريق سليمان بن داود الحراني، ومن طريق صالح بن أبي الاخضر، وسليمان متروك، وصالح ضعيف، على أن التقييد بالجمعة في كلا الروايتين مشعر بأن غير الجمعة بخلافها، وكذا التقييد بالركعة في الرواية الاخرى يدل على خلاف المدعي،
[ 241 ]
لان الركعة حقيقة لجميعها، وإطلاقها على الركوع وما بعده مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة، كما وقع عند مسلم من حديث البراء بلفظ: فوجدت قيامه فركعته فاعتداله فسجدته فإن وقوع الركعة في مقابلة القيام والاعتدال والسجود قرينة تدل على أن المراد بها الركوع. وقد ورد حديث: من أدرك ركعة من صلاة الجمعة بألفاظ لا تخلو طرقها عن مقال، حتى قال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا أصل لهذا الحديث إنما المتن: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها وكذا قال الدارقطني والعقيلي. وأخرجه ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الامام صلبه وليس في ذلك دليل لمطلوبهم لما عرفت من أن مسمى الركعة جميع أذكارها وأركانها حقيقة شرعية وعرفية وهما مقدمتان على اللغوية كما تقرر في الاصول، فلا يصح جعل حديث ابن خزيمة وما قبله قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي. (فإن قلت): فأي فائدة عن هذا في التقليد بقوله: قبل أن يقيم صلبه قلت: دفع توهم أن من دخل مع الامام ثم قرأ الفاتحة وركع الامام قبل فراغه منها غير مدرك. إذا تقرر لك هذا علمت أن الواجب الحمل على الادراك الكامل للركعة الحقيقية، لعدم وجود ما تحصل به البراءة من عهدة أدلة وجوب القيام القطعية وأدلة وجوب الفاتحة. وقد ذهب إلى هذا بعض أهل الظاهر وابن خزيمة وأبو بكر الضبعي، روى ذلك ابن سيد الناس في شرح الترمذي وذكر فيه حاكيا عمن روي عن ابن خزيمة أنه احتج لذلك بمروي عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أدرك الامام في الركوع فليركع معه وليعد الركعة وقد رواه البخاري في القراءة خلف الامام من حديث أبي هريرة أنه قال: إن أدركت القوم ركوعا لم تعتد بتلك الركعة قال الحافظ: وهذا هو المعروف عن أبي هريرة موقوفا، وأما المرفوع فلا أصل له. وقال الرافعي تبعا للامام: إن أبا عاصم العبادي حكى عن ابن خزيمة أنه احتج به، وقد حكى هذا المذهب البخاري في القراءة خلف الامام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الامام، وحكاه في الفتح عن جماعة من الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي وغيره من محدثي الشافعية، ورجحه المقبلي. قال: وقد بحثت هذه المسألة وأحطتها في جميع بحثي فقها وحديثا فلم أحصل منها على غير ما ذكرت، يعني من عدم الاعتداد بإدراك الركوع فقط. قال العراقي في شرح الترمذي بعد أن حكى عن شيخه السبكي أنه كان يختار أنه لا يعتد بالركعة من لا يدرك الفاتحة ما لفظه وهو الذي يختاره اه. فالعجب
[ 242 ]
ممن يدعي الاجماع والمخالف مثل هؤلاء. وأما احتجاج الجمهور بحديث أبي بكرة حيث صلى خلف الصف مخافة أن تفوته الركعة فقال صلى الله عليه وآله وسلم: زادك الله حرصا ولا تعد ولم يؤمر بإعادة الركعة، فليس فيها ما يدل على ما ذهبوا إليه، لانه كما لم يأمره بالاعادة لم ينقل إلينا أنه اعتد بها. والدعاء له بالحرص لا يستلزم الاعتداد بها، لان الكون مع الامام مأمور به، سواء كان الشئ الذي يدركه المؤتم معتدا به أم لا، كما في حديثه: إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا أخرجه أبو داود وغيره، على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى أبا بكرة عن العود إلى مثل ذلك. والاحتجاج بشئ قد نهى عنه لا يصح، وقد أجاب ابن حزم في المحلى عن حديث أبي بكرة فقال: إنه لا حجة لهم فيه لانه ليس فيه اجتزاء بتلك الركعة، ثم استدل على ما ذهب إليه من أنه لا بد في الاعتداد بالركعة من إدراك القيام والقراءة بحديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. ثم جزم بأنه لا فرق بين فوت الركعة والركن والذكر المفروض، لان الكل فرض لا تتم الصلاة إلا به، قال: فهو مأمور بقضاء ما سبقه الامام وإتمامه، فلا يجوز تخصيص شئ من ذلك بغير نص آخر ولا سبيل إلى وجوده، قال: وقد أقدم بعضهم على دعوى الاجماع على ذلك وهو كاذب في ذلك، لانه قد روي عن أبي هريرة أنه لا يعتد بالركعة حتى يقرأ أم القرآن، وروى القضاء أيضا عن زيد بن وهب ثم قال: فإن قيل إنه يكبر قائما ثم يركع فقد صار مدركا للوقفة، قلنا: وهذه معصية أخرى، وما أمر الله تعالى قط ولا رسوله أن يدخل في الصلاة من غير الحال التي يجد الامام عليها، وأيضا لا يجزي قضاء شئ يسبق به من الصلاة إلا بعد سلام الامام لا قبل ذلك. وقال أيضا في الجواب عن استدلالهم بحديث: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة أنه حجة عليهم لانه مع ذلك لا يسقط عنه قضاء ما لم يدرك من الصلاة انتهى. (والحاصل) أن أنهض ما احتج به الجمهور في المقام حديث أبي هريرة باللفظ الذي ذكره ابن خزيمة لقوله فيه: قبل أن يقيم صلبه كما تقدم. وقد عرفت أن ذكر الركعة فيه مناف لمطلوبهم، وابن خزيمة الذي عولوا عليه في هذه الرواية من القائلين بالمذهب الثاني كما عرفت، ومن البعيد أن يكون هذا الحديث عنده صحيحا ويذهب إلى خلافه. (ومن الادلة) على ما ذهبنا إليه في هذه المسألة حديث أبي قتادة وأبي هريرة المتفق عليهما بلفظ: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا قال الحافظ في الفتح: قد استدل بهما على أن من أدرك الامام راكعا لم يحتسب له تلك الركعة للامر بإتمام
[ 243 ]
ما فاته لانه فاته القيام والقراءة فيه، ثم قال: وحجة الجمهور حديث أبي بكرة وقد عرفت الجواب عن احتجاجهم به وقد ألف السيد العلامة محمد بن إسماعيل الامير رسالة في هذه المسألة ورجح مذهب الجمهور وقد كتبت أبحاثا في الجواب عليها. وروى عبد الله بن شداد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان له إمام فقراءة الامام له قراءة رواه الدارقطني. وقد روي مسندا من طرق كلها ضعاف والصحيح أنه مرسل. الحديث، قال الدارقطني: لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة وهما ضعيفان، قال: وروي هذا الحديث سفيان الثوري، وشعبة، وإسرائيل، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وأبو الاحوص، وسفيان بن عيينة، وحريث بن عبد الحميد وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلا، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصواب انتهى. قال الحافظ: وهو مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلولة. وقال في الفتح: إنه ضعيف عند جميع الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني. وقد احتج به القائلون بأن الامام يتحمل القراءة عن المؤتم في الجهرية الفاتحة وغيرها، والجواب أنه عام، لان القراءة مصدر مضاف وهو من صيغ العموم، وحديث عبادة المتقدم خاص فلا معارضة، وقد تقدم الكلام على ذلك. وعن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه: * (سبح اسم ربك الاعلى) *، فلما انصرف قال: أيكم قرأ أو أيكم القارئ؟ فقال الرجل: أنا، فقال: لقد ظننت أن بعضكم خالجنيها متفق عليه. قوله: خالجنيها أي نازعنيها. ومعنى هذا الكلام الانكار عليه في جهره أو رفع صوته بحيث أسمع غيره لا عن أصل القراءة، بل فيه أنهم كانوا يقرؤون بالسورة في الصلاة للسرية، وفيه إثبات قراءة السورة في الظهر للامام والمأموم. قال النووي: وهكذا الحكم عندنا، ولنا وجه شاذ ضعيف، أنه لا يقرأ المأموم السورة في السرية كما لا يقرؤها في الجهرية وهذا غلط، لانه في الجهرية يؤمر بالانصات وهنا لا يسمع، فلا معنى لسكوته من غير استماع ولو كان بعيدا عن الامام لا يسمع قراءته، فالصحيح أنه يقرأ السورة لما ذكرناه انتهى. وظاهر الاحاديث المنع من قراءة ما عدا الفاتحة من القرآن من غير فرق بين أن يسمع المؤتم الامام أو لا يسمعه، لان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: فلا تقرؤوا بشئ من القرآن إذا
[ 244 ]
جهرت يدل على النهي عن القراءة عند مجرد وقوع الجهر من الامام، وليس فيه ولا في غيره ما يشعر باعتبار السماع. باب التأمى والجهر به مع القراءة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أمن الامام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. وقال ابن شهاب: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول آمين رواه الجماعة إلا أن الترمذي لم يذكر قول ابن شهاب. وفي رواية: إذا قال الامام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين، فإن الملائكة تقول آمين، وإن الامام يقول آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه رواه أحمد والنسائي. وفي الباب عن علي عند ابن ماجه، وعن بلال عند أبي داود، وعن أبي موسى عند أبي عوانة، وعن عائشة عند أحمد والطبراني وابن ماجه، وعن ابن عباس عند ابن ماجه أيضا وفي إسناده طلحة بن عمرو، وقد تكلم فيه غير واحد من أهل العلم، وعن سلمان عند الطبراني في الكبير وفيه سعيد بن بشير، وعن ابن أم الحصين عند الطبراني في الكبير وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف، وعن أبي هريرة حديث آخر سيأتي، وحديث ثالث عند النسائي، وعن وائل ثلاثة أحاديث سيأتي ذكرها في المتن والشرح، وذكر الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله أن في الباب أيضا عن أم سلمة وسمرة انتهى، وعن ابن شهاب مرسل كما في حديث الباب، وفي الباب أيضا عن علي حديث آخر عند أحمد بن عيسى في الامالي، وعنه موقوف عليه من طريق أبي خالد الواسطي في مجموع زيد بن علي، وعنه أيضا موقوف عليه آخر من فعله عند ابن أبي حاتم وقال: هذا عندي خطأ، وعن ابن الزبير من فعله عند الشافعي، فهذه سبعة عشر حديثا وثلاثة آثار. قوله: إذا أمن الامام فيه مشروعية التأمين للامام، وقد تعقب بأن القضية شرطية فلا تدل على المشروعية، ورد بأن إذا تشعر بتحقق الوقوع كما صرح بذلك أئمة المعاني. وقد ذهب مالك إلى أن الامام لا يؤمن في الجهرية وفي رواية عنه مطلقا. وكذا روي عن أبي حنيفة والكوفيين وأحاديث الباب ترده، وسيأتي منها ما هو أصرح من حديث أبي هريرة في مشروعيته للامام، وظاهر
[ 245 ]
الرواية الاولى من الحديث أن المؤتم يوقع التأمين عند تأمين الامام، وظاهر الرواية الثانية منه أنه يوقعه عند قول الامام غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وجمع الجمهور بين الروايتين بأن المراد بقوله: إذا أمن أي أراد التأمين ليقع تأمين الامام والمأموم معا. قال الحافظ: ويخالفه رواية معمر عن ابن شهاب بلفظ: إذا قال الامام ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين والامام يقول آمين قال: أخرجها النسائي وابن السراج وهي الرواية الثانية من حديث الباب. وقيل: المراد. قوله: إذا قال ولا الضالين فقولوا آمين أي إذا لم يقل الامام آمين. وقيل: الاول لمن قرب من الامام، والثاني لمن تباعد عنه، لان جهر الامام بالتأمين أخفض من جهره بالقراءة. وقيل: يؤخذ من الروايتين تخيير المأموم في قولها مع الامام أو بعده قاله الطبري. قال الخطابي: وهذه الوجوه كلها محتملة، وليست بدون الوجه الذي ذكره يعني الجمهور. قوله: فأمنوا استدل به على مشروعية تأخير تأمين المأموم عن تأمين الامام لانه رتبه عليه بالفاء، لكن قد تقدم في الجمع بين الروايتين أن المراد المقارنة وبذلك قال الجمهور. قوله: تأمين الملائكة قال النووي: واختلف في هؤلاء الملائكة فقيل هم الحفظة، وقيل غيرهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من وافق قوله قول أهل السماء وأجاب الاولون بأنه إذا قاله الحاضرون من الحفظة قاله من فوقهم حتى ينتهي إلى أهل السماء. والمراد بالموافقة الموافقة في وقت التأمين فيؤمن مع تأمينهم قاله النووي. قال ابن المنير: الحكمة في إثبات الموافقة في القول والزمان أن يكون المأموم على يقظة للاتيان بالوظيفة في محلها. وقال القاضي عياض: معناه وافقهم في الصفة والخشوع والاخلاص. قال الحافظ: والمراد بتأمين الملائكة استغفارهم للمؤمنين. قوله: آمين هو بالمد والتخفيف في جميع الروايات وعن جميع القراء. وحكى أبو نصر عن حمزة والكسائي الامالة وفيه ثلاث لغات أخر شاذة القصر، حكاه ثعلب وأنشد له شاهدا، وأنكره ا بن درستويه وطعن في الشاهد بأنه لضرورة الشعر. وحكى عياض ومن تبعه عن ثعلب أنه إنما أجازه في الشعر خاصة. والثانية التشديد مع المد. والثالثة التشديد مع القصر وخطأهما جماعة من أئمة اللغة. وآمين من أسماء الافعال، ويفتح في الوصل لانها مثل كيف، ومعناه: اللهم استجب عند الجمهور. وقيل غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى. وقيل إنه اسم لله حكاه صاحب القاموس عن الواحدي. (والحديث) يدل على مشروعية التأمين، قال الحافظ: وهذا الامر عند الجمهور للندب. وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم
[ 246 ]
وجوبه على المأموم عملا بظاهر الامر. وأوجبته الظاهرية على كل من يصلي. والظاهر من الحديث الوجوب على المأموم فقط، لكن لا مطلقا بل مقيدا بأن يؤمن الامام، وأما الامام والمنفرد فمندوب فقط. وحكى المهدي في البحر عن العترة جميعا أن التأمين بدعة، وقد عرفت ثبوته عن علي عليه السلام من فعله وروايته عن النبي (ص) في كتب أهل البيت وغيرهم على أنه قد حكى السيد العلامة الامام محمد بن إبراهيم الوزير عن الامام المهدي محمد بن المطهر وهو أحد أئمتهم المشاهير أنه قال في كتابه الرياض الندية: إن رواة التأمين جم غفير، قال: وهو مذهب زيد بن علي وأحمد بن عيسى انتهى. وقد استدل صاحب البحر على أن التأمين بدعة بحديث معاوية بن الحكم السلمي أن هذه صلاتنا لا يصلح فيها شئ من كلام الناس، ولا يشك أن أحاديث التأمين خاصة وهذا عام، وإن كانت أحاديثه الواردة عن جمع من الصحابة لا يقوى بعضها على تخصيص حديث واحد من الصحابة، مع أنها مندرجة تحت العمومات القاضية بمشروعية مطلق الدعاء في الصلاة لان التأمين دعاء، فليس في الصلاة تشهد وقد أثبتته العترة، فما هو جوابهم في إثباته فهو الجواب في إثبات ذلك، على أن المراد بكلام الناس في الحديث هو تكليمهم لانه اسم مصدر كلم لا تكلم. ويدل على أن ذلك السبب المذكور في الحديث. وأما القدح في مشروعية التأمين بأنه من طريق وائل بن حجر فهو ثابت من طريق غيره في كتب أهل البيت وغيرها، فإنه مروي من جهة ذلك العدد الكثير. وأما ما رواه في الجامع الكافي عن القاسم بن إبراهيم أن آمين ليست من لغة العرب فهذه كتب اللغة بأجمعها على ظهر البسيطة. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تلا غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال آمين حتى يسمع من يليه من الصف الاول رواه أبو داود وابن ماجه وقال: حتى يسمعها أهل الصف الاول فيرتج بها المسجد. الحديث أخرجه أيضا الدارقطني وقال: إسناده حسن، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. والبيهقي وقال: حسن صحيح. وأشار إليه الترمذي وهو يدل على مشروعية التأمين للامام ومشروعية الجهر به، وقد تقدم الخلاف في ذلك. واستدلوا على مشروعية الجهر به بحديث عائشة مرفوعا عند أحمد وابن ماجه والطبراني بلفظ: ما حسدتكم اليهود على شئ ما حسدتكم على السلام والتأمين وحديث ابن عباس عند ابن ماجه
[ 247 ]
بلفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما حسدتكم اليهود على شئ ما حسدتكم على قول آمين فأكثروا من قول آمين اه. وعن وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال آمين يمد بها صوته رواه أحمد وأبو داود والترمذي. الحديث أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وزاد أبو داود: ورفع بها صوته قال الحافظ: وسنده صحيح، وصححه الدارقطني، وأعله ابن القطان بحجر بن عنبس وقال: إنه لا يعرف، وخطأه الحافظ وقال: إنه ثقة معروف قيل له صحبة، ووثقه يحيى بن معين وغيره، وروى الحديث ابن ماجه وأحمد والدارقطني من طريق أخرى بلفظ: وخفض بها صوته وقد أعلت باضطراب شعبة في إسنادها ومتنها، ورواها سفيان ولم يضطرب في الاسناد ولا المتن. قال ابن القطان: اختلف شعبة وسفيان، فقال شعبة: خفض، وقال الثوري: رفع. وقال شعبة: حجر أبو عنبس، وقال الثوري: حجر بن عنبس، وصوب البخاري وأبو زرعة قول الثوري، وقد جزم ابن حبان في الثقات أن كنيته كاسم أبيه فيكون ما قالاه صوابا. وقال البخاري: إن كنيته أبو السكن، ولا مانع من أن يكون له كنيتان، وقد ورد الحديث من طرق ينتفي بها إعلاله بالاضطراب من شعبة، ولم يبق إلا التعارض بين شعبة وسفيان، وقد رجحت رواية سفيان بمتابعة اثنين له بخلاف شعبة، فلذلك جزم النقاد بأن روايته أصكما روي ذلك عن البخاري وأبي زرعة. وقد حسن الحديث الترمذي، قال ابن سيد الناس: ينبغي أن يكون صحيحا. (وهو يدل) على مشروعية التأمين للامام والجهر ومد الصوت به، قال الترمذي: وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين، ومن بعدهم يرون أن الرجل يرفع صوته بالتأمين ولا يخفيها، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق اه. باب حكم من لم يحسن فرض القراءة عن رفاعة بن رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم رجلا الصلاة فقال: إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وكبره وهلله ثم اركع رواه أبو داود والترمذي. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزئني، قال قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
[ 248 ]
أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني ولفظه فقال: إني لا أستطيع أن أتعلم القرآن فعلمني ما يجزئني في صلاتي فذكره. أما الحديث الاول فهو طرف من حديث المسئ صلاته، وأخرجه النسائي أيضا، وقال الترمذي: حديث رفاعة حسن، وأما الحديث الثاني فأخرجه أيضا ابن الجارود وابن حبان والحاكم، وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل السكسكي وهو من رجال البخاري لكن عيب عليه إخراج حديثه وضعفه النسائي. وقال ابن القطان: ضعفه قوم فلم يأتوا بحجة. وقال ابن عدي: لم أجد له حديثا منكر المتن. وذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف. وقال في شرح المهذب: رواه أبو داود والنسائي بإسناد ضعيف اه. ولم ينفرد بالحديث إبراهيم، فقد رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه أيضا من طريق طلحة بن مصرف عن ابن أبي أوفى، ولكن في إسناده الفضل بن موفق، ضعفه أبو حاتم كذا قال الحافظ. قوله: فاحمد الله إلخ، قيل: قد عين الحديث الثاني لفظ الحمد والتكبير والتهليل المأمور به، ولا يخفى أنه من التقييد بموافق المطلق. قوله: إني لا أستطيع رواه ابن ماجه بلفظ: إني لا أحسن من القرآن شيئا قال شارح المصابيح: اعلم أن هذه الواقعة لا تجوز أن تكون في جميع الازمان، لان من يقدر على تعلم هذه الكلمات لا محالة يقدر على تعلم الفاتحة بل تأويله، لا أستطيع أن أتعلم شيئا من القرآن في هذه الساعة وقد دخل على وقت الصلاة، فإذا فرغ من تلك الصلاة لزمه أن يتعلم. (والحديثان) يدلان على أن الذكر المذكور يجزئ من لا يستطيع أن يتعلم القرآن وليس فيه ما يقتضي التكرار، فظاهره أنها تكفي مرة. وقد ذهب البعض إلى أنه يقوله ثلاث مرات، والقائلون بوجوب الفاتحة في كل ركعة لعلهم يقولون بوجوبه في كل ركعة. باب قراءة السورة بعد الفاتحة في الاوليين وهل تسن قراءتها في الاخريين أم لا عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر في الاوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الاخريين بفاتحة الكتاب، ويسمعنا الآية أحيانا، ويطول في الركعة الاولى ما لا يطيل في الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح متفق عليه. ورواه أبو داود وزاد قال: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الاولى.
[ 249 ]
قوله: الاوليين بتحتانيتين تثنية الاولى، وكذا الاخريين. قوله: وسورتين أي في كل ركعة سورة، ويدل على ذلك ما ثبت من حديث أبي قتادة في رواية للبخاري بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة وفيه دليل على إثبات القراءة في الصلاة السرية. وقد أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس أنه سئل: أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا، لا، فقيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه؟ فقال خمسا هذه أشد من الاولى فكان عبدا مأمورا بلغ ما أرسل به الحديث. وهو كما قال الخطابي: وهم من ابن عباس، وقد أثبت القراءة في السرية أبو قتادة وخباب بن الارث وغيرهما، والاثبات مقدم على النفي. وقد تردد ابن عباس في ذلك فروى عنه أبو داود أنه قال: لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا. وفي هذه الرواية دليل على أنه اعتمد في الاولى على عدم الدراية لا على قرائن دلت على ذلك. قوله: ويسمعنا الآية أحيانا فيه دلالة على جواز الجهر في السرية، وهو يرد على من جعل الاسرار شرطا لصحة الصلاة السرية، وعلى من أوجب في الجهر سجود السهو. وقوله: أحيانا يدل على أنه تكرر ذلك منه. قوله: ويطول في الركعة الاولى استدل به على استحباب تطويل الاولى على الثانية، سواء كان التطويل بالقراءة بترتيلها مع استواء المقروء في الاوليين. وقد قيل: إن المستحب التسوية بين الاوليين، فاستدلو بحديث سعد عند البخاري ومسلم وغيرهما وسيأتي. وكذلك استدلوا بحديث أبي سعيد الآتي عند مسلم وأحمد: أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر في الاوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية وفي رواية لابن ماجه: أن الذين حزروا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة وجعل صاحب هذا القول تطويل الاولى المذكور في الحديث بسبب دعاء الاستفتاح والتعوذ. وقد جمع البيهقي بين الاحاديث بأن الامام يطول في الاولى إن كان منتظرا لاحد وإلا سوى بين الاوليين. وجمع ابن حبان بأن تطويل الاولى إنما كان لاجل الترتيل في قراءتها مع استواء المقروء في الاوليين. قوله: وهكذا في الصبح إلخ فيه دليل على عدم اختصاص القراءة بالفاتحة وسورة في الاوليين، وبالفاتحة فقط في الاخريين، والتطويل في الاولى بصلاة الظهر، بل ذلك هو السنة في جميع الصلوات. قوله: فظننا أنه يريد إلخ فيه أن الحكمة في التطويل المذكور هي انتظار الداخل، وكذا روى هذه الزيادة ابن خزيمة وابن حبان. وقال القرطبي: لا حجة فيه لان الحكمة لا تعلل
[ 250 ]
بها لخفائها وعدم انضباطها. (والحديث) يدل على مشروعية القراءة بفاتحة الكتاب في كل ركعة، وقد تقدم الكلام عليه وعلى قراءة سورة مع الفاتحة في كل واحدة من الاوليين، وعلى جواز ببعض الآيات في السرية. وعن جابر بن سمرة قال: قال عمر لسعد: لقد شكوك في كل شئ حتى الصلاة، قال: أما أنا فأمد في الاوليين وأحذف في الاخريين ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: صدقت ذلك الظن بك أو ظني بك متفق عليه. قوله: شكوك يعني أهل الكوفة، وفي رواية للبخاري: شكا أهل الكوفة سعدا. قوله: في كل شئ قال الزبير بن بكار في كتاب النسب: رفع أهل الكوفة عليه أشياء كشفها عمر فوجدها باطلة ولكن عزله واستعمل عليهم عمار بن ياسر. قال خليفة: استعمل عمارا على الصلاة، وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الارض. قوله: فأمد في رواية في الصحيحين فأركد في الاوليين وهما متقاربان. قال القزاز: أي أقيم طويلا أطول فيهما القراءة، ويحتمل التطويل لما هو أعم كالاذكار والقراءة والركوع والسجود، والمعهود في التفرقة بين الركعات إنما هو في القراءة. قوله: وأحذف بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة، قال الحافظ: وكذا هو في جميع طرق هذا الحديث التي وقفت عليها، لكن في رواية البخاري وأخف بضم الهمزة وكسر الخاء المعجمة، والمراد بالحذف حذف التطويل وتقصيرهما عن الاوليين، لا حذف أصل القراءة والاخلال بها فكأنه قال: احذف المد. (وفيه دليل) على أن الاوليين من الرباعية متساويتان في الطول، وكذا الاوليان من الثلاثية، وقد تقدم الكلام على ذلك. وفيه دليل أيضا على تساوي الاخريين. قوله: ولا آلو بمد الهمزة من آلو وضم اللام بعدها أي لا أقصر في ذلك. قوله: ذلك الظن بك فيه جواز مدح الرجل الجليل في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة بإعجاب ونحوه، والنهي عن ذلك إنما هو لمن خيف عليه، وقد جاءت أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيح بالامرين، والمد في الاوليين يدل على قراءة زيادة على فاتحة الكتاب، ولذا أورد المصنف الحديث دليلا لقراءة السورة بعد الفاتحة. [ رح 709 ] وعن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الاوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الاخريين قدر قراءة
[ 251 ]
خمس عشرة آية أو قال نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الاوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الاخريين قدر نصف ذلك رواه أحمد ومسلم. الحديث يدل على استحباب التطويل في الاوليين من الظهر والاخريين منه، لان الوقوف في كل واحدة من الاخريين منه مقدار خمس عشرة آية يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ بزيادة على الفاتحة لانها ليست إلا سبع آيات. وقوله: في الاخريين قدر خمس عشرة آية أي في كل ركعة كما يشعر بذلك السياق. ويدل أيضا على استحباب التخفيف في صلاة العصر وجعلها على النصف من صلاة الظهر. وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد من طريق أخرى هذا الحديث بدون قوله في كل ركعة ولفظه: فحزرنا قيامه في الركعتين الاوليين من الظهر فينبغي حمل المطلق في هذه الرواية على المقيد بقوله في كل ركعة. والحكمة في إطالة الظهر أنها في وقت غفلة بالنوم في القائلة فطولت ليدركها المتأخر، والعصر ليست كذلك بل تفعل في تعب أهل الاعمال فخففت، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يطول في الظهر تطويلا زائدا على هذا المقدار كما في حديث: إن صلاة الظهر كانت تقام ويذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الركعة الاولى مما يطيلها. باب قراءة سورتين في كل ركعة وقراءة بعض سورة وتنكيس السور في ترتيبها وجواز تكريرها عن أنس قال: كان رجل من الانصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، فكان يصنع ذلك في كل ركعة، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه الخبر فقال: وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ قال: إني أحبها، قال: حبك إياها أدخلك الجنة رواه الترمذي وأخرجه البخاري تعليقا. الحديث، قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وأخرجه البزار والبيهقي والطبراني. قوله: كان رجل هو كلثوم بن الهدم ذكره ابن منده في كتاب التوحيد. وقيل قتادة ابن
[ 252 ]
النعمان، وقيل مكتوم بن هدم، وقيل كرز بن هدم. قوله: افتتح بقل هو الله أحد تمسك به من قال: لا يشترط قراءة الفاتحة، وأجيب بأن الراوي لم يذكر الفاتحة للعلم بأنه لا بد منها، فيكون معناه افتتح سورة بعد الفاتحة، أو أن ذلك قبل ورود الدليل على اشتراط الفاتحة. قوله: فكان يصنع ذلك في كل ركعة لفظ البخاري: فكلمه أصحابه وقالوا إنك تفتتح بهذه السورة لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ أخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم ذلك تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه الخبر فقال: يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك الخ. قوله: ما يحملك أجابه عن الحامل على الفعل بأنه المحبة وحدها. قوله: أدخلك الجنة التبشير له بالجنة يدل على الرضا بفعله، وعبر بالفعل الماضي وإن كان الدخول مستقبلا تنبيها على تحقق الوقوع كما نص عليه أئمة المعاني، قال ناصر الدين بن المنير في هذا الحديث: إن المقاصد تغير أحكام الفعل، لان الرجل لو قال: إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها لامكن أن يأمره بحفظ غيرها، لكنه اعتل بحبها فظهرت صحة قصده فصوبه. قال: وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن يميل النفس إليه والاستكثار منه، ولا يعد ذلك هجرانا لغيره. (والحديث) يدل على جواز قراءة سورتين في كل ركعة مع فاتحة الكتاب على ذلك التأويل، من غير فرق بين الاوليين والاخريين، لان قوله في كل ركعة يشمل الاخريين. وعن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائدة ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى فقلت: يركع بها فمضى، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم وكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الاعلى فكان سجوده قريبا من قيامه رواه أحمد ومسلم والنسائي. قوله: فقلت يصلي بها في ركعة قال النووي معناه: ظننت أنه يسلم بها فيقسمها على ركعتين، وأراد بالركعة الصلاة بكمالها وهي ركعتان، ولا بد من هذا التأويل لينتظم الكلام بعده. قوله: فمضى معناه قرأ معظمها بحيث غلب على ظني أنه لا يركع الركعة الاولى إلا في آخر البقرة، فحينئذ قلت: يركع الركعة الاولى بها فجاوز وافتتح النساء. قوله: ثم افتتح
[ 253 ]
آل عمران قال القاضي عياض: فيه دليل لمن يقول: إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف، وإنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل وكله إلى أمته بعده، قال: وهذا قول مالك والجمهور، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني. قال ابن الباقلاني: هو أصح القولين مع احتمالهما، قال: والذي نقوله إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة، ولا في الصلاة، ولا في الدرس، ولا في التلقين والتعليم، وأنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك نص ولا يحرم مخالفته، ولذلك اختلف ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان، قال: وأما من قال من أهل العلم إن ذلك بتوقيف من النبي (ص) كما استقر في مصحف عثمان، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف فيتأول قراءته (ص) النساء ثم آل عمران هنا، على أنه كان قبل التوقيف والترتيب، قال: ولا خلاف إنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الاولى، وإنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو في غير الصلاة، قال: وقد أباح بعضهم وتأول نهي السلف عن قراءة القرآن منكوسا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها، ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله على ما بنى عليه الآن في المصحف، وهكذا نقلته الامة عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: فقرأها مترسلا إذا مر بآية الخ، فيه استحباب الترسل والتسبيح عند المرور بآية فيها تسبيح، والسؤال عند قراءة آية فيها سؤال، والتعوذ عند تلاوة آية فيها تعوذ. والظاهر استحباب هذه الامور لكل قارئ، من غير فرق بين المصلي وغيره، وبين الامام والمنفرد والمأموم، وإلى ذلك ذهبت الشافعية. قوله: ثم ركع فجعل يقول سبحان ربي العظيم فيه استحباب تكريره هذا الذكر في الركوع، وكذلك سبحان ربي الاعلى في السجود، وإلى ذلك ذهب الشافعي وأصحابه، والاوزاعي، وأبو حنيفة، والكوفيون، وأحمد، والجمهور. وقال مالك: لا يتعين ذلك للاستحباب، وسيأتي الكلام على ذلك في باب الذكر في الركوع والسجود. قوله: ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ثم قام قياما طويلا فيه رد لما ذهب إليه أصحاب الشافعي من أن تطويل الاعتدال عن الركوع لا يجوز وتبطل به الصلاة، وسيأتي الكلام على ذلك. (والحديث) أيضا يدل على استحباب تطويل صلاة الليل وجواز الائتمام في النافلة. وعن رجل من جهينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الصبح: * (إذا زلزلت الارض) * (الزلزلة: 1) في الركعتين كلتيهما، قال: فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله
[ 254 ]
عليه وآله وسلم أم قرأ ذلك عمدا؟ رواه أبو داود. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وقد قدمنا أن جماعة من أئمة الحديث صرحوا بصلاحية ما سكت عنه أبو داود للاحتجاج، وليس في إسناده مطعن، بل رجاله رجال الصحيح، وجهالة الصحابي لا تضر عند الجمهور وهو الحق. قوله: يقرأ في الصبح إذا زلزلت فيه استحباب قراءة سورة بعد الفاتحة وجواز قراءة قصار المفصل في الصبح. قوله: فلا أدري أنسي فيه دليل لمذهب الجمهور القائلين بجواز النسيان عليه صلى الله عليه وآله وسلم وقد صرح بذلك حديث: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ولكن فيما ليس طريقه البلاغ، قالوا: ولا يقر عليه بل لا بد أن يتذكره، واختلفوا هل من شرط ذلك الفور أم يصح على التراخي قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: أم قرأ ذلك عمدا تردد الصحابي في أن إعادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسورة هل كان نسيانا لكون المعتاد من قراءته أن يقرأ في الركعة الثانية غير ما قرأ به في الاولى فلا يكون مشروعا لامته، أو فعله عمدا لبيان الجواز، فتكون الاعادة مترددة بين المشروعية وعدمها، وإذا دار الامر بين أن يكون مشروعا أو غير مشروع فحمل فعله صلى الله عليه وآله وسلم على المشروعية أولى، لان الاصل في أفعاله التشريع والنسيان على خلاف الاصل. ونظيره ما ذكره الاصوليون فيما إذا تردد فعله صلى الله عليه وآله وسلم بين أن يكون جبليا أو لبيان الشرع والاكثر على التأسي به. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر في الاولى منهما: * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) * (البقرة: 136) الآية التي في البقرة، وفي الآخرة: * (آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون) * (آل عمران: 52) وفي رواية: كان يقرأ في ركعتي الفجر: * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) * (البقرة: 136) والتي في آل عمران: * (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * (آل عمران: 64) رواهما أحمد ومسلم. الروايات فيما كان يقرؤه صلى الله عليه وآله وسلم في الركعتين قبل الفجر مختلفة. فمنها ما ذكره المصنف. ومنها ما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في ركعتي الفجر: * (قل يا أيها الكافرون) * (الكافرون: 1) و * (قل هو الله أحد) * (الاخلاص: 1) وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى أني لاقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن؟ وفي
[ 255 ]
رواية: أقول لم يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب (والحديث) يدل على استحباب قراءة الآيتين المذكورتين فيهما بعد قراءة فاتحة الكتاب لما ثبت في رواية لمسلم: أنه كان يقرأ فيهما بعد فاتحة الكتاب ب * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) * فتحمل الاحاديث التي لم يذكر فيها القراءة بفاتحة الكتاب كحديث الباب على هذه الرواية، ويكون المصلي مخيرا إن شاء قرأ مع فاتحة الكتاب في كل ركعة ما في حديث ابن عباس، وإن شاء قرأ بعد الفاتحة * (قل يا أيها الكافرون) * في ركعة، و * (قل هو الله أحد) * في ركعة، وإلى ذلك ذهب الجمهور. وقال مالك وجمهور أصحاب الشافعي: إنه لا يقرأ غير الفاتحة. وقال بعض السلف: لا يقرأ شيئا، وكلاهما خلاف هذه الاحاديث الصحيحة، وسيأتي الكلام على ذلك في باب تأكيد ركعتي الفجر. وقد استدل المصنف رحمه الله بالحديث على جواز قراءة بعض سورة في الركعة كما فعل في ترجمة الباب. باب جامع القراءة في الصلوات عن جابر بن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الفجر ب * (ق والقرآن المجيد) * (ق: 1) ونحوها، وكان صلاته بعد إلى تخفيف وفي رواية: كان يقرأ في الظهر ب * (الليل إذا يغشى) * (الليل: 1) وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك رواهما أحمد ومسلم. وفي رواية: كان إذا دحضت الشمس صلى الظهر وقرأ بنحو من: * (والليل إذا يغشى) * والعصر كذلك، والصلوات كلها كذلك إلا الصبح فإنه كان يطيلها رواه أبو داود. قوله: كان يقرأ في الفجر بق قد تقرر في الاصول إن كان تفيد الاستمرار وعموم الازمان، فينبغي أن يحمل قوله: كان يقرأ في الفجر بق على الغالب من حاله (ص)، أو تحمل على أنها لمجرد وقوع الفعل لانها قد تستعمل لذلك كما قال ابن دقيق العيد، لانه قد ثبت أنه قرأ في الفجر: * (إذا الشمس كورت) * (التكوير: 1) عند الترمذي والنسائي من حديث عمرو بن حريث. وثبت أنه (ص) صلى بمكة الصبح فاستفتح سورة المؤمنين عند مسلم من حديث عبد الله بن السائب. وأنه قرأ بالطور ذكره البخاري تعليقا من حديث أم سلمة. وأنه كان يقرأ في ركعتي الفجر أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة، أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي
[ 256 ]
برزة. وأنه قرأ الروم أخرجه النسائي عن رجل من الصحابة. وأنه قرأ المعوذتين أخرجه النسائي أيضا من حديث عقبة بن عامر. وأنه قرأ: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) * (الفتح: 1) أخرجه عبد الرزاق عن أبي بردة. وأنه قرأ الواقعة أخرجه عبد الرزاق أيضا عن جابر بن سمرة. وأنه قرأ بيونس وهود أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي هريرة. وأنه قرأ: * (إذا زلزلت الارض) * (الزلزلة: 1) كما تقدم عند أبي داود. وأنه قرأ: * (ألم تنزيل) * (السجدة: 1) و * (هل أتى على الانسان) * (الانسان: 1) أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود. قوله: وكان يقرأ في الظهر بالليل، والعصر نحو ذلك. ينبغي أن يحمل هذا على ما تقدم، لانه قد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر ب * (السماء ذات البروج) * (البروج: 1) و * (السماء والطارق) * (الطارق: 1) وشبههما، أخرجه أبو داود والترمذي وصححه من حديث جابر بن سمرة. وأنه كان يقرأ في الظهر ب * (سبح اسم ربك الاعلى) * (الاعلى: 1) أخرجه مسلم عن جابر بن سمرة أيضا. وأنه قرأ من سورة لقمان والذاريات في صلاة الظهر أخرجه النسائي عن البراء. وأنه قرأ في الاولى من الظهر ب * (سبح اسم ربك الاعلى) * (الاعلى: 1) وفي الثانية: * (هل أتاك حديث الغاشية) * (الغاشية: 1) أخرجه النسائي أيضا عن أنس، وثبت أنه كان يقرأ في الاوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الاولى ويقصر في الثانية عند البخاري وقد تقدم ولم يعين السورتين. وتقدم أنه كان يقرأ في الركعتين الاوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، وتقدم أيضا أنه كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الاوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الاخريين قدر خمس عشرة آية أو قال نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الاوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الاخريين قدر نصف ذلك. وثبت عن أبي سعيد عند مسلم وغيره أنه قال: كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الاوليين من الظهر قدر قراءة آلم تنزيل السجدة، وحزرنا قيامه في الركعتين الاخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الاوليين من العصر على قدر قيامه في الآخرتين من الظهر وفي الآخريين من العصر على النصف من ذلك. قوله: وفي الصبح أطول من ذلك. قال العلماء: لانها تفعل في وقت الغفلة بالنوم في آخر الليل، فيكون في التطويل انتظار للمتأخر. قال النووي حاكيا عن العلماء: إن السنة أن تقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل، ويكون الصبح أطول، وفي العشاء والعصر بأوساط المفصل، وفي المغرب بقصارة، قال قالوا: والحكمة في إطالة الصبح والظهر أنهما في وقت غفلة بالنوم آخر الليل وفي القائلة فطولتا ليدركهما المتأخر بغفلة ونحوها، والعصر ليست كذلك
[ 257 ]
بل تفعل في وقت تعب أهل الاعمال فخففت عن ذلك، والمغرب ضيقة الوقت فاحتيج إلى زيادة تخفيفها لذلك، ولحاجة الناس إلى عشاء صائمهم وضيفهم، والعشاء في وقت غلبة النوم والنعاس ولكن وقتها واسع فأشبهت العصر انتهى. وكون السنة في صلاة المغرب القراءة بقصار المفصل غير مسلم فقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ فيها بسورة الاعراف والطور والمرسلات كما يأتي في أحاديث هذا الباب. وثبت أنه (ص) قرأ فيها بالاعراف في الركعتين جميعا، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي أيوب. وقرأ بالدخان أخرجه النسائي، وأخرج البخاري عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت رسول الله (ص) يقرأ بطولي الطوليين؟ والطوليان هما الاعراف والانعام. وثبت أنه (ص) قرأ فيه: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) * (النساء: 167) أخرجه ابن حبان من حديث ابن عمر، وسيأتي بقية الكلام في آخر الباب. وعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في المغرب بالطور رواه الجماعة إلا الترمذي. قوله: بالطور أي بسورة الطور. قال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون الباء بمعنى من كقوله تعالى: * (يشرب بها عباد الله) * (الانسان: 6) وهو خلاف الظاهر، وقد ورد في الاحاديث ما يشعر بأنه قرأ السورة كلها، فعند البخاري في التفسير بلفظ سمعته يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: * (أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون) * الآيات إلى قوله: * (المصيطرون) * (الطور: 37 35) كاد قلبي يطير وقد ادعى الطحاوي أنه لا دلالة في شئ من الاحاديث على تطويل القراءة، لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة، ثم استدل لذلك بما رواه من طريق هشيم عن الزهري في حديث جبير بلفظ: سمعته يقرأ: * (إن عذاب ربك لواقع) * (الطور: 7) قال: فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هو هذه الآية خاصة، وليس في السياق ما يقتضي قوله خاصة. وحديث البخاري المتقدم يبطل هذه الدعوى، وقد ثبت في رواية أنه سمعه يقرأ: * (والطور وكتاب مسطور) * (الطور: 2 1) ومثله لابن سعد، وزاد في أخرى: فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد وأيضا لو كان اقتصر على قراءة تلك الآية كما زعم لما كان لانكار زيد بن ثابت على مروان كما في الحديث المتقدم معنى، لان الآية أقصر من قصار المفصل، وقد روي أن زيدا قال له: إنك تخف القراءة في الركعتين من المغرب
[ 258 ]
فوالله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ فيهما بسورة الاعراف في الركعتين جميعا أخرج هذه الرواية ابن خزيمة، وقد ادعى أبو داود نسخ التطويل، ويكفي في إبطال هذه الدعوى حديث أم الفضل الآتي. وقد ذهب إلى كراهة القراءة في المغرب بالسور الطوال ما لك، وقال الشافعي: لا أكره ذلك بل استحبه. قال الحافظ: والمشهور عند الشافعية أنه لا كراهة ولا استحباب انتهى. وعن ابن عباس: أن أم الفضل بنت الحرث سمعته وهو يقرأ: * (والمرسلات عرفا) * (المرسلات: 1) فقال: يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها في المغرب رواه الجماعة إلا ابن ماجه. قوله: أن أم الفضل هي والدة ابن عباس الراوي عنها، وبذلك صرح الترمذي فقال عن أمه أم الفضل، واسمها لبابة بنت الحرث الهلالية، ويقال إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة. قوله: سمعته أي سمعت ابن عباس، وفيه التفات لان ظاهر السياق أن يقول: سمعتني. قوله: لقد ذكرتني أي شيئا نسيته. قوله: إنها لآخر ما سمعت إلخ، في رواية: ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله. وقد ثبت من حديث عائشة أن آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه في مرض موته الظهر. وطريق الجمع أن عائشة حكت آخر صلاة صلاها في المسجد لقرينة قولها بأصحابه، والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته كما روى ذلك النسائي، ولكنه يشكل على ذلك ما أخرجه الترمذي عن أم الفضل بلفظ: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب. ويمكن حمل قولها خرج إلينا أنه خرج من مكانه الذي كان فيه راقدا إلى من في البيت. وهذا الحديث يرد على من قال التطويل في صلاة المغرب منسوخ كما تقدم. وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في المغرب بسورة الاعراف فرقها في الركعتين رواه النسائي. الحديث إسناده في سنن النسائي، هكذا أخبرنا عمرو بن عثمان قال: حدثنا بقية وأبو حيوة عن ابن أبي حمزة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فذكره، وبقية وإن كان فيه ضعف فقد تابعه أبو حيوة وهو ثقة. وقد أخرج نحوه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي أيوب بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في المغرب بالاعراف في الركعتين جميعا وأخرج نحوه ابن خزيمة من حديث زيد بن ثابت كما تقدم. ويشهد
[ 259 ]
لصحته ما أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي من حديث زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في المغرب بطولي الطوليين. زاد أبو داود: قلت: وما طولي الطوليين؟ قال: الاعراف. قال الحافظ في الفتح: إنه حصل الاتفاق على تفسير الطولي بالاعراف. وقد استدل الخطابي وغيره بالحديث على امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق، وكذلك استدل به المصنف رحمه الله كما تقدم في باب وقت صلاة المغرب من أبواب الاوقات، وتقدم الكلام على ذلك هنالك. وعن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في المغرب: * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) * رواه ابن ماجه. وفي حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا معاذ أفتان أنت؟ أو قال: أفاتن أنت؟ فلولا صليت ب * (سبح اسم ربك الاعلى) * و * (الشمس وضحاها) * و * (الليل إذا يغشى) * متفق عليه. أما الحديث الاول فقال الحافظ في الفتح: ظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدارقطني: أخطأ بعض رواته فيه، وأخرج نحوه ابن حبان والبيهقي عن جابر بن سمرة وفي إسناده سعيد بن سماك وهو متروك. قال الحافظ أيضا: والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب. وأما الحديث الثاني فقال في الفتح: إن قصة معاذ كانت في العشاء، وقد صرح بذلك البخاري في روايته لحديث جابر، وسيأتي الخلاف في تعيين الصلاة، وتعيين السورة التي قرأها معاذ في باب انفراد المؤتم لعذر. ولفظ الحديث في البخاري أنه قال جابر: أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل، فوافق معاذا يصلي، فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ فقرأ بسورة البقرة والنساء فانطلق الرجل وبلغه أن معاذا نال منه، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكا إليه معاذا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر ما ذكره المصنف. قوله: فلولا صليت أي فهلا صليت؟ قوله: أفتان أنت أو قال أفاتن قال ابن سيد الناس: الاولى أن يكون للشك من الراوي لا من باب الرواية بالمعنى كما زعم بعضهم، لما تحلت به صيغة فعال من المبالغة التي خلت عنها صيغة فاعل. (والحديث) يدل على مشروعية القراءة في العشاء بأوساط المفصل كما حكاه النووي عن العلماء. ويدل أيضا على مشروعية التخفيف للامام لما بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض روايات حديث معاذ عند البخاري وغيره بلفظ: فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير. وفي لفظ له: فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة قال أبو عمر: التخفيف لكل إمام أمر مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه، إلا أن ذلك إنما
[ 260 ]
هو أقل الكمال، وأما الحذف والنقصان فلا لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن نقر الغراب، ورأى رجلا يصلي ولم يتم ركوعه وسجوده فقال له: ارجع فصل فإنك لم تصل وقال: لا ينظر الله عزوجل إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده. وقال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخف الناس صلاة في تمام. قال ابن دقيق العيد: وما أحسن ما قال: إن التخفيف من الامور الاضافية، فقد يكون الشئ خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم طويلا بالنسبة إلى عادة آخرين انتهى. ولعله يأتي إن شاء الله تعالى للمقام مزيد تحقيق في باب ما يؤمر به الامام من التخفيف من أبواب صلاة الجماعة. وسيذكر المصنف طرفا من حديث معاذ في باب انفراد المأموم لعذر. وفي باب: هل يقتدي المفترض بالمتنفل أم لا؟ وسنذكر إن شاء الله في شرحه هنالك بعضا من فوائده التي لم يذكرها ههنا. وعن سليمان بن يسار عنأبي هريرة أنه قال: ما رأيت رجلا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فلان لامام كان بالمدينة، قال سليمان: فصليت خلفه فكان يطيل الاوليين من الظهر ويخفف الآخرتين ويخفف العصر، ويقرأ في الاوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الاوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل رواه أحمد والنسائي. الحديث قال الحافظ في الفتح: صححه ابن خزيمة وغيره، وقال في بلوغ المرام: ان إسناده صحيح. (والحديث) استدل به على مشروعية ما تضمنه من القراءة في الصلوات لما عرفت من إشعار لفظ كان بالمداومة. قيل في الاستدلال به على ذلك نظر، لان قوله أشبه صلاة يحتمل أن يكون في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها، وقد تقدم نظير هذا، ويمكن أن يقال في جوابه أن الخبر ظاهر في المشابهة في جميع الاجزاء، فيحمل على عمومه حتى يثبت ما يخصصه، وقد تقدم الكلام في صلاة الصبح والظهر والعصر، وأما المغرب فقد عرفت ما تقدم من الاحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يستمر على قراءة قصار المفصل فيها، بل قرأ فيها بطولي الطوليين وبطوال المفصل، وكانت قراءته في آخر صلاة صلاها بالمرسلات في صلاة المغرب كما تقدم. قال الحافظ في الفتح: وطريق الجمع بين هذه الاحاديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، ولكنه يقدح في هذا الجمع ما في البخاري وغيره من إنكار زيد بن ثابت على مروان مواظبته على قصار المفصل في المغرب، ولو كانت قراءته صلى الله عليه وآله وسلم السور الطويلة في المغرب لبيان الجواز، لما كان ما فعله مروان من المواظبة على قصار المفصل إلا
[ 261 ]
محض السنة، ولم يحسن من هذا الصحابي الليل إنكار ما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يفعل غيره إلا لبيان الجواز، ولو كان الامر كذلك لما سكت مروان عن الاحتجاج بمواظبته صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك في مقام الانكار عليه. وأيضا بيان الجواز يكفي فيه مرة واحدة. وقد عرفت أنه قرأ بالسور الطويلة مرات متعددة، وذلك يوجب تأويل لفظ كان الذي استدل به على الدوام بمثل ما قدمنا. فالحق أن القراءة في المغرب بطوال المفصل وقصاره وسائر السور سنة، والاقتصار على نوع من ذلك أن انضم إليه اعتقاد أنه السنة دون غيره مخالف لهديه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: بقصار المفصل قد اختلف في تفسير المفصل على عشرة أقوال ذكرها صاحب القاموس وغيره، وقد ذكرناها في باب وقت صلاة المغرب من أبواب الاوقات. قوله: ويقرأ في الاوليين من العشاء من وسط المفصل قد تقدم في حديث معاذ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالقراءة بسبح اسم ربك الاعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى وهذه السور من أوساط المفصل، وزاد مسلم: أنه أمره بقراءة اقرأ باسم ربك الذي خلق وزاد عبد الرزاق الضحى، وفي رواية للحميدي بزيادة: والسماء ذات البروج والسماء والطارق وقد عرفت أن قصة معاذ كانت في صلاة العشاء وثبت أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في صلاة العشاء بالشمس وضحاها ونحوها من السور، أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه من حديث بريدة وأنه قرأ فيها بالتين والزيتون، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي من حديث البراء. وأنه قرأ بإذا السماء انشقت أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. باب الحجة في الصلاة بقراءة ابن مسعود وأبي وغيرهما ممن أثني على قراءته عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد فبدأ به، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد رواه أحمد.
[ 262 ]
حديث أبي هريرة أخرجه أيضا أبو يعلى والبزار، وفيه جرير بن أيوب البجلي وهو متروك، لكنه أخرجه بهذا اللفظ البزار والطبراني في الكبير والاوسط من حديث عمار بن ياسر، قال في مجمع الزوائد: ورجال البزار ثقات. قوله: ابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود، وقد روي أنه لم يحفظ القرآن جميعا في عصره صلى الله عليه وآله وسلم إلا هؤلاء الاربعة. والمصنف رحمه الله عقد هذا الباب للرد على من يقول إنها لا تجزئ في الصلاة إلا قراءة السبعة القراء المشهورين، قالوا: لان ما نقل آحاديا ليس بقرآن، ولم تتواتر إلا السبع دون غيرها، فلا قرآن إلا ما اشتملت عليه، وقد رد هذا الاشتراط إمام القراءات الجزري فقال في النشر: زعم بعض المتأخرين أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ولا يخفى ما فيه، لانا إذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابتة عن هؤلاء السبعة وغيرهم، وقال: ولقد كنت أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف على خلافه، وقال: القراءة المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما نقل عن غيرهم اه. فانظر كيف جعل اشتراط التواتر قولا لبعض المتأخرين، وجعل قول أئمة السلف والخلف على خلافه. وقال أيضا في النشر: كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح إسنادها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الاحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الائمة السبعة أم عن العشرة أم غيرهم من الائمة عن المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الاركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أو عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك المدني والمكي والمهدوي وأبو شامة، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف من أحدهم خلافه، قال أبو شامة في المرشد الوجيز: لا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى أحد هؤلاء السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة وأنها نزلت هكذا، إلا إذا دخلت في تلك الضابطة، وحينئذ لا ينفرد مصنف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الاوصاف لا على من تنسب إليه، إلى آخر كلام الجزري الذي حكاه عنه صاحب الاتقان. وقال أبو شامة: شاع على ألسنة جماعة من المقرئين
[ 263 ]
المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن السبع كلها متواترة، أي كل حرف مما يروى عنهم، قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب ونحن نقول بهذا القول، ولكن فيما أجمعت على نقله عنهم الطرق واتفقت عليه الفرق من غير نكير فلا أقل من اشتراط ذلك، إذ لم يتفق التواتر في بعضها اه. إذا تقرر لك إجماع أئمة السلف والخلف على عدم تواتر كل حرف من حروف القراءات السبع، وعلى أنه لا فرق بينها وبين غيرها إذا وافق وجها عربيا وصح إسناده، ووافق الرسم ولو احتمالا بما نقلناه عن أئمة القراء، تبين لك صحة القراءة في الصلاة بكل قراءة متصفة بتلك الصفة، سواء كانت من قراءة الصحابة المذكورين في الحديث أو من قراءة غيرهم، وقد خالف هؤلاء الائمة النويري المالكي في شرح الطيبة فقال عند شرح قول الجزري فيها: [ شع ] فكل ما وافق وجه نحوي * وكان للرسم احتمالا يحوي [ شع ] وصح إسنادا هو القرآن * فهذه الثلاثة الاركان [ شع ] وكل ما خالف وجها أثبت * شذوذه لو أنه في السبعة ما لفظه ظاهره أن القرآن يكتفي في ثبوته مع الشرطين المتقدمين بصحة السند فقط ولا يحتاج إلى التواتر، وهذا قول حادث مخالف لاجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم من الاصوليين والمفسرين اه. وأنت تعلم أن نقل مثل الامام الجزري وغيره من أئمة القراءة لا يعارضه نقل النويري لما يخالفه، لانا إن رجعنا إلى الترجيح بالكثرة أو الخبرة بالفن أو غيرهما من المرجحات قطعنا بأن نقل أولئك الائمة أرجح، وقد وافقهم عليه كثير من أكابر الائمة، حتى أن الشيخ زكريا بن محمد الانصاري لم يحك في غاية الوصول إلى شرح لب الاصول الخلاف لما حكاه الجزري وغيره عن أحد سوى ابن الحاجب. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابي: إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا وفي رواية: أن أقرأ عليك القرآن، قال: وسماني لك؟ قال: نعم، فبكى متفق عليه. قوله: أمرني أن أقرأ عليك فيه استحباب قراءة القرآن على الحذاق فيه وأهل العلم به والفضل، وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه، وفيه منقبة شريفة لابي بقراءته صلى الله عليه وآله وسلم عليه، ولم يشاركه فيها أحد لا سيما مع ذكر الله تعالى لاسمه ونصه عليه في هذه المنزلة الرفيعة. قوله: لم يكن الذين كفروا وجه تخصيص هذه السورة أنها وجيزة جامعة
[ 264 ]
لقواعد كثيرة من أصول الدين وفروعه ومهماته والاخلاص وتطهير القلوب، وكان الوقت يقتضي الاختصار. قوله: وسماني لك فيه جواز الاستثبات في الاحتمالات، وسببه ههنا أنه جوز أن يكون الله تعالى أمر النبي (ص) يقرأ على رجل من أمته ولم ينص عليه. قوله: فبكى فيه جواز البكاء للسرور والفرح بما يبشر الانسان ويعطاه من معالي الامور. واختلفوا في وجه الحكمة في قراءته على أبي فقيل: سببها أن يسن لامته بذلك القراءة على أهل الاتقان والفضل ويتعلموا آداب القراءة ولا يأنف أحد من ذلك. وقيل: التنبيه على جلالة أبي وأهليته لاخذ القرآن عنه، ولذلك كان بعده (ص) رأسا، وإما ما في قراءة القرآن وهو أجل ناشريه أو من أجلهم. باب ما جاء في السكتتين قبل القراءة وبعدها عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يسكت سكتتين إذا استفتح الصلاة وإذا فرغ من القراءة كلها وفي رواية: سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين روى ذلك أبو داود وكذلك أحمد والترمذي وابن ماجه بمعناه. الحديث حسنه الترمذي، وقد تقدم الكلام في سماع الحسن من سمرة لغير حديث العقيقة، وقد صحح الترمذي حديث الحسن عن سمرة في مواضع من سننه. منها حديث: نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وحديث: جار الدار أحق بدار الجار. وحديث: لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار. وحديث: الصلاة الوسطى صلاة العصر. فكان هذا الحديث على مقتضى تصرفه جديرا بالتصحيح. وقد قال الدارقطني: رواة الحديث كلهم ثقات، وفي الباب عن أبي هريرة عند أبي داود والنسائي بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت له سكتة إذا افتتح الصلاة. قوله: إذا استفتح الصلاة الغرض من هذه السكتة ليفرغ المأمومون من النية وتكبيرة الاحرام، لانه لو قرأ الامام عقب التكبير لفات من كان مشتغلا بالتكبير والنية بعض سماع القراءة. وقال الخطابي: إنما كان يسكت في الموضعين ليقرأ من خلفه فلا ينازغونه القراءة إذا قرأ. قال اليعمري: كلام الخطابي هذا في السكتة التي بعد قراءة الفاتحة، وأما السكتة الاولى فقد وقع بيانها
[ 265 ]
في حديث أبي هريرة السابق في باب الافتتاح: أنه كان يسكت بين التكبير والقراءة يقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي الحديث. قوله: وإذا فرغ من القراءة كلها قيل وهي أخف من السكتتين اللتين قبلها، وذلك بمقدار ما تنفصل القراءة عن التكبير، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الوصل فيه. قوله: وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال النووي عن أصحاب الشافعي: يسكت قدر قراءة المأمومين الفاتحة، قال: ويختار الذكر والدعاء والقراءة سرا، لان الصلاة ليس فيها سكوت في حق الامام. وقد ذهب إلى استحباب هذه السكتات الثلاث الاوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأي ومالك: السكتة مكروهة، وهذه الثلاث السكتات قد دل عليها حديث سمرة باعتبار الروايتين المذكورتين. وفي رواية في سنن أبي داود بلفظ: إذا دخل في صلاته وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد: وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين واستحب أصحاب الشافعي سكتة رابعة بين ولا الضالين وبين آمين قالوا: ليعلم المأموم أن لفظة آمين ليست من القرآن. باب التكبير للركوع والسجود والرفع عن ابن مسعود قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. الحديث أخرج نحوه البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصين، وأخرجا نحوه أيضا من حديث أبي هريرة، وأخرج نحوه البخاري من حديثه. وفي الباب عن أنس عند النسائي، وعن ابن عمر عند أحمد والنسائي. وعن أبي مالك الاشعري عند ابن أبي شيبة. وعن أبي موسى غير الحديث الذي سيذكره المصنف عند ابن ماجه. وعن وائل بن حجر عند أبي داود وأحمد والنسائي وابن ماجه، وفي الباب عن غير هؤلاء، وسيأتي في هذا الكتاب بعض من ذلك. (والحديث) يدل على مشروعية التكبير في كل خفض ورفع وقيام وقعود، إلا في الرفع من الركوع فإنه يقول: سمع الله لمن حمده. قال النووي: وهذا مجمع عليه اليوم ومن الاعصار المتقدمة، وقد كان فيه خلاف في زمن أبي هريرة، وكان بعضهم لا يرى التكبير إلا للاحرام انتهى. وقد حكى مشروعية التكبير في كل خفض ورفع الترمذي عن الخلفاء الاربعة
[ 266 ]
وغيرهم ومن بعدهم من التابعين قال: وعليه عامة الفقهاء والعلماء. وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عمر وجابر وقيس بن عباد والشافعي وأبي حنيفة والثوري والاوزاعي ومالك وسعيد بن عبد العزيز وعامة أهل العلم. وقال البغوي في شرح السنة: اتفقت الامة على هذه التكبيرات. قال ابن سيد الناس وقال آخرون: لا يشرع إلا تكبير الاحرام فقط، يحكى ذلك عن عمر بن الخطاب وقتادة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري، ونقله ابن المنذر عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر، ونقله ابن بطال عن جماعة أيضا منهم معاوية بن أبي سفيان وابن سيرين، قال أبو عمر: قال قوم من أهل العلم: إن التكبير ليس بسنة إلا في الجماعة، وأما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر. وقال أحمد أحب إلي أن يكبر إذا صلى وحده في الفرض، وأما في التطوع فلا. وروي عن ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده. (واستدل) من قال بعدم مشروعية التكبير كذلك بما أخرجه أحمد وأبو داود عن ابن أبزى عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان لا يتم التكبير. وفي لفظ لاحمد: إذا خفض ورفع. وفي رواية: فكان لا يكبر إذا خفض يعني بين السجدتين، وفي إسناده الحسن بن عمران، قال أبو زرعة: شيخ، ووثقه ابن حبان. وحكى عن أبي داود الطيالسي أنه قال: هذا عندي باطل، وهذا لا يقوى على معارضة أحاديث الباب لكثرتها وصحتها وكونها مثبتة ومشتملة على الزيادة، والاحاديث الواردة في هذا الباب أقل أحوالها الدلالة على سنية التكبير في كل خفض ورفع. وقد روى أحمد عن عمران بن حصين أن أول من ترك التكبير عثمان حين كبر وضعف صوته، وهذا يحتمل أنه ترك الجهر. وروى الطبري عن أبي هريرة أن أول من ترك التكبير معاوية، وروى أبو عبيد أن أول من تركه زياد. وهذه الروايات غير متنافية، لان زيادا تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان، وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الاخفاء، وحكى الطحاوي أن بني أمية كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع، وما هذه بأول سنة تركوها. وقد اختلف القائلون بمشروعية التكبير، فذهب جمهورهم إلى أنه مندوب فيما عدا تكبيرة الاحرام، وقال أحمد في رواية عنه: وبعض أهل الظاهر أنه يجب كله. (واحتج الجمهور) على الندبية بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلمه المسئ صلاته ولو كان واجبا لعلمه، وأيضا حديث ابن أبزى يدل على عدم الوجوب، لان تركه صلى الله عليه وآله وسلم له في بعض الحالات لبيان الجواز والاشعار بعدم الوجوب، وسيأتي دليل القائلين بالوجوب. وأما الجواب بأنه
[ 267 ]
صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلمه المسئ فممنوع، بل قد أخرج أبو داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للمسئ بلفظ: ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى يطمئن مفاصله، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائما، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى يطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعدا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى يطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيكبر، فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته. وعن عكرمة قال قلت لابن عباس: صليت الظهر بالبطحاء خلف شيخ أحمق، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة، يكبر إذا سجد وإذا رفع رأسه، فقال ابن عباس: تلك صلاة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والبخاري. قوله: الظهر لم يكن ذلك في البخاري وإنما زاده الاسماعيلي، وبذلك يصح عدد التكبير، لان في كل ركعة خمس تكبيرات، فتقع في الرباعية عشرون تكبيرة مع تكبيرة الافتتاح والقيام مع التشهد الاول. ولاحمد والطبراني عن عكرمة أنه قال: صلى بنا أبو هريرة. قوله: تلك صلاة أبي القاسم في لفظ للبخاري: أو ليس تلك صلاة أبي القاسم لا أم لك؟. وفي لفظ له: ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم. (والحديث) يدل على مشروعية تكبير الانتقال وقد تقدم الخلاف فيه. وعن أبي موسى قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال: إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين يجبكم الله، وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الامام يركع قبلكم ويرفع قبلكم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتلك بتلك، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد يسمع الله لكم، فإن الله تعالى قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا فإن الامام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فتلك بتلك، وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم التحيات الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. وفي رواية بعضهم: وأشهد أن محمدا. قوله: فأقيموا صفوفكم قال النووي: هو مأمور به بإجماع الامة، قال: وهو أمر ندب، والاقامة
[ 268 ]
تسويتها والاعتدال فيها وتتميمها الاول فالاول والتراص فيها. قوله: ثم ليؤمكم أحدكم فيه الامر بالجماعة في المكتوبات، وقد اختلفوا هل هو أمر ندب أو إيجاب، وسيأتي بسط الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: فإذا كبر فكبروا فيه أن المأموم لا يكبر قبل الامام ولا معه بل بعده لان الفاء للتعقيب، وقد قدمنا لمناقشة في هذا. قوله: وإذا قرأ فأنصتوا قد تقدم الكلام على هذه الزيادة في باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته. قوله: فإذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين استدل به على مشروعية أن يكون تأمين الامام والمأموم متفقا، وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى. قوله: يجبكم الله أي يستجب لكم وهذا حث عظيم على التأمين فيتأكد الاهتمام به. قوله: فإذا كبر وركع إلى قوله: فتلك بتلك معناه اجعلوا تكبيركم للركوع وركوعكم بعد تكبيره وركوعه، وكذلك رفعكم من الركوع بعد رفعه، ومعنى تلك بتلك أي اللحظة التي سبقكم الامام بها في تقدمه إلى الركوع تنجبر لكم بتأخيركم في الركوع بعد رفعه لحظة فتلك اللحظة بتلك اللحظة، وصار قدر ركوعكم كقدر ركوعه، وكذلك في السجود. قوله: وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا إلخ فيه دلالة على استحباب الجهر من الامام بالتسميع ليسمعوه فيقولون، وفيه أيضا دليل لمذهب من يقول: لا يزيد المأموم على قوله ربنا لك الحمد، ولا يقول معه: سمع الله لمن حمده. وفيه خلاف وسيأتي بسطه في باب ما يقول في رفعه. ومعنى سمع الله لمن حمده أجاب دعاء من حمده، ومعنى قوله: يسمع الله لكم يستجب لكم. قوله: ربنا لك الحمد هكذا هو بلا واو، وقد جاءت الاحاديث الصحيحة بإثبات الواو وبحذفها والكل جائز، ولا ترجيح لاحدهما على الآخر، كذا قال النووي، والظاهر أن إثبات الواو أرجح لانها زيادة مقبولة. قوله: وإذا كان عند القعدة إلى آخر الحديث الكلام على بقية ألفاظه يأتي إن شاء الله تعالى في أبواب التشهد. وقد استدل بقوله: فليكن من أول قول أحدكم على أنه يقول ذلك في أول جلوسه ولا يقول بسم الله. قال النووي: وليس هذا الاستدلال بواضح لانه قال: فليكن من أول ولم يقل فليكن أول. (والحديث) يدل على مشروعية تكبير النقل، وقد استدل به القائلون بوجوبه كما تقدم، وهو أخص من الدعوى لانه أمر للمؤتم فقط، وقد دفعه الجمهور بما تقدم من عدم ذكر تكبير الانتقال في حديث المسئ، وقد عرفت ما فيه بحديث ابن أبزى المتقدم.
[ 269 ]
باب جهر الامام بالتكبير ليسمع من خلفه وتبليغ الغير له عند الحاجة عن سعيد بن الحرث قال: صلى بنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع، وحين قام من الركعتين وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه البخاري وهو لاحمد بلفظ أبسط من هذا. الحديث يدل على مشروعية الجهر بالتكبير للانتقال، وقد كان مروان وسائر بني أمية يسرون به، ولهذا اختلف الناس لما صلى أبو سعيد هذه الصلاة فقام على المنبر فقال: إني والله ما أبالي اختلفت صلاتكم أم لم تختلف، إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا يصلي، وقد عرفت مما سلف أن أول من ترك تكبير النقل أي الجهر به عثمان، ثم معاوية، ثم زياد، ثم سائر بني أمية. وعن جابر قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. ولمسلم والنسائي قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر وأبو بكر خلفه، فإذا كبر كبر أبو بكر يسمعنا. الحديث يأتي وشرحه إن شاء الله تعالى في باب الامام ينتقل مأموما، وقد ذكره المصنف هنا للاستدلال به على جواز رفع الصوت بالتكبير ليسمعه الناس ويتبعوه، وأنه يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبر، وهذا مذهب الجمهور، وقد نقل أنه إجماع، قال النووي: وما أراه يصح الاجماع فيه فقد نقل القاضي عياض عن مذهبهم أن منهم من أبطل صلاة المقتدي، ومنهم من لم يبطلها، ومنهم من قال: إن أذن له الامام في الاسماع صح الاقتداء به وإلا فلا، ومنهم من أبطل صلاة المسمع، ومنهم من صححها، ومنهم من شرط إذن الامام، ومنهم من قال: إن تكلف صوتا بطلت صلاته وصلاة من ارتبط بصلاته، وكل هذا ضعيف، والصحيح جواز كل ذلك وصحة صلاة المسمع والسامع، ولا يعتبر إذن الامام.
[ 270 ]
باب هيئات الركوع عن أبي مسعود عقبة بن عمرو أنه ركع فجافى يديه ووضع يديه على ركبتيه وفرج بين أصابعه من وراء ركبتيه وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وفي حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك رواه أبو داود. الحديث الاول طرف من حديث أبي مسعود. والثاني طرف من حديث رفاعة بن رافع في وصف تعليمه صلى الله عليه وآله وسلم للمسئ صلاته، وكلاهما لا مطعن فيه، فإن جميع رجال إسنادهما ثقات. قوله: فجافى يديه أي باعدهما عن جنبيه وهو من الجفاء وهو البعد عن الشئ. قوله: وفرج بين أصابعه أي فرق بينها جاعلا لها وراء ركبتيه. قوله: فضع راحتيك تثنية راحة وهي الكف جمعها راح بغير تاء. قوله: على ركبتيك فيه رد على أهل التطبيق، وسيأتي البحث في ذلك قريبا. (والحديثان) يدلان على مشروعية ما اشتملا عليه من هيئات الركوع، ولا خلاف في شئ منها بين أهل العلم إلا للقائلين بمشروعية التطبيق. وعن مصعب بن سعد قال: صليت إلى جنب أبي فطبقت بين كفي ثم وضعتهما بيفخذي فنهاني عن ذلك، وقال: كنا نفعل هذا فأمرنا أن نضع أيدينا على الركب رواه الجماعة. وفي الباب عن عمر عند النسائي والترمذي وصححه. وعن أنس أشار إليه الترمذي أيضا. وعن أبي حميد الساعدي وأبي أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة إلى تمام عشرة من الصحابة عند الخمسة وقد تقدم. وعن عائشة عند ابن ماجه. قوله: مصعب بن سعد يعني ابن أبي وقاص. قوله: فطبقت التطبيق الالصاق بين باطني الكفين حال الركوع وجعلهما بين الفخذين. قوله: كنا نفعل هذا فأمرنا لفظ البخاري والترمذي وغيرهما: كنا نفعله فنهينا عنه وأمرنا إلخ فيه دليل على نسخ التطبيق لان هذه الصيغة حكمها الرفع، قال الترمذي: التطبيق منسوخ عند أهل العلم وقال: لا اختلاف بينهم في ذلك إلا ما روي عن ابن
[ 271 ]
مسعود وبعض أصحابه أنهم كانوا يطبقون انتهى. وقد روى النووي عن علقمة والاسود أنهما يقولان بمشروعية التطبيق. وأخرج مسلم عن علقمة والاسود أنهما دخلا على عبد الله فذكر الحديث قال: فوضعنا أيد ينا على ركبنا فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه فلما صلى قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وروى ابن خزيمة عن ابن مسعود أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد أن يركع طبق يديه بين ركبتيه فركع فبلغ ذلك سعدا فقال: صدق أخي كنا نفعل ذلك ثم أمرنا بهذا، يعني الامساك بالركب. وقد اعتذر عن ابن مسعود وصاحبيه بأن الناسخ لم يبلغهم. وقد روى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال: إنما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة يعني التطبيق، قال الحافظ: وإسناده قوي. واستدل ابن خزيمة بقوله: نهينا على أن التطبيق غير جائز، قال الحافظ: وفيه نظر لاحتمال حمل النهي على الكراهة، فقد روى ابن أبي شيبة من طريق عاصم بن ضمر عن علي قال: إذا ركعت فإن شئت قلت هكذا يعني وضعت يديك على ركبتيك وإن شئت طبقت وإسناده حسن، وهو ظاهر في أنه كان يرى التخيير أو لم يبلغه الناسخ، والظاهر ما قاله ابن خزيمة لان المعنى الحقيقي للنهي على ما هو الحق التحريم، وقول الصحابي لا يصلح قرينة لصرفه إلى المجاز. باب الذكر في الركوع والسجود عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الاعلى، وما مرت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل ولا آية عذاب إلا تعوذ منها رواه الخمسة وصححه الترمذي. الحديث أخرجه أيضا مسلم. قوله: يسأل أي الرحمة. قوله: تعوذ أي من العذاب وشر العقاب. قال ابن رسلان: ولا بآية تسبيح إلا سبح وكبر، ولا بآية دعاء واستغفار إلا دعا واستغفر، وإن مر بمرجو سأل يفعل ذلك بلسانه أو بقلبه. (والحديث) يدل على مشروعية هذا التسبيح في الركوع والسجود، وقد ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء من أئمة العترة وغيرهم إلا أنه سنة وليس بواجب. وقال إسحاق بن راهويه: التسبيح واجب، فإن تركه عمدا بطلت صلاته، وإن نسيه لم تبطل. وقال الظاهري: واجب مطلقا،
[ 272 ]
وأشار الخطابي في معالم السنن إلى اختياره. وقال أحمد: التسبيح في الركوع والسجود وقول سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد، والذكر بين السجدتين وجميع التكبيرات واجب، فإن ترك منه شيئا عمدا بطلت صلاته، وإن نسيه لم تبطل ويسجد للسهو، هذا هو الصحيح عنه، وعنه رواية أنه سنة كقول الجمهور، وقد روي القول بوجوب تسبيح الركوع والسجود عن ابن خزيمة. (احتج الموجبون) بحديث عقبة بن عامر الآتي بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي وبقول الله تعالى: * (وسبحوه) * (الاحزاب: 42) ولا وجوب في غير الصلاة، فتعين أن يكون فيها وبالقياس على القراءة. (واحتج الجمهور) بحديث المسئ صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمه واجبات الصلاة ولم يعلمه هذه الاذكار، مع أنه علمه تكبيرة الاحرام والقراءة، فلو كانت هذه الاذكار واجبة لعلمه إياها، لان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فيكون تركه لتعليمه دالا على أن الاوامر الواردة بما زاد على ما علمه للاستحباب لا للوجوب. (والحديث) يدل على أن التسبيح في الركوع والسجود يكون بهذا اللفظ، فيكون مفسرا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عقبة: اجعلوها في ركوعكم اجعلوها في سجودكم وإلى ذلك ذهب الجمهور من أهل البيت، وبه قال جميع من عداهم. وقال الهادي والقاسم والصادق: إنه سبحان الله العظيم وبحمده في الركوع، وسبحان الله الاعلى وبحمده في السجود. واستدلوا بظاهر قوله: * (فسبح باسم ربك العظيم) * (الواقعة: 4) و * (سبح اسم ربك الاعلى) * (الاعلى: 1) وقد أمر (ص) بجعل الاولى في الركوع والثانية في السجود كما سيأتي في حديث عقبة، ولكنه لا يتم إلا على فرض أنه ليس لله جل جلاله إلا اسم واحد، وقد تقرر أن له تسعة وتسعين اسما بالاحاديث الصحيحة، وأن له أسماء متعددة بصريح القرآن: * (ولله الاسماء الحسنى) * (الاعراف: 180) فامتثال ما في الآيتين يحصل بالمجئ بأي اسم منها مثل: سبحان ربي، وسبحان الله، وسبحان الاحد، وغير ذلك، لكنه قد ورد من فعله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على بيان المراد من ذلك كحديث الباب وغيره، وكذلك ورد من قوله ما يدل على ذلك كحديث ابن مسعود الآتي، فتعين أن لفظ الرب هو المراد. وبهذا يندفع ما ألزم به صاحب البحر من تلاوة لفظ الآيتين في الركوع والسجود، وأما زيادة وبحمده فهي عند أبي داود من حديث عقبة الآتي، وعند الدارقطني من حديث ابن مسعود الآتي أيضا. وعنده أيضا من حديث حذيفة. وعند أحمد والطبراني من حديث أبي مالك الاشعري وعند الحاكم من حديث أبي جحيفة،
[ 273 ]
ولكنه قال أبو داود بعد إخراجه لها من حديث عقبة أنه يخاف أن لا تكون محفوظة. وفي حديث ابن مسعود السري بن إسماعيل وهو ضعيف. وفي حديث حذيفة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف. وفي حديث أبي مالك شهر بن حوشب، وقد رواه أحمد والطبراني أيضا من طريق ابن السعدي عن أبيه بدونها. وحديث أبي جحيفة قال الحافظ: إسناده ضعيف، وقد أنكر هذه الزيادة ابن الصلاح وغيره، ولكن هذه الطرق تتعاضد فيرد بها هذا الانكار. وسئل أحمد عنها فقال: أما أنا فلا أقول وبحمده انتهى. وعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت: * (فسبح باسم ربك العظيم) * (الواقعة: 74) قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت: * (سبح اسم ربك الاعلى) * (الاعلى: 1) قال: اجعلوها في سجودكم رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا الحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه. قوله: اجعلوها قد تبين بالحديث الاول وبما سيأتي كيفية هذا الجعل، والحكمة في تخصيص الركوع بالعظيم والسجود بالاعلى أن السجود لما كان فيه غاية التواضع لما فيه من وضع الجبهة التي هي أشرف الاعضاء على مواطئ الاقدام كان أفضل من الركوع، فحسن تخصيصه بما فيه صيغة أفعل التفضيل وهو الاعلى بخلاف العظيم، جعلا للابلغ مع الابلغ، والمطلق مع المطلق. (والحديث) يصلح متمسكا للقائلين بوجوب تسبيح الركوع والسجود، وقد تقدم الجواب عنهم. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. قوله: سبوح قدوس بضم أولهما وبفتحهما والضم أكثر وأفصح. قال ثعلب: كل اسم على فعول فهو مفتوح الاول إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيهما أكثر. قال الجوهري: سبوح من صفات الله. وقال ابن فارس والزبيدي وغيرهما: سبوح هو الله عزوجل، والمراد المسبح والمقدس فكأنه يقول: مسبح مقدس. ومعنى سبوح المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق بالالهية. وقدوس المطهر من كل ما لا يليق بالخالق، وهما خبران مبتدؤهما محذوف تقديره ركوعي وسجودي لمن هو سبوح قدوس. وقال الهروي: قيل القدوس المبارك، قال القاضي عياض: وقيل فيه سبوحا قدوسا على تقدير
[ 274 ]
أسبح سبوحا، أو أذكر، أو أعظم، أو أعبد. قوله: رب الملائكة والروح هو من عطف الخاص على العام، لان الروح من الملائكة وهو ملك عظيم يكون إذا وقف كجميع الملائكة. وقيل: يحتمل أن يكون جبريل، وقيل: خلق لا تراهم الملائكة كنسبة الملائكة إلينا. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن رواه الجماعة إلا الترمذي. قوله: يكثر أن يقول في رواية ما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه: * (إذا جاء نصر الله والفتح) * (النصر: 3 1) إلا يقول فيها: سبحانك الحديث، وفي بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها. قوله: سبحانك هو منصوب على المصدرية والتسبيح التنزيكما تقدم. قوله: وبحمدك هو متعلق بمحذوف دل عليه التسبيح، أي وبحمد ك سبحتك، ومعناه بتوفيقك لي وهدايتك وفضلك علي سبحتك لا بحولي وقوتي. قال القرطبي: ويظهر وجه آخر وهو إبقاء معنى الحمد على أصله، وتكون الباء باء السببية، ويكون معناه: بسبب أنك موصوف بصفات الكمال والجلال سبحك المسبحون وعظمك المعظمون. وقد روي بحذف الواو من قوله: وبحمدك وبإثباتها. قوله: اللهم اغفر لي يؤخذ منه إباحة الدعاء في الركوع وفيه رد على من كرهه فيه كما لك. (واحتج من قال) بالكراهة بحديث مسلم وأبي داود والنسائي بلفظ: أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء الحديث وسيأتي، ولكنه لا يعارض ما ورد من الاحاديث الدالة على إثبات الدعاء في الركوع، لان تعظيم الرب فيه لا ينافي الدعاء، كما أن الدعاء في السجود لا ينافي التعظيم. قال ابن دقيق العيد: ويمكن أن يحمل حديث الباب على الجواز وذلك على الاولوية، ويحتمل أنه أمر في السجود بتكثير الدعاء، والذي وقع في الركوع من قوله: اللهم اغفر لي ليس كثيرا. قوله: يتأول القرآن يعني قوله تعالى: * (فسبح بحمد ربك واستغفره) * (النصر: 3) أي يعمل بما أمر به فيه، فكان يقول هذا الكلام البديع في الجزالة المستوفى ما أمر به في الآية، وكان يأتي به في الركوع والسجود لان حالة الصلاة أفضل من غيرها، فكان يختارها لاداء هذا الواجب الذي أمر به فيكون أكمل. وعن عون بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود أن النبي صلى الله
[ 275 ]
عليه وآله وسلم قال: إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم ركوعه وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الاعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وهو مرسل عون لم يلق ابن مسعود. الحديث قال أبو داود: مرسل كما قال المصنف، قال: لان عونا لم يدرك عبد الله، وذكره البخاري في تاريخه الكبير وقال مرسل. وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل انتهى. وعون هذا ثقة سمع جماعة من الصحابة وأخرج له مسلم. وفي الحديث مع الارسال إسحاق بن يزيد الهذلي راويه عن عون لم يخرج له في الصحيح. قال ابن سيد الناس: لا نعلمه وثق ولا عرف إلا برواية ابن أبي ذئب عنه خاصة، فلم ترتفع عنه الجهالة العينية ولا الحالية. قوله: وذلك أدناه في الموضعين أي أدنى الكمال، وفيه إشعار بأنه لا يكون المصلي متسننا بدون الثلاث. وقد قال الماوردي: إن الكمال إحدى عشرة أو تسع، وأوسطه خمس، ولو سبح مرة حصل التسبيح. وروى الترمذي عن ابن المبارك وإسحاق ابن راهويه أنه يستحب خمس تسبيحات للامام وبه قال الثوري، ولا دليل على تقييد الكمال بعدد معلوم، بل ينبغي الاستكثار من التسبيح على مقدار تطويل الصلاة من غير تقييد بعدد. وأما إيجاب سجود السهو فيما زاد على التسع واستحباب أن يكون عدد التسبيح وترا لا شفعا فيما زاد على الثلاث فمما لا دليل عليه. وعن سعيد بن جبير عن أنس قال: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز، قال: فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات رواه أحمد وأبو داود والنسائي. الحديث رجال إسناده كلهم ثقات إلا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان أبو يزيد الصنعاني، قال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس، وليس له عند أبي داود والنسائي إلا هذا الحديث. قوله: فحزرنا أي قدرنا. قوله: عشر تسبيحات قيل فيه حجة لمن قال: إن كمال التسبيح عشر تسبيحات، والاصح أن المنفرد يزيد في التسبيح ما أراد، وكلما زاد كان أولى، والاحاديث الصحيحة في تطويله صلى الله عليه وآله وسلم ناطقة بهذا وكذلك الامام إذا كان المؤتمون لا يتأذون بالتطويل. (فائدة) من الاذكار المشروعة في الركوع والسجود ما تقدم في حيث علي عليه السلام في باب الاستفتاح. ومنها ما أخرجه
[ 276 ]
أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عوف بن مالك الاشجعي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم قال في سجوده مثل ذلك. ومنها ما أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، أوله وآخره، وعلانيته وسره ومنها ما أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في سجوده في صلاة الليل: أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقد ورد الاذن بمطلق التعظيم في الركوع وبمطلق الدعاء في السجود، كما سيأتي في الباب الذي بعد هذا. باب النهي عن القراءة في الركوع والسجود عن ابن عباس قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. قوله: كشف الستارة بكسر السين المهملة وهي الستر الذي يكون على باب البيت والدار. قوله: من مبشرات النبوة أي من أول ما يبدو منها، مأخوذ من تباشير الصبح وهو أول ما يبدو منه، وهو كقول عائشة: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الحديث، وفيه أن الرؤيا من المبشرات سواء رآها المسلم أو رآها غيره. قوله: ألا وإني نهيت النهي له صلى الله عليه وآله وسلم نهي لامته كما يشعر بذلك قوله في الحديث: أما الركوع إلى آخره، ويشعر به أيضا ما في صحيح مسلم وغيره أن عليا قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا. ويدل عليه أيضا أدلة التأسي العامة وفيه خلاف في الاصول، وهذا النهي يدل على تحريم قراءة القرآن في الركوع والسجود، وفي بطلان الصلاة بالقراءة حال الركوع والسجود خلاف. قوله: أما الركوع فعظموا فيه الرب
[ 277 ]
أي سبحوه ونزهوه ومجدوه، وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم اللفظ الذي يقع به هذا التعظيم بالاحاديث المتقدمة في الباب الذي قبل هذا. قوله: وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فيه الحث على الدعاء في السجود، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء. قوله: فقمن قال النووي: هو بفتح القاف وفتح الميم وكسرها لغتان مشهورتان، فمن فتح فهو عنده مصدر لا يثنى ولا يجمع، ومن كسر فهو وصف يثنى ويجمع، قال: وفيه لغة ثالثة قمين بزيادة الياء وفتح القاف وكسر الميم ومعناه حقيق وجدير. ويستحب الجمع بين الدعاء والتسبيح المتقدم ليكون المصلي عاملا بجميع ما ورد، والامر بتعظيم الرب في الركوع والاجتهاد في الدعاء في السجود محمول على الندب عند الجمهور، وقد تقدم ذكر من قال بوجوب تسبيح الركوع والسجود. باب ما يقول في رفعه من الركوع وبعد انتصابه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي ساجدا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يهوي ساجدا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس متفق عليه. وفي رواية لهم: ربنا لك الحمد. قوله: إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم فيه أن التكبير يكون مقارنا لحال القيام وأنه لا يجزي من قعود. وقد اختلف في وجوب تكبيرة الاحرام وقد قدمنا الكلام على ذلك. قوله: ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد فيه متمسك لمن قال: إنه يجمع بين التسميع والتحميد كل مصل من غير فرق بين الامام والمؤتم والمنفرد، وهو من الشافعي ومالك وعطاء وأبو داود وأبو بردة ومحمد بن سيرين وإسحاق وداود قالوا: إن المصلي إذا رفع رأسه من الركوع يقول في حال ارتفاعه: سمع الله لمن حمده، فإذا استوى قائما يقول: ربنا ولك الحمد. وقال الامام يحيى والثوري والاوزاعي وروي عن مالك أنه يجمع بينهما الامام والمنفرد ويحمد المؤتم. وقال أبو يوسف ومحمد: يجمع بينهما الامام والمنفرد أيضا،
[ 278 ]
ولكن يسمع المؤتم. وقال الهادي والقاسم وأبو حنيفة: إنه يقول الامام والمنفرد: سمع الله لمن حمده فقط، والمأموم: ربنا لك الحمد فقط، وحكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي ومالك وأحمد قال: وبه أقول انتهى. وهو مروي عن الناصر. (احتج القائلون) بأنه يجمع بينهما كل مصل بحديث الباب ولكنه أخص من الدعوى، لانه حكاية لصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إماما كما هو المتبادر، والغالب إلا أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي يدل على عدم اختصاص ذلك بالامام. (واحتجوا أيضا) بما نقله الطحاوي وابن عبد البر من الاجماع على أن المنفرد يجمع بينهما، وجعله الطحاوي حجة لكون الامام يجمع بينهما فيلحق بهما المؤتم، لان الاصل استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة إلا ما صرح الشرع باستثنائه. (واحتجوا) أيضا بما أخرجه الدارقطني عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بريدة إذا رفعت رأسك من الركوع فقل: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، مل ء السموات ومل ء الارض ومل ء ما شئت من شئ بعد وظاهره عدم الفرق بين كونه منفردا أو إماما أو مأموما ولكن سنده ضعيف. وبما أخرجه أيضا عن أبي هريرة قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: سمع الله لمن حمده، قال من ورائه: سمع الله لمن حمده. (واحتج القائلون) بأنه يجمع بينهما الامام والمنفرد ببعض هذه الادلة. (واحتج القائلون) بأن الامام والمنفرد يقولان: سمع الله لمن حمده فقط، والمأموم: ربنا لك الحمد فقط، بحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما جعل الامام ليؤتم به. وفيه: وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد أخرجه الشيخان، وأخرجا نحوه من حديث عائشة، وقد تقدم نحو ذلك في باب التكبير للركوع والسجود من حديث أبي موسى، وسيأتي نحوه من حديث أنس. ويجاب بأن أمر المؤتم بالحمد عند تسميع الامام لا ينافي فعله له، كما أنه لا ينافي قوله (ص): إذا قال الامام: ولا الضالين، فقولوا: آمين قراءة المؤتم للفاتحة، وكذلك أمر المؤتم بالتحميد لا ينافي مشروعيته اللمام، كما لا ينافي أمر المؤتم بالتأمين تأمين الامام، وقد استفيد التحميد للامام والتسميع للمؤتم من أدلة أخرى هي المذكورة سابقا، والواو في قوله: ربنا ولك الحمد ثابتة في أكثر الروايات، وقد قدمنا أنها زيادة فيكون الاخذ بها أرجح، لا كما قال النووي: أنه لا ترجيح لاحدى الروايتين على الاخرى، وهي عاطفة على مقدر بعد قوله: ربنا وهو استجب كما قال ابن دقيق العيد، أو حمدناك كما قال النووي، أو الواو
[ 279 ]
زائدة كما قال أبو عمرو بن العلاء، أو للحال كما قال غيره. وروي عن أحمد بن حنبل أنه إذا قال: ربنا، قال: ولك الحمد، وإذا قال: اللهم ربنا، قال: لك الحمد. قال ابن القيم: لم يأت في حديث صحيح الجمع بين لفظ اللهم وبين الواو. وأقول: قد ثبت الجمع بينهما في صحيح البخاري في باب صلاة للقاعد من حديث أنس بلفظ: وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد. وقد تطابقت على هذا اللفظ النسخ الصحيحة من صحيح البخاري. قوله: ثم يكبر حين يهوي فيه أن التكبير ذكر الهوي، فيبتدئ به من حين يشرع في الهوي بعد الاعتدال إلى حين يتمكن ساجدا. قوله: وفي رواية لهم يعني البخاري ومسلما وأحمد، لان المتفق عليه في اصطلاحه هو ما أخرجه هؤلاء الثلاثة كما تقدم في أول الكتاب، لا ما أخرجه الشيخان فقط كما هو اصطلاح غيره. (والحديث) يدل على مشروعية تكبير النقل، وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا قال الامام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد متفق عليه. الحديث قد سبق شرحه في باب التكبير للركوع والسجود. وفي الحديث الذي في أول الباب، وقد احتج به القائلون بأن الامام والمنفرد يقولان: سمع الله لمن حمده فقط، والمؤتم يقول: ربنا ولك الحمد فقط. وقد عرفت الجواب عن ذلك. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد مل ء السموات ومل ء الارض ومل ء ما بينهما ومل ء ما شئت من شئ بعد أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد رواه مسلم والنسائي. الحديث قد تقدم طرف من شرحه في حديث علي المتقدم في باب ذكر الاستفتاح بين التكبير والقراءة. قوله: أهل الثناء والمجد هو في صحيح مسلم بزيادة أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد قبل قوله لا مانع إلخ. وأهل منصوب على النداء أو الاختصاص وهذا هو المشهور، وجوز بعضهم رفعه على أنه خبر مبتدأ محذو ف، والثناء الوصف الجميل، والمجد العظمة والشرف، وقد وقع في بعض نسخ مسلم الحمد مكان المجد. قوله: لا مانع لما أعطيت هذه جملة مستأنفة متضمنة للتفويض والاذعان والاعتراف. قوله: ذا الجد بفتح الجيم على المشهور، وروى ابن عبد البر عن البعض الكسر. قال ابن جرير: وهو خلاف ما عرفه أهل النقل ولا يعلم من قاله غيره، ومعناه بالفتح الحظ
[ 280 ]
والغنى والعظمة أي لا ينفعه ذلك وإنما ينفعه العمل الصالح، وبالكسر الاجتهاد أي لا ينفعه اجتهاده وإنما تنفعه الرحمة. (والحديث) يدل على مشروعية تطويل الاعتدال من الركوع والذكر فيه بهذا. وقد وردت في تطويله أحاديث كثيرة وسيأتي الكلام على ذلك. باب في أن الانتصاب بعد الركوع فرض عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده رواه أحمد. وعن علي بن شيبان: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود رواه أحمد وابن ماجه. وعن أبي مسعود الانصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود رواه الخمسة وصححه الترمذي. الحديث الاول تفرد به أحمد من رواية عبد الله بن زيد الحنفي، قال في مجمع الزوائد: ولم أجد من ترجمه، وقد ذكر ابن حجر في المنفعة أنه وهم الهيثمي في تسميته عبد الله بن زيد، وأنه عبد الله بن بدر وهو معروف موثق، ولكنه قال: إن عبد الله بن بدر لا يروي عن أبي هريرة إلا بواسطة. والحديث الثاني أخرجه أيضا ابن ماجه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن ملازم بن عمرو، وقد وثقه أحمد ويحيى والنسائي. وقال أبو داود: ليس به بأس عن عبد الله بن بدر، وقد وثقه ابن معين والعجلي وأبو زرعة عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان، وقد وثقه ابن حبان. والحديث الثالث إسناده صحيح وصححه الترمذي كما قال المصنف. (وفي الباب) عن أنس عند الشيخين، وعن أبي هريرة من حديث المسئ صلاته وسيأتي. وعن رفاعة الزرقي عند أبي داود والترمذي والنسائي من حديث المسئ صلاته أيضا. وعن حذيفة عند أحمد والبخاري وسيأتي. وعن أبي قتادة عند أحمد. وعن أبي سعيد عنده أيضا وسيأتيان. وعن عبد الرحمن بن شبل عند أبي داود والنسائي وابن ماجه. (والاحاديث) المذكورة في الباب تدل على وجوب الطمأنينة في الاعتدال من الركوع والاعتدال بين السجدتين، وإلى ذلك ذهبت العترة والشافعي وأحمد وإسحاق وداود، وأكثر العلماء قالوا: ولا تصح
[ 281 ]
صلاة من لم يقم صلبه فيهما، وهو الظاهر من أحاديث الباب لما قررناه غير مرة من أن النفي إن لم يمكن توجهه إلى الذات توجه إلى الصحة لانها أقرب إليها. وقال أبو حنيفة وهو مروي عن مالك: أن الطمأنينة في الموضعين غير واجبة، بل لو انحط من الركوع إلى السجود، أو رفع رأسه عن الارض أدنى رفع أجزأه ولو كحد السيف. (واحتج أبو حنيفة) بقوله تعالى: * (اركعوا واسجدوا) * (الحج: 77) وقد عرفناك في باب قراءة الفاتحة أن الفرض عنده لا يثبت بما يزيد على القرآن وبينا بطلانه هنالك، وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب الجلسة بين السجدتين إن شاء الله. باب هيئات السجود وكيف الهوي إليه عن وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه رواه الخمسة إلا أحمد. الحديث قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرف أحدا رواه غير شريك، وذكر أنهما ما رواه عن عاصم مرسلا، ولم يذكر وائل بن حجر، قال اليعمري: من شأن الترمذي التصحيح بمثل هذا الاسناد، فقد صحح حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل: لانظرن إلى صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما جلس للتشهد الحديث، وإنما الذي قصر بهذا عن التصحيح عنده الغرابة التي أشار إليها وهي تفرد يزيد بن هارون عن شريك، وهو لا يحطه عن درجة الصحيح لجلالة يزيد وحفظه، وأما تفرد شريك به عن عاصم وبه صار حسنا، فإن شريكا لا يصحح حديثه منفردا هذا معنى كلامه. وكذا علل الحديث النسائي بتفرد يزيد بن هارون عن شريك، وقال الدارقطني: تفرد به يزيد عن شريك، ولم يحدث به عن عاصم بن كليب غير شريك، وشريك ليس بالقوي فيما يتفرد به. وقال البيهقي: هذا حديث يعد في إفراد شريك القاضي، وإنما تابعه همام مرسلا، هكذا ذكر البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين، وأخرج الحديث أبو داود من طريق محمد بن جحادة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه، قال المنذري: عبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه، وكذا قال ابن معين، وأخرجه أيضا من طريق همام عن شقيق عن عاصم بن كليب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مرسل. وكذا قال الترمذي وغيره كما تقدم، لان كليب بن شهاب والد عاصم لم يدرك النبي (ص). (وفي الباب) عن
[ 282 ]
أنس: أنه صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه أخرجه الحاكم والبيهقي والدارقطني وقال: تفرد به العلاء بن إسماعيل وهو مجهول، وقال الحاكم: هو على شرطهما ولا أعلم له علة، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: إنه منكر. (الحديث) يدل على مشروعية وضع الركبتين قبل اليدين ورفعهما عند النهوض قبل رفع الركبتين، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وحكاه القاضي أبو الطيب عن عامة الفقهاء، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب والنخعي ومسلم بن يسار وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي قال: وبه أقول. وذهبت العترة والاوزاعي ومالك وابن حزم إلى استحباب وضع اليدين قبل الركبتين وهي رواية عن أحمد، وروى الحازمي عن الاوزاعي أنه قال: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم، قال ابن أبي داود: وهو قول أصحاب الحديث. (واحتجوا) بحديث أبي هريرة الآتي وهو أقوى، لان له شاهدا من حديث ابن عمر، أخرجه ابن خزيمة وصححه، وذكره البخاري تعليقا موقوفا، كذا قال الحافظ في بلوغ المرام. وقد أخرجه الدارقطني والحاكم في المستدرك مرفوعا بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه قال: على شرط مسلم. (وأجاب الاولون) عن ذلك بأجوبة: منها أن حديث أبي هريرة وابن عمر منسوخان بما أخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين ولكنه قال الحازمي، في إسناده مقال، ولو كان محفوظا لدل على النسخ، غير أن المحفوظ عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق. وقال الحافظ في الفتح: إنه من أفراد إبراهيم بن إسماعيل بن سلمة بن كهيل عن أبيه وهما ضعيفان، وقد عكس ابن حزم فجعل حديث أبي هريرة في وضع اليدين قبل الركبتين ناسخا لما خالفه. ومنها ما جزم به ابن القيم في الهدى أن حديث أبي هريرة الآتي انقلب متنه على بعض الرواة، قال: ولعله وليضع ركبتيه قبل يديه، قال: وقد رواه كذلك أبو بكر بن أبي شيبة فقال: حدثنا محمد بن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل ورواه الاثرم في سننه أيضا عن أبي بكر كذلك، وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يصدق ذلك ويوافق حديث وائل بن حجر. قال ابن أبي داود: حدثنا يوسف بن عدي، حدثنا ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه اه. ولكنه قد
[ 283 ]
ضعف عبد الله بن سعيد يحيى القطان وغيره، قال أبو أحمد الحاكم: إنه ذاهب الحديث. وقال أحمد بن حنبل: هو منكر الحديث متروك الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بشئ لا يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: هو ضعيف لا يوقف منه على شئ. وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه الضعف عليه بين. (ومما أجاب به ابن القيم) عن حديث أبي هريرة أن أوله يخالف آخره، قال: فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير، فإن البعير إنما يضع يديه أولا، قال: ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا ركبتا البعير في يديه لا في رجليه، فهو إذا برك وضع ركبتيه أولا فهذا هو المنهي عنه، قال: وهو فاسد لوجوه. حاصلها أن البعير إذا برك يضع يديه ورجلاه قائمتان وهذا هو المنهي عنه، وإن القول بأن ركبتي البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة، وإنه لو كان الامر كما قالوا لقال صلى الله عليه وآله وسلم فليبرك كما يبرك البعير، لان أول ما يمس الارض من البعيريداه. ومن الاجوبة التي أجاب بها الاولون عن حديث أبي هريرة الآتي أن حديث وائل أرجح منه كما قال الخطابي وغيره، ويجاب عنه بأن المقال الذي سيأتي على حديث أبي هريرة لا يزيد على المقال الذي تقدم في حديث وائل على أنه قد رجحه الحافظ كما عرفت، وكذلك الحافظ ابن سيد الناس قال: أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح، وقال: ينبغي أن يكون حديث أبي هريرة داخلا في الحسن على رسم الترمذي لسلام رواته من الجرح. ومنها الاضطراب في حديث أبي هريرة، فإن منهم من يقول: وليضع يديه قبل ركبتيه. ومنهم من يقول بالعكس كما تقدم. ومنهم من يقول: وليضع يديه على ركبتيه كما رواه البيهقي. ومنها: أن حديث وائل موافق لما نقل عن الصحابة كعمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن مسعود. ومنها: أن لحديث وائل شواهد من حديث أنس وابن عمر، ويجاب عنه بأن الحديث أبي هريرة شواهد كذلك. ومنها: أنه مذهب الجمهور. (ومن المرجحات) لحديث أبي هريرة أنه قول، وحديث وائل حكاية فعل، والقول أرجح، مع أنه قد تقرر في الاصول أن فعله (ص) لا يعارض قوله الخاص بالامة، ومحل النزاع من هذا القبيل. وأيضا حديث أبي هريرة مشتمل على النهي المقتضي للحظر وهو مرجح مستقل، وهذا خلاصة ما تكلم به الناس في هذه المسألة، وقد أشرنا إلى تزييف البعض منه، والمقام من معارك الانظار ومضايق الافكار، ولهذا قال النووي: لا يظهر له ترجيح أحد المذهبين. وأما الحافظ ابن القيم فقد رجح حديث وائل بن حجر وأطال الكلام في ذلك، وذكر عشرة مرجحات قد أشرنا ههنا إلى بعضها. وقد حاول المحقق المقبلي الجمع بين الاحاديث بما
[ 284 ]
حاصله: أن من قدم يديه أو قدم ركبتيه وأفرط في ذلك بمباعدة سائر أطرافه وقع في الهيئة المنكرة، ومن قارب بين أطرافه لم يقع فيها، سواء قدم اليدين أو الركبتين وهو مع كونه جمعا لم يسبقه إليه أحد تعطيل لمعاني الاحاديث وإخراج لها عن ظاهرها، ومصير إلى ما لم يدل عليه دليل. ومثل هذا ما روى البعض عن مالك من جواز الامرين ولكن المشهور عنه ما تقدم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه ثم ركبتيه رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقال الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا. الحديث أخرجه الترمذي وقال: غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه اه. وقال البخاري: إن محمد بن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب لا يتابع عليه وقال: لا أدري سمع من أبي الزناد أو لا. وقال الدارقطني: تفرد به الدراوردي عن محمد بن عبد الله المذكور. قال المنذري: وفيما قال الدارقطني نظر، فقد روى نحوه عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديثه، وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني: هذه سنة تفرد بها أهل المدينة ولهم فيها إسناد أن هذا أحدهما، والآخر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قدمنا أنه أخرج حديث ابن عمر هذا الدارقطني والحاكم وابن خزيمة وصححه، وقد أعله الدارقطني بتفرد الدراوردي أيضا عن عبيد الله بن عمر، وقال في موضع آخر: تفرد به أصبغ بن الفرج عن الدراوردي اه. ولا ضير في تفرد الدراوردي فإنه قد أخرج له مسلم في صحيحه واحتج به، وأخرج له البخاري مقرونا بعبد العزيز بن أبي حازم، وكذلك تفرد أصبغ فإنه قد حدث عنه البخاري في صحيحه محتجا به. (والحديث) استدل به القائلون بوضع اليدين قبل الركبتين، وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى. قوله: وليضع يديه ثم ركبتيه هو في سنن أبي داود وغيرها بلفظ: قبل ركبتيه ولعل ما ذكره المصنف لفظ أحمد. وعن عبد الله ابن بحينة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه متفق عليه. قوله: يجنح بضم الياء المثناة من تحت وفتح الجيم وكسر النون المشددة وروي فرج. وروي خوى وكلها بمعنى واحد. والمراد أنه نحى كل يد عن الجنب الذي يليها.
[ 285 ]
قوله: حتى يرى قال النووي: هو بالنون وروي بالياء المثناة من تحت المضمومة وكلاهما صحيح. قوله: وضح إبطيه هو البياض وفي رواية: حتى يبدو بياض إبطيه وفي أخرى: حتى أني لارى بياض إبطيه قال الحافظ: قال القرطبي: والحكمة في استحباب هذه الهيئة أن يخف اعتماده على وجهه ولا يتأثر أنفه ولا جبهته، ولا يتأذى بملاقاة الارض، قال: وقال غيره: هو أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والانف من الارض مع مغايرته لهيئة الكسلان وقال ابن المنير ما معناه: أن يتميز كل عضو بنفسه. وأخرج الطبراني وغيره بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تفترش افتراش السبع واعتمد على راحتيك وأبد ضبعيك فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك وأخرج مسلم من حديث عائشة: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع. وأخرج أيضا من حديث البراء مرفوعا: إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك وظاهر هذه الاحاديث مع حديث أنس الآتي وجوب التفريج المذكور، لولا ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة بلفظ: شكى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم له مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا فقال: استعينوا بالركب وترجم له باب الرخصة في ذلك أي في ترك التفريج، وفسره ابن عجلان أحد رواته بوضع المرفقين على الركبتين إذا طال السجود. وقد أخرجه الترمذي ولم يقع في روايته إذا انفرجوا، فترجم له باب ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود، فجعل محل الاستعانة بالركب حين يرتفع من السجود طالبا للقيام، واللفظ يحتمل ما قال، والزيادة التي أخرجها أبو داود تعين المراد، ولكنه قال الترمذي: أنه لم يعرف الحديث إلا من هذا الوجه، وذكر أنه روي من غير هذا الوجه مرسلا وكأنه أصح. وقال البخاري: إرساله أصح من وصله، وهذا الاعلال غير قادح لانه قد رفعه أئمة، فرواه الليث عن ابن عجلان عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا، والرفع من هؤلاء زيادة وتفردهم غير ضائر. وعن أنس > عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب رواه الجماعة. قوله: ولا يبسط في رواية: ولا يبتسط بزيادة التاء المثناة من فوق، وفي رواية: ولا يفترش ومعناه واحد كما قال ابن المنير وابن رسلان، أي لا يجعل ذراعيه على الارض كالفراش والبساط. قال القرطبي: ولا شك في كراهة هذه الهيئة ولا في استحباب نقيضها
[ 286 ]
قوله " انبساط الكلب " في رواية " افتراش الكلب " وقد عرفت أن معناهما واحد، والانبساط مصدر فعل محذوف تقديره ولا يبسط فينبسط انبساط الكلب، ومثله قوله تعالى: * (والله أنبتكم من الارض نباتا) * (نوح 17) وقوله تعالى: * (وأنبتها نباتا حسنا) * (آل عمران: 37) أي أنبتكم فنبتم نباتا، وأنبتها فنبتت نباتا. والمراد بالاعتدال المأمور به في الحديث هو التوسط بين الافتراش والقبض. وظاهر الحديث الوجوب، وقد تقدم في شرح الحديث الاول ما يدل على صرفه عنه إلى الاستحباب. وعن أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شئ من فخذيه رواه أبو داود. حديث أبي حميد قد تقدم ذكر من أخرجه في باب رفع اليدين وهذا طرف منه. قوله: فرج بين فخذيه أي فرق بين فخذيه وركبتيه وقد ميه، قال أصحاب الشافعي: يكون التفريق بين القدمين بقدر شبر. قوله: غير حامل بطنه بفتح الراء من غير، والمراد أنه لم يجعل شيئا من فخذيه حاملا لبطنه بل يرفع بطنه عن فخذيه، حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت. (والحديث) يدل على مشروعية التفريج بين وعن أبي حميد: أن الفخذين في السجود ورفع البطن عنهما ولا خلاف في ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الارض، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه رواه أبو داود والترمذي وصححه. وهذا أيضا طرف من حديث أبي حميد المتقدم، وأخرجه بهذا اللفظ أيضا ابن خزيمة في صحيحه. قوله: أمكن يقال: أمكنته من الشئ ومكنته منه فتمكن واستمكن أي قوي عليه. وفيه دليل على مشروعية السجود على الانف والجبهة وسيأتي الكلام عليه. قوله: ونحى يديه فيه مشروعية التخوية في السجود كما في الركوع. قوله: ووضع كفيه هذه الرواية مبينة للرواية الاخرى الواردة بلفظ: ووضع يديه. قوله: حذو منكبيه فيه مشروعية وضع اليدين في السجود حذو المنكبين. باب أعضاء السجود عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه رواه الجماعة إلا البخاري.
[ 287 ]
قوله: آراب بالمد جمع إرب بكسر أوله وإسكان ثانيه وهو العضو. (الحديث) يدل على أن أعضاء السجود سبعة، وأنه ينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها، وقد اختلف العلماء في وجوب السجود على هذه السبعة الاعضاء، فذهبت العترة والشافعي في أحد قوليه إلى وجوب السجود على جميعها للاوامر التي ستأتي من غير فصل بينها. وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وأكثر الفقهاء: الواجب السجود على الجبهة فقط لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ومكن جبهتك ووافقهم المؤيد بالله في عدم وعن ابن عباس قال: أمر وجوب السجود على القدمين، والحق ما قاله الاولون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعرا ولا ثوبا: الجبهة واليدين والركبتين والرجلين أخرجاه. وفي لفظ: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين والقدمين متفق عليه. وفي رواية: أمرت أن أسجد على سبع ولا أكفت الشعر ولا الثياب: الجبهة والانف واليدين والركبتين والقدمين رواه مسلم والنسائي. قوله: أمر قال الحافظ: هو بضم الهمزة في جميع الروايات على البناء لما لم يسم فاعله وهو الله جل جلاله. قال البيضاوي: وعر ف ذلك بالعرف وذلك يقتضي الوجوب، ونظره الحافظ قال: لانه ليس فيه صيغة افعل وهو ساقط، لان لفظ أمر أدل على المطلوب من صيغة أفعل كما تقرر في الاصول، ولكن الذي يتوجه على القول باقتضائه الوجوب على الامة أنه لا يتم إلا على القول بأن خطابه صلى الله عليه وآله وسلم خطاب لامته وفيه خلاف معروف، ولا شك أن عموم أدة التأسي تقتضي ذلك، وقد أخرجه البخاري في صحيحه من رواية شعبة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس بلفظ: أمرنا وهو دال على العموم. قوله: سبعة أعظم سمي كل واحد عظما وإن اشتمل على عظام باعتبار الجملة، ويجوز أن يكون من باب تسمية الجملة باسم بعضها، كذا قال ابن دقيق العيد. قوله: ولا يكف شعرا ولا ثوبا جملة معترضة بين المجمل والمبين. والمراد بالشعر شعر الرأس. وظاهره أن ترك الكف واجب حال الصلاة لا خارجها، ورده القاضي عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور فإنهم كرهوا ذلك للمصلي سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخلها. قال الحافظ: واتفقوا على أنه لا يفسد الصلاة، لكن
[ 288 ]
حكى ابن المنذر عن الحسن وجوب الاعادة. (قيل) والحكمة في ذلك أنه إذا رفع ثوبه وشعره عن مباشرة الارض أشبه المتكبرين. قوله: الجبهة احتج به من قال بوجوب السجود على الجبهة دون الانف وإليه ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: أنه يجزئ السجود على الانف وحده، وقد نقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الانف وحده، وذهب الاوزاعي وأحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكية وغيرهم إلى أنه يجب أن يجمعهما وهو قول للشافعي. (واستدل) أبو حنيفة بالرواية الثانية من حديث ابن عباس المذكور في الباب، لانه ذكر الجبهة وأشار إلى الانف، فدل على أنه المراد ورده ابن دقيق العيد فقال: إن الاشارة لا تعارض التصريح بالجبهة لانها قد لا تعين المشار إليه، بخلاف العبارة فإنها معينة، وفيه أن الاشارة الحسية أقوى من الدلالة اللفظية، وعدم التعيين المدعي ممنوع، وقد صرح النحاة أن التعيين فيها يقع بالعين والقلب، وفي المعرف باللام بالقلب فقط، ولهذا جعلوها أعرف منه، بل قال ابن السراج: إنها أعرف المعارف. واستدل القائلون بوجوب الجمع بينهما بالرواية الثالثة من حديث ابن عباس المذكور لانه جعلهما كعضو واحد، ولو كان كل واحد منهما عضوا مستقلا للزم أن تكون الاعضاء ثمانية، وتعقب بأنه يلزم منه أن يكتفي بالسجود على الانف وحده والجبهة وحدها، فيكون دليلا لابي حنيفة، لان كل واحد منهما بعض العضو وهو يكفي كما في غيره من الاعضاء، وأنت خبير بأن المشي على الحقيقة هو المتحتم، والمناقشة بالمجاز بدون موجب للمصير إليه غير ضائرة. ولا شك أن الجبهة والانف حقيقة في المجموع، ولا خلاف أن السجود على مجموع الجبهة والانف مستحب. وقد أخرج أحمد من حديث وائل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجد على الارض واضعا جبهته وأنفه في سجوده وأخرج الدارقطني من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الارض ما يصيب الجبين. قال الدارقطني: الصواب عن عكرمة مرسلا، وروى إسماعيل بن عبد الله المعروف بسمويه في فوائده عن عكرمة عن ابن عباس قال: إذا سجد أحدكم فليضع أنفه على الارض فإنكم قد أمرتم بذلك. قوله: واليدين المراد بهما الكفان بقرينة ما تقدم من النهي عن افتراش السبع والكلب. قوله: والرجلين وفي الرواية الثانية والثالثة: والركبتين والقدمين وهي معينة للمراد من الرجلين في الرواية الاولى. (والحديث) يدل على وجوب السجود على السبعة الاعضاء جميعا، وقد تقدم الخلاف
[ 289 ]
في ذلك، وظاهره أنه لا يجب كشف شئ من هذه الاعضاء، لان مسمى السجود يحصل بوضعها دون كشفها. قال ابن دقيق العيد: ولم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب لما يحذر فيه من كشف العورة، وأما عدم وجوب كشف القدمين فلدليل لطيف، وهو أن الشارع وقت المسح على الخف بمدة يقع فيها الصلاة بالخف، فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخف المقتضي لنقض الطهارة فتبطل الصلاة اه. ويمكن أن يخص ذلك بلابس الخف لاجل الرخصة. وأما كشف اليدين والجبهة فسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا. وقد ذهب الهادي والقاسم والشافعي إلى أنه لا يجب الكشف عن شئ من السبعة الاعضاء. وذهب الناصر والمرتضى وأبو طالب والشافعي في أحد قوليه إلى أنه يجب في الجبهة دون غيرها. وقال المؤيد بالله وأبو حنيفة: إنه يجزئ السجود على كور العمامة. وفي قول للشافعي أنه يجب كشف اليدين كالجبهة. وقال المؤيد بالله وأبو حنيفة وأهل القول الاول: أنه لا يجب كعصابة الحرة، وسيأتي الدليل على ذلك. باب المصلي يسجد على ما يحمله ولا يباشر مصلاه بأعضائه عن أنس قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الارض بسط ثوبه فسجد عليه رواه الجماعة. قوله: ثوبه قال في الفتح: الثوب في الاصل يطلق على غير المخيط. (والحديث) يدل على جواز السجود على الثياب لاتقاء حر الارض، وفيه إشارة إلى أن مباشرة الارض عند السجود هي الاصل لتعليق بسط ثوب بعدم الاستطاعة. وقد استدل بالحديث على جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي. قال النووي وبه قال أبو حنيفة والجمهور، وحمله الشافعي على الثوب المنفصل. قال ابن دقيق العيد: يحتاج من استدل به على الجواز إلى أمرين: أحدهما أن لفظ ثوبه دال على المتصل به، إما من حيث اللفظ وهو تعقيب السجود بالبسط، وإما من خارج اللفظ وهو قلة الثياب عندهم، وعلى تقدير أن يكون كذلك وهو الامر الثاني يحتاج إلى ثبوت كونه متناولا لمحل النزاع، وهو أن يكون مما يتحرك بحركة المصلي، وليس في الحديث ما يدل عليه، وقد عورض هذا الحديث بحديث خباب بن الارت عند الحاكم في الاربعين والبيهقي بلفظ: شكونا إلى
[ 290 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا وأخرجه مسلم بدون لفظ حر وبدون لفظ جباهنا وأكفنا، ويجمع بين الحديثين بأن الشكاية كانت لاجل تأخير الصلاة حتى يبرد الحر، لا لاجل السجود على الحائل، إذ لو كان كذلك لاذن لهم بالحائل المنفصل، كما تقدم أنه كان (ص) يصلي على الخمرة، ذكر معنى ذلك الحافظ في التلخيص. وأما ما أخرجه أبو داود في المراسيل عن صالح بن خيوان السبائي أن رسول الله (ص) رأى رجلا يسجد إلى جنبه وقد اعتم على جبهته فحسر عن جبهته. وأخرج ابن أبي شيبة عن عياض بن عبد الله قال: رأى رسول الله (ص) رجلا يسجد على كور العمامة فأومأ بيده ارفع عمامتك فلا تعارضهما الاحاديث الواردة بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسجد على كور عمامته، لانها كما قال البيهقي لم يثبت منها شئ يعني مرفوعا. وقد رويت من طرق عن جماعة من الصحابة. منها: عن ابن عباس عند أبي نعيم في الحلية وفي إسناده ضعف كما قال الحافظ. ومنها: عن ابن أبي أوفى عند الطبراني وفيه قائد أبو الورقاء وهو ضعيف. ومنها: عن جابر عند ابن عدي وفيه عمرو بن شمر وجابر الجعفي وهما متروكان. ومنها: عن أنس عند ابن أبي حاتم في العلل وفيه حسان بن سيارة وهو ضعيف. ورواه عبد الرزاق مرسلا. وعن أبي هريرة قال أبو حاتم: هو حديث باطل، ويمكن الجمع إن كان لهذه الاحاديث أصل في الاعتبار، بأن يحمل حديث صالح بن خيوان وعياض بن عبد الله على عدم العذر من حر أو برد، وأحاديث سجوده صلى الله عليه وآله وسلم على كور العمامة على العذر. وكذلك يحمل حديث الحسن الآتي على العذر المذكور. ومن القائلين بجواز السجود على كور العمامة عبد الرحمن بن يزيد، وسعيد بن المسيب، والحسن، وبكر المزني، ومكحول، والزهري، روى ذلك عنهم ابن أبي شيبة. ومن المانعين عن ذلك علي بن أبي طالب، وابن عمر، وعبادة بن الصامت، وإبراهيم، وابن سيرين، وميمون بن مهران، وعمر بن عبد العزيز، وجعدة بن هبيرة، روى ذلك عنهم أيضا أبو بكر بن أبي شيبة. وعن ابن عباس قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مطير وهو يتقي الطين إذا سجد بكساء عليه يجعله دون يديه إلى الارض إذا سجد رواه أحمد. الحديث أخرج نحوه ابن أبي شيبة عنه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في ثوب واحد يتقي بفضوله حر الارض وبردها. وأخرجه بهذا اللفظ أحمد وأبو يعلى
[ 291 ]
والطبراني في الاوسط والكبير. قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح. (والحديث) يدل على جواز الاتقاء بطرف الثوب الذي على المصلي ولكن للعذر، إما عذر المطر كما في حديث الباب، أو الحر والبرد كما في رواية ابن أبي شيبة. وهذا الحديث مصرح بأن الكساء الذي سجد عليه كان متصلا به. وقد استدل القائلون بجواز ترك كشف اليدين في الصلاة، وقد تقدم ذكرهم في الباب الاول ولكنه مقيد بالعذر كما عرفت، إلا أن القول بوجوب الكشف يحتاج إلى دليل إلا أن يقال: إن الامر بالسجود على الاعضاء المذكورة يقتضي أن لا يكون بينها وبين الارض حائل، وقد قدمنا أن مسمى السجود يحصل بوضعها دون كشفها. وعن عبد الله بن عبد الرحمن قال: جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بنا في مسجد بني الاشهل فرأيته واضعا يديه في ثوبه إذا سجد رواه أحمد وابن ماجه وقال: على ثوبه. الحديث أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن إسماعيل بن أبي حبيبة عنه. وهذا الحديث قد اختلف في إسناده، فقال ابن أبي أويس عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن ثابت بن الصامت عن أبيه عن جده وهذا أولى بالصواب قاله المزني. وقد استدل به أيضا القائلون بجواز ترك كشف اليدين حال السجود، وهو أدل على مطلوبهم من حديث ابن عباس لاطلاقه، وتقييد حديث ابن عباس بالعذر، وقد تقدم تمام الكلام عليه. قال المصنف: وقال البخاري قال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ويداه في كمه. وروى سعيد في سننه عن إبراهيم قال: كانوا يصلون في المساتق والبرانس والطيالسة ولا يخرجون أيديهم انتهى. وكلام الحسن الذي علقه البخاري قد وصله البيهقي وقال: هذا أصح ما في السجود موقوفا على الصحابة. ووصله أيضا عبد الرزاق وابن أبي شيبة. والقلنسوة بفتح القاف واللام، وسكون النون، وضم المهملة، وفتح الواو وقد تبدل ياء مثناة من تحت وقد تبدل ألفا وتفتح السين، وبعدها هاء تأنيث وهي غشاء مبطن يستر به الرأس، قاله القزاز في شرح الفصيح. وقال ابن هشام: التي يقال لها العمامة الشاشية. وفي المحكم هي من ملابس الروس معروفة. وقال أبو هلال العسكري: هي التي تغطي بها العمائم وتستر من الشمس والمطر كأنها عنده رأس البرنس. وقول الحسن:
[ 292 ]
ويداه في كمه أي يد كل واحد منهم، قال الحافظ: وكأنه أراد بتغيير الاسلوب بيان أن كل واحد منهم مكان يجمع بين السجود على العمامة والقلنسوة معا، لكن في كل حالة كان يسجد ويداه في كمه. والمساتق جمع مستقة وهي فرو طويل الكمين كذا في القاموس. والبرانس جمع برنس بالضم، قال في القاموس: هو قلنسوة طويلة، أو كل ثوب رأسه منه دراعة كان أو جبة. والطيالسة جمع طيلسان. باب الجلسة بين السجدتين وما يقول فيها عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم، ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم رواه مسلم. وفي رواية متفق عليها: أن أنسا قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بنا، فكان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول الناس قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول الناس قد نسي. الرواية الاولى أخرجها أيضا أبو داود وغيره. قوله: قد أوهم بفتح الهمزة والهاء فعل ماض مبني للفاعل. قال القرطبي: ومعناه ترك. قال ثعلب: يقال أوهمت الشئ إذا تركته كله، أوهم ووهمت في الحساب وغيره إذا غلطت، أهم ووهمت إلى الشئ إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره. وقال في النهاية: أوهم في صلاته أي أسقط منها شيئا، يقال: أوهمت الشئ إذا تركته، وأوهمت في الكلام والكتاب إذا أسقطت منه شيئا. ووهم يعني بكسر الهاء يوهم وهما بالتحريك إذا غلط. قال ابن رسلان: ويحتمل أن يكون معناه نسي أنه في صلاة، وكذا قال الكرماني وزاد: أو ظن أنه في وقت القنوت حيث كان معتدلا، والتشهد حيث كان جالسا، ويؤيد التفسير بالنسيان التصريح به في الرواية الاخرى. قوله: إني لا آلو هو بهمزة ممدودة بعد حرف النفي ولام مضمومة بعدها واو خفيفة أي لا أقصر. قوله: قد نسي أي نسي وجوب الهوي إلى السجود قاله الكرماني، ويحتمل أن يكون المراد أنه نسي أنه في صلاة، أو ظن أنه وقت القنوت حيث كان معتدلا، والتشهد حيث كان جالسا قاله الحافظ. ووقع عند الاسماعيلي
[ 293 ]
من طريق غندر عن شعبة قلنا: قد نسي طول القيام أي لاجل طول قيامه. (والحديث) يدل على مشروعية تطويل الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين، وقد ذهب بعض الشافعية إلى بطلان الصلاة بتطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين محتجا بأن طولهما ينفي الموالاة، وما أدري ما يكون جوابه عن حديث الباب. وعن حديث حذيفة الآتي بعده. وعن حديث البراء المتفق عليه: أنه كان ركوعه صلى الله عليه وآله وسلم وسجوده وإذا رفع من الركوع وبين السجدتين قريبا من السواء. ولفظ مسلم: وجدت قيامه فركعته فاعتداله الحديث. وفي لفظ للبخاري: كان ركوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يدل على أن الاعتدال ركن طويل، وحديث أنس أصرح في الدلالة على ذلك بل هو نص فيه، فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف وهو قولهم: لم يسن فيه تكرير التسبيحات كالركوع والسجود. ووجه ضعفه أنه قياس في مقابلة النص فهو فاسد انتهى. على أنه قد ثبتت مشروعية أذكار في الاعتدال أكثر من التسبيح المشروع في الركوع والسجود كما تقدم وسيأتي. وأما القول بأن طولهما ينفي الموالاة فباطل، لان معنى الموالاة أن لا يتخلل فصل طويل بين الاركان مما ليس فيها، وما ورد به الشرع لا يصح نفي كونه منها، وقد ترك الناس هذه السنة الثابتة بالاحاديث الصحيحة محدثهم وفقيههم ومجتهدهم ومقلدهم، فليت شعري ما الذي عولوا عليه في ذلك والله المستعان. وعن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي رب اغفر لي رواه النسائي وابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبو داود عن حذيفة مطولا ولفظه: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل وكان يقول: الله أكبر ثلاثا، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه وكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من قيامه وفي رواية الاسارى: حوا من ركوعه وكان يقول لربي الحمد، ثم يسجد فكان سجوده نحوا من قيامه فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الاعلى ثم يرفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده وكان يقول: رب اغفر لي رب
[ 294 ]
اغفر لي، فصلى أربع ركعات فقرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الانعام شك شعبة وفي إسناده رجل من بني عبس. قيل: هو صلة بن زفر العبسي الكوفي، وقد احتج به البخاري ومسلم. والحديث أصله في مسلم، وهو يدل على مشروعية طلب المغفرة في الاعتدال بين السجدتين، وعن استحباب تطويل صلاة النافلة والقراءة فيها بالسور الطويلة وتطويل أركانها جميعا. وفيه رد على من ذهب إلى كراهة تطويل الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين. قال النووي: والجواب عن هذا الحديث صعب. وقد تقدم بقية الكلام على ذلك. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني رواه الترمذي وأبو داود إلا أنه قال فيه: وعافني مكان واجبرني. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي، وجمع ابن ماجه بين لفظ ارحمني واجبرني وزاد: ارفعني ولم يقل اهدني ولا عافني. وجمع بينها الحاكم كلها إلا أنه لم يقل وعافني. وفي إسناده كامل أبو العلاء التميمي السعدي الكوفي، وثقه يحيى ابن معين وتكلم فيه غيره. (والحديث) يدل على مشروعية الدعاء بهذه الكلمات في القعدة بين السجدتين. قال المتولي: ويستحب للمنفرد أن يزيد هنا: اللهم هب لي قلبا نقيا من الشرك بريا لا كافرا ولا شقيا. قال الاذرعي: لحديث ورد فيه. باب السجدة الثانية ولزوم الطمأنينة في الركوع والسجود والرفع عنهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن
[ 295 ]
جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في الصلاة كلها متفق عليه، لكن ليس لمسلم فيه ذكر السجدة الثانية. وفي رواية لمسلم: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر الحديث. الحديث فيه زيادات وله طرق وسنشير إلى بعضها عند الكلام على مفرداته. وفي الباب عن رفاعة بن رافع عند الترمذي وأبي داود والنسائي. وعن عمار بن ياسر أشار إليه الترمذي. قوله: فدخل رجل هو خلاد بن رافع، كذا بينه ابن أبي شيبة. قوله: فصلى زاد النسائي ركعتين، وفيه إشعار بأنه صلى نفلا. قال الحافظ: والاقرب أنها تحية المسجد. قوله: ثم جاء فسلم زاد البخاري: فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي مسلم وكذا البخاري في الاستئذان من رواية ابن نمير فقال: وعليك السلام وهذه الزيادة ترد ما قاله ابن المنير من أن الموعظة في وقت الحاجة أهم من رد السلام، واستدل بالحديث قال: ولعله لم يرد عليه تأديبا له على جهله، ولعله لم يستحضر هذه الزيادة. قوله: فإنك لم تصل قال عياض فيه: إن أفعال الجاهل في العبادة على غير علم لا تجزئ، وهذا مبني على أن المراد بالنفي نفي الاجزاء وهو الظاهر، ومن حمله على نفي الكمال تمسك بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره بالاعادة بعد التعليم فدل على إجزائها وإلا لزم تأخير البيان، كذا قال بعض المالكية وتعقب بأنه قد أمره في المرة الاخيرة بالاعادة فسأله التعليم فعلمه، فكأنه قال له: أعد صلاتك على غير هذه الكيفية. وقد احتج لتوجه النفي إلى الكمال بما وقع في بعض روايات الحديث عند أبي داود والترمذي من حيث رفاعة بلفظ: فإن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك وكان أهون عليهم من الاول أنه من انتقص من ذلك شيئا انتقص من صلاته ولم تذهب كلها، قالوا: والنقص لا يستلزم الفساد وإلا لزم في ترك المندوبات لانها تنتقص بها الصلاة، وقد قدمنا الجواب عن هذا الاحتجاج في شرح أول حديث من أبواب صفة الصلاة. قوله: ثلاثا في رواية البخاري: فقال في الثالثة أو في التي بعدها، وفي أخرى له فقال في الثانية أو في الثالثة، ورواية الكتاب أرجح لعدم الثالثة فيها، ولكونه صلى الله عليه وآله وسلم كان من عادته استعمال الثلاث في تعليمه. قوله: إذا قمت إلى الصلاة فكبر وفي رواية للبخاري: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر وهي في مسلم أيضا كما قال المصنف. وفي رواية للبخاري أيضا والترمذي وأبي داود: فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد وأقم والمراد بقوله: ثم تشهد الامر بالشهادتين عقيب
[ 296 ]
الوضوء لا التشهد في الصلاة، كذا قال ابن رسلان وهو الظاهر من السياق لانه جعله مرتبا على الوضوء، ورتب عليه الاقامة والتكبير والقراءة كما في رواية أبي داود. والمراد بقوله: وأقم الامر بالاقامة. وفي رواية النسائي وأبي داود: ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه، إلا أنه قال النسائي: يمجده مكان يثني عليه، ثم ساق أبو داود في هذه الرواية الامر بتكبير الانتقال في جميع الاركان والتسميع وهي تدل على وجوبه، وقد تقدم البحث عن ذلك. وظاهر قوله: فكبر في رواية حديث الباب وجوب تكبيرة الافتتاح، وقد تقدم الكلام على ذلك في أوائل أبواب صفة الصلاة. قوله: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن وفي رواية لابي داود والنسائي من حديث رفاعة: فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله تعالى وكبره وهلله وفي رواية لابي داود من حديث رفاعة: ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله ولاحمد وابن حبان: ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت. وقد تمسك بحديث الباب من لم يوجب قراءة الفاتحة في الصلاة، وأجيب عنه بهذه الروايات المصرحة بأم القرآن، وقد تقدم البحث عن ذلك في باب وجوب قراءة الفاتحة. قوله: ثم اركع حتى تطمئن في رواية لاحمد وأبي داود: فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك ومكن ركوعك. قوله: ثم ارفع حتى تعتدل قائما في رواية لابن ماجه: تطمئن وهي على شرط مسلم، وأخرجها إسحاق بن راهويه في مسنده، وأبو نعيم في مستخرجه، والسراج عن يوسف بن موسى أحد شيوخ البخاري. قال الحافظ: فثبت ذكر الطمأنينة في الاعتدال على شرط الشيخين، ومثله في حديث رفاعة عند أحمد وابن حبان. وفي لفظ لاحمد: فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها وهذه الروايات ترد مذهب من لم يوجب الطمأنينة، وقد تقدم الكلام في ذلك. قوله: ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا فيه دليل على وجوب السجود وهو إجماع، ووجوب الطمأنينة فيه خلافا لابي حنيفة. قوله: ثم ارفع حتى تطمئن جالسا فيه دلالة على وجوب الرفع والطمأنينة فيه ولا خلاف في ذلك. وقال أبو حنيفة: يكفي أدنى رفع، وقال مالك: يكون أقرب إلى الجلوس. قوله: ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا فيه أيضا وجوب السجود والطمأنينة فيه، ولا خلاف في ذلك. (وقد استدل) بهذا الحديث على عدم وجوب قعدة الاستراحة، وسيأتي الكلام على ذلك في الباب الذي بعد هذا، ولكنه قد ثبت في رواية للبخاري من رواية ابن نمير في باب الاستئذان بعد ذكر السجود الثاني بلفظ: ثم ارفع حتى تطمئن جالسا وهي
[ 297 ]
تصلح للمتمسك بها على الوجوب، ولكنه لم يقل به أحد، على أنه قد أشار البخاري إلى أن ذلك وهم لانها عقبها بقوله: قال أبو أسامة في الاخير حتى يستوي قائما. ويمكن أن يحمل إن كان محفوظا على الجلوس للتشهد انتهى. فشكك البخاري هذه الرواية التي ذكرها ابن نمير بمخالفة أبي أسامة وبقوله إن كان محفوظا. قال في البدر المنير ما معناه: وقد أثبت هذه الزيادة إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة كما قال ابن نمير. وكذلك البيهقي من طريقه، وزاد أبو داود في حديث رفاعة: فإذا جلست في وسط الصلاة يعني التشهد الاوسط فاطمئن وافرش فخذك ثم تشهد. (الحديث يدل) على وجوب الطمأنينة في جميع الاركان كما تقدم، وقد جزم كثير من العلماء بأن واجبات الصلاة هي المذكورة في طرق هذا الحديث، واستدلوا به على عدم وجوب من لم يذكر فيه. قال ابن دقيق العيد: تقرر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه وعدم وجوب ما لم يذكر فيه، فأما وجوب ما ذكر فيه فلتعلق الامر به، وأما عدم وجوب غيره فليس ذلك بمجرد كون الاصل عدم الوجوب بل لامر زائد على ذلك، وهو أن الموضع موضع تعليم، وبيان للجاهل، وتعريف لواجبات الصلاة، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر، ويقوي مرتبة الحصر أنه (ص) ذكر ما تعلقت به الاساءة من هذا المصلي، وما لم يتعلق به أساءته من واجبات الصلاة. وهذا يدل على أنه لم يقصر المقصود على ما وقعت به الاساءة فقط. فإذا تقرر هذا، فكل موضع اختلفت العلماء في وجوبه وكان مذكورا في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في وجوبه، وكل موضع اختلفوا في عدم وجوبه ولم يكن مذكورا في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في عدم وجوبه لكونه غير مذكور على ما تقدم من كونه موضع تعليم، ثم قال: إلا أن على طالب التحقيق ثلاث وظائف: أحدها أن يجمع طرق الحديث ويحصي الامور المذكورة فيه، ويأخذ بالزائد فالزائد فإن الاخذ بالزائد واجب. وثانيها: إذا أقام دليلا على أحد الامرين إما الوجوب أو عدم الوجوب، فالواجب العمل به ما لم يعارضه ما هو أقوى، وهذا عند النفي يجب التحرز فيه أكثر، فلينظر عند التعارض أقوى الدليلين يعمل به، قال: وعندنا أنه إذا استدل على عدم وجوب شئ بعدم ذكره في الحديث، وجاءت صيغة الامر به في حديث آخر، فالمقدم صيغة الامر وإن كان يمكن أن يقال الحديث دليل على عدم الوجوب ويحمل صيغة الامر على الندب، ثم ضعفه بأنه إنما يتم إذا
[ 298 ]
كان عدم الذكر في الرواية يدل على عدم الذكر في نفس الامر وليس كذلك، فإن عدم الذكر إنما يدل على عدم الوجوب، وهو غير عدم الذكر في نفس الامر، فيقدم ما دل على الوجوب لانه إثبات لزيادة يتعين العمل بها انتهى. والوظائف التي أرشد إليها قد امتثلنا رسمه فيها. فجمعنا من طرق هذا الحديث في هذا الشرح عند الكلام على مفرداته ما تدعو الحاجة إليه، وتظهر للاختلاف في ألفاظه مزيد فائدة، وعملنا بالزائد فالزائد من ألفاظه، فوجدنا الخارج عما اشتمل عليه حديث الباب: الشهادتين بعد الوضوء، وتكبير الانتقال، والتسميع، والاقامة، وقراءة الفاتحة، ووضع اليدين على الركبتين حال الركوع، ومد الظهر، وتمكين السجود، وجلسة الاستراحة، وفرش الفخذ، والتشهد الاوسط، والامر بالتحميد والتكبير والتهليل والتمجيد عند عدم استطاعة القراءة، وقد تقدم الكلام على جميعها، إلا التشهد الاوسط، وجلسة الاستراحة، وفرش الفخذ، فسيأتي الكلام على ذلك. والخارج عن جميع ألفاظه من الواجبات المتفق عليها كما قال الحافظ والنووي: النية، والقعود الاخير. ومن المختلف فيها التشهد الاخير، والصلاة على النبي (ص) فيه، والسلام في آخر الصلاة وقد قدمنا الكلام على النية في الوضوء، وسيأتي الكلام على الثلاثة الاخيرة. وأما قوله إنها تقدم صيغة الامر إذا جاءت في حديث آخر واختياره لذلك من دون تفصيل فنحن لا نوافقه، بل نقول: إذا جاءت صيغة أمر قاضية بوجوب زائد على ما في هذا الحديث، فإن كانت متقدمة على تاريخه كان صارفا لها إلى الندب، لان اقتصاره (ص) في التعلم على غيرها وتركه لها من أعظم المشعرات بعدم وجوب ما تضمنته لما تقرر من أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وإن كانت متأخرة عنه فهو غير صالح لصرفها، لان الواجبات الشرعية ما زالت تتجدد وقتا فوقتا، وإلا لزم قصر واجبات الشريعة على الخمس المذكورة في حديث ضمام بن ثعلبة وغيره، أعني الصلاة والصوم والحج والزكاة والشهادتين، لان النبي (ص) اقتصر عليها في مقام التعليم، والسؤال عن جميع
[ 299 ]
الواجبات واللازم باطل فالملزوم مثله. وإن كانت صيغة الامر الواردة بوجوب زيادة على هذا الحديث غير معلومة التقدم عليه ولا التأخر ولا المقارنة، فهذا محل الاشكال ومقام الاحتمال، والاصل عدم الوجوب والبراءة منه حتى يقوم دليل يوجب الانتقال عن الاصل والبراءة، ولا شك أن الدليل المفيد للزيادة على حديث المسئ إذا التبس تاريخه محتمل لتقدمه عليه وتأخره، فلا ينتهض للاستدلال به على الوجوب، وهذا التفصيل لا بد منه، وترك مراعاته خارج عن الاعتدال إلى حد الافراط أو التفريط، لان قصر الواجبات على حديث المسئ فقط، وإهدار الادلة الواردة بعده تخيلا لصلاحيته لصرف كل دليل يرد بعده دا على الوجوب، سد لباب التشريع، ورد لما تجدد من واجبات الصلاة، ومنع للشارع من إيجاب شئ منها وهو باطل لما عرفت من تجدد الواجبات في الاوقات. والقول بوجوب كل ما ورد الامر به من غير تفصيل، يؤدي إلى إيجاب كل أقوال الصلاة وأفعالها التي ثبتت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من غير فرق بين أن يكون ثبوتها قبل حديث المسئ أو بعده، لانها بيان للامر القرآني أعني قوله تعالى: * (أقيموا الصلاة) * (الاحزاب: 56) ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي وهو باطل لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو لا يجوز عليه صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا الكلام في كل دليل يقضي بوجوب أمر خارج عن حديث المسئ، ليس بصيغة الامر كالتوعد على الترك أو الذم لمن لم يفعل. وهكذا يفصل في كل دليل يقتضي عدم وجوب شئ مما اشتمل عليه حديث المسئ أو تحريمه إن فرضنا وجوده. (وقد استدل) بالحديث على عدم وجوب الاقامة، ودعاء الافتتاح، ورفع اليدين في الاحرام وغيره، ووضع اليمنى على اليسرى، وتكبيرات الانتقال، وتسبيحات الركوع والسجود، وهيئات الجلوس، ووضع اليد على الفخذ، والقعود ونحو ذلك. قال الحافظ: وهو في معرض المنع لثبوت بعض ما ذكر في بعض الطرق اه. وقد قدمنا البعض من ذلك. وللحديث فوائد كثيرة، قال أبو بكر بن العربي: فيه أربعون مسألة ثم سردها. وعن حذيفة أنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته دعاه فقال له حذيفة: ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والبخاري. قوله: رأى حذيفة رجلا روى عبد الرزاق وابن خزيمة وابن حبان من طريق
[ 300 ]
الثوري عن الاعمش أن هذا الرجل كان عند أبواب كندة. قال الحافظ: ولم أقف على اسمه. قوله: ما صليت هو نظير قوله (ص) للمسئ: فإنك لم تصل وزاد أحمد بعد قوله فقال له حذيفة: منذ كم صليت؟ قال: منذ أربعين سنة. وللنسائي مثل ذلك. وحذيفة مات سنة ست وثلاثين من الهجرة، فعلى هذا يكون ابتداء صلاة المذكور قبل الهجرة بأربع سنين أو أكثر. قال الحافظ: ولعل الصلاة لم تكن فرضت بعد، فلعله أراد المبالغة، أو لعله كان ممن يصلي قبل إسلامه ثم أسلم فحصلت المدة المذكورة من الامرين. ولهذه العلة لم يذكر البخاري هذه الزيادة. قوله: غير الفطرة قال الخطابي: الفطرة الملة والدين، قال: ويحتمل أن يكون المراد بها السنة كما في حديث: خمس من الفطرة وقد قدمنا تفسيرها في شرح حديث خصال الفطرة. (والحديث) يدل على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وعلى أن الاخلال بها يبطل الصلاة، وعلى تكفير تارك الصلاة، لان ظاهره أن حذيفة نفى الاسلام عنه وهو على حقيقته عند قوم، وعلى المبالغة عند قوم آخرين. وقد تقدم الكلام على ذلك في أوائل كتاب الصلاة. وقال الحافظ: إن حذيفة أراد توبيخ الرجل ليرتدع في المستقبل. ويرجحه وروده من وجه آخر عند البخاري بلفظ: سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الزيادة تدل على أن حديث حذيفة المذكور مرفوع، لان قول الصحابي من السنة يفيد ذلك، وقد مال إليه قوم وخالفه آخرون والاول هو الراجح. وعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أشر الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، فقالوا: يا رسول الله وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها، أو قال: ولا يقيم صلبه في الركوع والسجود رواه أحمد. ولاحمد من حديث أبي سعيد مثله إلا أنه قال: يسرق صلاته. الحديث أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والاوسط قال في مجمع الزوائد: ورجاله رجال الصحيح. وفيه أن ترك إقامة الصلب في الركوع والسجود جعله الشارع من أشر أنواع السرق، وجعل الفاعل لذلك أشر من تلبس بهذه الوظيفة الخسيسة التي لا أوضع ولا أخبث منها تنفيرا عن ذلك وتنبيها على تحريمه. وقد صرح صلى الله عليه وآله وسلم بأن صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود غير مجزئة، كما أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه النسائي وابن ماجه من حديث ابن مسعود بلفظ: لا تجزئ صلاة الرجل
[ 301 ]
حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود ونحوه عن علي بن شيبان عند أحمد وابن ماجه، وقد تقدما في باب أن الانتصاب بعد الركوع فرض. والاحاديث في هذا الباب كثيرة، وكلها ترد على من لم يوجب الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال منهما. باب كيف النهوض إلى الثانية وما جاء في جلسة الاستراحة عن وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سجد وقعت ركبتاه إلى الارض قبل أن يقع كفاه، فلما سجد وضع جبهته بين كفيه وجافى عن إبطيه، وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه رواه أبو داود. الحديث أخرجه أبو داود من طريق عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه، وقد أخرج له مسلم ووثقه ابن معين وقال: لم يسمع من أبيه شيئا، وقال أيضا: مات وهو حمل، قال الذهبي: وهذا القول مردود بما صح عنه أنه قال: كنت غلاما لا أعقل صلاة أبي. وأخرجه من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكليب والد عاصم لم يدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحديثه مرسل، قال ذلك الترمذي والمنذري وغيرهما، وقد تقدم تفصيل ذلك في باب هيئات السجود. قوله: وقعت ركبتاه إلى الارض قبل أن يقع كفاه وقد تقدم الكلام على هذه الهيئة وما فيها من الاختلاف في باب هيئات السجود. قوله: فلما سجد وضع جبهته بين كفيه وجافى عن إبطيه لم يذكر هذا أبو داود في الباب الذي ذكر فيه طرق حديث وائل، وإنما ذكره في باب افتتاح الصلاة. والمجافاة المباعدة وهو من الجفاء وهو البعد عن الشئ. قوله: وإذا نهض نهض على ركبتيه فيه مشروعية النهوض على الركبتين والاعتماد على الفخذين لا على الارض. قوله: على فخذيه الذي في سنن أبي داود على فخذه بلفظ الافراد، وقيده ابن رسلان في شرح السنن بالافراد أيضا وقال: هكذا الرواية، ثم قال: وفي رواية أظنها لغير المصنف يعني أبا داود على فخذيه بالتثنية وهو اللائق بالمعنى. ورواه أيضا أبو داود في باب افتتاح الصلاة بالافراد، قال ابن رسلان: ولعل المراد التثنية كما في ركبتيه. وعن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا رواه الجماعة إلا مسلما وابن ماجه.
[ 302 ]
الحديث فيه مشروعية جلسة الاستراحة، وهي بعد الفراغ من السجدة الثانية وقبل النهوض إلى الركعة الثانية والرابعة. وقد ذهب إلى ذلك الشافعي في المشهور عنه وطائفة من أهل الحديث، وعن أحمد روايتان. وذكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بها ولم يستحبها الاكثر، واحتج لهم الطحاوي بحديث أبي أحمد الساعدي المشتمل على وصف صلاته صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذكر فيه هذه الجلسة بل ثبت في بعض ألفاظه: أنه قام ولم يتورك كما أخرجه أبو داود قال: فيحتمل أن ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلة كانت به فقعد من أجلها، لان ذلك من سنة الصلاة، ثم قوى ذلك بأنها لو كانت مقصودة لشرع لها ذكر مخصوص، وتعقب بأن الاصل عدم العلة، وبأن مالك بن الحويرث هو راوي حديث: صلوا كما رأيتموني أصلي فحكاياته لصفات صلاة رسول الله (ص) داخلة تحت هذا الامر. وحديث أبي حميد يستدل به على عدم وجوبها، وأنه تركها لبيان الجواز لا على عدم مشروعيتها، على أنها لم تتفق الروايات عن أبي حميد في نفي هذه الجلسة، بل أخرج أبو داود والترمذي وأحمد عنه من وجه آخر بإثباتها. وأما الذكر المخصوص فإنها جلسة خفيفة جدا استغنى فيها بالتكبير المشروع للقيام. (واحتج بعضهم) على نفي كونها سنة بأنها لو كانت كذلك لذكرها كل من وصف صلاته، وهو متعقب بأن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف صلاته، إنما أخذ مجموعها عن مجموعهم. (واحتجوا أيضا) على عدم مشروعيتها بما وقع في حديث وائل بن حجر عند البزار بلفظ: كان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائما وهذا الاحتجاج يرد على من قال بالوجوب لا من قال بالاستحباب لما عرفت، على أن حديث وائل قد ذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف. (واحتجوا) أيضا بما أخرجه الطبراني من حديث معاذ أنه كان يقوم كأنه السهم، وهذا لا ينفي الاستحباب المدعي على أن في إسناده متهما بالكذب، وقد عرفت مما قدمنا في شرح حديث المسئ أن جلسة الاستراحة مذكورة فيه عند البخاري وغيره، لا كما زعمه النووي من أنها لم تذكر فيه، وذكرها فيه يصلح للاستدلال به على وجوبها، لولا ما ذكرنا فيما تقدم من إشارة البخاري إلى أن ذكر هذه الجلسة وهم، وما ذكرنا أيضا من أنه لم يقل بوجوبها أحد، وقد صرح بمثل ذلك الحافظ في الفتح. (ومن جملة) ما احتج به القائلون بنفي استحبابها حديث وائل بن حجر عند أبي داود المتقدم قبل حديث الباب. وما روى ابن المنذر عن النعمان بن أبي عياش
[ 303 ]
قال: أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس، وذلك لا ينافي القول بأنها سنة، لان الترك لها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الحالات إنما ينافي وجوبها فقط، وكذلك ترك بعض الصحابة لها لا يقدح في سنيتها، لان ترك ما ليس بواجب جائز. باب افتتاح الثانية بالقراءة من غير تعوذ ولا سكتة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نهض في الركعة الثانية افتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت رواه مسلم. الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه من حديث عبد الواحد وغيره عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، أخرجه أيضا أبو داود وليس عنده السكتة في الركعة الاولى وذكر دعاء الاستفتاح فيها، وكذلك هو عند ابن ماجه بلفظ أبي داود، وعند النسائي من هذا الوجه عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت له سكتة إذا افتتح الصلاة. (والحديث) يدل على عدم مشروعية السكتة قبل القراءة في الركعة الثانية، وكذلك عدم مشروعية التعوذ فيها، وحكم ما بعدها من الركعات حكمها، فتكون السكتة قبل القراءة مختصة بالركعة الاولى، وكذلك التعوذ قبلها، وقد تقدم الكلام في السكتتين في باب ما جاء في السكتتين وفي التعوذ في بابه المتقدم، وقد رجح صاحب الهدى الاقتصار على التعوذ في الاولى ولهذا الحديث واستدل لذلك بأدلة فليراجع. باب الامر بالتشهد الاول وسقوطه بالسهو عن ابن مسعود قال: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع به ربه عزوجل رواه أحمد والنسائي.
[ 304 ]
الحديث رواه أحمد من طرق بألفاظ فيها بعض اختلاف وفي بعضها طول وجميعها رجالها ثقات، وإنما عزاه المصنف رحمه الله إلى أحمد والنسائي باعتبار الزيادة التي في أوله وهي إذا قعدتم في كل ركعتين فإنها لم تكن عند غيرهما بهذا اللفظ، وهو عند الترمذي بلفظ قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قعدنا في الركعتين وفي رواية أخرى للنسائي بلفظ: فقولوا في كل جلسة وأما سائر ألفاظ الحديث إلى قوله: ثم ليتخير فقد اتفق على إخراجه الجماعة كلهم وسيذكره المصنف. وأما زيادة قوله ثم ليتخير إلى آخر الحديث فأخرجها البخاري بلفظ: ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به وفي لفظ له: ثم يتخير من الثناء ما شاء. وأخرجها أيضا مسلم بلفظ: ثم يتخير من المسألة ما شاء. وفي رواية للنسائي عن أبي هريرة: ثم يدعو لنفسه بما بدا له. قال الحافظ: إسنادها صحيح. وفي رواية أبي داود: ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه. وقوله: فقولوا التحيات فيه دليل لمن قال بوجوب التشهد الاوسط وهو أحمد في المشهور عنه، والليث وإسحاق وهو قول للشافعي، وإليه ذهب داود وأبو ثور، ورواه النووي عن جمهور المحدثين. ومما يدل على ذلك إطلاق الاحاديث الواردة بالتشهد وعدم تقييدها بالاخير. (واحتج الطبري) لوجوبه بأن الصلاة وجبت أولا ركعتين وكان التشهد فيها واجبا، فلما زيدت لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الواجب، وتعقب بأن الزيادة لم تتعين في الاخريين، بل يحتمل أن يكون هما الفرض الاول، والمزيد هما الركعتان الاوليان بتشهدهما. ويؤيده استمرار السلام بعد التشهد الاخير كما كان، كذا قال الحافظ. ولا يخفى ما في هذا التعقب من التعسف، وغاية ما استدل به القائلون بعدم الوجوب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك التشهد الاوسط ولم يرجع إليه، ولا أنكر على أصحابه متابعته في الترك وجبره بسجود السهو، فلو كان واجبا لرجع إليه وأنكر على أصحابه متابعته، ولم يكتف في تجبيره بسجود السهو، ويجاب عن ذلك بأن الرجوع على تسليم وجوبه للواجب المتروك إنما يلزم إذا ذكره المصلي وهو في الصلاة، ولم ينقل إلينا أن النبي (ص) ذكره قبل الفراغ، اللهم إلا أن يقال: إنه قد روي أن الصحابة سبحوا به فمضى حتى فرغ كما يأتي، وذلك يستلزم أنه علم به وترك إنكاره على المؤتمين به متابعته إنما يكون حجة بعد تسليم أنه يجب على المؤتمين ترك متابعة الامام إذا ترك واجبا من واجبات الصلاة وهو ممنوع، والسند الاحاديث الدالة على وجوب المتابعة، وتجبيره بالسجود إنما يكون دليلا على عدم الوجوب إذا سلمنا أن
[ 305 ]
سجود السهو إنما يجبر به المسنون دون الواجب وهو غير مسلم. (والحاصل) أن حكمه حكم التشهد الاخير وسيأتي، والتفرقة بينهما ليس عليها دليل يرتفع به النزاع، على أنه يدل على مزيد خصوصية للتشهد الاوسط، ذكره في حديث المسئ كما تقدم في شرحه وسيأتي. قوله: التحيات لله إلى آخر ألفاظ التشهد سيأتي شرحها في باب ذكر تشهد ابن مسعود. قوله: ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فيه الاذن بكل دعاء أراد المصلي أن يدعو به في هذا الموضع، وعدم لزوم الاقتصار على ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وعن رفاعة بن رافع: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا قمت في صلاتك فكبر ثم اقرأ ما تيسر عليك من القرآن، فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد رواه أبو داود. هذا طرف من حديث رفاعة في تعليم المسئ، وقد أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه، ولكنه انفرد أبو داود بهذه الزيادة أعني قوله: فإذا جلست في وسط الصلاة الخ وفي إسنادها محمد بن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث. قوله: في وسط الصلاة بفتح السين قال في النهاية: يقال فيما كان متفرق الاجزاء غير متصل كالناس والدواب بسكون السين، وما كان متصل الاجزاء كالدار والرأس فهو بالفتح، والمراد هنا القعود للتشهد الاول في الرباعية، ويلحق به الاول في الثلاثة. قوله: فاطمئن يؤخذ منه أن المصلي لا يشرع في التشهد حتى يطمئن يعني يستقر كل مفصل في مكانه ويسكن من الحركة. قوله: وافترش فخذك اليسرى أي ألقها على الارض وابسطها كالفراش للجلوس عليها، والافتراش في وسط الصلاة موافق لمذهب الشافعي وأحمد، ولكن أحمد يقول: يفترش في التشهد الثاني كالاول. والشافعي يتورك في الثاني، ومالك يتورك فيهما، كذا ذكره ابن رسلان في شرح السنن. وفيه دليل لمن قال: إن السنة الافتراش في الجلوس للتشهد الاوسط وهم الجمهور، قال ابن القيم: ولم يرو عنه في هذه الجلسة غير هذه الصفة يعني الفرش والنصب، وقال مالك: يتورك فيه لحديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس في وسط الصلاة وفي آخرها متوركا. قال ابن القيم: لم يذكر عنه صلى الله عليه وآله وسلم التورك إلا في التشهد الاخير. (والحديث) فيه دليل لمن قال بوجوب التشهد الاوسط، وقد تقدم الاختلاف فيه. وعن عبد الله ابن بحينة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام في صلاة
[ 306 ]
الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وسجدها الناس معه مكان ما نسي من الجلوس رواه الجماعة. قوله: عن عبد الله بن بحينة بحينة اسم أم عبد الله أو اسم أم أبيه، قال الحافظ: فعلى هذا ينبغي أن يكتب ابن بحينة بالالف. قوله: قام في صلاة الظهر زاد الضحاك بن عثمان عن الاعرج: فسبحوا به فمضى حتى فرغ من صلاته أخرجه ابن خزيمة. وعند النسائي والحاكم نحو هذه الزيادة. قوله: وعليه جلوس فيه إشعار بالوجوب حيث قال: وعليه جلوس. قوله: يكبر في كل سجود فيه مشروعية تكبير النقل في سجود السهو. قوله: وهو جالس جملة حالية متعلقة بقوله سجد أي أنشأ السجود جالسا. (والحديث) استدل به من قال: بأن التشهد الاوسط غير واجب، وتقدم وجه دلالته على ذلك والجواب عنه. باب صفة الجلوس في التشهد وبين السجدتين وما جاء في التورك والاقعاء عن وائل بن حجر أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فسجد ثم قعد فافترش رجله اليسرى رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وفي لفظ لسعيد بن منصور قال: صليت خلف رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قعد وتشهد فرش قدمه اليسرى على الارض وجلس عليها. وعن رفاعة بن رافع: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للاعرابي: إذا سجدت فمكن لسجودك، فإذا جلست فاجلس على رجلك اليسرى رواه أحمد. حديث وائل أخرجه أيضا ابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح، وحديث رفاعة أخرجه أيضا أبو داود باللفظ الذي سبق في الباب الاول ولا مطعن في إسناده. وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وابن حبان، وقد احتج بالحديثين القائلون باستحباب فرش اليسرى ونصب اليمنى في التشهد الاخير، وهم زيد بن علي، والهادي، والقاسم، والمؤيد بالله، وأبو حنيفة وأصحابه، والثوري. وقال مالك والشافعي وأصحابه: إنه يتورك المصلي في التشهد الاخير. وقال أحمد بن حنبل: إن التورك يختص بالصلاة التي فيها تشهدان. (واستدل) الاولون أيضا بما أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح من حديث أبي حميد: أن رسول
[ 307 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم جلس يعني للتشهد فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدور اليمنى على قبلته الحديث. وبحديث عائشة الآتي. ووجه الاستدلال بهذين الحديثين وبحديثي الباب أن رواتها ذكروا هذه الصفة لجلوس التشهد ولم يقيدوه بالاول، واقتصارهم عليها من دون تعرض لذكر غيرها مشعر بأنها هي الهيئة المشروعة في التشهدين جميعا، ولو كانت مختصة بالاول لذكروا هيئة التشهد الاخير ولم يهملوه، لا سيما وهم بصدد بيان صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعليمه لمن لا يحسن الصلاة، فعلم بذلك أن هذه الهيئة شاملة لهما. ويمكن أن يقال: إن هذه الجلسة التي ذكر هيئتها أبو حميد في هذا الحديث هي جلسة التشهد الاول بدليل حديثه الآتي، فإنه وصف هيئة الجلوس الاول بهذه الصفة، ثم ذكر بعدها هيئة الجلوس الآخر فذكر فيها التورك، واقتصاره على بعض الحديث في هذه الرواية ليس بمناف لما ثبت عنه في الرواية الاخرى، لاسيما وهي ثابتة في صحيح البخاري، ويعد ذلك الاقتصار إهمالا لبيان هيئة التشهد الاخير في مقام التصدي لصفة جميع الصلوات، لانه ربما اقتصر من ذلك على ما تدعو الحاجة إليه، ويقال في حديث رفاعة المذكور ههنا أنه مبين بروايته المتقدمة في الباب الاول. وأما حديث وائل وحديث عائشة فقد أجاب عنهما القائلون بمشروعية التورك في التشهد الاخير، بأنهما محمولان على التشهد الاوسط جمعا بين الادلة، لانهما مطلقان عن التقييد بأحد الجلوسين. وحديث أبي حميد مقيد، وحمل المطلق على المقيد واجب، ولا يخفاك أنه يبعد هذا الجمع ما قدمنا من أن مقام التصدي لبيان صفة صلاته صلى الله عليه وآله وسلم يأبى الاقتصار على ذكر هيئة أحد التشهدين وإغفال الآخر، مع كون صفته مخالفة لصفة المذكور، لاسيما حديث عائشة فإنها قد تعرضت فيه لبيان الذكر المشروع في كل ركعتين، وعقبت ذلك بذكر هيئة الجلوس، فمن البعيد أن يخص بهذه الهيئة أحدهما ويهمل الآخر، ولكنه يلوح من هذا أن مشروعية التورك في الاخير آكد من مشروعية النصب والفرش، وأما أنه ينفي مشروعية النصف والفرش فلا، وإن كان حق حمل المطلق على المقيد هو ذلك، لكنه منع من المصير إليه ما عرفناك. والتفصيل الذي ذهب إليه أحمد يرده قوله أبي حميد في حديثه الآتي: فإذا جلس في الركعة الاخيرة. وفي رواية لابي داود: حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم. وقد اعتذر ابن القيم عن ذلك بما لا طائل تحته، وقد ذكر مسلم في صحيحه من حديث ابن الزبير صفة ثالثة لجلوس التشهد الاخير، وهي أنه صلى الله
[ 308 ]
عليه وآله وسلم كان يجعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه ويفرش قدمه اليمنى، واختار هذه الصفة أبو القاسم الخرقي في مصنفه، ولعله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل هذا تارة. وقد وقع الخلاف في الجلوس للتشهد الاخير هل هو واجب أم لا؟ فقال بالوجوب عمر بن الخطاب وأبو مسعود وأبو حنيفة والشافعي. ومن أهل البيت: الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله. وقال علي بن أبي طالب والثوري والزهري ومالك أنه غير واجب. استدل الاولون بملازمته صلى الله عليه وآله وسلم له والآخرون بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلمه المسئ ومجرد الملازمة لا يفيد الوجوب، وهذا هو الظاهر لا سيما مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المسئ بعد أن علمه: فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك ولا يتوهم أن ما دل على وجوب التسليم دل على وجوب جلوس التشهد لانه لا ملازمة بينهما. وعن أبي حميد أنه قال وهو في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الاخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الاخرى وقعد على مقعدته رواه البخاري، وقد سبق لغيره بلفظ أبسط من هذا. الحديث تقدم في باب رفع اليدين، وههنا ألفاظ لم تذكر هنالك، وبعضها محتاج إلى الشرح، فمن ذلك. قوله: ثم هصر ظهره هو بالهاء والصاد المهملة المفتوحتين، أي ثناه في استواء من غير تقويس ذكره الخطابي. قوله: حتى يعود كل فقار الفقار بفتح الفاء والقاف جمع فقارة وهي عظام الظهر، وهي العظام التي يقال لها خرز الظهر قاله الفزاز. وقال ابن سيده: هي من الكاهل إلى العجب، وحكى ثعلب عن ابن الاعرابي أن عدتها سبع عشرة، وفي أمالي الزجاج أصولها سبع غير التوابع. وعن الاصمعي هي خمس وعشرون: سبع في العنق، وخمس في الصلب، وبقيتها في طرف الاضلاع، كذا في الفتح. قوله: واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة فيه حجة لمن قال: إن السنة أن ينصب قدميه في السجود، وأن تكون أصابع رجليه متوجهة إلى القبلة، وإنما يحصل توجيهها بالتحامل عليها والاعتماد على بطونها. (والحديث) قد اشتمل على جمل واسعة من صفة صلاته صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدم الكلام على كل
[ 309 ]
فرد منها في بابه. وقد ساقه المصنف ههنا للاستدلال به على مشروعية التورك، وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه وكان بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما، وإذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي جالسا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقب الشيطان، وكان ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم رواه أحمد ومسلم وأبو داود. الحديث له علة وهي أنه رواه أبو الجوزاء عن عائشة، قال ابن عبد البر: لم يسمع منها وحديثه عنها مرسل. قوله: يفتتح الصلاة بالتكبير هو الله أكبر، وفيه رد على من قال إنه يجزئ كل ما فيه تعظيم نحو الله أجل الله أعظم وهو أبو حنيفة. قوله: والقراءة بالحمد لله قال النووي: هو برفع الدال على الحكاية، وبه تمسك من قال بمشروعية ترك الجهر بالبسملة في الصلاة، وأجيب عنه بأن المراد بذلك اسم السورة، ونوقش هذا الجواب بأنه لو كان المراد اسم السورة لقالت عائشة بالحمد لانه وحده هو الاسم، ورد ذلك بما ثبت عند أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعا: الحمد لله رب العالمين أم القرآن والسبع المثاني وبما عند البخاري بلفظ: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني ويمكن الجواب عن ذلك الاستدلال بأنها ذكرت أول آية من الآيات التي تخص السورة، وتركت البسملة لانها مشتركة بينها وبين غيرها من السورة، وقد تقدم البحث عن هذا مبسوطا. قوله: ولم يصوبه قد تقدم ضبط هذا اللفظ وتفسيره في حديث أبي حميد السابق في باب رفع اليدين. قوله: وكان يقول في كل ركعتين التحية فيه التصريح بمشروعية التشهد الاوسط والاخير والتسوية بينهما، وقد تقدم الكلام عليهما. قوله: وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى استدل به من قال بمشروعية النصب والفرش في التشهدين جميعا، ووجهه ما قدمنا من الاطلاق وعدم التقييد في مقام التصدي لوصف صلاته صلى الله عليه وآله وسلم، لاسيما بعد وصفها للذكر المشروع في التشهدين جميعا، وقد بينا ما هو الحق في أول الباب. قوله: وكان ينهى عن عقب الشيطان قيده النووي وغيره بفتح العين وكسر القاف قال: وهذا هو الصحيح المشهور فيه. قال ابن رسلان: وحكي ضم العين مع فتح القاف جمع عقبة بضم العين وسكون القاف، وقد ضعف
[ 310 ]
ذلك القاضي عياض وفسره أبو عبيد وغيره بالاقعاء المنهي عنه، وهو أن يلصق أليتيه بالارض وينصب ساقيه ويضع يديه على الارض كإقعاء الكلب. وقال ابن رسلان في شرح السنن: هي أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه. قوله: وكان ينهى أن يفرش الرجل ذراعيه افتراش السبع هو أن يضع ذراعيه على الارض في السجود، ويفضي بمرفقه وكفه إلى الارض (والحديث) قد اشتمل على كثير من فروض الصلاة وأركانها، وقد تقدم الكلام على جميع ما فيه كل شئ في بابه إلا التسليم فسيأتي البحث عنه. وعن أبي هريرة قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب رواه أحمد. الحديث أخرجه البيهقي أيضا وأشار إليه الترمذي وهو من رواية ليث بن أبي سليم، وأخرجه أيضا أبو يعلى والطبراني في الاوسط، قال في مجمع الزوائد: وإسناد أحمد حسن، والنهي عن نقرة كنقرة الغراب أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن شبل، والنهي عن الاقعاء أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث علي مرفوعا بلفظ: لا تقع بين السجدتين وفي إسناده الحرث الاعور، وأخرجه ابن ماجه من رواية أنس بلفظ: إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعي الكلب، ضع إليتيك بين قدميك وألزق ظاهر قدميك بالارض وفي إسناده العلاء أبو محمد وقد ضعفه بعض الائمة، وأخرج البيهقي من روايته حديثا آخر بلفظ: نهى عن الاقعاء والتورك وأخرج أيضا من حديث جابر بن سمرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الاقعاء في الصلاة. وأخرج ابن ماجه عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد فرفع رأسه لم يسجد حتى يستوي جالسا وكان يفرش رجله اليسرى. قوله: عن نقرة كنقرة الديك النقرة بفتح النون والمراد بها كما قال ابن الاثير ترك الطمأنينة وتخفيف السجود، وأن لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد الاكل منه كالجيفة، لانه يتابع في النقر منها من غير تلبث. قوله: وإقعاء كإقعاء الكلب الاقعاء قد اختلف في تفسيره اختلافا كثيرا. قال النووي: والصواب الذي لا يعدل عنه إن الاقعاء نوعان: أحدهما أن يلصق إليتيه بالارض وينصب ساقيه ويضع يديه على الارض كإقعاء الكلب، هكذا فسره أبو عبيدة معمر بن المثنى، وصاحبه أبو عبيد القاسم بن سلام وآخرون من أهل
[ 311 ]
اللغة، وهذا النوع هو المكروه الذي ورد النهي عنه. والنوع الثاني: أن يجعل إليتيه على العقبين بين السجدتين اه. قال في النهاية: والاول أصح. قوله: والتفات كالتفات الثعلب فيه كراهة الالتفات في الصلاة، وقد وردت بالمنع منه أحاديث، وثبت أن الالتفات اختلاس من الشيطان، وسيأتي الكلام على الالتفات في الباب الذي عقده المصنف له. وقد اختلف أهل العلم في كيفية الجمع بين هذه الاحاديث الواردة بالنهي عن الاقعاء، وما روي عن ابن عباس أنه قال في الاقعاء على القدمين بين السجدتين إنه السنة، فقال له طاوس: إنا لنراه جفاء بالرجل، فقال ابن عباس: هي سنة نبيكم. أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود. وأخرج البيهقي عن ابن عمر أنه كان إذا رفع رأسه من السجدة الاولى يقعد على أطراف أصابعه ويقول إنه من السنة. وعن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يقعيان. وعن طاوس قال: رأيت العبادلة يقعون. قال الحافظ: وأسانيدها صحيحة، فقال الخطابي والماوردي: إن الاقعاء منسوخ ولعل ابن عباس لم يبلغه النهي. وقد أنكر القول بالنسخ ابن الصلاح والنووي، وقال البيهقي والقاضي عياض وابن الصلاح والنووي وجماعة من المحققين: إنه يجمع بينهما بأن الاقعاء الذي ورد النهي عنه هو الذي يكون كإقعاء الكلب على ما تقدم من تفسير أئمة اللغة، والاقعاء الذي صرح ابن عباس وغيره إنه من السنة هو وضع الاليتين على العقبين بين السجدتين والركبتان على الارض، وهذا الجمع لا بد منه. وأحاديث النهي والمعارض لها يرشد إليه لما فيها من التصريح بإقعاء الكلب، ولما في أحاديث العبادلة من التصريح بالاقعاء على القدمين وعلى أطراف الاصابع. وقد روي عن ابن عباس أيضا أنه قال: من السنة أن تمس عقبيك إليتيك وهو مفسر للمراد، فالقول بالنسخ غفلة عن ذلك، وعما صرح به الحفاظ من جهل تاريخ هذه الاحاديث، وعن المنع من المصير إلى النسخ مع إمكان الجمع. وقد روي عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم فعله كما قال النووي، ونص الشافعي في البويطي والاملاء على استحبابه. وأما النهي عن عقب الشيطان فقد عرفت تفسير ذلك في شرح الحديث الاول. وقال الحافظ في التلخيص: يحتمل أن يكون واردا للجلوس للتشهد الاخير، فلا يكون منافيا للقعود على العقبين بين السجدتين، والاولى أن يمنع كون الاقعاء المروي عن العبادلة مما يصدق عليه حديث النهي عن عقب الشيطان مسندا بما تقدم في تفسيره.
[ 312 ]
باب ذكر تشهد ابن مسعود وغيره عن ابن مسعود قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رواه الجماعة. وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله وذكره وفيه عند قوله: وعلى عباد الله الصالحين: فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والارض وفي آخره: ثم يتخير من المسألة ما شاء متفق عليه. ولاحمد من حديث أبي عبيدة عن عبد الله قال: علمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التشهد وأمره أن يعلمه الناس: التحيات لله وذكره، قال الترمذي: حديث ابن مسعود أصح حديث في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين. الحديث، قال أبو بكر البزار أيضا: هو أصح حديث في التشهد، قال: وقد روي من نيف وعشرين طريقا وسرد أكثرها. وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة. وقال مسلم: إنما أجمع الناس على تشهد ابن مسعود، لان أصحابه لا يخالف بعضهم بعضا، وغيره قد اختلف أصحابه. وقال الذهلي: إنه أصح حديث روي في التشهد، ومن مرجحاته أنه متفق عليه دون غيره، وأن رواته لم يختلفوا في حرف منه بل نقلوه مرفوعا على صفة واحدة، وقد روى التشهد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من الصحابة غير ابن مسعود منهم ابن عباس وسيأتي حديثه، ومنهم جابر، أخرج حديثه النسائي وابن ماجه والترمذي في العلل والحاكم ورجاله ثقات. ومنهم عمر أخرج حديثه مالك والشافعي والحاكم والبيهقي روي مرفوعا. وقال الدارقطني: لم يختلفوا في أنه موقوف عليه. ومنهم ابن عمر أخرج حديثه أبو داود والدارقطني والطبراني. ومنهم علي أخرج حديثه الطبراني بإسناد ضعيف. ومنهم أبو موسى أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والطبراني. ومنهم عائشة أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده والبيهقي ورجح الدارقطني وقفه. ومنهم سمرة أخرجه أبو داود وإسناد ضعيف. ومنهم ابن الزبير أخرجه الطبراني وقال: تفرد به ابن لهيعة. ومنهم معاوية
[ 313 ]
أخرجه الطبراني وإسناده حسن قاله الحافظ. ومنهم سلمان أخرجه الطبراني والبزار وإسناده ضعيف. ومنهم أبو حميد أخرجه الطبراني. ومنهم أبو بكر أخرجه البزار وإسناده حسن، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفا. ومنهم الحسين بن علي أخرجه الطبراني. ومنهم طلحة بن عبيد الله قال الحافظ: وإسناده حسن. ومنهم أنس قال: وإسناده صحيح. ومنهم أبو هريرة قال: وإسناده صحيح أيضا. ومنهم أبو سعيد قال: وإسناده صحيح أيضا. ومنهم الفضل بن عباس، وأم سلمة، وحذيفة، والمطلب بن ربيعة، وابن أبي أوفى، وفي أسانيدهم مقال وبعضها مقارب. قوله: التحيات لله هي جمع تحية، قال الحافظ: ومعناها السلام، وقيل: البقاء، وقيل: العظمة، وقيل: السلامة من الآفات والنقص، وقيل: الملك. قال المحب الطبري: يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركا بين هذه المعاني. وقال الخطابي والبغوي: المراد بالتحيات أنواع التعظيم. قوله: والصلوات قيل: المراد الخمس، وقيل: أعم، وقيل: العبادات كلها، وقيل: الدعوات وقيل: الرحمة، وقيل: التحيات العبادات القولية، والصلوات العبادات الفعلية، والطيبات العبادات المالية، كذا قال الحافظ. قوله: والطيبات قيل: هي ما طاب من الكلام. وقيل: ذكر الله وهو أخص. وقيل: الاعمال الصالحة وهو أعم. قال البيضاوي: يحتمل أن يكون والصلوات والطيبات عطفا على التحيات، ويحتمل أن تكون الصلوات مبتدأ خبره محذوف، والطيبات معطوفة عليها. قال ابن مالك: إذا جعلت التحيات مبتدأ ولم يكن صفة لموصوف محذوف كان قولك: والصلوات مبتدأ لئلا يعطف نعت على منعوته، فيكون من باب عطف الجمل بعضها على بعض، فكل جملة مستقلة، وهذا المعنى لا يوجد عند إسقاط الواو. قوله: السلام قال الحافظ في التلخيص: أكثر الروايات فيه يعني حديث ابن مسعود بتعريف السلام في الموضعين، ووقع في رواية للنسائي سلام علينا بالتنكير، وفي رواية للطبراني سلام عليك بالتنكير. وقال في الفتح: لم يقع في شئ من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس، قال النووي: لا خلاف في جواز الامرين ولكن بالالف واللام أفضل، وهو الموجود في روايات صحيحي البخاري ومسلم، وأصله النصب، وعدل إلى الرفع على الابتداء للدلالة على الدوام والثبات. والتعريف فيه بالالف واللام، إما للعهد التقديري أي السلام الذي وجه إلى الرسل والانبياء عليك أيها النبي، أو للجنس أي السلام المعروف لكل أحد وهو اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه التعويذ بالله والتحصين به، أو هو السلامة من كل عيب وآفة ونقص وفساد. قال البيضاوي: علمهم
[ 314 ]
أن يفردوه صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم، ثم علمهم أن يخصوا أنفسهم لان الاهتمام بها أهم، ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلاما منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملا لهم اه. والمراد بقوله: رحمة الله إحسانه، وقوله: وبركاته زيادة من كل خير، قاله الحافظ. قوله: أشهد أن لا إله إلا الله زاد ابن أبي شيبة: وحده لا شريك له. قال الحافظ في الفتح: وسنده ضعيف لكن ثبتت هذه الرواية في حديث أبي موسى عند مسلم. وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ. وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني، وعند أبي داود عن ابن عمر أنه قال: زدت فيها وحده لا شريك له وإسناده صحيح. قوله: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيأتي في حديث ابن عباس بدون قوله عبده. وقد أخرج عبد الرزاق عن عطاء: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر رجلا أن يقول عبده ورسوله ورجاله ثقات لولا إرساله. قوله: فإنكم إذا فعلتم ذلك في لفظ للبخاري: فإنكم إذا قلتموها والمراد قوله: وعلى عباد الله الصالحين، وهو كلام معترض بين قوله الصالحين وبين قوله أشهد. قوله: على كل عبد صالح استدل به على أن الجمع المضاف والجمع المحلى باللام يعم. قوله: في السماء والارض في رواية بين السماء والارض أخرجها الاسماعيلي وغيره. قوله: ثم يتخير من المسألة قد قدمنا في باب الامر بالتشهد الاول اختلاف الروايات في هذه الكلمة، وفي ذلك دليل على مشروعية الدعاء في الصلاة قبل السلام من أمور الدنيا والآخرة ما لم يكن إثما، وإلى ذلك ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا بالدعوات المأثورة في القرآن والسنة، وقالت الهادوية: لا يجوز مطلقا. (والحديث) وغيره من الادلة المتكاثرة التي فيها الاذن بمطلق الدعاء ومقيدة ترد عليهم، ولولا ما رواه ابن رسلان عن البعض من الاجماع على عدم وجوب الدعاء قبل السلام لكان الحديث منتهضا للاستدلال به عليه، لان التخيير في آحاد الشئ لا يدل على عدم وجوبه كما قال ابن رشد، وهو المتقرر في الاصول أنه قد ذهب إلى الوجوب أهل الظاهر وروي عن أبي هريرة. (وقد استدل) بقوله في الحديث: إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل وبقوله في الرواية الاخرى: وأمره أن يعلمه الناس القائلون بوجوب التشهد الاخير وهم: عمر، وابن عمر، وأبو مسعود، والهادي، والقاسم، والشافعي، وقال النووي في شرح مسلم: مذهب أبي حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء أن التشهدين سنة، وإليه ذهب الناصر من أهل البيت عليهم السلام. قال: وروي عن مالك القول بوجوب الاخير. (واستدل القائلون) بالوجوب أيضا بقول ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد:
[ 315 ]
السلام على عباد الله، الحديث أخرجه الدار قطني والبيهقي وصححاه، وهو مشعر بفرضية التشهد. وأجاب عن ذلك القائلون بعدم الوجوب بأن الاوامر المذكورة في الحديث للارشاد لعدم ذكر التشهد الاخير في حديث المسئ، وعن قول ابن مسعود بأنه تفرد به ابن عيينة كما قال ابن عبد البر، ولكن هذا لا يعد قادحا. وأما الاعتذار بعدم الذكر في حديث المسئ فصحيح، إلا أن يعلم تأخر الامر بالتشهد عنه كما قدمنا. وأما الاعتذار عن الوجوب بأن الامر المذكور صرف لهم عما كانوا يقولون من تلقاء أنفسهم فلا يدل على الوجوب، أو بأن قول ابن عباس: كما يعلمنا السورة يرشد إلى الارشاد، لان تعليم السورة غير واجب فمما لا يعول عليه. (ومن جملة) ما استدل به القائلون بعدم الوجوب ما ثبت في بعض روايات حديث المسئ من قوله (ص): فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك. ويتوجه على القائلين بالوجوب إيجاب جميع التشهد وعدم التخصيص بالشهادتين كما قالت الهادوية بنفس الدليل الذي استدلوا به على ذلك. وقد اختلف العلماء في الافضل من التشهدات، فذهب الشافعي وبعض أصحاب مالك إلى أن تشهد ابن عباس أفضل لزيادة لفظ المباركات فيه كما يأتي. وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث: تشهد ابن مسعود أفضل لما قدمناه من المرجحات، وقال مالك: تشهد عمر بن الخطاب أفضل لانه علمه الناس على المنبر ولم ينازعه أحد ولفظه: التحيات لله الزاكيات الطيبات الصلوات لله الحديث، وفي رواية: بسم الله خير الاسماء، قال البيهقي: لم يختلفوا في أن هذا الحديث موقوف على عمر، ورواه بعض المتأخرين عن مالك مرفوعا. قال الحافظ: وهو وهم، وقالت الهادوية: أفضلها ما رواه زيد بن علي عن علي عليه السلام ولفظه: بسم الله وبالله والحمد لله والاسماء الحسنى كلها لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وضم إليه أبو طالب ما رواه الهادي في المنتخب من زيادة التحيات لله والصلوات والطيبات بعد قوله: والاسماء الحسنى كلها لله. قال النووي: واتفق العلماء على جوازها كلها، يعني التشهدات الثابتة من وجه صحيح، وكذلك نقل الاجماع القاضي أبو الطيب الطبري. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله رواه مسلم وأبو داود بهذا اللفظ، ورواه الترمذي وصححه كذلك، لكنه ذكر السلام منكرا. ورواه ابن ماجه كمسلم لكنه قال: وأشهد
[ 316 ]
أن محمدا عبده ورسوله ورواه الشافعي وأحمد بتنكير السلام وقالا فيه: وأن محمدا ولم يذكرا أشهد والباقي كمسلم. ورواه أحمد من طريق آخر كذلك لكن بتعريف السلام. ورواه النسائي كمسلم لكنه نكر السلام وقال: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. الحديث أخرجه أيضا الدارقطني في أحد روايتيه، وابن حبان في صحيحه بتعريف السلام الاول وتنكير الثاني. وأخرجه الطبراني بتنكير الاول وتعريف الثاني. قوله: التحيات المباركات الصلوات الطيبات قال النووي تقديره: والمباركات والصلوات والطيبات كما في حديث ابن مسعود وغيره، ولكن حذفت اختصارا، وهو جائز معروف في اللغة. (ومعنى الحديث) أن التحيات وما بعدها مستحقة لله تعالى، ولا يصلح حقيقتها لغيره. والمباركات جمع مباركة وهي كثيرة الخير، وقيل: النماء، وهذه زيادة اشتمل عليها حديث ابن عباس، كما اشتمل حديث ابن مسعود على زيادة الواو، ولولا وقوع الاجماع كما قدمنا على جواز كل تشهد من التشهدات الصحيحة لكان اللازم الاخذ بالزائد فالزائد من ألفاظها، وقد مر شرح بقية ألفاظ الحديث. باب في أن التشهد في الصلاة فرض عنابن مسعود قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقولوا هكذا ولكن قولوا: التحيات لله وذكره، رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح. الحديث أخرجه أيضا البيهقي وصححه، وهو من جملة ما استدل به القائلون بوجوب التشهد، وقد ذكرنا ذلك مستوفى في شرح حديث ابن مسعود، وقد صرح صاحب ضوء النهار أن الفرض هنا بمعنى التعيين، وهو شئ لا وجود له في كتب اللغة، وقد صرح صاحب النهاية أن معنى فرض الله أوجب، وكذا في القاموس وغيره. وللفرض معان أخر مذكورة في كتب اللغة لا تناسب المقام ومن جملة ما اعتذر به في ضوء النهار أن قول ابن مسعود هذا اجتهاد منه، ولا يخفى أن كلامه هذا خارج مخرج الرواية لانه بصدد الرأي، وقول الصحابي: فرض علينا وجب علينا إخبار عن حكم الشارع وتبليغ إلى الامة، وهو من أهل اللسان العربي، وتجويزه ما ليس بفرض فرضا بعيد، فالاولى الاقتصار في الاعتذار
[ 317 ]
عن الوجوب على عدم الذكر في حديث المسئ، وعدم العلم بتأخر هذا عنه كما تقدم. قال المصنف رحمه الله: وهذا يعني قول ابن مسعود يدل على أنه فرض عليهم اه. وعن عمر بن الخطاب قال: لا تجزئ صلاة إلا بتشهد رواه سعيد في سننه والبخاري في تاريخه. الاثر من جملة ما تمسك به القائلون بوجوب التشهد، وهو لا يكون حجة إلا على القائلين بحجية أقوال الصحابة لا على غيرهم، لظهور أنه قاله رأيا لا رواية، بخلاف ما تقدم عن ابن مسعود، وقد حكى ابن عبد البر عن الشافعي أنه قال: من ترك التشهد ساهيا أو عامدا فعليه إعادة الصلاة، إلا أن يكون الساهي قريبا فيعود إلى إتمام صلاته ويتشهد، وإلى وجوب إعادة الصلاة على من ترك التشهد ذهبت الهادوية، وقد قدمنا غير مرة أن الاخلال بالواجبات لا يستلزم بطلان الصلاة، وأن المستلزم لذلك إنما هو الاخلال بالشروط والاركان. باب الاشارة بالسبابة وصفة وضع اليدين عن وائل بن حجر أنه قال في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثم قعد فافترش رجله اليسرى ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حد مرفقه الايمن على فخذه اليمنى، ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة، ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها رواه أحمد والنسائي وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي، وهو طرف من حديث وائل المذكور في صفة صلاته صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: ثم قعد فافترش رجله اليسرى استدل به من قال بمشروعية الفرش والنصب في الجلوس الاخير، وقد تقدم تحقيق ذلك. قوله: ووضع كفه اليسرى على فخذه أي ممدودة غير مقبوضة، قال إمام الحرمين: ينشر أصابعها مع التفريج. قوله: وجعل حد مرفقه أي طرفه، والمراد كما قال في شرح المصابيح: أن يجعل عظم مرفقه كأنه رأس وتد. قال ابن رسلان: يرفع طرف مرفقه من جهة العضد عن فخذه حتى يكون مرتفعا عنه كما يرتفع الوتد عن الارض، ويضع طرفه الذي من جهة الكف على طرف فخذه الايمن. قوله: ثم قبض اثنتين أي
[ 318 ]
أصبعين من أصابع يده اليمنى وهما الخنصر والبنصر. قوله: وحلق بتشديد اللام أي جعل أصبعيه حلقة، والحلقة بسكون اللام جمعها حلق بفتحتين على غير قياس. وقال الاصمعي: الجمع حلق بكسر الحاء مثل قصعة وقطع. قوله: فرأيته يحركها قال البيهقي: يحتمل أن يكون مراده بالتحريك الاشارة بها لا تكرير تحريكها حتى لا يعارض حديث ابن الزبير عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه بلفظ: كان يشير بالسبابة ولا يحركها ولا يجاوز بصره إشارته قال الحافظ: وأصله في مسلم دون قوله: ولا يجاوز بصره إشارته انتهى. وليس في مسلم من حديث ابن الزبير إلا الاشارة دون قوله ولا يحركها وما بعده. ومما يرشد إلى ما ذكره البيهقي رواية أبي داود لحديث وائل فإنه بلفظ: وأشار بالسبابة. وقد ورد في وضع اليمنى على الفخذ حال التشهد هيئات هذه إحداها. والثانية: ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة. والثالثة: قبض كل الاصابع والاشارة بالسبابة، كما في حديث ابن عمر الذي سيذكره المصنف. والرابعة: ما أخرجه مسلم من حديث ابن الزبير بلفظ: كان رسول الله (ص) إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بأصبعه السبابة، ووضع إبهامه على أصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته. والخامسة: وضع اليد اليمنى على الفخذ من غير قبض والاشارة بالسبابة، وقد أخرج مسلم رواية أخرى عن ابن الزبير تدل على ذلك، لانه اقتصر فيها على مجرد الوضع والاشارة. وكذلك أخرج عن ابن عمر ما يدل على ذلك كما سيأتي. وكذلك أخرج أبو داود والترمذي من حديث أبي حميد بدون ذكر القبض، اللهم إلا أن تحمل الرواية التي لم يذكر فيها القبض على الروايات التي فيها القبض حمل المطلق على المقيد. وقد جعل ابن القيم في الهدى الروايات المذكورة كلها واحدة قال: فإن من قال قبض أصابعه الثلاث أراد به أن الوسطى كانت مضمومة ولم تكن منشورة كالسبابة، ومن قال: قبض اثنتين أراد أن الوسطى لم تكن مقبوضة مع البنصر، بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض دون الوسطى. وقد صرح بذلك من قال: وعقد ثلاثا وخمسين، فإن الوسطى في هذا العقد تكون مضمومة ولا تكون مقبوضة مع البنصر انتهى. (والحديث) يدل على استحباب وضع اليدين على الركبتين حال الجلوس للتشهد وهو مجمع عليه.
[ 319 ]
قال أصحاب الشافعي: تكون الاشارة بالاصبع عند قوله: إلا الله من الشهادة. قال النووي: والسنة أن لا يجاوز بصره إشارته، وفيه حديث صحيح في سنن أبي داود ويشير بها موجهة إلى القبلة، وينوي بالاشارة التوحيد والاخلاص. قال ابن رسلان: والحكمة في الاشارة بها إلى أن المعبود سبحانه وتعالى واحد ليجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد. وروي عن ابن عباس في الاشارة أنه قال: هي الاخلاص، وقال مجاهد: مقعمة الشيطان. وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع أصبعه اليمنى التي تلي الابهام فدعا بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها. وفي لفظ: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى رواهما أحمد ومسلم والنسائي. وأخرج نحوه الطبراني بلفظ: كان إذا جلس في الصلاة للتشهد نصب يده على ركبته، ثم يرفع أصبعه السبابة التي تلي الابهام، وباقي أصابعه على يمينه مقبوضة. قوله: وضع يده على ركبته ورفع أصبعه ظاهر هذا عدم القبض لشئ من الاصابع، فيكون دليلا على الهيئة الخامسة التي قدمناها، إلا أن يحمل على اللفظ الآخر كما سلف. ويمكن أن يقال: إن قوله ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها مشعر بقبض اليمنى، ولكنه إشعار فيه خفاء على أنه يمكن أن يكون توصيف اليسرى بأنها مبسوطة ناظرا إلى رفع أصبع اليمنى للدعاء، فيفيد أنه لم يرفع أصبع اليسرى للدعاء. (والحديث) يدل على مشروعية الاشارة وقبض الاصابع كما في اللفظ الآخر من حديث الباب، وقد تقدم البحث عن ذلك. باب ما جاء في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أبي مسعود قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على
[ 320 ]
آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه. ولاحمد في لفظ آخر نحوه. وفيه: فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟. الحديث أخرجه أيضا أبو داود وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وحسنه، والحاكم وصححه، والبيهقي وصححه، وزادوا: النبي الامي بعد. قوله: قولوا: اللهم صل على محمد وزاد أبو داود بعد قول: كما باركت على آل إبراهيم لفظ: في العالمين. وفي الباب عن كعب بن عجرة عند الجماعة وسيأتي. وعن علي عليه السلام عند النسائي في مسند علي بلفظ حديث أبي هريرة الآتي. وعن أبي هريرة وسيأتي أيضا. وعن طلحة بن عبيد الله عند النسائي بلفظ: اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. وفي رواية: وآل محمد في الموضعين ولم يقل فيهما وآل إبراهيم، وعن أبي سعيد عند البخاري والنسائي وابن ماجه بلفظ: قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم. وعن بريدة عند أحمد بلفظ: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وآل محمد، كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وفيه أبو داود الاعمى اسمه نفيع وهو ضعيف جدا ومتهم بالوضع. وعن زيد بن خارجة عند أحمد والنسائي بلفظ: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعن أبي حميد وسيأتي. وعن رويفع بن ثابت وجابر وابن عباس عند المستغفري في الدعوات. قال النووي في شرح المهذب: ينبغي أن تجمع ما في الاحاديث الصحيحة فتقول: اللهم صل على محمد النبي الامي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قال العراقي: بقي عليه مما في الاحاديث الصحيحة ألفاظ أخر وهي خمسة يجمعها قولك: اللهم صلى على محمد عبدك ورسولك النبي الامي، وعلى آل محمد وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد النبي الامي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، انتهى. وهذه الزيادات التي ذكرها العراقي ثابتة في أحاديث الباب التي ذكرها المصنف وذكرناها. وقد وردت زيادات غير هذه في أحاديث أخر عن علي
[ 321 ]
وابن مسعود وغيرهما ولكن فيها مقال. قوله في الحديث: قولوا استدل بذلك على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم بعد التشهد، وإلى ذلك ذهب عمر وابنه عبد الله وابن مسعود وجابر بن زيد. والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وأبو جعفر الباقر والهادي والقاسم والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وابن المواز، واختاره القاضي أبو بكر بن العربي. (وذهب الجمهور) إلى عدم الوجوب منهم: مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والاوزاعي والناصر من أهل البيت وآخرون. قال الطبري والطحاوي: إنه أجمع المتقدمون والمتأخرون على عدم الوجوب. وقال بعضهم: إنه لم يقل بالوجوب إلا الشافعي وهو مسبوق بالاجماع. وقد طول القاضي عياض في الشفاء الكلام على ذلك، ودعوى الاجماع من الدعاوى الباطلة لما عرفت من نسبة القول بالوجوب إلى جماعة من الصحابة والتابعين وأهل البيت والفقهاء، ولكنه لا يتم الاستدلال على وجوب الصلاة بعد التشهد بما في حديث الباب من الامر بها، وبما في سائر أحاديث الباب، لان غايتها الامر بمطلق الصلاة عليه (ص) وهو يقتضي الوجوب في الجملة، فيحصل الامتثال بإيقاع فرد منها خارج الصلاة، فليس فيها زيادة على ما في قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) * (الاحزاب: 56) ولكنه يمكن الاستدلال لوجوب الصلاة في الصلاة بما أخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي وصححوه، وابن خزيمة في صحيحه والدارقطني من حديث ابن مسعود بزيادة: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ وفي رواية: كيف نصلي عليك في صلاتنا؟. وغاية هذه الزيادة أن يتعين بها محل الصلاة عليه (ص) وهو مطلق الصلاة، وليس فيها ما يعين محل النزاع وهو إيقاعها بعد التشهد الاخير. ويمكن الاعتذار عن القول بالوجوب بأن الاوامر المذكورة في الاحاديث تعليم كيفية وهي لا تفيد الوجوب، فإنه لا يشك من له ذوق أن من قال لغيره: إذا أعطيتك درهما فكيف أعطيك إياه أسرا أم جهرا؟ فقال له: أعطنيه سرا، كان ذلك أمرا بالكيفية التي هي السرية لا أمرا بالاعطاء، وتبادر هذا المعنى لغة وشرعا وعرفا لا يدفع. وقد تكرر في السنة وكثر فمنه: إذا قام أحدكم الليل فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين الحديث. وكذا قوله (ص) في صلاة الاستخارة: فليركع ركعتين ثم ليقل الحديث، وكذا قوله في صلاة التسبيح: فقم وصل أربع ركعات. وقوله في الوتر: فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة والقول بأن هذه الكيفية المسؤول عنها هي كيفية الصلاة المأمور بها في القرآن فتعليمها بيان للواجب
[ 322 ]
المجمل فتكون واجبة لا يتم إلا بعد تسليم أن الامر القرآني بالصلاة مجمل وهو ممنوع، لاتضاح معنى الصلاة والسلام المأمور بهما، على أنه قد حكى الطبري الاجماع، على أن محمل الآية على الندب، فهو بيان لمجمل مندوب لا واجب، ولو سلم انتهاض الادلة على الوجوب لكان غايتها أن الواجب فعلها مرة واحدة، فأين دليل التكرار في كل صلاة؟ ولو سلم وجود ما يدل على التكرار لكان تركها في تعليم المسئ دالا على عدم وجوبه. (ومن جملة) ما استدل به القائلون بوجوب الصلاة بعد التشهد الاخير ما أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح من حديث علي عن النبي (ص) أنه قال: البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي قالوا: وقد ذكر النبي في التشهد، وهذا أحسن ما يستدل به على المطلوب، لكن بعد تسليم تخصيص البخل بترك الواجبات وهو ممنوع، فإن أهل اللغة والشرع والعرف يطلقون اسم البخيل على من يشح بما ليس بواجب، فلا يستفاد من الحديث الوجوب. واستدلوا أيضا بحديث عائشة عند الدارقطني والبيهقي بلفظ: لا صلاة إلا بطهور والصلاة علي وهو مع كونه في إسناده عمرو بن شمر وهو متروك، وجابر الجعفي وهو ضعيف لا يدل على المطلوب، لان غايته إيجاب الصلاة عليه (ص) من دون تقييد بالصلاة، فأين دليل التقييد بما سلمنا؟ فأين دليل تعيين وقتها بعد التشهد؟ ومثله حديث سهل بن سعد عند الدارقطني والبيهقي والحاكم بلفظ: لا صلاة لمن لم يصل على نبيه وهو مع كونه غير مفيد للمطلوب كما عرفت ضعيف الاسناد كما قال الحافظ في التلخيص: (ومن جملة أدلتهم) ما أخرجه الدارقطني من حديث أبي مسعود بلفظ: من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه وهو لا يدل على المطلوب، وغايته إيجاب الصلاة في مطلق الصلاة، فأين دليل التقييد ببعد التشهد؟ على أنه لا يصلح للاستدلال به، فإن الدارقطني قال بعد إخراجه: الصواب أنه من قول أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين. (واستدلوا) أيضا بحديث فضالة بن عبيد الآتي، وغايته إيجاب الصلاة في مطلق الصلاة عند إرادة الدعاء، فما الدليل على الوجوب بعد التشهد؟ على أنه حجة عليهم لا لهم كما سيأتي للمصنف. (ومن جملة أدلتهم) ما قاله المهدي في البحر أنه لا حتم في غير الصلاة إجماعا فتعين فيها للامر والاجماع ممنوع، فقد قال مالك: إنها تجب في العمر مرة، وإليه ذهب أهل الظاهر. وقال الطحاوي: إنها تجب كلما ذكر، واختاره الحليمي من الشافعية. قال ابن دقيق العيد: وقد كثر الاستدلال على الوجوب في الصلاة بين المتفقهة بأن الصلاة
[ 323 ]
عليه واجبة بالاجماع، ولا تجب في غير الصلاة بالاجماع، فتعين أن تجب في الصلاة وهو ضعيف جدا، لان قوله: لا تجب في غير الصلاة بالاجماع إن أراد، لا تجب في غير الصلاة عينا فهو صحيح، لكنه لا يلزم منه أن تجب في الصلاة عينا، لجواز أن يكون الواجب مطلق الصلاة، فلا يجب واحد من المعينين، أعني خارج الصلاة وداخل الصلاة، وإن أراد أعم من ذلك وهو الوجوب المطلق فممنوع اه. (ومن جملة أدلتهم) ما أخرجه البزار في مسنده من رواية إسماعيل بن أبان عن قيس، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فقال: آمين آمين آمين، فلما نزل سئل عن ذلك فقال: أتاني جبريل الحديث. وفيه: ورغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل علي وإسماعيل بن أبان هو الغنوي كذبه يحيى بن معين وغيره، نعم حديث كعب بن عجرة عند الطبراني: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوما إلى المنبر فقال حين ارتقى درجة: آمين، ثم رقى أخرى فقال: آمين الحديث وفيه: أن جبريل قال له عند الدرجة الثالثة: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين ورجاله ثقات كما قال العراقي. وحديث جابر عند الطبراني بلفظ: شقي من ذكرت عنده فلم يصل علي يفيد أن الوجوب عند الذكر من غير فرق بين داخل الصلاة وخارجها، والقائلون بالوجوب في الصلاة لا يقولون بالوجوب خارجها، فما هو جوابهم عن الوجوب خارجها فهو جوابنا عن الوجوب داخلها، على أن التقييد بقوله عنده مشعر بوقوع الذكر من غير من أضيف إليه، والذكر الواقع حال الصلاة ليس من غير الذاكر، وإلحاق ذكر الشخص بذكر غيره يمنع منه وجود الفارق، وهو ما يشعر به السكوت عند سماع ذكره صلى الله عليه وآله وسلم من الغفلة وفرط القسوة، بخلاف ما إذا جرى ذكره صلى الله عليه وآله وسلم من الشخص نفسه، فكفى به عنوانا على الالتفات والرقة. ويؤيد هذا الحديث الصحيح أن في الصلاة لشغلا. (ومن أنهض) ما يستدل به على الوجوب في الصلاة مقيدا بالمحل المخصوص أعني بعد التشهد، ما أخرجه الحاكم والبيهقي من طريق يحيى بن السباق عن رجل من آل الحرث عن ابن مسعود عن النبي (ص) بلفظ: إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل الحديث لولا أن في إسناده رجلا مجهولا وهو هذا الحارثي. (والحاصل) أنه لم يثبت عندي من الادلة ما يدل على مطلوب القائلين بالوجوب وعلى فرض ثبوته، فترك تعليم المسئ للصلاة لا سيما مع قوله (ص): فإذا فعلت
[ 324 ]
ذلك فقد تمت صلاتك قرينة صالحة لحمله على الندب. ويؤد ذلك قوله لابن مسعود بعد تعليمه التشهد إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والدارقطني، وفيه كلام يأتي إن شاء الله في باب كون السلام فرضا. وبعد هذا فنحن لا ننكر أن الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم من أجل الطاعات التي يتقرب بها الخلق إلى الخالق، وإنما نازعنا في إثبات واجب من واجبات الصلاة بغير دليل يقتضيه، مخافة من التقول على الله بما لم يقل، ولكن تخصيص التشهد الاخير بها مما لم يدل عليه دليل صحيح ولا ضعيف، وجميع هذه الادلة التي استدل بها القائلون بالوجوب لا تختص بالاخير، وغاية ما استدلوا به على تخصيص الاخير بها حديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس في التشهد الاوسط كما يجلس على الرضف أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وليس فيه إلا مشروعية التخفيف، وهو يحصل بجعله أخف من مقابله أعني التشهد الاخير، وإما أنه يستلزم ترك ما دل الدليل على مشروعيته فيه فلا، ولا شك أن المصلي إذا اقتصر على أحد التشهدات وعلى أخصر ألفاظ الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم كان مسارعا غاية المسارعة، باعتبار ما يقع من تطويل الاخير بالتعوذ من الاربع، والادعية المأمور بمطلقها ومقيدها فيه. إذا تقرر لك الكلام في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة، فاعلم أنه قد اختلف في وجوبها على الآل بعد التشهد، فذهب الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعي إلى الوجوب، واستدلوا بالاوامر المذكورة في الاحاديث المشتملة على الآل. وذهب الشافعي في أحد قوليه، وأبو حنيفة وأصحابه والناصر إلى أنها سنة فقط، وقد تقدم ذكر الادلة من الجانبين. (ومن جملة) ما احتج به الآخرون هنا الاجماع الذي حكاه النووي على عدم الوجوب، قالوا: فيكون قرينة لحمل الاوامر على الندب، قالوا: ويؤيد ذلك عدم الامر بالصلاة على الآل في القرآن، والخلاف في تعيين الآل من هم، وسيأتي في الباب الثاني. وشرح بقية ألفاظ حديث ابن مسعود يأتي في شرح ما بعده من أحاديث الباب. وعن كعب بن عجرة قال: قلنا يا رسول الله قد علمنا أو عرفنا كيف السلام عليك فكيف الصلاة؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل
[ 325 ]
محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد رواه الجماعة إلا أن الترمذي قال فيه: على إبراهيم في الموضعين ولم يذكر آله. قوله: قد علمنا إلخ يعني بما تقدم في أحاديث التشهد وهو: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وهو يدل على تأخر مشروعية الصلاة عن التشهد. قوله: فكيف الصلاة فيه أنه يندب لمن أشكل عليه كيفية ما فهم جملته أن يسأل عنه من له به علم. قوله: قولوا استدل به القائلون بوجوب الصلاة في الصلاة، وقد تقدم البحث عن ذلك. وقوله: وعلى آل محمد في رواية لابي داود: وآل محمد بحذف على، وسائر الروايات في هذا الحديث وغيره بإثباتها. وقد ذهب البعض إلى وجوب زيادتها. قوله: كما صليت على آل إبراهيم هم إسماعيل وإسحاق وأولادهما، وقد جمع الله لهم الرحمة والبركة بقوله: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ولم يجمعا لغيرهم، فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعطاء ما تضمنته الآية، واستشكل جماعة من العلماء التشبيه للصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة على إبراهيم كما في بعض الروايات، أو على آل إبراهيم كما في البعض الآخر، مع أن المشبه دون المشبه به في الغالب وهو صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من إبراهيم وآله، وأجيب عن ذلك بأجوبة: منها أن المشبه مجموع الصلاة على محمد وآله بمجموع الصلاة على إبراهيم وآله، وفي آل إبراهيم معظم الانبياء، فالمشبه به أقوى من هذه الحيثية. ومنها: أن التشبيه وقع لاصل الصلاة بأصل الصلاة لا للقدر بالقدر. ومنها: أن التشبيه وقع في الصلاة على الآل لا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو خلاف الظاهر. ومنها: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار تكررها من كل فرد تصير باعتبار مجموع الافراد أعظم وأوفر، وإن كانت باعتبار الفرد مساوية أو ناقصة، وفيه أن التشبيه حاصل في صلاة كل فرد، فالصلاة من المجموع مأخوذ فيها ذلك، فلا يتحقق كونها أعظم وأوفر. ومنها: أن الصلاة عليه كانت ثابتة له، والسؤال إنما هو باعتبار الزائد على القدر الثابت، وبانضمام ذلك الزائد المساوي أو الناقص إلى ما قد ثبت تصير أعظم قدرا. ومنها: أن التشبيه غير منظور فيه إلى جانب زيادة أو نقص، وإنما المقصود أن لهذه الصلاة نوع تعظيم وإجلال كما فعل في حق إبراهيم وتقرر واشتهر من تعظيمه وتشريفه وهو خلاف الظاهر. ومنها: أن الغرض من التشبيه قد يكون لبيان حال المشبه من غير نظر إلى قوة المشبه به وهو قليل لا يحمل عليه إلا لقرينة. ومنها: أن التشبيه لا يقتضي أن يكون
[ 326 ]
المشبه دون المشبه به على جهة اللزوم، كما صرح بذلك جماعة من علماء البيان، وفيه أنه وإن لم يقتض ذلك نادرا فلا شك أنه غالب. ومنها أنه كان ذلك منه (ص) قبل أن يعلمه أنه أفضل من إبراهيم. ومنها: أن مراده (ص) أن يتم النعمة عليه كما أتمها على إبراهيم وآله. ومنها: أن مراده (ص) أن يبقى له لسان صدق في الآخرين كإبراهيم. ومنها: أنه سأل أن يتخذه الله خليلا كإبراهيم. ومنها: أنه (ص) من جملة آل إبراهيم. وكذلك آله فالمشبه هو الصلاة عليه وعلى آله بالصلاة على إبراهيم وآله الذي هو من جملتهم فلا ضير في ذلك. قوله: إنك حميد أي محمود الافعال مستحق لجميع المحامد لما في الصيغة من المبالغة وهو تعليل لطلب الصلاة منه، والمجيد المتصف بالمجد وهو كمال الشرف والكرم والصفات المحمودة. قوله: اللهم بارك البركة هي الثبوت والدوام من قولهم: برك البعير إذا ثبت ودام أي أدم شرفه وكرامته وتعظيمه. وعن فضالة بن عبيد قال: سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ليدع بعد ما شاء رواه الترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم. قوله: عجل هذا أي بدعائه قبل تقديم الصلاة، وفيه دليل على مشروعية تقديم الصلاة قبل الدعاء ليكون وسيلة للاجابة، لان من حق السائل أن يتلطف في نيل ما أراده. وقد روى الحديث غير المصنف بلفظ: سمع رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي. قوله: والثناء عليه هو من عطف العام على الخاص. قوله: ما شاء في أكثر الروايات بما شاء، يعني من خير الدنيا والآخرة، وفيه الاذن في الصلاة بمطلق الدعاء من غير تقييد بمحل مخصوص، قيل: هذا الحديث موافق في المعنى لحديث ابن مسعود وغيره في التشهد، فإن ذلك متضمن للتمجيد والثناء، وهذا مجمل وذلك مبين للمراد، وهو لا يتم إلا بعد تسليم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع الرجل يدعو في قعدة التشهد. (وقد استدل) بالحديث القائلون بوجوب الصلاة في الصلاة وقد تقدم الجواب عن ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه حجة
[ 327 ]
لمن لا يرى الصلاة عليه فرضا حيث لم يأمر تاركها بالاعادة. ويعضده قوله في خبر ابن مسعود بعد ذكر التشهد ثم يتخير من المسألة ما شاء اه. باب ما يستدل به على تفسير آله المصلى عليهم عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد متفق عليه. الحديث احتج به طائفة من العلماء على أن الآل هم الازواج والذرية، ووجهه أنه أقام الازواج والذرية مقام آل محمد في سائر الروايات المتقدمة. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (الاحزاب: 33) لان ما قبل الآية وبعدها في الزوجات، فأشعر ذلك بإرادتهن، وأشعر تذكير المخاطبين بها بإرادة غيرهن. وبين هذا الحديث وحديث أبي هريرة الآتي من هم المرادون بالآية وبسائر الاحاديث التي أجمل فيها الآل، ولكنه يشكل على هذا امتناعه صلى الله عليه وآله وسلم من إدخال أم سلمة تحت الكساء بعد سؤالها ذلك، وقوله (ص) عند نزول هذه الآية مشيرا إلى علي وفاطمة والحسن والحسين: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي بعد أن جللهم بالكساء. وقيل: إن الآل هم الذين حرمت عليهم الصدقة وهم بنو هاشم. ومن أهل هذا القول الامام يحيى، واستدل القائل بذلك بأن زيد بن أرقم فسر الآل بهم وبين أنهم آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس كما في صحيح مسلم، والصحابي أعرف بمراده (ص) فيكون تفسيره قرينة على التعيين. وقيل: إنهم بنو هاشم وبنو المطلب وإلى ذلك ذهب الشافعي. وقيل: فاطمة وعلي والحسنان وأولادهم. وإلى ذلك ذهب جمهور أهل البيت، واستدلوا بحديث الكساء الثابت في صحيح مسلم وغيره، وقوله (ص) فيه: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي مشيرا إليهم، ولكنه يقال: إن كان هذا التركيب يدل على الحصر باعتبار المقام أو غيره فغاية ما فيه إخراج من عداهم بمفهومه، والاحاديث الدالة على أنهم أعم منهم كما ورد في بني هاشم وفي الزوجات مخصصة بمنطوقها لعموم هذا المفهوم. واقتصاره (ص) على تعيين البعض عند نزول الآية لا ينافي إخباره بعد ذلك بالزيادة، لان الاقتصار
[ 328 ]
ربما كان لمزية للبعض أو قبل العلم بأن الآل أعم من المعينين، ثم يقال: إذا كانت هذه الصيغة تقتضي الحصر فما الدليل على دخول أولاد المجللين بالكساء في الآل مع أن مفهوم هذا الحصر يخرجهم؟ فإن كان إدخالهم بمخصص وهو التفسير بالذرية وذريته (ص) هم أولاد فاطمة فما الفرق بين مخصص ومخصص؟ وقيل: إن الآل هم القرابة من غير تقييد، وإلى ذلك ذهب جماعة من أهل العلم. وقيل: هم الامة جميعا. قال النووي في شرح مسلم وهو أظهرها قال: وهو اختيار الازهري وغيره من المحققين اه. وإليه ذهب نشوان الحميري إمام اللغة ومن شعره في ذلك: [ شع ] آل النبي هم أتباع ملته * من الاعاجم والسودان والعرب لو لم يكن آله إلا قرابته * صلى المصلي على الطاغي أبي لهب ويدل على ذلك أيضا قول عبد المطلب من أبيات: وانصر على آل الصلي * ب وعابديه اليوم آلك والمراد بآل الصليب أتباعه. (ومن الادلة) على ذلك قول الله تعالى: * (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * (غافر: 46) لان المراد بآله أتباعه، واحتج لهذا القول بما أخرجه الطبراني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن الآل قال: آل محمد كل تقي وروي هذا من حديث علي ومن حديث أنس وفي أسانيدها مقال. ويؤيد ذلك معنى الآل لغة، فإنهم كما قال في القاموس: أهل الرجل وأتباعه، ولا ينافي هذا اقتصاره صلى الله عليه وآله وسلم على البعض منهم في بعض الحالات كما تقدم وكما في حديث مسلم في الاضحية: اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد فإنه لا شك أن القرابة أخص الآل، فتخصيصهم بالذكر ربما كان لمزايا لا يشاركهم فيها غيرهم كما عرفت، وتسميتهم بالامة لا ينافي تسميتهم بالآل، وعطف التفسير شائع ذائع كتابا وسنة ولغة، على أن حديث أبي هريرة المذكور آخر هذا الباب فيه عطف أهل بيته على ذريته، فإذا كان مجرد العطف يدل على التغاير مطلقا لزم أن تكون ذريته خارجة عن أهل بيته، والجواب الجواب. ولكن ههنا مانع من حمل الآل على جميع الامة وهو حديث: أني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره، فإنه لو كان الآل جميع الامة لكان المأمور بالتمسك والامر المتمسك به شيئا واحدا وهو باطل. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من سره أن
[ 329 ]
يكتال بالمكيال الاوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صل على محمد النبي 2 وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد 2 رواه أبو داود. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وهو من طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي عن المجمر عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اختلف فيه على أبي جعفر. وأخرجه النسائي في مسند علي من طريق عمرو بن عاصم، عن حبان بن يسار الكلابي، عن عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي، عن أبي جعفر، عن محمد ابن الحنفية، عن أبيه علي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ حديث أبي هريرة. وقد اختلف فيه على أبي جعفر وعلى حبان بن يسار. (الحديث) استدل به القائلون بأن الزوجات من الآل، والقائلون إن الذرية من الآل وهو أدل على ذلك من الحديث الاول لذكر الآل وفيه مجملا ومبينا. قوله: بالمكيال بكسر الميم وهو ما يكال به. وفيه دليل على أن هذه الصلاة أعظم أجرا من غيرها وأوفر ثوابا. قوله: أهل البيت الاشهر فيه النصب على الاختصاص، ويجوز إبداله من ضمير علينا. قوله: فليقل اللهم صل على محمد قال الاسنوي: قد اشتهر زيادة سيدنا قبل محمد عند أكثر المصلين، وفي كون ذلك أفضل نظر اه. وقد روي عن ابن عبد السلام أنه جعله من باب سلوك الادب، وهو مبني على أن سلوك طريق الادب أحب من الامتثال. ويؤيده حديث أبي بكر حين أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يثبت مكانه فلم يمتثل وقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله عليه وآله وسلم، وكذلك امتناع علي عن محو اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصحيفة في صلح الحديبية بعد أن أمره بذلك وقال: لا أمحو اسمك أبدا، وكلا الحديثين في الصحيح، فتقريره صلى الله عليه وآله وسلم لهما على الامتناع من امتثال الامر تأدبا مشعر بأولويته. باب ما يدعو به في آخر الصلاة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا فرغ أحدكم من التشهد الاخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
[ 330 ]
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم رواه الجماعة إلا ابن ماجه. قوله: إذا فرغ أحدكم من التشهد الاخير فيه تعيين محل هذه الاستعاذة بعد التشهد الاخير وهو مقيد، وحديث عائشة مطلق فيحمل عليه، وهو يرد ما ذهب إليه ابن حزم من وجوبها في التشهد الاول، وما ورد من الاذن للمصلي بالدعاء بما شاء بعد التشهد يكون بعد هذه الاستعاذة لقوله إذا فرغ. قوله: فليتعوذ استدل بهذا الامر على وجوب الاستعاذة، وقد ذهب إلى ذلك بعض الظاهرية، وروي عن طاوس، وقد ادعى بعضهم الاجماع على الندب وهو لا يتم مع مخالفة من تقدم، والحق الوجوب إن علم تأخر هذا الامر عن حديث المسئ لما عرفناك في شرحه. قوله: من أربع ينبغي أن يزاد على هذه الاربع التعوذ من المغرم والمأثم المذكورين في حديث عائشة. قوله: ومن عذاب القبر فيه رد على المنكرين لذلك من المعتزلة، والاحاديث في هذا الباب متواترة. قوله: ومن فتنة المحيا والممات قال ابن دقيق العيد فتنة المحيا ما يعرض للانسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت، وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد على هذا بفتنة المحيا ما قبل ذلك، ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقد صح أنهم يفتنون في قبورهم. وقيل: أراد بفتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر، وبفتنة الممات السؤال في القبر مع الحيرة كذا في الفتح. قوله: ومن شر المسيح الدجال قال أبو داود في السنن: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى، ونقل الفريري عن خلف بن عامر أن المسيح بالتشديد والتخفيف واحد، ويقال للدجال، ويقال لعيسى، وأنه لا فرق بينهما. قال الجوهري في الصحاح: من قاله بالتخفيف فلمسحه الارض، ومن قاله بالتشديد فلكونه ممسوح العين. قال الحافظ: وحكي عن بعضهم بالخاء المعجمة في الدجال ونسب قائله إلى التصحيف. قال في القاموس: والمسيح عيسى ابن مريم صلوات الله عليه لبركته، قال: وذكرت في اشتقاقه خمسين قولا في شرحي لمشارق الانوار وغيره، والدجال لشؤمه اه. قوله: من المغرم والمأثم في البخاري بتقديم المأثم على المغرم. والمغرم الدين يقال: غرم بكسر الراء أي أدان، قيل: المراد به ما يستدان فيما لا يجوز أو فيما يجوز ثم يعجز عن أدائه، ويحتمل أن يراد به ما هو أعم من ذلك، وقد استعاذ (ص)
[ 331 ]
من غلبة الدين. وفي البخاري: أنه قال له صلى الله عليه وآله وسلم قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: أن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف. باب جامع أدعية منصوص عليها في الصلاة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم متفق عليه. قوله: ظلمت نفسي قال في الفتح: أي بملابسة ما يوجب العقوبة أو ينقص الحظ، وفيه أن الانسان لا يعرى عن تقصير ولو كان صديقا. قوله: كثيرا روي بالثاء المثلثة وبالباء الموحدة. قال النووي: ينبغي أن يجمع بينهما فيقول كثيرا كبيرا. قال الشيخ عز الدين بن جماعة: ينبغي أن يجمع بين الروايتين، فيأتي مرة بالمثلثة ومرة بالموحدة، فإذا أتى بالدعاء مرتين فقد نطق بما نطق به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيقين، وإذا أتى بما ذكره النووي لم يكن آتيا بالسنة، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينطق به كذلك اه. قوله: ولا يغفر الذنوب إلا أنت قال الحافظ: فيه إقرار بالوحدانية واستجلاب للمغفرة وهو كقوله: * (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله) * (آل عمران: 135) فأثنى على المستغفرين، وفي ضمن ثنائه بالاستغفار لوح بالامرية، كما قيل إن كل شئ أثنى الله على فاعله فهو آمر به، وكل شئ ذم فاعله فهو ناه عنه. قوله: مغفرة من عندك قال الطيبي: ذكر التنكير يدل على أن المطلوب غفران عظيم لا يدرك كنهه ووصفه بكونه من عنده سبحانه وتعالى، مريدا بذلك التعظيم، لان الذي يكون من عند الله لا يحيط به وصف. وقال ابن دقيق العيد يحتمل وجهين: أحدهما الاشارة إلى التوحيد المذكور كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت فافعله أنت. والثاني وهو أحسن أنه أشار إلى طلب مغفرة متفضل بها لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره، وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي. قوله: إنك أنت الغفور الرحيم قال الحافظ: هما صفتان ذكرتا ختما للكلام على جهة المقابلة لما تقدم، فالغفور مقابل. لقوله: اغفر لي. والرحيم مقابل لقوله: ارحمني وهي مقابلة مرتبة. (والحديث) يدل
[ 332 ]
على مشروعية هذا الدعاء في الصلاة ولم يصرح بمحله. قال ابن دقيق العيد: ولعل الاولى أن يكون في أحد موطنين: السجود أو التشهد لانه أمر فيهما بالدعاء، وقد أشار البخاري إلى محله فأورده في باب الدعاء قبل السلام. قال في الفتح: وفي الحديث من الفوائد استحباب طلب التعليم من العالم، خصوصا ما في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم. وعن عبيد بن القعقاع قال: رمق رجل رسول الله (ص) وهو يصلي فجعل يقول في صلاته: اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في ذاتي، وبارك لي فيما رزقتني رواه أحمد. عبيد بن القعقاع ويقال حميد بن القعقاع لا يعرف حاله، والراوي عنه أبو مسعود الجريري لا يعرف حاله، وقد اختلف فيه على شعبة. قال ابن حجر في المنفعة: وله شاهد من حديث أبي موسى في الدعاء للطبراني وأبو مسعود الجريري هو سعيد بن إياس ثقة أخرج له الجماعة، فلا وجه لقول من قال لا يعرف حاله. (والحديث) فيه مشروعية الدعاء بهذه الكلمات في مطلق الصلاة من غير تقييد بمحل منها مخصوص، وجهالة الراوي عنه (ص) لا تضر، لان جهالة الصحابي مغتفرة، كما ذهب إلى ذلك الجمهور ودلت عليه الادلة، وقد ذكرت الادلة على ذلك في الرسالة التي سميتها القول المقبول في رد رواية المجهول من غير صحابة الرسول. قوله: رمق رجل الرمق اللحظ الخفيف كما في القاموس. وعن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في صلاته: اللهم إني أسألك الثبات في الامر والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، واستغفرك لما تعلم رواه النسائي. الحديث رجال إسناده ثقات، وقد ذكره في الجامع عند أدعية الاستخارة بلفظ: عن رجل من بني حنظلة قال: صحبت شداد بن أوس فقال: ألا أعلمك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا؟ نقول إذا روينا أمرا فذكره وزاد: إنك أنت علام الغيوب أخرجه الترمذي، وزاد في حديث آخر بمعناه: إذا أوى إلى فراشه ولم يذكر فيه إذا روينا امرا. وقد أخرجه النسائي في اليوم والليلة ولم يذكر في الصلاة. وأما صاحب التيسير فساقه باللفظ الذي ذكره المصنف. قوله: كان يقول في صلاته هذا الدعاء ورد مطلقا في الصلاة غير مقيد بمكان مخصوص. قوله: الثبات في الامر سؤال الثبات في الامر من جوامع الكلم النبوية،
[ 333 ]
لان من ثبته الله في أموره عصم عن الوقوع في الموبقات ولم يصدر منه أمر على خلاف ما يرضاه الله. قوله: والعزيمة على الرشد هي تكون بمعنى إرادة الفعل وبمعنى الجد في طلبه والمناسب هنا هو الثاني. قوله: قلبا سليما أي غير عليل بكدر المعصية ولا مريض بالاشتمال على الغل والانطواء على الاحن. قوله: من خير ما تعلم هو سؤال الخير الامور على الاطلاق، لان علمه جل جلاله محيط بجميع الاشياء، وكذلك التعوذ من شر ما يعلم والاستغفار لما يعلم، فكأنه قال: أسألك من خير كل شئ، وأعوذ بك من شر كل شئ، واستغفرك لكل ذنب. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره رواه مسلم وأبو داود. قوله: ذنبي كله استدل به على جواز نسبة الذنب إليه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اختلف الناس في ذلك على أقوال مذكورة في الاصول. أحدها أن الانبياء كلهم معصومون من الكبائر والصغائر، وهذا هو اللائق بشرفهم، لولا مخالفته لصرائح القرآن والسنة المشعرة بأن لهم ذنوبا. قوله: دقه وجله بكسر أولهما أي قليله وكثيره. قوله: وأوله وآخره هو من عطف الخاص على العام. قوله: وعلانيته وسره هو كذلك. قال النووي: فيه تكثير ألفاظ الدعاء وتوكيده وإن أغنى بعضها عن بعض. وعن عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فأوجز فيها فأنكروا ذلك، فقال: ألم أتم الركوع والسجود؟ فقالوا بلى، قال: أما أني دعوت فيها بدعاء كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو به: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مضرة، ومن فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الايمان واجعلنا هداة مهتدين رواه أحمد والنسائي. الحديث رجال إسناده ثقات، وساقه بإسناد آخر بنحو هذا اللفظ، وإسناده في سنن النسائي هكذا: أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي قال: حدثنا حماد قال: حدثنا عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى عمار فذكره وفي إسناده عطاء بن السائب وقد اختلط، وأخرج له البخاري مقرونا بآخر، وبقية رجاله ثقات، ووالد عطاء هو السائب بن مالك الكوفي وثقه العجلي. قوله: فأوجز فيها لعله لم يصاحب هذا الايجاز تمام الصلاة
[ 334 ]
على الصفة التي عهدوا عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا لم يكن للانكار عليه وجه، فقد ثبت من حديث أنس في مسلم وغيره أنه قال: ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله (ص) في تمام. قوله: فأنكروا ذلك عليه فيه جواز الانكار على من أخف الصلاة من دون استكمال. قوله: ألم أتم الركوع والسجود فيه إشعار بأنه لم يتم غيرهما ولذلك أنكروا عليه. قوله: كان رسول الله (ص) يدعو به يحتمل أنه كان يدعو به في الصلاة، ويكون فعل عمار قرينة تدل على ذلك، ويحتمل أنه كان يدعو به من غير تقييد بحال الصلاة كما هو الظاهر من الكلام. قوله: بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق فيه دليل على جواز التوسل إليه تعالى بصفات كماله وخصال جلاله. قوله: أحيني إلى قوله: خيرا لي هذا ثابت في الصحيحين من حديث أنس بلفظ: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي وهو يدل على جواز الدعاء بهذا لكن عند نزول الضرر، كما وقع التقييد بذلك في حديث أنس المذكور المتفق عليه ولفظه قال: قال رسول الله (ص) لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا فليقل: اللهم أحيني، إلى آخره. قوله: خشيتك في الغيب والشهادة أي في مغيب الناس وحضورهم، لان الخشية بين الناس فقط ليست من الخشية لله بل من خشية الناس. قوله: وكلمة الحق في الغضب والرضا إنما جمع بين الحالتين، لان الغضب ربما حال بين الانسان وبين الصدع بالحق، وكذلك الرضا ربما قاد في بعض الحالات إلى المداهنة وكتم كلمة الحق. قوله: والقصد في الفقر والغنى القصد في كتب اللغة بمعنى استقامة الطريق والاعتدال، وبمعنى ضد الافراط وهو المناسب هنا، لان بطر الغنى ربما جر إلى الافراط. وعدم الصبر على الفقر ربما أوقع في التفريط، فالقصد فيهما هو الطريقة القويمة. قوله: ولذة النظر إلى وجهك فيه متمسك للاشعرية ومن قال بقولهم، والمسألة طويلة الذيل ومحلها علم الكلام. وقد أفردتها برسالة مطولة سميتها البغية في الرؤية. قوله: والشوق إلى لقائك إنما سأله صلى الله عليه وآله وسلم لانه من موجبات محبة الله للقاء عبده لحديث: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومحبة الله تعالى لذلك من أسباب المغفرة. قوله: مضرة إنما قيد صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لان الضراء ربما كانت نافعة آجلا أو عاجلا فلا يليق الاستعاذة منها. قوله: مضلة وصفها صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لان من الفتن ما يكون من أسباب الهداية، وهي بهذا الاعتبار مما لا يستعاذ منه. قال أهل اللغة: الفتنة الامتحان والاختبار.
[ 335 ]
وعن معاذ بن جبل قال: لقيني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن الحديث قال الحافظ: سنده قوي، وذكره عبادتك رواه أحمد والنسائي وأبو داود المصنف في هذا الباب المشتمل على أدعية الصلاة بناء على أن لفظ الحديث في كل صلاة كما في الكتاب، وقد رواه غيره بلفظ: دبر كل صلاة وهو عند أبي داود بلفظ: في دبر كل صلاة وكذلك رويته من طريق مشايخي مسلسلا بالمحبة، فلا يكون باعتبار هذه الزيادة من أدعية الصلاة، لان دبر الصلاة بعدها على الاقرب كما سيأتي، ويحتمل دبر الصلاة آخرها قبل الخروج منها لان دبر الحيوان منه، وعليه بعض أئمة الحديث، فلعل المصنف أراد ذلك، ولكنه يشكل عليه إيراده لادعية مقيدة بذلك في باب الذكر بعد الصلاة، كحديث ابن الزبير، وحديث المغيرة الآتيين. قوله: إني أوصيك بكلمات تقولهن في رواية أبي داود: لا تدعهن والنهي أصله التحريم، فيدل على وجوب الدعاء بهذه الكلمات. وقيل: إنه نهي إرشاد وهو محتاج إلى قرينة. ووجه تخصيص الوصية بهذه الكلمات أنها مشتملة على جميع خير الدنيا والآخرة. وعن عائشة: أنها فقدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مضجعها فلمسته بيدها فوقعت عليه وهو ساجد وهو يقول: رب أعط نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها رواه أحمد. الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة بلفظ: فقدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فلمست المسجد فإذا هو ساجد وقدماه منصوبتان وهو يقول: إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فيمكن أن يكون اللفظ الذي ذكره أحمد من أحد روايات هذا الحديث. ويمكن أن يكون حديثا مستقلا، ويحمل ذلك على تعدد الواقعة. قوله: أعط نفسي تقواها أي اجعلها متقية سامعة مطيعة. قوله: زكها أي اجعلها زاكية بما تفضلت به عليها من التقوى وخصال الخير. قوله: أنت وليها أمتولي أمورها ومولاها أي مالكها. (والحديث) يدل على مشروعية الدعاء في السجود وقد تقدم الكلام على ذلك. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى فجعل يقول في
[ 336 ]
صلاته: أو في سجوده: اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، واجعل لي نورا، أو قال: واجعلني نورا مختصر من مسلم. الحديث ذكره مسلم في صحيحه مطولا ومختصرا بطرق متعددة وألفاظ مختلفة، وجميع الروايات مقيدة بصلاة الليل. قوله: في صلاته أو في سجوده هذا الشك وقع في رواية محمد ابن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن كريب، عن ابن عباس. وفي رواية في مسلم: فخرج إلى الصلاة وهو يقول الحديث. وفي رواية له: وكان في دعائه: اللهم اجعل الخ من غير تقييد بحال الصلاة ولا بحال الخروج. قوله: اجعل في قلبي نورا إلى آخر الحديث، قال النووي قال العلماء: سأل النور في أعضائه وجهاته، والمراد بيان الحق وضياؤه والهداية إليه، فسأل النور في جميع أعضائه وجسمه وتصرفاته وتقلباته وحالاته وجملته وفي جهاته الست حتى لا يزيغ شئ فيها عنه. باب الخروج من الصلاة بالسلام عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده رواه الخمسة وصححه الترمذي. وعن عامر بن سعد عن أبيه قال: كنت أرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. الحديث الاول أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وله ألفاظ وأصله في صحيح مسلم. قال العقيلي: والاسانيد صحاح ثابتة في حديث ابن مسعود في تسليمتين، ولا يصح في تسليمة واحدة شئ. والحديث الثاني أخرجه أيضا البزار والدارقطني وابن حبان، قال البزار، روي عن سعد من غير وجه. (وفي الباب) أحاديث فيها ذكر التسليمتين. منها عن عمار عند ابن ماجه والدارقطني. وعن البراء عند ابن أبي شيبة في مصنفه والدارقطني أيضا. وعن سهل بن سعد عند أحمد وفيه ابن لهيعة. وعن حذيفة عند ابن ماجه. وعن عدي بن عميرة عند ابن ماجه أيضا وإسناده حسن. وعن طلق بن علي عند أحمد والطبراني
[ 337 ]
وفيه ملازم بن عمرو، وعن المغيرة عند المعمري في اليوم والليلة والطبراني قال الحافظ: وفي إسناده نظر. وعن وائلة بن الاسقع عند الشافعي وإسناده ضعيف. وعن وائل بن حجر عند أبي داود والطبراني من طريق ابنه عبد الجبار ولم يسمع منه. وعن يعقوب بن الحصين عند أبي نعيم في المعرفة وفيه عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك. وعن أبي رمثة عند الطبراني وابن منده قال الحافظ: وفي إسناده نظر. وعن أبي موسى عند أحمد وابن ماجه. وعن سمرة وسيأتي. وعن جابر بن سمرة وسيأتي أيضا. (وهذه الاحاديث) تدل على مشروعية التسليمتين، وقد حكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق وعلي وابن مسعود وعمار بن ياسر ونافع بن عبد الحرث من الصحابة. وعن عطاء بن أبي رباح وعلقمة والشعبي وأبي عبد الرحمن السلمي من التابعين. وعن أحمد وإسحق وأبي ثور وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: وبه أقول، وحكاه في البحر عن الهادي والقاسم وزيد بن علي والمؤيد بالله من أهل البيت. وإليه ذهب الشافعي كما قال النووي. وذهب إلى أن المشروع تسليمة واحدة ابن عمر وأنس وسلمة بن الاكوع وعائشة من الصحابة، والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز من التابعين، ومالك والاوزاعي والامامية وأحد قولي الشافعي وغيرهم. وذهب عبد الله بن موسى بن جعفر من أهل البيت إلى أن الواجب ثلاث: يمينا وشمالا وتلقاء وجهه. واختلف القائلون بمشروعية التسليمتين هل الثانية واجبة أم لا؟ فذهب الجمهور إلى استحبابها. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة. وقال النووي في شرح مسلم أجمع العلماء الذين يعتد بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة. وحكى الطحاوي وغيره عن الحسن بن صالح أنه أوجب التسليمتين جميعا وهي رواية عن أحمد، وبها قال بعض أصحاب مالك، ونقله ابن عبد البر عن بعض أصحاب الظاهر، وإلى ذلك ذهبت الهادوية، وسيأتي الكلام على وجوب التسليمة أو التسليمتين أو عدم ذلك في باب كون السلام فرضا، وسنتكلم ههنا في مجرد المشروعية من غير نظر إلى الوجوب. فنقول: (احتج القائلون) بمشروعية التسليمتين بالاحاديث المتقدمة، واحتج القائلون بمشروعية الواحدة فقط بالاحاديث التي سيأتي ذكرها في باب من اجتزأ بتسليمة، واحتج القائل بمشروعية ثلاث بأن في ذلك جمعا بين الروايات، والحق ما ذهب إليه الاولون لكثرة الاحاديث الواردة بالتسليمتين، وصحة بعضها، وحسن بعضها، واشتمالها على الزيادة وكونها مثبتة، بخلاف الاحاديث
[ 338 ]
الواردة بالتسليمة الواحدة، فإنها مع قلتها ضعيفة لا تنتهض للاحتجاج كما ستعرف ذلك، ولو سلم انتهاضها لم تصلح لمعارضة أحاديث التسليمتين لما عرفت من اشتمالها على الزيادة. وأما القول بمشروعية ثلاث فلعل القائل به ظن أن التسليمة الواحدة الواردة في الباب الذي سيأتي غير التسليمتين المذكورتين في هذا الباب، فجمع بين الاحاديث بمشروعية الثلاث وهو فاسد. وأفسد منه ما رواه في البحر عن البعض من أن المشروع واحدة في المسجد الصغير وثنتان في المسجد الكبير. قوله: عن يمينه وعن يساره فيه مشروعية أن يكون التسليم إلى جهة اليمين ثم إلى جهة اليسار. قال النووي: ولو سلم التسليمتين عن يمينه أو عن يساره أو تلقاء وجهه، أو الاولى عن يساره والثانية عن يمينه صحت صلاته وحصلت التسليمتان ولكن فاتته الفضيلة في كيفيتهما. قوله: السلام عليكم ورحمة الله زاد أبو داود من حديث وائل: وبركاته. وأخرجها أيضا ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود، وكذلك ابن ماجه من حديثه، قال الحافظ في التلخيص: فيتعجب من ابن الصلاح حيث يقول: إن هذه الزيادة ليست في شئ من كتب الحديث إلا في رواية وائل بن حجر، وقد ذكر لها الحافظ طرقا كثيرة في تلقيح الافكار تخريج الاذكار لما قال النووي أن زيادة وبركاته رواية فردة. ثم قال الحافظ بعد أن ساق تلك الطرق: فهذه عدة طرق تثبت بها وبركاته، بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ أنها رواية فردة انتهى. وقد صحح أيضا في بلوغ المرام حديث وائل المشتمل على تلك الزيادة. قوله: حتى يرى بياض خده بضم الياء المثناة من تحت من قوله يرى مبنيا للمجهول، كذا قال ابن رسلان، وبياض بالرفع على النيابة. وفيه دليل على المبالغة في الالتفات إلى جهة اليمين وإلى جهة اليسار، وزاد النسائي فقال: عن يمينه حتى يرى بياض خده الايمن وعن يساره حتى يرى بياض خده الايسر. وفي رواية له: حتى يرى بياض خده من ههنا وبياض خده من ههنا. وعن جابر بن سمرة قال: إذا كنا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: علام تومون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه يسلم على أخيه من على يمينه وشماله رواه أحمد ومسلم. وفي رواية: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما بال هؤلاء
[ 339 ]
يسلمون بأيديهم كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يقول: السلام عليكم، السلام عليكم رواه النسائي. الحديث أخرجه أيضا أبو داود. قوله: علام تومون في رواية أبي داود بلفظ: ما بال أحدكم يرمي بيده بالراء، قال ابن الاثير: إن صحت الرواية بالراء ولم يكن تصحيفا للواو فقد جعل الرمي باليد موضع الايماء بها لجواز ذلك في اللغة، يقول: رميت ببصري إليك أي مددته، ورميت إليك بيدي أي أشرت بها. قال: والرواية المشهورة رواية مسلم: على ما تومؤن بهمزة مضمومة بعد الميم، والايماء الاشارة أومأ يومئ إيماء وهم يومؤن مهموزا، ولا تقل أوميت بياء ساكنة قاله الجوهري. قال ابن الاثير: وقد جاء في رواية الشافعي: يومون بضم الميم بلا همزة، فإن صحت الرواية فيكون قد أبدل من الهمزة ياء، فلما قلبت الهمزة ياء صارت يومي، فلما لحقه ضمير الجماعة كان القياس يوميون، فثقلت الياء وقبلها كسرة فحذفت ونقلت ضمتها إلى الميم فقيل يومون. قوله: أذناب خيل شمس بإسكان الميم وضمها مع ضم الشين المعجمة جمع شموس بفتح الشين، وهو من الدواب النفور الذي يمتنع على راكبه، ومن الرجال صعب الخلق. قوله: من على يمينه وشماله في رواية أبي داود من عن يمينه ومن عن شماله وهو من الادلة على مشروعية التسليمتين، وقد قدمنا الكلام على ذلك. قوله: ثم يقول: السلام عليكم قال المصنف رحمه الله: وهو دليل على أنه إذا لم يقل ورحمة الله أجزأه انتهى. (والاحاديث) المتقدمة مشتملة على زيادة ورحمة الله وبركاته، فلا يتم الاتيان بالمشروع إلا بذلك. وأما الاجزاء وعدمه فينبني على القول بالوجوب وعدمه وسيأتي ذلك. وعن سمرة بن جندب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض رواه أحمد وأبو داود ولفظه: أمرنا أن نرد على الامام، وأن يلم بعضنا على بعض. الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبزار وزاد: في الصلاة قال الحافظ: وإسناده حسن انتهى. ولكنه رواية الحسن عن سمرة، وقد اختلف في سماعه منه على أربعة مذاهب. سمع منه مطلقا، لم يسمع منه مطلقا. سمع منه حدي‍ ث العقيقة. سمع منه ثلاثة أحاديث. وقد قدمنا بسط ذلك. وقد أخرج هذا الحديث أبو داود من طريق أخرى عن سمرة بلفظ: ثم سلموا على قارئكم وعلى أنفسكم قال الحافظ: لكنه ضعيف لما فيه من المجاهيل. قوله:
[ 340 ]
أن نسلم على أئمتنا أي نرد السلام عليهم كما في الرواية الثانية. قال أصحاب الشافعي: إن كان المأموم عن يمين الامام فينوي الرد عليه بالثانية، وإن كان عن يساره فينوي الرد عليه بالاولى، وإن حاذاه فبم شاء وهو في الاولى أحب. قوله: وأن يسلم بعضنا على بعض ظاهره شامل للصلاة وغيرها، ولكنه قيده البزار بالصلاة كما تقدم، ويدخل في ذلك سلام الامام على المأمومين، والمأمومين على الامام، وسلام المقتدين بعضهم على بعض. وقد ذهب المؤيد بالله وأبو طالب إلى وجوب قصد الملكين ومن في ناحيتهما من الامام والمؤتمين في الجماعة تمسكا بهذا، وهو ينبني على القول بإيجاب السلام، وسيأتي الكلام فيه. قوله: وأن نتحاب بتشديد الباء الموحدة آخر الحروف، والتحابب التوادد، وتحابوا أحب كل واحد منهم صاحبه. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: حذف التسليم سنة رواه أحمد وأبو داود. ورواه الترمذي موقوفا وصححه. وقال ابن المبارك: معناه أن لا يمد مدا. الحديث أخرجه أيضا الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وفي إسناده قرة بن عبد الرحمن بن حيويل بن ناشرة بن عبد بن عامر المعاقري المصري. قال أحمد: منكر الحديث جدا. وقال ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: لم أر له حديثا منكرا وأرجو أنه لا بأس به. وقد ذكره مسلم في الصحيح مقرونا بعمرو بن الحرث. وقال الاوزاعي: ما أعلم أحدا أعلم بالزهري من قرة، وقد ذكره ابن حبان في ثقاته، وصحح الترمذي هذا الحديث من طريقه وليس موقوفا كما قال المصنف، لان لفظ الترمذي عن أبي هريرة: قال: حذف السلام سنة قال ابن سيد الناس: وهذا مما يدخل في المسند عند أهل الحديث أو أكثرهم، وفيه خلاف بين الاصوليين معروف. قوله: حذف التسليم في نسخة من هذا الكتاب حذف السلام وهي الموافقة للفظ أبي داود والترمذي. والحذف بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة بعدها فاء هو ما رواه المصنف عن عبد الله بن المبارك أن لا يمده مدا، يعني يترك الاطالة في لفظه ويسرع فيه. قال الترمذي: وهو الذي يستحبه أهل العلم، قال: وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: التكبير جزم، والسلام جزم. قال ابن سيد الناس: قال العلماء: يستحب أن يدرج لفظ السلام ولا يمد مدا، لا أعلم في ذلك خلافا بين
[ 341 ]
العلماء، وقد ذكر المهدي في البحر أن الرمي بالتسليم عجلا مكروه، قال: لفعله صلى الله عليه وآله وسلم بسكينة ووقار انتهى. وهو مردود بهذا الدليل الخاص إن كان يريد كراهة الاستعجال باللفظ. باب من اجتزأ بتسليمة واحدة عن هشام عنقتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله ويذكره ويدعو ثم ينهض ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة فيجلس فيذكر الله ويدعو ثم يسلم تسليمة يسمعنا، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فلما كبر وضعف أوتر بسبع ركعات لا يقعد إلا في السادسة ثم ينهض ولا يسلم؟ فيصلي السابعة ثم يسلم تسليمة ثم يصلي ركعتين وهو جالس رواه أحمد والنسائي. وفي رواية لاحمد في هذه القصة: ثم يسلم تسليمة واحدة: السلام عليكم يرفع بها صوته حتى يوقظنا. وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة يسمعناها رواه أحمد. أما حديث عائشة فأخرج نحوه أيضا الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والدارقطني بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسلم تسليمة واحد تلقاء وجهه قال الدارقطني في العلل: رفعه عن زهير بن محمد، عن هشام عن أبيه عنها عمرو بن سلمة وعبد الملك الصنعاني، وخالفهما الوليد فوقفه عليها أو قال عقبة، قال الوليد قلت لزهير: أبلغك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه شئ؟ قال: نعم أخبرني يحيى بن سعيد الانصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبين أن الرواية المرفوعة وهم. وكذا رجح رواية الوقف الترمذي والبزار وأبو حاتم وقال في المرفوع: إنه منكر. وقال ابن عبد البر: لا يصح مرفوعا، ولم يرفعه عن هشام غير زهير وهو ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتج به اه. وزهير لا ينتهي إلى هذه الدرجة في التضعيف فقد قال أحمد: إنه مستقيم الحديث، وقال صالح بن محمد: إنه ثقة صدوق، وقال موسى بن هارون: أرجو أنه صدوق. وقال الدارمي: ثقة له أغاليط كثيرة، ووثقه
[ 342 ]
ابن معين، وقال أبو حاتم: محله الصدق وفي حفظه سوء. وقد أخرج له الشيخان، ولكنه روى الترمذي عن البخاري عن أحمد بن حنبل أنه قال: لأن زهير بن محمد هذا ليس هو الذي يروى عنه بالعراق وكأنه رجل آخر قلبوا اسمه. وقال الحاكم: رواه وهيب عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة مرفوعا وهذا إسناد صحيح. ورواه بقي بن مخلد في مسنده من رواية عاصم عن هشام بن عروة مرفوعا، وهاتان الطريقتان فيهما متابعة لزهير فيقوي حديثه. قال الحافظ: وعاصم عندي هو ابن عمر وهو ضعيف، وهم من زعم أنه ابن سليمان الاحول. وأخرجه ابن حبان في صحيحه والسراج في مسنده عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة باللفظ الذي ذكره المصنف. قال الحافظ: وإسناده على شرط مسلم، ولم يستدركه الحاكم مع أنه أخرج حديث زهير بن محمد انتهى. وقد قدمنا أنه أخرج له البخاري أيضا، فهو على شرط مسلم فقط، وبما ذكرنا تعرف عدم صحة قول العقيلي، ولا يصح في تسليمة واحدة شئ. وكذا قول ابن القيم إنه لم يثبت عنه ذلك من وجه صحيح. وأما حديث ابن عمر فأخرجه أيضا ابن حبان وابن السكن في صحيحيهما، والطبراني من حديث إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر بلفظ: كان يفصل بين الشفع والوتر وقد عقد صاحب مجمع الزوائد لذلك بابا فقال: باب الفصل بين الشفع والوتر، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في الحجرة وأنا في البيت فيفصل بين الشفع والوتر بتسليمة يسمعناها رواه الطبراني في الاوسط وفيه إبراهيم بن سعيد وهو ضعيف انتهى. ولم يذكر في هذا الباب إلا هذا الحديث. (وفي الباب) عن سهل بن سعد عند ابن ماجه بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه. وفي إسناده عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد. وقد قال البخاري: إنه منكر الحديث. وقال النسائي: متروك. وعن سلمة بن الاكوع عند ابن ماجه أيضا بلفظ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى فسلم مرة واحدة. وفي إسناده يحيى بن راشد البصري، قال يحيى: ليس بشئ. وقال النسائي: ضعيف. وعن أنس عند ابن أبي شيبة أن النبي (ص) سلم تسليمة واحدة. وعن الحسن مرسلا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة ذكره ابن أبي شيبة. وقال: حدثنا أبو خالد عن
[ 343 ]
حميد قال: كان أنس يسلم واحدة وحدثنا أبو خالد عن سعيد بن مرزبان قال: صليت خلف ابن أبي ليلى فسلم واحدة، ثم صليت خلف علي فسلم واحدة، وذكر مثله عن أبي وائل، ويحيى بن وثاب، وعمر بن عبد العزيز، والحسن وابن سيرين، والقاسم بن محمد، وعائشة، وأنس، وأبي العالية، وأبي رجاء، وابن أبي أوفى، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وسويد، وقيس بن أبي حازم بأسانيده إليهم، وذكر ذلك عبد الرزاق عن الزهري. قال الترمذي: ورأى قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين وغيرهم تسليمة واحدة في المكتوبة قال: وأصح الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسليمتان، وعليه أكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم انتهى. (وقد احتج) بهذه الاحاديث المذكورة ههنا من قال بمشروعية تسليمة واحدة، وقد قدمنا ذكرهم في الباب الاول، وقد اشتمل حديث عائشة على صفتين من صفات صلاة الوتر، وسيأتي الكلام على ذلك في بابه، وكذلك يأتي الكلام في صلاة الركعتين بعد الوتر. باب في كون السلام فريضا قال النبي (ص): وتحليلها التسليم. وعن زهير بن معاوية، عن الحسن بن الحر، عن القاسم بن مخيمرة قال: أخذ علقمة بيد فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة ثم قال: إذا قلت هذا وقضيت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وقال: الصحيح أن قوله: إذا قضيت هذا فقد قضيت صلاتك من كلام ابن مسعود فصله شبابة عن زهير وجعله من كلام ابن مسعود. وقوله: أشبه بالصواب ممن أدرجه، وقد اتفق من روى تشهد ابن مسعود على حذفه. الحديث الذي أشار إليه المصنف بقوله: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وتحليلها التسليم هو من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد تقدم لفظه وذكر من خرجه، والكلام عليه في باب افتراض افتتاح الصلاة بالتكبير، وهو من جملة ما تمسك به القائلون بوجوب التسليم، لان الاضافة في قوله: وتحليلها تقتضي الحصر فكأنه قال: جميع
[ 344 ]
تحليها التسليم، أي انحصر تحليلها في التسليم لا تحليل لها غيره، وسيأتي ذكر القائلين بالوجوب وذكر الجواب عليهم. وأما حديث ابن مسعود فقال البيهقي في الخلافيات أنه كالشاذ من قول عبد الله، وإنما جعله كالشاذ لان أكثر أصحاب الحسن بن الحر لم يذكروا هذه الزيادة لا من قول ابن مسعود مفصولة من الحديث، ولا مدرجة في آخره، وإنما رواه بهذه الزيادة عبد الرحمن بن ثابت عن الحسن فجعلها من قول ابن مسعود، وزهير بن معاوية عن الحسن فأدرجها في آخر الحديث في قول أكثر الرواة عنه، ورواها شبابة بن سوار عنه مفصولة كما ذكر الدارقطني. وقد روى البيهقي من طريق أبي الاحوص عن ابن مسعود ما يخالف هذه الزيادة بلفظ: مفتاح الصلاة التكبير وانقضاؤها التسليم إذا سلم الامام فقم إن شئت. قال: وهذا الاثر صحيح عن ابن مسعود. وقال ابن حزم: قد صح عن ابن مسعود إيجاب السلام فرضا، وذكر رواية أبي الاحوص هذه عنه. قال البيهقي: إن تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم التشهد لابن مسعود، كان قبل فرض التسليم ثم فرض بعد ذلك، وقد صرح بأن تلك الزيادة المذكورة في حديث الباب مدرجة جماعة من الحفاظ منهم الحاكم والبيهقي والخطيب، وقال البيهقي في المعرفة: ذهب الحفاظ إلى أن هذا وهم من زهير بن معاوية. وقال النووي في الخلاصة: اتفق الحفاظ على أنها مدرجة انتهى. وقد رواه عن الحسن بن الحر حسين الجعفي، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن أبان، فاتفقوا على ترك هذه الزيادة في آخر الحديث، مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وعن غيره عن ابن مسعود على ذلك. (والحديث) يدل على عدم وجوب السلام، وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة والناصر، وروى ذلك الترمذي عن أحمد وإسحاق بن راهويه. ورواه أيضا عن بعض أهل العلم. قال العراقي: وروي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود. وذهب إلى الوجوب أكثر العترة والشافعي، قال النووي في شرح مسلم: وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. (واحتجوا) بحديث تحليلها التسليم، وهو لا ينتهض للاحتجاج به إلا بعد تسليم تأخره عن حديث المسئ، لما عرفناك في شرحه من أنه لا يثبت الوجوب إلا بما علم تأخره عنه، لان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بالاجماع، لاسيما وقد ثبت في بعض الروايات: فإذا فعلت ذلك فقدت تمت صلاتك كما قدمنا ذلك. إذا عرفت هذا تبين لك أن هذا الحديث لا يكون حجة يجب التسليم لها إلا بعد العلم بتأخره. ويؤيد
[ 345 ]
القول بعدم الوجوب حديث ابن مسعود المذكور في الباب، وحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أحدث الرجل وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته أخرجه أبو داود والترمذي وقال: ليس إسناده بذاك القوي وقد اضطربوا في إسناده، وإنما أشار إلى عدم قوة إسناده لان فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي، وقد ضعفه بعض أهل العلم. وقال النووي في شرح المهذب: إنه ضعيف باتفاق الحفاظ وفيه نظر، فإنه قد وثقه غير واحد منهم زكريا الساجي وأحمد بن صالح المصري، وقال يعقوب بن سفيان: لا بأس به، وقال يحيى بن معين: ليس به بأس. وأما الاستدلال للوجوب بحديث سمرة بن جندب المتقدم فهو أيضا لا ينتهض لذلك إلا بعد تسليم تأخره لما عرفت على أنه أخص من الدعوى، لان غاية ما فيه أمر المؤتمين بالرد على الامام والتسليم على بعضهم بعضا، وليس فيه ذكر المنفرد والامام، على أن الامر بالرد على الامام صيغته غير صيغة السلام الذي للخروج الذي هو محل النزاع، فلا يصلح للتمسك به على الوجوب. وأما اعتذار صاحب ضوء النهار عن الحديث بهجر ظاهره بإسقاط التحاب المذكور فيه فغير صحيح، لان التحاب المأمور به هو الموالاة بين المؤمنين وهي واجبة فلم يهجر ظاهره. وقد احتج المهدي في البحر بقوله تعالى: * (ويسلموا تسليما) * (النساء: 65) وبقوله تعالى: * (فسلموا) * (النور: 61) وهو غفلة عن سببهما. (فإن قال) الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لزمه إيجاب السلام في غير الصلاة وقد أجمع الناس على عدم وجوبه، فإن قال: الاجماع صارف عن وجوبه خارج الصلاة. قلنا: سلمنا فحديث المسئ صارف عن الوجوب في محل النزاع مع عدم العلم بالتأخر. باب في الدعاء والذكر بعد الصلاة عن ثوبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام رواه الجماعة إلا البخاري. قوله: إذا انصرف قال النووي: المراد بالانصراف السلام. قوله: استغفر ثلاثا فيه مشروعية الاستغفار ثلاثا، وقد استشكل استغفاره صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه مغفور له. قال ابن سيد الناس: هو وفاء بحق العبودية وقيام بوظيفة الشكر كما
[ 346 ]
قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ وليبين للمؤمنين سنته فعلا، كما بينها قولا في الدعاء والضراعة ليقتدي به في ذلك. قوله: أنت السلام ومنك السلام السلام الاول من أسماء الله تعالى، والثاني السلامة. قوله: تباركت تفاعلت من البركة وهي الكثرة والنماء. ومعناه تعاظمت إذ كثرت صفات جلالك وكمالك. [ رح 804 ] وعنعبد الله بن الزبير أنه كان يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. قوله: في دبر كل صلاة بضم الدال على المشهور في اللغة والمعروف في الروايات قاله النووي. وقال أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت: دبر كل شئ بفتح الدال آخر أوقاته من الصلاة وغيرها، قال: هذا هو المعروف في اللغة، وأما الجارحة فبالضم. وقال الداودي عن ابن الاعرابي: دبر الشئ بالضم والفتح آخر أوقاته، والصحيح الضم كما قال النووي، ولم يذكر الجوهري وآخرون غيره. وفي القاموس: الدبر بضمتين نقيض القبل، ومن كل شئ عقبه، وبفتحتين الصلاة في آخر وقتها. قوله: حين يسلم فيه أنه ينبغي أن يكون هذا الذكر واليا للسلام مقدما على غيره لتقييد القول به بوقت التسليم. (والحديث) يدل على مشروعية هذا الذكر بعد الصلاة مرة واحدة لعدم ما يدل على التكرار. وعن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد متفق عليه. قوله: في دبر تقدم ضبطه وتفسيره. قوله: له الملك وله الحمد قال الحافظ في الفتح: زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة: يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير إلى قدير ورواته موثقون، وثبت مثله عند البزار من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند صحيح، لكن في القول إذا أصبح وإذا أمسى انتهى. قوله: ولا ينفع ذا الجد منك الجد قد تقدم ضبط ذلك وتفسيره في باب ما يقول في رفعه من الركوع. (والحديث) يدل
[ 347 ]
على مشروعية هذا الذكر بعد الصلاة، وظاهره أنه يقول ذلك مرة، ووقع عند أحمد والنسائي وابن خزيمة أنه كان يقول: الذكر المذكور ثلاث مرات. قال الحافظ في الفتح: وقد اشتهر على الالسنة في الذكر المذكور زيادة: ولا راد لما قضيت وهو في مسند عبد بن حميد من رواية معمر عن عبد الملك بهذا الاسناد لكن حذف. قوله: ولا معطي لما منعت ووقع عند الطبراني تاما من وجه آخر. وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خصلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل يسبح الله في دبر كل صلاة عشرا، ويكبره عشرا، ويحمده عشرا. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعقدها بيده، فتلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، وإذا أوى إلى فراشه سبح وحمد وكبر مائة مرة، فتلك مائة باللسان وألف بالميزان رواه الخمسة وصححه الترمذي. الحديث ذكره الترمذي في الدعوات وزاد فيه النسائي بعد قوله: وألف بالميزان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأيكم يعمل في يوم وليلة ألفين وخمسمائة سيئة، قيل: يا رسول الله وكيف لا يحصيها؟ قال: إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، ويأتيه عند منامه فينيمه. قوله: خصلتان هما المفسرتان بقوله في الحديث: يسبح الله وبقوله: وإذا أوى إلى فراشه. قوله: يسبح الله في دبر كل صلاة عشرا اعلم أن الاحاديث وردت بأعداد مختلفة في التسبيح والتكبير والتحميد وسنشير ههنا إليها. (أما التسبيح) فورد كونه عشرا كما في حديث الباب، وحديث أنس عند الترمذي والنسائي، وحديث سعد بن أبي وقاص عند النسائي. وعلي بن أبي طالب عند أحمد، وأم مالك الانصارية عند الطبراني. وورد ثلاثا وثلاثين كما في حديث ابن عباس عند الترمذي والنسائي، وحديث كعب بن عجرة عند مسلم والترمذي والنسائي، وحديث أبي هريرة عند الشيخين، وحديث أبي الدرداء عند النسائي. وورد خمسا وعشرين كما في حديث زيد بن ثابت عند النسائي، وعبد الله بن عمر عند النسائي أيضا. وورد إحدى عشرة كما في بعض طرق حديث ابن عمر عند البزار. وورد ستا ما في بعض طرق حديث أنس. وورد مرة كما في بعض طرق حديث أنس أيضا عند البزار. وورد سبعين كما في حديث أبي زميل عند الطبراني في الكبير وفي إسناده جهالة. وورد مائة كما في بعض طرق حديث
[ 348 ]
أبي هريرة عند النسائي وفيه يعقوب بن عطاء بن أبي رباح وهو ضعيف. (وأما التكبير) فورد كونه أربعا وثلاثين كما في حديث ابن عباس عند الترمذي والنسائي، وحديث كعب بن عجرة عند مسلم والترمذي والنسائي وأبي الدرداء عند النسائي كما تقدم في التسبيح، وأبي هريرة عند مسلم في بعض الروايات، وأبي ذر عند ابن ماجه، وابن عمر عند النسائي وزيد بن ثابت عند النسائي. وعن عبد الله بن عمر وعند الترمذي والنسائي. وورد ثلاثا وثلاثين من حديث أبي هريرة عند الشيخين. وعن رجل من الصحابة عند النسائي في عمل اليوم والليلة. وورد خمسا وعشرين كما في حديث زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر عند من تقدم في التسبيح خمس وعشرون. وورد إحدى عشرة كما في بعض طرق حديث ابن عمر عند البزار كما تقدم في التسبيح، وعشرا كما في حديث الباب. وعن أنس وسعد بن أبي وقاص وعلي وأم مالك عند من تقدم في تسبيح هذا المقدار، ومائة كما في حديث من ذكرنا في تسبيح هذا المقدار عند من تقدم. (وأما التحميد) فورد كونه ثلاثا وثلاثين، وخمسا وعشرين، وإحدى عشرة، وعشرا ومائة، كما في الاحاديث المذكورة في أعداد التسبيح وعند من رواها. وكل ما ورد من هذه الاعداد فحسن، إلا أنه ينبغي الاخذ بالزائد فالزائد. قوله: فتلك خمسون ومائة باللسان وذلك لان بعد كل صلاة من الصلوات الخمس ثلاثين تسبيحة وتحميدة وتكبيرة، وبعد جميع الخمس الصلوات مائة وخمسين، وقد صرح بهذا النسائي في عمل اليوم والليلة من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ: ما يمنع أحدكم أن يسبح دبر كل صلاة عشرا ويكبر عشرا ويحمد عشرا فذلك في خمس صلوات خمسون ومائة ثم ساق الحديث بنحو حديث عبد الله بن عمر. قوله: وألف وخمسمائة في الميزان وذلك لان الحسنة بعشرة أمثالها، فيحصل من تضعيف المائة والخمسين عشر مرات ألف وخمسمائة. قوله: وألف بالميزان لمثل ما تقدم. (والحديث) يدل على مشروعية التسبيح والتكبير والتحميد بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة وتكريره عشر مرات. قال العراقي في شرح الترمذي: كان بعض مشايخنا يقول: إن هذه الاعداد الورادة عقب الصلاة أو غيرها من الاذكار الواردة في الصباح والمساء وغير ذلك إذا ورد لها عدد مخصوص مع ثواب مخصوص فزاد الآتي بها في أعدادها عمدا، لا يحصل له ذلك الثواب الوارد على الاتيان بالعدد الناقص، فلعل لتلك الاعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة تلك الاعداد وتعديها، ولذلك نهى عن الاعتداء في الدعاء وفيما قاله نظر، لانه قد أتى
[ 349 ]
بالمقدار الذي رتب على الاتيان به ذلك الثواب، فلا تكون الزيادة عليه مزيلة له بعد الحصول بذلك العدد الوارد. وقد ورد في الاحاديث الصحيحة ما يدل على ذلك، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك الحديث. ولمسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه. وقد يقال: إن هذا واضح في الذكر الواحد الوارد بعدد مخصوص. وأما الاذكار التي يعقب كل عدد منها عدد مخصوص من نوع آخر كالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات فقد يقال إن الزيادة في كل عدد زيادة لم يرد بها نص يقطع التتابع بينه وبين ما بعده من الاذكار، وربما كان لتلك الاعداد المتوالية حكمة خاصة، فينبغي أن لا يزاد فيها على العدد المشروع. قال العراقي: وهذا محتمل لا تأباه النصوص الواردة في ذلك، وفي التعبد بالالفاظ الواردة في الاذكار والادعية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم للبراء: قل ونبيك الذي أرسلت انتهى. وهذا مسلم في التعبد بالالفاظ، لان العدول إلى لفظ آخر لا يتحقق معه الامتثال. وأما الزيادة في العدد فالامتثال متحقق، لان المأمور به قد حصل على الصفة التي وقع الامر بها، وكون الزيادة عليه مغيرة له غير معقول. وقيل: إن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الامر الوارد ثم أتى بالزيادة فقد حصل الامتثال، وإن زاد بغير نية لم يعد ممتثلا. وعن سعد بن أبي وقاص أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر رواه البخاري والترمذي وصححه. قوله: من البخل بضم الباء الموحدة وإسكان الخاء المعجمة وبفتحهما وبضمهما وبفتح الباء وإسكان الخاء ضد الكرم، ذكر معنى ذلك في القاموس، وقد قيده بعضهم
[ 350 ]
في الحديث بمنع ما يجب إخراجه من المال شرعا أو عادة ولا وجه له، لان البخل بما ليس بواجب من غرائز النقص المضادة للكمال، فالتعوذ منها حسن بلا شك، فالاولى تبقية الحديث على عمومه وترك التعرض لتقييده بما لا دليل عليه. قوله: والجبن بضم الجيم وسكون الباء وتضم المهابة للاشياء والتأخر عن فعلها، وإنما تعوذ منه صلى الله عليه وآله وسلم لانه يؤدي إلى عدم الوفاء بفرض الجهاد والصدع بالحق وإنكار المنكر، ويجر إلى الاخلال بكثير من الواجبات. قوله: إلى أرذل العمر هو البلوغ إلى حد في الهرم يعود معه كالطفل في سخف العقل وقلة الفهم وضعف القوة. قوله: من فتنة الدنيا هي بالاغترار بشهواتها المفضي إلى ترك القيام بالواجبات، وقد تقدم الكلام على ذلك في شرح حديث التعوذ من الاربع، لان فتنة الدنيا هي فتنة المحيا. قوله: من عذاب القبر قد تقدم شرحه في شرح حديث التعوذ من الاربع أيضا، وإنما خص صلى الله عليه وآله وسلم هذه المذكورات بالتعوذ منها، لانها من أعظم الاسباب المؤدية إلى الهلاك باعتبار ما يتسبب عنها من المعاصي المتنوعة. وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: إذا صلى الصبح حين يسلم اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا رواه أحمد وابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا ابن أبي شيبة، عن شبابة، عن شعبة، عن موسى بن أبي عائشة، عن مولى لام سلمة، عن أم سلمة. ورواه ابن ماجه في سننه عن أبي بكر بن أبي شيبة بهذا الاسناد ورجاله ثقات لولا جهالة مولى أم سلمة، وإنما قيد العلم بالنافع والرزق بالطيب والعمل بالمتقبل، لان كل علم لا ينفع، فليس من عمل الآخرة، وربما كان من ذرائع الشقاوة، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يتعوذ من علم لا ينفع. وكل رزق غير طيب موقع في ورطة العقاب، وكل عمر غير متقبل إتعاب للنفس في غير طائل. اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ورزق لا يطيب، وعمل لا يتقبل. وعن أبي أمامة قال: قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات رواه الترمذي. الحديث حسنه الترمذي وهومن طريق محمد بن يحيى الثقفي المروزي عن حفص ابن غياث، عن ابن جريج، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تصريح بأن جوف الليل ودبر الصلوات المكتوبات من أوقات الاجابة. وقد أخرج مسلم من
[ 351 ]
حديث جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة فيمكن أن يقيد مطلق جوف الليل المذكور في حديث الباب بساعة من ساعاته كما في حديث جابر. وقد وردت أذكار عقب الصلوات غير ما ذكره المصنف. منها حديث أبي أمامة عند النسائي وصححه ابن حبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت. وزاد الطبراني: وقل هو الله أحد ومنها ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول دبر كل صلاة: اللهم ربنا ورب كل شئ أنا شهيد إنك أنت الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شئ أنا شهيد أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شئ أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة، اللهم ربنا ورب كل شئ اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والاكرام اسمع واستجب، الله أكبر الاكبر، اللهم نور السموات والارض، الله أكبر الاكبر حسبي ونعم الوكيل، الله أكبر الاكبر. وفي إسناده داود الطفاوي، قال ابن معين: ليس بشئ. وأخرج أبو داود من حديث علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر. وأخرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح. أخرج أبو داود والنسائي والترمذي من حديث عقبة بن عامر أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة. وقال الترمذي: حديث غريب. وأخرج مسلم من حديث البراء أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول بعد الصلاة: رب قني عذابك يوم تبعث عبادك. ومنها عند الطبراني في الاوسط بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول دبر كل صلاة: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل أعذني من حر النار وعذاب القبر ومنها عند أحمد والطبراني في الكبير بلفظ: اللهم أصلح لي ديني، ووسع لي داري، وبارك لي في رزقي. وعند الترمذي: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وأخرجه أيضا أبو بكر بن
[ 352 ]
أبي شيبة من حديث أبي سعيد. وعند الطبراني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى وفرغ من صلاته يمسح يمينه على رأسه ويقول: بسم الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، اللهم أذهب عني الهم والحزن وعند النسائي التهليل مائة مرة. هذه الاذكار وردت في أدبار الصلوات غير مقيدة ببعضها. وورد عقب المغرب والفجر بخصوصهما عند أحمد والنسائي: من قال قبل أن ينصرف منهما: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير عشر مرات، كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، وكان يومه في حرز من الشيطان. وبعدهما أيضا قبل أن يتكلم عند أبي داود وابن حبان في صحيحه: اللهم أجرني من النار سبع مرات. وعقب صلاة الفجر عند الترمذي وقال حسن صحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير عشر مرات كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه، وحرس من الشيطان، لم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله عزوجل. وأخرجه أيضا النسائي وزاد فيه: بيده الخير وعقب المغرب عند الترمذي وحسنه والنسائي من حديث عمارة بن شبيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير عشر مرات على أثر المغرب بعث الله له ملائكة يحفظونه من الشيطان الرجيم حتى يصبح ويكتب له بها عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات موبقات، وكانت له بعدل عشر رقبات مؤمنات وفي إسناده رشدين بن سعد وفيه مقال. باب الانحراف بعد السلام وقدر اللبث بينهما واستقبال المأمومين عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه.
[ 353 ]
الحديث قد تقدم شرح ألفاظه في الباب الاول، وساقه المصنف ههنا للاستدلال به على مشروعية قيام الامام من موضعه الذي صلى فيه بعد سلامه، وقد ذهب بعض المالكية إلى كراهة المقام للامام في مكان صلاته بعد السلام. ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق من حديث أنس قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليت وراء أبي بكر فكان إذا سلم وثب فكأنما يقوم عن رضفة ويؤيده أيضا ما سيأتي في باب لبث الامام أنه كان يمكث صلى الله عليه وآله وسلم في مكانه يسيرا قبل أن يقوم لكي ينصرف النساء، فإنه يشعر بأن الاسراع بالقيام هو الاصل والمشروع، وقد عورض هذا بما تقدم من الاحاديث الدالة على استحباب الذكر بعد الصلاة، وأنت خبير بأنه لا ملازمة بين مشروعية الذكر بعد الصلاة والقعود في المكان الذي صلى المصلي تلك الصلاة فيه، لان الامتثال يحصل بفعله بعدها، سواء كان ماشيا أو قاعدا في محل آخر، نعم ما ورد مقيدا نحو قوله: وهو ثان رجليه. وقوله: قبل أن ينصرف كان معارضا، ويمكن الجمع بحمل مشروعية الاسراع على الغالب، كما يشعر به لفظ كان أو على، ما عدا ما ورد مقيدا بذلك من الصلوات، أو على أن اللبث مقدار الاتيان بالذكر المقيد لا ينافي الاسراع، فإن اللبث مقدار ما ينصرف النساء ربما اتسع لاكثر من ذلك. وعن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه رواه البخاري. وعن البراء بن عازب قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه فيقبل علينا بوجهه رواه مسلم وأبو داود. الحديث الا وذكره البخاري في الصلاة بهذا اللفظ، وذكره في الجنائز مطولا، وهو يدل على مشروعية استقبال الامام للمؤتمن بعد الفراغ من الصلاة والمواظبة على ذلك، لما يشعر به لفظ كان كما تقرر في الاصول. قال النووي: المختار الذي عليه الاكثرون والمحققون من الاصوليين أن لفظة كان لا يلزمها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعل ماض تدل على وقوعه مرة انتهى. قيل: والحكمة في استقبال المؤتمين أن يعلمهم ما يحتاجون إليه، وعلى هذا يختص بمن كان في مثل حاله صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاحية للتعليم والموعظة. وقيل: الحكمة أن يعرف الداخل انقضاء الصلاة إذ لو استمر الامام
[ 354 ]
على حاله وهم أنه في التشهد مثلا. وقال الزين بن المنير: استدبار الامام المأمومين إنما هو لحق الامامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب، واستقبالهم حينئذ يرفع الخيلاء والترفع على المأمومين. (والحديث الثاني) يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل على من في جهة الميمنة، ويمكن الجمع بين الحديثين، بأنه كان تارة يستقبل جميع المؤتمين وتارة يستقبل أهل الميمنة، أو يجعل حديث البراء مفسرا لحديث سمرة، فيكون المراد بقوله: أقبل علينا أي على بعضنا أو أنه كان يصلي في الميمنة، فقال ذلك باعتبار من يصلي في جهة اليمين. (وفي الباب) عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى لنا صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس الحديث أخرجه البخاري، والمراد بقوله انصرف أي من صلاته أو مكانه، كذا قال الحافظ، وهو على التفسير الاول من أحاديث الباب. وكذا ذكره البخاري في باب يستقبل الامام الناس إذا سلم. ومن أحاديث الباب ما أخرجه البخاري عن أنس قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل ثم خرج علينا فلما صلى أقبل علينا بوجهه. وعن يزيد بن الاسود قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع قال: فصلى بنا صلاة الصبح ثم انحرف جالسا فاستقبل الناس بوجهه وذكر قصة الرجلين اللذين لم يصليا قال: ونهض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونهضت معهم وأنا يومئذ أشب الرجال وأجلده، قال: فما زلت أزحم الناس حتى وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذت بيده فوضعتها إما على وجهي أو صدري، قال: فما وجدت شيئا أطيب ولا أبرد من يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وهو يومئذ في مسجد الخيف رواه أحمد. وفي رواية أيضا: أنه صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الحديث قال: ثم ثار الناس يأخذون بيده يمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فمسحت بها وجهي فوجدتها أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك. الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح لكن بلفظ: شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجته فصليت معه الصبح في مسجد الخيف فلما قضى صلاته وانحرف ثم ذكروا قصة الرجلين، وفي إسناده جابر بن
[ 355 ]
يزيد بن الاسود السوائي عن أبيه، روى عنه يعلى بن عطاء. قال ابن المديني: لم يرو عنه غيره وقد وثقه النسائي. قوله: فاستقبل الناس بوجهه فيه دليل على مشروعية ذلك وقد تقدم الكلام فيه. قوله: وذكر قصة الرجلين اللذين لم يصليا لفظهما عند الترمذي وأبي داود والنسائي: فلما قضى صلى الله عليه وآله وسلم صلاته وانحرف إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه فقال: علي بهما، فجئ بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله إنا كنا صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة. وسيأتي الكلام على ذلك في أبواب الجماعة. قوله: وأجلده جعل ضمير الجماعة مفردا لغة قليلة، ومنه هو أحسن الفتيان وأجمله. ومنه أيضا قول الشاعر: [ شع ] إن الامور إذا الاحداث دبرها * دون الشيوخ ترى في بعضها خللا قوله: فوضعتها إما على وجهي أو صدري فيه مشروعية التبرك بملامسة أهل الفضل لتقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم له على ذلك. وكذلك قوله: ثم ثار الناس بيده يمسحون بها وجوههم. [ رح 814 ] وعن أبي جحيفة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة تمر من ورائها المرأة، وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك رواه أحمد والبخاري. الحديث أخرجه البخاري مطولا ومختصرا في مواضع من كتابه، ذكره في الطهارة وفي باب الصلاة في الثوب الاحمر في أوائل كتاب الصلاة، وفي الاذان وفي أبواب السترة في موضعين، وفي صفة النبي صلى الله وسلم في موضعين. وفي اللباس في موضعين. قوله: إلى البطحاء يعني بطحاء مكة وهو موضع خارج مكة وهو الذي يقال له الابطح. وقوله: بالهاجرة يستفاد منه أنه جمع جمع تقديم، ويحتمل أن يكون قوله: والعصر ركعتين أي بعد دخول وقتها. قوله: عنزة هي الحربة القصيرة. قوله: تمر من ورائها المرأة فيه متمسك لمن قال: إن المرأة لا تقطع الصلاة، وسيأتي الكلام على ذلك. قوله: فيمسحون بها وجوههم فيه مشروعية التبرك كما تقدم. (والحديث) لا يطابق الترجمة التي
[ 356 ]
ذكرها المصنف، لان قيام الناس إليه لا يستلزم أنه باق في المكان الذي صلى فيه فضلا عن استقباله للمصلين. باب جواز الانحراف عن اليمين والشمال عن ابن مسعود قال: لا يجعلن أحدكم للشيطان شيئا من صلا ته يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا ينصرف عن يساره. وفي لفظ: أكثر انصرافه عن يساره رواه الجماعة إلا الترمذي. وعن أنس قال: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه رواه مسلم والنسائي. وعن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤمنا فينصرف عن جانبيه جميعا على يمينه وعلى شماله رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي. وقال: صح الامران عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الحديث الثالث حسنه الترمذي، وصححه ابن عبد البر في الاستيعاب، وذكره عبد الباقي بن قانع في معجمه من طرق متعددة وفي إسناده قبيصة بن هلب، وقد رماه بعضهم بالجهالة، ولكنه وثقه العجلي وابن حبان، ومن عرف حجة على من لم يعرف. (وفي الباب) عن عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه بلفظ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة. قوله في الحديث الاول: شيئا من صلاته في رواية مسلم جزءا من صلاته. قوله: يرى بفتح أوله أي يعتقد، ويجوز الضم أي يظن. قوله: أن حقا عليه هو بيان للجعل في قوله: لا يجعلن. قوله: أن لا ينصرف أي يرى أن عدم الانصراف حق عليه. وظاهر قوله في حديث ابن مسعود: أكثر انصرافه عن يساره وقوله في حديث أنس: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينصرف عن يمينه المنافاة، لان كل واحد منهما قد استعمل فيه صيغة أفعل التفضيل. قال النووي: ويجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كل منهما بما أعتقد أنه الاكثر، وإنما كره ابن مسعود أن يعتقد وجوب الانصراف عن اليمين. قال الحافظ: ويمكن الجمع بينهما بوجه آخر وهو أن يحمل حديث
[ 357 ]
ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد، لان حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت من جهة يساره، ويحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر، ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود، لانه أعلم وأسن وأجمل وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأقرب إلى مواقفه في الصلاة من أنس. وبأن في إسناد حديث أنس من تكلم فيه وهو السدي. وبأن حديث ابن مسعود متفق عليه. وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال لان حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت على جهة يساره كما تقدم. قال: ثم ظهر لي أنه يمكن الجمع بين الحديثين بوجه آخر وهو أن من قال: كان أكثر انصرافه عن يساره نظر إلى هيئته في حالة الصلاة، ومن قال: كان أكثر انصرافه عن يمينه نظر إلى هيئته في حال استقباله القوم بعد سلامه من الصلاة، فعلى هذا لا يختص الانصراف بجهة معينة، ومن ثم قال العلماء: يستحب الانصراف إلى جهة حاجته، لكن قالوا: إذا استوت الجهتان في حقه فاليمين أفضل لعموم الاحاديث المصرحة بفضل التيامن. قال ابن المنير فيه: إن المندوبات قد تنقلب مكروهات إذا رفعت عن رتبتها، لان التيامن مستحب في كل شئ، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقدوا وجوبه أشار إلى كراهته. قال الترمذي بعد أن ساق حديث هلب وعليه العمل عند أهل العلم قال: ويروى عن علي أنه قال: إن كانت حاجته عن يمينه أخذ عن يمينه، وإن كانت حاجته عن يساره أخذ عن يساره. باب لبث الامام بالرجال قليلا ليخرج من صلى معه من النساء عنأم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه وهو يمكث في مكانه يسيرا قبل أن يقوم قالت: فنرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال رواه أحمد والبخاري. الحديث فيه أنه يستحب للامام مراعاة أحوال المأمومين والاحتياط في الاجتناب ما قد يفضي إلى المحذور، واجتناب مواقع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت، ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا رجالا فقط لا يستحب هذا المكث، وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا
[ 358 ]
سلم لا يقعد إلا قدر ما يقول: اللهم أنت السلام الحديث المتقدم، وقد تقدم الكلام في ذلك. (وفي الحديث) أنه لا بأس بحضور النساء الجماعة في المسجد. قوله: فنرى بضم النون أي نظن. باب جواز عقد التسبيح باليد وعده بالنوى ونحوه عن بسيرة وكانت من المهاجرات قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس ولا تغفلن فتنسين الرحمة، واعقدن بالانامل فإنهن مسؤولات مستنطقات رواه أحمد والترمذي وأبو داود. وعن سعد بن أبي وقاص: أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به فقال: أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل، سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الارض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك رواه أبو داود والترمذي. وعن صفية قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها فقال: لقد سبحت بهذا، ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به؟ فقالت: علمني، فقال قولي: سبحان الله عدد خلقه رواه الترمذي. أما الحديث الاول فأخرجه أيضا الحاكم، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث هانئ بن عثمان، وقد صحح السيوطي إسناد هذا الحديث. وأما الحديث الثاني فأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه وحسنه الترمذي. وأما الحديث الثالث فأخرجه أيضا الحاكم وصححه السيوطي. (والحديث الاول) يدل على مشروعية عقد الانامل بالتسبيح، وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عمرو أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله وآله وسلم يعقد التسبيح زاد في رواية لابي داود وغيره: بيمينه وقد علل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في حديث الباب بأن الانامل مسؤولات مستنطقات، يعني أنهن يشهدن بذلك، فكان عقدهن بالتسبيح من هذه الحيثية أولى من السبحة والحصى. (والحديثان الآخران) يدلان على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى، وكذا
[ 359 ]
بالسبحة لعدم الفارق، لتقريره صلى الله عليه وآله وسلم للمرأتين على ذلك. وعدم إنكاره، والارشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز، وقد وردت بذلك آثار، ففي جزء هلال الحفار من طريق معتمر بن سليمان عن أبي صفية مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يوضع له نطع ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار ثم يرفع، فإذا صلى أتى به فيسبح حتى يمسي، وأخرجه الامام أحمد في الزهد قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس بن عبيد، عن أمه قالت: رأيت أبا صفية رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان خازنا قالت: فكان يسبح بالحصى. وأخرج ابن سعد عن حكيم بن الديلمي أن سعد بن أبي وقاص كان يسبح بالحصى. وقال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا عبد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل عن جابر، عن امرأة خدمته، عن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب أنها كانت تسبح بخيط معقود فيها. وأخرج عبد الله ابن الامام أحمد في زوائد الزهد عن أبي هريرة أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح. وأخرج أحمد في الزهد عن القاسم بن عبد الرحمن قال: كان لابي الدرداء نوى من العجوة في كيس، فكان إذا صلى الغداة أخرجها واحدة واحدة يسبح بهن حتى ينفذهن. وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة أنه كان يسبح بالنوى المجموع. وأخرج الديلمي في مسند الفردوس من طريق زينب بنت سليمان بن علي، عن أم الحسن بنت جعفر، عن أبيها عن جدها، عن علي رضي الله عنه مرفوعا: نعم المذكر السبحة. وقد ساق السيوطي آثارا في الجزء الذي سماه المنحة في السبحة وهو من جملة كتابه المجموع في الفتاوى وقال في آخره: ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة، بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون ذلك مكروها، انتهى. (وفي الحديثين) الآخرين فائدة جليلة وهي أن الذكر يتضاعف ويتعدد بعدد ما أحال الذاكر على عدده، وإن لم يتكرر الذكر في نفسه، فيحصل مثلا على مقتضى هذين الحديثين لمن قال مرة واحدة: سبحان الله عدد كل شئ من التسبيح ما لا يحصل لمن كرر التسبيح ليالي وأياما بدون الاحالة على عدد، وهذا مما يشكل على القائلين أن الثواب على قدر المشقة المنكرين للتفضل الثابت بصرائح الادلة، وقد أجابوا عن هذين الحديثين وما شابههما من نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من فطر صائما كان له مثل أجره. من عزى مصابا كان له مثل أجره بأجوبة متعسفة متكلفة.
[ 360 ]
[ رم ] أبواب ما يبطل الصلاة وما يكره ويباح فيها باب النهي عن الكلام في الصلاة عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: * (وقوموا لله قانتين) * (البقرة: 238) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وللترمذي فيه: كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة. الحديث قال الترمذي: حسن صحيح. (وفي الباب) عن جابر بن عبد الله عند الشيخين، وعن عمار عند الطبراني، وعن أبي أمامة عند الطبراني أيضا، وعن أبي سعيد عند البزار، وعن معاوية بن الحكم وابن مسعود وسيأتيان. (والحديث) يدل على تحريم الكلام في الصلاة، ولا خلاف بين أهل العلم أن من تكلم في صلاته عامدا عالما فسدت صلاته. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدا وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة، واختلفوا في كلام الساهي والجاهل. وقد حكى الترمذي عن أكثر أهل العلم أنهم سوموا بين كلام الناسي والعامد والجاهل، وإليه ذهب الثوري وابن المبارك، حكى ذلك الترمذي عنهما، وبه قال النخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة، وهو إحدى الروايتين عن قتادة، وإليه ذهبت الهادوية. وذهب قوم إلى الفرق بين كلام الناسي والجاهل وبين كلام العامد، وقد حكى ذلك ابن المنذر عن ابن مسعود، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، ومن التابعين عن عروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وقتادة في إحدى الروايتين عنه، وحكاه الحازمي عن عمرو بن دينار. وممن قال به مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور، وابن المنذر، وحكاه الحازمي عن نفر من أهل الكوفة، وعن أكثر أهل الحجاز وأكثر أهل الشام. وعن سفيان الثوري وهو إحدى الروايتين عنه. وحكاه النووي في شرح مسلم عن الجمهور. (استدل الاولون) بحديث الباب وسائر الاحاديث المصرحة بالنهي عن التكلم في الصلاة، وظاهرها عدم الفرق بين العامد والناسي والجاهل. (واحتج) الآخرون لعدم فساد صلاة الناسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم في حال السهو، وبنى عليه كما في حديث ذي اليدين، وبما روى الطبراني في الاوسط
[ 361 ]
من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم في الصلاة ناسيا فبنى على ما صلى. وبحديث: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان الذي أخرجه ابن ماجه وابن حبان والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم بنحو هذا اللفظ. (واحتجوا) لعدم فساد صلاة الجاهل بحديث معاوية بن الحكم الذي سيأتي، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره بالاعادة. وأجيب عن ذلك بأن عدم حكاية الامر بالاعادة لا يستلزم العدم، وغايته أنه لم ينقل إلينا فيرجع إلى غيره من الادلة كذا قيل، ويجاب أيضا عن الاستدلال بحديث: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، أن المراد رفع الاثم لا الحكم، فإن الله أوجب في قتل الخطأ الكفارة، على أن الحديث مما لا ينتهض للاحتجاج به. وقد استوفى الحافظ الكلام عليه في باب شروط الصلاة من التلخيص، ويجاب عن الاحتجاج بحديث ذي اليدين بأن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وقع وهو غير متصل، وبناؤه على ما قد فعل قبل الكلام لا يستلزم أن يكون ما وقع قبله منها. قوله في الحديث: حتى نزلت: وقوموا لله قانتين فيه إطلاق القنوت على السكوت. قال زين الدين في شرح الترمذي: وذكر ابن العربي أن له عشرة معان قال: وقد نظمتها في بيتين بقولي: [ شع ] ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد * مزيدا على عشر معاني مرضية [ / شع ] [ شع ] دعاء خشوع والعبادة طاعة * إقامتها إقرارنا بالعبودية [ / شع ] [ شع ] سكوت صلاة والقيام وطوله * كذاك دوام الطاعة الرابح الفيه [ / شع ] قوله: ونهينا عن الكلام هذه الزيادة ليست للجماعة كما يشعر به كلام المصنف، وإنما زادها مسلم وأبو داود. وقد استدل بزيادتها على مسألة أصولية، قال ابن العربي. قوله: أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام يعطي بظاهره أن الامر بالشئ ليس نهيا عن ضده، والكلام على ذلك مبسوط في الاصول. قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث: وهذا يدل على أن تحريم الكلام كان بالمدينة بعد الهجرة، لان زيدا مدني، وقد أخبر أنهم كانوا يتكلمون خلف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة إلى أن نهوا، انتهى. ويؤيد ذلك أيضا اتفاق المفسرين على أن قوله تعالى: * (وقوموا لله قانتين) * (البقرة: 238) نزلت بالمدينة، ولكنه يشكل على ذلك حديث ابن مسعود الآتي بعد هذا، فإن فيه أنه لما رجع من عند النجاشي كان تحريم الكلام، وكان رجوعه من الحبشة من عند النجاشي بمكة قبل الهجرة، وقد أجاب عن ذلك ابن حبان في صحيحه فقال: توهم من لم يطلب
[ 362 ]
العلم من مظانه أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة، قال: وليس مما يذهب إليه الوهم فيه في شئ منه، وذلك لان زيد بن أرقم كان من الانصار من الذين أسلموا بالمدينة وصلوا بها قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا يصلون بالمدينة كما يصلي المسلمون بمكة في إباحة الكلام في الصلاة لهم، فلما نسخ ذلك بمكة نسخ كذلك بالمدينة، فحكى زيد ما كانوا عليه لا أن زيدا حكى ما لم يشهده في الصلاة، وهذا الجواب يرده قول زيد المتقدم: كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأيضا قد ذكر ابن حبان نفسه أن نسخ الكلام في الصلاة كان عند رجوع ابن مسعود من أرض الحبشة قبل الهجرة بثلاث سنين، وإذا كان كذلك فلم يكن الانصار حينئذ قد صلوا ولا أسلموا، فإن إسلام من أسلم منهم كان حين أتى النفر الستة من الخزرج عند العقبة فدعاهم إلى الله فآمنوا، ثم جاء في الموسم الثاني منهم اثنا عشر رجلا فبايعوه وهي بيعة العقبة الاولى، ثم جاؤوا في الموسم الثالث فبايعوه بيعة العقبة الثانية، ثم هاجر إليهم في شهر ربيع الاول، فكان إسلامهم قبل الهجرة بسنتين وثلاثة أشهر. (وأجاب العراقي) عن ذلك الاشكال بأن الرواية الصحيحة المتفق عليها في حديث ابن مسعود هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجابه بقوله: إن في الصلاة شغلا، فيحتمل أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى ذلك منه اجتهادا قبل نزول الآية. قال: وأما الرواية التي فيها أن الله قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة فلا تقاوم الرواية الاولى للاختلاف في راويها، وعلى تقدير ثبوتها فلعله أوحي إليه ذلك بوحي غير القرآن. وفيه أن الترجيح فرع التعارض ولا تعارض، لان رواية أن لا تتكلموا زيادة ثابتة من وجه معتبر كما سيأتي فقبولها متعين. وأما الاعتذار بأنها بوحي غير قرآن فذلك غير نافع، لان النزاع في كون التحريم للكلام في مكة أو في المدينة لا في خصوص أنه بالقرآن. (ومن جملة) ما أجيب به عن ذلك الاشكال أن زيد بن أرقم ممن لم يبلغه تحريم الكلام في الصلاة إلا حين نزول الآية، ويرده قوله في حديث الباب: يكلم الرجل منا صاحبه، وإن ذلك كان خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن المعلوم أن تكليم بعضهم بعضا في الصلاة لا يخفى عليه لانه يراهم من خلفه كما صح عنه. (ومن الاجوبة) أن يكون الكلام نسخ بمكة ثم أبيح ثم نسخت الاباحة بالمدينة. ومنها حمل حديث ابن مسعود على تحريم الكلام لغير مصلحة الصلاة،
[ 363 ]
وحديث زيد على تحريم سائر الكلام. ومنها ترجيح حديث ابن مسعود والمصير إليه لانه حكي فيه حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك ابن سريج والقاضي أبو الطيب. ومنها أن زيد بن أرقم أراد بقوله: كنا نتكلم في الصلاة الحكاية عمن كان يفعل ذلك في مكة، كما يقول القائل: فعلنا كذا وهو يريد بعض قومه، ذكر معنى ذلك ابن حبان وهو بعيد. [ رح 823 ] وعن ابن مسعود قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال: إن في الصلاة لشغلا متفق عليه. وفي رواية: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كنا بمكة قبل أن نأتي أرض الحبشة، فلما قدمنا من أرض الحبشة أتيناه فسلمنا عليه فلم يرد، فأخذني ما قرب وما بعد حتى قضوا الصلاة فسألته فقال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وأنه قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة رواه أحمد والنسائي. الرواية الثانية أخرجها أيضا أبو داود وابن حبان في صحيحه. قوله: فلم يرد هو يرد على من قال: بجواز رد السلام في الصلاة لفظا وهم أبو هريرة وجابر والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة. قوله: لشغلا ههنا صفة محذوفة والتقدير لشغلا كافيا عن غيره من الكلام أو مانعا من الكلام. قوله: ما قرب وما بعد لفظ أبي داود وابن حبان ما قدم وما حدث، والمراد من هذا اللفظ ولفظ الكتاب اتصال الآخران البعيدة أو المتقدمة بالقريبة أو الحادثة لسبب تركه صلى الله عليه وآله وسلم لرد السلام عليه. قوله: أن لا نتكلم في الصلاة لفظ أبي داود وغيره أن لا تكلموا في الصلاة. وزاد: فرد علي السلام يعني بعد فراغه. (وقد استدل به) على أنه يستحب لمن سلم عليه في الصلاة أن لا يرد السلام إلا بعد فراغه من الصلاة، وروي هذا عن أبي ذر وعطاء والنخعي والثوري. قال ابن رسلان: ومذهب الشافعي والجمهور أن المستحب أن يرد السلام في الصلاة بالاشارة، واستدلوا بما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن صهيب أنه قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فرد إشارة قال الراوي عنه: ولا أعلمه إلا قال: إشارة بأصبعه وسيأتي الكلام على هذا في باب الاشارة في الصلاة لرد السلام. وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى
[ 364 ]
الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أماه ما شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكنني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبأبي وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال: لا يحل مكان لا يصلح. وفي رواية لاحمد: إنما هي التسبيح والتكبير والتحميد وقراءة القرآن. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي. قوله: فرماني القوم بأبصارهم أي نظروا إلي بأبصارهم نظر منكر، ولذلك استعير له الرمي. قوله: واثكل أماه وأحرف للندبة، وثكل بضم المثلثة وإسكان الكاف وبفتحهما جميعا لغتان كالبخل والبخل حكاهما الجوهري وغيره وهو فقدان المرأة ولدها وحزنها عليه لفقده. وقوله: أماه بتشديد الميم وأصله أم زيدت عليه ألف الندبة لمد الصوت وأردفت بهاء السكت، وفي رواية إلى داود أمياه بزيادة الياء وأصله أمي زيدت عليه ألف الندبة لذلك. قوله: على أفخاذهم هذا محمول على أنه وقع قبل أن يشرع التسبيح لمن نابه شئ في صلاته للرجال والتصفيق للنساء، ولا يقال إن ضرب اليد على الفخذين تصفيق لان التصفيق إنما هو ضرب الكف على الكف أو الاصابع على الكف. قال القرطبي: ويبعد أن يسمى من ضرب على فخذه وعليها ثوبه مصفقا ولهذا قال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، ولو كان يسمى هذا تصفيقا لكان الاقرب في اللفظ أن يقول: يصفقون لا غيره. قوله: لكني سكت قال المنذري: يريد لم أتكلم لكني سكت، وورود لكن هنا مشكل لانه لا بد أن يتقدمها كلام مناقض لما بعدها نحو: ما هذا ساكنا لكنه متحرك، أو ضد له نحو: ما هو أبيض لكنه أسود، ويحتمل أن يكون التقدير هنا: فلما رأيتهم يسكتوني لم أكلمهم لكني سكت، فيكون الاستدراك لرفع ما توهم ثبوته مثل: ما زيد شجاعا لكنه كريم، لان الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان، فالاستدراك من توهم نفي كرمه، ويحتمل أن يكون لكن هنا للتوكيد نحو: لو جاءني أكرمته لكنه لم يجئ فأكدت، لكن ما أفادته لو من الامتناع، وكذا في الحديث أكدت لكن ما أفاده ضربهم من ترك الكلام. قوله: فبأبي وأمي متعلق بفعل محذوف تقديره أفديه بأبي وأمي. قوله: ما كهرني أي ما انتهرني والكهر الانتهار قاله أبو عبيد، وقرأ عبد الله بن مسعود: فأما اليتيم فلا تكهر وقيل: الكهر العبوس في وجه من تلقاه.
[ 365 ]
قوله: إن هذه الصلاة يعني مطلق الصلاة فيشمل الفرائض وغيرها. قوله: لا يصلح فيها شئ من كلام الناس في الرواية الاخرى لا يحل. (استدل) بذلك على تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان لحاجة أم لا، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها، فإن احتاج إلى تنبيه أو إذن لداخل سبح الرجل وصفقت المرأة، وهذا مذهب الجمهور من أهل البيت وغيرهم من السلف والخلف. وقالت طائفة منهم الاوزاعي: إنه يجوز الكلام لمصلحة الصلاة واستدلوا بحديث ذي اليدين. وكلام الناس المذكور في الحديث اسم مصدر يراد به تارة ما يتكلم به على أنه مصدر بمعنى المفعول، وتارة يراد به التكليم للغير وهو الخطاب للناس، والظاهر أن المراد به ههنا الثاني بشهادة السبب. قوله: إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن هذا الحصر يدل بمفهومه على منع التكلم في الصلاة بغير الثلاثة، وقد تمسكت به الطائفة القائلة بمنع الدعاء في الصلاة بغير ألفاظ القرآن من الحنفية والهادوية، ويجاب عنهم بأن الاحاديث المثبتة لادعية وأذكار مخصوصة في الصلاة مخصصة لعموم هذا المفهوم، وبناء العام على الخاص متعين، لاسيما بعدما تقرر أن تحريم الكلام كان بمكة كما قدمنا، وأكثر الادعية والاذكار في الصلاة كانت بالمدينة، وقد خصصوا هذا المفهوم بالتشهد، فما وجه امتناعهم من التخصيص بغيره؟ وهذا واضح لا يلتبس على من له أدنى نظر في العلم، ولكن المتعصب أعمى، وكم من حديث صحيح وسنة صريحة قد نصبوا هذا المفهوم العام في مقابلتها وجعلوه معارضا لها وردوها به، وغفلوا عن بطلان معارضة العام بالخاص، وعن رجحان المنطوق على المفهوم إن سلم التعارض. (قال المصنف) رحمه الله بعد أن ساق الحديث: وفيه دليل على أن التكبير من الصلاة وأن القراءة فرض، وكذلك التسبيح والتحميد، وأن تشميت العاطس من الكلام المبطل، وأن من فعله جاهلا لم تبطل صلاته حيث لم يأمره بالاعادة انتهى. باب أن من دعا في صلاته بما لا يجوز جاهلا لم تبطل عن أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فلما سلم
[ 366 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للاعرابي: لقد تحجرت واسعا يريد رحمة الله رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي. الحديث أخرجه أيضا مسلم. قوله: تحجرت واسعا أي ضيقت ما وسعه الله، وخصصت به نفسك دون إخوانك من المسلمين، هلا سألت الله لك ولكل المؤمنين؟ وأشركتهم في رحمة الله تعالى التي وسعت كل شئ؟ وفي هذا إشارة إلى ترك هذا الدعاء والنهي عنه، وأنه يستحب الدعاء لغيره من المسلمين بالرحمة والهداية ونحوهما. (واستدل به) المصنف على أنها لا تبطل صلاة من دعا بما لا يجوز جاهلا لعدم أمر هذا الداعي بالاعادة. قوله: يريد رحمة الله قال الحسن وقتادة: وسعت في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة، جعلنا الله ممن وسعته رحمته في الدارين. باب ما جاء في النحنحة والنفخ في الصلاة عن علي قال: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدخلان بالليل والنهار، وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي يتنحنح لي رواه أحمد وابن ماجه والنسائي بمعناه. الحديث صححه ابن السكن، وقال البيهقي: هذا مختلف في إسناده ومتنه، قيل: سبح، وقيل: تنحنح، ومداره على عبد الله بن نجي. قال الحافظ: واختلف عليه فيه فقيل عن علي، وقيل عن أبيه عن علي، قال البخاري فيه نظر وضعفه غيره ووثقه النسائي وابن حبان. وقال يحيى بن معين: لم يسمعه عبد الله من علي، بينه وبين علي أبوه. (والحديث) يدل على أن التنحنح في الصلاة غير مفسد وقد ذهب إلى ذلك الامام يحيى والشافعي وأبو يوسف كذا في البحر. وروي عن الناصر. وقال المنصور بالله: إذا كان لاصلاح الصلاة لم تفسد به، وذهب أبو حنيفة ومحمد والهادوية إلى أن التنحنح مفسد، لان الكلام لغة ما تركب من حرفين وإن لم يكن مفيدا، ورد بأن الحرف ما اعتمد على مخرجه المعين وليس في التنحنح اعتماد. وقد أجاب المهدي عن الحديث بقوله: لعله قبل نسخ الكلام، ثم دليل التحريم أرجح للحظر، وقد عرفناك أن تحريم الكلام كان بمكة، والاتكال على مثل هذه العبارة التي ليس فيها إلا مجرد الترجي من دون علم ولا ظن، لو جاز التعويل على مثلها لرد من شاء ما شاء من
[ 367 ]
الشريعة المطهرة وهو باطل بالاجماع. وأما ترجيح دليل تحريم الكلام في كونه من ترجيح العام على الخاص قد عرفت أن العام غير صادق على محل النزاع. وعن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفخ في صلاة الكسوف رواه أحمد وأبو داود والنسائي وذكره البخاري تعليقا. وروى أحمد هذا المعنى من حديث المغيرة بن شعبة. وعن ابن عباس قال: النفخ في الصلاة كلام، رواه سعيد بن منصور في سننه. الحديث أخرجه أيضا الترمذي، ولفظ أبي داود: ثم نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف ثم قال: يا رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ففرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد انمحصت الشمس. وفي إسناده عطاء بن السائب، وقد أخرج له البخاري مقرونا. وأثر ابن عباس أخرجه أيضا عبد الرزاق. قوله: نفخ في صلاة الكسوف النفخ في أصل اللغة إخراج الريح من الفم كما في القاموس وغيره، وقد فسر في الحديث بقوله: أف أف. وقد استدل بالحديث من قال: إن النفخ لا يفسد الصلاة، واستدل من قال: إنه يفسد الصلاة بأحاديث النهي عن الكلام، والنفخ كلام كما قال ابن عباس. وأجيب بمنع كون النفخ من الكلام لما عرفت من أن الكلام متركب من الحروف المعتمدة على المخارج، والاعتماد في النفخ وأيضا الكلام المنهي عنه في الصلاة هو المكالمة كما تقدم، ولو سلم صدق اسم الكلام على النفخ كما قال ابن عباس لكان فعله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك في الصلاة مخصصا لعموم النهي عن الكلام. واستدلوا أيضا بما رواه الطبراني في الكبير عن زيد بن ثابت قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن النفخ في السجود وعن النفخ في الشراب. ولا تقوم به حجة، لان في إسناده خالد بن إلياس وهو متروك، وقال البيهقي: حديث زيد بن ثابت مرفوعا ضعيف بمرة. (واستدلوا) أيضا بما أخرجه الطبراني في الاوسط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كره أن ينفخ بين يديه في الصلاة أو في شرابه قال زين الدين العراقي: وفي إسناده غير واحد متكلم فيه. (واستدلوا) أيضا بما رواه البزار في مسنده عن أنس بن مالك رفعه قال: ثلاثة من الجفاء: أن ينفخ الرجل في سجوده، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته قال البزار: ذهبت عني الثالثة. وفي إسناده خالد بن أيوب وهو ضعيف. ولانس حديث آخر عند البيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ألهاه شئ في صلاته فذلك حظه والنفخ كلام. وفي
[ 368 ]
إسناده نوح بن أبي مريم وهو متروك الحديث لا يحتج به، وروى البزار من حديث بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائما أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده. قال العراقي: ورجاله رجال الصحيح. ورأيت بخط الحافظ على كلام زين الدين ما لفظه: قوله ورجاله رجال الصحيح ليس بصحيح اه. وقال البزار: لا نعلم رواه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه إلا سعيد بن عبيد الله. ورواه الطبراني في الاوسط من هذا الوجه وقال: لا يروى عن بريدة إلا بهذا الاسناد، تفرد به أبو عبيدة الحداد عن سعيد بن حبان، قال العراقي: لم ينفرد به عنه بل تابعه عليه عبد الله بن داود الخريبي. وأخرج الطبراني في الاوسط من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليسو موضع سجوده ولا يدعه حتى إذا أهوى ليسجد نفخ ثم سجد. وفي إسناده عبد المنعم بن بشير وهو منكر الحديث. وقد ذهب إلى كراهة النفخ ابن مسعود وابن عباس، وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عباس أنه كان يخشى أن يكون النفخ كلاما، وكرهه من التابعين النخعي، وابن سيرين، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعبد الله بن أبي الهذيل، ويحيى بن أبي كثير. وروي أيضا عن سعيد بن الزبير، ورخص فيه من الصحابة قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي كما رواه البيهقي عنه. وقالت الشافعية والهادوية: إن بان منه حرفان بطلت الصلاة وإلا فلا. ورواه ابن المنذر عن مالك، وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل، و أجابوا عن حديث عبد الله بن عمر بأن قوله أف لا يكون كلاما حتى يشدد الفاء فيكون ثلاثة أحرف كذا قال الخطابي. قال ابن الصلاح: ما ذكره لا يستقيم على أصلنا لان حرفين كلام مبطل، وأجاب البيهقي بأن هذا نفخ يشبه الغطيط وذلك لما عرض عليه من تعذيب بعض من وجب عليه العذاب. باب البكاء في الصلاة من خشية الله تعالى قال الله تعالى: * (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) * (مريم: 58). عن عبد الله بن الشخير قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
[ 369 ]
الحديث أخرجه أيضا الترمذي وصححه ابن حبان وابن خزيمة. قوله: أزيز الازيز بفتح الالف بعدها زاي مكسورة، ثم تحتانية ساكنة، ثم زاي أيضا وهو صوت القدر، قال في النهاية: هو أن يجيش جوفه ويغلي من البكاء. قوله: كأزيز المرجل المرجل بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم قدر من نحاس، وقد يطلق على كل قدر يطبخ فيها، ولعله المراد في الحديث. وفي رواية أبي داود كأزيز الرحا يعني الطاحون. قوله: من البكاء فيه دليل على أن البكاء لا يبطل الصلاة، سواء ظهر منه حرفان أم لا، وقد قيل: إن كان البكاء من خشية الله لم يبطل، وهذا الحديث يدل عليه، ويدل عليه أيضا ما رواه ابن حبان بسنده إلى علي بن أبي طالب قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن الاسود، ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. وبوب عليه ذكر الاباحة للمرء أن يبكي من خشية الله. وأخرج البخاري وسعيد بن منصور وابن المنذر أن عمر صلى صلاة الصبح وقرأ سورة يوسف حتى بلغ إلى قوله: * (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) * فسمع نشيجه واستدل المصنف على جواز البكاء في الصلاة بالآية التي ذكرها لانها تشمل المصلي وغيره. وعن ابن عمر قال: لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه قيل له الصلاة، قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء، فقال: مروه فليصل، فعاودته، فقال: مروه فليصل إنكن صواحب يوسف رواه البخاري ومعناه متفق عليه من حديث عائشة. قوله: رجل رقيق أي رقيق القلب. وفي رواية للبخاري: أنها قالت: إن أبا بكر أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس. قوله: إنكن صواحب يوسف صواحب جمع صاحبة، والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن، وهذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع فالمراد به واحدة هي عائشة فقط، كما أن المراد بصواحب يوسف زليخا فقط كذا قال الحافظ. ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الاكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الامام عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها
[ 370 ]
زيادة وهو أن لا يتشاءم الناس به، كما صرحت بذلك في بعض طرق الحديث فقالت: وما حملني على مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه. (والحديث) له فوائد ليس هذا محل بسطها. وقد استدل به المصنف ههنا على جواز البكاء في الصلاة. ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صمم على استخلاف أبي بكر بعد أن أخبر أنه إذا قرأ غلبه البكاء دل ذلك على الجواز. [ رم (277) ] باب حمد الله في الصلاة لعطاس أو حدوث نعمة عن رفاعة بن رافع قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعطست فقلت: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة فقال رفاعة: أنا يا رسول الله؟ فقال: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضع وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها رواه النسائي والترمذي. الحديث أخرجه البخاري ولفظه عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي يوما وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجل من ورائه: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا، قال: رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول ولم يذكر العطاس ولا زاد: كما يحب ربنا ويرضى. وزاد أن ذلك عند الرفع من الركوع، فيجمع بين الروايتين بأن الرجل المبهم في رواية البخاري هو رفاعة كما في حديث الباب، ولا مانع أن يكني عن نفسه، إما لقصد إخفاء عمله أو لنحو ذلك، ويجمع أيضا بأن عطاسه وقع عند رفع رأسه. قوله: بضع البضع ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى الخمس، أو ما بين الواحد إلى الاربعة، أو من أربع إلى تسع أو سبع. كذا في القاموس. قال الفراء: ولا يذكر البضع مع العشرين إلى التسعين، وكذا قال الجوهري. (والحديث) يرد ذلك. قوله: أيهم يصعد بها في رواية البخاري: يكتبها. وفي رواية الطبراني: يرفعها. قال الحافظ: وأما أيهم فرويناه بالرفع وهو مبتدأ خبره يكتبها، ويجوز النصب بتقدير ينظرون أيهم. وعند سيبويه أي موصولة والتقدير الذي هو يكتبها. (وقد استشكل) تأخير رفاعة إجابة النبي
[ 371 ]
صلى الله عليه وآله وسلم حتى كرر سؤاله ثلاثا، مع أن إجابته واجبة عليه، بل وعلى من سمع رفاعة، فإنه لم يسأل المتكلم وحده. وأجيب بأنه لما لم يعين واحدا بعينه لم تتعين المبادرة بالجواب من المتكلم ولا من واحد بعينه، وكأنهم انتظروا بعضهم ليجيب، وحملهم على ذلك خشية أن يبدو في حقه شئ ظنا منهم أنه أخطأ فيما فعل ورجوا أن يقع العفو عنه، وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى سكوتهم فهم ذلك فعرفهم أنه لم يقل بأسا. (والحديث) استدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور. وعلى جواز رفع الصوت بالذكر، وتعقب بأن سماعه صلى الله عليه وآله وسلم لصوت الرجل لا يستلزم رفعه لصوته وفيه نظر. ويدل أيا على مشروعية الحمد في الصلاة لمن عطس. ويؤيد ذلك عموم الاحاديث الواردة بمشروعيته فإنها لم تفرق بين الصلاة وغيرها. باب من نابه شئ في صلاته فإنه يسبح والمرأة تصفق عن سهل بن سعد: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من نابه شئ في صلاته فليسبح فإنما التصفيق للنساء. وعن علي بن أبي طالب قال: كانت لي ساعة من السحر أدخل فيها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن كان قائما يصلي سبح لي فكان ذلك إذنه لي، وإن لم يكن يصلي أذن لي رواه أحمد. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: التسبيح للرجال والتصفيق للنساء في الصلاة رواه الجماعة ولم يذكر فيه البخاري وأبو داود والترمذي في الصلاة. الحديث الاول لم يخرجه المصنف، وقد أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود، وهو حديث طويل هذا طرف منه. وفي لفظ أبي داود: إذا نابكم شئ في الصلاة فليسبح الرجال وليصفق النساء والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي والبيهقي وقال: هو مختلف في إسناده ومتنه فقيل سبح وقيل تنحنح، ومداره على عبد الله بن نجي الحضرمي، قال البخاري: فيه نظر، وضعفه غيره، وقد وثقه النسائي وابن حبان، ورواه النسائي وابن ماجه من رواية عبد الله بن نجي عن علي بلفظ: تنحنح وقد تقدم. والحديث الثالث أخرجه الجماعة كلهم كما ذكر المصنف. (وفي الباب) عن جابر عند ابن أبي شيبة بلفظ حديث أبي هريرة دون زيادة في الصلاة، واختلف في رفعه ووقفه. ورواه ابن أبي شيبة أيضا عن
[ 372 ]
جابر من قوله. وعن أبي سعيد عند ابن عدي في الكامل بلفظ حديث أبي هريرة بدون تلك الزيادة، وفي إسناده أبو هارون عمارة بن جوين، كذبه حماد بن زيد والجوزجاني. وعن ابن عمر عند ابن ماجه بلفظ: رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنساء في التصفيق وللرجال في التسبيح. قوله: من نابه شئ في صلاته أي نزل به شئ من الحوادث والمهمات وأراد إعلام غيره، كإذنه لداخل، وإنذاره لاعمى، وتنبيهه لساه أو غافل. قوله: فإنما التصفيق للنساء هو بالقاف. وفي رواية لابي داود: فإنما التصفيح قال زين الدين العراقي: والمشهور أن معناهما واحد، قال عقبة: والتصفيح التصفيق. وكذا قال أبو علي البغدادي والخطابي والجوهري. قال ابن حزم: لا خلاف في أن التصفيح والتصفيق بمعنى واحد، وهو الضرب بإحدى صفحتي الكف على الاخرى. قال العراقي: وما ادعاه من نفي الخلاف ليس بجيد، بل فيه قولان آخران إنهما مختلفا المعنى: أحدهما أن التصفيق الضرب بظاهر إحداهما على الاخرى، والتصفيق الضرب بباطن إحداهما على باطن الاخرى، حكاه صاحب الاكمال وصاحب المفهم. والقول الثاني: أن التصفيح الضرب بأصبعين للانذار والتنبيه، وبالقاف بالجميع للهو واللعب. وروى أبو داود في سننه عن عيسى بن أيوب أن التصفيح الضرب بأصبعين من اليمين على باطن الكف اليسرى. (وأحاديث الباب) تدل على جواز التسبيح للرجال والتصفيق للنساء إذا ناب أمر من الامور، وهي ترد على ما ذهب إليه مالك في المشهور عنه من أن المشروع في حق الجميع التسبيح دون التصفيق، وعلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من فساد صلاة المرأة إذا صفقت في صلاتها، وقد اختلف في حكم التسبيح والتصفيق هل الوجوب أو الندب أو الاباحة؟ فذهب جماعة من الشافعية إلى أنه سنة منهم الخطابي وتقي الدين السبكي والرافعي وحكاه عن أصحاب الشافعي. باب الفتح في القراءة على الامام وغيره عن مسور بن يزيد المالكي قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فترك آية، فقال له رجل: يا رسول الله آية كذا وكذا، قال: فهلا ذكرتنيها؟. رواه أبو داود وعبد الله بن أحمد في مسند أبيه. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه، فلما انصرف قال لابي: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك؟
[ 373 ]
رواه أبو داود. الحديث الاول أخرجه أيضا ابن حبان والاثرم، وفي إسناده يحيى بن كثير الكاهلي، قال أبو حاتم: لما سئل عنه شيخ. والمسور بضم الميم وفتح السين المهملة وتشديد الواو وفتحها كذا قيده الدارقطني وابن ماكولا والمنذري. قال الخطيب: يروى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث واحد، والحديث الثاني أخرجه الحاكم وابن حبان ورجال إسناده ثقات. (وفي الباب) عن أنس عند الحاكم بلفظ: كنا نفتح على الائمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الحافظ: وقد صح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال علي: إذا استطعمك الامام فأطعمه. قوله: آية كذا وكذا رواية ابن حبان: يا رسول الله إنك تركت آية كذا وكذا. قوله: فلبس ضبطه ابن رسلان بفتح اللام والباء الموحدة المخففة أي التبس واختلط عليه، قال: ومنه قوله تعالى: * (وللبسنا عليهم ما يلبسون) * (الانعام: 9) قال: وفي بعض النسخ بضم اللام وتشديد الموحدة المكسورة. قال المنذري: لبس بالتخفيف أي مع ضم اللام وكسر الموحدة. قوله: فلما انصرف ولفظ ابن حبان: فالتبس عليه، فلما فرغ قال لابي: أشهدت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك أن تفتحها علي؟. (والحديثان) يدلان على مشروعية الفتح على الامام، وقد ذهبت العترة والفريقان إلى أنه مندوب، وذهب المنصور بالله إلى وجوبه. وقال زيد بن علي وأبو حنيفة في رواية عنه: أنه يكره. وقال أحمد بن حنبل: إنه يكره أن يفتح من هو في الصلاة على من هو في صلاة أخرى، أو على من ليس في صلاة. واحتج من قال بالكراهة بما أخرجه أبو داود عن ابن إسحاق السبيعي عن الحرث الاعور عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي لا تفتح على الامام في الصلاة. قال أبو داود: أبو إسحق السبيعي لم يسمع من الحرث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها. قال المنذري: والحرث الاعور، قال غير واحد من الائمة أنه كذاب، وقد روي حديث الحرث عن علي مرفوعا عبد الرزاق في مصنفه بلفظ: لا تفتحن على الامام وأنت في الصلاة وهذا الحديث لا ينتهض لمعارضة الاحاديث القاضية بمشروعية الفتح، وتقييد الفتح بأن يكون على إمام لم يؤد الواجب من القراءة وبآخر ركعة مما لا دليل عليه. وكذا تقييده بأن يكون في القراءة الجهرية، والادلة قد دلت على مشروعية الفتح مطلقا، فعند نسيان الامام الآية في القراءة الجهرية يكون الفتح عليه بتذكيره تلك الآية كما في حديث الباب، وعند نسيانه لغيرها من الاركان يكون
[ 374 ]
الفتح بالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء كما تقدم في الباب الاول. باب المصلي يدعو ويذكر الله إذا مر بآية رحمة أو عذاب أو ذكر رواه حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سبق. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في صلاة ليست بفريضة، فمر بذكر الجنة والنار فقال: أعوذ بالله من النار، ويل لاهل النار رواه أحمد وابن ماجه بمعناه. حديث ابن أبي ليلى رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن هاشم، وحديث حذيفة الذي أشار إليه المصنف قد تقدم في باب قراءة سورتين في ركعة، وذكرنا في شرحه أنه يدل على مشروعية السؤال عند المرور بآية فيها سؤال، والتعوذ عند المرور بآية فيها تعوذ، والتسبيح عند قراءة ما فيه تسبيح. وقد ذهب إلى استحباب ذلك الشافعية. وحديث الباب يدل على استحباب التعوذ من النار عند المرور بذكرها، وقد قيده الراوي بصلاة غير فريضة. وكذلك حديث حذيفة مقيد بصلاة الليل. وكذلك حديث عائشة الآتي، وحديث عوف بن مالك. وعن عائشة قالت: كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة التمام فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله عزوجل واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عزوجل ورغب إليه رواه أحمد. وعن موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته وكان إذا قرأ * (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) * (القيامة: 40) قال: سبحانك فبلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أبو داود. الحديث الاول يشهد له حديث حذيفة المتقدم وحديث عوف الآتي، والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري. قوله: ليلة التمام أي ليلة تمام البدر. قوله: عن موسى بن أبي عائشة هو الهمداني الكوفي مولى آل جعدة بن هبيرة المخزومي، قال في التقريب: ثقة عابد من الخامسة وكان يرسل، ومن دونه هم رجال الصحيح. قوله: كان رجل جهالة الصحابي مغتفرة عند الجمهور وهو الحق. قوله: يصلي فوق بيته فيه جواز الصلاة على ظهر البيت
[ 375 ]
والمسجد ونحوهما فرضا أو نفلا عند من جعل فعل الصحابي حجة أخذا بهذا. والاصل الجواز في كل مكان من الامكنة ما لم يقم دليل على عدمه. قوله: قال سبحانك أي تنزيها لك أن يقدر أحد على إحياء الموتى غيرك وهو منصوب على المصدر. وقال الكسائي: منصوب على أنه منادى مضاف. قوله: فبلى في نسخة من سنن أبي داود فبكى بالكاف. قال ابن رسلان: وأكثر النسخ المعتمدة باللام بدل الكاف، وبلى حرف لايجاب النفي، والمعنى: أنت قادر على أن تحيي الموتى. وعن عوف بن مالك قال: قمت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبدأ فاستاك وتوضأ ثم قام فصلى فبدأ فاستفتح البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، قال: ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع فمكث راكعا بقدر قيامه يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر ركوعه يقول في سجوده: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم قرأ آل عمران، ثم سورة سورة، ثم فعل مثل ذلك رواه النسائي وأبو داود ولم يذكر الوضوء ولا السواك. الحديث أخرجه أيضا الترمذي ورجال إسناده ثقات، لان أبا داود أخرجه عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح الحضرمي قاضي الاندلس. وقد أخرج له مسلم والاربعة عن عمرو بن قيس الكندي السكوتي سيد أهل حمص عن عاصم بن قوله: فاستفتح البقرة فيه جواز حميد. قال الدارقطني: ثقة عن عوف بن مالك تسمية السورة بالبقرة وآل عمران والعنكبوت والروم. ونحو ذلك، خلافا لمن كره ذلك وقال: إنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة. قوله: فتعوذ قال عياض: وفيه آداب تلاوة القرآن في الصلاة وغيرها. قال النووي: وفيه استحباب هذه الامور لكل قارئ في الصلاة وغيرها يعني فرضها ونفلها، وللامام والمأموم والمنفرد. قوله: ذي الجبروت هو فعلوت من الجبر وهو القهر، يقال: جبرت وأجبرت بمعنى قهرت. وفي الحديث: ثم يكون ملك وجبرؤت أي عتو وقهر. وفي كلام التهذيب للازهري ما يشعر بأنه يقال في الآدمي جبرؤت بالهمز، لان زيادة الهمز تؤذن بزيادة الصفة وتجددها، فالهمز للفرق بين صفة الله وصفة الآدمي. قال ابن رسلان: وهو فرق حسن. قوله: والملكوت اسم من الملك. قوله والكبرياء من الكبر بكسر الكاف وهو العظمة، فيكون على هذا عطفها عليه في الحديث عطف تفسير. قيل: وهي عبارة عن كمال
[ 376 ]
الذات والوجود، ولا يوصف بها إلا الله. قوله: ثم سجد بقدر ركوعه رواية أبي داود: ثم سجد بقدر قيامه. قوله: ثم سورة سورة رواية أبي داود: ثم قرأ سورة سورة قال ابن رسلان: يحتمل أن المراد: ثم قرأ سورة النساء ثم سورة المائدة. قوله: ثم فعل مثل ذلك هذه رواية للنسائي ولم يذكرها أبو داود أي فعل في الركوع والسجود مثل ما فعل في الركعتين قبلهما. باب الاشارة في الصلاة لرد السلام أو حاجة تعرض عن ابن عمر قال: قلت لبلال: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو في الصلاة؟ قال: يشير بيده رواه الخمسة، إلا أن في رواية النسائي وابن ماجه صهيبا مكان بلال. وعن ابن عمر عن صهيب أنه قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي فسلمت فرد إلي إشارة وقال: لا أعلم إلا أنه قال: إشارة بأصبعه رواه الخمسة إلا ابن ماجه. وقال الترمذي: كلا الحديثين عندي صحيح. وقد صحت الاشارة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رواية أم سلمة في حديث الركعتين بعد العصر. ومن حديث عائشة وجابر لما صلى بهم جالسا في مرض له فقاموا خلفه فأشار إليهم أن اجلسوا. حديث بلال رجاله رجال الصحيح، وحديث صهيب في إسناده نايل صاحب العباء وفيه مقال. (وفي الباب) عن جماعة من الصحابة منهم الذين أشار إليهم المصنف بقوله: وقد صحت الاشارة إلخ. وحديث أم سلمة عند البخاري ومسلم وأبي داود من رواية كريب أن ابن عباس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن أزهر أرسلوه إلى عائشة ثم إلى أم سلمة، فقالت أم سلمة: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن الركعتين بعد العصر، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم دخل علي وعندي نسوة من بني حرام فأرسلت إليه الجارية فقلت: قومي بجنبه وقولي له: تقول لك أم سلمة يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية فأشار بيده الحديث. وحديث عائشة أخرجه أيضا الشيخان وأبو داود وابن ماجه في صلاته صلى الله عليه وآله وسلم شاكيا وفيه. فأشار
[ 377 ]
إليهم أن اجلسوا الحديث. وحديث جابر أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه في قصة شكوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: فأشار إلينا فقعدنا الحديث. (وفي الباب) مما لم يذكره المصنف عن أنس عند أبي داود بإسناد صحيح. وعن بريدة عند الطبراني. وعن ابن عمر غير حديث الباب عند البيهقي. وعن ابن مسعود عند الطبراني والبيهقي بلفظ: مررت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلمت عليه وأشار إلي. وعنه حديث آخر عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي: سلمنا عليه فلم يرد علينا وقد تقدم. وعن معاذ بن جبل عند الطبراني وعن المغيرة عند أبي داود والترمذي. وعن أبي سعيد عند البزار في مسنده وفي إسناده عبد الله بن صالح كاتب الليث وهو ضعيف. وعن أسماء عند الشيخين ولكنه من فعل عائشة وهو في حكم المرفوع. (والاحاديث) المذكورة تدل على أنه لا بأس أن يسلم غير المصلي على المصلي لتقريره صلى الله عليه وآله وسلم من سلم عليه على ذلك، وجواز تكليم المصلي بالغرض الذي يعرض لذلك، وجواز الرد بالاشارة، وقد قدمنا في باب النهي عن الكلام في شرح حديث ابن مسعود ذكر القائلين أنه يستحب الرد بالاشارة والمانعين من ذلك. (وقد استدل) القائلون بالاستحباب بالاحاديث المذكورة في هذا الباب. واستدل المانعون بحديث ابن مسعود السابق لقوله فيه: فلم يرد علينا ولكنه ينبغي أن يحمل الرد المنفي ههنا على الرد بالكلام لا الرد بالاشارة، لان ابن مسعود نفسه قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه رد عليه بالاشارة، ولو لم ترد عنه هذه الرواية لكان الواجب هو ذلك جمعا بين الاحاديث. (واستدلوا) أيضا بما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا غرار في الصلاة ولا تسليم والغرار بكسر الغين المعجمة وتخفيف الراء هو في الاصل النقض. قال أحمد بن حنبل: يعني فيما أرى أن لا تسلم ويسلم عليك ويغرر الرجل بصلاته فينصرف وهو فيها شاك. (واستدلوا) أيضا بما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد لها يعني الصلاة، ورواه البزار والدارقطني. ويجاب عن الحديث الاول بأنه لا يدل على المطلوب من عدم جواز رد السلام بالاشارة، لانه ظاهر في التسليم على المصلي لا في الرد منه. ولو سلم شموله للاشارة لكان غايته المنع من التسليم على المصلي باللفظ والاشارة وليس فيه تعرض للرد، ولو سلم شموله للرد لكان الواجب
[ 378 ]
حمل ذلك على الرد باللفظ جمعا بين الاحاديث. وأما الحديث الثاني فقال أبو داود: إنه وهم اه. وفي إسناده أبو غطفان. قال ابن أبي داود: هو رجل مجهول، قال: وآخر الحديث زيادة، والصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يشير في الصلاة قال العراقي قلت: وليس بمجهول، فقد روى عنه جماعة ووثقه النسائي وابن حبان وهو أبو غطفان المري قيل اسمه سعيد اه. وعلى فرض صحته ينبغي أن تحمل الاشارة المذكورة في الحديث على الاشارة لغير رد السلام والحاجة جمعا بين الادلة. (فائدة) ورد في كيفية الاشارة لرد السلام في الصلاة حديث ابن عمر عن صهيب قال: لا أعلمه، إلا أنه قال: أشار بأصبعه. وحديث بلال قال: كان يشير بيده، ولا اختلاف بينهما، فيجوز أن يكون أشار مرة بأصبعه ومرة بجميع يده، ويحتمل أن يكون المراد باليد الاصبع حملا للمطلق على المقيد. وفي حديث ابن عمر عند أبي داود: أنه سأل بلالا: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ فقال يقول: هكذا، وبسط جعفر بن عون كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق ففيه الاشارة بجميع الكف. وفي حديث ابن مسعود عند البيهقي بلفظ: فأومأ برأسه. وفي رواية له: فقال برأسه يعني الرد. ويجمع بين الروايات بأنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا مرة. وهذا مرة، فيكون جميع ذلك جائزا. باب كراهة الالتفات في الصلاة إلا من حاجة عن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع لا في الفريضة رواه الترمذي وصححه. وعن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن التلفت في الصلاة فقال: اختلاس يختلسه الشيطان من العبد رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود. [ رح 844 ] وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه رواه أحمد والنسائي وأبو داود. الحديث الثالث في إسناده أبو الاحوص الراوي له عن أبي ذر. قال المنذري: لا يعرف
[ 379 ]
له اسم لم يرو عنه غير الزهري، وقد صحح له الترمذي وابن حبان، وقال ابن عبد البر: هو مولى بني غفار إمام مسجد بني ليث. قال ابن معين: أبو الأحوص الذي حدث عنه الزهري ليس بشئ، وليس لقول ابن معين هذا أصل إلا كونه انفرد الزهري بالرواية عنه، وقد قيل له ابن أكيمة، لم يرو عنه غير الزهري فقال: يكفيك قول الزهري: حدثني ابن أكيمة فيلزمه مثل هذا في أبي الاحوص لانه قال في حديث الباب: سمعت أبا الاحوص. وقال أبو أحمد الكرابيسي: ليس بالمتين عندهم. قوله: هلكة سمي الالتفات هلكة باعتبار كونه سببا لنقصان الثواب الحاصل بالصلاة، أو لكونه نوعا من تسويل الشيطان واختلاسه، فمن استكثر منه كان من المتبعين للشيطان، واتباع الشيطان هلكة، أو لانه إعراض عن التوجه إلى الله، والاعراض عنه عزوجل هلكة. وقد أخرج الترمذي من حديث الحرث الاشعري وصححه من حديث طويل: إن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله تعالى ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. ونحوه حديث أبي ذر المذكور في الباب. قوله: فإن كان لا بد ففي التطوع لا في الفريضة فيه الاذن بالالتفات للحاجة في التطوع، والمنع من ذلك في صلاة الفرض. قوله: اختلاس يختلسه الشيطان الاختلاس أخذ الشئ بسرعة، يقال: اختلس الشئ إذا استلبه. (وفي الحديث) النهي عن الخلسة بفتح الخاء وهو ما يستخلص من السبع فيموت قبل أن يذكى. وفي النهاية: الاختلاس افتعال من الخلسة وهو ما يؤخذ سلبا. وقيل: المختلس الذي يخطف الشئ من غير غلبة ويهرب، ونسب إلى الشيطان لانه سبب له لوسوسته به، وإطلاق اسم الاختلاس على الالتفات مبالغة. (وأحاديث) الباب تدل على كراهة الالتفات في الصلاة وهو قول الاكثر، والجمهور على أنها كراهة تنزيه ما لم يبلغ إلى حد استدبار القبلة. والحكمة في التنفير عنه ما فيه من نقص الخشوع والاعراض عن الله تعالى وعدم التصميم على مخالفة وسوسة الشيطان. وعن سهل ابن الحنظلية قال: ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب رواه أبو داود قال: وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس. الحديث أخرجه أيضا الحاكم وقال: على شرط الشيخين، وحسنه الحازمي. وأخرج الحازمي في الاعتبار عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلتفت في صلاته يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه خلف ظهره قال: هذا حديث غريب،
[ 380 ]
تفرد به الفضل بن موسى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند متصلا وأرسله غيره عن عكرمة، قال: وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا وقال: لا بأس بالالتفات في الصلاة ما لم يلو عنقه، وإليه ذهب عطاء ومالك وأبو حنيفة وأصحابه والاوزاعي وأهل الكوفة، ثم ساق الحازمي حديث الباب بإسناده، وجزم بعدم المناقضة بين حديث الباب وحديث ابن عباس، قال: لاحتمال أن الشعب كان في جهة القبلة فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلتفت إليه ولا يلوي عنقه. (واستدل) على نسخ الالتفات بحديث رواه بإسناده إلى ابن سيرين قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام في الصلاة نظر هكذا وهكذا، فلما نزل: * (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) * (المؤمنون: 2 1) نظر هكذا قال ابن شهاب: ببصره نحو الارض، قال: وهذا وإن كان مرسلا فله شواهد. واستدل أيضا بقول أبي هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزل: * (الذين هم في صلاتهم خاشعون) *. باب كراهة تشبيك الاصابع وفرقعتها والتخصر والاعتماد على اليد إلا لحاجة عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه رواه أحمد. الحديث أخرجه أحمد في مسنده عن مولى لابي سعيد الخدري قال: بينا أنا مع أبي سعيد الخدري وهو مع رسول ال له صلى الله عليه وآله وسلم إذ دخلنا المسجد، فإذا رجل جالس في المسجد وسط محتبيا مشبكا أصابعه بعضها في بعض، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يفطن الرجل لاشارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالتفت إلى أبي سعيد فقال: إذا كان أحدكم الحديث، قال في مجمع الزوائد: إسناده حسن. وقد اختلف في الحكمة في النهي عن التشبيك في المسجد كما في حديث أبي سعيد وفي غيره، كما في حديث كعب بن عجرة، فقيل: لما فيه من العبث. وقيل: لما فيه من التشبه بالشيطان. وقيل: لدلالة الشيطان على ذلك، وجعل بعضهم ذلك دالا على تشبيك الاحوال. قال ابن العربي: وقد شاهدت رجلا كان يكره رؤية ذلك ويقول فيه تطير في تشبيك الاحوال
[ 381 ]
والامور على المرء. وظاهر النهي عن التشبيك التحريم، لولا حديث ذي اليدين الذي سيشير إليه المصنف قريبا. وظاهره نهي من كان في المسجد عن التشبيك، سواء كان في الصلاة أم لا، كما جزم به النووي في التحقيق، وكره النخعي التشبيك في الصلاة، وقال النعمان بن أبي عياش: كانوا ينهون عنه. وروى العراقي في شرح الترمذي عن ابن عمر وابنه سالم أنهما شبكا بين أصابعهما في الصلاة. وروي عن الحسن البصري أنه شبك أصابعه في المسجد. قال العراقي: وفي معنى التشبيك بين الاصابع تفقيعها، فيكره أيضا في الصلاة ولقاصد الصلاة، قال النووي: وكره ذلك في الصلاة ابن عباس وعطاء والنخعي ومجاهد وسعيد بن جبير، وروى أحمد والطبراني من حديث أنس بن معاذ مرفوعا إن الضاحك في الصلاة والملتفت والمفقع أصابعه بمنزلة واحدة وفي إسناده ابن لهيعة. ويدل على كراهة التفقيع حديث علي الآتي. وعن كعب بن عجرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامدا إلى الصلاة فلا يشبكن الحديث أخرجه أيضا ابن بين يديه فإنه في صلاة رواه أحمد وأبو داود والترمذي ماجه، وفي إسناده عند الترمذي رجل مجهول، وهو الراوي له عن كعب بن عجرة، وقد كني أبو داود هذا الرجل المجهول، فرواه من طريق سعد بن إسحاق قال: حدثني أبو ثمامة الخياط عن كعب. وقد ذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له ما في صحيحه هذا الحديث. (الحديث) فيه كراهة التشبيك من وقت الخروج إلى المسجد للصلاة. وفيه أنه يكتب لقاصد الصلاة أجر المصلي من حين يخرج من بيته إلى أن يعود إليه. قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث: وقد ثبت في خبر ذي اليدين أنه عليه الصلاة والسلام شبك أصابعه في المسجد وذلك يفيد عدم التحريم، ولا يمنع الكراهة لكونه فعله نادرا انتهى. قد عارض حديث الباب مع ما فيه هذا الحديث الصحيح في تشبيكه صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه في المسجد وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين بلفظ: ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان وشبك بين أصابعه. وفيهما من حديث أبي موسى: المؤمن للمؤمن كالبنيان وشبك بين أصابعه وعند البخاري من حديث ابن عمر قال: شبك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصابعه. وهذه الاحاديث أصح من حديث الباب، ويمكن الجمع بين هذه الاحاديث بأن تشبيكه صلى الله
[ 382 ]
عليه وآله وسلم في حديث السهو كان لاشتباه الحال عليه في السهو الذي وقع منه، ولذلك وقف كأنه غضبان. وتشبيكه في حديث أبي موسى وقع لقصد التشبيه لتعاضد المؤمنين بعضهم ببعض، كما أن البنيان المشبك بعضه ببعض يشد بعضه بعضا. فأما حديث الباب فهو محمول على التشبيك للعبث، وهو منهي عنه في الصلاة ومقدماتها ولواحقها من الجلوس في المسجد والمشي إليه. أو يجمع بما ذكره المصنف من كان فعله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك نادرا يرفع التحريم ولا يرفع الكراهة، ولكن يبعد أن يفعل صلى الله عليه وآله وسلم ما كان مكروها. والاولى أن يقال: إن النهي عن التشبيك ورد بألفاظ خاصة بالامة، وفعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض قوله الخاص بهم كما تقرر في الاصول. وعن كعب بن عجرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا قد شبك أصابعه في الصلاة ففرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه. وعن علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تفقع أصابعك في الصلاة رواهما ابن ماجه. الحديث الاول في إسناده علقمة بن عمر. والحديث الثاني في إسناده الحرث الاعور. قوله: ففرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه فيه كراهية التشبيك في الصلاة من غير تقييد بالمسجد، سواء كان المصلي في المسجد، أو في البيت، أو في السوق، لانه نوع من العبث، فلا يختص بكراهية الصلاة في المسجد. ويؤيد ذلك تعليله صلى الله عليه وآله وسلم للنهي عن التشبيك إذا خرج من بيته بأنه في صلاة، وإذا نهى من يكتب له أجر المصلي لكونه قاصدا الصلاة فأولى من هو في حال الصلاة الحقيقية. قوله: لا تفقع هو بالفاء بعد حرف المضارعة، ثم القاف المشددة المكسورة، ثم العين المهملة، وهو غمز الاصابع حتى يسمع لها صوت. قال في القاموس: والتفقيع التشدق في الكلام والفرقعة. وفسر الفرقعة بنقض الاصابع، وقد تقدم في شرح حديث أبي سعيد ما أخرجه أحمد والطبراني من حديث أنس وهو مما يؤيد حديث على هذا. وعن أبي هرير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن التخصر في الصلاة رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وفي الباب عن ابن عمر عند أبي داود والنسائي. قوله: عن التخصر في الصلاة
[ 383 ]
وهو وضع اليد على الخاصرة، فسره بذلك الترمذي في سننه، وأبو داود في سننه أيضا. وفسره بذلك أيضا محمد بن سيرين، روى ذلك عنه ابن أبي شيبة في مصنفه، وكذلك فسره هشام بن حسان، رواه عنه البيهقي في سننه قال: وروى سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة معنى هذا التفسير، وحكى الخطابي وغيره قولا آخر في تفسير الاختصار فقال: وزعم بعضهم أن معنى الاختصار هو أن يمسك بيديه مخصرة أي عصا يتوكأ عليها. قال ابن العربي: ومن قال إنه الصلاة على المخصرة لا معنى له، وفيه قول ثالث حكاه الهروي في الغريبين، وابن الاثير في النهاية، وهو أن يختصر السورة فيقرأ من آخرها آية أو آيتين. وفيه قول رابع حكاه الهروي وهو أن يحذف من الصلاة فلا يمد قيامها وركوعها وسجودها. قال العراقي: والقول الاول هو الصحيح الذي عليه المحققون والاكثرون من أهل اللغة والحديث والفقه. وقد اختلف في المعنى الذي نهى عن الاختصار في الصلاة لاجله على أقوال: الاول التشبيه بالشيطان قاله الترمذي في سننه، وحميد بن هلال في رواية ابن أبي شيبة عنه. وروي أيضا عن ابن عباس حكاه عنه ابن أبي شيبة. والثاني: أنه تشبه باليهود، قالته عائشة فيما رواه البخاري عنها في صحيحه. والثالث: أنه راحة أهل النار، روى ذلك ابن أبي شيبة عن مجاهد، ورواه أيضا عن عائشة. وروى البيهقي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الاختصار في الصلاة راحة أهل النار. قال العراقي: وظاهر إسناده الصحة، ورواه أيضا الطبراني. والرابع: أنه فعل المختالين والمتكبرين قاله المهلب بن أبي صفرة. والخامس: أنه شكل من أشكال أهل المصائب يصفون أيديهم على الخواصر إذا قاموا في المأتم قاله الخطابي. (والحديث) يدل على تحريم الاختصار، وقد ذهب إلى ذلك أهل الظاهر. وذهب ابن عباس وابن عمر وعائشة وإبراهيم النخعي ومجاهد وأبو مجلز ومالك والاوزاعي والشافعي وأهل الكوفة وآخرون إلى أنه مكروه. والظاهر ما قاله أهل الظاهر لعدم قيام قرينة تصرف النهي عن التحريم الذي هو معناه الحقيقي كما هو الحق. [ رح 851 ] وعن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده رواه أحمد وأبو داود. وفي لفظ لابي داود: نهى أن يصلي الرجل وهو معتمد على يده. وعن أم قيس بنت محصن: أن النبي صلى
[ 384 ]
الله عليه وآله وسلم لما أسن وحمل اللحم اتخذ عمودا في مصلاه يعتمد عليه رواه أبو داود. الحديث الاول رواه أبو داود عن أربعة من مشايخه: أحمد بن حنبل، وأحمد بن شبويه، ومحمد بن رافع، ومحمد بن عبد الملك، كلهم عن عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر. واللفظ الاول في حديث الباب لفظ أحمد بن حنبل. واللفظ الثاني لفظ محمد بن رافع، ولفظ ابن شبويه: نهى أن يعتمد الرجل على يده. ولفظ محمد بن عبد الملك: نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة. وقد سكت أبو داود والمنذري عن الكلام على حديث ابن عمر وحديث أم قيس، فهما صالحان للاحتجاج بهما، كما صرح بذلك جماعة من الائمة، لكن حديث أم قيس هو من حديث عبد السلام بن عبد الرحمن الوابصي عن أبيه وأبوه مجهول. والحديث الاول بجميع ألفاظه يدل على كراهة الاعتماد على اليدين عند الجلوس وعند النهوض وفي مطلق الصلاة. وظاهر النهي التحريم، وإذا كان الاعتماد على اليد كذلك فعلى غيرها بالاولى. وحديث أم قيس يدل على جواز الاعتماد على العمود والعصا ونحوهما، لكن مقيدا بالعذر المذكور وهو الكبر وكثرة اللحم، ويلحق بهما الضعف والمرض ونحوهما، فيكون النهي محمولا على عدم العذر، وقد ذكر جماعة من العلماء أن من احتاج في قيامه إلى أن يتكئ على عصا أو عكاز، أو يستند إلى حائط، أو يميل على أحد جانبيه جاز له ذلك، وجزم جماعة من أصحاب الشافعي باللزوم وعدم جواز القعود مع إمكان القيام مع الاعتماد منهم المتولي والاذرعي، وكذا قال باللزوم ابن قدامة الحنبلي، وقال القاضي حسين من أصحاب الشافعي: لا يلزم ذلك ويجوز القعود. باب ما جاء في مسح الحصى وتسويته عن معيقيب: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد: إن كنت فاعلا فواحدة رواه الجماعة. وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصى رواه الخمسة. وفي رواية لاحمد: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 385 ]
عن كل شئ حتى سألته عن مسح الحصى فقال: واحدة أودع. الحديث الثاني في إسناده أبو الأحوص. قال المنذري: لا يعرف اسمه، وقد صحح له الترمذي وابن حبان وغيرهما، وقد تقدم الكلام في أبي الاحوص في باب الالتفات، وهذا الحديث حسنه الترمذي (وفي الباب) عن علي عند أحمد وابن أبي شيبة. وعن حذيفة عند ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد في المسند بلفظ الرواية الآخرة من حديث أبي ذر. وعن جابر عند ابن أبي شيبة، وأحمد أيضا وفي إسناه شرحبيل بن سعد وهو ضعيف. وعن أنس عن البزار وأبي يعلى وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي وهو ضعيف جدا. وعن السائب بن يزيد عند الطبراني وفي إسناده يزيد بن عبد الملك النوفلي ضعفه الجمهور ووثقه ابن معين في رواية عنه. وعن ابن عمر عند الطبراني وفي إسناده الوزاع بن نافع وهو ضعيف وعن أبي هريرة عند مسلم وابن ماجه (والاحاديث) المذكورة في الباب تدل على كراهة المسح على الحصى، وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة عمر بن الخطاب وجابر، ومن التابعين مسروق وإبراهيم النخعي والحسن البصري وجمهور العلماء بعدهم، وحكى النووي في شرح مسلم اتفاق العلماء على كراهته، وفي حكاية الاتفاق نظر، فإن مالكا لم ير به بأسا وكان يفعله في الصلاة، كما حكاه الخطابي في المعالم وابن العربي. قال العراقي في شرح الترمذي: وكان ابن مسعود وابن عمر يفعلانه في الصلاة. وعن ابن مسعود أيضا أنه كان يفعله في الصلاة مرة واحدة. قال: وممن رخص فيه في الصلاة مرة واحدة أبو ذر وأبو هريرة وحذيفة ومن التابعين إبراهيم النخعي وأبو صالح. وذهب أهل الظاهر إلى تحريم ما زاد على المرة. قوله: فواحدة قال القرطبي: رويناه بنصب واحدة ورفعه، فنصبه بإضمار فعل الامر تقديره فامسح واحدة، ويكون صفة مصدر محذوف، أي أمسح مسحة واحدة، ورفعه على الابتداء تقديره فواحدة تكفيه. وفيه الاذن بمسحة واحدة عند الحاجة. قوله: فإن الرحمة تواجهه هذا التعليل يدل على أن الحكمة في النهي عن المسح أن لا يشغل خاطره بشئ يلهيه عن الرحمة المواجهة له فيفوته حظه منها. وقد روي أن حكمة ذلك أن لا يغطي شيئا من الحصى بمسحه فيفوته السجود عليه، رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي صالح قال: إذا سجدت فلا تمسح الحصى فإن كل حصاة تحب أن يسجد عليها، وقال النووي: لانه ينافي التواضع ويشغل المصلي. وقوله: فلا يمسح الحصى التقييد
[ 386 ]
بالحصى خرج مخرج الغالب، لكونه كان الغالب على فرش مساجدهم، ولا فرق بينه وبين التراب والرمل على قول الجمهور. ويدل على ذلك قوله في حديث معيقيب في الرجل يسوي التراب. والمراد بقوله: إذا قام أحدكم إلى الصلاة الدخول فيها، فلا يكون منهيا عن مسح الحصى إلا بعد دخوله، ويحتمل أن المراد قبل الدخول، حتى لا يشتغل عند إرادة الصلاة إلا بالدخول فيها، قال العراقي: والاول أظهر ويرجحه حديث معيقيب فإنه سأل عن مسح الحصى في الصلاة دون مسحه عند القيام كما في رواية الترمذي. باب كراهة أن يصلي الرجل معقوص الشعر عن ابن عباس أنه رأى عبد الله بن الحرث يصلي ورأسه معقوص إلى ورائه، فجعل يحله وأقر له الآخر، ثم أقبل على ابن عباس فقال: ما لك ورأسي؟ قال إنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنما مثل هذا كمثل الذي يصلي وهو مكتوف رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. [ رح 856 ] وعن أبي رافع قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي الرجل ورأسه معقوص رواه أحمد وابن ماجه، ولابي داود والترمذي معناه. الحديث الاول أخرجه من ذكر المصنف. وأخرج الائمة الستة أيضا عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء، ولا يكف شعرا ولا ثوبا وأخرج الشيخان والنسائي وابن ماجه عنه من طريق أخرى نحوه. والحديث الثاني أخرجه ابن ماجه من رواية مخول، سمعت أبا سعد رجلا من أهل المدينة يقول: رأيت رافعا مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى الحسن بن علي رضي الله عنه يصلي وقد عقص شعره فاطلقه أو نهى عنه وقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي الرجل وهو عاقص شعره وأخرجه أبو داود والترمذي وصححه بمعناه كما ذكره المصنف. ولفظه عن أبي رافع: أنه مر بالحسن بن علي وهو يصلي وقد عقص ضفرته فحلها، فالتفت إليه الحسن مغضبا فقال: أقبل على صلاتك ولا تغضب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ذلك
[ 387 ]
كفل الشيطان (وفي الباب) عن أم سلمة عند ابن أبي حاتم في العلل بنحو حديث أبي رافع. وعن علي رضي الله عنه عند أبي علي الطوسي. وعن ابن مسعود عند ابن ماجه بإسناد صحيح. وعن أبي موسى عند أبي علي الطوسي في الاحكام. وعن جابر عند ابن عدي في الكامل وفيه علي بن عاصم وهو ضعيف. قوله: عبد الله بن الحرث وهو ابن جزء بفتح الجيم وسكون الزاي وبعدها همزة السهمي شهد بدرا. قوله: ورأسه معقوص عقص الشعر ضفره وفتله، والعقاص خيط يشد به أطراف الذوائب، ذكر معنى ذلك في القاموس. قوله: وأقر له الآخر أي استقر لما فعله ولم يتحرك. قوله: وهو مكتوف كتفته كتفا كضربته ضربا، إذا شددت يده إلى خلف كتفيه موثقا بحبل (والحديثان) يدلان على كراهة صلاة الرجل وهو معقوص الشعر أو مكفوفه. وقد حكى الترمذي عن أهل العلم أنهم كرهوا ذلك. قال العراقي: وممن كرهه من الصحابة عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وحذيفة، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس، وابن مسعود. ومن التباين إبراهيم النخعي في آخرين (والحكمة) في ذلك أن الشعر يسجد معه إذا سجد وفيه امتهان. له في العبادة، قاله عبد الله بن مسعود، فيما رواه ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد صحيح إليه أنه دخل المسجد فرأى فيه رجلا يصلي عاقصا شعره، فلما انصرف قال عبد الله: إذا صليت فلا تعقص شعرك فإن شعرك يسجد معك ولك بكل شعرة أجر فقال الرجل: إني أخاف أن يتترب، فقال: تتريبه خير لك. وقال ابن عمر لرجل رآه يصلي معقوصا شعره، أرسله ليسجد معك. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى عثمان بن عفان أنه رأى رجلا يصلي وقد عقد شعره فقال: يا ابن أخي مثل الذي يصلي وقد عقص شعره مثل الذي يصلي وهو مكتوف. وقد تقدم تمثيل من فعل ذلك بالمكتوف مرفوعا من حديث ابن عباس وفيه معنى ما أشار إليه ابن مسعود من سجود الشعر: فإن المكتوف لا يسجد بيديه على الارض، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: اليدان يسجدان كما يسجد الوجه وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه كان إذا صلى وقع شعره على الارض وظاهر الشعبي في حديث الباب التحريم فلا يعدل عنه إلا لقرينة. قال العارقي: وهو مختص بالرجال دون النساء، لان شعرهن عورة يجب ستره في الصلاة، فإذا نقضته ربما استرسل وتعذر ستره فتبطل صلاتها، وأيضا فيه مشقة عليها في نقضه للصلاة، وقد رخص لهن صلى الله عليه وآله وسلم في أن لا ينقضن ضفائرهن في الغسل مع الحاجة إلى بل جميع الشعر كما تقدم.
[ 388 ]
باب كراهة تنخم المصلي قبله أو عن يمينه عن أبي هريرة وأبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى نخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فحتها وقال: إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى متفق عليه. وفي رواية للبخاري: فيدفنها. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا قام أحدكم في صلاته فلا يبزقن قبل قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ورد بعضه على بعض فقال: أو يفعل هكذا رواه أحمد والبخاري. ولا حمد ومسلم نحوه بمعناه من حديث أبي هريرة. قوله: نخامة قيل: هي ما تخرج من الصدر، وقيل: النخاعة بالعين من الصدر، وبالميم من الرأس، كذا في الفتح قوله: في جدار المسجد في رواية للبخاري: في القبلة وفي أخرى له أيضا: في جدار القبلة. وهذا يبين أن المراد بجدار المسجد الجدار الذي من جهة القبلة. قوله: فتناول حصاة فحتها في رواية للبخاري: فحكه بيده وفي رواية: فحكه واختلاف الروايات يدل على جواز الحك باليد أو الحصى أو غيرهما مما يزيل الاثر. وقد بوب البخاري للحك باليد، وبوب للحك بالحصى. قوله: قبل وجهه بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة وجهه. قوله: ولا عن يمينه ظاهر حديث أبي هريرة كراهة ذلك داخل الصلاة وخارجها لعدم تقييده بحال الصلاة. وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها، سواء كان في المسجد أم غيره. قال الحافظ: ويشهد للمنع ما رواه عبد الرزاق وغيره عن ابن مسعود أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة. وعن معاذ بن جبل: ما بصقت عن يميني منذ أسلمت. وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى ابنه عنه مطلقا. وقال ما لك: لا بأس به خارج الصلاة، ويدل لما قاله التقييد بالصلاة في حديث أنس المذكور في الباب. قوله: وليبصق عن يساره ظاهر هذا جواز البصق عن اليسار في المسجد وغيره، وداخل الصلاة وخارجها. وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها كما أخرجه الشيخان عدم جواز التفل في المسجد إلى جهة اليسار وغيرها. قال الحافظ: وحاصل النزاع أن ههنا عمومين تعارضا وهما قوله: البزاق في المسجد خطيئة. وقوله: وليبصق عن يساره أو تحت
[ 389 ]
قدمه، فالنووي يجعل الاول عاما، ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي عياض بخلافه يجعل الثاني عاما فيخص الاول بمن لم يرد دفنها. وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي والقرطبي وغيرهما. ويشهد له ما رواه أحمد بإسناد حسن من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا: فمن تنخم في المسجد فليغيب نخامته أن يصيب جلده مؤمن أو ثوبه فتؤذيه وأوضح منه في المقصود ما رواه أحمد أيضا والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعا قال: من تنخم في المسجد فلم يدفنه فسيئة وإن دفنه فحسنة. فلم يجعل سيئة إلا بقيد عدم الدفن. ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعا قال: ووجدت في مساوي أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد بل به وبتركها غير مدفونة انتهى. ومما يدل على ذلك أي تخصيص عموم قوله: البزاق في المسجد خطيئة جواز التنخم في الثوب ولو كان في المسجد بلا خلاف. وعند أبي داود من حديث عبد الله بن الشخير أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله قال الحافظ: إسناده صحيح وأصله في مسلم، والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم، ويؤيد قول النووي تصريحه صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه بأن البزاق في المسجد خطيئة، وأن دفنها كفارة لها، فإن دلالته على كتب الخطيئة بمجرد البزاق في المسجد ظاهرة غاية الظهور، ولكنها تزول بالدفن وتبقى بعدمه. قال الحافظ: وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر، كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر وهو تفصيل حسن انتهى. قوله: فيدفنها قال النووي في الرياض: المراد بدفنها إذا كان المسجد ترابيا أو رمليا، فأما إذا كان مبلطا مثلا فدلكها بشئ مثلا فليس ذلك بدفن بل زيادة في التقذر. قال الحافظ: لكن إذا لم يبق لها أثر البتة فلا مانع. وعليه قوله في حديث عبد الله بن الشخير المتقدم ثم دلكه بنعله قوله: أو يفعل هكذا ظاهر هذا أنه مخير بين ما ذكر وظاهر النهي عن البصق إلى القبلة التحريم. ويؤيده تعليله بأن ربه تعالى بينه وبين القبلة كما في البخاري من حديث أنس. وبأن الله قبل وجهه إذا صلى كما في حديث ابن عمر عند البخاري. قال في الفتح: وهذا التعليل يدل على أن البزاق في القبلة حرام، سواء كان في المسجد أم لا، ولاسيما من المصلي، فلا يجري فيه الخلاف في أن كراهية البزاق في المسجد هل هي للتنزيه أو للتحريم وفي صحيحي ابن حبان وابن خزيمة من حديث حذيفة مرفوعا: من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله
[ 390 ]
بين عينيه وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعا: يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه. ولابي داود بن حبان من حديث السائب بن جلاد: أن رجلا أم قوما فبصق في القبلة، فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يصلي بكم الحديث وفيه أنه قال: إنك آذيت الله ورسوله انتهى. باب في أن قتل الحية والعقرب والمشي اليسير للحاجة لا يكره عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل الاسودين في الصلاة: العقرب والحية رواه الخمسة وصححه الترمذي. الحديث، نقل ابن عساكر في الاطراف وتبعه المزي وتبعهما المصنف أن الترمذي صححه، والذي في النسخ أنه قال: حديث حسن، ولم يرتفع به إلى الصحة. وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه. (وفي الباب) عن ابن عباس عند الحاكم بإسناد ضعيف. وعن أبي رافع عند ابن ماجه وفي إسناده مندل وهو ضعيف، وكذلك شيخه محمد بن عبيد الله بن أبي رافع. وعن ابن عمر عن إحدى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند البخاري ومسلم. وعن عائشة عند أبي يعلى الموصلي وفي إسناده معاوية بن يحيى الصدفي ضعفه الجمهور. وعن رجل من بني عدي بن كعب عند أبي داود بإسناد منقطع. قوله: أمر بقتل الاسودين تسمية الحية والعقرب بالاسودين من باب التغليب، ولا يسمى بالاسود في الاصل إلا الحية (والحديث) يدل على جواز قتل الحية والعقرب في الصلاة من غير كراهة، وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء كما قال العراقي. وحكى الترمذي عن جماعة كراهة ذلك منهم إبراهيم النخعي، وكذا روي ذلك عن إبراهيم بن أبي شيبة في المصنف. وروى ابن أبي شيبة أيضا عن قتادة أنه قال: إذا لم تتعرض لك فلا تقتلها. قال العراقي، وأما من قتلها في الصلاة أو هم بقتلها فعلي بن أبي طالب وابن عمر، روى ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح أنه رأى ريشة وهو يصلي فحسب أنها عقرب فضربها بنعله. ورواه البيهقي أيضا وقال: فضربها برجله وقال: حسبت أنها عقرب. ومن التابعين الحسن البصري، وأبو العالية، وعطاء، ومورق العجلي وغيرهم انتهى (واستدل) المانعون من ذلك إذا بلغ إلى حد الفعل الكثير كالهادوية والكارهون له كالنخعي بحديث: إن في الصلاة
[ 391 ]
لشغلا المتقدم، وبحديث: اسكنوا في الصلاة عند أبي داود، ويجاب عن ذلك بأن حديث الباب خاص، فلا يعارضه ما ذكروه، وهكذا يقال في كل فعل كثير، ورد الاذن به كحديث حمله صلى الله عليه وآله وسلم لامامة. وحديث خلعه للنعل. وحديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، ونزوله للسجود، ورجوعه بعد ذلك. وحديث أمره صلى الله عليه وآله وسلم بدرء المار وإن أفضى إلى المقاتلة. وحديث مشيه لفتح الباب الآتي بعد هذا الحديث، وكل ما كان كذلك ينبغي أن يكون مخصصا لعموم أدلة المنع (واعلم) أن الامر بقتل الحية والعقرب مطلق غير مقيد بضربة أو ضربتين، وقد أخرج البيهقي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفاك للحية ضربة أصبتها أم أخطأتها وهذا يوهم التقييد بالضربة قال البيهقي: وهذا إن صح فإنما أراد والله أعلم وقوع الكفاية بها في الاتيان بالمأمور، فقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم بقتلها، وأراد والله أعلم إذا امتنعت بنفسها عند الخطأ، ولم يرد به المنع من الزيادة على ضربة واحدة، ثم استدل البيهقي على ذلك بحديث أبي هريرة عند مسلم: من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة أدنى من الاولى، ومن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة أدنى من الثانية قال في شرح السنة: وفي معنى الحية والعقرب كل ضرار مباح القتل كالزنابير ونحوها. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في البيت والباب عليه مغلق، فجئت فمشى حتى فتح لي ثم رجع إلى مقامه ووصفت أن الباب في القبلة رواه الخمسة إلا ابن ماجه. الحديث حسنه الترمذي، وزاد النسائي: يصلي تطوعا وكذا ترجم عليه الترمذي. قوله: والباب عليه مغلق فيه أن المستحب لمن صلى في مكان بابه إلى القبلة أن يغلق الباب عليه ليكون سترة للمار بين يديه، وليكون أستر، وفيه إخفاء الصلاة عن الآدميين. قوله: فجئت فمشى لفظ أبي داود: فجئت فاستفتحت فمشى قال ابن رسلان: هذا المشي محمول على أنه مشى خطوة أو خطوتين، أو مشى أكثر من ذلك متفرقا، وهو من التقييد بالمذهب ولا يخفى فساده. (والحديث) يدل على إباحة المشي في صلاة التطوع للحاجة.
[ 392 ]
باب في أن عمل القلب لا يبطل وإن طال عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع الاذان، فإذا قضي الاذان أقبل فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: اذكر كذا اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى، فإذا لم يدر أحدكم. ثلاثا صلى أو أربعا فليسجد سجدتين وهو جالس متفق عليه. وقال البخاري قال عمر: إني لاجهز جيشي وأنا في الصلاة. قوله: وله ضراط جملة اسمية وقعت حالا. وفي رواية بدون واو لحصول الارتباط بالضمير. قال عياض: يمكن حمله على ظاهره لانه جسم يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنها عبارة عن شدة نفاره، ويقربه رواية مسلم بلفظ: له حصاص بمهملات مضموم الاول، وقد فسره الاصمعي وغيره بشدة العدو. قال في الفتح: والمراد بالشيطان إبليس، وعليه يدل كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان، وهو كل متمرد من الجن أو الانس، لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة. قوله: حتى لا يسمع التأذين ظاهره أن يتعمد إخراج ذلك إما ليشغله سماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافا كما يفعله السفهاء، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك، بل يحصل له عند سماع الاذان شدة خوف حتى يحدث له ذلك. قوله: فإذا قضي بضم أوله والمراد به الفراغ والانتهاء، ويروى بفتح أوله على حذف الفاعل والمراد المنادى. قوله: أقبل زاد مسلم عن أبي هريرة فوسوس. قوله: فإذا ثوب بضم المثلثة وتشديد الواو المكسورة قيل: هو من ثاب إذا رجع، وقيل: هو من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفراغ لاعلام غيره. قال الجمهور: المراد بالتثويب هنا الاقامة وبذلك جزم أبو عوانة في صحيحه، والخطابي والبيهقي وغيرهم. وقال القرطبي: ثوب بالصلاة إذا أقيمت، وأصله رجع إلى ما يشبه الاذان، وكل من يردد صوتا فهو مثوب، وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن من الاذان والاقامة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة. قال الخطابي: لا تعرف العامة التثويب في الاذان إلا من قول المؤذن في الاذان: الصلاة خير من النوم، لكن المراد به في هذا الحديث الاقامة. قوله: حتى يخطر
[ 393 ]
بضم الطاء. قال الحافظ: كذا سمعناه من أكثر الرواة، وضبطناه عن المتقنين بالكسر وهو وجه ومعناه يوسوس. وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه. وأما بالضم فمن المرور أن يدنو منه فيشغله، وضعف الهجري في نوادره الضم مطلقا. قوله: بين المرء ونفسه أي قلبه، وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق. قال الباجي: بمعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها. قوله: لما لم يكن يذكر أي لشئ لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة، وهو أعم من أن يكون من أمور الدنيا أو الآخرة. وهل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها لا يبعد ذلك، لان غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان، كذا قال الحافظ. قوله: حتى يضل الرجل بضاد مكسورة كذا وقع عند الاصيلي ومعناه يجهل، قال الحافظ في الفتح: وعند الجمهور بالظاء المشالة بمعنى يصير أو يبقى أو يتحير. قوله: إن يدري كم صلى بكسر الهمزة وهي التي للنفي بمعنى لا. وحكى ابن عبد البر عن الاكثر فتح الهمزة ووجهه بما تعقبه عليه جماعة. قال القرطبي: ليست رواية الفتح بشئ إلا مع الضاد، فيكون أن مع الفعل بتأويل المصدر مفعولا لضل بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته. وفي رواية للبخاري: لا يدري كم صلى (والحديث) يدل على أن الوسوسة في الصلاة غير مبطلة لها، وكذلك سائر الاعمال القلبية لعدم الفارق. وللحديث فوائد ليس المقام محلا لبسطها. قوله: إني لاجهز جيشي وأنا في الصلاة أي أدبر تجهيزه وأفكر فيه. باب القنوت في المكتوبة عند النوازل وتركه في غيرها عن أبي مالك الاشجعي قال: قلت لابي: إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة قريبا من خمس سنين أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني محدث رواه أحمد والترمذي وصححه ابن ماجه. وفي رواية: أكانوا يقنتون في الفجر؟ والنسائي ولفظه قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف
[ 394 ]
عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي عليه السلام فلم يقنت، ثم قال: يا بني بدعة. الحديث: قال الحافظ في التلخيص: إسناده حسن. وفي الباب عن ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي أنه قال: القنوت في صلاة الصبح بدعة. قال البيهقي: لا يصح. وعن ابن عمر عند الطبراني قال في قيامهم عند فراغ القارئ من السورة يعني قيام القنوت إنها لبدعة ما فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي إسناده بشر بن حرب الرازي وهو ضعيف. وعن ابن مسعود عند الطبراني في الاوسط والبيهقي والحاكم في كتاب القنوت بلفظ: ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شئ من صلاته زاد الطبراني: إلا في الوتر، وأنه كان إذا حارب يقنت في الصلوات كلهن يدعو على المشركين، ولا قنت أبو بكر ولا عمر حتى ماتوا، ولا قنت علي حتى حارب أهل الشام، وكان يقنت في الصلوات كلهن. وكان معاوية يدعو عليه أيضا، قال البيهقي: كذا رواه محمد بن جابر السحيمي وهو متروك. وعن أم سلمة عند ابن ماجه. قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن القنوت في الفجر. ورواه الدارقطني وفي إسناده ضعف. (والحديث) يدل على عدم مشروعية القنوت، وقد ذهب إلى ذلك أكثر أهل العلم، كما حكاه الترمذي في كتابه، وحكاه العراقي عن أبي بكر وعمر وعلي وابن عباس وقال: قد صح عنهم القنوت، وإذا تعارض الاثبات والنفي قدم المثبت، وحكاه عن أربعة من التابعين. وعن أبي حنيفة وابن المبارك وأحمد وإسحاق، وحكاه المهدي في البحر عن العبادلة وأبي الدرداء وابن مسعود. وقد اختلف النافون لمشروعيته هل يشرع عند النوازل أم لا؟ وذهب جماعة إلى أنه مشروع في صلاة الفجر، وقد حكاه الحازمي عن أكثر الناس من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من علماء الامصار، ثم عد من الصحابة الخلفاء الاربعة إلى تمام تسعة عشر من الصحابة، ومن المخضرمين أبو رجاء العطاردي، وسويد بن غفلة، وأبو عثمان النهدي، وأبو رافع الصائغ. ومن التابعين اثنا عشر ومن الائمة والفقهاء، أبو إسحاق الفزاري، وأبو بكر بن محمد، والحكم بن عتيبة، وحماد، ومالك بن أنس وأهل الحجاز، والاوزاعي. وأكثر أهل الشام والشافعي وأصحابه، وعن الثوري روايتان. ثم قال: وغير هؤلاء خلق كثير. وزاد العراقي: عبد الرحمن بن مهدي، وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وداود، ومحمد بن جرير، وحكاه عن جماعة من أهل الحديث منهم
[ 395 ]
أبو حاتم الرازي، وأبو زرعة الرازي، وأبو عبد الله الحاكم، والدارقطني، والبيهقي، والخطابي، وأبو مسعود الدمشقي. وحكاه الخطابي في المعالم عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وحكى الترمذي عنهما خلاف ذلك. قال النووي في شرح المهذب: القنوت في الصبح مذهبنا، وبه قال أكثر السلف ومن بعدهم أو كثير منهم، وحكاه المهدي في البحر عن الهادي والقاسم وزيد بن علي والناصر والمؤيد بالله من أهل البيت. وقال الثوري وابن حزم: كل من الفعل والترك حس. واعلم أنه قد وقع الاتفاق على ترك القنوت في أربع صلوات من غير سبب وهي: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولم يبق الخلاف إلا في صلاة الصبح من المكتوبات، وفي صلاة الوتر من غيرها. أما القنوت في الوتر فسيأتي الكلام عليه في أبواب الوتر. (وأما القنوت) في صلاة الصبح فاحتج المثبتون له بحجج منها حديث البراء وأنس الآتيان، ويجاب بأنه لا نزاع في وقوع القنوت منه صلى الله عليه وآله وسلم، إنما النزاع في استمرار مشروعيته، فإن قالوا: لفظ كان يفعل يدل على استمرار المشروعية، قلنا: قد قدمنا عن النووي ما حكاه عن جمهور المحققين أنها لا تدل على ذلك سلمنا فغايته مجرد الاستمرار، وهو لا ينافي الترك آخرا، كما صرحت بذلك الادلة الآتية على أن هذين الحديثين فيهما أنه كان يفعل ذلك في الفجر والمغرب، فما هو جوابكم عن المغرب فهو جوابنا عن الفجر. وأيضا في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه كان يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر، والعشاء الآخرة، وصلاة الصبح، فما هو جوابكم عن مدلول لفظ كان ههنا فهو جوابنا. قالوا: أخرج الدارقطني وعبد الرزاق وأبو نعيم وأحمد والبيهقي والحاكم وصححه عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قنت شهرا يدعو على قاتلي أصحابه ببئر معونة ثم ترك، فأما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا. وأول الحديث في الصحيحين، ولو صح هذا لكان قاطعا للنزاع، ولكنه من طريق أبي جعفر الرازي، قال فيه عبد الله بن أحمد: ليس بالقوي. وقال علي بن المديني: إنه يخلط. وقال أبو زرعة: بهم كثيرا. وقال عمرو بن علي الفلاس: صدوق سيئ الحفظ. وقال ابن معين: ثقة ولكنه يخطئ. وقال الدوري: ثقة ولكنه يغلط. وحكى الساجي أنه قال: صدوق ليس بالمتقن، وقد وثقه غير واحد. ولحديثه هذا شاهد ولكن في إسناده عمرو بن عبيد وليس بحجة. قال الحافظ: ويعكر على هذا ما رواه الخطيب من طريق قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان قلنا لانس: إن قوما يزعمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل
[ 396 ]
يقنت في الفجر، فقال: كذبوا إنما قنت شهرا واحدا يدعو على حي من أحياء المشركين وقيس وإن كان ضعيفا لكنه لم يتهم بكذب. وروى ابن خزيمة في صحيحه من طريق سعيد عن قتادة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم فاختلفت الاحاديث عن أنس واضطربت، فلا يقوم لمثل هذا حجة انتهى. (إذا تقرر لك هذا) علمت أن الحق ما ذهب إليه من قال: إن القنوت مختص بالنوازل، وإنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به صلاة دون صلاة. وقد ورد ما يدل على هذا الاختصاص من حديث أنس عند ابن خزيمة في صحيحه وقد تقدم ومن حديث أبي هريرة عند ابن حبان بلفظ: كان لا يقنت إلا أن يدعو لاحد أو يدعو على أحد وأصله في البخاري كما سيأتي. وستعرف الادلة الدالة على ترك مطلق القنوت ومقيده، وقد حاول جماعة من حذاق الشافعية الجمع بين الاحاديث بما لا طائل تحته، وأطالوا الاستدلال على مشروعية القنوت في صلاة الفجر في غير طائل. (وحاصله) ما عرفناك، وقد طول المبحث الحافظ ابن القيم في الهدى وقال ما معناه: الانصاف الذي يرتضيه العالم المنصف أنه صلى الله عليه وآله وسلم قنت وترك، وكان تركه للقنوت أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم وخلصوا من الاسر، وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين، وكان قنوته لعارض فلما زال ترك القنوت، وقال في غضون ذلك، المبحث أن أحاديث أنس كلها صحاح يصدق بعضها بعضا ولا تتناقض، وحمل قول أنس: ما زال يقنت حتى فارق الدنيا على إطالة القيام بعد الركوع، وقد أسلفنا الادلة على مشروعية ذلك في باب الجلسة بين السجدتين، وأجاب عن تخصيصه بالفجر بأنه وقع بحسب سؤال السائل، فإنه إنما سأل أنسا عن قنوت الفجر، فأجابه عما سأله عنه، وبأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، قال: ومعلوم أنه كان يدعو ربه ويثني عليه ويمجده في هذا الاعتدال، وهذا قنوت منه فلا ريب، فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، ولما صار القنوت في لسان الفقهاء وأكثر الناس هو هذا الدعاء المعروف: اللهم اهدني فيمن هديت الخ، وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة، حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم، ونشأ من لا يعرف غير ذلك، فلم يشك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا مداومين على هذا كل غداة، وهذا هو الذي
[ 397 ]
نازعهم فيه جمهور العلماء وقالوا: لم يكن هذا من فعله الراتب، بل ولا يثبت عنه أنه فعله، وغاية ما روي عنه فهذا القنوت أنه علمه الحسن بن علي، إلى آخر كلامه، وهو على فرض صلاحية حديث أنس للاحتجاج وعدم اختلافه واضطرابه محمل حسن. واعلم أنه قد وقع الاتفاق على عدم وجوب القنوت مطلقا، كما صرح بذلك صاحب البحر وغيره. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قنت شهرا ثم تركه رواه أحمد وفي لفظ: قنت شهرا يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. وفي لفظ: قنت شهرا حين قتل القراء فما رأيته حزن حزنا قط أشد منه رواه البخاري. قوله: على أحياء من أحياء العرب هم بنو سليم قتلة القراء كما سيأتي في حديث ابن عباس. قوله: حين قتل القراء هم أهل بئر معونة وقصتهم مشهورة. (والحديث) يدل على عدم مشروعية القنوت في جميع الصلوات. وقد جمع بينه وبين حديث أنس الدال على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما زال يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، بأن المراد ترك الدعاء على الكفار لا أصل القنوت. وروى البيهقي مثل هذا الجمع عن عبد الرحمن بن مهدي بسند صحيح، والقنوت له معان تقدم ذكرها في باب نسخ الكلام، والمراد في هذا الباب الدعاء. (فائدة) في البخاري من طريق عاصم الاحول عن أنس أن القنوت قبل الركوع. قال البيهقي: رواة القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ، وعليه درج الخلفاء الراشدون. وروى الحاكم أبو أحمد في الكنى عن الحسن البصري قال: صليت خلف ثمانية وعشرين بدريا كلهم يقنت في الصبح بعد الركوع. قال الحافظ: وإسناده ضعيف. قال الاثرم، قلت لاحمد: يقول أحد في حديث أنس إنه قنت قبل الركوع غير عاصم الاحول، قال: لا يقوله غيره، خالفوه كلهم، هشام عن قتادة، والتيمي عن أبي مجلز، وأيوب عن ابن سيرين، وغير واحد عن حنظلة كلهم عن أنس. وكذا روى أبو هريرة وخفاف بن إيماء وغير واحد. وروى ابن ماجه من طريق سهل بن يوسف عن حميد عن أنس أنه سئل عن القنوت في صلاة الصبح قبل الركوع أم بعده؟ فقال: كلاهما قد كنا نفعل قبل وبعد. وصححه أبو موسى المديني، كذا قال الحافظ. وعن أنس قال: كان القنوت في المغرب والفجر رواه البخاري. وعن البراء بن عازب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقنت في صلاة المغرب والفجر رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه.
[ 398 ]
قوله: كان القنوت أي في أول الامر. قوله: في المغرب والفجر تمسك بهذا الطحاوي في ترك القنوت في الفجر قال: لانهم أجمعوا على نسخه في المغرب، فيكون في الصبح كذلك، وقد عارضه بعضهم فقال أجمعوا على أنه صلى الله عليه وآله وسلم قنت في الصبح، ثم اختلفوا هل ترك أم لا؟ فيتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه، وقد قدمنا ما هو الحق في ذلك. وعنابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول: اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا، بعدما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فأنزل الله تعالى: * (ليس لك من الامر شئ) * إلى قوله: * (فإنهم ظالمون) * (آل عمران: 128) رواه أحمد والبخاري. الحديث أخرجه أيضا النسائي. قوله: إذا رفع رأسه من الركوع هكذا وردت أكثر الروايات كما تقدم قريبا. قوله: فلانا وفلانا وفلانا زاد النسائي: يدعو على أناس من المنافقين، وبهذه الزيادة يعلم أن هؤلاء الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير قتلة القراء. وفي رواية للبخاري من حديث أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحرث بن هشام فنزلت. وفي رواية للترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان؟ اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية، فنزلت. وفي أخرى للترمذي: قال: كان رسول الله (ص) يدعو على أربعة نفر، فأنزل الله تعالى الآية. (والحديث) يدل على نسخ القنوت بلعن المستحقين، وأن الذي يشرع فعله عند نزول النوازل إنما هو الدعاء لجيش المحقين بالنصرة، وعلى جيش المبطلين بالخذلان، والدعاء برفع المصائب، ولكنه يشكل على ذلك ما سيأتي في حديث أبي هريرة من نزول الآية عقب دعائه للمستضعفين، وعلى كفار مضر، مع أن ذلك مما يجوز فعله في القنوت عند النوازل. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لاحد قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، قال: يجهر
[ 399 ]
بذلك. ويقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا حيين من أحياء العرب حتى أنزل الله تعالى: * (ليس لك من الامر شئ) * الآية رواه أحمد والبخاري. وعن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده، ثم قال قبل أن يسجد: اللهم نج الوليد بن الوليد، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف رواه البخاري. وعنه أيضا قال: لاقربن بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار متفق عليه. وفي رواية لاحمد: وصلاة العصر مكان صلاة العشاء الآخرة. قوله: اللهم أنج الوليد فيه جواز الدعاء في القنوت لضعفة المسلمين بتخليصهم من الاسر، ويقاس عليه جواز الدعاء لهم بالنجاة من كل ورطة يقومون فيها من غير فرق بين المستضعفين وغيرهم. قوله: اشدد وطأتك الوطأة الضغطة أو الاخذة الشديدة كما في القاموس. قوله: كسني يوسف هي السنين المذكورة في القرآن. وفيه جواز الدعاء على الكفار بالجدب والبلاء. قوله: قال يجهر بذلك فيه مشروعية الجهر بالقنوت. قوله: في صلاة الفجر بيان لقوله في بعض صلاته. قوله: لاقربن في رواية الاسماعيلي: إني لاقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: وكان أبو هريرة الخ، قيل: المرفوع من هذا الحديث وجود القنوت لا وقوعه في الصلاة المذكورة فإنه موقوف على أبي هريرة، ويوضحه ما ذكره البخاري في سورة النساء من تخصيص المرفوع بصلاة العشاء. ولابي داود قنت رسول الله (ص) في صلاة العتمة شهرا ونحوه لمسلم، ولكن هذا لا ينفي كونه (ص) قنت في غير العشاء. وظاهر سياق الحديث أن جميعه مرفوع. قوله: في الركعة الآخرة قد تقدم بيان الاختلاف في كونه قبل الركوع أو بعده. قوله: فيدعو للمؤمنين هم من كان مأسورا بمكة، والكفار كفار قريش كما بينه البخاري في تفسير سورة آل عمران. وهذه الاحاديث تدل على مشروعية القنوت عند نزول النوازل، وقد تقدم الكلام عليه، وقد اقتصرنا في شرحها على هذا المقدار، وإن كانت العشاء. ولابي داود قنت رسول الله (ص) في صلاة العتمة شهرا ونحوه لمسلم، ولكن هذا لا ينفي كونه (ص) قنت في غير العشاء. وظاهر سياق الحديث أن جميعه مرفوع. قوله: في الركعة الآخرة قد تقدم بيان الاختلاف في كونه قبل الركوع أو بعده. قوله: فيدعو للمؤمنين هم من كان مأسورا بمكة، والكفار كفار قريش كما بينه البخاري في تفسير سورة آل عمران. وهذه الاحاديث تدل على مشروعية القنوت عند نزول النوازل، وقد تقدم الكلام عليه، وقد اقتصرنا في شرحها على هذا المقدار، وإن كانت تحتمل البسط لعدم عود التطويل على ما نحن فيه بفائدة.
[ 400 ]
وعن ابن عباس قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهر امتتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة، يدعو عليهم على حي من سليم، على رعل، وذكوان، وعصية، ويؤمن من خلفه رواه أبو داود وأحمد وزاد: أرسل إليهم يدعوهم إلى الاسلام فقتلوهم قال عكرمة: كان هذا مفتاح القنوت. الحديث أخرجه أبو داود من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس. وأخرجه أيضا الحاكم وليس في إسناده مطعن إلا هلال بن خباب فإن فيه مقالا، وقد وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. قوله: في دبر كل صلاة فيه أن القنوت للنوازل لا يختص ببعض الصلوات، فهو يرد على من خصصه بصلاة الفجر عندها. قوله: إذا قال سمع الله لمن حمده فيه التصريح بأن القنوت بعد الركوع وهو الثابت في أكثر الروايات كما تقدم. قوله: من بني سليم بضم السين المهملة وفتح اللام قبيلة معروفة. قوله: على رعل براء مكسورة وعين مهملة ساكنة قبيلة من سليم كما في القاموس، وهو وما بعده بدل من قوله من بني سليم، وقوله: من بني سليم بدل أيضا من الضمير في قوله عليهم. وقوله: وعصية تصغير عصا سميت به قبيلة من سليم أيضا. قوله: وذكوان هم قبيلة أيضا من سليم.